إطلاق البصر
أيها الأحبة! ألا وإن من أهم أسباب الانحراف هو: إطلاق البصر في معصية الله عز وجل، وعدم غض البصر عن النظر إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى: وهذا شامل لكل أنواع النظر، نظرة في الشاشة، نظرة في المجلة، نظرة إلى امرأة، نظرة إلى الأمرد الوسيم، نظرة إلى ما شئت، المهم أن من أطلق بصره في النظر إلى ما حرم الله مع قلب مريض يزين المعصية، ويخيل الفاحشة والشهوة، فإن ذلك سبب يجر إلى الانحراف، ولذلك فإن الله عز وجل قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
الله خبير بهذه النظرة، خبير بما يصنعون بها، خبير بأعمالهم وبما يترتب عليها، وبما تقود إليه، وبما تجر إليه {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] تريد طهارة ونمواً ونماءً وسمواً وشفافية في الروح، غض بصرك، كما قال عبد الله بن المبارك: [اترك فضول النظر توفق إلى الخشوع] كثير من الناس يقول: أنا لا أخشع، طبيعي ألا تخشع، إذا كانت الجلسة من العصر إلى المغرب أمام مسلسلات وأفلام وصور نساء، وهذه راقصة وهذه غادية ورائحة، وهذه قد كشفت رجلها وساقها ونحرها وشعرها، ثم يؤذن المغرب وتذهب تريد أن تتذكر الجنة والنار، تريد تبكي من خشية الله، تريد أن تخشع لذكر الله وما نزل من الحق، إذا كبَّرت أعاد لك الشيطان العرض من جديد، يعيد لك المسلسل الذي رأيته العصر بعد تكبيرتك في صلاة المغرب، يعرض عليك صورة المرأة من جديد، وصورة المعاصي من جديد، وصورة الشهوات من جديد.
ولذلك من أدام وأدمن غض بصره؛ أورثه ذلك حلاوة يجدها في قلبه، وخشوعاً ولذة يجدها في صلاته بإذن الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "قد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته، وإذا أطلق العبد بصره أطلق القلب شهوته" وسئل أحد السلف: ما الذي يعين على غض البصر؟ فأجاب: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى الحرام الذي تشتهيه.
إذا أردت أن تنظر إلى شيء نظرة حرام، فتذكر أن نظر الله إليك أسرع من نظرتك إلى هذا الحرام الذي أنت تقصده، ويذكر ابن القيم أبياتاً جميلة فيها:
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له توقه إنه يأتيك بالعطب
بعض الناس يظن أنه استمتاع، ونقول: لا.
سهام البصر سهام عكسية، أنت ترمي فتعود القذيفة إلى قلبك:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
إذاً فاحفظ خيالك وبصرك وتفكيرك فإنه يجنبك الانحراف بإذن الله، وهل لك بالسلامة بدلاً من أن تمرض فتبحث عن الطبيب، وعن الدواء ومصاريف العلاج؟ أنت الآن بالخيار، إما أن تأخذ العافية مجاناً بدون تعب، وبدون ذهاب إلى الطبيب، وبدون مصاريف علاج، بمجرد الوقاية، فاحفظ نظرك؛ احفظ هذه العين تسلم من هذه الأمراض، أو تطلق البصر فتمرض، فتذهب إلى طبيب وتحتاج علاجاً ودواءً، إن درهماً من الوقاية خيرٌ من قناطير العلاج مجتمعة.
أيها الأحبة! إن حفظ الفرج مرهون بحفظ البصر؛ كما قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] قدم البصر على الفرج هنا لأن هذه الحاسة هي التي تحرك شهوة الفرج، فمن غض بصره أراح قلبه وفؤاده وفرجه، ومن أطلق بصره أتعب حواس أخرى تتبع هذه الجارحة، فحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، بل هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، غض بصر يتبعه بالضرورة حفظ للفرج، ويتبعه يقظة ورقابة واستعلاء على الشهوة في مراحلها الأولى.
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فأمرني أن أصرف بصري) إذا وقعت عينك على أمر مما يحدث شهوة أو مرضاً في القلب والفؤاد والعين فعليك أن تصرف بصرك، وحديث جرير هذا رواه الإمام مسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يزني) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ولاحظ في الحديث أنه بدأ بالعين قبل كل شيء، فمن أراد السلامة من الانحراف فعليه أن يحفظ عينه، والحديث هذا رواه البخاري ومسلم.
ويعلق الشيخ الشنقيطي رحمه الله رحمة واسعة بقوله: ومعلوم أن النظر سبب الزنا، فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا، قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكناً يكون سبب هلاكه والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنا.
وقال ابن القيم رحمه الله: فبدأ -أي في الحديث- صلى الله عليه وسلم بزنا العين؛ لأنه أصل زنا اليد، وأصل زنا الرجل، وأصل زنا القلب والفرج هو الذي يصدق ذلك أو يكذبه.
إذاً: فالنظرات أمرها خطير:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء مادام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ويقول شاعر آخر:
يا من يرى سقمي يزيد وعلتي أعيت الطبيب
لا تعجبن فهكذا تجني العيون على القلوب
كم جنت العيون على أقوام فسرقوا، إن العيون جنت على أقوام فزنوا، وأقوام فقتلوا، وأقوام فاغتصبوا، وأقوام فقطعوا الطريق، وأقوام فانتهكوا، وأقوام، وأقوام، لكن من ضبط هذه الجارحة ضبطاً إيمانياً فيما يرضي الله عز وجل، وكانت عينه سبباً لرجحان أعماله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمنْ لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وحسنه الألباني حفظه الله.
وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الثانية) رواه الترمذي وحسنه الألباني.
إن من غض بصره أيها الأحبة يجد لذة وحلاوة لا يدركها إلا من عرف ذلك، أنت تمشي في الطريق فظهرت فجأة متبرجةٌ، اصرف وجهك فوراً هكذا، ثم انتظر لحظات بعد زوال هذا المنكر الذي صرفت وجهك عنه، تأمل قلبك، والله لتجدن حلاوة، والله لتجدن لذة، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، أليس شرفاً لك أن تكون من المتقين الذين يحاسبون أنفسهم في مرضاة الله عز وجل؟ أليس شرفاً لك أن تكون من الذين -بإذن الله- يصدق عليهم قول الله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
هذه من دقائق التقوى، وحساسيات التقوى، وشفافيات التقوى، أنك فور ما تقع عينك على شيء من المحرمات تصرف بصرك بكل طواعية واستجابة لله عز وجل وفي قصيدة جميلة مطلعها:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا
القصيدة طويلة، لكن الشاهد المتعلق بغض البصر قوله:
وغض عن المحارم منك طرفا طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
فمن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحاً وطيبا
قال ابن القيم وهو يذكر قصة عجيبة في خطر هذا النظر، يقول في الجواب الكافي: ويروى أن رجلاً بـ مصر كان يلزم المسجد للأذان والصلاة فيه، وعلى هذا الرجل بهاء الطاعة ونور العبادة، فرقى -يعني: صعد- المنارة يوماً على عادته للأذان، وكان تحت المنارة دارٌ للنصراني، فاطلع فيها، فرأى ابنة صاحب الدار، فافتتن بها.
انظروا مآل البهاء والورع بعد هذه النظرة؛ لأن بعض الناس فيه حماقة، تجده يذهب إلى مكان، يقول: أنا لا أقول لك أني لا أسافر، أنا أسافر لكن لا أعمل شيئاً، أنا أذهب مكان اللهو والدعارة وأتفرج وأنظر ماذا يصنعون وأخرج، أنا لا أعمل شيئاً.
فقط أذهب أتفرج، أنا لا أكذب عليك أنا أذهب وأنظر وأمشي، لكن أعوذ بالله! أنا ما أعملها.
وغيرهم يقول: أنا والله لو يعطوني وزني ذهباً -من الكلام الفارغ- أنا وأنا وأنا ما أفعل، وإنما مجرد حب الاستطلاع، والعلم بالشيء خير من الجهل به، وإلى غير ذلك من الكلام الفارغ، وفي النهاية يأتي المسكين ليمتحن نفسه، العاقل لا يمتحن نفسه، إذا قال لك أحد: هذه مجلة خليعة، ليس هناك داع لأن تقول: أعوذ بالله ما هذه الصفحة، أعوذ بالله ما هذه الثانية، أعوذ بالله ما هذه الثالثة، بل صد عينك عنها ومزقها إذا قالوا لك: هذا شريط فيه معصية، فخذه وكسره تحت إطار سيارتك فوراً، ليس هناك داع أن تقول: هات نفحص عليه، لا حول ولا وقوة إلا بالله، قبحهم ال(142/9)
السفر إلى الخارج
من أسباب الانحراف: السفر إلى الخارج: بعض الناس يتساهل إما بذاته أو لأبنائه بأن يسافروا للخارج، وبعضهم بدعوى السياحة، وبعضهم بدعوى تعلم اللغة الإنجليزية، ويرجع الكثير من هؤلاء إلى بلده وقد تشبع بألوان الفساد والمعاصي، فضلاً عن أنه أصبح يحتقر واقعه، بعض الناس من شدة سفره إلى الخارج لغير حاجة، أصبح لا يطيق السنة إلا وسافر مرتين أو ثلاث إلى بلد يرى فيها عراة وخموراً وأموراً منكرة، قد ألفت نفسه هذه المعاصي والعياذ بالله.
أصبح يتضايق من هذا المجتمع الذي إن رأى فيه امرأة وجدها قد غطت نفسها ويديها بقفاز، ورجليها بشراب أسود وعباءة سوداء، يأنف من هذا المجتمع الذي يغلق دكاكينه للصلاة، والذي لا يرى فيه ما يشتهي، ولكنه حينما يهبط مطار تلك الدولة الغربية أو الدولة القريبة أو البعيدة، فيرى الخمور على يمينه والغاديات علي يساره، وهذا يحضن عشيقته، وهذا يقبل صديقته، وتلك دعاية للسينما، وتلك دعاية للمسرح، وتلك صورة لنجم من نجوم السينما، وتلك صورة لراقصة، وتلك حفلة يدعى الناس إليها، يرتاح والعياذ بالله، إن السفر إلى تلك البلاد شر كله، ولا يعذر أحد بالسفر إلى الخارج، إلا لحاجة أو ضرورة وفق الضوابط الشرعية، وليس هذا وقت تفصيلها.(142/10)
الفراغ
كذلك من أهم أسباب الانحراف: الفراغ: بعض الناس مادام مشغولاً فلا خطر عليه، لكن إذا تفرغ اشتغل والعياذ بالله بألوان المعاصي، الفراغ داءٌ يقتل الفكر والعقل والطاقة الجسمية، الفراغ أمر خطير، النفس بطبيعتها لابد لها من حركة وعمل، فإذا كانت النفس فارغة تبلد الفكر، وأصبح العقل ثخيناً، وضعفت حركة النفس، واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب، وربما حدثت إرادات سيئة شريرة يقع بها شر كثير وانحراف خطير.
انظروا ماذا يجنيه الفراغ على شبابنا الفارغين في مجتمعنا هذا، وحينما نتكلم عن قضية لابد أن نتكلم عن واقعنا، نحن الآن لا نتكلم عن المريخ، أو نتكلم عن الشيشان أو واق الواق، نتكلم من أجل علاج مجتمعنا، الذين يقولون: إن مجتمعنا ليس فيه منكرات ولا مصائب ولا أخطاء، هؤلاء ينافقون ويداهنون ويضللون الأمة، والذين يقولون: مجتمعنا ليس فيه خير ولا بركة ولا مصلحة هؤلاء جاحدون أيضاً، مجتمعنا فيه خير وفيه شر، وما أقيمت المحاضرات والدعوة والندوات وطباعة الأشرطة، وتوزيع الكتيبات والأمور الدعوية، إلا لتنمية الخير والقضاء والإبادة على الشر بإذن الله عز وجل.
الدكتور ناصر العمر حفظه الله ينقل في محاضرة من محاضراته: أن دراسة أجرتها جامعة أم القرى عن كيفية صرف الشباب أوقاتهم، خذوا هذه النسب العجيبة، الذين يصرفون أوقاتهم لمشاهدة برامج التلفاز (57%)، الذين يصرفون أوقاتهم لكرة القدم (52%) الذين يصرفون أوقاتهم لاستماع الإذاعة (32%)، الذين يصرفون أوقاتهم يتمشون بالسيارات (32%) الذين يصرفون وقتهم بلعب الورق (24%)، الذين يصرفون أوقاتهم بعلب الشطرنج (14%)، الذين يصرفون أوقاتهم يجلسون في المقاهي (11%) الذين يصرفون أوقاتهم في الموسيقى (11%)، الذين يصرفون أوقاتهم في الرسم (10%).
فبالله عليكم يا أيها الأحبة! ما الذي بقي للأعمال المثمرة الجادة التي تنفع الأمة وترد الأعداء؟ اجمع هذه النسب وانظر: ما هي البقية الباقية لشباب الأمة التي تفكر في طرد اليهود؟ ما هي البقية الباقية من الأمة التي تفكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ما هي البقية الباقية من الأمة التي سعت لتكون قيادات حضارية لأمة تواجه غزواً مستمراً من جميع الجوانب والمجالات والاتجاهات؟ كم عدد الأطباء، المهندسين، الطيارين؟ يبقون قلة قليلة مع الدعاة والعلماء والقضاة والولاة والمسئولين، لكن أغلبية ساحقة من شباب الأمة هكذا تضيع أوقاتهم، فإن كنا نرى هذا ولا يهمنا فتلك مصيبة، وإن كنا لا نستطيع أن نفعل شيئاً في مقاومات هذا السوس الذي ينخر في جذور الأمة وشبابها فتلك مصيبة أعظم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والعلاج أن نسعى جميعاً، أن نملأ الأوقات بما ينفعنا في قراءة، في تجارة، في دعوة، في أعمال، في كتابة، في بناء، في مهنة، في بناء، في صنعة، في حرفة، المهم لا يبقى شباب الأمة في فراغ.
إن الأمة لا ينفعها كثير من الهوايات التي طلبت لها المجلات والمسلسلات، إنها لا تستفيد منها شيئاً أبداً، وأكبر دليل على ذلك: إذا أمة من الأمم حشدت دولة على حدودها دبابات وجنود للقتل والقتال، انظر من يبرز لهؤلاء الأعداء، يبرز لها الرجال الصادقون الأشاوس، الجنود الأبطال، الدعاة والعلماء والمفكرون، وأما البقية الباقية:
فأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع(142/11)
التربية
كذلك من أسباب الانحراف: البيئة التي ينشأ فيها الشاب: بعض الشباب نشأ في بيئة لم ير شفة أبيه إلا والسيجارة عليها، ولم ير حال أبيه إلا وهو على أريكة متكئاً ينظر إلى صور وغاديات وراقصات ومغنيات ومطربات، ولم ينظر إلى أمه إلا غافلة لاهية، ولم ينظر إلى من حوله إلا في بعد عن طاعة الله ورسوله، فمن أين بالله ينشأ هذا؟
إذا كان رب البيت للدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
الولد ينشأ على ما عود عليه:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
إننا نستطيع أن نربي أطفالنا وناشئتنا بأبسط الوسائل وأيسر الأساليب، وأسهل الطرق، تربية تحصنهم تحصيناً نافعاً ضد كثير من المعاصي والمنكرات، إذا أحسنا تربيتهم.
أيها الأحبة! إننا ننازع التربية، اليوم أسألكم بالله: من منكم يربي ولده يومياً ساعتين، هل يوجد؟ أنا لا أقول في المائة واحد، بل أتحدى أن يخرج من الخمسة آلاف واحد يقول: أنا أجلس مع ولدي ساعتين يومياً، ولا أبالغ في هذا الكلام، إلا الذي يقول: والله أنا أجلس على مباراة الكرة أنا وإياهم ساعتين وثلاث، أو أجلس أنا وإياهم على فلم السهرة، أو أجلس أنا وإياهم على الـ ( mbc) أو على القناة الفلانية، أو على (أوربت) أو القنوات الفضائية، نعم بعض الناس -ما شاء الله- يظن أن هذا من التربية، لا، السؤال عن التربية الحقيقية، التربية على كلام الله ورسوله، التربية على التخويف من النار والترغيب في الجنة، التربية على التشويق إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم، والتعرف على الصحابة في الجنة، التربية على الطمع والأمنية أن تنظر العيون إلى وجه الله الكريم، من يقوم بهذه التربية؟ نحن ننازع التربية.
المدرسة تربي وبارك الله في العلم والتعليم والمعلمين، نسأل الله أن يسددهم، ولكن من المصائب أيضاً أن بعض الأولاد ربما عاد من المدرسة بداء عضال، وتلك مصيبة، والسبب وجود عينات من الطلاب من أسر غير مهذبة وغير نظيفة، أخذت تعدي بقية الطلاب بعدوى جعلت الناس يبحثون عن مدارس معينة من أجل المحافظة على الولد، وإذا خرج الولد من المدرسة من الذي يشارك في التربية؟ إنهما الشارع والسوق، هذا الكلام لا نلوم فيه أحداً، نلوم فيه أنفسنا ومجتمعنا وما هو تحت أيدينا ونقدر على إصلاحه وتغييره بإذن الله عز وجل.
ثم إذا انتهى موضع الشارع، تستلمه الشاشة وتربيه لك ساعتين على أفلام كرتون، وساعة برامج وهلم جرا إلى أن ينام في طريقه، أنا أقترح وأجدها أيها الأحبة سهلة وميسورة: إن كنت قادراً على أن تجلس مع ولدك يومياً لا تفارقه من بعد العصر إلى وقت النوم، فهذه قمة التربية، أنا لا أقول لك: كن جاسوساً عليهم أربعاً وعشرين ساعة، تفرض عدم الثقة فيهم، لكن أقول: أن تكون لصيقاً صديقاًَ رفيقاً معهم في أغلب أحوالهم إن لم يكن فيها كلها، إذا استطعت نعم، لكن اليوم أغلب الناس مشغولين، الأب كان الله في عونه في العمل، ومتى يأتي، ثم في العصر لا بد أن يرتاح ويخلد إلى الراحة، وإلا يأتي واحد ويقول: أنت تعال نام جنبي هنا، وأنت جنبي هنا، وأنت تعال عند رجلي، الواحد يمسك أربعة خمسة بيديه ورجليه هذه ليست طريقة.
لكن هنا مسألة سهلة، إذا كنت أباً مشغولاً فلن تعجز أن تبحث عن الأبرار، واحد من الأبرار الأخيار تقول: تعال يا أخي، أنا عندي هذا الطفل، عندي هذان الطفلان، عندي ثلاثة أطفال، أريدك يومياً تستلمهم بعد صلاة العصر في حلقة تحفيظ القرآن، تجلس معهم وتتأكد أنهم قرءوا قراءة مجودة مرتلة ممتازة على الشيخ في المسجد، فإذا سمعوا على الشيخ في المسجد أعد التسميع والمراجعة منهم إليك، ثم خذهم إلى البيت وراجع دروسهم، فإذا انتهت مراجعة الدروس اشرب أنت وهم، وأعطهم من هذه القصص، بعد المغرب هات من السيرة النبوية، ومن قصص الصحابة والتابعين إلى العشاء، حتى رأسه يدور مستعد للنوم يستلم الفراش، وما تجد أحداً ينازعك التربية أبداً بهذه الطريقة.
الآن بعض البيوت فيها سواق أو أكثر، وفيها عدد من الخادمات، وفيها وفيها، ولو تقول لبعض الآباء: احضر واحداً من خريجي الجامعات الإسلامية من البلدان الإسلامية المجاورة، من زملائك الذين تثق فيهم هنا، قال: أنا مجنون ادفع ألف ومائتين أو ألف وخمسمائة ريال على قضية تربية؟! إذا لم يكن هذا الولد صالحاً فسيكون فتنة وبلاءً {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] ويكون الولد عدواً: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14] فإذا شئت أن يكون الولد صديقاً لا عدواً، وحسنة لا فتنة فعليك بتربيته، فإن ذلك يجعلك تأمن من انحرافه بإذن الله عز وجل.
قد يقول قائل: يا أخي أنا على الله أسدد فاتورة الكهرباء، وأنت تريدني أن أحضر شخصاً بألف وخمسمائة ريال شهرياً، هذا كلام معقول، أنا وأنت والثاني والثالث نحن أربعة نحضر واحداً ونتقاسم راتبه، ونقول له: يا أخي! مسئوليتك بعد العصر أن تستلم هؤلاء الأولاد من هذا الوقت إلى هذا الوقت تدرسهم دروسهم، تراجع لهم حفظ قرآن، مراجعة من السيرة، من الأدب، اجعلهم فصحاء، علمهم آداب الدخول والخروج من الخلاء، والصباح والمساء، ومخاطبة الناس، والرد على الجاهلين، علمهم هذا الأدب، والله ليس بكثير لو أنفقت كل مالك على تربية أولادك.
يا إخوان نصيحة لوجه الله، لا تستكثر على أولادك مالاً تنفقه في التربية، فإنك سوف تعوض هذا المال حسنات تنفعك وأنت في قبرك: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، وذكر منها ولد صالح يدعو له) تريد أن تكون حياً وأنت في المقبرة، تريد أن تصلي وتسجد وتصوم وتعتكف وتتصدق وتجاهد وأنت في المقبرة، انتبه لولدك وابنتك وربه تربية طيبة، فإن ذلك بإذن الله يحقق خيراً عظيماً.
من أسباب الانحراف: الفجوة بين الصغار والكبار: بعض الصغار يتوقع أنه من الصعوبة أن يكلم رجلاً كبيراً، وبعض الكبار يأنف أن يكلم هؤلاء الصغار، قال أنس: كان صلى الله عليه وسلم يسلم على الصبيان، وكان ابن عباس وهو شاب صغير، يجلس مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: بما نلت العلم؟ ويقول: بلسان سئول وبقلب عقول.
نعم أيها الأحبة! إن كسر الحواجز الموجودة بين الصغار والكبار تجعل الصغار يتشجعون على أن ينالوا درجات الرجولة التي يتمتع بها الكبار، وينبغي للكبار أن يزيلوا هذه الجفوة وشيئاً من الكبر الذي يقعون فيه، ليس عيباً أن تسلم على ولد جارك الصغير وتطأطئ رأسك له، وتسأله كم حفظت من القرآن، في أي سنة أنت؟ ما شاء الله عليك، أجبني كم عدد أركان الإسلام؟ هل تعرف هذا السؤال؟ تفضل هذه جائزة، ينبغي أن ينظر بعضنا إلى أبناء بعض من أبناء جيراننا وأبناء حينا نظرة أبوية، وعطفاً حانياً عليهم.
إذا كسرت الحواجز بين الكبار والصغار، أصبح الصغير ينظر إلى شيم وأنفة وآداب الكبير فلا يتردد أن يسير مثله.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
لكن للكبار شلة معينة، والصغار شلة معينة، داءٌ يسري في كل حلقة وكل دائرة على حدة، ثم لا يستفيد أحد من أحد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(142/12)
معوقات الزواج
من أسباب الانحراف: معوقات الزواج: وهي واضحة جلية، إن كثيراً من الشباب وقعوا في اللواط والزنا والفساد، بسبب معوقات الزواج التي أولها المغالاة في المهور، بعض الشباب يقول: كيف أستطيع أن أجمع مائة ألف أو مائتين ألف من أجل أن أتزوج؟! صار يجمع رواتب إجازة ويسافر بها إلى الخارج ويفعل ما يفعل ثم يعود من جديد ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعضهم ربما وقع في الشذوذ والانحرافات التي يستحي الإنسان من الكلام في التفصيل فيها، بعضهم أيضاً يعرض عن الزواج لأجل هذه الولائم وهذا الإسراف التي جرت به العادات والتقاليد.
أذكر مرة في قرية من القرى أننا ذهبنا مع بعض المشايخ، ولما حضرنا وليمة بعد المحاضرة ظنناها زواجاً، فإذا هي عزيمة عشاء قبل العرس، وبعد هذا العشاء غداء، وبعد هذا الغداء عشاء، وبعد ذلك يدخل العريس وتمد ثلاث موائد الأولى والثانية والثالثة من هذا الجدار إلى جدار النساء تقريباً، ولا أبالغ إن قلت أطول من ذلك، ومن أين الدراهم؟ الجمس بمائة وعشرين يتدينه بمائتين ألف، صالون دتسون غمارتين بأربعين ألفاً يتدينه بستين ألفاً، وكأنما ينحتون من الجبال، هذه المعوقات أدت إلى الانحراف.
فواجبنا أيها الأحبة! أن نيسر الزواج على الشباب، وأنصح الشباب الذين يريدون الإعفاف والإحصان: لا تتشرط في الزواج، تزوج مطلقة يجعل الله فيها خيراً، تزوج أرملة يجعل الله فيها خيراً، تزوج امرأة أكبر منك يجعل الله فيها خيراً، فإنك بهذا تحصن نفسك، لكن شاب يريد أن يتزوج، الشهوة تؤذيه في ليله ونهاره، يا أخي ليس ضرورياً أن تتزوج بكراً مهرها أربعين أو خمسين ألفاً تعجز عنه، لكن هذه امرأة مطلقة عندها طفلان مثلاً، ممكن أن تتزوجها بعشرة آلاف ريال، هذه امرأة أرملة، هذه امرأة أكبر منك في السن، وربما تنفق عليك، والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة بنت خويلد وبينهما من الفارق خمسة عشر عاماً، هذا ليس عيباً، ونقولها بكل صراحة.
لكن الأفلام والمسلسلات والروايات والقصص غرست أنه لا بد في الزواج من الحب، والحب لابد فيه من تكافؤ، وأن حبيبتك تحب نفس اللون الذي تحب، وتكره اللون الذي تكره، وتحب الساعة التي أنت تحبها، والنادي الذي تشجعه، والفريق والمطرب والفنان والمجلة والرسم واللون والقصة، وعدد ما شئت من هذه الهوايات السخيفة، حتى يتوافق زوجان في كل شيء، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولن يتفقا بأي حال من الأحوال.(142/13)
شرور وسائل الإعلام وحب المال
أيها الأحبة! إن كثرة الشبهات والشهوات التي طرحت في كثير من المجلات، وصدرت عبر كثير من وسائل الإعلام، وبليت بها الأمة، وانتشر فيها شر وبلاء عظيم، كانت سبباً من أسباب الانحراف، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج قالوا: يا رسول الله! وما هو الهرج؟ قال: القتل القتل) رواه البخاري.
ومن ذلك هذه المخططات التي لا يزال أعداء الإسلام يصدرونها إلينا صباحاً ومساءً، ولا يكلون ولا يملون، والأمة عما يدار ويخطط ويحاك لها غافلة، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
من أسباب الانحراف: الافتتان بالمال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال) رواه الترمذي.
نعم أيها الأحبة! إن من الناس من يشغله المال إشغالاً إلى درجة تجعله يكذب ويعق، ويقطع، ويسرق ويهدم، ويسب ويشتم، ويفعل كل شيء، من أجل أن يكسب زيادة خمسمائة ريال أو أربعمائة ريال، أو حفنة من حطام المال الحقير التافه.
والمال مفسد لدين المرء كما في الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم ويرويه الترمذي: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أي: أن حرص المرء على المال، هذا الحرص والشح والهلع والجزع في مسألة المال يفسد دين المرء، ويكون سبباً من أسباب الانحراف.(142/14)
الخلوة بالأجنبيات
كذلك من أسباب الانحراف التي ابتليت بها بعض المجتمعات وبعض البيوت: الخلوة بالأجنبيات أياً كانت من المربيات: أو الخلوة بالأجنبية من الرجل أو المرأة سائقاً أو خادماً، أو خادمة أو مربية، أو ممرضة أو نحو ذلك، وبالجملة تساهل الناس بالخلوة، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا فقال: (إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري.
قال النووي: المراد في الحديث بالحمو: أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمو الموت) له معاني عدة، فيحتمل أن يكون المعنى أن الخلوة بالحمو تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية، والمعنى الآخر أو تؤدي إلى الموت إن وقعت الفاحشة أوجبت حد الرجم، أو المقصود احذروا الخلوة بالأجنبية كما تحذرون الموت.
هذا الكلام لا يفقهه العلمانيون الذين يقولون: إن نصف المجتمع معطل، والمجتمع الذي لا تعمل فيه المرأة في كل مجال وفي كل سبيل وبكل طريقة من غير قيود ولا ضوابط مع الرجال، هذه المعاني لا يفقهها العلمانيون، العلمانيون الذين يرون الدين في المحاريب والمنابر فقط لا غير، ويستنكفون أن يكون الدين في كل مجالات الحياة، لا يفقهون كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يدركون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على المحارم) ولا يفقهون قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي.
إن الخلوة بين الرجل والمرأة تفعل فعلاً شنيعاً، وإن من واجبنا ألا نشيع الفاحشة في المؤمنين، ولا نذكر كل فاحشة تقع، لكن لو أننا في مواقع نطلع فيها على ما يطلع عليه رجال الحسبة والهيئة، ورجال الأمن من المصائب الذي يشيب منها الولدان، لرأينا شيئاً تشيب منه الرءوس واللحى من خطورة وحوادث وأعداد مصائب خلوة الرجال بالنساء، من رجل بخادمة، وسائق بامرأة، ورجل بممرضة وغير ذلك.
هذه قصة من السنة تتعلق بمسألة موضوع الخادمة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله! أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه، وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني هذا كان عسيفاً -أي: أجيراً والخادم يسمى عسيفاً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم.
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد عليك، أي: مردودة عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا رضي الله عنه على المرأة، فاعترفت -يعني سألها عن مسألة الزنا لأنها محصنة فاعترفت- فرجمها.
رواه البخاري.
إذاً: خطورة الخدم من القديم موجودة، وحينما يسوغ لبعض البيوت استخدام بعض الخدم بضوابط شرعية لا يعني ذلك فتح الباب، بعض البيوت عندهم من الخدم شيء غريب جداً، لا من عدد، أو من الجمال، أو من السن، أو من الخلوة، أو من التساهل، بعضهم لا يتردد أن الخادمة هي التي تقرب الغداء والعشاء أمام الرجال، وبعضهم يفتخر أن عنده خادمة فليبينية أو من جنسية معينة، ببنطلون وقميص وبلوزة وشعر مسرح، ويجملها ثم يأمرها تدخل بالشاي وغير ذلك على الناس، هذا عرض دعارة والعياذ بالله، ما هذا الكلام؟ إذا ابتليت بالحاجة إلى هذه الخادمة فاتق الله، واعلم أنك مسئول عن سترها وعن تحجيبها.
من أسباب الانحراف: وسائل الإعلام التي انفتحت على الناس بشر عظيم، نسأل الله أن يكفينا شرها وما وراء ذلك.
الحديث يطول ولعلي أن اختصر، لقد تكلمنا عن الاختلاط والخلوة بالأجنبيات.(142/15)
التهاون بإقامة الصلاة
أقول: إن من مظاهر الانحراف الخطيرة في مجتمعنا اليوم التهاون بالصلوات، والله عز وجل يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
إن من مظاهر الانحراف: أن من المسلمين من لا يقومون إلى الصلاة إلا كما يقوم إليها المنافقون: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] وبالمناسبة فإن الله عز وجل، لم يقل: وصلوا، ولم يقل: الذين يصلون، وإنما قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3] وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] فنحن نرى كثيراً من المصلين، ولكن ما أقل الذين يقيمون الصلاة من هؤلاء، نسأل الله أن نكون وإياكم ممن يقيمون الصلاة.
اعذروني عن طرح بقية هذا الموضوع فيما يتعلق بوسائل العلاج، وفيما يتعلق بمجال الانحراف الفكري والعقدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وما سمعتم من صواب فمن الله وحده لا شريك له، وما كان فيه من زلل فمن نفسي وأستغفر الله، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(142/16)
المسارعة في الخيرات
جعل الله الحياة ميدان سباق؛ فمن حاز قصب السبق حاز رضوان الله، ومن حاز رضوان الله فقد فاز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
وقد تحدث الشيخ حفظه الله عن نوع من الناس يسابق ولكن إلى الشر، ونوع آخر يسابق إلى الخير، ولكل من الخير والشر أهل؛ لذا وجب أن نكون من أهل الخير لنحوز رضا الله فنفوز بجنته، ولن يعدم العباد خيراً من رب يدعوهم إلى الخير ويبشر بالجنة.(143/1)
الدنيا طريق إلى الجنة أو النار
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله جل وعلا أن يُحرم أقداماً مشيتم بها إلى هذا المقام علىالنار، وأسأل الله أن يُحرم وجوهاً نظرتم ونظرنا إليكم فيها عن النار، وأسأل الله أن يُحرم والدينا ووالد والدينا وإياكم عن النار.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا، واسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، ألا تدع في هذا المجتمع وهذا المقام ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أسير ذنوبه إلا فككته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحة وهبته بمنك وكرمك يا رب العالمين.
أيها الأحبة! اختار أحبابنا بالشئون الدينية أن يكون عنوان المحاضرة: "المسارعة إلى الخيرات".(143/2)
دعوة إلى المسارعة في الخيرات
دعوة إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فهل من ملبٍ؟ يقول الله جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ويقول جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
أيها الأحبة! هذه الآيات البينات الجليات الواضحات من خِطاب رب الأرضين والسماوات، يدعونا فيها ربنا الغني عنا، ربنا القوي يدعو عباده الضعفاء، العزيز يدعو عباده الأذلاء، الجبار يدعو عباده المساكين أن يسارعوا، وأن يسابقوا، وأن يبادروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والمسارعة والمسابقة تعنيان: المبادرة إلى تحصيل شيء ربما فات بالتأخر عنه، وربما ندم من تكاسل في طلبه، سيما إذا كان الأمر الذي يفوت شيئاً عظيماً تتعلق به النفوس، فكيف إذا كانت الدعوة إلى المسارعة إلى دارٍ خلودها أبدي، ونعيمها سرمدي، وأحبابها لا يتفرقون، وصحتها لا سقم فيها، وسعادتها لا يُكدرها شقاء، فمن فاتته الجنة، فأسألكم بالله في أي مقام وأي فريق يكون؟ فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار:
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
هذه الدار يدعونا ربنا جل وعلا أن نُسارع إليها، والطريق إليها سهلٌ، والسبيل إليها ميسرةٌ، والأسباب إليها ميسرةٌ بمنٍّ من الله جل وعلا، فلا تظنوا أن هذه الجنة بعيدة المنال، وأن طلبها ضربٌ من المحال، بل كما صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) فاللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام البخاري: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) أي: ربما وقع العبد في عداد أهل النار، وكان منهم بعملٍ يسير حقير يظن أن مثل هذا العمل لا يُورد إلى المهالك، وإلى دركات النار والشقاء والجحيم، وربما يستقل العبد عملاً من الأعمال، وهذا العمل هو بإذن الله من موجبات الجنة.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقُ
والليالي متجر الإنسان والأيام سوقُ
استبقوا إليها، سارعوا، بادروا، اطلبوا وهلموا، قال ربنا: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] أي: سارعوا إليها، وقال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه الإمام مسلم.
أيها الأحبة! إننا في زمن الفتن، وإننا في زمن الأهواء، وفي زمن الضلالات، وفي زمن الأفكار الهدامة، والمذاهب الضالة، والغوايات المبهرجة، والدعايات المضللة التي وقع بسببها كثيرٌ من الناس، ربما أمسى مهتدياً فأصبح ضالاً، وربما أصبح مهتدياً فأمسى ضالاً، وأقوامٌ أصبحوا مؤمنين فأمسوا كافرين، وآخرون أمسوا مؤمنين فأصبحوا كافرين.
فالنبي يدعونا أن نبادر أوقاتنا وأنفاسنا وأعمالنا وحياتنا قبل أن نقع في هذه الفتن، أو تقع بنا، قبل أن نرد عليها، أو ترد علينا، والعاقل من اجتهد، والكيس من دان نفسه.(143/3)
خيرة خلق الله يرجون جنته
وصف الله جل وعلا خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، أولئك الثلة الأطهار الأخيار الذين حفظهم الله وتكفل لهم برحمته، وضمن لهم الجنة، وصف ربنا جل وعلا حال أنبيائه ورسله فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] ما قالوا: نحن من أهل الجنة، وما قالوا: قد ضمنت لنا الجنة، وما قالوا: لن نكون من أهل النار، وما قالوا: قد ضمنا الأمان من زلل على الصراط، وقد ضمنا السلامة من كلاليب جهنم، وما قالوا: ضمنا فتن القبر، أو فتن الموت، أو مضلات الدنيا، بل سارعوا وبادروا وخافوا وخشوا، النبي إمامهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيدهم، يقوم الليل حتى تتفطر قدماه مسابقةً إلى الخيرات وطلباً في الجنات، رغبةً إلى رب الأرضين والسماوات، فقام طويلاً، وتقول عائشة: [يا رسول الله أربع على نفسك] كأنها ترى أنه قد أضناه طول القيام، فيقول: (يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً).
نعم هؤلاء أنبياء الله ورسله مع أنهم في أعلى درجات الجنة، قد أكرمهم الله بجلاله، وأدناهم سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما اتكلوا على هذا، نعم، تعلقوا ورجوا، وأناخوا رواحلهم بباب رحمة ربهم جل وعلا، ولكنهم مع هذا سارعوا إلى الخيرات، واجتهدوا ورغبوا في الجنة، وخافوا من النار، وهذا الدليل، وهذه الآية أعظم ضربة قاضية، وضربة مسددة قاصمة للمخرفين الصوفية الضالين الذين يقولون: إن العبادة ليست خوفاً من النار، ولا حباً في الجنة، وإنما هي حبٌ في الله جل وعلا.
بل طوائف كثيرة من الصوفية يقول قائلهم: ربنا ما عبدناك طمعاً في جنتك، وما عبدناك خوفاً من نارك، وإنما عبدناك حباً في ذاتك، وهؤلاء خابوا وخسروا وخسئوا، فلن يكونوا أكمل إيماناً، وأفضل تعبداً، وأمثل طريقةً واستقامةً من أنبياء الله ورسله الذين وصفهم الله ورضي فعلهم فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] يبادرون إليها، يتسابقون إليها، يطلبونها، وما كانوا يقعدون عن همم الأمور ومعالي الأفعال، لما قام القوم يحفرون الخندق ما قعد صلى الله عليه وسلم، وما جلس متكئاً واضعاً رجلاً على رجل وهو نبيهم وإمامهم وسيدهم وكبيرهم وأميرهم، بل سارع معهم حتى بلغ بهم الجوع مبلغاً، ربطوا على بطونهم حجراً، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ به من الجوع أعظم مما بهم، فربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرين اثنين، ربما فر القوم حال شدة قتال إذا حمي الوطيس، وكشفت المعركة عن ساق، وأشجع القوم، وأكرم القوم، وسيد القوم صلى الله عليه وسلم يكر ويفر ويُقبل ويُقاتل أعداء الله ويصيح وسط المعمعة: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يسارع إلى الخيرات في الجهاد، وما قعد متخلفاً عن عباد الله المجاهدين في سبيله.
يسابق في الصلاة حتى تتفطر قدماه، يسابق في الصيام حتى تقول عائشة: [ما شئنا نراه صائماً إلا رأيناه صائماً] يسابق في التواضع حتى إنه ليدني نفسه، وينزل بطول قامته ليحمل طفلاً صغيراً يتعثر على الأرض.
وربما قادته عجوزٌ إلى ناحية الطريق، فوقفت به الساعة والساعات يسمع منها تواضعاً ليقضي حاجتها.
سابق صلى الله عليه وسلم في كل خير، هكذا كما وصفه ربه جل وعلا بوصفه واحداً من أنبياء الله ورسله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة، يطلبون الجنة، يتعلقون بالجنة، يريدون رضا الله، وما قالوا: ربنا هو الذي اختارنا واصطفانا، وانتقانا من بين الخلق لنكون أنبياء ورسلاً، فقد ضمن لنا الجنة، بل سارعوا إليها وطلبوها.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله المصطفى -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول له: (يا أعرابي! كيف تدعو؟ فيقول الأعرابي: والله يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ومعاذ حولها ندندن).
المسابقة إلى المغفرة، المسابقة إلى الجنة، المسابقة إلى الفضل العظيم، ذلك هو الوعد الذي يعد به النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء المهاجرون وآمنوا به وعزروه ونصروه، وبذلوا المُهج والأرواح بين يديه ما أعطاهم وعداً بإمارة، ولا بوزارة، ولا بمنصب، ولا بملك، ولا بولاية عهد، ولا بترشيح، أو امتياز، أو وكالة معتمدة، وإنما قال: لكم الجنة، إنما قال: إن وفيتم وأديتم وأعطيتم وقمتم بهذا رضاً لله، وابتغاء ما عند الله، واستجابة لأمر الله ورسوله، فلكم الجنة.
ما كان يعد إلا بما أمر الله أن يسابق إليه وهو الجنة، وكذا لما قَدم الأنصار، ما قال: لكم من الأمر كذا وكذا، وإنما وعدهم بالجنة تلك الدار التي أمر الله أن يسابق إليها: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].(143/4)
مسارعة الصحابة إلى الخيرات
هكذا كان شأن أفضل خلق الله الأنبياء والرسل، وعلى هذا المنهج وعلى تلك الطريقة والسنة المستقيمة درج الصحابة رضوان الله عليهم، وسابقوا في الخير، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى البذل في سبيل الله، سابق أبو بكر فجاء بالمال كله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأحرِ بـ أبي بكر أن يفعلها- (قال: يا أبا بكر ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله).
أبو بكر جاء بالمال كله وهو يعلم أنه لن ينزل في آخر الشهر مُسير الرواتب ليوقع عليه، ثم يقبض راتبه، شتان بين حسناتنا وملايينا ومليارتنا وجبال أعمالنا مجتمعين على وجه الكرة الأرضية، وعمل مدٍ أو نصف مُدَّ من واحد من الصحابة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإنه لو أنفق أحدكم مثل: جبل أحد ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) لو أن واحداً من الأغنياء أنفق زنة جبل أحد ذهباً ولآلئ ودرراً وزبرجداً ويواقيت، لو أنفقها في سبيل الله وقدم صحابي بنصف مُدَّ -سدس كيلو تقريباً- فإن ذلك المد ليرجح بذلك الجبل.
نعم.
كانوا ينفقون، وينفقون قبل المحسوس معاني عظيمة يريدون بها وجه الله، جاءوا بالمال، ولا يعلمون أن أموالاً ستأتي، وإنما خلفهم الله، وعوضهم الله، ورجاؤهم في الله، امتلأت قلوبهم بالله ورسوله فاغتنت، وتعلقت قلوبنا بآخر الشهر، فمحقت بركة كثير من أموالنا، وربما لم نُسدد إلى حسن صرف أو تدبير في ذلك، شتان بيننا وبينهم حتى وإن أعطينا وأنفقنا، لو فرغنا جيوبنا اليوم وأمضيناها في سبيل الله، فنحن نعلم أننا في آخر الشهر سنقبض مالاً.
أما أولئك فالواحد منهم ينفض جيبه وينظف بيته ويخرج كل ما عنده، لا يبقى في البيت إلا حلسٌ بالٍ، أو شيء لا ينفع للجهاد والبذل، فيقول الرسول: (ماذا أبقيت؟) فيقول: أبقيت الله ورسوله.
يسارع عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى هذا، فيأتي بنصف ماله، يسارع عثمان الذي يعلم أن الله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، فيجهز ويعطي وينفق ويبذل ويمد ويزيد حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة ذهبٍ تتلألأ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم).
هكذا كان شأنهم، وهكذا كان طريقهم مسارعةٌ في الخيرات مع أن أبا بكر ذكره الله في القرآن وأثنى عليه، وشهد له النبي بالجنة، وعمر شُهد له بالجنة، وعثمان شُهد له بالجنة، وعلي شهد له بالجنة، وما قالوا: الآن بلغنا البشارة، وحققنا الأمارة، وأدركنا الغاية، قد ضُمنت الجنة فلتقعد بنا المراحل في قوارع الطرق، بل بذلوا وأعطوا في سبيل الله، وما زالوا يُعطون ويبذلون النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل الله، يسابقون ويبادرون إلى الخيرات.(143/5)
المبادرة بالأعمال قبل الفتن
في الصحيح عند الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة).
بادروا، أي: أسرعوا، اعملوا، اجتهدوا قبل أن يُغلق باب التوبة، فتطلع الشمس من مغربها، أو أن تأتي آية وعلامة من علامات القيامة: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان:10 - 11] أو الدجال فتنةٌ قد ضل كثيرٌ من الخلق في فتن دونها، فما بالك لو خرج الدجال في زمن تعلقت عقول البشر وأفئدة بعضهم بالخرافات والخزعبلات والسحرة والكهنة والشياطين.
ألم يُصدق كثيرٌ من الناس أن تيساً من البهائم يشفي، أو ينفع، أو يضر، وأن ضريحاً لأحد المخرفين يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً؟ ألم يصدق بعض المساكين أن بعض الأولياء يدبر أو يتصرف؟ ألم يصدق بعض الذين وقعوا من حيث يعلمون، أو لا يعملون في الشرك أن الذبح عند ضريح أو دعاء ميت، أو الاستغاثة بولي ربما دفعت عنهم كربة، وكشفت سقماً، وأحضرت خيراً ونفعاًُ، فما بالك لو خرج الدجال بين أعينهم، فقسم ونشر رجلاً من الناس قسمين، ثم رده كما كان، أتظنون أن الذين ضعفوا وانهاروا وخاروا وصدقوا فتناً صغيرةً يسيرةً، مع ما فيها من الكذب والسحر والشعوذة والخزعبلات، أتظن أولئك الذين انطلت عليهم الصغائر يثبت إيمانهم عند تلك الكبائر؟ يأتي الدجال إلى المكان الخرب من الأرض، فيقول: أخرجي كنوزك، فتتبعه كيعاسيب النحل، ويشق الرجل شقين، ويمر بينهما، ثم يأمر كل قسم أن يعود فيعود، ويعود الرجل ماشياً كما كان.
الدجال فتنة، وما من نبي إلا حذر أمته من الدجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ما من نبي إلا حذر أمته الدجال، فإن يخرج- يعني: الدجال- وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج وقد هلكت، فامرؤ حجيج نفسه، ألا هل بلغت اللهم فاشهد).(143/6)
حاجة العبد إلى الصالحات قبل الممات
يا عباد الله! إننا بأمس الحاجة إلى أن نبادر أنفسنا بالعمل قبل الفتن، أو قبل مجيء آية من آيات الله العظيمة كالدابة، أو خاصة أحدنا، كأن يعرض لأحدنا مرض، أو فقر، أو بلاء، أو فتنة، أو أمر من أمور العامة، ربما ظهرت فتنة، فشتت المجتمعين، وفرقت المحبين، وغيرت الموازين، وأصبح الناس في حيص بيص لا يعرفون من أمورهم شيئاً.
المسابقة إلى الخيرات مطلوبة، المسابقة مهمة جداً، وكما مر معنا في الحديث الآنف الذكر: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) وهذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم.
إن الفرص ممكنة، وإن المجالات متاحة، وإنا على مقدرة.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإمكان إحسانُ(143/7)
المغبون في صحته وفراغه
كم غبنا في ساعات نحن نتقلب في بحبوبة الأمن، ورفاهية العيش، وطمأنينة الصحة، ولذيذ العافية، ورقيق الفراش، وتدفق النعم، أولم يقل صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) فكم من عبد من عباد الله غُبن ليالي طويلة، ضيعها وهو يبصر إلى الأفلام والمسلسلات التي لا تنفعه في قليل ولا كثير، ولا قبيل ولا دبير، بل ربما كانت في موازين سيئاته.
وكم من عبد كان قوياً جلداً صحيحاً قادراً على الحج والعمرة، والقيام والصيام، والجهاد والبذل والشفاعة، وقضاء حاجات الناس، فقعد عنها واشتغل بغيرها، وقام ساعياً حثيثاً إلى أمر قد فُرغ منه، وإلى كتاب قد طُويت صحائفه، وإلى أقلام جف مدادها، قام يريد مزيداً من المال والمال قد قسم وفرغ منه يوم أن كان جنيناً في بطن أمه كما في الحديث الصحيح: (ثم يُؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) فالواحد يسعى في الرزق، والرزق أمرٌ مفروغٌ منه، إنما عليك أن تسعى ببذل السبب بمقدار ما أمرت به ليكون سبباً؛ محتسباً في ذلك استجابة أمر الله بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] ولم يُطلب أن نكذب لأجل الرزق، أو نَعُقَ لأجل الرزق، أو نقطع الرحم لأجل الرزق، أو نختلس، أو نغش، أو ننافق، أو نداهن لأجل الرزق، لأن الرزق قد فُرغ منه، فيا لله كم من عبدٍ غُبن في هذا الزمان ساعات، بل أيام، بل أشهر، بل سنوات مضت عليه وكان بوسعه أن يُودعها أعمالاً صالحة، فأودعها غفلات وخطيئات وسيئات ومنكرات، وكم من عبد كان قوياً جلداً، فلما ضعفت قواه وخارت وعجز عن فعل الصالحات، قال: يا ليتني فعلت كذا يوم كنت قوياً.
ومن غرس البذور وما سقاها تأوه نادماً يوم الحصادِ
اغتنموا الفرصة، فإن كثيراً من الناس مغبونون في الصحة، مغبونون في الفراغ، يصرفون العافية في غير ما هي له، يصرف كثير من الناس عافيةً أودعها الله في بدنه في غير ما خُلق لأجله، ومن أعمل شيئاً في غير ما صنع له وفي غير ما خلق له، ربما حصل له خبلٌ أو خلل في عقله ومنهجه.
قال الإمام ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً، ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا عليه، وغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل الصحة والفراغ في طاعة الله، فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.
اغتنموا الفرصة، فالوقت هو رأس المال، الوقت هو البضاعة بعينها، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة) حديث حسن أخرجه الترمذي، قال ابن الجوزي في هذا: فكم يُضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر أو يتوانى.(143/8)
العمل قبل الندم فالأيام مراحل
أيها الأحبة! إن الفرصة ممكنة والأمور متاحة، قل: سبحان الله، قل: الحمد لله، قل: لا إله إلا الله، كتبت وسجلت، قل: الله أكبر، كتبت لك صرر من الكنوز بمجرد أن تنطق بتواطؤ قلب ولسان وتدبر عقل، فما قلت من كلمة إلا وقد أودعت في رصيدك، كأنما تقف في خزينة من خزائنك، فتقول: سبحان الله وترمي بمجموعة من الحسنات، الحمد الله، وترمي بعمل من الصالحات تجمعها في هذه الخزائن، كل دقيقة هي فرصة استثمارية عظيمة لتسبيح وتهليل وتكبير، فكم من عبد ضيع أياماً وضيع أعواماً، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نهارك يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ وليلك نومٌ والردى لك لازمُ
وسعيك فيما سوف تكره رغبةً كذلك في الدنيا تعيش البهائم
فيا عبد الله:
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العبادِ
وتب مهما جنيت تب إلى الله مهما فعلت، عد إلى الله مهما ارتكبت، راجع نفسك مهما أخطأت.
وتب مهما جنيت وأنت حيٌ وكن متنبهاً قبل الرقادِ
ستندم إن رحلت بغير سعيٍ وتشقى إذ يناديك المنادي
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زادِ
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي].
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: [إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما].
وقال الحسن البصري: [أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على دراهمكم ودنانيركم].
ويقول الجاحظ الأديب وهو من المعتزلة في أبيات ينشدها:
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ
لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ دريسٌ كالجديد من الثيابِ
نعم إن التسويف علتنا، إن التأجيل مصيبتنا، الواحد منا في شبابه يقول: إذا خط الشيب في عارضي فسأتوب، إذا اشتعل الرأس شيباً إذا جمعت كذا وما يدريك أنك تبلغ هذه الآجال حتى تتوب، وقد يخطفك الموت قبلها.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل
يقول الحسن البصري: [يا بن آدم! إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك] وقال أيضاً: [يا بن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار حتى يُسلمانك إلى الآخرة، فما أخطر شأنك يا بن آدم].
تخيل أن مائة جندي قد وكلوا أن يستلموك وهم طابورٌ صفوفٌ وقوف على هذا، استلموك من هذا الباب، وكل واحد يسلمك من يده إلى عهدة الآخر، ومن الآخر إلى الثالث، ومن الثالث إلى الرابع، وهكذا الدنيا أسلمتك أول يوم ولدت فيه إلى ليلة أعقبتها، ثم أسلمتك الليلة إلى يوم، ثم اليوم إلى ليله، وما زالت الليالي جنودٌ يسلمونك، وخفيرٌ، وحارسٌ، هذا يودعك، وهذا يسلمك إلى من بعده حتى تقوم آخر ليلة لتسلمك إلى دار برزخية لتكون إما في روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
وما هذه الأيام إلا مراحلٌ يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجب شيءٍ لو تأملت أنها منازلُ تُطوى والمسافر قاعدُ
أيها الأحبة! إننا ركبنا مقصورة الحياة، والقطار يسير إلى الآخرة، فسواء وقفنا في القطار، أو جلسنا، أو أدرنا وجوه مقاعدنا إلى عكس اتجاه القطار، أو أدرنا مقاعدنا إلى الجهة التي يقود بها قائد القطار، فإن القطار ماضٍ، وسوف يصل هذا قطار الدنيا يسير بنا إلى الآخرة.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يومٍ مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العملِ
جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لـ عمر بن الخطاب حينما استخلفه من بعده، فقال له: [إنا لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإن لله في الليل حقاً لا يقبله في النهار].(143/9)
من أيقن بالموت عمل له
والحاصل أن علينا واجبات، ولنا وظائف ومهمات من واجبنا أن نجتهد في بذلها وأدائها والقيام بها، وسرعان ما يُقال: مات فلان، أو دُفن فلان، أو صُلي على فلان، أو دخل فلان المستشفى وأصبح عاجزاً عن الحركة، عجز عن الشراب فسقوه، وعجز عن لبس ثوبه فألبسوه، وعجز عن المشي فحملوه، وعجز عن السير فقادوه، وعجز عن حاجته فساعدوه على قضائها، فقبل فوات الأوان ينبغي علينا أن نتدارك الأنفس، وإنها لصرخات وصيحات، وكلمات وخُطب ومحاضرات، وندوات ونداءات تُوجه لي ولكم، وللذكور وللإناث، وللرجال والنساء.
أفيقوا يا عباد الله! أفيقوا يا عباد الله! عودوا يا عباد الله! أي غفلةٍ أنتم نيامٌ فيها، نغماتٌ تدندن ليل نهار، ومشاهد لا تُرضي الواحد القهار، وسعي حثيثٌ في الدنيا، والموت يطلب هذه النفوس، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الفضيل بن عياض لرجل: [كم عمرك؟ قال: ستون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يُوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسير ذلك؟ تقول: أنا لله عبدٌ، وأنا إليه راجع، فمن علم أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجع علم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوفٌ علم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئولٌ أعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة يا فضيل؟ قال: يسيرة، قال: فما هي؟ قال: تُحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، وإن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وبما بقي].
نعم.
إنما الأعمال بالخواتيم، إن من فضل الله ومنِّه أن العبد إذا استرجع وندم وآب وتاب وعاد إلى الله راغباً فيما عند الله، راهباً من عذاب الله، فإن الله يُسدل ستره على ما مضى من حياته، ويمحو سيئاته، ويبدلها حسنات، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70] فما باله؟ ما شأن من تاب؟ ما شأن من غير؟ {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
اللهم لك الحمد يا حي يا قيوم، يا دائم المنة والإحسان، يا كريم يا عظيم، يا ذا الفضل العظيم، يا واسع يا عليم نسألك اللهم أن تمحو ما سلف من ذنوبنا، وأن تستر ما سلف من خطايانا، وأن تُبدل سيئاتنا حسنات.
إلهنا! إن العباد قد أعجبوا بنا، وإنما أعجبهم فينا سترك علينا -هذا الكلام يقوله كل واحد فينا، ونناجي به ربنا- إلهنا لقد نظر الناس إلى صالح أعمالنا، وما نظروا إلى سيئات خطايانا، وإنك سترتنا وأكرمتنا وأسبغت علينا سترك، وجملتنا بجميل سترك، اللهم فكما سترتنا مع علمك وحلمك وعظمتك، فاستر ما بقي، وأعنا وتب علينا فيما مضى، واجعل اللهم سيئاتنا حسنات.
لن ينفعنا أيها الأحبة إلا أعمالنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) أنت أيها الأخ الكريم وأنا مثلك شأننا في دنيانا بثلاثة أمور: أهل ومال وعمل، أما أهلونا فربما اختاروا غيرنا بعدنا، ربما مات بعضنا فتزوجت زوجته من بعده، وتفرق أبناؤه وأهله، ثم عادوا وتركوه وحيداً فريداً في المقبرة، شريداً رهيناً في حفرته ولحده، ويعود المال، فيختلف الورثة عليه، ويتقاسمونه، ويتحاصّون ويتشاحون، وربما تقاتلوا وتباغضوا وتدابروا، ولحكمة عظيمة قدرها الله جل وعلا أن المواريث تُقسم بالثلث وبالربع وبالثمن وبالسدس، وبأقل وأكثر بتدبير وتقدير من الله، لماذا؟ لأن الورثة إذا دفنوك نسوك، وأخذوا يتقاسمون المال، فالأم تقول: سدسي، أو ثلثي، والأب يقول: سدس، أو أنا عاصب، والأولاد والبنين يقولون: الذكر مثل حظ الأنثيين، أو أخٌ لأم يقول: سدسي، أو جدة تريد سدساً، أو زوجةٌ تريد ربعاً، أو ثمناً، كلٌ يريد نصيبه، وكلٌ قد ودعك ونسيك.
أما عملك فثق أنه لن يُقسم، صلاتك لن تُقسم، صيامك لن يُقسم، عبادتك لن تُقسم، جهادك لن يُقسم، إنما عملك هو الذي يكون لك كله، وأما المال والأهل فما بين متفرق وما بين مقسوم.
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أيها الأحبة! فلنعتبر ولنجتهد، ولنقدم لأنفسنا، عجباً لبعض الناس، يقول: إني أوصيت، أو سوف أكتب وصيتي إذا أنا مت، فسوف يكون من ورائي كذا وكذا، وهو الآن قادر على المال والريال والصحة والبذل، وقد أخر ذلك وسوفه، يا مسكين إذا لم تنفع نفسك وأنت حي، أفتلوم من بعدك بعد أن يدفنوك إذا قصروا بك، لماذا لم ينفعوك؟ ما دمت قادراً فأحسن إلى نفسك.
وذُكر أن أحد الصالحين كان له أبٌ، وكان أبوه ثرياً، فكان هذا الأب يقول لولده، وقد ذهب في ضيعة، أو مزرعة يمشيان في الليل، فقال الأب لولده: يا بني ائتني بالسراج ليضيء لنا الطريق، فقام الولد وجاء بالسراج، فقدم والده أمامه، وجعل السراج خلفه، فقال الأب: يا بني أينفعنا السراج إذا كان خلفنا، إنما ينفعنا السراج إذا أضأته وسرت به بين أيدينا لنبصر به الطريق، فقال الابن: يا أبت فذاك عملك ينفعك إذا قدمته، وإذا أخرته فربما نفعك وربما لم ينفعك.
والغالب في أحوال كثير ممن لا يؤتمنون أنهم لن ينفعوا موتاهم حتى ولو كتبوا أوثق الوصايا، انفع نفسك ما دمت حياً، ولا بأس بالعناية مع هذا بالوصية: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
الوصية تبرعٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت، والوصية للوالدين، ومن كان وارثاً نُسخت في حقه بآيات المواريث، وآيات أنصباء الورثة والعصبات، ولكن الحاصل أن العبد لا يتكل، فيقول: أوصي، أو أكتب في مالي كذا وكذا، ويتكل على المال، بل اعمل ما دمت قادراً، ما الذي يضيرك إذا كنت تفكر أن تبني مسجداً، أو أن يبنى من مالك مسجداً؟ ما الذي يضيرك أن تبني المسجد وأنت حي، وأن تقف عليه وأنت حي، وأن ترى الناس يصلون فيه، وأن تُصلي أنت فيه، وأن تعتكف؟ ولا تقول: إذا مت فاكفلوا من مالي داعية، أو دعاة، بل ما الذي يضيرك أن يُكفل الدعاة من مالك وأنت صحيح شحيح ترجو الفقر وتخشى الغنى، وترى الدعاة يقبضون رواتبهم من مالك، وهم يسعون مفرغين للدعوة إلى الله يبشرونك في كل يوم أو أسبوع أن قد أسلم بفضل الله ثم بمالك خلقٌ كثيرٌ، ترى بركات وآثار عملك وأنت حيٌ ينفعك بإذن الله.(143/10)
التوبة مما فات قبل الممات
خلِ ادكار الأربع والمنزل المرتبعِ
والضاعن المودعِ وعدِّ عنه ودعِ
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفا على القبيحِ الشنعِ
إلام تسهو وتني ومعظم العمر فني
فيما يضرُّ المقتني ولست بالمرتدعِ
أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط
ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي
آه له بيت البلى ومنزل القفر الخلا
ومنزل السفر الألى والضاعن المودع
يعني: القبر
بيتٌ يرى من أودعه أو ضمه واستودعه
لا يستوي إن حله داهية أو أبله
أو معسر أو من له ملك كملك تبع
هذه هي النهاية! فمادمت تعلمها فما الذي يجعلك تتأخر عن التوبة؟ وما الذي يجعلك تسوفها؟ أنت تعلم كم في بيتك من شريط لا يسرك أن يدفن معك أو تلقى الله به، وأنت تعلم كم في بيتك من مجلة لا يسرك أن تدفن معك أو تلقى الله بها، وتعلم أن في مالك قليلاً أو كثيراً من الريالات تعلم من أين جاءت، ولا يسرك أن تحج بها، أو تتصدق بها، أو تنفقها على أولادك، وربما قال الشيطان: اجعلها في وقود، أو في جدار، أو حائط، تخلص منها ما دمت قادراً قبل أن تُقسم من بعدك لهم حلال وتكون عليك حراماً.
هذه الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب، لن ينفعك -والله- إلا عملك حتى وإن طاف بك الطائفون، وأثنى المثنون، ومدح المادحون: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] ما الذي حل بهم؟ ما الذي أصابهم؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] أمك لا تلتفت إليك، وأبوك مشغولٌ عنك، وزوجتك بحالها مشغولة، وأبناؤك ينظرون موازينهم، وأحبابك كلٌ يتطاير بصره إلى أين تطير صحيفته، وهل يلقاها بيمينه أو بشماله، والله لن ينفعنا إلا أعمالنا ولو مدحنا الليل والنهار، وسينفعنا العمل وإن شتم الشاتمون، أو سبنا السابون، أو خذلنا الخاذلون، أو ثبط المثبطون، أو أرجف المرجون، أو سخر الساخرون، أو استهزئ المستهزئون.
العمل ينفع بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه) أنت أيها المسكين! ستقف بين يدي الله جبار السماوات والأرض الذي تكون الأرض الكرة الأرضية بقاراتها، بأشجارها ببحارها، بجبالها، بمخلوقاتها، بطيورها، بوحوشها، ببهائمها، الكرة وما عليها في قبضة الجبار جل وعلا: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
أنت أنت أيها المسكين! تقف بين يدي ربك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، فتنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، فتنظر بين يديك فلا ترى إلا النار تلقاء وجهك، يقول صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
وقد قلّ ذكر النار في مجالسنا، وقلّ ذكر النار في نوادينا، وقلّ ذكر النار في لقاءاتنا، ما أكثر ما مدحنا بعضاً، وتزينا لبعض، وأثنينا على بعض، وبحثنا وتناقشنا وقررنا وحللنا ورجحنا ورأينا وما أقل ما ذكرنا النار، هذه النار التي خشيها الصالحون الذين بلغوا أعمالاً صالحة، علي بن أبي طالب يراوح بين قدميه من طول القيام، ويقول: [لقد أدركت صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والواحد منهم في جباههم مثل ركاب المعز من طول السجود] يراوحون بين أقدامهم من طول القيام في الليل والنهار، فإذا ذكرت النار، ماجوا وخافوا واضطربوا كأنما النار إنما خلقت لهم، أما نحن فقد جمعناً حشفاً وسوء كيلة، سوء عمل، وطول رجاء وأمل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
هناك أمنية سيتمناها الرجل والمرأة، ويتمناها الذكر والأنثى، والصغير والكبير: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] ما من عبدٍ إلا ويكون مغبوناً يوم القيامة، إن كان صالحاً رأى الغبن، لماذا لم يكن تزود أكثر مما فعل؟ وإن كان فاسداً ضالاً، أو كافراً مشركاً، رأى الغبن أن فرط ولم يجب داعي الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الأمنية ربما تمناها كافرٌ، وهو ما تمناه أهل النار حينما يُلقون فيها، قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] الله أكبر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس:91] الآن لما رأيت النار، الآن لما وقفت على الصراط، الآن لما رأيت زبانية جهنم، الآن لما ودعت الدنيا، أين كنت يوم كنت قادراً، يوم كنت قوياً، يوم كنت عداءً سباقاً، يوم كنت مصارعاً جلداً، يوم كنت بصيراً حديداً، يوم كنت فصيحاً منطيقاً، يوم كنت لجوجاً حجوجاً، يوم كنت فارساً شجاعاً، أين كنت عن عبادة الله؟ أين كنت عن طاعة الله؟ ما الذي أشغلك: سهرٌ بليل، معصية، مصيبة، داء وبيل؟ ربما ابتلاك الله بالعافية فلم تعرف:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ(143/11)
وصية لي ولكم
هي وصية ونداء من الله لنا ألا تلهينا أموالنا، وألا تلهينا أولادنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14] يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11].
إن الله جل وعلا يذكر شأن الضالين الذين فرطوا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
سيبقى بعد تمنيه، وبعد رجائه، وبعد أمله أن يرد؛ إنه لن يجاب (كلا) مرجوع مزجور، سيبقى في البرزخ: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} [المؤمنون:100 - 101] إذا انتهت مدة البرزخ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] أين الغبطة؟ وأين التجارة؟ وأين النعيم؟ وأين ما ينفع؟ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:102 - 104] ثم يأتي التقريع، ويأتي التوبيخ: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المؤمنون:105] ألم يأتكم أنبياء؟ ألم يأتكم رسل؟ ألم يبلغكم القرآن كاملاً غير محرف، محفوظاً من الزيادة والنقصان؟ ألم تسمعوا المواعظ؟ ألم تسمعوا النداء؟ ألم تقرع قلوبكم سياط المواعظ؟ ألم تعتبروا بقصص من حل بهم الموت وهم على المعصية؟ ما الذي بدلكم؟ وما الذي أبعدكم؟ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] هناك من كذب، وهناك من فرط، وهناك من شكك، وهناك من قال: ربما، ولعل، وليت:
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل، ولا لو اني
ما تنفع أبداً: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:105 - 106] شقاء في الإصرار؛ في التكذيب، في عناد الرُسل، في عناد الدعاة إلى الله، في عناد من نصحنا وأمرنا بالصلاة، في عناد من حذرنا من اللهو والغفلة، في عناد من دعانا إلى طريق الله: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
لكن يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيرد الجبار عليهم بعد أعوام طويلة: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] هم يصطرخون ويصيحون وينادون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] يرد عليهم الجواب بعد زمن طويل {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
وهذا شأن كل ضال سيندم عند الموت، وسيندم في القبر، وسيندم عند البعث، وسيندم في الحشر، وسيندم عند تطاير الصحف، وسيندم حينما يعبر على الصراط، وسيندم حينما يرى مصارع أهل النار، وسيندم حينما يرى منازل أهل الجنة، أسأل الله أن يجعلنا من المغبوطين، ولا يجعلنا من المغبونين.
قال صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أخرجه الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إنها غنيمة، والغنيمة يُحتاج إلى البداية فيها.
والغنيمة أمر يفوت إن فرطت فيه، وأمر إنما يُقال لشيء سرعان ما ينفذ ولا يبقى، أما الأمور الوافرة، فلا تقول لرجل: اغتنم من البحر شيئاً من الماء، فماء البحر كثير لا يُعد إدراك شيء من مائه غنيمة، ولكن تقول: اغتنم أمراً من الأمور التي إن فرطت فيها ولَّت عنك أو ولِّيت عنها.
فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال، أن نسارع إلى الخيرات قبل أن يُحال بيننا وبينها، وإذا حِيل بين العبد وبين العمل الصالح فحينئذٍ لا تسأل عن حسرته، والله إن أناساً تمنوا الرجوع؛ يريدون أن يتوبوا وهم أحياء، فحيل بينهم من شدة ما طُبع على قلوبهم.
تركوا الجمعة والجمع والجماعات، واقترفوا المعاصي والسيئات، وداوموا الخطايا والفواحش الموبقات، واستهزءوا بالدعاة، وسخروا من آيات الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] ولأجل ذلك لما دعانا ربنا إلى الاستجابة، لما يدعونا به سبحانه ويدعونا به نبيه صلى الله عليه وسلم، قال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] كأن من معاني الآية: أن من لم يستجب، قد يحال بينه وبين قلبه، كأن من معاني الآية: أن من دعي فأعرض، من نودي فنأى، من دني إليه فأبعد، كأن من معاني الآية: أن من أصر على ذلك، وطبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمع والجماعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم).
فإذا طبع على القلب، حيل بينه وبين التوبة، وحيل بينه وبين الرجوع، يحدثني أحد الإخوة عن ضابط من ضباط السجون، قال: إن بعض الذين حُكم عليهم بالقتل إذا كان فجر الجمعة أو صبيحة الجمعة، جيء بكاتب عدل ليكتب وصية من سينفذ فيه الحكم، إما حرابةً، أو قتلاً، أو رجماً بالحجارة، أو ضربةً بسيف، أو رمياً برصاص، أو نحو ذلك، قال: فبعضهم إذا قيل له: إن هذا كاتب عدل يكتب وصيتك، ستموت هذا اليوم، أو سينفذ حكم الله فيك هذا اليوم، قال: بعضهم يبكي وينوح ويصيح أعطوني سجادة أصلي، أعطوني قرآناً أقرأ، يلتفت إلى السجناء: ادعوا لي، اسألوا من تعرفون فيه الصلاح أن يدعو لي عند الله، أن يسأل الله لي بالتوبة والمغفرة.
قال: فيرجع ويندم ويبكي حتى تدنو الساعة، بقي أربع ساعات، ثلاث ساعات، ساعتان، يركب في السيارة، الساعة الأخيرة ثم ينفذ فيه الحكم وينتهي، قال: وبعضهم يأتي كاتب العدل، فيقول له: هل من وصية؟ فيقول: لا، فيقول: اغتنم ما بقي، نحن في السابعة صباحاً، وفي الواحدة، أو الثانية عشرة والنصف، سيكون أمر الله وحكم الله وشرع الله رحمة وتطهيراً، فيقول: دعنا من كلامك يا شيخ، قال: بعضهم والله يُعطى السجادة فلا يأخذها، ويُعرض عليه الماء ليتوضأ فلا يُقبل على الوضوء ليصلي، ويدعى إلى ركعتين قبل أن يُقتل فلا يسجدها ولا يركعها، وبعضهم يقول: أعطوني (تتن) وآخر يقول: أعطوني كذا، والآخر يقول: (أعطوني دخان) حيل بينهم وبين ما يشتهون {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] قد طبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأسأل الله بحوله وقوته ومنِّه وكرمه أن يجعلنا من المستجيبين له ولرسوله، وألا يجعلنا ممن طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، أولم ينادنا ربنا يا إخواني! يا أيها المستمعون والمستمعات! يا أيها المسلمون والمسلمات! أولم يدعونا ربنا أن ننيب، وأن نستجيب، قال ربنا جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54] أنيبوا، ارجعوا، أسلموا، استسلموا، انقادوا، اخضعوا، دعوا المكابرة، دعوا العناد، دعوا التسويف، دعوا التأجيل، الفرصة متاحة، والباب مفتوح، فأقبلوا فإن الله رب يفرح بتوبة عبده أشد من أحدنا إذا أضاع دابته في فلاةٍ وعليها طعامه وشرابه ثم وجدها، ربٌ غنيٌ عنا يفرح بتوبتنا فينادينا ويقول: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:54 - 58].
أولم تكن آيات الله تتلى عليك؟ أولم يُعمرك الله؟ أولم يجعلك الله متدبراً؟ أما رأيت مصارع الضالين؟ أما علمت أن أناساً ماتوا والمخدرات في أوردتهم وشرايينهم وأبدانهم؟ أما علمت أن أناس(143/12)
نداء إلى كل من يريد الجنة
أيها العبد! أيها المسكين! أيها الإنسان! أيها الفتى والفتاة! أيها الرجل والمرأة! أيها الكبير والصغير! أيها الوزير والأمير! أيها الصعلوك والحقير! أيها العبد المسكين.
مضى أمسك الباقي شهيداً معدلا وأصبحت في يومٍ عليك جديدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً فثنِ بإحسانٍ وأنت حميدُ
فيومك إن عاينته عاد نفعه إليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد(143/13)
اعمل قبل أن تعجز
فكم من نفسٍ رجت أمراً وعجزت عن بلوغه فما أدركته، رجل أعرفه أحسبه من الصالحين، يحدثني ولده يقول: خرجت في رمضان المنصرم مع والدي من المسجد بعد صلاة المغرب، أفطرنا في البيت، وخرجنا إلى المسجد، وصلينا، وخرجنا من الصلاة، قال: فالتفت إليَّ والدي، وقال: يا ولدي فلان، الله أكبر كم من نفس لم تبلغ هذا الشهر، قال: فقلت: صدقت يا أبي! أين فلان وفلان ممن نعرفهم؛ ماتوا وما بلغوا هذا الشهر، قال: ثم التفت إليَّ أخرى، وقال: يا ولدي، وكم من نفسٍ لم تُكمل هذا الشهر، وكان هو رحمه الله ممن لم يُكملوا هذا الشهر، مات في يوم تاسع أو عاشر رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في الجنة، فقد علمته رجلاً من أهل الخير والصلاح.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه البخاري.
فهذا أصلٌ جليلٌ عظيمٌ في قِصر الأمل في الدنيا، وينبغي للعبد أن يُعد، وأن يجهز، وأن يجمل داره في الآخرة حتى يتهيأ للانتقال والرحيل إليها بإذن الله جل وعلا.
أيها الأحبة! إن من زين داراً، واشتغل بها، وجملها، وطيبها، اشتاق إلى أن يرتحل إليها، وإن من خرب داراً، كره أن ينتقل إليها، ولو أن واحداً منكم أُعطي أرضاً، فحفر بها بئراً، وغرس بها نخلاً، وشق فيها أنهاراً، وجعل عليها سوراً وجداراً، وجعل فيها أزهاراً وأشجاراً، وجعل فيها حدائق وجنات، وطيبها بكل ما تُزين به الحدائق والبساتين أتظنونه يُهملها؟ سترونه في كل يوم يزورها، ويعتني بها، ويسوؤه أن ينقطع الماء عنها، ويسوؤه أن يخرب شيء من ثمارها وأشجارها، ولا يتركها نهبةً لمن أراد أن يدخلها، أو يعبث فيها.
ولو أن آخر أعطي أرضاً فتركها، ولم يغرس بها نخلاً، ولم يحفر بها بئراً، ولم يجعل فيها شجرة، ولم يجعل لها سوراً، ثم قيل له: إن بني فلان أناخوا رواحلهم وأباعرهم فيها، فإنه لا يتأثر، لو قيل له: إن تلك الأرض أصبحت تُرمى فيها القمامات والزبالات ما يتأثر، لأنه ما تعب فيها.
فكذلك الآخرة إذا اعتنينا بمواقعنا فيها، نغرس فيها أعمالاً صالحةً، نحفر فيها آبار العمل الصالح والأوقاف النافعة، نبني عليها أسواراً منيعة، نحصنها بالتوبة وبالذكر وبالاستغفار، فإنها تهمنا، وإذا جاءت ملائكة الموت تنقلنا إلى هذه الدور التي طيبناها وغرسناها وزيناها، رضينا وفرحنا أن ننتقل إليها، أما عبدٌ ضيع آخرته، فلا شك أنه يكره أن ينتقل إليها، ولذلك قيل للحسن البصري: لماذا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال: [لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب].(143/14)
استعد بيومك لغدك
أيها الأحبة! الواجب أن الإنسان يستعد لنفسه، يقول ابن عمر: [خذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك] أي: اغتنم الأعمال الصالحة في صحة قبل سقم، وفي حياة قبل موت، لعلك غداً من الأموات دون الأحياء.
كان صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ -من القيلولة- في ظل شجرة، ثم راح وتركها) نام وقت المقيل في ظل شجرة ثم راح وتركها.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل] وقال يحيى بن معاذ الرازي: [الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يُفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين].
تخرب ما يبقى وتعمر ثانياً فلا ذاك موفورٌ، ولا ذاك عامرُ
وهل لك إن وافاك حتفك بغتةً ولم تدخر خيراً لدى الله عاذرُ
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ودينك منقوصٌ ومالك وافرُ
ماذا ينفعك أن تموت ووراءك مليار دينار، وليس أمامك إلا آلاف السيئات وآحاد الحسنات؟ والله ما يسرك لو خلفت أموال الدنيا وقد أقبلت بسيئات لا قبل لك بها، نسأل الله أن يتغمدنا برحمته.
قال المروذي: قلت لـ أبي عبد الله - يعني: أحمد -: أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قِصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي.
وقال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعك صلاتك، فقل: لعلي لا أصلي غيرها.
أي: قد تكون هي الصلاة الأخيرة، وقد يفاجئني الموت بعدها، وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: [ما من ميتٍ يموت إلا ندم قالوا: وما ندامته؟ قال: إن كان محسناً ندم ألا يكون زاد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب] أي: طلب العتبى وتاب ورجع إلى الله.
فإذا كان الأمر على هذا، فيتعين علينا جميعاً ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباً، صغاراً وكباراً أن نعود إلى الله، أن نرجع إلى الله، كفانا غفلة، بلغنا من العمر ثلاثين في غفلة، بلغنا أربعين في غفلة، بلغنا خمسين في غفلة، فمتى الرجوع؟ ومتى التوبة؟ ومتى العودة والإنابة؟ قال سعيد بن جبير: [كل يومٍ يعيشه المؤمن غنيمة].
وقال بكر المزني: ما من يومٍ أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول ذلك اليوم: يا بن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: يا بن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي، قال البخاري رحمه الله:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلته
ويقول القائل:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر(143/15)
لا يصدك الشيطان عن طاعة الله
لا يصدنا الشيطان عن ذكر الله، والرجوع والتوبة، إن الشيطان يقول: التوبة صعبة، التوبة مستحيلة، التوبة شاقة، الرجوع أمرٌ مثاليٌ، الرجوع أمرٌ صعب المنال لا يمكن أن يتحقق، كيف نتوب؟ تريدون أن نترك الابتسامة، أن نترك الفرحة، أن نترك اللقاء، أن نترك الوصل، أن نترك لقاء الأحباب والأقارب.
نقول: ومن قال إن التوبة تعني ذلك؟ التوبة أن تُودع ما نهى الله عنه، أن تهجر ما نهى الله عنه، أن تتخلص مما نهى الله عنه، وأن تُقبل على طاعة الله، اتق المحرمات تكن أعبد الناس، إن الشيطان يُريد أن يُوقع بيننا عداوة وبغضاء، ويريد أن يضلنا، ويريد أن يصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل نحن منتهون؟ هل ننتهي من هذه الغفلة ونُقبل على طاعة الله؟ وعلينا أن نستعيذ بالله من همزه ونفخه ونفثه ووسوسته: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268].
الشيطان يزين للعبد حتى إذا اجتمع الشيطان وأعوانه في النار يوم القيامة، وقف الشيطان خطيباً فصيحاً، فقال كما ذكر الله جل وعلا: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} [إبراهيم:22] انتهت القضية، فُرغ من المسألة، أهل النار في النار، أهل الجنة في الجنة، قام الشيطان فقال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22].
الشيطان يوبخ ويقرع: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] كم أغوى من شاب، نعم إن الشياطين ما نصبت حبالاً كحبال المشانق تخطف بها رقاب العباد، وإن الشياطين ليس معها أقفالاً وأغلالاً وقيوداً تضعها في الأيدي والأرجل، ولكن الشياطين سربت نغمةً إلى أذن، وزينت صورة في عين، ورسمت فكرة في خيال، وخيلت شهوة محرمة في نفس، وقادت خطوة خطوة إلى أن وقع العبد في المعصية، لأجل ذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
نعم إن الشيطان ما قال لرجل ذات يوم: اطرح هذه المرأة، وافعل بها الزنا من أول وهلة، وما قال: اشرب كأساً من الخمر أول وهلة، وما قال: خُذ أموال الربا أول وهلة، وما قال: افعل كذا أول وهلة، وإنما قاد خطوة خطوة، إنما هي كانت خيالاً، كانت خطرات، كانت سكرات، ثم هي خطوات، ثم أفعالٌ حتى وقع العبد في المعصية.
ورب عبدٍ يتوب بعد معصيته، ويُفسح في أجله، ويُمهل في عمره، فيعود ويستعتب، ورب عبدٍ يموت قبل أن يتوب، ورب عبدٍ يموت وهو يفعل فاحشته، أو يشرب كأسه، أو يعاقر محرماً من المحرمات، إن الشيطان قعد لنا في كل باب، وقعد لنا في كل طريق، إذا أذن للفجر زين لنا الفرش والوسائد، وإذا دعينا إلى الإنفاق في سبيل الله قبض أيدينا على جيوبنا، وإذا دعينا إلى محاضرة وندوة خوفنا ووسوس لنا، وزين لنا مجالس لهو وغفلة، وإذا دعينا إلى صلة رحم ذكرنا محرشاً بعداوات قديمة، وإذا دعينا إلى إصلاح ذات بينٍ جعلنا ننحاز إلى فريق دون فريق.
هكذا شأن الشيطان يقعد لكل عبد في طريقه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال -أي الشيطان-: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبنائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِوَلْ -الطول: الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتدٍ والطرف الآخر في يد الفرس، لتدور الفرس وترعى، ولا تذهب تلقاء وجهها- فعصاه ابن آدم فهاجر، ثم قعد الشيطان للمسلم في طريق الجهاد.
فقال: تجاهد، فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، وتنكح المرأة بعدك، ويقسم المال، فعصاه، فجاهد، فمن فعل ذلك -يعني: من عصى الشيطان في كل وساوسه وطرائقه- كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) رواه أحمد والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح.(143/16)
التسويف آفة قتلت أصحابها
فيا أيها المحب! يا أيها الحبيب! يا أيها الصديق! يا أيها الرفيق! يا أيها الرجل العاقل! ويا أيتها المرأة المسلمة! كما قال الحسن البصري: [إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غدٌ لك، فكس فيه كما كست في اليوم، وإلا يكن الغد لك لن تندم على ما فرطت فيه] وذلك من الكياسة بمعنى العقل والفطانة، أي: اعمل عملاً تكون به كيساً حازماً.
دع التكاسل في الخيرات تطلبها فليس يسعد بالخيرات كسلانُ
لا ظل للمرء يغني عن تقىً ونهى وإن أظلته أوراقٌ وأفنانُ
ما الذي يصدنا عن الجنة؟
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمانِ
ما الذي صدنا؟ ما الذي قعد بنا عن طلب الجنة؟ وما الذي قعد بنا عن السلامة من النار، إن طرق الخير كثيرة، وأبواب البر عديدة وفيرة، فلنا في كل تهليل وتكبير عمل صالح يقود إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه الإمام مسلم.
عليك صدقة في عافيتك ببدنك ومفاصلك، ويجزئ من ذلك أن تصلي ركعتين، وفي هذا الحديث دلالة على أنك قادر على أن تملأ خزائنك بالأعمال الصالحة، إن الذكر عبادة لسانية، لو أردت أن تحرك يدك بعدد حركات لسانك لانقطعت يدك، ولو أردت أن تحرك رجلك بعدد حركات لسانك لشلت رجلك، ولو أردت أن تحرك حاسة لسانك بخفقات القلب لعجزت، لكن الذكر فيه تسبيح وتهليل واستغفار وإنابة، وذكر لله، وتلاوة، وفيه حسنات كثيرة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
اختار الله كلمات فجعلهما ثقيلتين في الميزان، خفيفتين على اللسان، حبيبتين إلى الرحمن" سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" اختار الله كلمات كما قال صلى الله عليه وسلم جعلها خيراً من الدنيا وما فيها" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
إنك قادرٌ أن تبلغ الجنة بأيسر الأعمال، أن تقوم بغض طرفك، أن تُحرك لسانك بذكر الله، أن تكف يدك عن الحرام، أن تعقل قدمك عن المشي إلى معصية الله، أن تسير إلى ما أمر الله بالسير إليه، فإن أبواب الجنة سهلةٌ وميسرة جداً، وفي الحديث الآخر: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل في دابته فتحمله عليها وترفع له عليها متاعه صدقة، الكلمة الطيبة صدقة، بكل خطوة تمشيها إلى المسجد صدقة، تميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه.
وفي حديث آخر: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) أين نحن من هذه الصدقات؟ من الناس من إذا رأى اثنين قام كالشيطان منحازاً إلى أحدهما، لا يريد أن يُصلح بينهما، وبعض الناس لا يعرف إلا طريق التشجيع للأندية والمباريات الرياضية، لا يعرف أن يقف في الوسط لكي يعدل ويُصلح ويُوفق ويقرب بين فريقين وطرفين وطائفتين، لا يعرف إلا أن يتحيز لهؤلاء ضد هؤلاء، وهؤلاء ضد هؤلاء أياً كانوا صغاراً أو كباراً أو أفراداً، أو غير ذلك.
ومن الناس من يحرم نفسه الصدقة، فتجده يجد محتاجاً إلى المساعدة فلا يساعده، يجد رجلاً عاملاً فقيراً مسكيناً كالاً أو ابن سبيل قد انقطع به الطريق فلا يحمله، يحرم نفسه الصدقة، وبيده أن يميط أذى عن الطريق، فربما ترفع أن يلوث تلك اليد المعطرة بمختلف العطور بذلك الأذى الذي رآه، وربما كان ذلك الأذى مرجحاً لحسناته على سيئاته، فيكون بإذن الله سبباً في دخوله الجنة.(143/17)
إن طرق الخير كثيرة
قال صلى الله عليه وسلم: (على كل مسلم صدقة قال أحد الصحابة: أرأيت إن لم يجد؟ قال صلى الله عليه وسلم: يعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق، قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها صدقة) متفق عليه، ومن الناس من لا يعرف حتى الصدقات التي لا تحتاج إلا إلى الصبر.
في مجلس من المجالس زرت رجلاً أرجوه وألتمس عنده أن يفك أسر مكفوله الذي بلغ من العمر مبلغاً، وله أسرة فقيرة، وله طفلة عمرها ثلاث سنوات أصيبت بفشل كلوي، وله أم عجوز كبيرة، فقلت للرجل: يا فلان، يا عبد الله! إني أدعوك إلى الله وبالله، ولأجل وجه الله أن تترك كفالة هذا المسكين، وتنقلها إلى آخر، وإن ثبت لك في ذمته شيء من الحقوق المالية شرعاً، فأنا ضمينٌ كفيلٌ بها، اتركه.
فقال: لا، ما أتركه، فقام واحد من الحضور، قال: هي فوضى، أن يأتي هؤلاء الأجانب، ونتسامح معهم ونتساهل معهم، المستشفيات مليئة بالمرضى، وأنت لا تأخذك العاطفة، فقلت: يا مسكين! أولم يكن خيرٌ لك أن تقول كلمة طيبة، أو تصمت: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت).
من الناس فضلاً عن أنه عاجز عن أن يفعل خيراً- والعياذ بالله- قعد به الشيطان ونفسٌ أمارةٌ بالسوء، وهوى مطاع، وشحٌ متبع، قعد به عن فعل الخير، فما زاده إلا أن أنطقه بالباطل، فإذا لم تستطع قول الحق، فلا تنطق بالباطل يا عبد الله، الإمساك عن الشر كما في نهاية الحديث، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: (يمسك على الشر، فإنها صدقة) متفق عليه.
إن أبواب الجنة ميسرة وسهلة، لكن الشيطان ضيق على من أغواهم وأضلهم، تجد الذين وقعوا في الخمر والمخدرات، جميع أنواع عصيرات الفواكه، وعصيرات المشروبات، والأطعمة والطيبات ضاقت في أعينهم، ولم يبق إلا الخمر وهو الذي لذَّ أمام أعينهم وعلى ألسنتهم، أنواع المأكولات ما طابت لهم، وما طاب إلا الحرام، جميع أبواب الرزق من بيع وشراء وأجرة وسَلَم ورهن ومغارسة ومزارعة، وأمور كثيرة ضاقت عليهم، وما طاب لهم إلا الحرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تجد بعضهم ضاقت المجالس أمام عينيه، ما فكر أن يقعد في مسجد، أو يجلس مع زوجته، أو يلاعب أطفاله، أو يصل رحمه، أو يجلس مع والديه، أو يمشي في طاعة الله ومرضاته، ضاقت كل المجالس وما رأى إلا مجلساً فيه معصيةٌ من معاصي الله سبحانه وتعالى.
وفي الختام أيها الأحبة: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
اللهم لا تجعلنا من الفاسقين، اللهم لا تجعلنا ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اللهم اجعلنا من المسارعين في الخيرات، الراغبين في الطاعات.
اللهم استرنا بسترك الذي لا يُكشف، اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وارفعنا بطاعتك، ولا تخزنا بمعصيتك، اللهم ثبتنا على طاعتك إلى أن نلقاك، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا.
اللهم أصلح شأننا، اللهم اجمع شملنا، اللهم أصلح حكامنا، اللهم اهد ولاة أمرنا، اللهم سدد دعاتنا، اللهم وفق علماءنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شمل علمائنا وحكامنا ودعاتنا وعامتنا وصغيرنا وكبيرنا على طاعتك.
اللهم لا تفرح علينا عدواً، اللهم لا تُشمت بنا حاسداً، اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الزيغ بعد الاستقامة، ومن الضلالة بعد الهدى، لا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار يا رب العالمين.
وفي الختام أرجو ممن رتبوا هذه المحاضرة أن يجعلوا على الأبواب من يجمع تبرعات لإخواننا في البوسنة والهرسك، فإنهم بفضل الله في أخبار تنبئ بانتصارات، وبشائر تنبئ بقرب النصر والفرج من عند الله سبحانه وتعالى، فأعطوهم وأعينوهم: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20].(143/18)
الولاء والبراء [1407هـ]
إن الولاء والبراء أمر محتوم، وهو أصل من أصول الدين الإسلامي، كما بينه الله في كتابه، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولقد سطر الصحابة في الولاء والبراء أروع الأمثلة، وهكذا كان السلف الصالح، لكن لو نظرنا إلى أحوالنا اليوم وأحوال أعدائنا لوجدنا أن الأعداء قد أخذوا بهذا الأصل على اختلاف نحلهم ومللهم، وأما المسلمون -فإلى الله المشتكى- قد وقعوا في التفرق والتشرذم والانحطاط والضعف والخور!!(144/1)
حقيقة الولاء والبراء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وآتاه الفضيلة والوسيلة، وبعثه مقاماً محموداً.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم في كل حال من أحوالكم، وهي وصيته لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المسلمين! إننا في عصر تكالبت فيه قوى الشر على الإسلام وأهله، واجتمعت عليهم وعلى حربهم صفاً واحداً، على الرغم من اختلاف ملل الكفر وتنوع نحله، وإن كنا نرى في مقابل ذلك آلاف الملايين من المسلمين المتفرقين في أنحاء العالم، ومع ذلك فكثرتهم هذه لم تغن عنهم شيئاً، ولكل واحد منا أن يطرح سؤالاً قائلاً: ما بالنا نحن المسلمين أكثر أمم الأرض عدداً، وأوفرهم أموالاً وأرزاقاً، ومع ذلك فالمسلمون أكثرهم يشردون أو يقتلون ويعذبون ويهانون ويحتقرون! أليست الكثرة تغلب الشجاعة، وتجلب النصر والغلبة؟ نعم.
هذا هو سؤال الساعة المناسب، والجواب عليه يكمن في قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت، وينزع الله مهابتكم من صدور أعدائكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! إن ثمة علل وأمراض أصابت الأمة الإسلامية، نخرت عظامها، ومزقت أوصالها، وأسقطت خلافتها، وفرقت شمل وحدتها، حتى وصل بها الأمر إلى ما نراه اليوم من التبعية والهوان والذل والامتحان، ولو ذهبنا نستعرض تلك المصائب والمحن، لطال بنا المقام، ولكن حسبنا أن نتذاكر بعضها بشيء من الإيجاز والاختصار.
ألا وإن من أعظم تلك الأمور وأخطرها، والتي أصابت المسلمين في دينهم؛ هي قضية ضعف الولاء والبراء، ضعف الموالاة والمعاداة في الله، إذ لما ضعف تمكن هذا الأمر في نفوس كثير من المسلمين؛ تبع ذلك نقص وضعف في الإيمان، وحقيقة الولاء يا عباد الله! أن يعرف المسلم أولياء الله من المؤمنين الصادقين، والدعاة المخلصين، فيواليهم ويحبهم، ويعينهم، ويدعو لهم، وأن يعرف أعداء الله فيعاديهم، ويخذلهم، ويدعو عليهم.(144/2)
تحريم موالاة الكفار
لقد حذر الله جل وعلا عباده المؤمنين في كتابه الكريم من موالاة الكفار حيث يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:118 - 120].
فلا تجوز موالاة أعداء الله بأي حال من الأحوال، فالولاء لله والبراء من أعدائه ليست أقوالاً تدعى أو يزعمها من شاء، بل لابد لها من البراهين والأدلة التي تمحص صدقها من كذبها، وصحيحها من سقيمها، إن الصحابة رضوان الله عليهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، أثبتوا صدق ولائهم لله، فما أن أذن الله لهم بالهجرة إلى المدينة حتى تواثبوا إلى طيبة الطيبة، تاركين أرضهم وأموالهم وديارهم وعشائرهم، ليثبتوا صدق الولاء لله جل وعلا، وليظهروا صدق العداوة للكفار في مكة.
والولاء والبراء مسألة عريقة منذ القدم على عهد أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، والله جل وعلا قد جعل إبراهيم قدوة لنا، حيث يقول في محكم كتابه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] ويقول جل وعلا محذراً عباده المؤمنين من موالاة أعدائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].(144/3)
حقيقة الولاء والبراء عند الصحابة
ولقد سجل الصحابة رضوان الله عليهم أروع آيات الولاء والبراء، حيث نزل في أحدهم وهو أبو عبيدة رضي الله عنه قول الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22] ففي يوم بدر تقابل أبو عبيدة عامر بن الجراح مع أبيه، تقابل معه في المعركة فقتله، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه أبي بكر الصديق: والله لقد وقعت تحت سيفي عدة مرات فرددته عنك حياء منك يا أبي، فقال له أبو بكر: والله لو وقعت تحت سيفي مرة واحدة ما رددته عنك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما استشاره في أسرى معركة بدر: سلمني أخي، فلأقطعن عنقه، وسلم علياً أخاه عقيلاً فليقطع عنقه، وسلم أبا بكر ابنه فليقطع عنقه، ثم نقتلهم جميعاً، فلا يعودون يقاتلوننا، أي ولاء وبراء في هذه المواقف المذهبة والمشرقة؟! ولما قدم أبو سفيان مبعوثاً من أهل مكة ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم على تمديد العهد والهدنة قدم على ابنته أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل البيت وأراد أن يجلس على فراش مطروح على الأرض، قامت ابنته وجذبت الفراش من تحته، فقال لها: أي بنية! أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت بالفراش عني؟ فقالت: لا.
إنما هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مسلم وأنت مشرك نجس.
ولما رأى مصعب بن عمير أخاه أبا عزيز أسيراً في معركة بدر، في قبضة سلمان الفارسي، قال له: يا سلمان! شد الوثاق على أسيرك، فإن أمه غنية، فقال له أخوه: أهكذا تقول عني؟ قال: والله إن سلمان أخي من دونك.
وعبد الله بن عبد الله بن أبي، وأبوه زعيم المدينة وكبير المنافقين، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، قال كبير المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المقولة، فأرسل وراء ابنه عبد الله وهو صحابي جليل، فقال له: هل علمت ما قال أبوك؟ قال: لا.
قال: يقول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال عبد الله بن عبد الله بن أبي: صدق يا رسول الله! أنت الأعز وهو الأذل، ولئن أمرتني يا رسول الله لآتينك برأسه ولو كان أبي! وعندما عاد إلى المدينة وقف على بابها، فعندما جاء زعيم المنافقين ابن أبي أمسك ولده بتلابيبه وقال له: أنت الذي قلت: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟ أنت الأذل ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز، والله لا يؤويك ظلها -أي المدينة - أبداً حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد أبوه ينفجر غيظاً وكمداً، وصاح: يا معشر الخزرج! ابني يمنعني المدينة، وابنه يقول: والله لا تدخلها، فذهب من الصحابة من أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال لهم: مروه فليأذن له.
وبذلك تحول الولاء والبراء إلى واقع عملي يراه الناس ويقتدون به، فمسألة الولاء والبراء ترتفع بالمسلم عن حدود الجنس واللون والعرق والقبيلة والوطن، إلى سمو الإسلام وعدله ورحمته، فالمهم أن نوالي أولياء الله عرباً كانوا أو عجماً، بيضاً كانوا أو سوداً، وإن لم نفعل ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.(144/4)
حال المسلمين اليوم وحال الأعداء في الولاء والبراء
إن من صدق الولاء لله أن نعين الدعاة إلى الله في كل مكان، والمجاهدين في سبيل الله بكل ما أوتينا من فضل من الأموال والأرزاق، والدعاء والثناء، والنصح والتواصي بالحق والصبر، إن المسلمين يواجهون حرباً من أعدائهم اليهود والنصارى وأذنابهم وأوليائهم، فأعداؤنا قد يختلفون فيما بينهم، ولكنهم يتفقون ويتحدون ويجتمعون على حربنا وإبادتنا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة:105].
وكيف يليق بنا نحن المسلمين أن نتفرق أو نتشتت أو نتقاعس عن موالاة المؤمنين وعونهم، وأعداؤنا يوالي بعضهم بعضاً لأجل حربنا وإبادتنا، ولو أمعنا النظر في واقعنا وذهبنا نتعرف إلى موقعنا في مسألة الولاء والبراء، لوجدنا الكثير قد والى نفسه وشهواته وملذاته، فأين الولاء منا، ونحن نرى الأبرياء يشردون، والنساء يستبحن، والرجال يقتلون وَيُقَاتَلُوْن، ثم لا نهب لنجدة أو معونة؟! أين الولاء منا، وأين نحن من الولاء لله، إذا كان إخواننا في أفغانستان وغيرها يخوضون حرباً ضارية شعواء مع أعداء الله الملحدين واليهود الحاقدين؟! ثم إذا دعي الواحد منا إلى الصدقة أو المعونة، تراه يتكاثر دريهمات حقيرة يدفعها لهم، وإذا تكرر طلب المعونة منه سئم ومل من ذلك التكرار.
إن من صدق الولاء في هذه القضية خاصة وغيرها عامة، أن يجاهد المسلم بماله ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولو أن كل واحد منا داوم بالدعم والمعونة والصدقة ولو بشيء قليل لكان ذلك كثيراً بالنسبة لمجموع المسلمين على تفرقهم في جميع أنحاء العالم.
أسأل الله جل وعلا أن يبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، بارك الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو التواب الرحيم.
الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، وأنشأ السحاب، وهزم الأحزاب، وأنزل الكتاب، وخلق العباد من تراب، لا إله إلا هو رب الأرباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، لم يعلم طريق خير إلا دل الأمة عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا حذر الأمة منه، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضو بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! يقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] ولاء الكفار بعضهم لبعض واضح وجلي، مهما تعددت نحلهم، ومهما تنوعت مللهم، فهم يوالون بعضاً، خاصة إذا كان الخطب أمام المسلمين، وذلك أننا نرى أعداء الله عند حدوث أي عداوات، أو سوء علاقات بين بلادهم وغيرها، ترونهم يقاطعون إنتاج تلك البلدان، يقاطعون عمالتها، يقاطعون اقتصادها، ألسنا نحن المسلمين أولى بمعرفة الولاء والبراء في الدقيق والجليل في كل صغير وكبير؟! عجباً لأولئك الكفار في موالاتهم لبعضهم، يوم يرون عداوة من أمة من الأمم، أو دولة من الدول، يوم أن يرون عداوة منها لبلادهم، يقاطعونها وينابذونها في كل قليل وكثير.
إذاً يا عباد الله! فنحن أولى أن نقاطع الكفار، ونحن أولى أن نسد حاجتنا من كل صغير وكبير من بلاد الإسلام ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، أما إذا لم نجد إلى ذلك سبيلاً كأن يكون في أمور قد لا ينتجها إلا هم، أو في أمور لا توجد إلا عندهم، فالله المستعان والشكوى إلى الله في كل حال، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، أما مادمنا نجد سبيلاً إلى سد الحاجة من الإنتاج، ونجد سبيلاً في سد حاجاتنا من العمالة والاقتصاد، وكل صغير وكبير، فالأولى أن نتجه بذلك إلى بلاد المسلمين، لكي نقوي بذلك شأن المسلمين، ونضعف بذلك شوكة الكافرين، نسأل الله جل وعلا أن يعيننا على ذلك.
وإن من الأمور المهمة التي ينبغي أن يشعلها الإنسان، وأن يوقد جذوتها في نفسه، فيما يتعلق بالولاء والبراء إذا سافر لبلدة أوروبية أو غيرها من تلك البلدان التي يعيش فيها المسلمون أقلية أو أغلبية مقهورة، ينبغي له أن يتحسس أحوال إخوانه المسلمين، وأن يبحث عنهم، وأن ينظر إلى أي مدى يعيشون من سعة العيش أو ضيقه، وينبغي له أن يمد شيئاً من المعونة والصدقة والنفقة لهم على حسب استطاعته.
إذ أنهم لا يجدون دعماً إلا بما يجتهدون به، وما يجمعونه من إخوانهم، فينبغي أن نشعل الولاء والبراء في أنفسنا، وأن نذكي جذوتها، وأن نشعل قناديلها حيثما اتجهنا وأينما كنا، ليعرف الإنسان أنه مرتبط بأخيه المسلم، وأن الإسلام دم يسيل في عروقه، ينبغي أن يبحث وأن يرتبط بمن هو مسلم في أي مكان، ولكي يكون على صلة قوية بإخوانه المسلمين في كل مكان وزمان.
أما أن يعيش كثير من المسلمين لا يوالون ولا يعادون في الله، ولا يلتفتون ولا ينتبهون لإخوانهم المسلمين، فهذا من الغفلة بموقع عظيم، والأسوأ والأمر من ذلك أن ترى الكثير منهم ينفق الملايين الطائلة، والآلاف المؤلفة، حينما يسافر إلى دول الغرب، ومع ذلك لا تجود نفسه بقليل أو كثير لمركز إسلامي، أو مسجد قد أسس، أو لجماعة تدعو إلى الله على بصيرة في تلك الغربة والوحشة.
ينبغي أن نذكي أمر الولاء والبراء في نفوسنا، وإنما هو أمر من أساسيات ومهمات العقيدة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يوالون أولياءه، ويعادون أعداءه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، وأراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بهم مكيدةً، فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء يا جبار السماوات الأرض! اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلى غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلى قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حاجة إلا قضيتها، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره برحمتك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبيك محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء؛ الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(144/5)
إلى الله المشتكى
في هذه المحاضرة تبرز الفوارق الشاسعة (بل لا مقارنة) بين الرعيل الأول (السلف الصالح) وبين جيل هذا الزمان، لم تختلف الأجسام والألوان والجوارح، ولكن اختلفت القلوب، فقلوب الرعيل الأول قد امتلأت يقيناً بالله جل وعلا وبما عنده من نعيم للمؤمن، وعذاب للفاسق امتلأت خوفاً من الله وخضوعاً وحباً له جل وعلا امتلأت يقيناً بنصر الله جل وعلا لدينه وأوليائه؛ فبذلوا الغالي والرخيص في سبيل الله.
وقد تحدث الشيخ حفظه الله بعد ذلك عن انتصارات المسلمين عبر التاريخ؛ لعلها تكون سبباً في رفع الهمة عند القانطين، فالإسلام تظهر قوته عندما يجتاح العدو ساحته.
ثم في الأخير: استغاثة مما فعله أعداء الله (اليهود) من سب وشتم وتصوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(145/1)
مقدمة عن حال الأمة اليوم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام وفي كثير من الأيام نرى أحاديثنا تدور عن أحوالنا، وما هي الأسباب التي أودت بنا إلى ما نحن فيه، وما الذي حول حالنا إلى ما نحن عليه؟ ألم نكن ملوكاً نملك الدنيا ونملك اليهود والنصارى؟ وندبر الأمر.
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصفُ
كثيراً ما يكون حديثنا عن ما انتهى إليه واقعنا من التشتت والتفرق والتنازع والاختلاف وتسلط أعدائنا علينا، وهواننا على الناس رغم كثرتنا، بل بلغ تعدادنا المليار ونصف المليار، وحق وصدق فينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلةٍ نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، وينزع الله المهابة من صدور أعدائكم منكم، فقالوا: وما الوهن يا رسول الله؟، قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
أيها الأحبة: كثيراً ما نسمع قانطاً، أو مثبطاً، أو مرجفاً، أو متشائماً لا يرى أن سيعود للإسلام دولة، أو يستبعد أن يكون للأمة المستضعفة من جديد قائمة، وترى آخر لا هم له إلا أن يذكرنا بماضينا: كان آباؤنا كان أجدادنا كان أسلافنا، وحق لنا أن نفتخر بأولئك، وواجبٌ علينا أن نسأل أنفسنا ماذا قدمنا؟، وماذا عملنا؟
إذا فخرت بأجداد لهم نسبٌ نعم فخرت ولكن بئس ما ولدوا
إنا كنا نفتخر بالآباء والأجداد وصولتهم في الجهاد، وبذلهم في الدعوة، وطول قيامهم، وطول صيامهم، وخشيتهم وخوفهم من الله حق لنا أن نفتخر بأولئك.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
ولكن أليس من الواجب والحق؟ أليس من العقل والمنطق والشرع أن نتأمل أنفسنا التي ستحاسب، والتي ستموت وتبعث، والتي تحشر وتسأل، والتي تلقى جزاء ما سعت وما قدمت في هذه الحياة الدنيا.
أيها الأحبة: يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] فإلى أولئك الذين يرددون الحديث عن أجدادهم ولا يعرجون على واقعهم، وإلى أولئك الذين غلب التشاؤم والضعف والقنوط والإحباط على نفوسهم، إلى الجميع نقول لهم: عودوا إلى واقعكم، وتأملوا ما الفرق بينكم وبين أسلافكم، وبين ذلك الرعيل الأول الذي كان له ما كان من الدولة والصولة والجولة والقهر والغلبة والسلطان.(145/2)
الفوارق بين جيلنا وبين الرعيل الأول
أيها المسلمون: إن أردتم الفوارق الحقيقية بين جيل النصر والبسالة وجيل الجهاد والدعوة، وجيل العزة والغلبة، ذلك الجيل الذي لا يرضى أن يمتهن أو يهان دينه، ولا يرضى أن تذل دعوته، ولا يرضى أن يغلب المنكر على المعروف، ولا يرضى أن يسكت على الباطل، الفرق بيننا وبين ذاك الجيل ليس في أنوف أو آذان، وليس في أفواه أو أعين، وليس في جوارح أو حواس، وإنما الفرق بيننا وبين ذاك الجيل هو فرق في القلوب، فرق في الأفئدة، فرق في الأرواح، وشتان شتان ما بين تلك وهذه.
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِ(145/3)
صدق يقين الرعيل الأول بالله عز وجل
أمة الإسلام: إن من أعظم الفروق العظيمة التي ميزت ذاك الجيل الأول عنا برتبةٍ عاليةٍ، وجعلتنا في رتبةٍ دنيئةٍ من أحوالنا، أن أول فرق بيننا وبينهم هو: يقينهم بالله عز وجل، ليس الأمر في كثرة العبادة بقدر ما هو في قوة اليقين بالله عز وجل، وقوة الإيمان بوعده ووعيده، وثوابه وعقابه، إذا قام أحدهم يصلي قوي اليقين في قلبه، فتراه يصلي صلاة من ينظر إليه ربه، بلغوا درجة الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) تجد القلب حاضراً خاشعاً منكسراً مختباً منيباً، والقدم واقفة، واليد والجوارح خاشعة، وتجد قلباً معلقاً بالله كأن أحدهم على الصراط، وكأنه يرى الجنة والنار، وكأنه لا يرى من جبال الذنوب إلا عمله، هكذا كانوا في قوة اليقين أثناء عبادتهم وتهجدهم وصلاتهم وركوعهم وسجودهم.
ترى الواحد منهم يمضي إلى الجهاد ويعلم أن دخول المأسدة يعني يتم الأولاد والبنات، وترمل الزوجة، ويعني فراق الدنيا والرحيل عن الملذات، ولكن ما في قلبه من اليقين بأن ما عند الله له من الحور يغنيه عن الزوجات، وأن ما عند الله له من الخلف يعوض عليه ما فات في الدنيا، يسوقه ويشوقه إلى فراق هذه الدنيا حتى إن أحدهم يمل حياةً يعدها طويلةً في مدة يأكل فيها تمرات في يده، كذا كان شأن عمير بن الحمام لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في معركة أحد: ({سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21] فقال عمير: بخٍ بخٍ يا رسول الله! جنة عرضها كعرض السماء والأرض؟ قال: نعم.
قال عمير: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أقبل اليوم صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، وكان في يد عمير تمرات يتقوى بهن في الجهاد، فنظر إليها في يده -لا تجاوز أربعاً أو خمساً- فقال: لئن أنا بقيت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياةٌ طويلة) فرمى بتمراته يريد أن يستعجل الحياة، يريد أن يختصر المسافة، فشد عليهم حتى لقي كرامة الله له، كان الواحد منهم يعلم علم اليقين أن ما بعد القتل إلا الجنة، وما بعد الموت إلا الكرامة، وما بعد صرعة يصرعها يتشحط بها في دمه إلا أن ينقل إلى جنةٍ عرضها السماوات الأرض.
لما خرج عبد الله بن رواحة إلى الجهاد، وودعه من ودعه، قالوا له: تعود سالماً، قال: لا.
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
وضربةً بيدي حران مجهزة بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
كان الواحد يخرج إلى الجهاد يتمنى الموت:
ألا موتٌ يباع فنشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍ تصدق بالممات على أخيه
يقينهم بالجنة كما أن يقيننا أن وراء هذا الجدار هو الشارع والطريق، يقينهم بأن لا بعد الموت إلا جنة عرضها السماوات الأرض، كان أحدهم بهذا اليقين إذا طعن ففار الدم من جوفه، قال: [فزت ورب الكعبة] والآخر يبقر بطنه، فيفوح الدم مسكاً، وتتفجر الدماء من جوفه، فيأخذها ويرفعها إلى السماء، ويلطخ بها وجهه ورأسه، ويقول: [اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى] الله أكبر! هكذا كان يقينهم بالله، أما نحن في هذا الزمان -متحدثنا وسامعنا، إلا من رحم الله- فما أضعف اليقين في نفوسنا وقلوبنا! أيها الأحبة في الله: ويقينهم حينما يدعون إلى الإنفاق في سبيل الله، هذا أبو بكر الصديق يأتي بماله كله، وهذا عمر يأتي بنصف ماله، وهذا عثمان رضي الله عنه يجهز جيش العسرة، وهذا ابن عوف يتصدق بقافلة كاملة، وهذا أبو طلحة ينفق أنفس ما عنده {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
كان الواحد منهم ينفق وهو يعلم علم اليقين أن ليس في آخر الشهر سجل للرواتب يوقع عليه ليقبض راتب الشهر، إنما كان ينفق ويبذل والعوض من عند الله، أما نحن؛ فإذا دعينا فمنا من يبخل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] إذا أنفقنا أو أعطينا، فطائفة ينفقون مما يكرهون، ويتيممون الخبيث منه، وطائفة ينفقون القليل القليل وقد أعطاهم الله الكثير، وطائفة يترددون ويتلكئون مع علم كثيرٍ منهم أن آخر العام سترد عليه جبايات الإيجار، وسترد عليه مسيرات الرواتب ليقبض ماله، وليقبض عوض ما دفع وما بذل، فشتان بين يقيننا ويقينهم.
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
نعم.
لئن قلنا إن يقيننا أضعف من يقينهم، فذاك قدحٌ في يقينهم؛ لأن يقينهم لا يقارن بما نحن فيه إلا ما رحم الله وقليل ما هم.(145/4)
خوف الرعيل الأول وخشيتهم وخضوعهم لله
أما الفرق الآخر بيننا وبين ذلك الجيل -يا عباد الله- أن فيهم من الخشية، والخوف، وفيهم من الرهبة، والخضوع والإنابة لله ما ليس عندنا، وليس فينا إلا من رحم الله من عباده وقليل ما هم.
أيها الأحبة: ترى الواحد منهم يعلم ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم له أنه من أهل الجنة فلا يغره ذلك، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (فانطلق بي ملكان، ورأيت الجنة ورأيت قصراً أبيض، وعند القصر جارية حسناء، فقلت: لمن هذا القصر؟، فقال الملكان: هذا قصرٌ لواحدٍ من أمتك، فقلت: من هو؟، قالوا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فتذكرت غيرة أخي عمر، فانصرفت، أو فصرفت وجهي، فقال عمر وهو يسمع ذلك وهو يبكي، ويغطي وجهه وله خنين: أو منك أغار يا رسول الله؟) يبشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وأنه رأى قصره في الجنة، ورأى جاريته في الجنة.
والآخر بلال عبد حبشي مفلفل الرأس، لكن الإيمان جعله سيد السادة، يقول صلى الله عليه وسلم: (سمعت دف نعليك في الجنة).
أبو بكر خيرهم وأسبقهم، يقول صلى الله عليه وسلم له لما قال أبو بكر: (يا رسول الله! ما أجمل قول الله عز وجل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] ما أحسن من يقال له هذا! فيقول صلى الله عليه وسلم: وإنك يا - أبا بكر - ممن يقال له هذا) وينزل فيه قول الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] يقسم الله أن سيرضي أبا بكر، والله لو أقسم علينا ملكٌ، أو ثريٌ، أو أميرٌ، وقال لواحد منا: والله لأرضينك، والله لأرضينك، والله لأرضينك، لامتلأت النفس بكل الأحلام والآمال، فما بالك -ولله المثل الأعلى- بأن الله يقسم أنه سيرضي أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.
الواحد يمشي على الدنيا وهو مبشرٌ بالجنة، جلس صلى الله عليه وسلم في حائطٍ، ووقف أحد الصحابة جاعلاً من نفسه حارساً له، قال: (لن يدخل اليوم على رسول الله أحدٌ ألا استأذنت له، فجاء أبو بكر ورسول الله في الحائط وقد دلا رجليه في البئر، فقال: أريد أن أدخل، فقال: انتظر حتى أستأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن، قال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر، وقال الحارس: يا رسول الله! هذا عمر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان، فقال الحارس: يا رسول الله! هذا عثمان يستأن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه).
وكان صلى الله عليه وسلم ذات يوم على جبل أحد ومعه عمار بن ياسر وعلي بن أبي طالب، فارتجف الجبل واهتز، فقال صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، اثبت أحد، فإنما عليك نبيٌ وصديقٌ-أي: أبا بكر - وشهيدان) يبشرون بالجنة وهم يمشون على وجه الأرض، فهل جرهم ذلك إلى الغرور؟ هل اتكلوا على البشارة وتركوا العمل؟ هل اتكلوا على ما بشروا به من أنهم سيلقون الجنة؟ لا.
وألف لا.
فأول المبشرين أبو بكر كان يبكي ويقول: [يا ليتني ألقى الله كفافاً لا لي ولا علي] من شدة الخوف والقدوم على الله عز وجل.
وكان عمر بن الخطاب بعد أن طعنه ذاك العلج الكافر قد وضع عبد الله بن عمر رأس والده على فخذه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [يا عبد الله بن عمر! ضع رأس عمر على الأرض، ويلٌ لـ عمر، ويلٌ لـ عمر، ويلٌ لـ عمر إن لم يرحمه ربه].
وهذا عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقد تسور عليه داره، وذبح في بيته، وتسلط عليه، وفعل به ما فعل، ما كان دأبه في الليل والنهار إلا أنه كان يتلو القرآن قائماً قانتاً ساجداً، ومات وقد تحدر دمه على المصحف رضي الله عنه.
قرأ ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه هذه الآية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] فقال ابن عباس: [ذاك والله عثمان بن عفان].
انظروا الفرق بيننا وبينهم، الواحد يبشر بالجنة فما يزيده ذلك من الله إلا خوفاً، وما يزيده في صلاته إلا خشوعاً، وما يزيده في ماله إلا بذلاً وإنفاقاً، وما يزيده بروحه إلا تضحيةً وإقداماً، وما يزيده في الجهاد إلا بسالةً وتضحيةً، وما يزيده في الخلق إلا نفعاً ومعونةً، مع أن الواحد قد بشر بالجنة، والواحد منا إذا نال أدنى مرتبة اغتر بها، أو غره ثناء العوام عليه، أو غره ثناء الناس عليه، أو غره حديث الناس عنه، أو غره جاهلٌ بحقيقته يقبل رأسه أو كتفه أو يده.
نعم يا عباد الله: إن من الناس من يغتر بنفسه عند أدنى صورة من صور الإكرام له، والواجب ألا يغتر أحدٌ بنفسه، وكما قال ابن الجوزي رحمه الله: يا ناقص العقل! إن الناس إن أعجبوا بك، فإنما أعجبهم جميل ستر الله عليك، وهكذا كان دأب السلف، والصالحين من بعدهم، وجاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد أن كان فيها ما كان من الذين قبله، فلما حضرته الوفاة، قيل: يا عمر بن عبد العزيز! هلا أوصيت أن ندفنك بجوار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وجوار أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك؟ فبكى عمر بن عبد العزيز، وقال: والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أهون عليَّ من أن ألقى الله وأنا أظن أنني أهلٌ لهذه المنزلة، والله لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أهون عليَّ من أن ألقى الله وأنا أظن أنني أهلٌ أو كفؤ أن أدفن بجوار عمر، أو أبي بكر، أو بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن عمر ليس أهلاً أن ينال رحمتك، ولكن رحمتك أهلٌ أن تنال عمر.
انظروا يا عباد الله! إلى هذه النفس العظيمة البالغة في الخضوع والانقياد والإخبات لله عز وجل، ما كان الواحد يدعي لنفسه، أو يعجب بنفسه، أو يمن بعمله، فيستكثر على ربه.
كان ابن تيمية رحمه الله إذا فتح عليه ما فتح من العلم وهو الذي جاهد وبذل ودعا واحتسب وعلم، وحسبكم أنه مات سنة (720هـ) إلى يومنا هذا، ولا يكاد يخلو يومٌ إلا وطالب علمٍ يقلب كتبه، وينهل من معينه، ويرد موارده، ويترحم عليه، كان ابن تيمية رحمه الله إذا فتح عليه ما فتح من علمٍ، أو دعوةٍ، أو جهادٍ، كان يقول: ليس مني، وليس بي، وليس إليَّ، وليس عليَّ
أنا المكدي وابن المكدي وكذاك كان أبي وجدي
ما كان يعتد بنفسه أو يقول: إنما أوتيته على علم، أو يقول: أنا لها كما يقوله بعضهم في هذا الزمان، وكان القحطاني العالم العابد الورع الزاهد الفقيه الأصولي يقول:
والله لو علموا بقبح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
أتدرون ما سريرتهم؟ قيام الليل، وصيام النهار، وصدقةٌ بالأيمان لا تعلم عنها الشمائل، ودموعٌ تفيض في خلوات بينهم وبين الله، وقلوبٌ معلقة بالمساجد، وإعراضٌ عن الدنيا، وتعلقٌ بالعبادة، هكذا كانت سريرتهم، ومع ذلك يظهرون أن ليس لهم شيء، ولا يفتخرون أو يفاخرون أو يكابرون، وقال الآخر:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
هكذا كانوا قمماً في العلم والعمل، ويراهم الناس كأحلاسٍ بالية في انكسارهم بين يدي الله عز وجل، أما نحن في هذا الزمان، فنجمع مع المعصية آمالاً عظيمة، ونجمع مع الكبائر آمالاً عريضةً واسعةً، ونجمع مع الغفلة طمعاً في أعلى المراتب، إننا لا نقنط أحداً أن يطلب رحمة الله، ولكن الله عز وجل قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218] لا يطلبن أحدٌ ولداً وهو لم ينكح، ولا يطلبن أحدٌ ثمراً وهو لم يزرع.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس(145/5)
السلف تعلموا العلم ليعملوا به
أيها الأحبة: ومن الفروق العظيمة التي بين ذلك الرعيل الأول وبيننا في واقعنا هذا، أن أولئك كانوا يأخذون العلم لا للخطابة، أو للمحاضرة أو للندوة أو للمحاورة، أو لتصدر المجالس، أو ليقول الناس عنهم علماء، أو ليشار إليهم بالبنان، أو لتشخصهم الأعيان، وإنما كانوا يتلقون العلم للتطبيق، يلتقون الأمر للتنفيذ، يتلقون النهي لينزجروا مباشرةً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] هكذا كان شأنهم يا عباد الله، وهكذا كان دأبهم أن يتلقوا الأمر لتنفيذه.
نحن في هذا الزمان، الواحد يعلم المسألة والخلاف فيها والأقوال والأدلة، ثم لا يلبث أن يترخص لنفسه برخص المذاهب، أو أن يتتبع الرخص من أقوال الناس، ومن تتبع الرخص في دينه فقد تزندق، هذا يقول: الفوائد الربوية حلال؛ لأن فلاناً أفتى بها.
وهذا يقول: نكاح بلا ولي حلال؛ لأن فلاناً أفتى به.
وهذا يقول: هذا الأمر حلال؛ لأن فلاناً قال به.
ويترخصون في مسائل دينهم حتى لا يبقى لأحدهم مسألة من مسائل الدين يراها حراماً، هذه فيها خلاف، وهذه فيها كذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
شتان بين حالنا وحالهم، كان الواحد منهم يعلم قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68]، فيعمل لأجل ذلك.
أما نحن -يا عباد الله- فكم تلقينا من الأوامر؟! وكم بلغنا من الزواجر؟! وكم علمنا من النواهي؟! وكم قرأنا من النصوص؟! كم سمعنا في الإذاعة؟! وكم رأينا وشاهدنا؟! وكم درسنا وتعلمنا؟! ولكن:
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت مسافة الخلف بين القولِ والعملِ
انفصامٌ نكدٌ نقله الأبناء من الآباء، ونقله كثيرٌ من الناشئة، بل أصبحت التربية تقوم على أسس من الانفصام، وذلك لما يرى من تناقض بين ما يتلقاه الناشئة وبين ما يرونه في واقعهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله! بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمى، ويزدكم قوةً إلى قوتكم.(145/6)
ثقة الرعيل الأول بنصر الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: ومن أعظم الفروق بين ذلك الرعيل الأول وبين جيلنا: أن الواحد منهم كانت ثقته بنصرة الله للإسلام، وأن الغلبة والدولة والصولة لأمة الإسلام، فكانت عين اليقين وعلم اليقين وحق اليقين، أما كثيرٌ منا في هذا الزمان، فقد بلغ بهم اليأس والقنوط مبلغاً حتى يقول القائل:
إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يبك ميتٌ ولم يفرح بمولود
بلغ اليأس وسكن القنوط في القلوب حتى أصبح الواحد ينظر إلى أمة الإسلام تنتهك وبوسعه أن يفعل شيئاً ولو قليلاً، فإن الحرمان أقل من القليل، ومع ذلك لا يبدي حراكاً، ولا ينبس ببنت شفة، ولا يمد خطوة، بل عجز بعضهم حتى عن التفاؤل والدعاء.
أما أولئك -يا عباد الله- فكان الواحد منهم لا ييئس حتى وإن هزموا، حتى وإن تفرقوا، فلا ييئسون من الوحدة والاجتماع، ولا يقنطون، ولا يرجفون، ولا يثبطون أبداً.
إن من شبابنا اليوم، بل من رجالات المسلمين اليوم من رأوا صولة الباطل وأهله، وضعف الحق وأهله، وهوان المسلمين، فيئسوا وقنطوا، ثم أحبطوا وأرجفوا وثبطوا، ثم انقلبوا قائلين، ورفعوا شعاراً قائلين فيه: لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر.
تلك المقولة اليائسة من إسلام عمر، فكان عمر هو فاروق الإسلام الذي يفرق منه الشيطان، وما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً ووادياً آخر، أصبح بعض الناس ييئسون، بل قال بعضهم: لا تتعبوا أنفسكم بعمل أو دعوة أو سعي أو إصلاح أو جهاد، فانتظروا حتى يأتي المهدي، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، أو يأتي المسيح فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويعود ليحكم الناس بشريعة محمد، والفترة بين هذه وهذه: ليس في الإمكان أحسن مما كان.
نوموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النومُ
هكذا دأب وشأن كثيرٍ منهم: (ومن قال: هلك الناس، فهو أهلكُهم) وفي روايةٍ: (فهو أهلكَهم).
إن النفس إذا سكنتها الهزيمة، وحل بها القنوط، صار ذلك أمراً يحدث شللاً في الجوارح فلا تتحرك، وشللاً في العقول فلا تفكر، وشللاً في الألسنة فبالحق لا تنطق، وشللاً بالأنفس فلا تفور غيرةً لدين الله عز وجل أبداً.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان ما كان في معركة أحد وقد قتل من الصحابة سبعون، وكانت الدائرة لقريش على الصحابة، هل انسحب النبي بالصحابة وخرج، بل هو كسرت رباعيته، وشج وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم، وهل سكنت الهزيمة نفسه أو نفس أصحابه؟ لا.
{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172] لما حصل القرح، وحصلت الدائرة، وحصل ما حصل للمشركين، جمع النبي من بقي من الصحابة؛ جمع الجريح، وجمع الذي ضرب أو طعن، وجمع الذي لم يصب بشيء، فكرّ بهم وشنَّ بهم حملةً ثانيةً على الكفار، وأخذوا يلاحقون الكفار حتى هرب المشركون، وذلك حتى لا يستقر في النفوس أن الإسلام هزم، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هزم.
أيها الأحبة: ينبغي ألا تستقر في نفوسنا هزيمة حتى وإن اغتصبت أعراض المسلمات في البوسنة أو في الشيشان، أو كشمير، حتى إن قتل من قتل في فلسطين والفليبين، حتى وإن دمرت بيوت الأبرياء عبر الدبابات في المستوطنات، حتى وإن كان ما كان، ينبغي ألا تسكن الهزيمة في قلوبنا يا عباد الله؛ لأننا أمة نعلم بصريح قول الله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] إننا أمة نعلم علم اليقين قول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] ويعلمون قول الله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
والله يا عباد الله ليتحققن وعد رسول الله وهو الصادق المصدوق: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يبقى بيت حجرٍ ولا مدرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله).(145/7)
شواهد من التاريخ على عزة الإسلام وقوته
أيها الأحبة: إن التاريخ شاهد على أن هذا الدين أشد ما يكون قوة، وأصلب ما يكون عوداً، وأعظم ما يكون رسوخاً وشموخاً حين تنزل بساحته الخطوب، وتحدق به الأخطار، ويشتد على أهله الكرب، حينئذٍ يحقق الإسلام معجزته، فينبعث الجثمان الهامد، ويتدفق الدم في عروق أبنائه، يقول هذا الدين فيُسمع، ويمشي فيسرع، ويضرب فيُوجع، وإذا بالنائم يصحو والغافل ينتبه، والجبان يقدم، والشتات المتنافر ينقلب اجتماعاً ووحدة، وإذا بالجهود المبعثرة تنتظم لتكون تياراً وإعصاراً هادراً يعصف بالظلم والظالمين.(145/8)
ماذا حصل بعد غزو التتار لبلاد المسلمين
إن هذه الأمة تمرض لكنها لا تموت، وإن الشعلة تخبو لكنها لا تنطفئ، لقد دخل التتار ديار الإسلام: {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} [الإسراء:5] وتبروا ما علوا تتبيراً، ما تركوا من شيء إلا جعلوه كالرميم، فما الذي حصل بعد أن سالت الدماء بفعلهم، وعطلت الصلوات، وألقيت مخازن المعرفة وأسفار العلوم في نهر دجلة حتى اسود النهر منها حتى قال ابن الأثير وهو يؤرخ لهذه الواقعة: ليت أمي لم تلدني: {لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23]؟ ما الذي حصل؟ لم تمض سنوات حتى انقلب التتار جنوداً للإسلام يشاركون في الفتوحات والجهاد.(145/9)
انتصارات صلاح الدين على الصليبيين
عباد الله: اسمعوا ما يقول ابن كثير: في ضحى يوم الجمعة في الثالث والعشرين من شعبان عام (492هـ): دخل ألف ألف مقاتل-مليون- بيت المقدس، وفعلوا بأهله ما تفعله الذئاب في خراف الغابة الضعيفة، ارتكبوا أشنع ما تفعله الشياطين، وظلوا سبعة أيام يقتلون ويهتكون، حتى بلغ القتل في المسلمين أكثر من ستين ألفاً، قتلوا الأئمة والمتعبدين والعلماء، وأصبح الصليبيون يفعلون ما يفعله اليهود اليوم وأشد؛ يحرقون البيوت من أسفلها حتى يلقى السكان أنفسهم من أعاليها على الأرض، سلبوا الأموال، بل وأعظم من ذلك أدخلت الخنازير بيت المقدس، وعلقت الصلبان على المسجد الأقصى؛ بعد أن كان الأذان يصيح بالمآذن بـ (لا إله إلا الله) دقت النواقيس في المآذن وعلقت الصلبان، وأصبحوا يصيحون في المآذن: إن الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ما الذي حصل؟ هام الناس على وجوههم، وظن اليائسون أن لا عودة للإسلام إلى بيت المقدس أبداً حتى أذن الله سنة (583هـ) بأن يعود المسجد الأقصى إلى المسلمين على يد صلاح الدين، فأعد جيشاً لرد بيت المقدس وتأديب الصليبيين، ثم جاءته رسالةٌ تقول:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامةٌ تشكو من البيت المقدس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس
فانتخى صلاح الدين وبكى، وأقسم بالله ألا يضحك، وألا يطأ امرأة حتى يعود بيت المقدس إلى المسلمين، حلف بعد ذلك، وأعرض عن النساء، وتناقل ملوك النصارى شأنه وخبره، فتحالفوا بعد أن كانوا في فرقة، واتحدوا بعد أن كانوا في خلاف واجتمعوا، وجاءوا بحدهم وحديدهم، وكانوا ثلاثة وستين ألفاً، فتقدم صلاح الدين إلى بحيرة طبرية، ففتحها بالتكبير والتهليل، ثم استدرج النصارى إلى موقع يريده، فلما وقع النصارى في المكان الذي استدرجهم إليه، لم يصل إليهم قطرة ماء، ثم صاروا في عطش عظيم، وشد عليهم الطعن والطعان، والقتل والقتال، فشاهت وجوههم، ودارت دائرة السوء عليهم عشية يوم الجمعة، واستمرت طيلة السبت الذي كان عسيراً على أهل الأحد، وطلعت عليهم الشمس واشتد الحر وقوي العطش، ثم بدأ صلاح الدين بإحراق النار وإرسال قذائف النار تحت خيل الكفار، تحت خيل الصليبيين في الحشيش، فاشتعل الحشيش الذي كان تحت خيلهم، فزاد اللهيب وزاد العطش واجتمع حر السلاح والتكبير، وقال الخطباء يستنفرون أهل الإيمان ويستثيرونهم بالدعاء، وصاح المسلمون صيحةً واحدةً، وزأرت الأسود في فلسطين زأروا في القدس، واندفعوا كموج عارم مع التكبير، فإذا بملوك الصليبيين أسرى، وجنودهم قتلى حتى قتل منهم ذاك اليوم في المعركة أكثر من ثلاثين ألفاً، وأسر أكثر من ذلك، حتى شوهد الفلاح يقود ثلاثين أسيراً من الصليبيين مقيدين مغلولين يربطهم في طنب خيمته، وباع أحد الفلاحين من فلسطين أسيراً من الصليبيين بنعلٍ يلبسها، وباع ثالث من فلسطين أسيراً من الصليبيين بكلب يحرس غنمه، ثم تقدم صلاح الدين بجيوش الإيمان واستراح قليلاً، وعاد ليكر على الجهة الأخرى من بيت المقدس من الجهة الشرقية وأخرجهم على شروطه: الكبير يدفع عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والطفل ديناران، ومن عجز فيبقى أسيراً في أيدي المسلمين.
نعم أيها الأحبة: جمع من الأسرى أكثر من ستة عشر ألفاً غير من أسر في المواجهة الأولى، ثم دخلوا بيت المقدس، وطهروه من الخنازير والصلبان، وعاد بيت المقدس مأوى للقانتين والقائمين والعاكفين والركع السجود، وجيء بمنبر نور الدين الشهيد الذي كان يأمل أن يكون الفتح على يديه، فكان الفتح على يد تلميذه صلاح الدين، ورقى الخطيب المنبر أول جمعة بعد أن عطلت الجمعة والجماعة أكثر من واحد وتسعين عاماً، فبدأ الخطيب بقول الله وهو يبكي: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].(145/10)
المستقبل والنصر للإسلام
إذاً -يا أمة الإسلام- علينا أن نثق بالنصر القادم والمستقبل القريب، علينا أن نحمل هذا الهم إلى الأبناء والأحفاد وأبنائهم، علينا أن نعلم أن هذا الدين وأن أمة الإسلام لو كانت ميتة ما احتاجت إلى كيد ومكر كالجبال، إن الميت لا يكاد به، إن الميت لا يمكر به، ولكنما المكر في من له حياة، ولولا حياةٌ فيكم وفي أمة الإسلام لما مكر الغرب والشرق، ومكر أعداء الدين عبر كل طريق، وعبر كل وسيلة.
إذاً: أيها الأحبة: ينبغي أن نعلم أن أمة الإسلام، وإن سقط من أبنائها من سقط في حضيض الشهوة، فإن هذا ليس مصيبةً عظمى، إنما المصيبة العظمى أن يستقروا في الشهوة ولا يتوبوا، أن يزل عبدٌ زلةً فتلك شأن بني آدم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) لكن أن يرضوا بالزلل، وأن يبقوا في قعر الزلل ومستنقعات الرذيلة، تلك هي والله المصيبة.(145/11)
اليهود وسبهم لرسول الله
أمة الإسلام! أمة الإسلام! أمة الإسلام! اليوم اليهود يرسمون صورة الخنازير على الجدران، ويقولون: هذا محمد، يعنون نبينا صلى الله عليه وسلم.
أمة الإسلام! يرسمون الكاريكاتير بأبشع وأخبث صورة، ويقولون: هذا نبيكم، يستهزئون بنبينا، ويستهزئون برسولنا، ويستهزئون-والله- بخير نفس خلقت على هذه البسيطة.
لو أن أحداً منا سُبَّ أبوه أو أمه أو قبيلته أو فصيلته، والله لا ينتخين حتى تراق الدماء منه وممن سبه وشتمه، فما بالكم بأعداء الإسلام (اليهود) يسبون نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسبون صحابته، ويرسمون الخنازير، ويكتبون على صورة الخنزير هذا محمد، شرفه الله عما قالوا، بل أكرمه، بل إن شانئه هو الأبتر، ولكن يا عباد الله! أيمر هذا؟! أنسكت عن هذا؟! والله إنها لعقدة تبقى في النفس، وحسرةٌ تبقى في الفؤاد، وحسكةٌ تبقى في الضمير.
نسأل الله عز وجل بأسمائه أن يفتح لنا طريقاً إلى بيت المقدس حتى نري أبناء القردة والخنازير كيف فعلهم وقولهم، حتى تجرءوا على محمد صلى الله عليه وسلم، والله، والله، والله لأن تسيل الدماء هناك، ولأن تطير الرءوس وتتناثر الأشلاء، ولأن تطير الأفئدة هناك غيرةً لدين الله أهون -يا عباد الله- من أن يسب رسولنا صلى الله عليه وسلم، أو يرسم خنزيرٌ ويقال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أمة الإسلام: أما عاد في المسلمين غيرة! أما عاد في المسلمين حمية! أما عاد في المسلمين بقية! يسب نبيهم، يسب قائدهم، يسب إمامهم، يسب صلى الله عليه وسلم وهو الشريف الطاهر، وهو خليل الله، وهو نبي الله، وترسم له هذه الصور، ومع ذلك ما بالمسلمين من يثأر له! ما بالمسلمين من يثأر له! ما بالمسلمين من يثأر له! ما الذي حل بنا؟! وما الذي حصل بنا يا عباد الله؟! إنها والله لمصيبة.
اللهم يا حي يا قيوم لا تؤاخذنا بتفريطنا في حق نبينا، اللهم لا تهلكنا بتفريطنا في حق نبينا، اللهم إن اليهود قد قالوا فيك ما قالوا، قالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، اللهم إنهم قتلوا أنبياءك، فلا غرابة أن يفعلوا ذلك بنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي هذا الخبيث الطاغية الذي يسمى نتنياهو ليعتذر للمسلمين، مؤامرةٌ وأدوارٌ متعددة، هذا يقتل، وهذا يدفن، وهذا يجرح، وهذا يداوي، وهذا يُجوِّع، وهذا يطعم، اللهم إليك المشتكى، اللهم إليك المشتكى، اللهم إليك المشتكى.
يا عباد الله! فتشوا عن أي سبيل يوصل الأموال إلى فلسطين، وأرسلوها هناك لعلنا أن نشفي غيظ قلوبنا من هؤلاء اليهود، ابعثوا لإخوانكم في فلسطين ما تستطيعون من أموالكم لعل الله أن يرينا في هؤلاء ما تشفى به صدورنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم مزقهم، اللهم اقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع اللهم شمل حكامنا وعلمائنا ودعاتنا، اللهم ثبتنا على دينك، واستعملنا في طاعتك، وتوفنا على مرضاتك، وانصر اللهم إخواننا المسلمين في كل مكان.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(145/12)
أيها الشاب! حاول وأنت الحكم [الحلقة الأولى]
هذه المحاضرة نداء إلى كل شاب يريد الجنة، ففي هذه المحاضرة يحذر الشيخ من قرناء السوء، ويوضح كيف يتأثر الإنسان بمن حوله من الجلساء والقرناء.
والشيخ يدعو إلى شد العزائم في الوصول إلى الهدف الأسمى وهو مرضاة الله جل وعلا، فمن عزم على التوبة فعليه بترك كل ما يتعلق بالمعصية، فهذا فوزي الغزالي يحطم مصنعاً للأعواد الوترية ويحطم جميع الأدوات الموسيقية.
كما بين لنا أسلوب أعداء الله في إغواء الشباب باستدراجهم إلى المعصية خطوة خطوة، ثم بعد ذلك انتقل إلى بيان أن السعادة والعزة تكون بطاعة الله جل وعلا.(146/1)
التأثر بالواقع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مراراً وتكراراً وأولاً وآخراً، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن استعمله الله في طاعته.
أسأل الله جل وعلا ألا يجعلنا وإياكم وقوداً لجهنم، أو حطباً لنارها، أسأل الله جل وعلا أن يجعل لكل واحدٍ منكم في هذا المسجد من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافيةً، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمةً.
شباب الإسلام: شباب الأمة! والله إن آمالنا ما انقطعت في واحد من الشباب أياً كان وضعه، وأياً كانت حاله، وبالذات أنتم، لأنكم شباب فطرة، ولأنكم شباب عقيدة، ولأنكم شباب أمةٍ كانت خير أمة، ولا تزال أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر.
أيها الأحبة: نريد أن نبعد عن الرسميات كثيراً، اعتبروا أن الأساتذة والمشرفين والإداريين غير موجودين، وألا يوجد في هذا المكان إلا أنا وأنتم، ولنتحدث بصراحة تامة، وليكن الحديث بيني وبينكم من القلب إلى القلب، لا تجعلوها محاضرةً رسمية تملؤها العبارات الرنانة، والفصاحة زادت أو قلت، لا.
بل أريد أن تجعلوه لقاءً أخوياً، مثل ما قال أحد الدعاة جزاه الله خيراً: فقد كان ذاهباً إلى المعهد الملكي، ودخل على مجموعة من الشباب ينصحهم، فقال: يا شباب! القلوب (مكربنة) فقال واحد من الشباب: أسرع بها على الخط يا شيخ.
فأنا أريد- تعرفون إذا (كربن الموتر) تسرع به على الخط ويصفى بإذن الله- فالشباب من عاداتهم الصراحة، ومن عادتهم الصدق، ومن عادتهم حب البعد عن التكلف والرسميات، ولذلك أريد ألا ننشغل، أريد -أيها الأحبة- أن نكون صرحاء صادقين فيما بيني وبينكم.
أولاً: هذه المحاضرة كم تمنيت أن آتي لألقاكم وأتشرف بالجلوس معكم.
وثانياً: فإن أحد الأساتذة -وهذه المحاضرة من عجائب الرؤى والأحلام- أخبرني قريبٌ لي وهو يدرس معكم، قال: إن الأستاذ فلاناً رآك في المنام، وقال: يا أخي! قلنا لك: تعال أعطنا محاضرة، وقلنا لك: تعال امش معنا، وقلنا: تعال أعطنا درساً، فلما أخبرني قريبي بهذا الكلام، قلت له: قد جعلت رؤياك حقا، وهذا تأويلها بإذن الله جل وعلا، مع أن بعض الناس لا يُقبل كلامه في الحلم والعلم سوياً، الحاصل نريد أن نبدأها بكل صراحة وصدق.
إخواني! القاعدة الأولى: ألا نيأس من أي شاب، فحينما أقول: أي شاب، أعني أي واحد منكم، أو ألا نظن أننا يمكن أن نستفيد من هذا، ولا نستفيد من هذا، أو هذا إنسان ما فيه فائدة، أو شخص على هامش الحياة، أو تصايد- على ما قالوا- على هامش الحياة، وهذا شخص نافع، لا.
فالجميع فيه نفعٌ وفيه خير، وكل شاب ترونه عنده مواهب، وعنده طاقات، ولكن إذا جلس في بيئة ومع صحبة ومع إخوان يسخرون مواهبه وطاقاته لله ولأجل الله ولدين الله، كان داعيةً من الدعاة، وإن سخروا مواهبه لأمر آخر، كان منتجاً علماً بارزاً في هذا الجانب الآخر، وأضرب لكم أمثلة:(146/2)
الإنسان يتأثر بقرنائه
حينما أجلس مع بعض الشباب مثلاً: وهم ممن تجد عندهم عناية بالحمام والطيور، ويعرفون أنواع الحمام يقول لك: هذا كويتي، يمسك المنقار وينظر إليه، وينظر في عيونه، ويقلب الريش، ويقول: هذا كويتي ممتاز، أو يأخذ طيراً ثانياً ويرجعه ثانية (يهوز ويغلط) قال: هذا يغلط في الصندقة مرتين، وفي الخيط ثلاث، وإذا بقيت تحومه أبشر بواحد ينفعك بإذن الله، (والطبة والطبتين)، تأتي لك برزق هذا عندما يأتي يبيع الحمام.
وأنا أسألكم هذا الشاب الذي أصبح مثقفاً وفاهماً وواعياً في أمور الحمام، هذه أمور ربما بعض علماء الأحياء يحتاج زمناً حتى يدرسها، فهذا الشاب عرفها وفقهها، ويقول لك: لاحظ إذا أردت الحمامة أو الطير هذا ألا يطير من عندك، أنصحك أن تضع له في الماء سكراً، فلن يتعدى الصندقة أبداً بعد ذلك، لو تبيعه يرجع لك، وبذلك تجد الذين يبيعون الحمام تجاراً، عنده فقد أربع حمامات، يبيعها وترجع، ويبيعها وترجع، وهلم جراً.
الحاصل: هذا الشاب من أين أخذ هذه المعلومات عن الحمام؟ وهذا بلجيكي، وهذا بصراوي، وهذا تحومه بعسيب، وهذا يريد له علباً، وهلم جراً، من أين أتت واجتمعت هذه المعلومات لهذا الشاب؟ من أين جاءت؟ هل أمه ولدته في صندقة من أجل يصبح فقيهاً من فقهاء الحمام والطيور؟، لا.
فهو مولود في مستشفى الولادة، وكيف صار فقيهاً من فقهاء الحمام؟ جلس مع مجموعة شباب، وأصبح يراقب تصرفاتهم، وكيف يمسكون المنقار، وكيف يطالعون العين، كيف يفرون الريش، كيف يصفون الجناح وهلم جراً.
فالإنسان بالاختلاط والمخالطة والمجالسة يكسب معلومات من الآخرين، وهذا أمر طبيعي، تجد عالماً كفيفاً، هل يستطيع أن يكتب؟ لا.
هل يستطيع أن يقرأ؟ لا.
ومع ذلك تجده عالماً من كبار العلماء، من أين جاء العلم؟ بالجلوس والاستماع، فهذا الشاب جلس واستمع لمجموعة من الشباب الذين يعتبرون من فقهاء الحمام والأرانب والبط والدجاج، ولذلك تلقى عندهم معلومات جيدة.
وأنتقل بكم أيضاً إلى مجموعة من الشباب فأنت مثلاً تمسك يده وتمشي معه، ثم فترة يلتفت عنك وينظر، ويقول لك: (هذا سوبر مسحب واحد وتسعين ومشحم ومجنط) من أين جاءت هذه المعلومات؟ صحيح أي: هل أمه ولدته في ورشة؟ أو هو مولود في التشليح؟ لا.
إذاً كيف عرف أن هذا (مسحب) أو أن هذا (مرفع كعكات) أو أن هذا مقدم الصدامات قليلاً، أو أن هذا وضع كيسين من الرمل في الوراء، أو إذا كان واضع (ليورات قاعد يلعب) مثل: مرة كنت في السيارة أمشي وإذا شاب معه سيارة يرقص بها، كيف استطاع أن يفعل هذا؟ ومن أين عرفها؟ من خلال مجموعة شباب -أصدقاء وجلساء كان كل اهتمامهم السيارات، (والتشحيم والتجنيط) وهلم جراً، وتجد شاباً آخر من يوم أن يمسك الجريدة ويطالع فيها، في الصفحة العاشرة والحادية عشرة يقول لك: لا يهمك، هذا الحكم ما فيه خير، والدليل على ذلك أنه ما حسب لهم الفاول، وأكبر دليل على ذلك أن اللاعب تسلل، وتغاضى عنه كأنه ما رآه وهلم جراً، وتلقاه يعارض وبعد ذلك (هذا ما سنتر في الثمانية عشر) وما تعدى، ورقم خمسة اللاعب فلان، والظهير، والخانة الحرة، والظهير الأيمن، والدفاع والحارس، أي: معلومات رهيبة جداً، ومتى الدوري، ومتى الاعتزال، ومتى الحفل، ومتى دوري الأربعة ودوري الثمانية القبضة، ومباراة الكأس متى؟ وماذا تتوقع؟ وكيف كانت خطة الفريق؟ وهدءوا اللعب قليلاً؟! الله أكبر تجد هذا يعطيك تحليلاً للمباراة مثل ما يأتي شوار سكوف عندما يحلل معركة الخليج، تجد هذا الشاب يقف في درجة أولى يحلل لك اللعب، بدأ اللعب كذا، وانتهى كذا، هدئ في المنطقة الفلانية، قوي في المنطقة الفلانية، الفريق الفلاني مهدف بشدة من على هذه الجهة، وتجد عنده تحليلاً ومعلومات رهيبة جداً، وهذا هل أمه ولدته في الملعب؟! لا.
وإنما خالط شباباً كان جل اهتمامهم الرياضة، ومن ثم أصبحت معلوماته وثقافته رياضية وهلم جراً.
بعض الشباب -وظني وثقتي بالله ثم بكم أن ليس فيكم واحد منهم- بعض الشباب تلقاه مسكيناً عيناه صفراء، وحالته حالة، وإذا فتشت مخبأه لقيت حبوباً صفراء أو حمراء، يقول لك: (هذه سيكونال، هذه ملف شقراء، هذه تقظيم) وإنسان ما لقيت شيئاً ينصحك (شفط باتكس) إذا ما لقيت أحداً يبيعك، الشكوى على الله!!
إذا لم تكن إلا الأسنة مركبٌ فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ما لقينا أحداً يروج اليوم، فما لنا إلا (باتكس) وهذا الشاب من أين عرف أنواع المخدرات، هل أخذ دورة في كلية الصيدلة؟ أو درس الطب والعلوم الطبية المساعدة؟! لا: لكن اختلط بمجموعة شباب يقولون له دائماً: ما رأيك أن تجرب هذه يا فلان؟ وما رأيك أن تضع معها الشاي؟ ما رأيك أن تضعها في الإبريق وهلم جراً، مثل مجموعة شباب من أصحاب المخدرات -نسأل الله لهم الهداية- زاروا واحداً، ويوم أن ذهب قاموا ووضعوا في الإبريق مخدرات، فجاء هذا المسكين وشرب من هذا الإبريق، وبعد ذلك قام يقول: فلانة! أعطيني الفاروع أعدل الدرج.
هذا الشاب -يا إخوان- من أين عرف الحبوب والكابتاجون والسيكونال والحبوب الحمراء والصفراء والبيضاء، والشم والحقن؟ من أين عرفها؟ هذا ليس عنده شهادة في الطب، ولا في الصيدلة، لكن عرفها من خلال جلساء سوء رويداً رويداً، بدءوا يعطونه السيجارة، ثم حبة، ثم مع الشاي، ثم حقنة، ثم أصبح مدمناً، ثم أصبح مروجاً وهلم جراً.
إذاً القاعدة الأولى التي نخرج بها أن الإنسان يحدد نفسه في الوسط الذي يعيش فيه، أي: اختر أنت، تريد أن تكون (عربجيا) اقعد مع شلة (عرابجة) تريد أن تكون عالماً، اقعد مع العلماء، تريد أن تكون راعي طيور ودجاج وحمام، اجلس في الزربة، أينما تريد ضع نفسك.
أي: اجلس في المكان الذي يحدد نوعيتك وشكلك، وهذا أمر واضح يا إخوان، والإنسان شديد التأثر والملاحظة.(146/3)
البهائم تؤثر فيمن حولها
البهيمة تتأثر مع أنها ليست بمستوى التركيز في التقليد والملاحظة والتأثر، ومع ذلك تجد البهيمة لو تأتي بصقر مع دجاج، تجد هذا الصقر أصبح يأخذ طبيعة الدجاج.
ويقال: إن ملكاً من الملوك أُهدي له صقر رائع جداً جداً (أم شيهان وإلا حر وإلا وكري) المهم أنه أهدي له صقر ممتاز، وكان عنده وزير، وكان وزيره هذا عنده ذكاء وفطنة وفراسة، قال: تعال ياوزير، ما رأيك بهذا الصقر الذي أهدي إلينا؟ قال: أيها الملك! هذا الصقر ممتاز جداً جداً، لكنه تربى مع دجاج، فعجب الملك وسكت، وبعد أيام أهدي إلى الملك حصان، فنادى الوزير، قال: تعال وانظر هذا الحصان وجيء من الإسطبل وهو منظف من أحسن ما يكون، ما رأيك فيه؟ قال: هذا الحصان ممتاز، لكنه متربٍ مع بقر، فسكت الملك، والقصة طويلة، وفي يوم من الأيام لقط الملك هذا الوزير بجرابه، وقال تعالى: صقر ربي مع دجاج، وحصان ربي مع بقر، من أين أتيت لي بهذه المعلومات؟ ما يدريك؟ قال: أيها الملك! أما الصقور: فالعادة جرت أنها تقع على قمم الجبال، ولذلك الصقر لا يمشي على الأرض، يوضع له شيء من أجل أن يمشي عليه، لكن لا يجلس على الأرض أبداً، لكن هذا الصقر يوم وضعناه، جلس بجانب الدجاج وصف مثلها، وقام وأنزل رأسه في وسط صدره، قال: هذه ليست من طباع الصقور، فدل على أن هذا الصقر تربى مع دجاج، فأخذ صفاتها.
الشيء الثاني: يوم أن جاءه الصقر وهو ينقر حباً، من الذي ينقر في الأرض؟ هذه من صفات الدجاج، أما الصقور، فالعادة جرت أنها تنقض على الفريسة، أرنب أو حمامة أو أي شيء آخر، تنقض عليه وتأتي به، فمن أين تأثر هذا الصقر إلا بالمخالطة، أي: بهيمة لما خالطت بهيمة تأثرت بها من حيث لا تشعر.
وكيف عرفت أن الحصان تربى مع البقر؟ قال: لأن الخيل دائماً لها وقفة معينة، ومن ثم إذا جاءت تتنظف، تجد الحصان ينظف جسمه بمقدم أسنانه، يلتفت، وتجده يحك الموقع الذي يريده من جسمه بمقدم أسنانه، أو يقف عند الجدار، وربما يحك منطقةً ما تصل إليها أسنانه، لكن هذا الحصان من يوم رأيته وهو مثل البقرة يلحس جسده.
فالحاصل: يا شباب البهائم تتأثر بمن تخالط، أتظنون أنني وأنتم لو نخالط أناساً ما نتأثر بهم، والله سوف نتأثر بهم، ولذلك القاعدة الأولى: إذا شئت أن تجعل نفسك من فصيلة، فخالط أربابها وأصنافها، تريد أن تكون من فصيلة العلماء خالط العلماء، من فصيلة الدعاة؟ خالط الدعاة، من فصيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، خالطهم، من فصيلة أهل الحراج والسيارات خالطهم وهلم جراً، الإنسان يحدد موقعه ونفسه من أي شيء.(146/4)
من الجنون استعمال الجوارح في غير ما خلقت له
الأمر الثاني: ولو خرجنا عن هذه النقطة بعيداً، أسألكم وأنتم تجيبون، حاول وأنت الحكم كما في عنوان المحاضرة: أتوا بواحد إلى اختبار عقلي يسألونه، قالوا له: لماذا خلق الله الآذان؟ فأخذ يفكر، قال: من أجل أن نعلق عليها النظارات، وهذا أمر عجيب، قالوا: الأسلاك الكهربائية لماذا تمد هكذا طولاً هوائياً؟ فأخذ يفكر، قال: نعم من أجل أن تجلس عليها العصافير في الصباح.
هذا مجنون؛ لأنه لا يعرف الحكمة التي من أجلها خُلق، أو وجد، أو صنع هذا الشيء، لو أتينا لإنسان وقلنا له: اشرب، قال: باسم الله، وصب الماء في عينه، ماذا تفعل؟ قال: أشرب، ما هذا الفم الجديد الذي ظهر لك فوق؟! فهذا أكيد أنه يكون من المجانين، وتجد آخر يريد أن يأكل شيئاً، وأخذ يحشو أنفه أكلاً، نقول: هذا والله أيضاً مجنون من المجانين، لماذا؟ لأنه يستعمل العين في غير ما خلقت له، العين للنظر، يستعملها للشرب، هذا مجنون يستخدم الحاسة في غير ما خلقت له، الأنف للشم يستخدمه للأكل! مجنون، أحد الناس أعطاه أوراقاً، أو أعطاه معاملة، قال: سأوصلها إلى المدير، باسم الله، ووضعها في فمه، هل يظن أن الفم أصبح جيباً؟! لا يمكن، أي: الذي يستخدم الشيء لغير ما خلق له، مجنون، هل توافقوني على هذا، أم لا؟! هذا البدن ابتداءً من الرأس وانتهاءً بالأقدام خلق لماذا؟ خلق لعبادة الله، فالذي يجعل بدنه لغير العبادة مجنون، أم لا؟ إذاً هو من المجانين، مع أن بعض المجانين تخرج منهم فلتات طيبة أحياناً، يذكرون أن رجلاً جاء مسرعاً بالسيارة، فسقط الإطار (والصواميل) تناثرت، فأخرج الإطار الاحتياطي يريد أن يركبه -على الأقل- حتى يوصله، لكن ما عنده (صواميل) فكلها قد وقعت وتكسرت، وكان هناك رجل واقف في مبنى مقاربٍ له ويطل عليه -المبنى هذا مستشفى المجانين- وهذا المجنون واقف ينظر إليه من أعلى، فقال المجنون لصاحب السيارة: لماذا تقف حائراً؟ قال: والله -يا أخي- وقع الإطار وانكسرت (الصواميل)، ولا أدري ماذا أفعل، قال: ألم تستطع أن تصلحه؟ قال: لا.
لأني لا أملك (صواميل) قال المجنون: يا أخي! خذ من كل إطار (صامولة) وركب الإطار، قال: والله إنك ممتاز، من أين أتيت بهذه المعلومات؟ قال: هذه دار مجانين، وليست دار أغبياء.
فالحاصل أن بعض المجانين قد تحصل منهم فلتات عقل، لكن المشكلة من شبابنا الذين الواحد منهم أي: إذا كنا أنا وأنت نحكم ونجزم بأن الذي يستخدم العين لغير ما خلقت له، ويستخدم الأنف لغير ما خلق له، مجنون، فما بالك بمن استخدم الجسم كله لغير ما خلق له، أنت -يا فلان- جسمك هذا ما عملك فيه؟ والله أبشرك اهتمامه (بريك دنس) وأنت ما هو اهتمامك؟ اهتمامه (السامري) وأنت ما هو اهتمامك؟ اهتمامه (روكي) أو (جاز) أو (بوني إم) أو (ديسكو) سبحان الله! أهذا الجسم خلق لعبادة الله، أم خلق للرقص واللهو والطرب والغفلة؟! من هنا -أيها الشباب- ينبغي أن نفهم جيداً أن الإنسان أول ما يحتاج إليه أن يعرف أنه خُلق لعبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك الله جل وعلا قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أين العبادة عند كثير من الشباب؟ في الأغاني؟ أين العبادة عند كثير من الشباب؟ في اللهو، والتدخين، وترك الصلاة، والعبث بالسيارات، والمعاكسة، و (نطل) الأرقام؟! رأيت من مدة كرت بطاقة شبه البطاقة الرسمية أو مثل كرت الزيارة، مكتوب عليه: يُرجى من النساء الجميلات مساعدة حامل هذه البطاقة، جمعية المعذبين قسم العشق، وخلف البطاقة -أي: من أجل أن أقول لك إلى أي درجة شبابنا أبدعوا في الانحدار، بعض الشباب أبدعوا في البعد عن طاعة الله، أبدعوا في الوقوع في معصية الله، تفننوا في ألوان اللهو والغفلة- وخلف البطاقة مكتوب: الاسم: محتار فيكِ، محل الالتقاء: لحظة التقاء عيني بعينيكِ، السكن -أظنه والله المقصفة- مكتوب: عالم أحلامنا الفسيح، الأمنية: الالتقاء بكِ، الله، الله، الله!! شبابنا إلى هذه الدرجة وقع بهم الأمر! شبابٌ آباؤهم وأجدادهم من العلماء الفاتحين من السلف الصالح من التابعين، من الصحابة، أهؤلاء يقعون في هذه المنزلقات؟!! يا إخوان! من هنا نبدأ حاول وأنت الحكم، وأقصد بذلك أول ما تجد في كثير من شبابنا إما أن تجد عنده انحرافاً، أو تجد عنده معصية، أو تجده متساهلاً بالمعاصي تدخين معاكسات مغازلة بنات لف ودوران في الأسواق اختلاس عبث مخدرات ملاهي أغاني، وأشياء كثيرة، من أين جاءه هذا الانحراف وجعله يستمر فيه؟ جاءه الشيطان، وقال له: انظر (يا أبو الليد) -على ما قالوا- قال له: أنت تأمل أن تكون إنساناً محترماً في المجتمع، لا تفكر بهذا الشيء، لكن ابحث لك عن قليل (عرابجة) وصادقهم، وأمل من الله خيراً.
بهذا الأسلوب الصريح يأتي الشيطان، ويقول للشباب: أنت تريد أن تكون مع الدعاة؟! أنت تريد أن تكون ملتزماً؟! يأتيك الشيطان ويتحداك، وإذا جاء الواحد يريد أن يصلي، جلس الشيطان على صدره، قال: اجلس ما أنت بكفء للمساجد، ابق في اللعب والرقص وغيرها، نعم: الشيطان يتحدى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] والعدو يتحدى: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].(146/5)
أخي الشاب لا ترضَ بالدون
فيا شباب: بعض الشباب تلقاه ماسكاً السيجارة يدخن وما له نفس في التدخين، لماذا؟ لأن الشيطان أتى إليه، وقال له: أنت لست بكفءٍ في شيء، أنت إنسان تافه، أنت حقير، وسافل، وساقط، الأفضل لك أن تذهب وتنظر لك شلة ساقطة واجلس معها، ومن هنا فعلاً تجد بعض شبابنا -الله يستر عليهم- إذا أتى بعد العصر، لبس (ترنك وفنيلة) ووضع العصابة الحمراء على رأسه، اقتداءً برامبو وليس بـ أبي محجن الثقفي، ويجلس في السيارة، ومعه شباب يضع يداً على عجلة القيادة ويداً على الباب مع تلك الشلة الفاسدة.
وكل يوم ترى من شبابنا العجائب، والله مرة رأيت شاباً ليس بعيداً من أعماركم، ومعه سيجارة، وكنت خارجاً من سوبر ماركت، شعرت بأنه قد روي تدخيناً، وأصبح هالكاً بسببها، ماسكها ومرة تذهب يميناً، ومرة تذهب شمالاً، لا يعرف يمسك السيجارة، المهم أتيت له وقلت له: يا أخي الحبيب! يا أخي الغالي! (يا الحبيب!) والله إن هذه السيجارة ما هي بكفء أنها تلمس شفتيك التي تنطق بلا إله إلا الله، هذه السيجارة النجسة هذه والله ليست بكفء أن تقف على فمك الذي ينطق بالوحدانية وشهادة أن لا إله إلا الله.
يا أخي الحبيب: أنت إنسان كرمك الله، أبوك وجدك آدم أسجد الله الملائكة له: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] أي: أبونا آدم من كرامتنا على الله أن الله جعل الملائكة تسجد له: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]، أي: الله فضلنا، ونحن نختار الهوان.
الله أكرمنا ونحن نختار السفالة، لماذا؟ لأن كثيراً من شبابنا يظن أنه لا يُفلح، ولا ينفع شيئاً أبداً.(146/6)
كل شاب يستطيع أن يكون في مقدمة الركب
إذا أردتم أن أقنعكم وأبرهن، وأثبت لكم أن شبابنا بفضل الله -وأنتم منهم- فيهم خير عظيم، اسألوني عما رأيت في أفغانستان، رأيت شباباً قادوا ودخلوا معارك ضد الشيوعيين، أحدهم يحلف بالله، يقول: لم يكن لي هم إلا الطماطم والبيض، وإذا رأيت سيارة فيها عمال ضربت الطماط أو البيض في زجاجها، فيظل السائق يذهب يميناً ويذهب يساراً إلى أن يقف، أي: شقاوة، طبعاً فلا تطبقوها هذه بعيدة عنكم إن شاء الله، لكن أقول لك: من شقاوته ما كان له هم، فلما جاءه أحد إخوانه الدعاة إلى الله، وقال له: يا أخي الحبيب! الله خلقك من أجل أن تشتري بيضاً وتكسرها في وجوه الناس؟ أو خلقك من أجل أن تأخذ هذه الطماطم، وتضعها على زجاج السيارات؟ أو خلقك من أجل أن تعاكس وتغازل؟ ثم أهداه كتيباً ثم فتح الله قلبه للجهاد وسافر إلى أفغانستان، وأصبح قائداً من قادات المجاهدين.
وهذا الشاب بيده ذبح عدداً من الشيوعيين على الطريقة الإسلامية، وقديماً كان من أهل المخدرات، وقديماً كان من أهل الفساد، أي: لا يأتيك الشيطان يقول: أنت الآن سيئ لا خير فيك إلخ لا أمل فيك أن تستقيم، أو أن تكون داعية، أو قائداً، أو مجاهداً؟! لا.
اترك هذه الظنون، وهذا العبث الشيطاني الذي يزخرف لك، لكن حاول، وامش خطوة إلى الأمام، وستجد نفسك قادراً، لا تقل: لا أستطيع، حاول، لا تقل: لا أعرف، جرب، وستجد النتيجة وأنت الحكم.
شابٌ آخر يحدثني أحد المشايخ، وكان معي ذات مرة في رحلة في أفغانستان، يقول: شباب ذاهبون إلى جبهة من جبهات القتال، فوجدت شاباً يسبقونه وهو ينتفض، فقلت له: لماذا لا تمشي معهم؟ لماذا أنت متأخر عن القافلة؟ قال: أسأل الله أن يغفر لي ويتوب عليّ، أنا وضعي لا يسمح لي أن أمشي بسرعة، ويتلهج ويتزفر زفرات وأنات وآهات، قال له: لماذا يا أخي؟ قال له: والله كنت في سجون الأمل، كنت في المخدرات، ليس هناك نوع من أنواعها إلا فعلته وجربته، ولما منَّ الله عليَّ وتبت، ما وجدت مجالاً أستطيع أن أنشغل فيه عن جلساء السوء إلا الجهاد في سبيل الله، فذهبت أجاهد في سبيل الله حتى يتوب الله عليّ، وحتى أبتعد عن قرناء السوء، قال: فقلت الله أكبر بالأمس كان في سجون المخدرات، والآن على قمم الهندكوش في أفغانستان.
هل استطاع الشيطان أن يحقق آماله أمام هذه العزيمة؟ لا.
لقد فشل إبليس، فشل الشيطان أمام شاب كانت عزيمته أن يتوب إلى الله، وأن يعود إلى الله.
يا إخواني! انظروا الذين ساروا في طريق الفن والطرب، منهم من مات على سوء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومنهم من تداركته الرحمة فتاب قبل أن يموت، تعرفون فهد بن سعيد أبو خالد كما يقول:
الموت حق وكلنا ذا يقينه مير البلى من ذاق موتاً ولا مات
الله أكبر! العزلة يا أبا خالد! زرته في السجن في سجن الحائر، كيف الحال يا أخ فهد؟ قال: والله إني أحمد الله على الساعة التي وجدت في هذا المكان، لماذا؟ هل هناك من يحمد الله على السجن؟ قال: نعم.
لأني لو استمريت على ما أنا فيه، مت كموت الحمير، بهذه العبارة.
وفي كتيب أحضرته هديةً لكم اسمه، للشباب فقط، وستجدون في آخر الكتاب، فهد بن سعيد يتكلم أو يعترف، هي رسالة صغيرة جداً ما تأخذ منكم شيئاً، خذوا الكتاب واقرءوه، لتسمعوا اعترافات الفنانين المطربين وغيرهم، وجاءنا ذات يوم الأخ فهد بنفسه في المسجد، وألقى كلمة، قلت له: تفضل أعط كلمة، قال: أنا لست بخطيب، وما أعرف، قلت: لا أريد كلمة فصيحة أريد كلمة لشباب الحي يعرفون أن الإنسان يمكن أن يعود إلى الله، ليس من أمسك عوداً انحرف إلى جهنم وساءت مصيراً، من أكل حبة مخدرات، انحرف إلى جهنم وساءت مصيراً، لا.
إن باب التوبة مفتوح حتى وإن فعل الفاحشة، حتى وإن وقع في اللواط حتى وإن شرب الدخان، حتى وإن أكل المخدرات، إذا تاب وعاد إلى الله عودةً صادقةً، فإن الله يقبل منه، فالأخ فهد قام وصلى معنا العشاء، وبعد الصلاة وقف، وقال: يا إخوان! أنا أخوكم في الله فهد بن سعيد كنت فناناً وكنت مطرباً، وتبت إلى الله، وأسأل الله أن يتوب عليَّ، ولي طلب واحد منكم، ما هو؟ طلبي أن من كان عنده شريط للفنان فهد بن سعيد أن يتوب إلى الله ويمسحه ويضع عليه خطبة، أو محاضرة، أو أناشيد إسلامية، أو شيئاً بعيداً عن المعصية.
أي: إذاً لا يتوقع الواحد أنه إذا وقع في شيء يصعب عليه أو مستحيل أن يتوب منه، لا.
مثلما يقول لك: شاب مرة في الحارة قديماً كنت ماشياً وهو جالس يدخن، قلت: يا يوسف! هذا وأنت ولد حمولة؟! قال: لا أستطيع أن أتركه.
والظاهر أنه يحمل السيجارة بالمقلوب، لم يدخن سيجارتين، ويقول: لا أقدر على تركها، فالشيطان يغرس ويعمق، ويجعل في قلبك أنك إذا وقعت في شيء لا تستطيع أن تتركه، فالدخان لا أقدر على تركه، والفاحشة لا أقدر على تركها، لا أصبر عنها، مخدرات! لا أقدر أن أتركها، غناء! لا أستطيع تركها، ما هذا الكلام؟!(146/7)
إذا أوجدت العزيمة بلغت الهدف
أنا أعطيكم سؤالاً الآن: كثير من الشباب الذين يدخنون وغالبيتهم يصومون رمضان أم لا؟ الإجابة يصومون شهر رمضان، صحيح بعضهم لا يصوم، لكن هذا ليس بذنب التدخين، تجد عنده ذنوباً أخرى، لكن الذين يدخنون الكثير منهم يصومون رمضان؛ لأن عنده عزيمة وإرادة قلب على أن يمسك عن الطعام والشراب من الفجر إلى المغرب، فهل يأتيه الشيطان الظهر، يقول له: خذ سيجارة؟ لا.
حتى وإن كان يدخن، لأن عنده عزيمة وإرادة، أي: الطريق مقفول ومغلق أمام الشيطان أن يأتيه من الفجر إلى المغرب، ليس هناك أمل أن يأكل أو يشرب أو يدخن، لماذا؟ لأن عزيمته عزمت اتباعاً للصيام ألا يذوق طعاماً، ولا شراباً، ولا غير ذلك منذ الفجر إلى المغرب، دل هذا على أن الإنسان إذا عزم على شيء عزيمة قوية استطاع أن ينشغل عن التدخين واستطاع أن يتركه، لكن في الأيام الأخرى، يقول: لا أقدر على تركه، ليس بصحيح، تأتيه في يومٍ من أيام الفطر، ومن أيام شوال، أو أي شهر وتقول له: يا أخي! لماذا تدخن؟ يقول: لا أقدر على تركه.
ما الذي جعلك تتوقف عنه من الفجر إلى المغرب في رمضان؟ نعم.
لأن عندك عزيمة جادة صادقة ألا تأكل ولا تذوق طعاماً، ولا شراباً، ولا حراماً، ولا غير ذلك.
إذاً أيها الأحبة! لا يمكن أن نصدق مسألة أن الإنسان لا يقدر على ترك المعصية، هذا ليس بصحيح أبداً، قضية أنك لا تقدر.(146/8)
إذا أردت التوبة فتخلص من أدوات المعصية
والله تعظيماً لله في بيت الله اتصل بي شاب قبل أيام، قال: فلان؟ قلت: نعم.
قال: يا شيخ! معك وقت تسمع مني؟، قلت له: معي وقت تفضل، قال: والله أنا مبتلى باللواط، ولا أقدر على تركه، وكلما توقفت عنه، رجعت إليه مرة ثانية، وعندي مجلات وأفلام خليعة، وعندي، وعندي، وأنا أريد أن أتوب، وأنا أريد أن أستقيم، قلت له: أنت جاد، أو هذا عبارة عن توسيع لصدرك في هذه المكالمة؟، قال: والله إني جاد، وأنا أريد أن أتوب يا شيخ، قلت له: الآن أبشر، والحمد لله أن الله جل وعلا ما قبض روحك وتوفاك وأن تفعل الفاحشة.
ما هو شعوركم -يا إخوان- لو أن هذا الشاب الذي يتكلم جاءت الملائكة وقبضت روحه وهو يفعل الفاحشة بآخر؟ أو ما شعوركم لو أن الملائكة قبضت روحه وهو تحت وطأة السكر والمخدرات؟ أو ما شعوركم لو قبضت الملائكة روحه وهو رافع لصوت مسجل السيارة على آخر موسيقى غربية، أو صوت مايكل جاكسون، وما صلى ولا أطاع الله ذاك اليوم، ثم مات على شر حالة؟ كيف يكون حاله؟: (يبعث الناس يوم القيامة على ما ماتوا عليه).
إذا مت ساجداً، تبعث يوم القيامة ساجداً، إذا مت ملبياً في الحج، تبعث يوم القيامة ملبياً، تقول: لبيك اللهم لبيك، إذا مت شهيداً، تبعث يوم القيامة شهيداً، جرحك ينزف دماً، اللون لون دم، والريح ريح مسك، والذي يموت مرابياً، يبعث مرابياً، يتخبطه الربا: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275].
الذي يموت سكراناً يبعث كذلك، والذي يموت زانياً، يبعث على حاله، والذي يموت على لواطٍ، يبعث على حاله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقلت له: يا أخي! أولاً: احمد الله أن الله ما قبض روحك وأنت تفعل الفاحشة، الشيء الثاني: إذا كنت جاداً وتريد أن تتوب إلى الله، تعال أنا أخوك في الله والله أستر عليك، ولا أحد يعرف عنك شيئاً، تعال عندي، وائتني بأشرطتك، وائتني بمجلاتك، ونذهب نحرقها وندفنها في مكان لا أحد يعرف أين مكانها، وتتوب إلى الله، وتصلي ركعتين، وأصلي أيضاً أنا، وأدعو الله لك، وأنت تدعو، وتستغفر الله، وتعاهد الله ألا تعود إلى اللواط، وإلى الفواحش، وإلى هذه الأمور كلها.
قال: ما أقدر يا شيخ مهلاً، سبحان الله العظيم! كيف مهلاً؟ تريد أن تتوب وأنت صادق جاد، تعال، هات أشرطتك، وهات الذي عندك، وتب إلى الله، لقد كان سليمان بن داود عليه السلام معجباً ومغرماً بالخيل: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:31] الصافنات: الخيل الأصيلة، عرضت عليه بالعشي: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32].
يعني: الشمس غابت وفاتت الصلاة، ماذا فعل؟ هل قال: مهلاً؟ لا.
قال: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] ائتوني بالخيل مرة ثانية، وأخذ السيف وعقرها عقراً وذبحها، ودعا الفقراء يأكلونها -يجوز أكل لحم الخيل- لأنها أشغلته عن طاعة الله، وهي مباحة نحرها لوجه الله.(146/9)
قصة محمد فوزي الغزالي وتحطيمه لمصنع القيثار (الأعواد)
وهذا شاب نقول له: تعال أقبل على الله، تب إلى الله جل وعلا، يقول: لا يا شيخ مهلاً مهلاً، فقلت: لله در أحد الشباب في جدة، وهذا الشاب تعرفونه أو بعضكم يسمع به، هذا اسمه محمد فوزي الغزالي، هذا صاحب بيت العود السعودي، العود ليس عود الطيب، عود أبو اثنى عشر وتراً مزدوج، أو مفرد الذي تريد، المهم هذا الشاب عنده مصنع كامل لصناعة العود، وتعليم العزف على الآلات الموسيقية (الكمنجة والمرواس، والمخافيج والطيران).
هذا الرجل عنده مصنع للآلات الموسيقية، فجاء من ينصحه، والرجل كان في نفسه كراهية إلى هذا الأمر، فلما تاب إلى الله ماذا فعل؟ وهذا الكلام نشر في الجريدة، وحضر جمع من العلماء، وصور بالفيديو ولعلنا نرسل للأستاذ شريط الفيديو وتجتمعون وترون هذا الفنان؛ لأنه عازف على العود على مستوى كبير، ومع ذلك تاب إلى الله، وجمع جميع الأعواد التي عنده، أتاني بصور، صلى معي التراويح في شهر رمضان، وأراني الصور، صور الأعواد التي ينتجها، نوع من أنواع العود بثلاثة وخمسين ألف ريال مطعم بالعاج، وأنواع أخرى، وآلات موسيقية، أتوا بها كلها جمعوها في سيارة، وذهبوا بها في جدة وكسروها وصبوا عليها البنزين وأحرقوها.
وهو يقول: اللهم تب عليّ، اللهم تب عليّ، اللهم تب عليّ، انظروا يا إخوان الإقبال على الله سبحانه وتعالى، التوبة الصادقة التي فعلاً ما تجعل الإنسان يتردد، اقلع، وإن لم تقلع، سيأتيك يوم لا حول ولا قوة إلا بالله تتمنى أنك تبت، فلا استطعت، زوروا، وأرجو من الأستاذ أن يزور بكم مستشفى النقاهة، ما هو مستشفى النقاهة؟ شباب في عمر الورود، ولكن في لحظة من لحظات الغفلة، أصابه شيء ليس كلهم، بل بعضهم صار له حادث ربما خرج ذاك اليوم ما صلى الفجر، كانت الموسيقى ترتفع، ربما كان ذاهباً إلى الفاحشة، ربما كان راجعاً من الفاحشة، وأصابه الحادث، وفي موقع بسيط في آخر الظهر حساس جداً إذا ضرب فيه الإنسان يصيبه شلل كامل، فتأتي إليهم تجد الواحد متمدداً على الفراش، ويكلمك بإشارات، الله أكبر أين الشباب؟ أين النشاط؟ أين العنفوان؟ أين الحيوية؟ أين القوة؟ في لحظة يقع حادث.
أحد الناس قطع الإشارة، وتصادم هو وسيارة، وذهب بشلل رباعي، وهذا قد انتهى وضعه، لا حول ولا قوة إلا بالله! الإنسان لا يأمل، أو يطيل الأمل، أو يسرف في الأمل وهو على معصية، لا.
اتق الله، وتب إلى الله جل وعلا، وانتبه قبل أن يفاجئك الأمل.(146/10)
هذه هي نتيجة السخرية بآيات الله
إياكم والاستهزاء أو السخرية.
رجل عنده أموال، ولكنه -والعياذ بالله- مولع بفاحشة اللواط، ومولع بأمور كثيرة مما لا ينبغي ذكرها الآن، ما الذي يحصل، يقول يستهزئ، يقول: إن الله يقول: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10]، أي: الذي معه زينة ويخفيها، خاب -والعياذ بالله- والله يا إخواني بعد هذه الكلمة أصابه سرطان في كل جسمه خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، مع أن السرطان في العادة يأتي في موقع ويأخذ أسابيع، ثم يزداد قليلاً، ثم أسابيع، ثم يزداد قليلاً، لكن لأنه استهزأ على معصية، وفوق المعصية استهزاء ولا حول ولا قوة إلا بالله! استهزأ بهذه الآية، وجعلها في أمر اللواط الذي شُغف به، فهو الآن على فراشه، بعد أن كان وزنه ثمانين كيلو من العافية والطول والعرض والنشاط، وزنه الآن خمسة وثلاثون كيلو، تأخذه بثوبك.(146/11)
متى التوبة يا عباد الله؟
إذاً: يا أحباب! متى نتوب إلى الله؟ متى نقبل على الله؟ ألا يكفيناً لهواً؟! ألا يكفيناً عبثاً؟! سمعنا من الأغاني ما الله به عليم، نبيل شعيل، عبد الله الرويشد، بشير شنان، وابن سعيد والرابع والخامس والعاشر، ثم يوم القيامة إذا سئلت: يا عبدي ماذا قدمت؟ ماذا تقول؟ يا رب! حفظت أربع أغانٍ لـ نبيل شعيل، أو يا رب! غيبت أربع أغانٍ لـ طلال مداح، أو يا رب! غيبت كذا لفلان، هل تسرك هذه الأغاني عند الله جل وعلا؟ في الدنيا لا تسرك، هل من الممكن الآن أن يصعد واحد من الشباب على هذه المنضدة، ويسمعنا أغنية لفلان أو علان، هل يرضى أن يغني أمامكم؟ لا.
لأنه يعرف أنه لا يغني أمام الرجال إلا إنسان مخنث.
نعم.
الذي يرضى أن يتراقص ويهتز ويطرب، هكذا أمام الرجال، هذا ناقص الرجولة، لا يرضى، لكن لو نقول: فلان تعال اقرأ قول الله جل وعلا: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] جاء ووقف بكل عزة وبكل فخر ووقف بطوله وصدح: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأخذ يتلو.
إذاً القرآن عز، والدين كرامة، والاستقامة شرف، وأما الانحراف، فهو خزي وعار ومذلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فأسألكم يا شباب: هل هناك شيء يردكم ويمنعكم من أن تكونوا في عداد الصالحين؟ لو فكرنا، لوجدنا أن عندنا ذنوباً محدودة: سماع ملاهي، ربما تساهل بالصلوات، ربما وقوع في بعض المعاصي، القضية تريد إرادة قوية، فإذا جاء أصحاب السوء وجلساء السوء: يا فلان! اذهب معنا، يقول: لا والله، تريدون أن تتوبوا إلى الله، وتستقيموا إلى الله، وتمضوا على نهج الله، فأهلاً ومرحباً وحيهلاً، أما أن تريدونا أن نذهب ونرمي أرقاماً أو (نجعص)، أو (نجدع)، أو (جمس بند) أو (إحدى عشر)، أو (اثنان وعشرون) أو (تفحيط)، هذه والله ليست عندنا.
فحينئذٍ تدخل في سجل التاريخ، الدنيا مليئة بالبشر، لكن من الذي يعد من البشر؟ داعية، عالم، آمر بالمعروف، إمام عادل، عالم عامل، رجل نافع، هؤلاء يعدون، وينفع الله بهم.
إذا ما مات ذو علمٍ وتقى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة
وموت الفارس الضرغام الشجاع هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمة
يا شباب! هل أنتم من الرعاع، أم أنتم من الأفذاذ والأبطال والرجال؟ أحسبكم وأتمنى وأرجو أن نكون وإياكم من الرجال الذين تفتخر بهم الأمة.
يا شباب! فليصارح كل واحد منكم نفسه، ماذا لو توفاني الله اليوم أو غداً؟ بماذا أقابل الله؟ يا شباب! فليصارح كل واحد نفسه، حينما توضع في قبرك، ماذا ترجو من أعمالك؟ يوم تقف بين يدي الله، ماذا تقول لله جل وعلا؟ يا عبدي! ألم أخلق لك عينين؟ هل نظرت بهما في ملكوت السماء؟ هل تدبرت في خلق الله، أم أطلقت عينك في المسلسلات والأفلام والمجلات؟ يا عبدي! خلقت لك أذنين تسمع بهما الحق، ونداء الحق، والأذان والخير، فلماذا سخرت هذه الأذن في سماع الأغاني والملاهي والمزامير؟ جعلت لك يداً ورجلاً، ماذا فعلت بها؟ مشيت بها إلى الحرام أم مشيت بها إلى المسجد؟(146/12)
أسلوب أعدائنا في إغواء شبابنا
يا شبابنا! إننا والله خُدعنا، أنا أقول هذا الكلام -والشباب الذين انحرفوا لم يخلقوا خبثاء خلقة، ولا انحرفوا خلقة، لا.
لكن نتيجةً؛ لأن الشر جاءه رويداً رويداً.
فلو آتي بشاب فاسق مجرم، فأمسكه وأضربه عشرة كفوف، وأربط يديه ورجليه، أقول: تذهب إلى المسجد أحرق رجليك، هل يوافق، أو لا يوافق؟ لا يرضى حتى ولو كان فاجراً فاسقاً؛ ما عاد لنا إلا المساجد يردوننا عنها، وتلقاه لا لا يحافظ على الصلاة، ولكن لأن التحدي جاء مواجهة ومباشرة، فلما تحديناه، وقلنا: لا تصلِّ، قال: أصلي غماً عنك، ويذهب يصلي بدون أن يتوضأ عناداً.
يقولون عن شخص أنه جلس يصلي يوماً ورأى أناساً ينظرون إليه، ويتقن الصلاة ويخشع، قالوا: الله أكبر! انظروا فلان هذا خاشع، قال: هذا وأنا بدون وضوء.
الحاصل يا إخوان! هذا الشاب بالقوة تعانده لا يقبل أبداً، تجره إلى المسجد، يرفسك برجله، وإلا يعطيك (ماي جيري) أو (جدنبراي يسار)، ويدخل المسجد رغماً عنك.
وإذا قلنا: كم عندكم في المسجد أبواب؟ عندنا ثلاثة أبواب، قلنا: سوف نوسع لك المسجد، ونضع زيادة أبواب، لكن هذا فيلم هندي خذ اسمعه بعد صلاة العصر بساعة، وتلقى هذا الفيلم الهندي يشد هذا المسكين، ويقعد كل لحظة يصيح، وبطل الفيلم ما لقى أمه، ويظل يتابع هذا الفيلم، يؤذن المغرب فيقال له: حان وقت الصلاة، فيرد ويقول: يا أخي! خلينا ننظر هل لقي أمه أم لا.
المؤذن يؤذن، يصلون، وهذا ما ذهب إلى الصلاة، تقام الصلاة، ينتهون من الصلاة، يؤذن العشاء، تُقام صلاة العشاء، يخرجون من الصلاة، ومع ذلك لا يتحرك حتى يصلي، وميكروفونات المسجد على آذانه.
لاحظ لما ضاربناه وهاجمناه، وقلنا: لا تذهب تصلي، قال: أصلي رغماً عنك، لكن لما قلنا له: تفضل هذا المسجد ونفتح لك أبواباً في هذا المسجد زيادة، لكن تفضل انظر هذا الفيلم، يظل يتفرج، أم لا؟ إذاً نحن يا شباب قد غزينا فكرياً، هذا هو الذي يجعلنا ننقاد للمنكر، وننقاد إلى المعصية بطريقة خفية.
الآن إذا أتينا إلى بنت من بنات المسلمين حينما نأتي ونلقاها في الشارع ونجر عباءتها ونجر (بشتها) ونقول: تبرجي وكوني سافرة، كوني منحرفة، كوني رقاصة، أترضى، أم لا؟ لا ترضى أبداً، لكن حينما نأتي لها بدعاية سلفكرين تلف شعرها يميناً يساراً دعاية، أو نأتي لها بالفتاة المتطورة، الفتاة ذات التطور والثقافة تقابل صديقها في الجامعة، وتجلس معه في (اللوكندة)، وتحاكيه في (الكازينو)، وتذهب معه، ويضرب لها بأبواق السيارة، فتخرج إليه وتصعد إلى السيارة.
البنت المتحجبة التي داخل البيت تقول: أنا ما الذي ينقصني؟ الآن هذه تذهب مع زميلها في الجامعة، تنظر المسلسل في التليفزيون وتطبق، وهذه تلبس في أي وقت وتخرج، وتطل عليه، وتقول له: (هاي باي) وترمي عليه وردة، وتقول البنت هذه: صحيح، تقول: أنا ما الذي ينقصني؟ يعني: هذه تتمتع بالحرية وسعيدة، وأنا أجلس محرومة، لاحظوا كيف، فتبدأ البنت تريد الخروج، وتبدأ تخرج سراً، وتبدأ تضرب لها الأبواق (أبواق السيارة) فتخرج أو تقول له: دعنا في السوق، أو نتلاقى في المستشفى، طبعاً لأن أباها لا يرضى، ولا يأذن بذلك، فتبدأ تخطط لأساليب أخرى في حين أننا لو قلنا لها: تعالي لتكوني فاسقة، انحرفي تبرجي، كوني سافرة، ترفض ذلك، لكن نأتي لها بأشياء أمام عيونها، من أجل أن نقول: انظري المتطورة، وأنت متخلفة، انظري هذه حبيبها يرسل لها رسالة ومعها وردة، وأنتِ لو يرسلون لك رسالة، رجعوها بلعنة، هؤلاء جفاة ما عندهم مشاعر، ولا عواطف، وتبدأ البنت تضع مقارنة.(146/13)
السعادة كل السعادة في طاعة الله
فيا شباب: أنا وأنتم ليس فينا شر أصيل، نحن أبناء فطرة: (كل مولود يولد على الفطرة) ما فينا واحد خلق لكي يكون مطبلاً، أو رقاصاً، أو سافلاً، أو منحرفاً، لا.
لكن جلساء السوء بالإضافة إلى الغزو الفكري، الغزو الفكري يا شباب: من خلال المجلة والصحيفة يجعلك تهتم بما ليس كفؤاً للاهتمام، وبما لا يستحق، أو ليس بجدير أن يهتم به، لذلك يا شباب! يا أحبابي! يا أبنائي! عودة إلى الله، توبة إلى الله جل وعلا، رجعة إلى الله، كم عرفنا من الشباب المنحرف الذين وقعوا في الفواحش وتابوا إلى الله، سألناهم: كيف وجدت لذة الحياة؟ قال: والله ما وجدت اللذة إلا في طاعة الله سبحانه وتعالى، قبل ثلاثة أيام معي شاب أعرفه كنا في الحارة سواء، صديق طفولة، ثم تفارقنا، وهو -ما شاء الله- من أسرة ثرية، وأعرف عنه أنه دائماً يسافر إلى بريطانيا، كل دول أوروبا سافرها، وقابلته هذين اليومين، وقد أصبح ملتحياً، ومعه سيارة فخمة، قلت: يا أخي! بشر ما هي أخبارك؟ قال: والله يا سعد مرت علينا أيام كنت أصرف يومياً في بريطانيا ستة آلاف ريال، أي بنت يأتون بها، وأي شراب يأتون به، قلت: وماذا بعد؟ قال: والله ما ذقت سعادة، ولا عرفت راحة، الراحة في طاعة الله في التوبة إلى الله في الرجوع إلى الله.(146/14)
العزة كل العزة بالاستمساك بهذا الدين
يا أحبابي: خذوها قاعدة: تريد أن تكون عزيزاً، تريد أن تكون شخصاً يعرفك الجيران بمشيك إلى المسجد بتبكيرك إلى الجماعة بجلوسك في المسجد للذكر والاستغفار، يعرفك الجيران في الأمور الخيرة؛ فكن ملتزماً مستقيماً، هل المفخرة أن الجيران يعرفون أنك إذا جاء الصبح، غسلت الإطارات بشاي من أجل أن تصبح سوداء؟ وهل المفخرة أن تشحم الجوانب؟! أم المفخرة أن تدور وتفحط في الشوارع؟! هذه كلها ليست بمفخرة، المفخرة أن تكون صادقاً مع الله، المفخرة أن تكون مستقيم القدرة والرجولة، أن الهوى يقول: اجلس اشرب، تقول: لا.
افعل، لا.
الرجولة أن تخالف هواك، وأن تعصي نفسك.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإنهما ما حضاك النصح فافتهمِ
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً فأنت تعرف كيد الخصم والحكمِ
هذا الكلام -يا إخوان- خذوه، واسمعوه، وستذكرون ما أقول لكم، والله ستذكرون هذا الكلام، فالإنسان لا يدري متى ينتهي عمره، لكن أسأل الله أن يمد في عمري وعمركم، وتذكروا هذا الكلام بعد عشر سنوات، هل تريد أن تستمر من الآن إلى خمس سنوات قادمة، إلى عشر سنوات قادمة على ما أنت عليه؟ لا والله، تريد أن تستمر على لهوك وضلالك وانحرافك ودخانك وغفلتك، ولا أخص أحداً بعينه، لكن أخاطب من وقع في هذا، هل تريد أن تستمر على هذا؟ الناس يتطورون: الذي حفظ جزءاً، صار يحفظ أربعة، الذي عرف حديثاً، صار يحفظ عشرة، الذي قرأ كتاباً، صار ينتظم في حلقة علم، الذي كان يوماً عادياً، أصبح طالب علم، الإنسان الذي كان تافهاً وما له شغل، فتح له متجراً، أو ورشة، فتح له مخرطة وبعد ذلك اعتبروا -يا إخوان- بأحوال الدنيا للآخرة منكم من يعرف هذا جيداً.
في قسم الحدادة والحديد والتلحيم تعرفون شيئاً من ذلك، يوضع مع السيخ هذا الذي يقص الحديد قصاً، أسألك بالله هل جسمك يصبر على نار جهنم؟ لهب من النار مع مادة أخرى تضعه على الحديد، يقصه قصاً مثل ما تقص اللحم، هل جسمك يصبر على نار جهنم؟: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] الله أكبر! {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:7 - 8] جهنم، يقال: إن الملائكة تمسكها تكاد تنقض على من كان عاصياً لله غافلاً عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
هل لك صبر على هذا؟ شاب ذهب يدرس في بريطانيا في دورة لحام، وكان يرى الحديد يُوضع في المنطقة هذه قوالب وأسياخ ويخرج مع الجهة الثانية يسيل مثل الماء، فانتفض جسمه مرة، قال: هذا الحديد الصلب جداً يدخل هكذا في نار الدنيا التي هي جزء من مائة جزء من نار الآخرة، يدخل هكذا قطعاً، ويخرج يسيل مثل الماء، فكيف بجسمي هل يصبر على نار جهنم؟ هل سألت نفسك هل تصبر على نار جهنم يوم أنك تقول: لا أصبر على الدخان، أو لا أصبر عن المعصية، أو لا أصبر عن الفاحشة، أو لا أصبر عن الغفلة واللهو والطرب.
هل سألتك نفسك: من الذي يجعل قبرك في نور؟ والله -يا أحباب- لا ينفعك إلا عملك الصالح.
الآن مقبرة العوج رأيتم هذا البشت الجميل، وهذه البدلة الجميلة، الآن الواحد لو يأتي جرو -الله يعزكم- يريد أن يجلس على ثوبك، أو يجلس عندك أترضى؟ لا ترضى فهو نجاسة، لكن الآن إذا كان في مقبرة العوج، تخيل وأن تجلس على قبر أي واحد أكبر واحد في المقبرة وأصغر واحد في المقبرة الكلب يربض على قبره ويبول على قبره، أنت لابد أن تتخيل، درجة أولى سياحية خط عام فتختار الدرجة التي تريد أن تجلس فيها.
أقول هذا الكلام؛ لأن حياتك ليست بشيء، الحياة الحقيقية هي حياة الدوام والسعادة، حياة الآخرة، أما الدنيا فحتى لو قُدر لك فيها الحياة، ماذا بعد ذلك؟ فجأة وتكون في عداد الأموات سواء الآن أو بعد الآن، ثم ما الذي ينفعك؟: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34].
يوم القيامة لا أحد ينفع أحداً، تقول عائشة: (يا رسول الله! الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أعظم وأكبر من ذلك) {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
تذكر أمك تأتيك يوم القيامة تقول: يا ولدي! حملتك تسعة أشهر كُرهاً ووضعتك كرهاً وأزلت الأذى بيدي عنك، -تنظفك وتقلبك، وتتلذذ وهي تضحك، تبعد عنك الوسخ منك في طفولتك وأمك تضحك ما تكره هذا الشيء ولا تتقزز- وجعلت ثديي لك سقاءً، وجوفي لك حواءً، يا ولدي! حسنة، الموازين تطيش والصحف تتطاير، يا ولدي! حسنة أثقل بها ميزاني، فتقول أنت: أمي إليك عني إليك عني، لا أحد ينقذ أحداً، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يا فاطمة بنت محمد! اسأليني من مالي ما شئت، لا أملك لكِ من الله شيئاً) يوم القيامة لا ينفع أحد أحداً: (اسأليني من مالي ما شئت، لا أملك لكِ من الله شيئاً) فأنت -يا أخي- تأتي أمك تقول: يا ولدي! حسنة، تقول: أنت يا أمي توكلي على الله.
وقال كل خليلٍ كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول(146/15)
النظرة الخاطئة للالتزام والملتزمين
فيا أحبابي! هل نعود إلى الله؟ هل نتوب إلى الله؟ هل نجرب؟ حاول؟ افعل؟ خطوة إلى الأمام وستجد النتيجة، ستجد الراحة والطمأنينة، والسعادة، جلساء الخير، ثم إن الخير لا يكلفك، فبعض الناس يتوقع أنه إذا التزم وتاب واستقام بأن عليه الآتي.
أولاً: يحتاج أن يذهب ويفصل ثوباً فوق الركبة.
ثانياً: يحتاج أن يخرب المرزاب.
ثالثاً: يضع الغترة هكذا.
رابعاً: يأتي بمسواك طويل، ويتوقع أن الدين هكذا، كثير من الشباب الذين يجعلهم ينصرفون عن الاستقامة، ولا يلتزمون، يتصور أنه لابد أن يصير مُعقداً، إذا ضحك الناس لا يضحك، ولا يريد أن يبتسم معهم، يظنون أن الابتسامة -مثلما يقولون- عند المطاوعة حرام.
واحد من الشباب يقول: كنا نلعب كرة مع شباب طيبين، كل واحد يأتي بفريقه، وعندنا شباك، ونظل نلعب بعد العصر، وربما شربنا الشاي إلى أن يبرد الوقت قليلاً، ولعبنا العصر، وبعد المغرب نقرأ في كتاب رياض الصالحين، أو أحد الكتب النافعة، يقول: في يوم من الأيام، خرج معنا شاب قلنا له: تعال معنا، وعندما خرجنا وهو مستغرب مثل الذي سيدخل حديقة حيوانات، لا يعرف ما يقول، يقول: أتينا والوقت مصيف، قلنا: هيا يا شباب أعطونا الكرة والقوائم منصوبة والشباك جاهزة، يقول: والله قليلاً إلا وكل واحد لابس فنيلة وبدلته وحذاء اللعب ولعبنا الكرة، قال: يا أخي! الآن المطاوعة يلعبون كرة؟!! قال: نعم.
وماذا ترى؟ ماذا تتوقع؟، قال: والله أحسبكم من يوم أن خرجتم إلى البر كل اثنين يقعدون ويصيحون، يعني: يتوقعون أن المطاوعة أناس معقدون جداً، بالعكس والله المزاح واللهو البريء والمرح، وإذا جاءت العبادة، والتبكير للصلاة، وإذا وقف الإنسان بين يدي الله، وقف وقفة الخاشع، وإذا جلس يُصلي تلذذ بالصلاة، وتجد الإيثار: فلان! ماذا تحتاج؟ فلان! ماذا تريد؟ تجد إخوانك يخدمونك في الله، يأتينا الشاب عنده مشكلة معينة، أول ما تنظر هل هو يصلي الفجر؟ هل هو شاب ملتزم؟ ما هي مشكلتك؟ مساعدة زواج؟ نساعدك، ما عندك؟ عليك مصيبة؟ ربما يساعدونه لا يريدون شيئاً، يريدون وجه الله جل وعلا، لماذا؟ لأننا نتفاضل فيما بيننا بالتقوى، الألوان والأجسام والطول والعرض والقبيلة والنسب والشرف، هذه كلها أضعها تحت رجلي، والله بعضنا يفضل بعضاً بالعبادة والتقوى، إن بلال بن رباح عبدٌ حبشي، يقول الرسول: (يا بلال! إني أسمع صوت نعليك في الجنة) وأبو لهب أشرف قريش: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] في النار.
الله أكبر! هذا الدين الذي يُشرفك لا بلونك ولا بطولك أو عرضك أو قبيلتك أو حسبك أو نسبك، بل يشرفك بالتقوى، يشرفك بالإقبال والإقدام على الله جل وعلا.(146/16)
الحذر من قرناء السوء
من هنا -أيها الإخوة- ينبغي أن نتدارك هذا الأمر، عودوا إلى الله، توبوا إلى الله، حاولوا أن تستقيموا، اتركوا المعصية، اتركوا المصيبة، وقرناء السوء قل له: أسألك بالله إذا جُعلت في قبري، ماذا تفعل لي؟ تدعو لي بظهر الغيب؟ تضحي عني؟ يوم القيامة هل أفتخر بك وأقول: يا رب! هذا أحبه في الله؟ لا.
عرفتك في حمام، أو في صندقة، أو في سيارة، أو في دجاج، أو مصيبة، أو معصية، لكن المتحابين بجلال الله في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله (إن في يوم القيامة أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم من الله، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: المتحابون في الله) ليسوا المتحابين في النصر والميدان، بل المتحابون في الله، إذا أحب بعضهم بعضاً في الله ولله، ولعبادة الله، نفعتهم هذه المحبة.
أما إذا كانت الصداقة في الدنيا على المعصية والتقصير، فلا تنفع عند الله، أرجو أن يكون هذا الكلام رسالة صريحة من القلب إلى القلب، رسالة أخوية، وأتشرف بزيارة كل واحد منكم، وبرؤية كل واحد منكم عسى أن أتعرف عليه، يعرفني وأعرفه لتكون أخوة في الله ومحبة في الله وعوناً على التوبة وترك المعاصي إلى غير رجعة.
أسأل الله أن يهديني وإياكم، اللهم ثبت هذه الوجوه، اللهم أصلحها، اللهم اهدها، اللهم حبب إليها الطاعة، وكره إليها المعصية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(146/17)
الأسئلة(146/18)
شاب إذا خلا بمحارم الله انتهكها
السؤال
فضيلة الشيخ/ سعد البريك حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد أهلاً وسهلاً بك في لقاء الخير والمحبة، ومرحباً بك في هذا الصرح الشامخ مركز التدريب المهني الأول في الرياض، وبين أبنائك الطلبة، سؤالي هو: أعمل الصالحات دائماً، ولكن الشيطان يغلبني أحياناً في فعل بعض المعاصي، علماً أنني أنصح غيري بأن يتركوا مثل هذه المعاصي، اختصاراً: إذا خلوت بمحارم الله انتهكتها، فما توجيهكم لهذا؟
الجواب
يا أحباب! ينبغي للمسلم أن يكون صادقاً مع الله في سره وعلنه، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] وفي الحديث: (إن رجالاً يأتون يوم القيامة بأعمالٍ وصلاةٍ وصيامٍ كالجبال يجعلها الله هباءً منثوراً، أما إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم من الليل مثل ما لكم -فارتاع الصحابة- قالوا: من هم يا رسول الله؟ صفهم؟ جلهم لنا؟، فقال: إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) تلقى الواحد أمام الناس رجلاً، وإذا خلا -والعياذ بالله- بمحارم الله، وقع في المحارم من أولها إلى آخرها.
فهذا يوم القيامة ربما تكون أعماله هباءً منثوراً، فينبغي للمسلم أن يصدق مع الله جل وعلا، ثم ماذا بعد ذلك؟ يا أخي! ما هذه المحرمات التي تغلبك؟ هل ضاق الحلال حتى لا تجد سبيلاً إلا في الحرام؟! أي: بعض الناس يقول لك: أشتهي أكل الخنزير، أو أشرب الخمر! أليس هناك لحم؟ أليس هناك سمك؟ أليس هناك دجاج؟ أي: كل الطيبات والمباحات ضاقت نفسك بها ذرعاً، ولم تشته إلا الحرام، كل جميع أنواع العصيرات والفواكه الطازجة وغيرها، كلها ما اشتهتها نفسك، ولم تشته إلا هذا الحرام؟! كذلك بقية الأعمال، ثم يا شباب! أنصحكم -وهذا دليل الفحولة والرجولة- أنصحكم بالزواج: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة، فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) ودعك من الكلام: أسس مستقبلاً، فما هذا المستقبل؟ أخاف أن أموت وما أسسته، إذا كان الشاب يجد في نفسه القوة والاندفاع، وتجده يكابد -دعونا نكون صريحين- إذا جاء في هذا الليل قام يتقلب، مرة الوسادة تحته مرة فوقه ومرة يمين ومرة يسار -والعياذ بالله- وتجده واقعاً في هذه العادة السرية، وعيونه -أعوذ بالله- في الأفلام الخليعة وفي المجلات، وفي صور النساء، وربما وقع في الفواحش، أو لواط، أو؟ يا أخي الحبيب! لماذا لا تتزوج؟ يسر الله لك سبحانه وتعالى الزواج وتستتر وتغض بصرك، وتُحصِّن فرجك، وهذا خيرٌ لك، فأنت ربما لا أحد عرف عنك، أليس الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ ما وجهك أمام الله جل وعلا وأنت تفعل هذه الفاحشة؟ أو إذا قُبض على الإنسان؟ تعرفون أن حد اللواط القتل، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والمعاصي لا تأتي جميعاً.
الآن الذي يريد أن يفعل فاحشة، هل من أول ما ينظر شيئاً يقوم فيخلع ثوبه ويفعل؟ لا.
بل تأتي خطوة خطوة، نظرة فابتسامة، فالله جل وعلا قد أباح لي الزواج أتزوج، وهؤلاء الذين أشغلونا بقضية: وماذا تفعل؟ وكيف تصرف على الزوجة؟ إذا وجدت بنتاً من بنات المسلمين من جماعتك، تزوجها، والله يستر عليك وعليها، وكما في الحديث: (ثلاثة حقٌ على الله عونهم وذكر منهم: الناكح يريد العفاف) فإذا أعانك الله، هل ستكون فقيراً؟ لا.
إذا أعانك الله، هل ستكون محتاجاً ذليلاً؟ لا.
والله كم عرفت من الشباب كانوا فقراء مساكين، قيمة وقود (الدراجة النارية) لا توجد في جيبه، ناهيك عن وقود السيارة، ولما تزوج، فتح الله عليه الرزق، وفتح بيتاً، وأصبح معروفاً، ويولم، ويخالط وينفق لماذا؟ لأنه أراد أن يعف نفسه بالحلال، قال الإمام أحمد: يستدين ويقضي الله عنه.
يا شباب! إذا كان الإنسان يعاني من مشكلة الجنس والغريزة الجنسية، بعض الشباب ما شاء الله تجد عنده قدرة، إذا وجد من نفسه بداية ميل للجنس، فوراً أخذ كتاباً وأخذ يقرأ، وأخذ يسمع محاضرة أو شريطاً، أو زار أخاً له في الله، أو ذهب إلى مكتبة خيرية في المسجد، أو ذهب إلى مكان يحاول أن يبعد نفسه، بعض الناس يقول: أنا دائماً مشغول بالجنس، وأنا مبتلى بالعادة السرية، وأنا وأنا وأنا وأنا، أنا أعطيك الجواب بسهولة، لماذا تبتلى بالعادة السرية؟ لأنك إذا جلست، غمضت عيونك، وفتحت عقلك وتتخيل رجلاً وامرأة، وتتخيل كذا، وتتخيل كذا، وتتخيل كذا، ثم نتيجة التخيل تشب، وتتأجج الغريزة، ثم لا يجد بعضهم لها طريقاً إلا العادة -والعياذ بالله- لكن الذي لا يحاول أن يتخيل، ويصرف نفسه عن هذا الأمر، ويحاول أن ينشغل عنه، بإذن الله جل وعلا يستطيع أن يسلك وأن يستمر دون الوقوع في هذا.
فإذا وجدت نفسك تغالبك، فابحث وتزوج، وستجد من يزوجك بإذن الله جل وعلا بشرط ألا تتشرط، فعندما يأتون لك بواحدة، تقول: لا.
هذه ضعيفة، فيأتون لك بأخرى، فتقول: هذه قصيرة لو تمشي على (مطب صناعي، حتت) فيأتون لك بأخرى، فتقول: هذه سمينة، لا يا أخي إذا أردت العفاف تزوج ولو أكبر منك بأربع سنوات، أو خمس سنوات، فما هو المانع؟ ألم يتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بـ خديجة وعمرها أربعون سنة؟ إذاً ليس عيباً ما دام أنك تريد أن تكون عفيفاً سليماً من الزنا والفاحشة.(146/19)
حقيقة توبة فهد بن سعيد
السؤال
هذا يتحدث عما ذكره الشيخ عن أبي خالد فهد بن سعيد، يقول: كثير من الشباب والمعجبين بـ فهد بن سعيد، يقول: إذا تاب فهد بن سعيد، سوف نتوب، فإذاً الشيخ كما ذكر، هم يقولون كما يقول السائل: الآن تاب فهد، فهل تاب هؤلاء؟ لم يتوبوا؟
الجواب
بعض الناس لا يصدق، أنا أذكر كان عندي محاضرة في سجن المنطقة الشرقية في الدمام، وكنت أضرب المثال لبعض المساجين، وقلت: والله فهد بن سعيد تاب إلى الله، قال أحد الناس: والله ما أصدق، ائت به حتى أنظر إليه.
لا يصح أن أذهب أحنطه لك وأحضره إليك، هذا ليس بصحيح، لكن اسمع منه، واقرأ عنه، وانظر مقابلته في الجرائد، ونحن مستعدون يوماً من الأيام أن نأتي به إذا كان الشباب مستعدين.(146/20)
المخدرات وخطرها
السؤال
يا شيخ! أحسن الله إليك إني مبتلىً في تعاطي المخدرات علماً أني قد تركتها ورجعت إليها، أرجو من سماحتكم إرشادي والدعوة لي بالهداية، وإرشادي بأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلها تكون رادعةً لي؟
الجواب
يا أخي الكريم! المخدرات بدايتها شهوة، وآخرها مصيبة، وأعطيكم قصةً واقعيةً: كنت ذات يوم في المحكمة عند أحد القضاة (صديق لي) فجاءت امرأة عجوز كبيرة متلفلفة (ببشتها) وترددت، وذهبت ودخلت، وذهبت ودخلت، فسألت الشيخ، قلت: يا شيخ! هذه المرأة التي تتردد عليك وفي المكتب ما مشكلتها؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله! قلت: ما صار عليها؟ قال: هذه كان عندها ولد يتعاطى المخدرات، وإذا سكر جاء عند أمه وقال: أعطيني فلوساً، أعطيني دراهم، ويبدأ يهددها، وتحت الخوف تقوم وتخرج مفتاح صندوقها وتفتح وتعطيه فلوساً، ومرة أخرى يأتي هذا الولد معه السكين: يا أماه! هي ظنت أنه يوم رأت السكين معه، قالت: تريد فلوس يا ولدي سأعطيك، سأعطيك، خائفة -وهذه نتيجة الخوف، إذا خافت الأم وخاف الأب على ولدهم، ولم يبلغوا عنه، ينقلب نقمة عليهم، لأنهم إذا بلغوا عنه صار ذلك سبباً في علاجه- الحاصل: هي ظنت أنه يريد فلوساً، قال: هيا ارقدي على الفراش، يا ولدي لا يصح، وتحت وطأت السكين فعل وزنى بأمه.
والله الذي لا إله إلا هو! قضية واقعة في المحكمة، والقاضي أعرفه شخصياً، قال: فحضّرنا الولد، وشكلنا مجلس قضاء مشترك، وحكمنا على الولد بالقتل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من وقع على ذات محرم فاقتلوه).
فيا أخي! احذر المخدرات، بعض الناس يقول لك: لا.
أنا أشرب بمقياس لا أضيع، ليس هناك شيء اسمه لا أضيع، تأتيك لحظة من اللحظات وتضيع، وربما وقعت فيما هو شر من هذا، فيا أحبابي وإخواني! العودة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى هي النجاة، لا تقل: أنا شارب مخدرات، لكن لن أكون (مطوعاً) أصير في الوسط، ليس هناك شيء اسمه وسط، الآن المعاصي في كل طريق، في كل منحى، أين ما اتجهت تجد ما يدفعك إلى المعصية.
فإما أن تصدق مع الله وتستقيم مع الله بصدق، وإما أن تنحرف انحرافاً -ولا حول ولا قوة إلا بالله! - وتكون الهاوية إلى مثل هذه الفواحش والآثام.(146/21)
الاستهزاء بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
في مجالسنا مجالس الشباب، البعض منا يتحدث عن رجال الهيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حديث العداء، وتصيد العيوب، فهلَّا تحدثتم عن حقوقهم، وعن موقفنا من هؤلاء الذين يتحدثون عنهم؟
الجواب
والله يا إخوان! الكلام عن رجال الهيئة كلام طويل جداً جداً، وحسبنا من هؤلاء الشباب أنهم يقومون بعمل حساس وخطير جداً جداً، والواحد منهم تلقى راتبه ألفاً وسبعمائة ريال، أو ألف وثمانمائة ريال، يعني: مداهمة بيوت، مداهمة أماكن دعارة، مداهمة مخدرات، مداهمة فواحش، وربما يقبضون على شخص في سيارة مع بنت في خلوة محرمة وهلم جراً.
فهؤلاء الذين يتعبون أخيراً لا يجدون منا حتى ولو كلمة شكر، حتى ولو كلمة دعاء، ربما الواحد منهم يخطئ، أنا لا أقول لك أن رجال الهيئة كلهم ملائكة لكن هناك سؤال: إذا أخطأ واحد من رجال المرور، نستغني عن رجال المرور كلهم؟ لا.
ليس بصحيح، وإذا أخطأ طبيب من الأطباء هل نغلق المستشفيات، ونستغني عن الطب؟ لا.
وإذا أخطأ رجل من رجال الشرطة هل نستغني عن الأمن العام؟ لا.
كذلك لو أخطأ أحد رجال الهيئة، -مثلاً وجدلاً- لو أخطأ، لا يعني ذلك أن نجعل الكلام في الهيئات، والله إذا رأيت رجلاً (مطوعاً) أخذ له واحداً مسكيناً وصنع به وفعل، وتلقى القصة كلها (أرانب وحوت) من أولها إلى آخرها، أي: نصب في نصب، فلا تصدقوا، وهذا خطر -يا إخوان- قد يقودك الكلام هذا إلى السخرية والاستهزاء برجال الهيئة والأمر خطير جداً.(146/22)
التشبه بالكفار في قصات الشعر وغير ذلك
السؤال
يا شيخ! سعد إني أحبك في الله، ماذا تقول في الشباب الذين يعملون تسريحات الشعر، ويتشبهون بغير المسلمين خاصة بأنهم كثروا بعد أحداث الخليج؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه.
يا أحبابي ويا إخواني! الرجل لا يمدح بشعره، ولا يمدح بلونه، ولا يمدح بطوله، أو بقصره.
ترى الرجل النحيل فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ هصور
ويؤسفنا جداً أن نقول: إن الشاب الذي يبالغ أو يعتني بتسريحة الشعر، قصة الأسد، أو قصة حرب الخليج، أو قصة عاصفة الصحراء، أو قصة مادونا، هذه الحقيقة ما هي رجولة إطلاقاً، والشاب فخره برجولته، فعيب على رجل فضله الله {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ} [النساء:34] {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36]، يكرمه الله جل وعلا، ثم يحاول أن يقلد قَصَّةَ شعر، أنا من مدة رأيت قِصة عجيبة: شخص رأسه محلوق، بصفة دائرية، وأذكر أني رأيت في المنطقة الشرقية، في قاعة الظهران أمريكياً فعلاً رأسه كأنه مكنسة، فنتيجة أيام بسيطة جاءنا شيء غريب على مجتمعنا قلدناه بهذه السرعة! أين الأصالة؟ أين العقل؟ وللأسف أذكر من مدة في الكلية كنت أدرس، وفجأة صارت القاعة كلها أكوات مكوتة، فإذا القضية تقليد إيطالي نُقل إلى أمريكا، وجاءنا من أمريكا فوراً، أي: عندنا استعداد للتقليد عجيب جداً! خرج في أمريكا موستنج مكشوف لقيته) عندنا (موستنج) مكشوف، وهلم جراً، أي: عندنا حب للتقليد عجيب! وبالمناسبة: صفة التقليد والترداد هي صفة القرود والببغاوات، فالإنسان يتصف بالاستقلالية والرجولة ويفتخر بهذا.
كنا مرة في أحد الفنادق في جدة مع أحد الأصدقاء، فنزلنا المطبخ -وليس عيباً إذا كان الإنسان محتشماً- فجاءنا (الجرسون) وأعطانا ملفاً وكتاباً، ففكرت أنه يريد أن يسجل عندنا في الكلية، وإذا فيه أسماء الأطعمة.
المهم أتى بالأكل، أنا قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، ومددت يدي أريد أن آكل، فقال شخص: حسبك يا أبا عبد الله لا تفشلنا.
فقلت: خيراً ماذا فعلت أنا؟ توقعت أني أخطأت، قال: يا أخي! انظر الملعقة والشوكة أمامك فكل بها، قلت: تريدني أن ألاحق هذه الزيتونة، ألأن القوم يأكلون بالشوكة والملعقة، فلابد أن آكل مثلهم! يا أخي! أنت رجل فضلك الله بعقيدتك، شرفك الله بدينك، شرفك الله بإسلامك، لماذا تقلد؟ لست ملزماً بالتقليد (كل بيمينك وكل مما يليك) لا أقول لكم: الأكل بالشوكة والملعقة حرام، لا.
لكن أنا آكل بالشوكة والملعقة من أجل أن أقلد، أو أستحي أن آكل بيميني، لا والله، بل أتشرف.
قال أحد العلماء، وكان في بريطانيا، فقال الجرسون: لماذا تأكل يا أستاذ -أو يا شيخ- بيدك، وهذه ملاعق منظفة؟، فقال له: كم تنظفون الملعقة يومياً؟، قال: ننظفها يومياً مرة واحدة ونقدمها، قال: وكم يأكل فيها من زبون؟ قال: كل زبون يأتي يأكل وننظفها بعده، قال: وأنت كم تغسل وجهك في كم؟ إذا قمت الصباح، قال: أنا أتوضأ يومياً خمس مرات، يدي ووجهي وجسمي ورجلي، ورجلي أنظف من وجهك، وأنظف من ملعقتك، نعم.
صحيح يا إخوان، المسلم فضله الله، لكن قضية الانهزام والهوان الذي جعل الكثير من الناس يستحون بالدين.
إن الدين عز، والدين شرف، هل يفتخر الذي يحفظ عشرين أغنية؟ أو يفتخر الذي يقلد الناس في كل ما فعلوا وأتوا؟ هذا أمر عجيب! حتى الأطفال الصغار عندنا، مرة ذهبت ألقي محاضرة في المتوسطة، هناك شباب صغار تعطيهم من هذه القصص لعل الله أن يهديهم، وإذا بي ألقى كلهم هكذا، ما هذه يا شباب؟ قالوا: (بنت البكار) الله أكبر! ما هذا الانهزام؟ ما هذا التقليد؟ والسبب لأننا لم نتعود أن نفتخر بعاداتنا، وقبل ذلك بديننا وعقيدتنا وقيمنا وتقاليدنا، الإنسان يفتخر بما عنده، بل بالعكس تجد كل من سواك في عاداته الهابطة سخيفاً وتافهاً، وأنت الشريف العزيز بدين الله جل وعلا.(146/23)
شباب لا يحجون رغم استطاعتهم ذلك
السؤال
بمناسبة قرب موسم الحج، يقول: ما رأيك ببعض الشباب الذين عندهم استطاعة بكامل معاني هذه الاستطاعة، ولكنهم تكاسلوا في أداء هذا الركن بحجة أنه سوف يحج إذا تزوج، أو إذا صار مستقيماً، أو أو إلى آخره؟
الجواب
تسويف الشاب للحج وتأخيره للحج مع استطاعته عليه خطر، فقد قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [لقد هممت أن أنظر في هذه الأمصار، فمن له جدةٌ ولم يحج أن أضرب عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين] وفي الحديث الموقوف عن علي: (إن من مات ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً، أو نصرانياً) من استطاع الحج، ومات ولم يحج، فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً، قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97].
والواحد منا يستطيع، فيا شباب! بادروا بالحج، وليكن حج عبادة، ليس بحج استهتار، نؤذي هذا، وتتفرج على هذا، وانظر هذا لا يعرف كيف يرجم، وهذا يوقع في الحوض، لا.
بل اجعله حج عبادة، وعبادة نسك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن الله فرض عليكم الحج فحجوا، قال أحد الصحابة: يا رسول الله! أفي كل عام؟ قال: لو قلت نعم، لوجبت، الحج مرة، وما زاد فهو نافلة).
فمن لم يحج، فعليه أن يبادر بالحج، وأنصحكم إذا كان الإنسان يعرف حملة من الحجاج فيهم عالم، أو طلبة علم، أو دعاة إلى الله أن يحج معهم، ففي هذا خير عظيم بإذن الله جل وعلا.(146/24)
قصة السامري والابتلاء بها
السؤال
أحد الإخوة أعطاني سؤالاً يقول: أعرف شاباً مبتلى بالسامري، ويقول: هي طبول، وأرجو توجيه كلمة إلى هذا الشاب؟
الجواب
يا إخوان! الذين عرفناهم ابتلوا بالسامري، ففي الحقيقة البلوى به خطيرة جداً جداً، من ناحية أن الإنسان يحفظ القصائد السامري دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلو تقول له: اقرأ علينا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] لا يعرفها، سمع علينا {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] لا يعرفها، لكن (يا حمام على الغابة ينوحي) يأخذها، هذه والله مصيبة، أن يحفظ من القصائد والأغاني الشيء الكثير، فإذا جاء ما يهمه من أمر دينه، غفل عنه، ثم إن هذا مدعاة ومشغلة في ترك الصلاة، وعدم الاهتمام بها، والوقوع في المعاصي، ومجالسة من لا يُسر الإنسان مجالسته، فأسأل الله أن يُعافيهم من هذا الابتلاء.
وهذا الكتيب الذي يوزع لكم، أحد أحبابكم وإخوانكم في الله طلب مني أن أهديه لكل واحد منكم، وعفواً لو تقدمت للأستاذ بهذا، وأيضاً هناك شريط قال: ما دمت تذهب إلى المعهد المهني، فأرسل معك رسالة إلى شباب المعهد لكل طالب من الطلاب وهو كتيب بعنوان: للشباب فقط، وشريط بعنوان: (الشباب والتجدد) أنصحكم بقراءة الكتاب قراءة جيدة، وسماع الشريط لعل الله جل وعلا أن ينفعكم به.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن يكون سبباً في هدايتنا وإياكم إلى طاعته وترك معصيته.(146/25)
أيها الشاب! حاول وأنت الحكم [الحلقة الثانية]
في هذه المحاضرة نداء للشباب المسلم بأن يعود إلى الله، وتحذيره من التسويف بالتوبة، وبين أن كل شاب فيه خير أصيل منذ خلقه الله، فما عليه إلا الانقياد لأوامر الله، والبحث عن الطهر والعفاف.
وحذَّر كذلك من مبدأ من ضلوا سواء السبيل وكفروا بالله، وحثَّ على التبرؤ منهم، كما أنك تجد بياناً لما قد يصيب الشاب المسلم من ضعف وهزيمه تجاه تشويه التدين، حتى إن بعضهم قد يقع في أوحال المعاصي.(147/1)
دقيقة تمضي في ذكر الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أيها الأحبة: إنني في مقدمة هذا اللقاء أقول: لعل أحبابنا اختاروا عنواناً وهو سابقٌ لمسمىً سلف: أيها الشاب! حاول وأنت الحكم محاضرة كانت في المعهد المهني لفئةٍ يقتضي الخطاب توجيه الحديث إليها على النحو الذي سمعتموه، ولعل من بين أحبابنا وشبابنا من يحتاج إلى تكرار الخطاب بلغة أخرى، وعبارة مختلفة، وفكرة متجددة، وما القصد إلا ابتغاء وجه الله جل وعلا، وما الغاية إلا الدعوة إليه بالحسنى، فنسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم السداد في القول والإخلاص في العمل، أسأله جل وعلا ألا يفتنا، وألا يفتن بنا، وألا يجعلنا وإياكم فتنةً للظالمين.
أيها الشاب! أيها الأخ الحبيب! من منطلق الحرص أتحدث إليك، والله من منطلق النصيحة أتكلم بين يديك، كلاماً من القلب خالصاً عساه يصل إلى قلبك مخلصاً، وإياك واحذر أن تجعل بيني وبين قلبك شهوات تحول، أو شيطان يشكك، أو ريبة تتردد، فحينئذٍ يحال بينك وبين الموعظة والنصيحة.
أيها الشاب! قد أقسو عليك في هذه العبارة، وما قسوت إلا حباً لك.
قسا ليزدجروا ومن يكُ راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
وقد أعاتبك وتعاتبني
لعل عتبك محمود عواقبه فربما صحت الأبدان بالعلل
أيها الشاب: إنها دقائق ستمضي هذا اليوم من عمري وعمرك، وتذكر أنا وإياك في هذا المسجد أننا سنمضي ساعةً، أو ما يزيد على الساعة، وتأمل أن غيرك من الشباب بعضهم يداعب أوتار عوده، والآخر يطبل على جلد طبلته، والثالث يترنم على أنغام موسيقاه، والرابع يقلب البصر في صورته، والخامس يردد النظر في شاشة فيها فيلم خليع، أو أمر رقيع، أو شيء لا يليق إنها ساعة مضت عليك في هذا المسجد، ومضت على غيرك سواءً على رصيف، أو في غرفة، أو في غفلة، أو في سر أو علانية.
وإني في بداية هذا المحاضرة أدعوكم لكي نسكت دقيقةً واحدةً على سبيل المثال، وأريد من كل واحد منكم أن يذكر الله خلال هذه الدقيقة، وسأبدؤها موقتاً هذه الساعة من الآن لكي نذكر الله سبحانه وتعالى، فاذكروه سبحانه لكي نصل إلى نتيجة معينة.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافيةً، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، لا إله إلا أنت، سبحان الله عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
أيها الأحبة: انتهت هذه الدقيقة، وقصدت بذلك ضرب المثال أن هذه الدقيقة سجلت علينا وعليكم، وكتبت لنا ولكم، وسطرت بين أيدينا وبين أيديكم بإذن الله ومنه وفضله ومشيئته ورحمته في موازين أعمال صالحة، وفي كفة حسنات، ولقد مرت هذه الدقيقة على قوم يغتابون، أو قوم يزنون، أو قوم يسرقون، أو على اللهو يتفرجون، أو إلى الباطل ينظرون، أو إلى الغناء والخنا يستمعون، هكذا العمر أيامٌ وساعاتٌ ودقائقٌ وثوان، فإنها دقيقةٌ أودعتها كنزاً من عمل صالح؛ من تسبيح وتهليل وتذكر، ثم مضت وكتبتها الملائكة الكرام الكاتبون، وأودعتها، وستجدها وتلقاها: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وسيلقى الغافلون في تلك الدقيقة التي صمتنا فيها ذاكرين، سيلقون ما كانوا يعملون، وسيجزون ما كانوا يكسبون.(147/2)
الخير في الأمة أصيل
أيها الأحبة: أيها الشباب! اعلم أن الخير فينا وفيك أصيل، اعلم أنك خلقت على الحنيفية السمحة، وفطرت على الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه)، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (قال الله عز وجل: خلقت عبادي كلهم حنفاءً، فاجتالتهم الشياطين).
أيها الشاب: خلقت مفطوراً على الإسلام، خلقت حنيفاً مكرماً طيباً صالحاً، ولكن ما الذي أغواك؟ وما الذي أهواك؟ وما الذي أضلك؟ وما الذي غيرك؟ ما الذي سخر سمعك وبصرك وأذنك للحرام؟ ما الذي جعل رجلك تمشي إلى الحرام، ويدك تقبض وتبطش بالحرام؟ أيها الشاب: في بداية هذا اللقاء أقول: إني -والله- سعيد بالحديث إليك، عسى أن تكون هذه المحاضرة سبباً في الاتصال الدائم بيننا على هداية وتوبة، ولعلها أن تكون ليلة تاريخية بها فرقت بين الحق والباطل، واتجهت من الضلالة إلى الهدى، ومن الزيغ إلى الاستقامة، ومن الانحراف إلى الهداية، لعلها أن تكون ليلةً طلقت فيها كل ما يغضب الله وكل ما خالفت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون بداية لترتفع بنفسك ولتسمو بأخلاقك، ولتزهو بإيمانك لتشرف فيما فضلك الله به، واحذر أن تكون ممن اتبع خطوات الشيطان، فضل وأضل، ونأى عن سواء السبيل.
أخي الحبيب: أيها الشاب! ما هي أمنيتك؟ وما هي أهدافك؟ وما هي غاياتك؟ هل لك هدف في حياتك، أم أنك من الذين يسيرون في الدنيا بلا هدف؟ هل لك غايةٌ في حياتك، أم من الذين يسعون في الحياة بلا غاية؟ هل لك طموحات؟ وهل لك آمال؟ وهل لك مشاعر بها تفكر؟ وهل لك عقل به تتدبر؟ أم أنت خالٍ من هذا كله؟ إن الذي يسير في هذه الحياة بلا غاية، وبلا أمنية، وبلا هدف؛ فهو كالبهيمة التي تأكل وتعلف، وتشرب وتخرج، ولا تدري متى تنحر، أما العاقل الذي ميزه الله بعقل، وكرمه الله بحجىً ولب، فهو ذلك الذي يخطط لحياته، وينظر إلى غاية ويسعى إليها.(147/3)
إلى متى الغفلة والإعراص عن الله
فيا أيها الشاب: إلى متى الغفلة؟ وإلى متى البعد؟ وإلى متى الإعراض عن طاعة الله؟ أتأبى أن تكون من المهتدين؟ أترفض أن تكون من الصالحين؟ أتمانع أن تكون من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ أتصر على أن تكون من الغافلين؟ أتصر على أن تكون من الغاوين؟ أتكابر حتى تبقى ظالماً لنفسك؟ أتكابر حتى تبقى على صراط من الشيطان قد زين به شهوة، وذلل به غواية، ونأى بك عن هداية؟ أخي الحبيب: أتريد أن تكون من أهل الجنة أم تأبى؟ قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).(147/4)
من ربح الله فماذا خسر؟ ومن خسر الله فماذا ربح؟
أيها الشاب: اعلم أنك إما رابحٌ أو خاسرٌ، وإما تاجرٌ أو فقيرٌ، وإما عزيزٌ أو حقيرٌ، وإما قويٌ أو ضعيفٌ، وإما متمكنٌ أو ذليلٌ، فإن حصلت لك طاعة الله ورضي الله عنك، وتاب عليك، وسجلت ملائكته عنك في صحيفتك أعمالاً صالحةً؛ فاعلم أنك من التجار ومن الأثرياء والأكابر والعظماء إذا خسرت الدنيا بكل ما فيها، وفزت بطاعة الله، ونلت رضى الله، فأنت من الفائزين، ومن الأثرياء الرابحين، وإن حصلت لك الدنيا بكل ما فيها وما عليها، وخسرت الآخرة، فأنت مغبونٌ، ومعاذ الله أن تكون من المغضوب عليهم أو الضالين! أيها الشاب: اعلم أن كل من تزخرفت له دنياه، وزانت له حياته، وتذللت له سبل الرفاهية، مهما كان في أنعم عيش وأرق فراش وأطيب طعام وألذ شراب، إن كان طول حياته منذ أن ولد إلى أن يموت على هذه الحياة المنعمة المدللة، فليعلم أن ذلك كله لا يساوي لحظة يجابه ويواجه ويقابل فيها ملائكة الموت يوم تحل به، وتقبض روحه، ويوم يعيش أول ليلة في قبره، ويوم يغمس غمسة إما في جنة وإما في نار.
قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مرَّ بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغةً، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدةً قط).
تأمل -أيها الشاب- هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله، أن من عاش الدنيا كلها في لذة، ولكن ثانية من العذاب تنسيه كل لذات الدنيا، وأن من عاش الدنيا في فقر ونكد وضنك في حياته ومعيشته، ثم ذاق ثانية من نعيم في الجنة، فإن هذه الثانية تنسيه كل البلايا والمصائب وكل الشدة والنصب.
ما ضرَّ من كانت الفردوس مسكنه ماذا تجرع من بوسٍ وإقتارِ
تراه يمشي كئيباً خائفاً وجلاً إلى المساجد يمشي بين أطمارِ
يا نفس مالك من صبرٍ على النار قد حان أن تقبلي من بعد إدبار
أيها الشاب: إلى متى تظل أسيراً في يد عدوك يسوقك إلى الهزيمة والخسارة كيفما شاء؟ أيها الشاب هل ترضى أن تعيش كبهيمة تأكل وتشرب وتنكح بدون هدف في هذه الحياة؟ إلى متى -يا أخي الحبيب- والشهوة تسوقك، والشيطان يقودك، والأغنية تنسيك، والصورة تؤجج شهوتك، وتشعل غرائزك؟ أخي الحبيب: تخيل نفسك وقد فاز الفائزون، ونجح الناجحون، وسبق السابقون، وتخيل نفسك وأنت ترى أنه قد هلك الهالكون، وسقط الساقطون، ورسب الراسبون، وخسر المبطلون، فيومئذٍ مع من ستكون؟!(147/5)
نعم الله عليك لا تسخرها في معصيته جل وعلا
أيها الشاب: إن نعم الله عليك تترى، والله لو كنت أعمى ما عصيت الله بنظر في حرام، ولو كنت أصماً لا تسمع ما عصيت الله بسمعٍ في حرام، ولو كنت مشلولاً ما مشيت على رجليك خطوة إلى حرام، ولو كنت معوقاً ما مددت يدك لتقبض حراماً، أو لتبذل حراماً.
أيها الشاب: من الذي آتاك السمع؟ ومن الذي خلق فيك البصر؟ ومن الذي جعل لك الفؤاد؟ {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك:23 - 24] إليه ستردون وستعودون، وسيحاسبكم على ما أنعم عليكم: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36].
أيها الشاب: أخُلق فيك السمع والبصر والفؤاد والجوارح من أجل أن تجعلها في لذات حرمها الله، أو شهوات منعها الله سبحانه وتعالى؟! لا، والله ستسأل عن هذا كله {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36]، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].(147/6)
أيها الشاب! أما آن لك أن ترجع
أيها الشاب: هل تحررت من قيود الشهوة، وعبودية الغفلة، فهل تقولها صريحة؟ من منا أيها الشباب يعلنها صريحة لوجه الله، لا خوفاً من شرطي أو بوليس، ولا خوفاً من سلطان، ولا خوفاً من كبير أو صغير، نعم إن الشباب قد يتحدى كل قوة، ويصارع كل قوة، ويعاند كل قوة، ولكن قوة الشباب إذا نظر بها إلى عظمة الله وقوته وجبروته وملكوته، وما ينبغي لوجه الله وجلاله، وإكرامه وخشيته، فإن الشاب يعلنها صريحة إذا كان له في الإيمان حظ، وفي الهداية نصيب فهل تتحرر من قيود شهوتك؟ وهل تتخلص من أسر جلسائك؟ فهل تعلنها صريحة، فتقول: كل باطل ولهو وغفلة وشهوة ومعصية وموبقة حرام، كلها عدو لي إلا رب العالمين، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 - 82]؟ أتقولها بجرأة؟ أتقولها بقوة؟ أتعلنها بصراحة؟ {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
أيها الشاب: اعلم أن نعمة الله عليك في الإسلام عظيمة، ولو شاء الله لكنت هندوسياً ممن يتعبدون للأصنام والأوثان، أو بوذياً ممن يتقلب تحت أذناب ورجل بوذا، أو كنت مجوسياً، أو صابئياً ممن يعبدون الشمس والكواكب، أو كنت نصرانياً ممن يقول: إن الله ثالث ثلاثة، أو كنت يهودياً ممن لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لو شاء الله لكنت واحداً من أولئك، لقد منَّ الله عليك بالإسلام، فكيف ترضى أن تجعل الإسلام خلفك ظهرياً؟! لقد منَّ الله عليك بالإيمان، فكيف تترك الصراط وتبتعد عنه بعيداً؟ لقد منَّ الله عليك بالإسلام، فهل تكون من جنود هذا الدين، أم تكون من جنود أعداء دينك؟(147/7)
اكفر بمبدأ من قال: لست أدري
أيها الشاب: إذا كنت تسير إلى غاية، وتعرف هدفك في الحياة، فتقول: أنا لله وبالله، وإلى الله وعلى الله ولله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن كنت ممن اتبع هواه، وركن إلى نفسه، وغره الغارون، ومدحه في معصيته المادحون، فهو ممن يسير في الدنيا ويجهل غايته، بل يجهل بدايته ونهايته.
لقد ضل ضال من الضلال، وقالها واحد من الحائرين، قال مسكيناً جاهلاً تافهاً في فكره وقوله، قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري
ولماذا لست أدري؟ لست أدري
إن الذين أعرضوا عن الدين يعيشون بمثل هذا المنطق لا يدرون فيما يعيشون، ولم يعيشون، وكيف يعيشون، وإلى أي غاية يسيرون، وإلى أي هدف يسعون، أولئك أقوامٌ مبدؤهم لست أدري، وغايتهم لست أدري.
والكلام في هذه المحاضرة ليس للشاب وحده، بل للشاب والشابة، للذكر والأنثى، للرجل والمرأة، للفتى والفتاة يقول أحد الضلال الذين أدبروا عن الإسلام، وجعلوا الإسلام خلفهم ظهرياً، يقول:
أجديد أم قديمٌ أنا في هذا الوجود
هل أنا حرٌ طليقٌ، أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري.
نعم عندما بعد عن طاعة الله، وعن كلام الله وسنة رسول الله، فهو لا يدري، وسوف تقف عليه الملائكة في قبره، ويأتيه ملكان عظيمان، فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟، فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بمطرقة من حديد يصرخ بعدها صرخة يسمعه كل من على الأرض إلا الثقلين هذا الجاهل وهذا الضال الذي استدبر الهدف، وولى بعيداً عن طريق الهداية، يتكلم عن طريقه فيقول:
وطريقي ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور؟
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟
أم كلانا واقف والدهر يجري؟ لست أدري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياةٌ فخلودٌ أمم فناءٌ فدثور؟
أكلام الناس صدقٌ أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري لست أدري
نعم عندما أعرض عن الله، وعن كلام الله، وأعرض عن مجالس يذكر فيها الله، وأعرض عن حلق يتلى فيها كلام الله، بات لا يدري، وسيظل لا يدري، وربما خرج من الوجود وهو لا يدري.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
أيها الشاب: إن كنت مسلماً فتبرأ من هذا الذي قال: لست أدري، وقل: بلى أدري {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] بلى أدري {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، بلى أدري {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30]، بلى أدري أن الله سيضع الموازين {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، قل: بلى أدري {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]، قل: بلى أدري، وستدري وتعلم إذا أنت استفدت من عقلك، واستفدت من سمعك وبصرك، أما إن كنت من الذي قال الله عنهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، معاذ الله، ونعوذ بالله أن نكون منهم {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
لهم أبصار تبصر بدرجة ستة على ستة من قوة ودقة الإبصار، لكنها رأت صورة خليعة، وفتنة عظيمة، ومجلة رقيعة، وشهوة محرمة لكنها ما رأت ملكوت السماوات والأرض، ما تدبرت في خلق الله، ترى شيئاً من البنيان فتتعجب، وما تتعجب وتتفكر من سماء رفعها الله بغير عمد تجد أمتاراً قد حفرت في الأرض فتتعجب، ولكنها لا تعجب من جبال ينسفها الله يوم القيامة، فيذرها قاعاً صفصفاً، لا تتعجب من جبال لو سخرت فيها جيوش الدنيا ما حركتها من مواقعها، ولكنها بأمر من الله وبكلمة (كن) من الله جل وعلا، يجعلها الله كالعهن المنفوش، يجعلها الله هباءً منثوراً، يجعلها الله تمشي وتسير {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
أيها الشاب: إن كنت صادقاً فإياك أن تقول: لا أدري، ولن أدري، وسأظل لا أدري، ولكن قل: دريت وعلمت، واستقمت وسمعت وأطعت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة:104]، أطيعوا الله جل وعلا.(147/8)
الشباب ثلاثة أقسام
أيها الشاب: من أي أقسام الشباب أنت؟ إن هناك أصنافاً وأقساماً وأنواعاً من الشباب فمن الشباب من طموحه سيارة فخمة، ومنهم من طموحه شهوة عارضة، ومنهم من طموحه قطعة من أرض، ومنهم من طموحه زوجة جميلة، ومنهم من تتعدى طموحاته إلى أمر عجيب؛ لأن همته عالية، ولأن أمانيه عالية جداً، فمن الشباب من يطمح أن يرى عزة الإسلام، ونصر المسلمين، ومنهم من يطمح أن يكون داعيةً، أو عالماً، أو مجاهداً، تأمل هذين المثلين! تأمل فرقاً بين الهداية والغواية، بين الغاية والنهاية، شابٌ يقتل شهيداً في سبيل الله، والآخر يقتل قد طبق عليه حد الحرابة، أو حد القصاص، أو حدٌ لجريمة أو فاحشة، أو أمر من الأمور الخطيرة العظيمة، إن النهاية واحدة هي القتل، لكن هذا قتل شهيداً في سبيل الله، وذلك قتل قصاصاً من ظلم ارتكبه إن ذاك قتل لكي يغفر له عند أول قطرة من دمه، وأما ذاك فقتل في حال ليكون عبرة للمعتبرين إن هذا قتل ورأى مقعده من الجنة، وشفع في سبعين من أهل بيته، وأمن فتنة القبر ومنكر ونكير، وهولاً عظيماً، والآخر قتل وما كان قتله إلا في نهاية مرحلة طويلة من الشهوات والسيئات والمعاصي والمنكرات، وكم طرق أذنه من المواعظ والنصائح، ولكن كان عنها بعيداً.
أيها الشاب: من أي أقسام الشباب أنت؟ شابٌ يسهر الليل يتقلب على فراشه أسفاً وحزناً لواقع الأمة الإسلامية، التي أصبحت تئن تحت مطارق أعداء المسلمين؛ من صرب ومجوس وهندوس وملاحدة، ومن يهود ونصارى، وشابٌ تترقرق دموعه على خده؛ لأن حبيبته هجرته وما كلمته شابٌ يسهر يفكر في أمر الإسلام والمسلمين، وآخر يسهر ينتظر مكالمة من عشيقته شابٌ يسهر يفكر كيف يخدم دينه، وآخر يسهر ينتظر شهوةً محرمةً شابٌ يسهر يفكر كيف يعتق نفسه من عذاب الله، تجده سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، وأما الآخر، فقد أوبق نفسه {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10]، وقد أذلها وأغواها بكثير من المعاصي تأمل شاباً تنفرج أسارير وجهه، وتبرق ملامح وجهه فرحاً وغبطةً وأنساً وتكبيراً وتهليلاً يوم أن انتصر الإسلام في موقعة من المواقع، أو أسلم كافرٌ من الكفار، أو اهتدى ضالٌ من الضلال، أو عاد إلى الحق وقد كان بعيداً عنه، أو رجع إلى الصلاة من هجر المسجد، أو عاد إلى البر والصلة من ارتكب القطيعة والعقوق، وآخر تجد أساريره تنفرج لأن فريقاً هزم فريقاً، وتجده يتهلل ويلتفت، وربما أتبع ذلك نعيقاً وصياحاً وصراخاً؛ لأن فريقاً هزم فريقاً فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللاً! شباب يسافرون، فمنهم من يدعو إلى الله، ومنهم من يسير في سبيل الله، ومنهم من يسعى لحج بيت الله، ومنهم من يشد الرحال إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر يسافر ليرى غانية أو باغية، أو كأساً من خمر، أو سيجارة من حشيش، أو شيئاًَ من عقاقير المخدرات، فشتان بين هذا وهذا.
تأمل -أيها الشاب- أن هناك فرقاً بين من إذا ذكر أثنت عليه المجالس، وحمدت مناقبه، ودعت له بظهر الغيب، وتمنى القوم أن يكون أبناؤهم مثله، وبين شاب إذا ذكر لم يذكر عند اسمه إلا العصيان والتمرد والغفلة والجريمة، فأي الفريقين أحق بالأمن من هؤلاء؟ ومن أي الشباب أنت؟ هل أنت ممن يحمد أو يذم؟ وهل أنت ممن يحمد على أمر، أم يذم على فاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! أيها الشاب: تأمل هذا الفرق وأنت الحكم بين الفريقين، فأما من سخط الله عليه فكل شيء عنده سبب في شقائه سيارته أشرطته ماله وعلاقاته، وكل ما عنده سببٌ في شقائه، وأما شابٌ آخر، فلو حرم كل شيء فلن يعجز أن يجد ما يصل به إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، نعم، هؤلاء شباب الأمة {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف:168] صنفٌ تراهم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وآخرون في المنتزهات، وآخرون يتسكعون في الطرقات، وآخرون في أماكن اللهو، وآخرون يعيشون حياة الضياع.
أيها الإخوة: عودٌ على بدء والعود أحمد فإذا تأملت أحوال الشباب بخلاصة ما ذكرت لك، فتجدهم إما شابٌ مستقيم، وإما شابٌ منحرف، أو شابٌ متحيرٌ بين بين.
فيا أخي الكريم: إياك أن تكون من المنحرفين، وإن كنت من المتذبذبين فعد، وإن كنت من المترددين فاجزم على الحق، وإن كنت من المستقيمين فاثبت.(147/9)
شاب مستقيم
أما الشاب المستقيم فهو مؤمن بكل معنى الإيمان، مؤمن بإيمانه، فخورٌ بدينه، مغتبطٌ بإيمانه، يرى أن الظفر بالإسلام، والحرمان هو البعد عن هذا الدين، يعبد ربه وحده لا شريك له، تجده يفتخر أن يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، لم يقلد كافراً، ولم يفتخر أن كان قريباً من ضال من الضلال يقيم الصلاة ويرجو رحمة ربه يجني الفوائد والمصالح، وينفع مجتمعه يصوم شهره، ويؤدي فريضته يسافر حتى ولو بعدت الشقة لأجل الله ومرضاته، فذاك شابٌ مؤمنٌ بخالقه رب السماوات والأرض، مؤمنٌ بأركان الإيمان كلها، يدين بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، يدعو إلى ربه على بصيرة، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يحب الخير للمسلمين، ويشعر بمسئولية عظيمة.
قد هيئوك لأمرٍ إن فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
تجد هذا الشاب المؤمن مجاهداً في سبيل الله، وحريصاً على دين الله أخلاقه مهذبة، لين الجانب، رحب الصدر، كريم النفس، طيب القلب، هذا الشاب مفخرة الأمة، ورمز حياتها وسعادتها، وهو الشاب الذي نسأل الله أن يصلح به ما فسد من أحوال المسلمين، وأن ينير به الطريق للسالكين.(147/10)
شاب منتكس ضال والعياذ بالله!
أما القسم الثاني من الشباب: فشابٌ مسكينٌ مسكينٌ مسكينٌ، ضعيفٌ في عقيدته، متهورٌ في سلوكه، مغرورٌ بنفسه، منغمرٌ في رذيلته، لا يقبل الحق من غيره، ولا يمتنع عن باطل في نفسه، أنانيٌ في تصرفاته، لا أثر في سلوكه، عنيدٌ، لا يلين للحق، ولا يقلع عن الباطل، لا تنفع فيه المواعظ، ولا ينزجر بالنصائح، لا يبالي بما ضيع من حق الله، أو حقوق الآدميين، فوضويٌ فاقد الاتزان في تفكيره وفي سلوكه، وفاقد الاتزان في جميع تصرفاته، معجبٌ برأيه، كأنما الحق على لسانه، وربما رأى أنه معصومٌ من الزلل، وأما غيره فعرضة للخطأ ما دام مخالفاً لما يراه فذاك شابٌ مسكينٌ ناكبٌ عن الصراط، ناكبٌ عن كل خلق حميد، ولكنه قد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسناً، فهو من الأخسرين أعمالاً: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ
فمثل هذا الشاب شؤمٌ على نفسه، ونكبةٌ على مجتمعه، وبليةٌ على أمته، يجر بيته ويجر من حوله إلى أسفل سافلين، ويحول بينهم وبين العزة والكرامة، مثل ذلك الشاب الذي أصر وكابر ومضى واستمر وعاند على المعصية جرثومةٌ وبيئة قتالة صعبة العلاج إلا أن يشاء الله، والله على كل شيء قدير.(147/11)
شاب بين الهداية والانتكاس
وأما القسم الثالث: وما أكثر أهل هذا القسم الثالث! وأكثر شباب أمتنا من هذا النوع، النوع الحائر المتردد على مفترق الطرق، عرف الحق واطمئن به، وعاش في مجتمع محافظ، إلا أنه انفتحت عليه أبواب الشر من كل جانب هناك من يشكك له في عقيدته، وآخر يدعوه إلى الانحراف في سلوكه، وثالث يدعوه إلى الفساد في عمله، وآخر يجرئه أن يخرج على المعروف من تقاليد وعادات أمته التي بها تتفاخر بكل حق وهدى، وجهات تدعوه إلى الباطل بتيارات متنوعة، فمثل هذا الشاب في دوامة فكرية ونفسية، وقف حيراناً أمام هذه التيارات، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا، ولكن حيرته جعلته لا يدري هل الحق بين يديه أم الحق خلفه؟ هل الحق فيما عنده أم الحق مما وصل إليه من هذه التيارات والمبادئ والمسالك؟ ومثل هذا الشاب الذي بقي متردداً نقول له: حاول وأنت الحكم، وعد وأنت القادر بإذن الله جل وعلا على أن تدفع الهوى والشهوة والغفلة، فمثل هؤلاء الشباب الذين ترددوا واحتاروا، ربما وجدت بعضهم سلبياً في حياته، يحتاج إلى من يدعوه، يحتاج إلى من يقوده، يحتاج إلى من ييسر له الطريق، يحتاج إلى من يأخذ بيده ويرمي له حبلاً لينقذه من لجج البحر وأمواجه العاصفة المتلاطمة.
أيها الشاب: هل تستسلم؟ أيها الشاب: هل تنسحب من الساحة؟ أيها الشاب: هل تسلم العرين لخصمك؟ أيها الشاب: هل تعلن أن الشيطان غلبك، وأن أعداءك صرعوك، وأن شهوتك سحقتك، وأن نفسك غلبتك، وأن كل صغير وكبير أقدر من إرادتك عليك؟ إنها أخبار وأمور تتردد حولك، فمنها ما تعلق بالوسوسة والشبهات التي تدور في رأسك.(147/12)
الوسوسة وخطرها على القلب والدين
نعم أيها الشاب! الشيطان يعرض عليك أموراً خبيثةً، بل ربما عرض عليك الشيطان أشياءً لا تتجرأ على النطق بها، بل تستحي أن تتلفظ بها، ربما قال لك الشيطان أموراً لو أطعته فيها لكنت مرتداً كافراً، ولا تجزع إن الشيطان يوسوس في صدور الناس أجمعين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس:1 - 5]، الناس أجمعين {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:6].
إنها وساوس وشبهات يقذفها الشيطان على بعض الشباب، فلو استسلم لربما كفر وارتد، وبضعهم يجعل هذه الشبهات والوساوس سبباً ومبرراً أن يمضي في تشككه وضلاله وانحرافه ومعصيته، ووالله لو أنه استعان بما استعان به الصحابة من ذكر الله جل وعلا، لوجد الله تواباً رحيماً، ولوجد أن الحق قريب إليه جداً.
إن كثيراً من الشباب يعانون من الوسوسة، إن كثيراً من الشباب يعانون من الشكوك، ليست شكوكاً في أمور يسيرة، بل في أمورٍ عظمية، بل إن الصحابة جاءهم الشيطان كما جاء إلى هذا الشاب، جاء نفر من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا رسول الله! إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به أن يراه عظيماً، فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتموه؟ -يعني: هل رأيتم ذلك؟ هل لقيتم ذلك؟ هل أحسستم بذلك؟ - قالوا: نعم.
قال: ذاك صريح الإيمان) رواه الإمام مسلم.
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك صريح الإيمان) أن الشيطان لم يستطع أن يضلكم، ولم يستطع أن يغويكم، ولم يستطع أن يجعلكم تتجرءوا أن تقولوا، أو تعترضوا، أو تعبدوا غير الله، وإنما قدر على هذه الوسوسة، فإن الإنسان ينبغي إذا مرت عليه مثل هذه الوساوس عليه أن يستعيذ بالله كما سيأتي، قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه-أي: إذا وصل الشيطان بالعبد إلى هذا الحد- فليستعذ بالله ولينته) رواه البخاري ومسلم، وفي حديث آخر: (فليقل: آمنت بالله ورسله).
أيها الشاب: إذا جاءك الشيطان وأخذ يشكك عليك ويقول لك: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ فلتنته عن مثل هذا، وقل: آمنت بالله ورسوله، وفي حديث أبي داود: (فقل: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]، ثم اتفل عن يسارك ثلاثاً، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فإن هذه السورة العظيمة، وهذه الاستعاذة المنيعة، وهذا الهدي كفيلٌ بأن يطرد الشيطان عنك.
إن الشيطان جاء إلى الصحابة قبلكم، ولن يتردد الشيطان أن يأتي إليك ليوسوس لك، فإذا بلغت هذا الأمر، فعليك أن تنتهي عن الوسوسة ولا تتمادى في التفكير، وعليك أن تتعوذ بالله.(147/13)
الفراغ داء قتال
أيها الشاب: ربما جاءك الشيطان في شهوتك في حركة جسمك، وعنفوان شبابك، وقوة حيويتك، فتجد نفسك معرضة للفتنة دائماً، الغريزة متحركة قي نفسك بشكل كبير ما الذي يدفعك إلى هذه الشهوات المسعورة؟ ومن الذي يدفع شهواتك إلى يقظة تجعلك تندفع إلى المعصية من دون خوفٍ أو مراقبة؟ إنه الفراغ أولاً، الفراغ داءٌ قتال، قتال للفكر والعقل، مهدر للطاقات الجسمية، فإذا كنت فارغاً حينئذٍ يتبلد فكرك، ويثخن عقلك، وتضعف حركة نفسك، وتستولي عليك الوساوس، وتتردى أفكارك، وتهيمن على قلبك، وربما انتقلت من الأفكار إلى التخيلات، وإلى التصورات خطوة خطوة، ثم بعد ذلك تمشي إلى هذه المعصية حتى تقع فيها.(147/14)
الاستمرار في المعصية يجعلها عادة
أيها الشاب: إن من وقع في المعصية لم يزن بأول امرأة قابلها في الطريق، وإن من شرب الخمر لم يشرب أول كأس رآه أول مرة، وإن من وقع في التدخين لم يشرب أول سيجارة من أول وهلة، وإن من وقع في الحرام لم يتعاط صفقة ربوية من أول وهلة، وإنما كانت قبل ذلك نتيجة فراغ عن علم فراغ عن تقى فراغ عن خشية فراغ عن مراقبة لله، فلما خلت النفس من ذلك كله؛ حلت أفكارٌ بالشهوة، وأفكارٌ بالغريزة، وأفكارٌ بالمعصية، ثم بدأ الخيال، جاء الشيطان إليك -أيها الشاب! - وقال لك: تخيل لو كنت كذا وكذا، لو كنت تفعل كذا وكذا، لو كنت تشرب كذا وكذا، لو كنت تبيت تلك الليلة مع كذا وكذا إنما هي خيالات تدور، ثم قادك الشيطان خطوة خطوة، وقال: لماذا لا تنظر ولو مرة واحدة؟ لماذا لا تتأمل ولو مرة واحدة؟ كما وقع كثيرٌ من الشباب الذين سافروا إلى الخارج، أو من وقع في الفساد في داخل بلاده أو خارجها، جاءه الشيطان وقال له: لماذا لا تنظر فقط بمجرد رؤية كيف يفعل أهل الباطل الباطل؟ كيف يفعل أهل الفاحشة الفاحشة؟ كيف يقع أهل الزنا في الزنا؟ كيف يقع أهل الخمر في الخمر؟ فقاده الشيطان خطوة خطوة، فما زاد عن أن أزاح الستر، وأخذ ينظر نظرة، ثم انصرف بعدها فوراً، ثم نظر أخرى، ثم ثالثةً، ثم قال: ما ضر لو دنوت، ثم مشى بعد ذلك، فقال: ما ضر لو لمست، ثم لمس بعد ذلك، فقال: ما ضر لو فعلت مرة واحدة ثم تبت، ثم فعلها، فقال: ما ضر لو فعلت ثانية ثم نجوت، ثم فعلها، ثم أدمن هذا الفعل، فأصبح-والعياذ بالله- قد كسر جدار الخشية، وهدم سور المراقبة، وأصبحت النفس هينةً عليه، والدليل على ذلك أن أول ما يقدم العبد على فاحشة أو معصية، تجد قلبه يخفق ويضرب ويرتجف ويتردد وفرائصه ترتعد؛ لأنها أول مرة يرتكب المعصية، لكن في المرة الثانية يكون جريئاً، وفي المرة الثالثة يكون متعوداً، حتى إن بعضهم أصبح الزنا بالنسبة له كأي مكالمة هاتفية يرد عليها، وبعضهم أصبح شرب الخمر كشرب الماء، وبعضهم أصبح تعاطي المخدرات كأي عقار من الدواء يتناوله؛ لأنه تمرس وتردد وأمعن في هذه الغواية، كانت في البداية أمراً يخافه، ويضطرب عنده، ويتردد عند فعله، وترتعد فرائصه حوله، وبعد ذلك أصبح أمراً -والعياذ بالله- عادياً.(147/15)
قصة تبين أن من استمر على شيء اعتاده
يقال: إن شاباً كان يراود فتاة عن نفسها، ويدعوها إلى الزنا، وأشغلها كثيراً، وربما كان قريباً لها، يتعرض لها في طريقها غاديةً رائحةً، يحوم حول مضارب أهلها، يقف عند خبائها وخباء أهلها، فقالت له: إن كنت لابد مصراً على ذلك فإني أطلب منك أن تتسول، وأن تظهر نفسك بمظهر الفقير الطرار المتسول الذي يسأل الناس أن يتصدقوا عليه.
فقال: أفعل، فوقف أول يوم، وأخذ يدور في الطرقات والمساجد، يتسول ويسأل الناس، ثم مر في اليوم الثاني، وربما اشترطت عليه أسابيع معينة، فقام في الأسبوع الأول يتردد بين الناس، وهو يتلثم تارةً، ويطأطئ رأسه خجلاً، ويهرب إذا رآه أحد، ويغير هيأته، ويريد ألا يُعرف، ويتمنى ألا يكشف، ولما جاء الأسبوع الثاني إذ به يقف بنوع أقدر من ذي قبل على السؤال، وعلى أن يسأل الناس الصدقة، وأن يرجوهم أن يتصدقوا عليه، فلما جاء الأسبوع الثالث إذ به يقف ولا يبالي، ولا يهتم بأحدٍ أبداً، فلما جاء إليها بعد نهاية الأسبوع الثالث، قال: هأنذا تسولت ثلاثة أسابيع من أجل أن أقع بك أو أفعل الفاحشة، فقالت له: وأنت تريد أن تفعل الفاحشة مرة أو مرات؟ قال: فقط أريدها مرة واحدة، فقالت: كيف وجدت نفسك وأنت تتسول؟ فقال: في الأسبوع الأول كنت أجد نفسي أتمنى أن تبتلعني الأرض ولا يراني أحد من شدة الخجل والوجل والخوف والحياء والحرج وعظيم ما أنا فيه، قالت: فكيف وجدت نفسك في الأسبوع الثاني؟ فقال: كنت أقل من ذلك، قالت: كيف وجدت نفسك في الأسبوع الثالث؟ قال: أصبحت أتسول كما لو كنت أعطي، أو كما لو كنت أفعل شيئاً عادياً، فقالت: إذاً فاعلم أن ما تريده مني سيكون أمراً صعباً في المرة الأولى، وسيكون أقل صعوبة في المرة الثانية، وستكون وأكون من الذين يقعون في الزنا والبغاء لا نتردد ولا نتورع عن ذلك ألبتة.
إذاً فإن البداية مهمة، ومن كانت له بداية محرقة، فإن له نهاية مشرقة.
أيها الأحبة: إن الفراغ أهاج على النفس أشياء كثيرة، حرك الشهوات من مكامنها، ودفع الخطرات إلى أن تتحرك إلى خطوات، ووقع كثير من الشباب في المعاصي والسيئات، فمن كانت معاصيه بسبب فراغه فالله الله عليه أن يملأ وقته بعمل نافع وسعيٍ مفيد، في علم، أو عمل، أو وظيفة، أو تجارة، أو حرفة.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدةٌ للمرء أي مفسدة(147/16)
من أسباب الوقوع في المعاصي البعد عن وجهاء القوم وشرفائهم
أيها الشاب: إن الجفاء والبعد بينك وبين أكابر القوم؛ من آباء وأجداد من ذويك وكبار قومك، وشرفاء عشيرتك، ربما كان سبباً أوقعك في كثير من المعاصي تأمل أولئك الذين يقعون في كثير من المعاصي والشهوات والمنكرات والسيئات؛ تجدهم بعيدين عن مكارم الأخلاق، بعيدين عن شرفاء القوم، بعيدين عن كبار السن، ولو أن الواحد منهم حاول أن يرفع نفسه، ليجعل مجالسه مع الكبار والوجهاء والعلماء والأصفياء والأتقياء والصالحين؛ لوجد في نفسه كرامةً لا يرضى بعدها أن يدنسها بهوان.
إن الإنسان السوي إن الشاب الذي لم تدنسه هذه المعاصي والسيئات، يجد نفسه شفافة، ويجد بياض قلبه أمراً يحرص عليه، يريد ألا تدنسه فاحشة، أما الذي تردد في مخالطة قرناء السوء، فهو كمن يقول: ثوبي كله أسود، أو بقعة سوداء، فلا يضرها ما لطخها، أما الذي يقول عن سيرته: إنها صفحة بيضاء، فإن أدنى قليل يلوثها ويشوهها.
إن الجفاء والبعد بين الشباب وبين كبار السن من وجهاء القوم الصالحين، وكبار العشيرة المؤمنين، والعلماء المتقين، والدعاة المخلصين والصالحين الذين أنعم الله عليهم؛ سبب في جعل الشباب يقعون في حضيض الفاحشة ومستوى الرذيلة، ومستنقع أوحال ما حرم الله جل وعلا.(147/17)
المرأة في الغرب كالمرحاض
يقول أحد مفكري المسلمين: إن الذين يزنون في بلاد الغرب، ويقعون في الفواحش والآثام هناك، يغترون بهذه المظاهر مظاهر النساء اللائي تجملن وتزين ولبسن، وجعلن هذه الأصباغ والمساحيق على أبدانهن ووجوههن، ثم يقول: وإن المرأة في تلك البلاد كالمراحيض -أي: كالحمامات- التي نصبت على قارعة الطريق، فربما رأيت هذه المراحيض والحمامات جميلةً في بلاطها، جميلةً في زخرفتها، جميلةً في قطعها الصحية، جميلةً في الخزف الذي أسست به، ولكن ما الذي يوضع في الحمامات؟ إن الذي يوضع فيها هو فضلات الإنسان، وأنجس ما في الإنسان، فمن دخل حماماً وإن كانت الجدران من الخزف، وإن كان البلاط من السيراميك الجميل، وإن كانت الغسالات مذهبة، وإن كانت المغاسل من الخزف الرائع، لكن حقيقة ما يوضع في الحمام هو البول والغائط -أجل الله بيته والسامعين والملائكة أجمعين- فمن ذا الذي يعجب بامرأة وإن أعجبه شكل ظاهرها؟ فمن ذا الذي يرضى أن يدنو منها وهو يعلم أنه سينزل عند بؤرة وموقع ومرحاض قد قضى فيه الغادون والرائحون حوائجهم؟ إن المرأة في المجتمع الغربي تلك التي أعجب بعض الشباب جمالها، أو مساحيقها، أو زينتها، هي وإن كانت جميلة الشكل، إلا أنها في الحقيقة كالمرحاض الذي تربع عليه كل من في بطنه أذى وغائط وبول، فأفرز وأخرج ما في بطنه من تلك القاذورات فيها، فمن الذي يرضى وأي نفس سوية ترضى أن تجعل الغائط حضناً لها، وترضى أن تجعل البول أنيساً وجليساً، وترضى أن تجعل النجاسة مستودعاً ومكاناً تطمئن إليه؟! أيها الشاب: عليك أن تنظر إلى فطرتك السوية، لو كانت الفطر سويةً لأنفت من أن تنزل في مستنقعات الأوحال.
يقول أحد الفنانين الذين تابوا إلى الله جل وعلا، وعادوا إلى الحق عوداً جميلاً، يقول عن نفسه: إني لأعجب كيف كنا نجلس مجالس تأنفها القطط والكلاب، ونمشي في أمور تأنف منها البهائم والحيوانات، يقول: لما منَّ الله علينا بالهداية، وأخذنا نتفكر في تلك الليالي التي قضيناها وسهرناها، كيف كنا نرضى لأنفسنا أن ندخل تلك الأماكن؟ وكيف نرضى لأنفسنا أن نفعل تلك الأفاعيل؟ وكيف نسمح لأنفسنا أن نطبق ونقترف ونباشر وندنو من تلك النجاسات والأوحال؟ إن الإنسان إذا انتكست فطرته - ولا حول ولا قوة إلا بالله! - أو حصل له فراغ ودس نفسه وأبعدها عن مواقع الكرامة، رضي بالرذيلة، وبالدون، وبالسفاهة، وبالاحتقار، والعجب -أيها الأحبة- أن الواحد لو خير في المراتب الإدارية بين الثانية والرابعة والعاشرة لاختار العاشرة، ولو خير في الطائرة بين السياحية والأفق والدرجة الأولى لاختار الأولى، ولو خير في أي أمر من الأمور لاختار أعلاه، فإذا جاء أمر كرامةٌ له في دينه، وذلةٌ له في شهوته، كيف يرتاح ويرضى ويطمئن أن يختار الذلة والهوان في شهوته؟! كيف يختار النجاسةَ والطهارةُ بين يديه؟! كيف يختار الهوانَ والكرامةُ أمام عينيه؟! كيف يختار اللؤم والخيانة والذلة والهوان وهو قادر أن يحصل الأمانة والعزة بإذن الله جل وعلا؟
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ(147/18)
البعد عن كرام القوم ينمي العداوة
أيها الشاب: إن بعدك عن كرام القوم هو الذي ربما جعل بعضهم ينظرون إليك نظرةً بعيدةً، وربما أنت نظرت إليهم نظرة عداوة، فإذا أبعد رجل عن آخر كان كلٌ صغيراً في عين الآخر، لو أني وقفت في الدور الخمسين وأنت في قعر الأرض، فتنظر إليَّ صغيراً وأنا أنظر إليك صغيراً، ولو وقفت في طرف الكيلو الأول ووقفت في آخر الكيلو العاشر، نظرت إليَّ صغيراً ونظرت إليك صغيراً، لكن ادن إليَّ وأدنو إليك، اقترب مني وأقترب منك، ضع يدي في يدك، ولنمض سوياً إلى طاعة الله، سأراك كبيراً وأرى فيك عيناً جديرةً أن تبصر الحق، وأذناً جديرةً أن تسمع الحق، وقلباً جديراً أن يفقه الحق، وسترى فيَّ أو في رجل من كبار قومك وعلماء ملتك من تجد فيه قدوة حسنة، نسأل الله أن نكون كذلك.
أيها الشاب: إن البعد بيننا هو الذي أورث ذلك، فما الذي يمنعنا أن نتفاهم؟ ما الذي يمنعنا أن نتصارح؟ ما الذي يمنعنا أن نلتقي؟ كن جريئاً واطرق عليَّ الباب كن جريئاً وارفع عليَّ سماعة الهاتف كن جريئاً وأرسل إليَّ رسالةً وضع عنوانك كن جريئاً وكن صدوقاً صادقاً مع نفسك ومعي لنتباحث بكل حقيقة مشاكلنا.
إن النفس في البداية ربما قالت لك: ابتعد عن هذا، وإياك أن تبوح بأسرارك! وربما قالت النفس: هي خديعةٌ من أجل أن يكتشف خبيئة فؤادك، أقول لك: لا والله
ولابد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسليك أو يتوجع(147/19)
خطر قرناء السوء
أيها الأخ الحبيب: ربما كان انحرافك بسبب خلانك وإخوانك الذين اخترتهم جلساء لك، تسهرون على البلوت، وتسمعون الأغاني، وتنظرون في الأفلام، وتقلبون الموجات التي يستقبلها الدش، تبحثون عن صورة، أو عن فيلم، أو عن لحظة، وربما كنا نغر أنفسنا ونخادعها بحجة أننا نبحث عن الأخبار، ولو سمعنا الأخبار ما غيرنا شيئاً نعم، لقد جاءت لنا الأخبار، وقالت: إن المسلمين يذبحون في البوسنة، فهل فعلتُ وفعلتَ شيئاً؟ لقد قالت لنا الأخبار: إن النساء يغتصبن في ترابلك، وفي موستار، وفي سراييفو، فهل فعلتُ وفعلتَ شيئاً؟ إن الأخبار قالت لنا: إن مسلمةً في بلاد الهندوس في كشمير المحتلة قطعت إرباً، ورميت في النهر، فهل فعلتُ وفعلتَ شيئاً؟ إيانا أن نخادع أنفسنا بحجة الأخبار إن كنا صادقين! يكفينا من الأخبار خبر أن المسلمين بحاجة إلى نجدة، فهل أنجدناهم؟ يكفينا من الأخبار خبر أن المسلمين بحاجة إلى إغاثة، فهل أغثتهم وأغثناهم؟ يكفينا خبر أن المسلمين بحاجة إلى جمع تبرعات، فهل جمعتَ وجمعنا لهم؟ يكفينا خبر أن المسلمين الآن يموتون من شدة البرد القارس، فهل أرسلت إليهم المعونة وأرسلنا لهم؟ لا نخادع أنفسنا، إن جلساءنا غرونا، وإن من كنا نجالسهم ليل نهار خدعناهم وخدعونا، ولو وقفنا وقفةً صادقةً، وجلسنا ذات ليلة السبت لعبنا البلوت، وسهرنا على الفيديو، وسهرنا على المعصية، وتناولنا الشيشة، وتبادلنا السجائر، وتبادلنا الأفلام، وتهادينا الأشرطة، والأحد فعلنا مثل ذلك، ما ضر لو قلنا: يوم الإثنين، الليلة لا بلوت، ولا فيديو، ولا فيلم، ولا شيشة، ولا دخان، نريدها كلمة صريحة: هل ستنفعني يا من عن يميني إذا أدخلت قبري؟ سيقول لك إن كان صادقاً: لا.
وسيقول الآخر لمن بعده: هل سترد عني الموت إن نزل بي الأجل؟ سيقول لك: لا.
وسيقول الثالث: هل سترد إليَّ كليتي إن تعطلت؟ فسيقول الرابع: لا.
وسيقول الخامس: هل تعطيني شرياناً من جسمك لكي أعالج به خللاً في قلبي؟ سيقول الخامس: لا.
وسيقول السادس للآخر: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] يقول السادس للآخر: إذا كنا يوم القيامة، هل ستنفعني؟ هل ستجعلني من أهل الجنة؟ أم ستنجيني من النار؟
الجواب
{ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
فيا أخي! كل علاقة تنقلب عداوة، وكل صداقة تنقلب شراسة، إلا من أحب في الله، وأعطى لله، وبذل لله، ومنع في الله، يوم يكون سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم شابان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
أخي الشاب: والله إن فيك خيراً كثيراً، ولكن جلساءك جروك إلى المعصية، غروك في نفسك، أول مرة قالوا: تعال لتسهر معنا، والثانية: تعال لتتعش معنا، والثالثة: تعال لكي تتروح معنا، وارتع والعب معنا، والرابعة: ما ضر لو شاركتنا بسيجارة، والخامسة: ما ضر عندنا هذه الليلة ما يسمونها الصيدة، وإن كانت في الحقيقة فاحشة في زنا، أو لواط يزينونها، وقد يكون قبلها عرض لفيلم خليع، أو مجلة خليعة فيها من صور العراة، رويداً رويداً جروك وجذبوك يا مسكين، وأخذوك إلى مثل هذه الهاوية، ولو قدر أن الهيئة قبضت عليك وعليهم، أو أن الشرطة أمسكت بك وبهم:
لقال كل خليل كنت تأمره لا ألهينك إني عنك مشغولُ(147/20)
قرناء السوء والخلان سبب في الانحراف والخذلان
ما أكثر اللصوص الذين عقدوا الخناصر، وضربوا الأكف على الأكف، وتعاهدوا وتعاقدوا أن يسرقوا، وأن يقطعوا الطريق ويجمعوا، ويقسموا الأموال وحصيلة السرقات بالسوية، فلما وقعوا تحت يد العداوة؛ أخذ بعضهم يسب بعضاً، والآخر يلعن صاحبه، والثالث يشتم الذي دعاه {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] وفي آية أخرى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
يوم يقوم الشيطان، فيضحك على الجميع في النار، ويقول لأخلائه وجلسائه ولمن أطاعوه يقف الشيطان خطيباً يكلمهم في النار ويقول لهم: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] حتى الشيطان يضحك ويقهقه، ويتبرأ من الذين أضلهم، يقول لهم: والله ما كان معي عصا معطوفة في طرفها، فأجر رقابكم بها، وما كانت معي حبال كبلت أقدامكم وأرجلكم بها، وإنما كانت صورة، قلت: انظروا، فنظرتم إليها فصدقتم، أو كانت أغنية، فقلت: اسمعوا، فسمعتم ودنوتم من المعصية، هكذا يتبرأ أهل الباطل من باطلهم، ويتبرأ بعضهم من بعض يوم لا ينفع عتابٌ ولا ينفع مستعتب.
إن المجالسة أهلكت كثيراً من الشباب، كم من شاب كان من المصلين، فتعرف على جلساء سيئين، فقطعوه عن المسجد ألبتة، قطعوه بالكلية عن صلاة الجماعة، ورويداً رويداً حتى ترك الصلاة! كم من شاب كان نافعاً مهتدياً باراً وصولاً، ذا رحم طيبة، فقلبوه عاقاً فاسداً مفسداً! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الجليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً كريهةً).
أيها الشاب: لقد أحرق جلساء السوء ثيابك، لقد دنسوا سمعتك، لقد خربوا سيرتك، فلا طريق إلى العودة والطهارة والنجاة إلا بالبعد عن جلساء السوء، والعجيب منك -أيها الشاب! أيها الحبيب! أيها الصديق! - إني أعجب منك لو ذهبت تشتري حذاءً، لدخلت خمسة محلات من أجل أن تنتقي أحسن الأحذية، ولو ذهبت لتفصل ثوباً لدخلت أربعة محلات لتنتقي قماشاً مناسباً، وخياطاً مفصلاً ممتازاً، أما الصداقات فتقبل عليها بلا اختيار، أما العلاقات فتقبلها بلا مشورة، أما المجالسات فترتمي بنفسك في أحضانها من غير تأمل وتدبر الثوب بعد تأمل واختيار الحذاء بعد تأمل واختيار السيارة بعد تأمل واختيار قطعة الأثاث بعد تأمل واختيار، وأما جليسك فتختاره أو تقع فيه فوراً، وقد تكون أول مرة لقيته في مقهى، أو في مطعم، أو في جلسة في رصيف، أو في مكان من الأماكن التي يوماً ما ستشتم وتلعن تلك الساعة التي عرفت ذلك الشاب فيها، ولا يجوز لعن الدهر أبداً، وربما أخذ كلٌ يسب صاحبه ويتبرأ منه.
أيها الأخ الطيب: عليك بالصالحين، وعليك بإخوانك الطيبين، فإنهم -بإذن الله- حرزٌ متين، وموقع مكين، وإذا يسر الله لك ذلك فعليك أن تعض عليهم بالنواجذ.
كذلك -أخي الشاب- لربما قادتك بعض المجلات وبعض الكتب الهدامة التي قرأتها وسهرت الليالي عليها، وتظن أنك بذلك تنير عقلك، وتضيء فكرك، وتقوم لغتك، وتزيد معلوماتك، تظن أنك بهذه القراءة ستكون رجلاً مثقفاً معلوماتياً قادراً على الحديث في كل فن، فإذا بك بعد ذلك -يا مسكين- تقودك هذه الأفكار إلى رذيلة، وربما أثارت في نفسك شبهات ربما جرتك-والعياذ بالله- فانقلبت على عقبيك.
إن بعض الشباب يقبل على قراءة كتب لا يعرف أولها وآخرها، فما تلبث إلا أن تضلله، وتشككه، وتقذف الشبهات في قلبه، فيكون كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
أخي الحبيب: اقرأ كلام الله، إن خير الكلام كلام الله، اقرأ هدي نبيك، إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، اقرأ سيرة الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء، واقرأ سيرة العشرة المبشرين وأهل الشجرة، واقرأ سيرة قادات الإسلام الذين سطروا أروع المثل، وجعلوا في هذا التاريخ نماذج مشرقة كلٌ يفتخر بها، ولكن يوم أن أعرضت عن قراءة الكتب النافعة، وقرأت كتباً ضالةً؛ غيرت تلك المفاهيم، وما أكثر من قلبت المفاهيم في رأسه اجلس مع بعض الشباب تجده يتكلم عن الإسلام كالذي يتكلم منتقداً -وإن كان مسلماً، ولا يتبرأ من الإسلام- لكن من حيث يدري أو لا يدري ينتقد من يلتزم بالإسلام، وينتقد من يدعو إلى الإسلام، وينتقد من يحض على الإسلام، ويظن أنه بهذا ينافس المثقفين، أو يجاري المفكرين، أو يسابق المتقدمين، وإن هذا لهو الضلال المبين.
أخي الكريم: كم من فتاة مسلمة، وكم من شاب مسلم قرأ أفكاراًَ هدامةً فضللته، تصوروا أن فتاةً قرأت شيئاً مما كتبه بعض أعداء الإسلام؛ فانقلبت انقلاباً فكرياً، فبدلاً من أن تقول: إن المحرم الذي اشترطه الإسلام على المرأة أصبحت تقول: إن المحرم ذلك الجاسوس الذي يتابع المرأة نعم، إن المحرم رجلٌ ممن لهم قرابة وسبب ونسب بهذه المرأة، لكن المصيبة لما قرأت الشابة والفتاة أفكاراً ضالةً بدلاً من أن تقول: هذا محرم وحارس يصونها ويذود عنها ويدافع عنها، قالت: هو جاسوس يتابعها؛ لأنه يشك فيها ويسيء الظن بها.(147/21)
إياك والتردد بين الهداية والضلال
ما يزال النداء إلى ذلك الشاب الذي تردد، ووقف متردداً بين أن يتقدم، أو يتأخر في طريق الهداية، فنقول له: أقدم وأقبل ولا تخف أيها الشاب الكريم.
واعلم أن من الأسباب التي جعلتك لا تزال بعيداً عن الهداية والطريق إليها أنك ربما ظننت أن الإسلام يقيد حريتك، وأن الإيمان يكبت طاقتك، وأن الالتزام رجعية تخشى أن ترمى بها، فأقول: أخي الحبيب! احذر من هذه المفاهيم المقلوبة، من الذي هو أولى أن يوصف بالرجعية والتخلف؟ ذلك الذي ارتضى بأن يسلك كل طيب من السبل، وكل نبيل من الخلق، وكل نافع من الأفعال، أم ذلك الذي جعل الغواية والانحراف طريقه وديدنه؟ أخي الشاب! إن كثيراً ممن حولك من جلساء السوء ربما استهزءوا بك لو سرت في طريق الاستقامة والالتزام، فلا تعجب، فإن ذلك نوع من الابتلاء، قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، ولا تعجب من الضالين الذين بالمؤمنين يسخرون {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] تجاوز هذه العقبات، وكن أكبر منها، وكن صقراً محلقاً فوق كل جبل، وكن عالياً فوق كل شبهة وشهوة، فإنك بذلك تنال هذا الالتزام.(147/22)
مفاهيم مقلوبة وأغاليط معوجة
أيها الشاب: ربما غرك من غرك، وقال: لا تكن مجرماً مروجاً زانياً فاجراً كفاراً، ولا تكن مطوعاً معقداً -كما يسمون- ملتزماً مستقيماً، ولكن عليك -أيها الشاب- وعليك -أيتها الشابة- بالوسط والاعتدال، وتجنبوا الغلو والتطرف، وعليك بأن تكون وسطاً في عبادتك، وساقوا على نحوٍ من هذا أفهاماً معوجةً، وأغاليط متتابعة، يقول بعضهم: لا تكن متطرفاً، ولا تكن منحرفاً من هو المتطرف أيها الأحبة؟! هل الذي يحافظ على الصلاة مع الجماعة يكون متطرفاً؟! هل الذي يهجر الغناء والخنا واللهو والمعاصي يكون متطرفاً؟! هل الذي يحافظ على ما أمر الله، وينزجر عما نهى الله نقول عنه: متطرف؟! إذا قال شابٌ: أنا لست مجرماً، ولست غالياً، أو متطرفاً، فأنا وسط، فماذا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا كنت أنت الوسط بتركك بعض الواجبات، وتهاونك في بعض المعاصي والسيئات، ووقوعك في بعض المنكرات، إذا كنت أنت الوسط، فماذا يكون أبو بكر الصديق؟ وماذا يكون عمر وعثمان؟ وماذا يكون علي والمقداد؟ وماذا يكون علي والمغيرة؟ وماذا تكون عائشة وحفصة؟ تقول شابةٌ: أنا لن أكون زانية، أو مضيفة، أو فاجرة، ولكن لن أكون متشددة، أو معقدةً، أو متزمتةً -كما يسمونها- ملتزمةً مستقيمةً، سأكون وسطاً إن كنت وسطاً فماذا تكون عائشة؟ إن كنت معتدلة فماذا تكون حفصة؟ إن من المفاهيم المقلوبة والألفاظ المعوجة غيرت على كثير من الشباب والشابات حياتهم، فجعلتهم يرضون بالانحراف، ويمشون على الأغلاط، ويقتنعون بأخطاء كثيرة يصبحون عليها ويمسون.
فيا أيها الشاب الكريم! ويا أيتها الأخت المسلمة: الواجب على الإنسان أن يفكر، والله لو أراد بائع أن يخدعنا في سلعة بعشرة ريالات، أو عشرين ريالاً، لما رضينا أن نخدع، ولو أراد أحد أن يمرر علينا قصة خيالية، لقنا: هذا أمرٌ لا يعقل، فكيف يمرر علينا أعداؤنا آلافاً من الشبهات، وكثيراً من الأفكار التي تغير علينا سير حياتنا، وصدق استقامتنا، ونور طريقنا إلى الله جل وعلا.
وبعض الشباب يقول: إن الالتزام تقييد للحرية، وأنا أحب الحرية وبعضهم يقول: أحب الانطلاق، ولا أحب الكبت، وأنا إن التزمت فسوف أكون محرماً؛ لأن الالتزام -في ظنه- كما يقول بعضهم: ركب على عقلك قفلاً، أو ركب على دماغك أقفالاً حتى تكون ملتزماً لا والله، إن التخلف كل التخلف وتحجير العقول هو في مثل هذه المعاصي والسيئات، أما العقل واللب والحجى والفهم والتدبر، فهو في الاستقامة بإذن الله جل وعلا.
وبعض الشباب يستدل بواقع بعض الذين يرون في ظاهرهم ملتزمين، وربما وقع منهم شيء من الأخطاء، أو يرى رجلاً وقعت منه معصية ووقعت منه طاعة، فيقول: لا أريد أن أكون مثل هذا والعجب أن هذا المفهوم منتشرٌ عند كثير من المسلمين في الأسبوع الماضي كنت مع سائق في سيارة، فقلت له: منذ كم وأنت في المملكة العربية السعودية؟ فقال لي: تقريباً ست سنوات، فقلت له: هل حججت؟ قال: لا، أنا لم أحج حتى الآن، قلت: لماذا لم تحج إلى الآن؟ قال: أنا إذا قمت بالحج فلابد ألا تكون هناك أخطاء، وبعد ذلك أنا لا أخاصم أحداً، الناس يأخذون حلالي ولا أخاصمهم، ويأخذون ما يريدون ولا أعمل معهم أي خصومة وهلم جراً، ويظن أنه إذا قام بأمر الله فيستسلم لأعدائه يأخذون ما شاءوا من ماله، ويتسلطون عليه بأي طريقة، ويقول: هناك أناس يحجون ولكنهم يفعلون ذلك، وهناك أناس يصومون لكنهم يفعلون ذلك، وهذا -أيضاً- واقع بعض الشباب وبعض الشابات، يقول: فلان ربما ينتسب إلى الالتزام ووقع منه الخطأ، فلانة تنتسب إلى التدين ووقع منها الزلل.
إن المعصية ليست حجة على معصية أخرى، وقد يجتمع في العبد سنة وعمل صالح وعمل سيئ، وحسنة وخطيئة، ولكن كما قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وبعض الناس-والعياذ بالله- يحتج بالخطأ على الخطأ، وبالرذيلة على الرذيلة، وبعضهم يقارن ويفارق بين هذه الدرجات.(147/23)
تكرار الوقوع في المعصية ليس عائقاً عن الاستقامة
بعض الشباب يقول: أنا أريد الاستقامة والالتزام، ولكني قد أذنب مرة، وقد أقع في المعصية مرة ثانية، قد أقع في الفاحشة مرة أو مرتين، فإنا نقول: لكل ذنب توبة، ولكل خطيئة استغفار، ولكل زلل رجوع، فما دام الشيطان يجاهدك بالمعاصي فجاهد الشيطان بالاستغفار، وعليك أن تستغفر ربك في كل صباح ومساء، فإن الله جل وعلا ما أنزل آيات التوبة، وما أنزل آيات المغفرة، وما جاءت أحاديث الذكر والاستغفار إلا لقوم يذنبون، ثم يستغفرون، ثم بعد ذلك تزول سيئاتهم، وتمحى خطاياهم، وتبدل بعد ذلك حسنات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
وبعضهم يقول: إن شاباً التزم، ثم انتكس، وأنا أخاف أن ألتزم فأنتكس، فهو يقول: أنا راض بانتكاستي حتى لا ألتزم فأنتكس، وذلك من وسوسة الشيطان على كثير منهم، والعاقل يبادر باستقامة نفسه وصلاحها قبل أن تقع نفسه في مهمهٍ عسرٍ صعبٍ، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وآخر يقول: أريد أن أستقيم، ولكن ما استطعت أن أترك الأغاني وآخر يقول: ما استطعت أن أترك الدخان والرابع: ما استطعت ترك الأفلام والخامس والعاشر قال وإني أقول: كيف استطعت أن تنال الشهادة، هل نلت شهادة البكالوريوس بالنوم واللعب، أم صبرت على السهر والجد والمثابرة حتى نلت الشهادة؟ كيف كنت ضابطاً؟ أو كيف كنت من صف الضباط أو رئيس النقباء؟ هل نلتها بالنوم والتخلف، أم صبرت على الجندية؟ أفتريد الهداية بدون مجاهدة؟ أفتريد أن تنال منازلاً يظل الله أصحابها بظله يوم لا ظل إلا ظله بدون أدنى مجاهدة؟ أفلا تصبر عن الشهوات؟ أفلا تصبر على الطاعات؟ نعم، إن الالتزام يحتاج إلى تضحية، ويحتاج إلى مجاهدة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(147/24)
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
أخي الكريم: ربما قال لك الشيطان: لو التزمت، لربما فات منصبك لو التزمت لربما نظر إليك من حولك نظرة ازدراء، وبعضهم يقول: أريد أن ألتزم، وأخشى أن ينظر إليَّ رئيسي نظرةً تؤثر في ترقيتي، وآخر يقول: أريد أن ألتزم، لكن أخشى أن أحرم بسبب التزامي، وأقول لك: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:28] إن التزمت لأجل الله؛ فإن الله يغنيك، ويغني مسئولك، ويتوفاك ويميت مسئولك، وإن شاء قتلك وقتل مسئولك، وأماتك وأمات مسئولك، فعليك أن تنظر إلى الله، وأن تنظر إلى ما ينجيك عند الله؛ لأن مسئولك هذا أياً كانت رتبته ودرجته فقيرٌ إلى الله مثلك، مسكينٌ إلى الله مثلك، لو شاء الله لأخذ سمعك وسمعه، وبصرك وبصره، وفؤادك وفؤاده، وروحك وروحه، فلا عليك إلا أن تبرأ من كل صغير وكبير، وابرأ من كل حول وطول إلا من الله، فعليه توكل، وبحماه لذ، واستعن به جل وعلا، فإن من تعلق به نجا، ومن اتصل بحبل الله المتين وصل.
أيها الحبيب: لابد أن يتقابل أمران: شهوة في نفسك، وأمر من الله ورسوله، فإن غلَّبت أمر الله وأمر رسول الله على شهوتك فإنك بإذن الله من الناجين، وإنها لحظات تصبر عن المعصية، فتنال اللذة، ويبقى الأجر، وتسلم من الوزر، واسأل من فعل الفاحشة الآن أو قبل الآن: هل تستمر اللذة بالفواحش؟
إن أهنا عيشةٍ قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكر لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل
أيها الحبيب: دع كل شهواتك لله، دع كل ملذاتك لله، قل: يا رب! لأجلك تركتها، ولما عندك طلقتها، ولثوابك ابتغيت كل ذلك، فإن من تعامل مع الله أكرمه الله بعاجل التوفيق، وعاقبة حسنة {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
أيها الأخ الحبيب: عليك أن تتحدى بالتزامك، وأن تجتهد وتقاوم باستقامتك، ولا تكن ضعيفاً جباناً خواراً، إذ إن بعض الشباب فيه خير، ولكن ربما كان الوسط الذي يعيش فيه سبباً في ضياعه وانحرافه، أو سبباً في ضعف إيمانه عليك أن تتحدى، وعليك أن تصبر، وعليك أن تبرهن -بإذن الله جل وعلا- إنك قادر، وإنما النصر صبر ساعة، فمن صبر وجاهد في مدرسته في بيته في سوقه في وظيفته في عمله وفي كل المجالات؛ فإنه بإذن الله قادرٌ على النصر، وأما من انهزم في أول جولة، فيا سرعان ما ينهزم! ويا سرعان ما يضيع! أخي الكريم: عليك أن تكون فخوراً بإيمانك إذا ذقت لذة الاستقامة، فلا تلتزم التزاماً إذا أذن للصلاة استحييت أن تقول: قوموا إلى الصلاة! إذا أردت أن تجد لذة الاستقامة، فإذا نظرت إلى معصية لا تقل: يا ليتني من يفعل هذه المعصية، ولكن قل: الحمد لله الذي شرفني وكرمني ورفعني، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، ولو كنت من الضالين لكنت واحداً من الذين يقعون في هذه المعاصي، ويقعون في أوحالها وألوانها.
أيها الشاب: عذ بالله جل وعلا واجتهد، وجاهد نفسك، فإنك قادر، واحذر من أن يكون مالك أو ولدك سبباً في ضلالك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14]، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15].
أيها الإخوة: لقد تسلط الشيطان على بيوتنا يوم أن ضعفت مقاومة الإيمان فينا، انظر إلى كثير من البيوت تصبح على الأغاني، وتضحي على الأغاني، والظهيرة أغاني، والعصر أفلام، والمغرب ملاهي، دخلتها الجن، دخلتها الشياطين، تلبس أهلها الشياطين، وصاروا في حيرة، وفي قلق، وفي نكد، وفي مصائب؛ لأنهم بعدوا عن الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].(147/25)
إياك والاحتجاج بكثرة الضالين
أيها الشاب: لا تحتج بكثرة الشباب الضالين نعم، إن كثيراً من الشباب تجمعوا عند المطاعم، وإن كثيراً تجمعوا في الطرقات، وإن كثيراً يتباهون بالسيارات، وإن كثيراً يدعون الفتيات، وإن كثيراً يفعلون ويفعلون، ولكن تذكر قول الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وتذكر قول الله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
إياك أن تكون إمعة يجري بك التيار، وتسير مع الكثرة! إذ ليست الكثرة هي المقياس، إن أكثر الناس -إلا من رحم الله- يقعون في الضلال، بل إن أمة الإسلام على كثرتها أكثر ما فيها الغثاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ -هل نحن قليل حتى يطمع بنا الأعداء- قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء)، احرص أن تكون من الأقلين.
إن القادة آحادٌ وأفراد، إن السادة آحادٌ وأفراد، وأما الكثير فطغامٌ وهوام، عليك أن تكون من الذين تميزوا وقاموا.
إذا مات ذو علمٍ وتقى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصةٌ ونقمة
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموت الفارس الضرغامِ هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة
فحسبك خمسةٌ يبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمة
أيها الشاب: عليك أن تجاهد نفسك بعيداً عن مغريات الحياة، بعيداً عما يواجهك من المصائب، بعيداً عما يزخرف لك من ملذات الدنيا، واعلم أنك قادرٌ على الاستقامة.
أيها الشاب: والله، والله، والله، إنك قادرٌ على الاستقامة، قادرٌ على الهداية، قادرٌ على الصراط المستقيم، ولكن أتمد يدك إليه؟ أتخطو خطوةً إلى الهداية؟ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7]، إني لا أعدك، ولا سماحة الشيخ ابن باز يعدك، ولكن الله يعدك إن أنت أعطيت وتصدقت وأمضيت، وعلى طريق الحق سلكت {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]، ووعد الله نافذٌ لا محالة: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] إنك قادرٌ على الفلاح، فزك نفسك {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:10] إنك واقعٌ في الهلاك إن دسيت نفسك؛ فعليك -أخي الحبيب- أن تلتزم، واحذر من الذين يرددون الشبهات، ويقولون لك: إن الدين شاق، وجادة الطريق طويلة، وأنت لا تستطيع، والالتزام صعب، ما أكثر الذين التزموا فانحرفوا! إن نبيك صلى الله عليه وسلم قد جاء مبشراً وميسراً، وما جاء منفراً ولا معسراً، فافهم هذا واعمل به حتى تكون من الصادقين يوم أن يفتن الناس، ويميز الله الخبيث من الطيب، فتكون من الطيبين بإذن الله.
فيا أيها الشاب: والله لن تزول قدماك حتى تسأل عن شبابك، وعن عمرك، وعن مالك، وفترة الشباب بالذات أنت مسئولٌ عنها، فيا ضيعة شابٍ ضيع أعماره!(147/26)
مهمة النصارى إخراج المسلمين من الإسلام
إن أعداء الإسلام يقول أحدهم في مؤتمر تبشيري قد ضم جميع المبشرين في عام (1935م) يقول: إن مهمة التبشير التي ندبتكم الدول النصرانية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإن هذا فيه هدايةٌ وكرمٌ لهم، إن مهمتكم -يقول المنصر للقسيس والكاردينلات والرهبان، يقول زعيم مؤتمرات التنصير صموئيل زويمر - يقول: إن مهمتكم تجاه شباب المسلمين أن تخرجوهم من الإسلام، ليصبح الشاب المسلم مخلوقاً لا صلة له بربه، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها يقول القس: وبذلك تكونون بعملكم طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية ثم يستطرد ذلك الكافر النصراني قائلاً: لقد هيأتم جميع العقول في الممالك الإسلامية لقبول السير في الطريق الذي سعيتم له، ألا وهو إخراج المسلم من الإسلام يقول القس أيضاً: إنكم أعددتم نشأًَ لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي مطابقاً لما أراده الاستعمار، لا يهتم بعظائم الأمور، يحب الراحة، يحب الكسل، يسعى للحصول على الشهوات بأي طريقة، حتى أصبحت الشهوة هدفاً في حياته، فذلك الشاب إن تعلم فللحصول على الشهوة، وإن جمع المال فلأجل الشهوة، وإن نال مركزاً ففي سبيل الشهوة، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوة.
يقول القس الكبير: أيها المبشرون! إن مهمتكم في إضلال الشباب تتم على أكمل الوجوه.
أيها الشاب: هل تقول لهذا النصراني وأتباعه: سمعاً لكم وطاعةً يا قادة التنصير؟ هل تقول: سمعاً وإذعاناً لتخطيطاتكم؟ أم تقول: لا وألف لا، يا عبدة القردة والخنازير! يا أذناب الطواغيت! يا قتلة الأنبياء! يا من أشركتم مع الله غيره! أتكون من الذين انقادوا للمنصرين والمفسدين والمستغربين والمنافقين، أم تكون من الذين يقولون: كذبتم، ولا والله لا نطيعكم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون؟ أيها الشاب! الذي ما زلت تداعب الوتر، والسماعة تسهرك، والشريط يغويك، والمجلة تأخذك، والشاشة على الفيلم تجعلك تتابعها، اسمع كلام مستشرق يريد بك الشر ليتكلم على لسان بني قومه جميعاً، يقول مستشرقٌ فرنسي اسمه كيمون: إن من الواجب علينا إبادة خمس المسلمين, والحكم على الباقي بالأشغال الشاقة ويقول: إن علينا أن ندمر الكعبة، وأن نضع قبر محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن نضع جثة محمد صلى الله عليه وسلم في متحف اللوفر هكذا يريد الأعداء الذين ربما رأينا كافراً فتبسمنا له، نريد أن نعرف كلمتين من العجماوات والإنجليزية، بعض الشباب يريد أن يبين لهذا الكافر ( How are you? )، ( Good very good )، ( What are you doing today) ومن الكلام؛ حتى يقول له: إني أعرف اللغة الإنجليزية والله لا يضيرك أن تكون شامخاً عزيزاً بدينك، إني لا أريد أن نبصق في وجوه الكفار حينما نقابلهم، ولا أن نبدأ بالعداوة تجاههم، ولكن إذا نظرت كافر فاعلم أنك تنظر إلى نجاسة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] نريد أن نرى الكافر بنفس المقياس القرآني الذي أمرنا الله أن ننظر به إليه، هكذا أمرنا: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] نريد عزةً بالإسلام: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221].
يقول ما سونيٌ من الذين يسعون في تدمير شباب الإسلام، يسعون إلى تدميري وتدميرك، يقول ماسوني يريد تدميرك أيها الشاب: كأسٌ وغانيةٌ تفعلان في أمة محمد أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوا أمة محمد في حب المادة والشهوات.
أيها الأحبة: إن أعداء الإسلام لو دنوا من قبر النبي لسالت دماؤنا دون قبر نبينا، إن أعداء الإسلام لو دنوا من الكعبة لقطعنا رقابنا دون الكعبة، ولكنهم لا يتجهون إلى قبر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى مسجده، ولا إلى روضته الشريفة، ولا إلى منبره صلى الله عليه وسلم، ولا يدنون من الكعبة، لكنهم يرسلون فيلماً شريطاً مجلة عاهرة راقصة مغنية فتنة مسلسلاً، وبهذا ينقاد شباب الإسلام، فلا حول ولا قوة إلا بالله! أيها الشاب: هيا بنا ننطلق سوياً في طريق الهداية وطريق السعادة، وهاك الدليل لمن أراد غنىً يدوم بغير مال، وأراد عزاً لم توطده العشائر بالقتال، ومهابةً من غير سلطانٍ وجاه في الرجال؛ فليعتصم بدخوله في عز طاعة ذي الجلال، وخروجه من ذلة العاصي له في كل حال.(147/27)
وحيل بينهم وبين ما يشتهون
أيها الشاب: لنكن من الذين أبصروا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، وفقهوا بقلوبهم، ولا نكون من الذين لهم أعينٌ لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، وقلوبٌ لا يفقهون بها، وهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.
أيها الأحبة: علينا أن نعود إلى ديننا أيها الشاب: أدرك نفسك قبل أن يفوتك الأمر، ويحال بينك وبين التوبة، ويبدو لك عند الموت ما ليس في حسبانك، واسمع إلى هذا الأمر قبل ختام القضية يقول لي رجلٌ عن صديقٍ له ضابط من الضباط في سجن من السجون، قال: إذا كان فجر يوم الجمعة جاء كاتب العدل من المحكمة ليكتب وصية الذين سوف ينفذ فيهم حكم الإعدام هناك عددٌ من المجرمين يقتلون يوم الجمعة، إما لحد الحرابة، أو قطع الطريق، أو زنا إحصان، أو فاحشة، أو أمر من الأمور، قال: فبعضهم إذا قيل له: قم لتكتب وصيتك عند كاتب العدل، بكى واسترجع، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! وتجده طوال مدته في السجن يبكي، ولا يفارق سجادته، ولا يفارق مصحفه، ويندم ويكثر من الندم والقراءة والاستغفار في فجر ذلك اليوم الذي سيقتل فيه بعد الظهر، قال: ورأينا شباباً يقال لأحدهم: اكتب وصيتك، فإنك ستقتل اليوم، فيقول: ما عندي كلام، يقال له: خذ هذا المصحف واقرأ شيئاً من كلام الله، فيقول: اتركونا من كلامكم يا مطاوعة، يقال له: نهايتك اليوم، فتب إلى الله، فيقول: عندك سيجارة؟ أو اذهب عني يا مطوع {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54]، يحال بين الإنسان وبين ما يريد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
أيها الشاب: إياك أن يحال بينك وبين قلبك!(147/28)
أبيات وعظية
أيها الشاب: خذ هذه النصيحة في أبيات جميلة:
خلِ ادكار الأربعِ والمعهد المرتبعِ
والضاعن المودعِ وعدِّ عنه ودعِ
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفا على القبيحِ الشنعِ
كم ليلةٍ أودعتها مآثماً أبدعتها
لشهوةٍ أطعتها في مرقدٍ ومضجعِ
وكم خطىً حثثتها في خزيةٍ أحدثتها
وتوبةٍ نكثتها لملعبٍ ومرتعِ
وكم تجرأت على ربِ السماوات العلا
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
وكم غمضت بره وكم أمنت مكره
وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقعِ
وكم ركضت في اللعبْ وفهت عمداً بالكذبْ
ولَمْ تراعِ ما يجبْ من عهده المتبعِ
فالبس شعار الندمِ واسكب شآبيب الدمِ
قبل زوال القدمِ وقبل سوءِ المصرعِ
واخضع خضوع المعترفْ ولذ ملاذ المقترف
واعصِ هواك وانحرفْ عنه انحراف المقلعِ
إلامَ تسهو وتني؟ ومعظم العمر فني
فيما يضرُّ المقتني ولست بالمرتدعِ
أما ترى الشيب وخطْ وخط في الرأس خططْ
ومن يلح وقت الشمط بفوده فقد نعي
ويحكِ يا نفس احرصي على ارتياد المخلصِ
وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى
واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الردى وادكري وشك الردى
وأن مثواك غدا في قعر لحدٍ بلقعِ
آهٍ له بيت البلى والمنزل القفر الخلا
ومورد السفر الألى واللاحق المتبعِ
أي: القبر.
بيتٌ يرى من أودعه قد ضمه واستودعه
بعد الفضاء والسعة قيد ثلاث أذرعِ
لا فرق أن يحلهُ داهيةٌ أو أبلهُ
أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبعِ
وبعده العرض الذي يحوي الحيي والبذي
والمبتدي والمحتذي ومن رَعى ومن رُعي
فيا مفاز المتقي وربح عبدٍ قد وقي
سوء الحساب الموبقِ وهول يوم الفزعِ
أسأل الله أن يثبتنا على دينه، اللهم اهد شباب الإسلام، اللهم اهد شباب الإسلام.
والحمد لله رب العالمين.(147/29)
بيوت الله
إن المساجد لها أهمية عظيمة في دين الإسلام، فهي أحب البقاع إلى الله، وقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وجعله أول قاعدة تنطلق منها الدعوة إلى الله، وزيادة في أهمية المساجد فقد كرمها الله عز وجل فجعل لها حرمة، ووضع لداخلها آداباً يلتزم بها، وفي هذه المادة تجد الكثير الكثير من ذلك.(148/1)
المساجد ومكانتها في الإسلام
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].(148/2)
فضل الذهاب إلى المساجد
معاشر المؤمنين: إن المساجد في دين الإسلام لها مكانةٌ عظيمة ودورٌ عظيم لما فضلها الله سبحانه وتعالى، وجعلها بيوت إقامة الشعائر والعبادة، وجعلها مكان اجتماع للمصلين، وجعلها مهابط نزول ملائكته، حيث تشهد العباد، ملائكته النهار تشهد العباد مصلين، وتفارقهم وهم يصلون، وملائكة الليل تشهد العباد مصلين، وتفارقهم وهم يصلون، ولذا كان لهذه المساجد فضلٌ ومكانةٌ، ودورٌ عظيمٌ في دين الإسلام وفي نفوس المسلمين أجمعين، ولقد جاءت السنة النبوية المطهرة بما يزيد دلالة على مكانة هذه المساجد، وبما يزيد دلالة على فضلها وعظيم لزومها، ومكانة وحسن الأجر والثواب لمن أكثر الخطا إليها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً كلما غدا أو راح) متفقٌ عليه.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله؛ كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة) رواه الإمام مسلم.(148/3)
فضل العناية بالمساجد
ولا عجب في ذلك يا عباد الله! فهي بيوت الطاعة، ومهابط الملائكة، وأماكن اجتماع الموحدين، ولذا كان للعناية بها فضلٌ عظيم، وكان للذين يعتنون بها مزيد مكانةٍ حتى في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه سأل عن امرأةٍ عجوزٍ سوداء كانت تقم المسجد ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها، قالوا: توفيت، قال: هلَّا أخبرتموني بها؟ ثم قال: دلوني على قبرها، فذهب وصلى عليها) وما ذاك إلا لمكانتها من هذا الفعل الذي فعلته؛ وهو اهتمامها بنظافة المسجد.
واعلموا يا عباد الله! أن تنظيف بيوت الله هو مهر الحور العين في الجنة، ولا شك معاشر المسلمين أن المساجد في بلادنا ولله الحمد تحظى من المحسنين والجهات المسئولة ما لا يحظى به غيرها في كثيرٍ من البلدان، وهذه من أعظم نعم الله على هذه المملكة، حيث يعتنى بإعداد الأئمة والمؤذنين والخدم، ويعتنى بنظافتها وإعداد مرافقها، كل ذلك لتحقيق الهدف الأول والأسمى، وهو تهيئة المساجد لعُمَّارها المصلين فيها.(148/4)
النبي صلى الله عليه وسلم وعنايته بالمسجد
وقبل أن نخوض في دور المسجد ورسالته نود أن نذكر شيئاً عن مسجد نبينا صلى الله عليه وسلم وبنائه.
فقد روى أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة مهاجراً، فنزل في علوها في حيٍ يقال له: حي بني عمرو بن عوف، فأقام عندهم أربع عشرة ليلة، ثم إنه أرسل إلى ملأٍ من بني النجار، فجاءوا متقلدين بسيوفهم، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو بكر رديفه، وملأٌ من بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حيثما أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، ثم إنه أمر بالمسجد، قال: فأرسل إلى ملأٍ من بني النجار، فجاءوا فقال: يا بني النجار! ثامنوني بحائطكم هذا -أي: ساوموني على شرائه منكم- قالوا: لا والله ما نطلب ثمنه يا رسول الله إلا من الله، قال أنس: فكان فيه ما أقول، كان فيه نخلٌ، وقبور المشركين، وخرب، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل فقُطع، وأمر بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسويت، قال: وصفوا النخل قبلةً، وجعلوا عضادتيه حجارة، قال: فكانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وهم يقولون:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.
فتأملوا وانظروا يا عباد الله! عنايته صلى الله عليه وسلم بالمسجد حيث جعله أول عملٍ بدأ به بعد هجرته من مكة إلى المدينة، وتأملوا مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في البناء معهم بيده الشريفة، فقد ورد في بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لقيه رجلٌ وهو ينقل اللبن بنفسه، فقال: يا رسول الله! ناولني لبنتك أحملها عنك، فقال: اذهب فخذ غير هذا، فلست بأفقر مني إلى الله) يقوله صلى الله عليه وسلم، قال: (وجاء رجلٌ كان يحسن عجن الطين، وكان من حضرموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله امرأً أحسن صنعته، وقال له: الزم أنت هذا الشغل، فإني أراك تحسنه) فهذه دلالة عظيمة على فضل المساجد وأهميتها، والمشاركة في بنائها بالنفس والمال، ولهذا كان لهذه الآمال أعظم الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي البخاري وأحمد والترمذي عن عثمان رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة)، وفي روايةٍ: (بنى الله له في الجنة مثله)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى مسجداً صغيراً كان أو كبيراً؛ بنى الله له بيتاً في الجنة) أخرجه الترمذي.
فهذا يا عباد الله طرفٌ من الحديث عن أهمية هذه المساجد ومكانتها وفضيلة عمارتها وبنائها، ولما كانت المساجد بهذا القدر من الشرف والمكانة شُرع للمسلمين نظافتها والعناية بها، وورد النهي عن إحداث الأذى والقذى والقذر فيها، يدل على ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: أنه غضب حتى عرف ذلك في وجهه يوم أن رأى نخامةً في القبلة؛ فشق ذلك عليه، فقام فحكها بيده صلى الله عليه وسلم.
فتأملوا يا عباد الله قيام النبي صلى الله عليه وسلم لحك النخامة بيده الشريفة عن جدار المسجد، فهل بعد هذا يتورع أو يترفع أحد من المسلمين عن إماطة القذر وإزالة الأذى من المسجد حينما يراه، والرسول صلى الله عليه وسلم يزيل الأذى بنفسه، ولم يأمر أحداً بإزالته؟! ويدخل في هذا ما يفعله بعض المصلين حينما يستعمل السواك في فمه، فيتفتت شيءٌ من قطع السواك في فمه فيبصقها أو فيتفلها من طرف شفاهه وهو في الصلاة أو وهو في المسجد على فراش المسجد، وهذا لا يليق، ولا يجوز فعله في المسجد، وإن كنا نراه في كثيرٍ من المسلمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة) أخرجه الجماعة.(148/5)
حث الشرع على ذهاب النساء إلى المساجد
ومما ينبغي العلم به من الأحكام المتعلقة بالمساجد: أن النساء يجوز لهن دخول المساجد والصلاة بها، وحضور الندوات والمحاضرات فيها، ففي الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)، وفي روايةٍ: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) إلا أنه ورد في بعض الروايات أن صلاة المرأة في بيتها أفضل.
وعلى أية حال، ففي هذا دلالة على مشروعية تهيئة الأماكن المناسبة والمخصصة للنساء في المساجد لمصالح عديدة، أهمها: حضور الخطب والمحاضرات والندوات والدروس الشرعية التي تعود عليهن بأكبر الأثر نفعاً وفائدة، وتزداد الحاجة إلى تخصيص الأماكن للنساء في المساجد في هذا الزمان؛ لقوة الحملة الموجهة إلى النساء الداعية لهن إلى السفور، وترك الحجاب، والاختلاط في الأعمال والتعليم والانحلال، وليس هذا أمراً بدعاً من المتأخرين، ليس مشروعية تهيئة الأماكن المناسبة للنساء أمراً بدعاً من المتأخرين، ولقد مرَّ معنا من الأحاديث ما يشهد لمشروعيته، بل قد ورد ما يدل على تخصيص مداخل معينة للنساء لا يشاركهن الرجال فيه، ففي سنن أبي داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) قال نافع: [فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات] وعن نافع قال: [كان عمر رضي الله عنه ينهى أن يدخل المسجد من باب النساء] أخرجه أبو داود.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(148/6)
المساجد والأحكام المتعلقة بها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المؤمنين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إن لبيوت الله أحكاماً وآداباً عديدة ينبغي لكل مسلمٍ أن يتفطن لها، وأن يتفقه فيها، وأن يدركها تمام الإدراك؛ حتى يكون من الذين يقيمون لبيوت الله قدرها وشرفها وحرمتها، لا أن يكون كمثل الذين لا يبالون في أي مكانٍ دخلوا، أو في أي بقعةٍ حلوا، فإن بيوت الله لها من المكانة والحرمة ما ينبغي لكل مسلمٍ أن يتفطن لآدابه وأحكامه.(148/7)
النهي عن إنشاد الضالة في المساجد
وإن من أحكام المساجد يا عباد الله: النهي عن نشد الضالة في المسجد، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سمع رجلاً ينشد ضالةً في المسجد، فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا).
ومثل هذا النهي عن البيع والشراء في المساجد، فعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك) ويدخل في هذا يا عباد الله ما يفعله كثيرٌ من الذين يرغبون أن يروجوا لشيءٍ من السلع، سواءً كانت أشرطةً أو كتباً أو إعلاناً عن نقليات الحجيج أو العمرة أو غير ذلك، فيضعونها في المساجد، فإن المساجد ليست للدعاية ولا للإعلان، ولا يجوز أن توضع فيها هذه الأوراق، على الإطلاق بنص هذا الحديث، إذ هي بيوت ذكر لله، وبيوت للعبادة، وليست بيوتاً لنشر الإعلانات والدعاية فيها.(148/8)
النهي عن رفع الصوت في المساجد لغير حاجة
ومن أحكام المساجد أيها الإخوة: النهي عن رفع الصوت في المسجد بما ليس بحق، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: [كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ ومن أين أنتما؟ قالا: نحن من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] أخرجه البخاري.(148/9)
النهي عن أكل البصل والثوم عند الإتيان إلى المساجد
ومن الأحكام المتعلقة بالمساجد: النهي الشديد لمن يأكلون الثوم والبصل ونحوهما عن إيذاء الملائكة والمصلين بروائحها، قال صلى الله عليه وسلم: (من أكل البصل والكراث والثوم فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) فمن أكل شيئاً من هذه الأمور فليتق الله ولا يؤذي إخوانه المسلمين، ولا يجعل بعض المسلمين هذا حجةً لترك الصلاة مع الجماعة، بقوله: إني أكلت ثوماً أو بصلاً فلا أصلي مع الجماعة، فهذه حجةٌ شيطانية، ووسوسةٌ خبيثة من أجل ترك الصلاة مع الجماعة، بل الواجب على المسلم إذا أراد أن يأكل هذا أن يفعل ما ورد في بعض الآثار والأحاديث الأخرى والتي جاء فيها: (وإذا كان ولا بد فليمتها طبخاً) أي: إذا أكلها فليأكلها بعد طبخٍ يميت رائحتها، وإن أكلها لحاجةٍ فلا بأس أن يعطر فمه أو يعطر بدنه بشيءٍ يزيل هذه الرائحة التي تؤذي الملائكة والمصلين، لا أن يجعل هذا حجةً في ترك الصلاة مع الجماعة.
وإن مما هو أخبث من الثوم والكراث والبصل الدخان الذي ابتلي به بعض المسلمين، منَّ الله علينا وعليهم بالهداية والإنابة، فإنه أخبث رائحة وأشد نتناً وإيذاءً للمصلين من هذه، إن له رائحة خبيثة وإيذاءً، حتى إن بعضهم إذا صف بجوارك لتهم بقطع صلاتك، واستئناف الصلاة في موضعٍ آخر مما يؤذيك من رائحته، فاتقوا الله يا عباد الله واعرفوا لبيوت الله حرمتها وآدابها.(148/10)
حرمة مكث الحائض والجنب في المساجد
ومن أحكام المساجد أيضاً: أنه لا يجوز مكث الحائض ولا الجنب في المسجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد لحائضٍ ولا جنب) أخرجه أبو داود ويسن تطييب المساجد وتعطيرها بالطيب والبخور.(148/11)
حرمة اتخاذ القبور مساجد
واعلموا يا عباد الله أن من أعظم نعم الله على هذه البلاد في مساجدها البعد عن وضع القبور والأضرحة في قبلة المساجد أو في ناحيةٍ من نواحيها، ذلك الأمر الذي ابتليت به كثيرٌ من بلدان العالم الإسلامي، بل فتنوا به فتنة عظيمة، وتنافسوا فيه، حتى أنك لا تكاد تسافر إلى بعض البلدان خاصةً تركيا وما شابهها ممن تأثر بها إلا وترى في المساجد الكبيرة القديمة كثيراً من الأضرحة والقبور، إما أن تكون في قبلة المسجد، أو في ناحيةٍ من نواحيه، وهذا لا يجوز إذ قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد لمن عظَّم القبور وجعلها معظَّمةً في المساجد أو عظمها كالمساجد، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي لم يقم منه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم.(148/12)
فضيلة بناء المساجد وحرمة زخرفتها
واعلموا يا معاشر المؤمنين أن العناية ببناء المساجد أمرٌ عظيم، فإننا نرى كثيراً من أهل الخير وأهل المال والثرى من كبر في سنه أو أراد أن يوصي بوصيته أوصى ببيتٍ كبيرٍ أو بقصرٍ عامرٍ أو بعمارةٍ شاهقة فجعلها وقفاً في أضحية له، وأضحية أخرى له ولوالديه، وقد كان بإمكانه أن يستغل قيمة هذه العمارة، أو قيمة هذا القصر فيبني بها مسجداً متكاملاً، أو أن يشارك في بناء مسجدٍ يتكلفه نصف تكاليف وأعباء بنائه، إن هذا أمرٌ مهم، إذا كانت الأضحية يناله بإذن الله ثوابها في يوم الأضحى فقط، فإن بناء المساجد فيه فضلٌ عظيم إذا كان من مالٍ حلال، يكون أجر وثواب من صلوا فيها يناله شيءٌ من الأجر والثواب العظيم بفضل الله ومنه في كل يومٍ وفي كل لحظة، كل من صلى فيه فريضة أو نافلة، وكل من اعتكف فيها، وكل من قرأ القرآن فيها، فإن له ثواباً عظيماً، فاجتهدوا في ذلك يا عباد الله! وشاركوا وتنافسوا في بناء المساجد، وخصوا الأماكن التي هي بحاجة، بمزيدٍ من العناية.
أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم.
اعلموا يا معاشر المؤمنين أن بعض أهل الخير وفقهم الله يسرفون أو يبالغون في بناء المساجد وزخرفتها إلى الحد الذي يجعلهم يبنون مسجداً بتكلفةٍ تكفي لبناء خمسةٍ أو عشرةٍ من المساجد، فلو فطنوا لذلك وانتبهوا وتنبهوا لذلك لكانوا بذلك ينالون أجوراً وثواباً وأعمالاً مضاعفةً من فعلهم هذا.
أيها الإخوة: إن البعض يبني مسجداً يتكلف فيه أموالاً طائلة، ولو بنى المسجد بناءً متواضعاً جميلاً مهيئاً لائقاً، وخص بعض بلدان المسلمين في أفريقيا وشرق آسيا بما فضل من هذا المال لبناء عددٍ من المساجد هناك، إذ أن الأرض بأثمانٍ بخسة هناك، والأيدي العاملة بأثمانٍ بخسة هناك، وأجور البناء كذلك، وهم في أمس الحاجة إلى ذلك، إذا كنتم تعلمون أن بلدان أفريقيا تشكو وتعاني من التنصير، وأن النصارى ليل نهار يبنون الكنائس فيها، ويبنون دور التنصير، ويبنون دور إضلال المسلمين وبعدهم عن دينهم، فما بالنا يا عباد الله يتعصب بعضنا ولا يبني المسجد إلا هنا.
نعم، إذا رأيت مكاناً بحاجةٍ فذلك خيرٌ لك أن تخصه بالبناء، وأن يكون البناء متواضعاً بقيمة مناسبة على وضعٍ مناسب، لا أن تبذل المال كله فيه وتترك إخوانك في الباكستان وفي الهند وفي بورما وفي أفريقيا وفي كثيرٍ من الدول والأماكن التي هي بأمس الحاجة إلى بناء المساجد والمراكز الإسلامية.
أسأل الله جل وعلا أن يجعل أعمالنا وإياكم خالصةً لوجهه.(148/13)
سبل تفعيل دور المساجد(148/14)
بناء المكتبات التابعة للمساجد
اعلموا يا عباد الله أن من دور المسجد أن يكون مكان تجمعٍ لشباب الحي، وأن يكون مشعلاً وقنديلاً للهداية والتأثير على أبناء كل حي، إذ أن المسجد ولا غرابة في ذلك إذا كان يحظى بجماعة من المصلين اليقظين المثقفين المهتمين المعتنين بأبناء حيهم، فإن المسجد بإذن الله يكون له دور إشعاعٍ ودور تأثيرٍ في التأثير على أبناء الحي والمجتمع، ولذلك سبلٌ عظيمة، وعديدة، أولها: بناء مكتبة مناسبة في المسجد وتزويدها بعددٍ من الكتب، وتأمين هذه المكتبة بما يلزم فيها من الأماكن المناسبة للمذاكرة، وإعداد الواجبات؛ لكي يتعود أبناء الحي على ارتيادها ومعاودتها، يستذكرون فيها دروسهم، ويعدون فيها واجباتهم، ويقرءون فيها الكتب التي تفيدهم.(148/15)
تأسيس حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد
والأمر الثاني من الأمور التي ينبغي أن تعنى بها المساجد وأن يعتني بها الذين هم مسئولون عن المساجد: أن يجعلوا في كل مسجدٍ من المساجد حلقةً لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليمه وتدريسه للكبار والصغار، فهذا من أهم الأمور.(148/16)
تخصيص مكان للنساء في المساجد
وكذلك أيضاً: تخصيص مكانٍ للنساء بحيث إذا أقيمت ندوة أو محاضرة أو درسٍ من الدروس العلمية النافعة لكي يحضره نساء أهل الحي، لا أن تبقى النساء دائماً في البيوت لا يعرفن إلا القليل القليل من أحكام دينهن، فإن هذا مما يجعل للمساجد دوراً عظيماً.(148/17)
أهمية صلاة الجماعة في المساجد
أول وأهم وأعظم وأجل مهمةٍ للمساجد: اجتماع المصلين فيها، وعمارة المصلين لها، وإن كنا في هذا الزمان نلاحظ وندرك أن المساجد تشكوا إلى ربها قلة العمار الذين يحافظون على الصلاة مع الجماعة فيها، خاصةً صلاةً الفجر التي ترتفع فيها المآذن بالتكبير ودعوة (حي على الصلاة) ولكن الكثير عن فرائض الله غافلون، ولكن الكثير عن إجابة دعوة الصلاة في سباتٍ عميق، أبالت الشياطين على رءوسهم؟ أم عقدت العقد على نواصيهم؟ أمَا يتقون الله جل وعلا؟ الواحد منهم يستمتع بسمعه وبصره وجوارحه وكل نعيمٍ وفضلٍ وخيرٍ في ماله وأهله وولده، فإذا دعاه الذي خلقه من العدم، وأنعم عليه بالمال، وأسبغ عليه وافر النعم، ودفع عنه سائر النقم، إذا دعاه ربه إلى إجابة داعي الفلاح تقلب في فراشه وتهاون وترك الصلاة، أمَا يخشى الله؟ أمَا يخشى الذي خلقه ورزقه هذه النعم، أن يسلب عنه نعمة هذه الجوارح؟ وعند ذلك يبقى معذوراً إذا لم يصل في الجماعة، إذا أصبح أشل لا يقوى على الحضور، أو أعمى لا يجد من يقوده، أو أصبح عاجزاً لمرضٍ لا يقوم به من فراشه، عند ذلك يجد لنفسه العذر ألا يحضر إلى المسجد، فما بال القادرين؟ ما بال الأصحاء؟ ما بال الأقوياء يتخلفون عن حضور المساجد؟ وإننا لعلى تقصيرٍ عظيم في تفقد إخواننا الذين لا يحضرون الصلاة معنا في الجماعة، وإن من واجب جماعة المسجد ومن رسالة المسجد ودوره ومكانته أن يتفقد أهل الحي جيرانه الذين لا يصلون، فإن كانوا يصلون في مساجد أخرى اطمأنوا إلى حالهم، وإن كانوا يتهاونون بالصلاة زجروهم ووعظوهم في أنفسهم، وقالوا لهم قولاً بليغاً حتى يصلوا في المسجد مع الجماعة، أو ينفروا ويغادروا من الحي، ورحم الله زماناً قريباً، كان الذي لا يصلي فيه يؤذى من أهل الحي حتى يخرج ويغادر الحي؛ لأن أهل الحي لا يريدون ولا يرغبون من يسكن معهم إلا أن يكون محافظاً على الصلاة مع الجماعة، بعد أن يعظوه وينصحوه ويدعوه إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم، وأن يجعلنا من عُمار المساجد الملازمين للذكر فيها والعبادة، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرجٍ وسفورٍ، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم من أراد بهذا الدين تحويلاً وتبديلاً، اللهم من أراد بهذه الشريعة تغييراً وتحريفاً، اللهم من أراد بهذا المجتمع خوفاً وزعزعة، اللهم أهلكه على رءوس الأشهاد، اللهم افضحه ولا ترحمه يا رب العالمين! اللهم افضحه على رءوس الخلائق يا رب العالمين! بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! اللهم عليك بالإيرانيين الرافضة الفرس، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أهلكهم بدداً، واحصهم عدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم لا ترفع سوط عذابك عنهم، وارفع يد رحمتك عنهم، اللهم اجعلهم أحزاباً متضاربين، وطوائف متناحرين، وأهلك الظالمين بالظالمين، ونج اللهم أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم عجل زوالهم، اللهم قرب فناءهم، اللهم عجل زوالهم بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والسعادة والعافية على طاعتك، ومن كان ميتاً فنوِّر ضريحه، وافتح له باباً إلى جنتك، اللهم نوِّر أضرحة موتانا، اللهم افتح لهم أبواباً إلى الجنان، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم ضيفهم برحمتك، اللهم قابلهم بعفوك، اللهم عاملهم بمنك وبرحمتك يا أرحم الراحمين! إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أسيراً إلا فككته، بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، لا إله إلا أنت الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، اللهم اسقنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اجعله سقيا رحمةً منك عندك وفضلٍ ومنٍ من عندك يا رب العالمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(148/18)
تجيير العقول
لم يجعل الله سبحانه وتعالى العصمة إلا لأنبيائه ورسله؛ أما سائر بني الإنسان فهم مجبولون على الخطأ.
وليس وجود الخطأ في عمل عيباً يجعلنا نهدم لأجله عمل أيام بل ربما شهور وسنين، وما حدث في أفغانستان هو خير مثال على هذا؛ لذا وجب العذر لأهله.(149/1)
الجهاد شجرة لا تروى إلا بالدماء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مُخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالفوز والفلاح والسعادة والنجاة للمتقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! يقول الله جل وعلا: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
أيها الأحبة! بقلوب تلقت نبأ الفاجعة، وبأنفس وآذان سمعت خبر المصيبة، فكان شأنها شأن المؤمنين عند المصائب: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] ودّعت ساعات الجهاد قائداً من قاداتها، وسيداً من ساداتها، ورجلاً من رجالاتها، وداعية إلى التوحيد والسنة من دعاتها، ذلكم هو الشيخ جميل الرحمن، أسأل الله جل وعلا أن يجعل ما نقوله فيه خالصاً لوجه، لا نبتغي بذلك قرباً من أحد ولا بعداً، ونسأل الله أن يجعل ما نقول فيه دليلاً على الولاء للمؤمنين، والبراء من غيرهم.
أيها الأحبة في الله! كلكم سمع هذا الخبر، وتلقى تلك الفاجعة، وليس بغريب، فإن الله جل وعلا يبتلي الأمة {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
معاشر المؤمنين! إن الذين حصل ليس بغريب على رجال الإسلام ودعاته وقادته، كم ودع هذا الدين؟ وكم ودعت أمة المسلمين قادة وسادة ورجالات كان لهم شرف وشأن عظيم؟ وإنا لنسأل الله أن تكون وفاته وخاتمته شهادة في سبيل الله، نسأل الله جل وعلا أن يُكرمه بمنازل الشهداء، وأن يجمعنا به مع الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.(149/2)
حادثة مقتل الشيخ جميل الرحمن
أيها الأحبة! إن القلوب التي تفقه، والأفئدة التي تعي، والبصائر المتدبرة؛ تعلم أن مثل هذه الخاتمة خاتمة كرامة وعزة تُسجل بالدماء آفاق بعيدة، لصفحات وأسفار جديدة لمن مضى وسار على درب الجهاد.
عمر بن الخطاب ألم يمت قتيلاً؟ عثمان بن عفان ألم يمت قتيلاً؟ علي بن أبي طالب ألم يمت قتيلاً؟ كل أولئك من قادة الإسلام ماتوا قتلى، وغيرهم وغيرهم من علماء الإسلام وأئمة الدعوة، ولو دنونا بكم من حقبة مضت إلى زمن قريب نسألكم ونقول: الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ألم يمت قتيلاً؟ إحسان إلهي ظهير ألم يمت قتيلاً؟ عبد الله عزام ألم يمت قتيلاً؟ إن القتل في سبيل الله منزلة لا ينالها إلا القلة، إن القتل في سبيل الله كرامة لا يبلغها إلا الصفوة، لأجل ذا نقول: نسأل الله أن يجعل فقيد الجهاد ممن قال فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
أيها الأحبة في الله! في الجمعة الماضية كان حديثنا عن الفتن، وعما يدور ويحصل في الفتن، وعن ضياع الرأي، وزيغة الفكر، وفقدان التبصر عند كثير من الناس حال الفتنة، وكنا في الجمعة الماضية في حديثٍ معكم كما لو كان الواحد يعلم أن الشيخ قد قُتل، أو كما لو كان الواحد عنده نبأ عن قتل الشيخ، فلما صلينا العصر، إذ بثلة من الشباب الأخيار يخبرونني، ويقولون: عظَّم الله أجرك في الشيخ جميل الرحمن، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله ألا يفتنا بعده، وألَّا يحرمنا أجره، ونسأل الله أن يبدله منزلاً خيراً من منزله، وسكناً خيراً من سكنه، وأهلاً خيراً من أهله، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران:198].
معاشر الأمة! ليس هذا ببعيد، بل كما قلنا: إن الدعوة والجهاد كلما غذي بالدم كالشجرة التي طالما غذيتها بالماء، أنبتت فروعها، وأسبغت دوحتها، وانتشرت أوراقها.
إن الدعوة والجهاد بقدر ما تُسقى بالدماء تنتشر في مجالات عديدة.
يقول سيد قطب رحمه الله عند قول الله جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] يقول: وكم من شهيد لو عاش آلاف السنين ما بلغت دعوته مبلغاً يساوي عُشر ما بلغت، إلا يوم أن رواها بقطرات من دمه، أي: أن الدم يروي الدعوة، الدم يروي الجهاد، الدم يضمن مسيرة قائمة طويلة للجهاد في سبيل الله.(149/3)
لا رفعة إلا بتضحية
هكذا كان شأن الصحابة رضوان الله عليهم، فالله جل وعلا يمنح أمة الإسلام نصراً مؤزراً، ومنزلة عالية، ومكانة رفيعة، وهيمنة وسيادة على الأمم، وهذه لا تُنال بالخطب ولا بالتصريحات أو بالمقالات أو بكلام المجالس، إنما تنال بمشانق تُنصب، وبدماء تراق، وبأشلاء تبتر، وبمصائب عظيمة، ولو قدر لأمة أن تنال مجداً من دون دماء، لكان أول من يناله النبي صلى الله عليه وسلم، ألم تدخل حلقتان من حلق المغفر في وجهه؟! ألم يُشج وجهه؟! ألم تُكسر ثنيته وركبته؟! ألم يناله من الأذى ما ناله؟! ألم يجعل السم في طعامه؟! ألم يُجعل سلى الجزور على ظهره؟! ألم يُوضع الشوك في طريقه؟! ألم يُقتل رجاله وأبناؤه وإخوانه وصحابته؟! ألم يُبتلى في الله أبناؤه ودعاته؟! بلى والله.
لو أن النصر والسيادة والعز والتمكين يُنال بالتوقيع وبالوثائق وبالتصريحات لكان أول من يناله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا حاجة أن تُراق دماء الصفوة من الثلة من الصف الأول من خير القرون: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لو كان النصر والتمكين يكون بالهدوء والدعة والراحة والنوم والطمأنينة لكان أولى الناس به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سنة الله تمضي: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
أيها الأحبة! لقد قدّم النبي صلى الله عليه وسلم تضحيات عظيمة، وذلك بتثبيت الله له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74] لو كان النصر يُنال بالدعة والراحة، أو لو أن نصراً يجيء من دون قطرة دم تُراق، أو يد تُبتر، أو قدم تُشل، أو رُوح تُزهق، أو طعنة في بدن، لكان أولى من ينال هذا آمناً مطمئناً نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن ما بناه صلى الله عليه وسلم من دولة الإسلام كان ثمرته ووقوده وثمنه الدماء والأشلاء.
فلا خلافة إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بالدماء والأشلاء، لا نصر إلا بالدين، ولا دين يُسيطر ويُهيمن إلا بالجهاد، ولا جهاد إلا بالتضحيات: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] لسنا سواء قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، الله مولنا ولا مولى لهم، هذا الكلام لأعداء الدين وللكافرين.
معاشر الأحبة: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
أيها الأحبة في الله! والله إن الفجيعة عظيمة، وإن المصاب جلل، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا جميل لمحزونون، ولكن هذا يومك الذي كتب الله لك، أكرمك الله به بدلاً من أن تموت على فراشك، أكرمك الله أن تموت ميتة الشهداء، نسأل الله ألا يحرمنا وإياك هذا الأجر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(149/4)
دور المنافقين في التحريش بين المسلمين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن الدنيا قصيرة، فلا نقصرها بالذنوب، إن الدنيا قصيرة فلا نقصرها بهموم المعاصي، إن الدنيا قصيرة فلا نقصرها بالفواحش والآثام.
اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
يقول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] إن جميل وسياف ورباني وحكمتيار وقادة الجهاد هم قادة، فمن كان يدعم الجهاد لوجود هذه الأسماء، ولوجود هؤلاء الرجال، فهو يتعبد الله بوجود رجال، ومن كان يدعم الجهاد لوجه الله، وإعلاء كلمة الله، فسيمضي على دعم هذا الجهاد سواء كان الشيخ جميل حياً أو ميتاً، أو سواء كان سياف أو حكمتيار حياً أو ميتاً.
معاشر المؤمنين! هذه عقيدتنا ولا نؤجر شيئاً من العقيدة، ولا يخير شيئاً من الأفكار، ولا نرضى بإعارة شيء من العقل أبداً.
أيها الأحبة! إنما حصل فتنة، وإذا أراد الله أن يُتم أمراً سلب ذوي العقول عقولهم، إنها فتنة ظالمة غاشمة، ولكن هل يسعنا أن نقول: حزب لـ حكمتيار هو المجرم، أو جماعة للشيخ جميل هي المجرمة الآثمة، لا، يقول ابن العربي رحمه الله، وفهرس محب الدين الخطيب لهذا الكتاب في العواصم من القواصم، قال: الفئتان كانتا على حق، والفئة الباغية فئة ثالثة، ينبغي أن ندرك هذا جيداً، لا نجعل عقولنا ضيقة لا تفهم، أو لا تعي من الاحتمالات إلا أن يكون هذا الحزب مجرم، أو هذه الجماعة مجرمة، أو هذا الحزب خاطئ، أو هذه الجماعة مخطئة.
نقول: لا، إنهم ليسوا معصومين، ولا مبرأين، يندس في صفوفهم من ينتسب لهم بظاهر مذهبه، أو بظاهر زيه، وإن كان في حقيقته ليس منهم، يندس في صفوفهم من يتكلم بلغتهم وليس منهم، وحينئذٍ يظن البسطاء أن الجريمة ارتكبها الحزب ضد الجماعة، أو أن الجماعة هي التي فعلت هذا ضد الحزب، لا والله، إن من وقر الجهاد في قلبه، وإن من غلّب المصالح ورجح المقاصد النافعة، ووازن بين المفاسد وغيرها، واستطاع أن يعرف أدنى المفاسد من أعلاها، وأعلى المصالح من أدناها، إن الذي رجح هذا لحري بأن يعرف أنه لو قامت مشكلة، ليس هذا أوان علاجها بالنار، والشيوعية لا زالت جاثمة على كابول.
ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، اندس بين الصفوف من اندس، ومنذُ القِدم ونحن نسمع بمناوشات وبأناس من المنافقين والعملاء والدخلاء، هم الذين يغذون هذا الخلاف، وينسبون إلى القادة ما ليس فيهم، وينقلون ما لم يكن، ويتحدثون بما لم يحصل، ومع هذا كله ما استطاعوا أن يفرقوا بين المجاهدين، أو يثنوا بينهم وبين المضي في تحرير كابول من الشيوعيين.
ولما علم السفلة والخونة وأذناب الاستعمار وعملاء أجهزة المخابرات أن التحريش بالكلام لم يجد قالوا: لا بد من التحريش بإطلاق النار، وليس عجيباً أن تتأمل في الصف، فترى ضعيفاً معتوهاً غبياً ساذجاً فتغسل دماغه، وتقول له: إن الأمر هكذا، ولو قتلت هذا لكان فيه صلاح، ليس غريباً أن تستغل رجل في نفسه من الحقد والعداوة ليقوم بتنفيذ هذا الأمر، وفعلاً حصل هذا، ولما سألنا عن حقيقة هذا القاتل، قالوا: هو صحفي في مجلة من المجلات التي تخدم المجاهدين، أو هو مراسل، ولكن انظروا كيف تخترق الصفوف ليدخل أعدى أعدائها في ثناياها.
ومعاذ الله أن نقول: إن تلك الجماعات أو تلك الأحزاب سواء جماعة الشيخ جميل على كفر وشرك ووثنية وضلالة، نستغفر الله، إن اتهام الأمة بالجملة اتهام الأمة بالجزاف، وهذا أمر لا يقبله العقلاء، هل من المعقول أن نرمي بثلاثة عشر عاماً من الدماء والأشلاء والأيتام والجماجم والثكالى والأيامى والمشردين والأموال والإغاثة والتضحيات والفكر والوقت عرض الحائط عند قتل واحد من خيرة قادات الجهاد، معاذ الله أن نقول بهذا أيها الأحبة.
أين العقول؟ نقطع الدعم عن الجهاد لما قُتل أحد رجالاته وساداته، بل إن الأمر والوفاء والصدق أن نمضي على طريقه إلى أن نلقى الله جل وعلا، أن تقوم الساحة وأن يُدعم الجهاد دعماً كاملا بجميع أشكاله إلا ما استثني من دعم الصوفية والمخرفين.
أما أحزاب عرفناها من قديم، كـ الحزب الإسلامي لـ يونس خالص، من دعاة الجهاد وعلماء المجاهدين، وحزب قلب الدين حكمتيار، وحزب الاتحاد لـ سياف، والجمعية الإسلامية لـ رباني، وجماعة الدعوة للشيخ جميل، وخلفه كما علمت سميع الله، نسأل الله أن يجعله خير خلف لخير سلف، وأن يسدده، وأن يبصره، وأن يعينه على إطفاء نار الفتنة، وأن يبصره ويعينه على طرد العملاء والمنافقين، وأن يكون سبباً لجمع الشمل، وامتداداً لنشر التوحيد، وتعليم العقيدة والدعوة.
أيها الأحبة! معاذ الله أن يجمع ربنا أمة الإسلام على دعم جهاد بين مشركين وموحدين، هذه مصيبة ثلاثة عشر عاماً والمسلمون في أنحاء العالم يدعمون الجهاد حتى نأتي في اللحظة الأخيرة ونقول: جماعة على التوحيد، وبقية الجماعات على وثنية أو شرك.
معاذ الله أن نقول هذا! وإن هذا يخدم أعداء الدين، لو تعصبنا لجماعة واحدة وتركنا بقية أحزاب الجهاد، ما الذي ينبني عليه؟ كلٌ يضع يده على كتفه، ويقول: الأمر انتهى، والجماعة التي دُعمت جماعة فلان فهي تتولى مسئولية الجهاد، وكلٌ ينكص على عقبه، وتصمد جماعة واحدة للشيوعية، ثم يتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، فيئدونها في مضجعها، ويقتلونها عن بكرة أبيها.
إن جماعة الدعوة ليست رخيصة إلى هذا الحد حتى نقطع الدعم عن كل جماعة إلا هي، فنجعلها وحدها في الساحة لا تدري تكابد من: الشيوعيين أم العملاء أم المنافقين، بل واجبنا أن ندعم الجماعات جميعاً، حتى يصلوا بهذا الجهاد إلى بر الأمان وشاطئ السلامة، وإقامة الدولة على السنة.(149/5)
قاعدة: درأ المفاسد وجلب المصالح
معاشر المؤمنين! لا نجير عقولنا لأحد، لو أن رجلاً في الجنوب أو في الشمال رأيناه يعقد تميمة، هل من المعقول أن نقول: إن قاضي البلد من المشركين؟ لو رأينا رجلاً في الرياض يعتقد بالشعوذة، أمن المعقول أن نقول: إن سماحة الشيخ من المخرفين أو المشركين؟ إذا ارتكب الذنب ذاك نتهم هذا بمصيبته، وهب أن الرجل نُصح ودُعي إلى قطع تميمته، أو إزالة منكره، فأبى وأصر وحوله من قبيلته الجاهلة ما يتعصب به، والمجاهد أو القائد بين أمرين: بين مضيٌ في جهاد الشيوعيين، وبين التفات لتعليم هذا.
أمن الحكمة أن نقول: دع جهادك وابدأ بقومك فقاتلهم على تميمة أو علم أخضر على قبر، ليكون علامة لشهيد؟ أنا لا أقول هذا إقراراً به، لكن أقول: إن من طلب العلم، وعرف المقاصد والمصالح، والمفاسد والمنافع، ووازن بينهما، عرف أن ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما أمر مطلوب، وعلم أن تفويت المصلحة الصغرى لتحصيل مصلحة كبرى أعظم مطلوب.
إن سب المشركين وآلهتهم مشروع، ولكن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ترك سب آلهة المشركين حتى لا يجُر ذلك إلى أن المشركين يسبوا الله.
قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة وأعدت بناءها على قواعد إبراهيم) ومع ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الراجح لأمرٍ مظنون أو لأمر قد يقع، ألا وهو أن تهتز نفوس القوم لمكانة وعظمة الكعبة في قلوبهم.
نحن لا نقول: نرضى بالتمائم، أو من رأيناه معلقاً تميمة أو وضع علماً أخضر على قبر من قُتل، نحسبه من الشهداء أو نسأل الله أن يكون من الشهداء، نحن لا نقول له: هذا عمل جيد، هذا عمل من السنة، لا، لكن نقول: انصحه، وبين له، وقرب له الأمر.
من الناس من يظن أن الوضع في أفغانستان كالوضع في الرياض أو كالوضع في جدة، أو كالوضع في الجنوب أو الشمال، بمعنى أنه لو أخطأ أحد فبإمكانك أن تأمره، فإذا لم يأتمر بوسعك أن ترفع به إلى قاضي البلد، ويُستدعى ويحاكم، ويقام عليه الأمر.
يظن أن الأمر هكذا، ولا يعلم أن الأفغان من البادية شيء كبير، قبائل شتى، ولو أن رجلاً اعتدى على واحد منهم في أمر تربى عليه منذ الطفولة لكان حرياً أن يستنجد بأرومته وقبيلته، ثم حينئذٍ ماذا يكون شأن القائد؟ هل يقاتل قومه، أم يقاتل الشيوعيين؟ من قال: إن المجاهدين لا يريدون أن يغيروا أو يصلحوا؟ ولكن منهم من يقول: نبدأ بهذا بطريقتنا وأسلوبنا، ونقول: أنت على حق وجزاك الله خيراً، ومنهم من يقول: نشتغل بالشيوعيين، ونوجه النصيحة لهؤلاء، ونقول: جزاك الله خيراً، وأنت على حق.
أما أن نريد أن نجمع الأمة بالقوة والقهر، ونحن لم نتمكن بعد، نورث خلافات ومصائب وأمامنا العدو الأكبر وهو الشيوعية، ثم من هو الذي يقول: إن مسألة التميمة تساوي مسألة الإلحاد والشيوعية، أين العقول أيها الإخوة؟! إن مصيبتنا ممن لم يفقه إلا حديثين أو ثلاثة، أو آيتين أو أربع، ثم يذهب يوماً أو يومين أو أسبوعاً أو أسبوعين، ثم يقول: نصحت فلم يغيروا التميمة، أمرت فلم يرفعوا العلم.
شيء طبيعي لا يغيروا، من أنت حتى نغير لك؟! هل عرفناك بالتضحية؟ هل ذقت شيئاً مما ذقناه؟ هل جعت كما جعنا؟ هل عطشت كما عطشنا؟ هل رأيت من الجراح والآلام كما رأينا؟ هل رأينا منك الصبر والثبات كما صبرنا؟ ثم بعد ذلك إذا وُجد من استطاع أن يثبت يكون حري بأن يغير، وما أكثر الشباب الذين عرفتهم في جبهات الشمال، في بنشير وبدخشان وهرات، وفي جبهات أخرى، عاشوا ثمانية أشهر وعشرة أشهر، تواضعوا، تأدبوا تلطفوا، حتى تَعلَّم الأفغان منهم التواضع وحسن الأدب.
ثم قربهم إلى قلبه، وقربهم إلى الكتاب والسنة، وأثنى على الإمام أبي حنيفة؛ لأنهم يعتقدون في الإمام أبي حنيفة إمام المذهب، وهم جهلة عندهم أن الله لا يمكن أن يعبد إلا على طريقة أبي حنيفة عند بعضهم.
ولا يُلام إذا تربى على ذلك، لكن إذا بقيت عندهم، وأحسنت صحبتهم، وكسبت قلوبهم، ثم قلت: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله من أقرب المذاهب إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الإمام الأعظم أبا حنيفة من الذين يقولون: ما وافق الكتاب فهو مذهبي، وإذا صح الدليل فهو مذهبي، اعرضوا قولي على الدليل، فإن وافقه وإلا فاضربوا به عرض الحائط، حينئذٍ تعرض عليهم الدليل وتقول: هذا مذهب أبي حنيفة، فيقبلون به ويسمعون.
أما أن تأتي لمدة أسبوع أو أسبوعين، وتريد أن تقطع التمائم من الصدور بهذه الطريقة، أين العلم والوعي والبصيرة والحكمة في الدعوة إلى الله يا إخوان؟!(149/6)
جهاد سنين لا تضيعه نفثة منافق
من الناس من يُريد أن يغير أناساً عاشوا سنين طويلة على جهل، وهي مسئوليتنا وليست مسئوليتهم فحسب، بل مسئوليتنا نحن يا معاشر الخريجين، وحملة الشهادات، وطلبة المعاهد، وأبناء الكليات ممن لم يُكلف نفسه عناء السفر ولو على حدود المملكة لتعليم الناس الفاتحة، أو لتعليم الناس الأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة، وكشف الشبهات.
نريد أن يتغيروا ونحن لم نتحرك، نريد أن يصلحوا ونحن لم نُصلح، نريد أن يحسنوا ونحن لم نُحسن، أي أمر هذا الذي نريده؟! أنتحدى؟! أنطلب إعجازاً؟! فلنتق الله في شأن الجهاد، ثم إننا لو سلّمنا بقطع الجهاد -الجهاد في أفغانستان - لخلدت روح الجهاد في شباب المسلمين، إنني أفرح يوم أن يأتي شاب يقول: أريد الجهاد ووالدي لم يأذن، أقول: اقنع والدك، واستعن بالله، وادع الله في الليل أن يهدي الله والدك للجهاد، ويأتي بعد يومين يبشر أن أباه وافق، ويقول: أذهب إلى أين؟ تنصحني إلى من؟ أذهب إلى جبهة من؟ أقول: اذهب إلى من شئت ولا تتعصب، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، سواءً في الشمال أو في الجنوب أو في كنر أو في جلال أباد أو خوست، أو أي مكان من الأماكن.
ما رأيت من صواب فأعن وثبِّت، وما رأيت من خطأ فتلطف وأصلح، هذا هو منهج الدعاة، ليس منهج الشطط.
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر
إما أن تصلح كلها، وإما أن تخرب كلها، هذا جهل يا إخوان، هذا تضييع لجهود المسلمين، هذا خطأ في التفكير، هذا خطأ في التصور، ونسأل الله جل وعلا أن يثيب شبابنا.
إننا والله نقول هذا الكلام ونعلم أن من شبابنا من قد يضيق صدره بهذا، أقول: من القلة، وهؤلاء القلة، أقول: أسأل الله أن يثيبكم، وأسأل الله أن يثبتكم، وأسأل الله أن يجزيكم على غيرتكم، هل غاروا لأجل دنيا؟ هل غيرتهم لأجل منصب؟ هل غيرتهم عصبية؟ غيرتهم لله ورسوله، فهم والله يؤجرون، وما أجمل الأجر إذا وافق الصواب! من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر.
لا أقول مسفهاً أو متكلماً بآرائهم، لا والله، وإنما أتمنى أن يجمع الله لهم مع إخلاصهم الغيرة لدينه، وللتوحيد والعقيدة، أن يجمع لهم حُسن السبيل والوسيلة واللين، حتى يبلغوا بر الأمان.
ويا شباب الجهاد أجمعين! دوركم أن تجمعوا بين الناس، دوركم أن تألفوا صفوف القادة، اتصلت البارحة بأحد القادة وكلمته في الأمر، قال: ادع الله لنا بأن يجمع شمل القادة، إن الفتنة مصيبة، والطريق إلى الفتنة هو الاختلاف، فإن كنتم صادقين في حب الجهاد، فادع الله أن يؤلف بين قلوب القادة، وهناك جهود ماضية، ولجان مستمرة في التحقيق في هذا الحادث، ومن عُرف بجريمته يُقدم للمحاكمة ويُقتص منه، ولو تمالئ على قتل الشيخ أهل صنعاء لقتلوا به، كما قال عمر: [والله لو قتله أهل صنعاء لقتلتهم به].
إن الأمر حينما نقول: إننا ندعو الله أن يُصلح الحزب، وأن يُصلح الجماعة، نحن لا نُزكي أو نقول: هذه جماعة معصومة أو حزب معصوم، وأيضاً لن نضرب بهذه القيادة وهذه الجهود عرض الحائط، رجل يخوف أوروبا، هل من السهولة ألا نعبأ بشخصيته وسيرته؟ رجل يتمنى رونالد ريجان أن يقابله مرتين، فيقول: لا يُشرفني مقابلته، لا نبالي بشخصيته ولا نعبأ بمنزلته، أخطر وأكبر تنظيم منظم عسكري بقوة، هو الحزب في أفغانستان، فهل نرمي به عرض الحائط؟ أم نبحث عن الذين كانوا وراء الفتنة، ونسأل الله أن يُظهر من كان وراء الفتنة، وأن يُمكن القضاة واللجان منه، وأن يُقام عليه الحد، وأن يُقتص منه، ونسأل الله أن يُهلك من بهلاكه صلاح المجاهدين.
فلا تك فيها مُفرِطاً أو مفرِّطاً كلا طرفي قصد الأمور ذميم
نحن أيها الإخوة! بحاجة إلى التوازن، وبحاجة إلى الوسطية، وبحاجة إلى العدل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة:8].
هذا في شأن من نكرههم، فما الحال بشأن من نحبهم في الله وفي الجهاد في سبيل الله؟! المسألة جد خطيرة، فلننتبه لها جيداً أيها الأحبة، ومن كان ساعياً فليُصلح بين القادة، وليُصلح بين الشباب، وليُؤلف قلوبهم، وليحرص أن يذيب العصبية بين الناس، إن التعصب شر: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] نجمع ونبني وندعم ونؤسس ونجاهد، ثم نرمي بالجهاد عرض الحائط، لنقول: أين الساحة القادمة؟ أهكذا شأننا؟ تخطيط أهوج، ثلاثة عشر عاماً جهاد، ثم نرمي به عرض الحائط ونقول: الساحة القادمة مانيلا، الفليبين أو مورو نقاتل فيها، أو ثم نقاتل عشر سنوات، ثم إذا عرفنا بشيء حصل بين نور مسواري أو سلامة هاشم، قلنا: اتركوا هذا الجهاد نذهب إلى أثيوبيا، ثم إذا ذهبنا إلى أثيوبيا عشر سنوات رضينا به.
ليس هذا بعقل، ونحن مسئولون عن دماء الأمة، وعما حصل، نجير هذا ونضيعه بين عشية وضحاها، ماذا تقول للقتلى والشهداء واليتامى والثكالى والأبرياء؟ أججتمونا حتى بلغنا هذا الأمر، ثم تركتمونا، ما ذنب الشيخ المشرد العجوز، المرأة، الطفل، اليتيم، الجريح المعوق؟ ما ذنب أولئك جميعاً؟ هم موجودون في كل حزب، وموجودون في كل تنظيم.
فيا أمة الإسلام! انتبهوا لهذا، وإذا سمعتم من يسب هذا ويمدح هذا، أو يسب هذا ويمدح ذاك، فقولوا له كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما ذكرت الفتنة عنده، قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] ولما قال ابن عباس للربيع بن خثيم: [لو رآك الرسول لأحبك] لما قيل له: إن الحسين أو علياً قُتل، قال: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر:46] هذا شأن المسلمين، شأن أهل السنة والجماعة مع نصرة الحق في كل شبر، في كل موقع وأرض، ونسأل الله ألا تكون عصبيتنا لأشخاص دون مناهج، نسأل الله أن يكون ولاؤنا للحق، وعصبيتنا للحق، ودعوتنا إلى الحق.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم اهلك من بهلاكه صلاح المجاهدين، اللهم اهلك من بهلاكه صلاح واجتماع شمل المجاهدين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم أقم دولتهم، اللهم اجمع أحزابهم، اللهم ألف قادتهم، اللهم اغفر لميتهم، اللهم فك أسيرهم، واجبر كسيرهم، واكفل يتيمهم، وتلطف بضعيفهم يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين المنسية، وفي سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم ولِّ علينا خيارنا واكفنا شرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم اختم بالشهادة والسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم حبب إلينا دينك وثبتنا عليه إلى أن نلقاك، اللهم اجعل المعاصي أبغض ما نرى، والملاهي أبغض ما نسمع، اللهم بغض وكره إلى نفوسنا المعاصي والفواحش والملاهي والمنكرات.
اللهم ادفع عنا الربا، اللهم ادفع عنا اللعنة، اللهم ادفع عنا الربا والزنا والزلازل والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(149/7)
تربية الأبناء
تحدث الشيخ حفظه الله عن جانب مهم أغفله كثير من الآباء، ألا وهو معاملة الأبناء بالطريقة التي تعود عليهم بالنفع في الدنيا قبل الآخرة، وهذه الطريقة هي معاملة الأبناء على هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ من احترامهم وتقديرهم والاستماع لآرائهم، وإتاحة المجال لهم لإبراز مواهبهم.(150/1)
ملحظ في تربية الأبناء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه والند والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
أيها الأحبة: كلكم يعلم أن هذه الآية الجليلة أصلٌ عظيمٌ وركنٌ متينٌ في باب التربية وفي باب العناية بالنشء والأولاد عامة، والصغار خاصة.
أيها الإخوة: موضوعنا اليوم هو أن نتعرف على ألوان من أساليب تعامل الكثير منا مع أولادهم الصغار.
إن كثيراً من المسلمين -هدانا الله وإياهم لما يحبه ويرضاه- لا يقيمون للطفل الصغير في البيت وزناً، ولا يظهرون له تقديراً أو احتراماً، وقد يعجب بعضكم: ومن هو هذا الصغير الذي هو كفءٌ أن يظهر له التقدير والاحترام؟! نعم أيها الإخوة! إنه ولدي وولدك وأخي وأخوك وابني وابنك.
عباد الله: بعض المسلمين هداهم الله يتسببون في إحداث العقد النفسية وآلام الانفصام والقلق وعدم ثقة الطفل بنفسه؛ وذلك بنوع المعاملة التي يعاملون بها الأطفال والصغار، فترى الواحد منهم إذا كان عنده ضيوفٌ أو بعض أصدقائه أو جيرانه، تراه إذا دخل ولده الصغير عليهم، طرده قائلاً: اخرج، أو اذهب إلى أمك أو تنحى عن هذا المكان، أو لا ينبغي لك أن تجلس هنا.
أيها الأحبة: إن هذا من الأساليب العقيمة في التربية، وإن هذا الأسلوب والسلوك مع الصغار ليحطم جرأتهم، وليقلل كثيراً من قدراتهم ومواهبهم التي ربما نلنا منها خيراً كثيراً لو فتحنا مجال المعاملة، وفتح باب الصدر معهم.
فالذي ينبغي لنا يا عباد الله! أن نلتفت لهذا الصغير، وأن نعامله معاملة كريمة، فإذا دخل عليك في مجلسٍ وأنت ترغب أن يجلس معك فيه أحد، فلا تطرده من أول وهلة من حين دخوله، دعه حتى يجلس، ثم ناده بعبارة لطيفة هادئة، فإذا استقر مكانه بجانبك خاطبه كأنك تخاطب رجلاً كبيراً عاقلاً، وإن كان لا يفهم كثيراً مما تقول؛ لكن ينبغي أن تخاطبه كما تخاطب الكبار في سنهم، فتقول له: يا ولدي، لي مع جاري هذا أو صديقنا حديثٌ خاص أود ألَّا يشاركنا فيه أحد، فلو سمحت بالذهاب إلى داخل البيت، أو تركت لنا الفرصة والمجال لنتحدث سوياً، عند ذلك سيطرق الطفل برأسه وسيحرك رأسه ويظهر لك أنه يفهم ما تقول، وإن كان لم يفهم من كلامك إلا رغبتك في انصرافه، لكنه على أية حال علم أنك أقمت له وزناً، ولمكانته قدراً، وخاطبته بأسلوبٍ يحبه ويريحه، خاصة أمام الآخرين.
إن الكثير من الآباء الذين وقعوا في زجر وطرد أبنائهم، وبعضهم يقعون في سب وشتيمة أطفالهم، سواء في المنزل أو أمام الضيوف، أو أمام أولاد الأقارب والأصدقاء والجيران، إنهم ليجنون جريمة تربوية في حق أطفالهم ونشئهم، أتدرون ما يحدث هذا النوع من المعاملة للأطفال الصغار؟ إنه يحدث لهم عقداً نفسية، فيظنون أنهم غير قادرين على مخاطبة الكبار، ويظهر ذلك يوم أن يأتي صديقٌ من أصدقائك إلى منزلك فيريد أن يسأل عنك فلا يستطيع هذا الطفل جواباً، بل قد تجده يحرك رأسه يمنة ويسرة أو يتمتم بكلماتٍ وعبارات لا تفهم، في حين أن من في سنه من الأطفال يتحدثون ويتكلمون ويفهمون الكلام ويردون الجواب، وما سبب تلك المشكلة في نفس ذلك الطفل إلا نوع المعاملة التي لقيها من أبيه وأمه.
أمرٌ آخر: أن الطفل إذا أخطأ في بعض الحالات فكثيرٌ منا يظهر مقدرته الرجولية وكفاءته التربوية بضرب هذا الطفل الصغير وجلده ومعاقبته أمام أبناء الجيران، وأمام أولاد الأقارب والأصدقاء، وهذا خطأٌ عظيم، إذ أن طفلك في حقيقة أمره يود لو جلدته ألوان الجلد سراً، المهم ألا يراه الصغار من أبناء الجيران أو الأقارب وهو يهان ويضرب ويجلد، لأنه يعلم في قرارة نفسه -وإن لم يستطع التعبير عن هذا- أن مكانته واحترامه أمام أنداده وأقرانه من الصغار تظهر من نوع معاملة الوالدين له، فإذا أخطأ طفلك أو ارتكب خطأً من الأخطاء؛ فواجب عليك أن تدعوه على انفراد، وتخلو به، وتشرح له حقيقة ما فعل، وأخطاء ما ارتكب، وما يترتب على ذلك لو أنه فعل هذه الفعلة مرة أخرى، هكذا ينبغي أن نعامل الصغار، وهكذا ينبغي أن نحترم قدراتهم ومواهبهم.
إن هذه الطائفة من الأجيال الصغار الذين نظن أنهم لا يحسنون نطقاً ولا يفهمون كلاماً، ولا يجيدون تصرفاً، إن الكثير منهم ليملك مواهب عالية، وطاقاتٍ عجيبة، لكنها في حدود سنه، وفي حدود الزمن، وفي حدود المرحلة التي يمر بها، فإذا أحسنا التعامل مع حدود هذا الطفل من حيث سنه ومرحلته، فإننا نجني مع ذلك خيراً عظيماً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(150/2)
احترام الأولاد في الصغر يُظهر ثمرته في الكبر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.(150/3)
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم للأطفال
أيها الإخوة: قد يعجب بعضكم من حديثنا آنف الذكر وهو أن نقيم للأطفال قدراً واحتراماً، أقول: لا تعجبوا ولا تستغربوا، فإن ذلك من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول أنسٌ رضي الله عنه: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر على الصبيان سلَّم عليهم].
إن كثيراً منا ليمر على الكثير من الأطفال الصغار، فيربأ بنفسه أن يلتفت برأسه باسماً أو باشاً إليهم، وبعضهم يرتفع بقدره عن أن يسلم عليهم، لست أفضل من نبينا، ولست أكرم من رسولنا صلى الله عليه وسلم الذي يقف للعجوز والصغير والكبير، يقول أنس: (كان يسلم على الصبيان) فهذا دليلٌ وأصلٌ وقاعدةٌ في احترام الأطفال الصغار وإظهار قدرهم؛ لأنه منذ تلك اللحظة التي يدرك الصغير فيها أننا نسلم عليه ونلتفت له، ويعلم أن ألواناً من الآداب والأخلاق لابد أن تسود هذا المجتمع في جانب المعاملة، وفي جانب معاملة الصغار للكبار، والكبار للصغار، فينشأ عليها نشأة تربوية إسلامية صالحة، أما أن نترفع عنهم، أو نسبهم، أو نشتمهم، أو نظهر لهم ألوان السباب والكلام البذيء، فإنهم يلتقطون منا ما نخرجه إليهم وسيردون البضاعة علينا في يومٍ من الأيام؛ فينبغي أن نقدم لهم بضاعةً نظيفةً طيبةً صالحة، حتى إذا دار النقاش أو حصل الكلام، سمعنا منهم ألطف العبارة، وألين الكلام، وأجمل الأساليب؛ لأننا نحن الذين زرعنا وبذرنا ذلك في نفوسهم، فعند ذلك نحصد ثمرته، ونجني عاقبته.
إن بعض الآباء هداهم الله لا يرون للأطفال محبة ولا تقديراً أو كرامة، بل إن بعضهم لا يكون في قلبه الرحمة لأولاده، ولعل الكثير منهم بسبب تبلد حسه لا يلتفت إلا إلى الصغير منهم فقط، وقد لا يلتفت إليه، وأما بقية أولاده فإنه لا يلتفت إليه ولا يداعبه ولا يلاعبه ولا يمازحه، وهذا خطأٌ عظيم، إن هذا نوعٌ من الجفوة والقسوة.
دخل الأقرع بن حابس على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فرأى أحد بني ابنته جالساً على رجله يقبله، فقال الأقرع بن حابس: (أوتقبلون صبيانكم يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يَرحم لا يُرحم).
إذاً يا عباد الله: أظهروا وأبرزوا وبينوا معالم العطف والرحمة باحتضان الأطفال، وبالالتفات لكلامهم، وتفهم ما يحتاجونه، والنظر إليهم بعين التقدير والاحترام، فهذا كفيلٌ وحريٌ بأن يظهر ويغرس نوع المعاملة المبنية على الكرامة والتقدير والاحترام بين الولد ووالده.
ألسنا نرى كثيراً من الآباء يدعو ولده فلا يلتفت إليه، وينادي ولده فلا يجيبه، ويصرخ بولده فكأن شيئاً لم يحدث! لماذا؟ لأن الطفل مراتٍ ومرات، صاح بوالده، يا أبتِ! ما هذا؟ فلا يجيبه، يا أبتِ! أخبرني عن هذا؟ فلا يلتفت إليه، يا أبتِ! ما هو السبب في هذا؟ فلا يقيم لسؤاله وزناً ولا قدراً، فعند ذلك يعامله بنفس الأسلوب في باب جواب النداء، فلا يلتفت الصغير إلى الأب يوم يناديه، ولا يلقي له بالاً في كثيرٍ من الأحيان والأحوال.
وعلى أية حال، إنك لن تجني من الشوك العنب، ينبغي أن نتفهم أحوال صغارنا وأن نلتفت لهم، وإن مما يؤسف له أن نرى بعض الأسر الغربية في دول الحضارة الغربية الساقطة من الذين أقاموا لهذه الناحية وزناً وقدراً في مرحلة الطفولة، لكنهم سرعان ما يضيعون جهودهم يوم أن يصل الفتى أو الفتاة إلى مرحلة المراهقة، فيطلقون باب الإباحية والعلاقة المفتوحة لهم، على أي صعيدٍ وعلى أي مستوى، وبأي أسلوبٍ يتعرفون ويرتبط بعضهم ببعض.
ينبغي أن نكون -معاشر المسلمين- سباقين لهذا الأمر وأن نفهمه، لا سيما وأن له أصولاً عظيمة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ واقفاً يخطب، فإذا بأحد بنيه يمشي يتعثر في ثوبٍ له، فنزل صلى الله عليه وسلم وحمله على يده، وأتم خطبته وحديثه، لقد كان صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ ساجداً فجاء الحسن أو الحسين فركب على ظهره والنبي صلى الله عليه وسلم ساجد، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه، فلما أكمل صلاته قال: (إن ابني هذا ارتحلني -أي: جعلني رحلا- فتركته حتى قضى نهمته، ثم نزل، ثم قمت إلى صلاتي) لقد جاءت أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي، فلما تعلقت عند رجله حملها وأخذ يركع ويسجد وهي في يده، أي عطفٍ! وأي شفقةٍ! وأي رحمة! أين أرباب التربية؟ وأين أساتذة الأخلاق؟ وأين دكاترة الأخلاق والنبل؟ أفلا يرون في هذا النبي الكريم الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب أروع المثل في سيرته وفي كلامه وفعله، أروع التجارب وأصدق الخبرات في باب التربية؟ إن كثيراً من المسلمين عن هذا غافلون.(150/4)
سلبية الآباء في إشغال أبنائهم
عباد الله: بقي مسألة خطيرة، والكلام عن جوانب تربية الصغار له جوانب شتى، والحديث عنه يطول، بقي مسألة أو مسألتان، أما المسألة الأولى فهي أن بعض الآباء إذا شكا من كثرة كلام ولده أو كثرة أسئلته فكر في طريقة سلبية للحل، واعلموا أن كثرة كلام الطفل وكثرة أسئلته ليس أمراً غريباً، بل هي فرصة التوجيه والتربية والتعليم عن طريق السؤال والجواب، بعض الآباء حينما يشكو من هذه الظاهرة، في تلك المرحلة من مراحل نمو ولده، ماذا يفعل؟ يشتري جهاز فيديو، ويشتري خمسين أو عشرين فيلماً من أفلام الكرتون كما تسمى، أو الصور المتحركة، ثم يضعها لهذا الطفل، ويقول للخادمة: إذا استيقظ، فاجعلي له هذا الشريط، فإذا انتهى فاجعلي له هذا الشريط، وعند ذلك من الذي يربي الطفل؟ إنه الشريط، من الذي يوجه الطفل؟ إنه فلم الفيديو، من الذي يعلم؟ إنها الصور المتحركة، هذه جريمة تربوية يفعلها ويجنيها كثيرٌ من الآباء على أبنائهم، فإذا قارب الولد دخول سن الدراسة وجد الأب عند طفله عزوفاً عن التعليم، ورغبة في الدلال، وحباً فيما يشتهي، وكراهية لما هو مقبلٌ عليه من التربية والتعليم، ثم يقول: هذا ولدٌ سيماه الفشل، هذا ولدٌ ضعيف، هذا ولدٌ كذا، ونقول بصريح العبارة: الفاشل أبوه، والضعيف أبوه، والمسكين أبوه الذي جعل الأفلام المتحركة هي التي تربيه، إنني أنصح كثيراً من الآباء أن يرفعوا هذه الوسيلة عن أبنائهم، إنها والله وسيلة مدمرة وفتاكة وقاتلة، إنها تهدم ما يبنى من العقائد، وتكسر ما ينشأ من التربية.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
عودته على هذه الأفلام وعلى هذه الصور المتحركة، كيف ترجو منه احتراماً للأذان يوم أن يرفع؟ وكيف ترجو منه حباً للصلاة يوم أن ينادى إليها؟ وكيف ترجو منه حباً وبراً ومعاملة طيبة وأنت الذي قدمت له السم الزعاف بيدك؟ فمن وقع في هذا فليرفعه عن ولده، لا بأس أن بعض الآباء يحتاجون إلى هذا الجهاز -الفيديو- وهو جهازٌ كسائر الأجهزة؛ وإن كان غلب في هذا الزمان استعماله في الضلال والباطل، لكن بعض الآباء قد يقدم هذا الجهاز ويجعل فيه أفلاماً عن تعليم اللغة العربية، وتعليم الأرقام، وتعليم العمليات الحسابية، لا بأس بهذا، ما دام الأب موجوداً ومراقباً ومطلعاً وشاهداً وحسيباً على ما يحدث وعلى ما يعرض أمام ولده، فإذا انتهى الدرس أو المادة، عند ذلك أغلق الجهاز حتى لا يكون وسيلة إلى دس الأشرطة الخفية بين الجارات والفتيات والأطفال والأصدقاء، لكي يُنظر بعد هذا الدرس إلى ما لا تحمد عقباه، وما لا يجوز النظر إليه.(150/5)
دعوة الآباء إلى الإصلاح
عباد الله: مسائل التربية وعلاقتنا بأطفالنا ينبغي أن نجدد النظر فيها، ينبغي أن نتمعن فيها، ينبغي أن نلتفت لأنفسنا فيها.
من منكم في ساعة من اليوم أو في يومٍ من الأسبوع أو أسبوعٍ من الشهر وقف وجمع أولاده وقرأ عليهم حديثين أو ثلاثة من رياض الصالحين، وشرح لهم معانيها، أو قرأ عليهم آية من الآيات وبيَّن لهم أحكامها، أو عوَّد طفله على كثيرٍ من الآداب الإسلامية عند الاستيقاظ وعند النوم، وعند بدء الطعام، وعند الفراغ منه، وعند الدخول، وعند الخروج، وعند ركوب السيارة، إلى غير ذلك؛ لكي يربط الطفل بذكر الله جل وعلا منذ نعومة أظافره، وعند ذلك نحمد تربيته ونجني الثمرة المرجوة منه.
أسأل الله جل وعلا أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، وأن يعيننا على تربية أولادنا وأطفالنا، وتفهم مشاكلهم، ومعرفة ما يدور في أنفسهم، وتفريغ كثيرٍ من الأوقات أو جزءٍ من الأوقات لمعاملتهم وإشباع حاجاتهم ورغباتهم، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بـ الجعفرية، اللهم عليك بـ الاثني عشرية، اللهم لا ترفع سوط عذابك عنهم، وارفع اللهم يد رحمتك عنهم، اللهم اجعلهم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أشعل فتيل الفرقة بينهم، اللهم أشعل نار الفتنة بينهم.
اللهم اهلك الظالمين بالظالمين، اللهم اهلك الظالمين بالظالمين، اللهم اهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمدٍ من بينهم سالمين غانمين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وجنبنا أسباب سخطك، اللهم ارفع وادفع عنا البلاء والزنا والربا والزلازل والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من سيئ الأوجاع والأسقام، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم احفظ إمام المسلمين، وأصلح بطانته، واهدِ قلبه، وأصلح مضغة قلبه، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(150/6)
توبة صادقة
إن هذه الأمة المحمدية قد غرقت في آونتها الأخيرة في وحل المعاصي والذنوب والسيئات، وليس لها مخرج من ذلك إلا بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والتوبة إليه، وإن من دلالات صدق التوبة النصوح عدم الرجوع إلى الذنب الذي قد تيب منه.
ولقد ضرب لنا الصحابة الكرام أروع الأمثلة في صدق اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى وما زال في أمتنا بقية من أولئك، وسترى نموذجاً من ذلك في هذه المادة إن شاء الله.(151/1)
المخرج من شؤم المعاصي
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يرضى ربنا جل وعلا، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
معاشر المؤمنين! كلنا نقع في الذنوب والمعاصي، ولا يسلم أحدٌ من صغير أو كبير على اختلافٍ وتباينٍ فمستقل ومستكثر، فمن الناس من يظلم نفسه ظلماً تكفره الصلوات والعبادات والأعمال الصالحات، يقول الله جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما ظلم العبد نفسه بصغائر الذنوب والمعاصي من غير إصرار، فذلك تكفره آيتا النجم والنساء، بقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وبقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] فمن أذنب ذنباً من الصغائر وأعقبه استغفاراً وعبادة وحسناتٍ ماحية للسيئات، فحري أن يعفى عنه.
واعلموا أيضاً -يا عباد الله- أن الذنب لا ينسى، وأن الديان لا يموت، وأن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ويتساهل الكثير منا مع إصراره على مجموعٍ من الصغائر والكبائر وهو يرى نعم الله عليه تترا، ويرى من نفسه إصراراً واستمراراً على الذنوب، يرى أن ليس للذنوب شؤمٌ ولا عاقبة، وكما قال ابن القيم رحمه الله: يزعم بعضهم أن هذا على حد قول القائل:
إذا لم يغبر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ
وقد نسي الكثير أن شؤم المعصية يدرك العبد ولو بعد أربعين سنة، إلا من تاب إلى الله توبة صادقة.
معاشر المؤمنين! ما المخرج من شؤم المعصية؟ ما المخرج من شؤم الكبيرة؟ ما المخرج من شؤم الذنب؟ أيبقى الذنب وصمة -كما يراه النصارى- وصمة باقية لا تزول إلا بدم المسيح المخلص على حد خزعبلاتهم وهرطقاتهم؟! لا والله، المخرج من شؤم الذنب والمخرج من بلاء المعصية هو التوبة الصادقة، التوبة النصوح، وكلنا ندعي التوبة وما أكثر ما نتوب فنعود، وما أكثر ما نعاهد فننكث، وما أكثر ما نعاهد الله على ترك أمرٍ فنعود إليه أسرع ما نكون، ما أحلم الله عنا، إن الله غفور حليم.(151/2)
دلالات صدق التوبة
أيها الأحبة! إن لمن أعظم دلالات صدق التوبة الندم! الندم الذي يجعل القلب منكسراً أمام الله، مخبتاً لذكر الله، وجلاً من هول عذاب الله، إن من تمام صدق التوبة العودة بالإيمان إلى أعلى درجاته: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] فمن رأى وجلاً وإخباتاً وخشوعاً وانقياداً لله بعد توبته فذاك دليلٌ على صدقها.
أما أن يكون الواحد يذنب الذنب، فيقول: أستغفر الله بلسانه، ولكن جوارحه لا تقلع، وقلبه لا يفتر عن الهم والقصد والتزيين، فذاك قد يصدق عليه الأثر: إنما المنافق الذي يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به: هكذا فطار، أما المؤمن فيرى ذنوبه كجبلٍ يوشك أن يقع على رأسه، فهو خائفٌ وجلٌ من ذلك.(151/3)
قصة المرأة الغامدية وصدقها في التوبة
أيها الأحبة! ولقد جاء في سير الصحابة والتابعين والسلف الصالحين ما يدل على صدق توبتهم وصدق أوبتهم إلى الله جل وعلا، فمن الماضي والصدر الزاهر من عصر النبوة أذكر لكم قصة امرأة زنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلسعها حر المعصية، وآلمها حر الكبيرة، وأقلقها حر الفاحشة، فجاءت إلى رسول الله، وقالت: يا نبي الله! أصبت حداً فطهرني، عجباً لها ولشأنها ولأمرها، تعلم أنها جاءت وهي محصنة حدها الرجم بالحجارة حتى الموت، جاءت إلى رسول الله تقول: يا رسول الله! إنني حبلى من الزنا فطهرني، فانصرف عنها صلى الله عليه وسلم بوجهه يمنة، فعادت إليه، فالتفت يسرة، فعادت إليه، حتى الرابعة، فقال: (اذهبي حتى تضعي هذا الذي في بطنك) فذهبت فلما أن تمت حمله فصاله، عادت إلى رسول الله، قالت: يا رسول الله! أنا المرأة التي جئتك حبلى من الزنا فانصرفتَ عني وقلتَ: (اذهبي حتى تضعي حملك) وها أنا وضعته وهذا هو بين يديك، أقم حد الله علي، طهرني من ذنبٍ ارتكبته، ومن فحشٍ أجرمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اذهبي حتى ترضعيه حولين كاملين) فذهبت به ترضعه حولين كاملين، وحرارة المعصية تلسع فؤادها، وتحرق قلبها، وتقض مضجعها، وتقلق ضميرها، فلما أن أتمت فصاله جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنا المرأة التي جئتك حبلى من الزنا، فقلت: (اذهبي حتى تضعي جنينك) فذهبت فوضعته، ثم جئتك، فقلت: (اذهبي حتى تكملي رضاعه) وقد أتممت رضاعه حولين كاملين، وجاءت بالصبي وفي يده كسرة خبزٍ إشارة إلى أنه استغنى بأكله عن ثديها، لماذا؟ حتى لا يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر واحداً من الصحابة بكفالة رضيعها، فشدت عليها ثيابها رضي الله عنها، وجمعنا بها في دار كرامته مع نبينا والصحب الراشدين والأبرار الصادقين، فشدت عليها ثيابها، فرجمت، فأخذ أحد الصحابة فهراً رمى به على رأسها؛ فسالت دماؤها على ثوبه؛ فكأنه نال منها، فقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد تابت توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) لو زنا أهل المدينة، أو شربوا الخمر، أو أكلوا المكس كلهم لوسعتهم توبة هذه المرأة، مما بلغ بقلبها من الخوف والتعظيم لله، ومن كان بالله أعرف، كان منه أخوف.
أيها الأحبة! هذه قصة وحادثة، وحديثٌ ما كان يفترى من الصدر الأول، دليلٌ على عمق التربية الإيمانية التي ربى النبي صلى الله عليه وسلم الفرد والأسرة والمجتمع عليها، وإنها والله لمؤثرة، وفي القصص تأثير وعبر: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] ليس من نسج الأوهام والخيال.(151/4)
قصة التائب أحمد وصدقه في توبته
وفي زمننا هذا وفي عصرنا تعود صور التوبة صادقة لامعة، براقة مشرفة، متوجة بصدق اللجوء والرجوع إلى الله جل وعلا، وقبل أن أذكر لكم هذه الحادثة التي ستسمعون وقائعها، وقد يطول المقام بذكرها، أقول: إن الشيطان سيأتي إلى قلوب وعقول البعض ويقول: هذا من نسج الخيال، أو هذا من المبالغة، أو هذا مما يصاغ للتأثير والتعبير، والله ثم والله ما كانت هذه القصة حديث مجالسٍ، وإنما هي من شابٍ لعله يكون من بيننا، هو الذي أخبرني بها، سلسلتها ذهبية، وسندها عالٍ، من هذا الشاب الذي أخبرني بها في مجلسٍ، ودعوته صباح هذا اليوم لأكتب وقائعها ولأسمعكم إياها، هذا الشاب هو الذي يذكرها مع صاحبنا التائب الذي نذكر تفاصيل توبته.
أيها الأحبة! يقول صاحبنا هذا: كنت ذاهباً إلى دولة عربية مجاورة، يستغرق مدة السفر في هذه المهمة يوماً واحداً، ورجعت إلى المطار استعداداً للإياب، وقد أنهكني التعب، لم أجد فندقاً نظيفاً، ولم أتعود السفر، دخلت فندقاً لأول وهلة فإذا بالنساء والرجال والفساد والعهر والدعارة، فقال لي رجل: ما الذي جاء بك إلى هنا، لما رأى من حسن مظهره، وصلاح سمته، فقال: هي والله أول مرة آتي هنا، وليس لي حاجة سوى مهمة تدوم يوماً واحداً، فقال: اخرج يا شيخ عن هذا المكان فليس لائقاً بمثلك وأمثالك، قال: كيف أفعل والنهار يمضي والليل مقبل؟ فمضيت إلى حديقة أجلس فيها، حتى بزغ الصباح، وأنهيت مهمتي، وعدت إلى المطار استعداداً للإياب وأنا في تعبٍ ونصبٍ من هذه الرحلة التي ما ذقت فيها النوم إلا غفوات، فالتفت يمنة ويسرة أبحث عن مكانٍ أجلس فيه، فوجدت مكاناً أعد للصلاة في زاوية هذا المطار، وجدت مصلىً صغيراً فذهبت ونمت فيه نوماً عميقاً؛ لأنني متعبٌ، وفي قرابة وقبيل الظهر استيقظت على بكاء شاب يصلي، فالتفت فإذا بشابٍ فوق العشرين ودون الثلاثين يصلي ويبكي بكاءً مريراً؛ يبكي بكاء زوجةٍ فقدت زوجها وهي تنظر، أو بكاء ثكلى فقدت ولدها من بين يديها، قال: فعدت وقد أعياني التعب والنصب لنومي.
ثم دنا ذلك الباكي بعد لحظات، وأيقظني للصلاة، ثم قال: هل تستطيع أن تنام؟! هل تستطيع أن تنام؟! قلت: نعم.
قال: أما أنا فلا أقدر على النوم، ولا أستطيع أن أذوق طعمه، فقلت له: نصلي وبعد الصلاة يقضي الله أمراً كان مفعولاً.(151/5)
سفر التائب أحمد إلى إحدى الدول ووقوعه في فاحشة الزنا
فأقبلت عليه بعد ذلك، قلت له: ما شأنك؟ قال: أنا من الرياض، من أسرة غنية، كل ما نريده مهيأ لنا من المال والملبس والمركب، لكنني مللت الروتين والحياة، فأردت أن أخرج خارج البلاد، فأجلت النظر هل أذهب إلى دولة يذهب إليها الناس؟! فخشيت أن يعرفوني فيفضحوني، فاخترت من بين دولٍ عدة، وقررت الذهاب إلى هذه البلاد التي أنا وإياك في مطارها، حتى لا يعرفني أحد، وما كان همي فعل فاحشة، بل لعبٌ وقضاء وقتٍ ولهوٌ وتفسحٌ، والشيطان لا يأتي عبداً من عباد الله -أيها الإخوة- ليقول له: اخرج لتزني، أو اخرج لتشرب خمراً، وإنما يقول: انظر إلى معالم السياحة، وقلب بصرك في حضارة الدول المختلفة، خرج وهذا همه، فلما وصل إذا برفقة سوءٍ كانت قد أحاطت به إحاطة السوار بالمعصم، فاطمأن إليها بادئ الأمر وما زالوا معه من ملاهٍ إلى ملاهٍ، ومن لعبٍ إلى عبث، حتى أتوا به رويداً رويداً إلى خطوات الزنا، إلى بدايات الزنا مع الجواري والنساء والفتيات الغانيات الرشيقات، وما زالوا به حتى انفرد بواحدة منهن وما زالت تلاعبه حتى وقع بها وزنا بها، ولما بلغ به الأمر مبلغه، وبلغت فيه الشهوة ذروتها وأخرج ما في جوفه، إذا بلسعة حرارة تلسع قلبه، وتضرب ظهره، وسياطاً في فؤاده يجدها، فجعل يبكي، وقام عنها وهو يبكي ويصيح: زنيت وأول مرة أزني! كيف انتهكت هذا الجدار، وهذا السور المنيع من الفاحشة؟!! كيف وقعت في الزنا؟!! إني سأحرم حور الجنة.(151/6)
ندم التائب أحمد بعد الزنا وشدة بكائه
انطلق به شأن وأمر عجيب، فخرج من الباب باكياً وإذا بفاجرٍ من القوادين ينتظره، فقال: ما لك تبكي؟ قال: لقد زنيت أتعرف كيف زنيت؟! لقد زنيت، ماذا قال ذلك الماجن الداعر؟! قال: الأمر هين، خذ كأساً من الخمر تنسى ما أنت فيه.
قال: حتى أنتم ما زلتم بي حتى فقدت حور الجنة بفعل هذا الزنا! وتريد أن تحرمني خمر الجنة تقدم لي هذا الكأس! سبحان مقلب القلوب يا عباد الله! قال ذلك القواد الفاجر: إن الله غفورٌ رحيم، وقد نسي أن الله شديد العقاب، وأعد للمجرمين ناراً تلظى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك، إذا رأت المجرمين سمعوا لها تغيظاً وزفيراً وشهيقاً.
ثم أخذ الشاب يبكي من حرقة ما أصابه، ثم ذهب يهيم على وجهه، ويقول لصاحبه الذي يحدثه في المطار: يا ليتهم أخذوا مالي! لقد مضوا بي إلى الزنا! لقد أفسدوا وكسروا ديني وإيماني! يقول الشاب: وفي تلك اللحظة التي انتهيت فيها من الزنا ومنذ تلك اللحظة وأنا لا أزال باكياً قلقاً حزيناً.(151/7)
محاورة التائب أحمد مع صديقه وتوديعه له
فقال صاحبنا هذا: أتلو عليك آية من كلام الله فلتسمع، فتلا عليه قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] هذه أرجى آية أقرؤها عليك وأراها لك.
فأجاب ذلك التائب الذي بلغت التوبة في قلبه ذلك المبلغ قال: كلٌ يغفر الله له إلا أنا، لا نقول هذا موافقة على القنوط، وإنما لقد بلغ الأمر به مبلغاً لا يزال به متأثراً.
ثم رد عليه قائلاً: ألا تعلم أني زنيت؟! ثم سأل ذلك التائب صاحبه: هل زنيت أنت؟ قال: لا والله، قال: إذاً أنت لا تعلم حرارة المعصية التي أنا فيها، قال: وما هي إلا لحظات حتى أعلن منادي المطار إقلاع الرحلة التي سأعود فيها إلى الرياض، فأخذت عنوانه وودعته ثم انصرفت، وأنا واثقٌ أن ندمه سيبقى يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم ينسى ما فعل.(151/8)
إصرار التائب أحمد على تسليم نفسه للمحكمة
فلما مكثت في الرياض قليلاً بعد وصولي إذا به يتصل بي، فواعدته ثم قابلته، فلما رآني انفجر باكياً ويقول: والله مذ فارقتك وفعلت فعلتي تلك ما تلذذت بنومٍ إلا غفوات.
ما قولي أمام الله يوم أن يسألني ويقول: عبدي زنيت؟ فأقول: نعم.
زنيت وسرت بقدمي هاتين إلى الزنا، فقال صاحبنا لذلك التائب: هون عليك إن رحمة الله واسعة، إن الله غفور رحيم.
ثم قال ذلك الشاب التائب لصاحبنا هذا: ما جئتك زائراً ولكني جئتك مودعاً.
قلت: إلى أين؟ قال: جئتك مودعاً ولعلي ألقاك في الجنة إن أدركتني رحمة الله، أو رحمني الله بواسع رحمته، قلت: إلى أين تذهب؟ قال: أسلم نفسي إلى المحكمة، وأعترف بجرم الزنا حتى يقام حد الله علي.
فقلت له: أمجنونٌ أنت؟! أنسيت أنك متزوج؟! أنسيت أن حد الزاني المحصن الرجم بالحجارة حتى الموت؟! قال: ذاك أهون على قلبي من أن أبقى زانياً، وألقى الله زانياً غير مطهرٍ بحدٍ من حدوده.
قال صاحبنا: أما تتقي الله! استر على نفسك، استر على أسرتك، استر على جماعتك.
قال: كلهم لا ينقذونني من النار، وأنا أريد النجاة من عذاب الله.
قال: فضاقت بي المذاهب، وأخذته وقلت: أريد منك شيئاً واحداً.
فقال التائب: اطلب كل شيء إلا أن تردني عن تسليم نفسي إلى المحكمة.
قال: غير ذلك أردت منك وأريد أن توافقني عليه.
قال: ما دام غير ذلك أوافقك.
فقال صاحبنا له: امدد يدك عاهد بالله على أن تعمل وتصبر لما أقول.
قال: نعم.
فعاهدني.
قال: فقلت: نتصل بالشيخ فلان من أكبر العلماء وأتقاهم لله، حتى نسأله في شأنك فإن قال: سلم نفسك إلى المحكمة، أنا الذي أذهب بك بنفسي، وإن قال: لا.
فلا يسعك إلا أن تسمع وتطيع.
قال: نعم.
فسألت الشيخ، قال الشيخ: لا يسلم نفسه، وقال الشيخ الذي سئل عن تسليم الشاب نفسه إلى المحكمة: إن هذا الشاب قد أقلقه بالهاتف، واتصل به مراراً يريد أن يقنعه أن يسلم نفسه، ويجادل ويلح ويصر على تسليم نفسه، قال: فلما قابلته، قلت: لماذا أزعجت الشيخ بهذا الاتصال، وأنا الذي قد كفيتك مئونة الاتصال به؟! فقال: أحاول فيه لعلي أقنعه فيوافقني أن أسلم نفسي.
قال: ومن كلام هذا الشاب التائب للشيخ إني قلت له: اتق الله يا شيخ! فأنا أتعلق برقبتك يوم القيامة وأقول: إني يا رب! أردت أن أسلم نفسي ليقام حد الله علي فردني ذلك الشيخ، فقال الشيخ: هذا ما ألقى الله به، وما أفتيتك إلا عن علم.(151/9)
ذهاب التائب أحمد إلى الحج
ثم قال الشاب التائب لصاحبنا: إني أودعك! قلت: إلى أين؟ قال: أريد الحج، وكان الحج وقتها على الأبواب، فطلبت منه أن يحج معنا، قال: لا، فظننته قد اختار رفقة يريد أن يحج معهم.
قال: فحججت وحج صاحبنا هذا وأنا لا أعلم مَنْ رفقته، وفي ثاني أيام التشريق، رأيته من بعيد فناديته وكان اسمه أحمد، يا أحمد! يا أحمد! فالتفت إلي ورآني، ثم ولى هارباً، فقلت: سبحان الله! ما الذي غير قلبه علي، لعلي أراه في الرياض.
قال: فلما قضينا مناسكنا وعدنا إلى البلاد، قابلته فسألته فقال: قد حججت وحدي، وتنقلت بين المشاعر على قدمي -وهذا الكلام يقوله التائب مقولة سر لصاحبنا هذا الذي أخبرنا بالقصة، ما يقوله تفاخراً أو رياءً أو سمعة- يقول: تنقلت بين المشاعر على قدمي لعل الله أن ينظر إلي ذاهباً من منى إلى عرفة، أو واقفاً على صعيد عرفة، أو ذاهباً إلى مزدلفة أو ماضياً إلى الجمرات لعل الله أن ينظر إلي فيرحمني.
قلت له: لماذا هربت يوم ناديتك ثاني أيام التشريق؟ فقال: كنت مشغولاً بالاستغفار، أستغفر من الزنا الذي فعلت.
قلت: هلَّا جئت معنا؟ يقول صاحبنا له: هلَّا جئت معنا أو جلست معنا؟! قال: أنا أجلس معكم! أنتم أطهار تريدون أن أدنسكم بالزنا! أنا رجلٌ زانٍ لا أستطيع أن أدنس مجالسكم! وكان التائب في حجه تارة يقول: أخشى ألا يغفر الله لمن حولي بشؤم ذنبي، وتارة يقول: لعل الله أن يرحمني بهؤلاء الجمع المسبحين الملبين.(151/10)
تأثر التائب أحمد بقصة الربيع بن خثيم وآيات من سورة الفرقان
قال: ثم إنه دامت الصلة والزيارات بيني وبينه، وما زلنا نقرأ في سير التائبين والصالحين، وكنا نتمعن ذلك ونتدبره، قال صاحبنا الذي يذكر لنا هذه الواقعة: ثم إن التائب هذا بعد الحج حفظ القرآن كله، وأصبح يصوم يوماً ويفطر يوماً، يقول: وفي ذات يومٍ كنا مجتمعين نقرأ في سير الصالحين الأولين، فمرت بنا قصة الربيع بن خثيم؛ ذلك الشاب الذي لم يجاوز الثلاثين من عمره، شابٌ، وسيمٌ، قويٌ، حييٌ، عالمٌ بالله، خائفٌ منه، وكان في تلك البلاد الذي فيها الربيع بن خثيم من الفساق والفجار الذين يتمالئون ويتواطئون على إفساد الناس، وإفساد الأبرار والأطهار الصالحين، قال: ثم إن أولئك تمالئوا وقالوا: نريد أن نفسد الربيع بن خثيم، قالوا: ومن ذا الذي يفسده؟ قالوا: نأتي إلى غانية -والغانية: هي التي استغنت بجمالها عن المحسنات والمجملات- نأتي إلى غانية باغية فندفع لها ما يكون سبباً في أن تغوي الربيع بن خثيم، فأتوا إلى أجمل من عرفوا من البغايا وقالوا: لك ألف دينار، قالت: على ماذا؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع، أن يقبلك الربيع بن خثيم فلك ألف دينار، قالت: ولكم فوق هذا أن يزني وأن يفعل ويفعل ثم إنها تهيأت إلى الربيع من قبله على طريقه في مكان خالٍ، ثم سفرت عن لباسها وتعرضت له في ساعة خلوةٍ، شاب أمام فاتنة جميلة.
فلما رأى بدنها في تلك اللحظة الخالية صرخ بها قائلاً: كيف بك لو نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟! أم كيف بك لو نزل ملك الموت وقطع منك حبل الوريد؟! أم كيف بك لو سألك منكرٌ ونكير؟! فصرخت صرخة عظيمة، ثم ولَّت هاربة وأصبحت من العابدات حتى لقبت بعابدة الكوفة، ثم قال أولئك المفسدون الذين تمالئوا على إفساد الربيع: لقد أفسدها الربيع علينا.
قال صاحبنا هذا: فلما سمع التائب هذه القصة تأثر وبكى، وانفجر باكياً، يقول: الربيع يردها وأنا بقدمي أذهب لأزني بها! الربيع يردها هذه -التي اعترضت أمامه في الطريق- وأنا أذهب لأزني بها! قال: ثم انصرف عن مجلسه باكياً متأثراً، حزيناً منكسراً، ثم بعد ذلك قال صاحبنا: ورأيت أحد العلماء فأخبرته بقصته، وما كان منه من انكسار، وإياب، وصيام، وحفظ للقرآن، وصلاة، فقال: لعل زناه هذا قد يكون سبباً لدخوله الجنة، ولعل بعض الآيات قد تصدق في حقه بل قد تنص في حقه بعينها، وهي قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
قال صاحبنا: لما سمعت هذه الآية عجبت، وقلت: كيف غفلت عن هذه الآية؟! فوليت إلى بيت صاحبنا، وليت إلى بيته في دار أبيه العامرة في قصر أبيه الفسيح، ذهبت إليه لأبشره قالوا: إنه في المسجد، فذهبت إليه في المسجد فوجدته منكسراً تالياً للقرآن، فقلت: عندي لك بشرى! قال: ما هي؟ فقلت له: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] قال: فلما بلغت هذه الآية كأني أطعنه بخنجرٍ في قلبه، قال: فمضيت تالياً: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70] قال: فلما أكملت هذه الآية قفز فاحتضنني وقبل رأسي، وقال: والله إني أحفظ القرآن ولكن كأني أقرؤها أول مرة، لقد فتحت لي باباً من الرجاء عظيماً، وأرجو الله أن يغفر لي بها، ثم أذن المؤذن فانتظرنا إقامة الصلاة، وغاب الإمام ذاك اليوم، فقام مؤذن المسجد وقدم صاحبنا التائب، فلما كبر وقرأ الفاتحة تلا قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الفرقان:68] فلما بلغ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] لم يستطع أن يكملها، فركع، ثم اعتدل، ثم سجد، ثم اعتدل، ثم سجد، ثم قام، فقرأ في الركعة الثانية الفاتحة وأعاد الآية، يريد أن يكملها فلما بلغ: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:70] لم يستطع أن يكملها، فركع وأتم صلاته باكياً.(151/11)
توديع التائب أحمد للدنيا ولحوقه بربه
ومضى على هذه الحال زمناً إلى أن جاء يومٌ من الأيام الماضية، وكان يوم الجمعة، من عطلة الربيع عام (1409هـ) وبعد العشاء من ذلك اليوم اتصل بي رجلٌ، فقال: -واسم صاحبنا الذي أخبرني بالقصة أحمد، والشاب التائب اسمه أحمد- فقال: أنا والد صاحبك أحمد وأريدك أن تأتي إلي مسرعاً في أمرٍ مهم، قال: فخرجت مسرعاً خائفاً، فلما بلغت باب قصره إذا بالأب واقفٌ على الباب فسألته ما الخبر؟ فقال: صاحبك أحمد يطلبك السماح وهو يودعك إلى الدار الآخرة، لقد انتقل مغرب هذا اليوم إلى ربه، ثم انفجر الأب باكياً، يقول صاحبنا: وأنا أهون عليه وبقلبي على فراق حبيبي وصديقي مثل الذي بقلب والده، ثم دخلنا، فأدخلني في غرفةٍ، يقول صاحبنا الذي يذكر القصة: كان صاحبي فيها مسجىً مغطى، فكشفت عليه ووجهه يتلألأ نوراً، كشفت وجهاً قد فارق الحياة لكنه أنور وأبهى وأبهج وأجمل من قبل موته، كله نور، ورأيت محياً كله سرور، فقال لي والده: إني أسألك ما الذي فعله ولدي يوم أن سافر منذ أن جاء من السفر وهو على حاله؟! قال صاحبنا هذا -وكان قد عاهد ألا يخبر بالقصة بعينها، وإنما يذكرها على سبيل العظة والاعتبار، دون تحديدٍ لاسم شخصية عائلة هذا الشخص حتى لا يعرف- قال: صاحبنا لوالده: إن ولدك يوم أن سافر فقد عزيزاً عليه في سفره ذلك، نعم، فقد في تلك اللحظة إيماناً عظيماً، فقد في لحظة الزنا إخباتاً وإقبالاً لقد فقد عزيزاً.
أما زوجة هذا التائب، فتقول: إن نومه غفوات، وما استغرق في نومٍ بعد رجوعه من السفر، وهم لا يعرفون حقيقة القصة، قال صاحبنا: فسألت والده عن موته، فقال الأب: إن ولدي هذا كما تعلم، يصوم يوماً، ويفطر يوماً، وفي يوم الجمعة هذا، بقي عصر يومه في المسجد يتحرى ساعة الإجابة، وقبيل المغرب ذهبت إلى ولدي فقلت: يا أحمد! تعال وأفطر في البيت، فقال: يا والدي إني أحس بسعادة فدعني الآن، قال: يا ولدي! تعال لتفطر في البيت، قال: أرسلوا لي ما أفطر عليه في المسجد، قال: أنت وشأنك، وبعد الصلاة قال الأب لولده: يا ولدي! هيا إلى البيت لتتناول عشاءك، فقال التائب أحمد: إني أحس براحة عظيمة الآن، وأريد البقاء في المسجد، ولكن بعد صلاة العشاء سآتيكم لذلك، فقال الوالد: أنت وما أردت، ولما عاد الأب إلى المنزل أحس بشيء يخالج قلبه، ويخاطر فؤاده، يقول الأب: أحسست بشعورٍ غريب، فبعثت ولدي الصغير، فقلت: اذهب إلى المسجد، وانظر ما الذي بأخيك.
فذهب الولد وعاد صارخاً، يا أبت! يا أبت! أخي أحمد لا يكلمني، يقول الأب: فخرجت مسرعاً إلى المسجد، فوجدت ولدي أحمد ممدداً، وهو في ساعة الاحتضار، وكان يتكئ على مستند ليرتاح عليه في خلوته بربه، واستغفاره وتلاوته، قال: فأبعدت عنه المستند الذي يتكئ عليه، وأسندته إلي، فنظرت إليه، فإذا هو يذكر اسم صاحبنا هذا الذي يقص علينا القصة، هذا الذي بلغنا الواقعة، وكأنه يوصي بإبلاغ السلام إليه، ثم إن التائب أحمد هذا الذي توفي ابتسم ابتسامة في ساعة الاحتضار، يقول أبوه: والله ما ابتسم ابتسامة مثلها من يوم أن جاء من سفره، ثم قرأ في تلك اللحظة -التي يحتضر فيها ويتبسم- وهو يرتل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70] قال: فلما بلغ هذه فاضت روحه، وأسلم الروح إلى باريها.
يقول الأب لصاحبنا هذا: والله لا أدري هل أبكي على حسن خاتمته فرحاً، أم أبكي على فراق ولدي، وفلذة كبدي، ثم إن هذا القصة أصبحت سبباً في صلاح أسرته وإخوانه.
فيا أيها الأحبة! البدار البدار إلى التوبة، فإن الموت لا يمهل المذنبين، ووالله ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، وما بعد الموت من مستعتب، فهل يفقه هذا مذنب؟! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(151/12)
لا بد من الرجوع إلى الله وتذكر الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتوبوا إليه، فإن أجسامكم على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! الموت لا يمهل المذنبين: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
أيها الأحبة! أبعد هذه التوبة يبقى مصرٌ على عصيانه؟! أيبقى بعد هذه التوبة معاكسٌ على معاكسته، أم هاجر للجماعة على تركه الصلاة، أم عاقٌ يمضي في عقوقه، أم قاطعٌ يجبو في رحمه، أم فاجرٌ يمضي في فجوره، أم شابٌ غرته الصحة والعافية والثراء والمال يسافر إلى مختلف الدول ليفعل ما يفعل؟! أبعد هذا الموت الذي يفاجئ الإنسان إما على نعمة أو نقمة، إما على خاتمة حسنة أو على خاتمة سيئة؟! وما أكثر الذين تخطفتهم ملائكة الموت وهم في أحضان البغايا أو على موائد الخمور، أو في سفر الغفلة، أو في لهو المعصية؟! أبعد هذا يصر بائعٌ لأشرطة الفيديو على هذا؟! أبعد هذا يبقى بائعٌ للتسجيلات في الأغاني على هذا؟! أبعد هذا نرضى بالمنكرات في بيوتنا؟! أبعد هذا نمضي على إسرافنا في أمرنا؟! نجمع ألواناً من السيئات، ونعد أنفسنا من خيار الناس! نجمع الإسبال وحلق اللحى والاستماع إلى الأغاني والتهاون بصلاة الجماعة ثم نقول: نحن خيرٌ من ذاك وذاك! نعدها صغائر وهي والله كبائر، بإصرارنا وبقائنا عليها، بدوامنا عليها.
أيها الأحبة في الله! إننا لمغرورون، يزين بعضنا بعضاً، إذا قابلتك مدحتك، وإذا قابلتني مدحتني، وكأننا من أهل الجنة، ووالله لو انتقدنا بعضنا، ونصحنا بعضنا بأصول النصيحة وآدابها لما وجدنا فينا حمداًَ إلا القليل، ولكن كما قال ابن الجوزي رحمه الله: اعلم أن الناس إن أعجبوا بك فإنما اعجبوا بجميل ستر الله عليك، والله ما جمل بعضنا أمام بعض إلا جميل ستر الله علينا، وإلا فنحن مقصرون، متهاونون، مذنبون، نرجو الله أن يعاملنا بعفوه، نرجو الله أن يعاملنا بمنه، نرجو الله أن يعاملنا برحمته إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا.(151/13)
توديع العام المنصرم
إن الإنسان خلق في يوم محدود ولحظة محدودة، وسيرحل عن هذه الدنيا في يوم محدود ولحظة محدودة مقدرة عند الله جل وعلا قبل أن يخلقه، وإذا مر يوم من أيامه فإنما هو تعجيل لباقي عمره؛ فليرجع إلى الوراء، وليتفكر ما عمل في أيامه الماضية، وأعوامه المنصرمة، وإن محاسبة العبد نفسه في كل يوم مضى، وعام انقضى؛ ليدل على أنه على خير، فلنحاسب أنفسنا، ولننظر ما قدمنا لآخرتنا فإننا -والله- مسئولون عن كل لحظة ودقيقة ضيعناها.(152/1)
الأدلة العقلية على الفناء والزوال
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يتذكر أو أراد شكوراً، أحمده جل جلاله وأثني عليه الخير كله، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله الله جل جلاله إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أنكم في يومكم هذا طويتم صحائف عام كامل مضى وانقضى، وبدأتم عاماً جديداً، أتعجبون وتقولون سرعان ما انقضى! وكيف مرت كالبرق فيه تلك الليالي والأيام! فهي مطاياكم تحث بكم السير إلى النهاية، فالليل يسير بكم مرحلة، والنهار يقدمكم أخرى، وكل يوم تمرون به يباعدكم عن الدنيا ويقربكم إلى الآخرة.
أليست -عباد الله- حكمة واضحة؟ أليست آية بالغة، ودليل فناء وانقضاء؟
منع البقاء تقلب الشمس وخروجها من حيث لا تمسي
وبزوغها صفراء لامعة ومغيبها حمراء كالورس
طلوع الشمس من مشرقها مشرقة مضيئة، ثم زوالها وغروبها مصفرة ضعيفة، ثم هجوم الظلام ورحيل الضياء، ثم بزوغ فجر جديد، يطوي بالعباد يوماً بليلة، ويستهل بهم خطىً نحو الآجال والغايات، بزوغ الأهلة صغيرة نحيلة، ثم تنمو نحو الكمال وبدور الجمال، وماذا بعدها إلا المحاق والزوال؟ وأنتم يا بني آدم! تبدءون في الأرحام نطفاً، وتخلقون علقاً ومضغاً، وتولدون رقاقاً ضعافاً، ثم تبلغون أشدكم، ثم تكونون شيوخاً، فمنكم من يرد إلى أرذل العمر، ومنكم من تخطفه الآجال قبل ذلك.
إذاً يا عباد الله! كل شيء في هذا الوجود دليل على الفناء والزوال، وشاهد على بقاء رب العزة والجلال: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور:44].(152/2)
دعوة في محاسبة النفس في العام المنصرم
عباد الله! تأملوا عامكم هذا الذي ودعكم، كم ولد فيه من مولود، وكم مات فيه من حي كم عز فيه من ذليل، وكم ذل فيه من عزيز! كم اغتنى فيه من فقير، وكم افتقر فيه من غني! وكم صار فيه من اجتماع بعد افتراق، وافتراق بعد اجتماع! وكم صح فيه من سقيم، وكم اعتل فيه من صحيح! وكم قامت فيه من دول، وكم انكسرت فيه من أمم! تقلب وتغير وتبدل يطوى في الليالي والأيام، وترحل به الشهور والأعوام، فسبحان المتفرد بالبقاء والدوام.
قيل لنوح عليه الصلاة والسلام، وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً: كيف رأيت هذه الدنيا؟ فقال: كداخل من باب وخارج من آخر، وخطب صلى الله عليه وسلم الناس فقال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين، أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت).
وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: [إنكم تغدون وتروحون إلى أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل، إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أيها الناس! حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]].
عباد الله! فلنحاسب الأنفس في عامنا المنصرم، ولنجرأ في السؤال، ولنصدق في الجواب، كيف قضينا ساعاته؟ وفيم أمضينا أوقاته؟ نسأل أنفسنا اليوم، وسنسأل عن هذا غداً، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فمن منا أعد لهذا السؤال جواباً؟ والناس أمام هذا الأمر مذاهبهم شتى، أجوبتهم متباينة، فمنهم من أفنى عمره في الدينار والدرهم، أبلى شبابه في مضاعفة ما جمع، بأي سبيل وعبر أي وسيلة؟! قد أفنى عمره في الغفلة والكسل واللهو والعبث، قد غره التسويف وطول الأمل، أما العلم فلم يبالوا بعمل ما علموه، أو تعلم ما جهلوه، بل جعلوا ذلك وراءهم ظهرياً.
وأما المال فلم يألوا جهداً في اكتسابه من أي طريق حل أو حرم، مادامت البضاعة تزجي لهم ربحاً، وتسح عليهم المال سحاً، فتركوا فرائض ربهم، ونسوا أمر آخرتهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى خرجوا من الدنيا مذمومين مدحورين، مفلسين من الحسنات والأعمال الصالحات، فاجتمعت عليهم سكرات الموت، وحسرات الفوت، وهول المطلع، فيندم الواحد منهم على تفريطه يوم لا ينفعه الندم، وبعد أن زلت به إلى الموت القدم: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:24 - 26].
ومنهم من ربح عمره، وتزود فيه للآخرة، تزود فيه بطاعة ربه، والتزم بشرائع ربه، وأبلى شبابه في مجاهدة النفس، فعلم وعمل، وصبر وصابر، واكتسب واحتسب، اكتسب المال من حله وأنفقه في محله، فهنيئاً له بالنجاح والفوز والفلاح، يقال له عند ختامه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
فمن كان حاله كذلك فليسأل الله الثبات وليلزم، ومن كان غير ذلك فليبادر إلى التوبة والندم، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(152/3)
المحاسبة في التزود للآخرة وعدم الغفلة
الحمد لله الواحد الأحد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهو الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! قد مضى عام كامل بتمامه، ما مضى منه لا يعود أبداً، لو بذلت البشرية، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لو اجتمع الجن والإنس، ولو استخدموا كل ما سخر لهم من الوسائل، لو اجتمعوا أن يردوا يوماً واحداً من هذا العام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، هذا دليل الفراق والزوال، إذا أصبح صباح يوم ينادي مناد: يا ابن آدم! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود، فاغتنموا شبابكم قبل هرمكم، واغتنموا صحتكم قبل سقمكم، واغتنموا غناكم قبل فقركم، واغتنموا فراغكم قبل شغلكم، وقدموا في حياتكم قبل موتكم.
واعلموا أن الموت ليس هو النهاية، بل إن بعد الموت دار، وما بعد الموت من دار إلا الجنة أو النار، فنسأل الله جل وعلا لنا ولكم السلامة من ذلك، تفكروا يا عباد الله فيما قضيتم أيام عام كامل، ثلاثمائة واثنين وستين يوماً، كيف قضيتموها؟ فيم أبليتموها بلياليها وأيامها، بساعاتها ودقائقها؟ هل قدمتم فيها عملاً يسركم أن تلاقوه أمامكم؟ هل بذلتم فيها أعمالاً يسركم أن تكون أنيساً لكم في قبوركم؟ هل قدمتم فيها شيئاً ينفعكم يوم العرض الأكبر على الله؟ إن الكثير لفي غفلة، يمر العام بعد العام، ولا يبالي بتوالي الشهور والأعوام، لا يدري ماذا قدم، ولا يدري بما يشتغل، أهو في حلال أم حرام؟ أهو في مباح أم بلاء؟ لا يدري في أي واد هلكت أوقاته، ولا في أي شيء قضى ساعاته، فنسأل الله جل وعلا لنا ولكم السلامة من الغفلة.
إن الغفلة يا عباد الله مصيبة عظيمة، وهي من أعظم المصائب على النفوس، ومن أشد العقوبات على القلوب، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] نسوا أنفسهم فلم يتزودوا ولم يعملوا، ولم يستغلوا ولم يجتهدوا ولم يقدموا، حتى إذا آن الفراق، والتفت الساق بالساق، لم ينفع عند ذلك بكاء الأهل والأحباب، لا يجد أمامه إلا ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يلومنّ امرؤ إلا نفسه.(152/4)
المحاسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله
عباد الله! هل قضينا هذا العام المنصرم في أمر بمعروف ونهي عن منكر؟ هل قضيناه في دعوة إلى الله واحتساب؟ هل قضيناه في تعلم علوم شرعية نافعة؟ ومزاحمة طلبة العلم عند حلق العلماء؟ هل قضيناه في بذل المعروف للأحباب والأهل والأقارب؟ هل قضيناه في أعمال يسرنا أن نلقاها؟ أم ماذا قضينا هذا العام؟ إن الكثير لا يعرف سوى الخروج من البيت، ثم العودة إليه، ثم النوم، ثم الاستيقاظ، ثم شبع البطن، وبعد ذلك ينام.
إن من يعيش هذه العيشة، فهو كالبهيمة بل أسوأ منها؛ لأن البهائم لم تكلف ولم تخاطب بخطاب شرعي، وهو قد كلف وخوطب، فما جوابه عند ربه يوم العرض والمساءلة، بماذا يخرج الإنسان من هذه الدنيا؟ هل خرج بجهاد في سبيل الله؟ أو بإنفاق وزكاة قدمها لوجه الله؟ أو علم نفع به الخلائق؟ أو حفظ من كتاب الله شيئاً؟ أو كان عابداً قواماً تنتفع البلاد والعباد بفضل عبادته بعد رحمة الله؟ هذا هو الشيء الذي يقدمه الإنسان، ويبقى له بعد مماته، أما الكثير فإنهم يقضون هذه الأعوام، ويموتون كما تموت البهيمة، تجر عن قارعة الطريق، فلا يبالى بأي واد هلكت، وأي سبع أكلها.
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتى كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق هم همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
فكونوا من أولئك الخمسة يا عباد الله، ليعرف كل واحد منكم موقعه ومكانه ومهمته، وواجبه تجاه نفسه وبيته وبلاده وأمته، وولاة أمره والمسلمين أجمعين، وليكن على موقع وعلى ثغر من ثغور الإسلام، لا يؤتين الإسلام من قبله بجهل أو غفلة أو تفريط، أسأل الله جل وعلا أن يوقظنا وإياكم من الغفلة، وأن يرزقنا تدارك الأوقات قبل هجوم الآجال، نسأل الله جل وعلا أن يتوفانا على التوحيد شهداء، وعلى الإسلام سعداء، وأن يحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، وجنبهم بطانة السوء، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفقه لكل ما تحب وترضى، اللهم قرب منه من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله، ووحد كلمته، اللهم ثبت أقدامه، اللهم من أراد بهم وبعلمائنا وشبابنا وولاة أمورنا سوءاً فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء.
حسبنا الله ونعم الوكيل، على من يأكل في هذه البلاد من خيراتها وأرزاقها ويهم بالسوء فيها ولأهلها، اللهم إنا ندرأ بك في نحور من أراد بنا شراً، ونعوذ بك من شرورهم، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه التي لا تستطيعون حصرها، ولا تقدرون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(152/5)
جريمة قتل إحسان إلهي
إن جريمة قتل الشيخ إحسان إلهي ظهير لتثبت أن أعداء الدين لا يزالون يخططون ويدبرون في نشر باطلهم وكبت هذا الدين الذي وعد الله بنصره.
ولكن: كيف وقعت هذه الجريمة؟ وكم ضحاياها؟ ولماذا يُسكت عنها؟ ومن هو الشيخ إحسان إلهي؟ وما هو طريق الجهاد والدعوة؟ أسئلة جاءت إجاباتها في هذه المادة.(153/1)
ضحايا جريمة قتل الشيخ إحسان
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا في محكم كتابه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].
معاشر المؤمنين: منذ أيام قليلة فجعنا بحادثة مؤلمة لقلب كل مؤمن مجاهد غيور، ما هي هذه الحادثة؟ أين مكانها؟ ما هي أسبابها؟ وما أبعادها؟ وما الدوافع وراءها؟ أيها الأحبة في الله: أما الحادثة: فهي جريمة تفجير راح ضحيتها أحد علماء العالم الإسلامي وهو الشيخ/ إحسان إلهي ظهير عظَّم الله أجركم في وفاته، وأسكنه فسيح جناته، وراح في إثر تلك الحادثة اثنا عشر عالماً من علماء أهل السنة، رحمة الله على الجميع، وبلغ عدد المصابين من الجرحى ما يربو على المائة جريح.(153/2)
نبذة عن حياة الشيخ إحسان
معاشر المؤمنين: قبل أن أخوض في كيفية هذه الحادثة البشعة الشنيعة، أذكر لكم طرفاً عن الشيخ، فهو: إحسان إلهي ظهير، من أجلاّء علماء العالم الإسلامي، وهو من باكستان، معروف بالدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والتأليف، ذو غيرة على الدين خاصة في مجال العقيدة، له مواقف محمودة في رد شبهات أهل البدع ودحضها، وله تصانيف مشهورة في تبديد ظلمات أهل الملل الضالة والنحل المنحرفة، وكل ذلك بأنوار الحجة من كتاب الله وسنة نبيه، وأثبت تناقض أولئك المبتدعة من واقع ما كتبوه وألفوه، له مؤلفات عديدة، ومنها: الشيعة والسنة، والشيعة والقرآن والشيعة وآل البيت، والبابية، والقاديانية.(153/3)
كيفية وقوع جريمة قتل الشيخ إحسان وأبعادها
كان رحمه الله منذ أيام قليلة واقفاً يخطب في مؤتمر إسلامي في مدينة لاهور بـ باكستان، وبينما هو كذلك إذ انفجرت حوله قنبلة قد رتب لتفجيرها أعداء الدين، الذين أحرقهم وكتم أنفاسهم بمصنفاته ومؤلفاته، في فضح أسرار مذاهبهم الباطلة، ومبادئهم المنحرفة، مستدلاً عليهم في ذلك بما كتبوه بأيديهم ورضوه لأنفسهم، وفي لحظة انفجار القنبلة مات عدد ممن كانوا حوله، وأصيب رحمه الله بجراحات بالغة نقل فوراً من مدينة لاهور إلى مدينة الرياض، دار الوفاء للعلماء، ليتلقى عناية مركزة في أحد أكبر مستشفياتها، وما هي إلا ساعات ثم فاضت روحه إلى بارئها، وانتقل إلى جوار ربه شهيداً إن شاء الله، توفي على إثر تلك الإصابة الفادحة، فصلي عليه بالجامع الكبير، ودفن في المدينة المنورة رحمه الله رحمة واسعة.
أيها الإخوة في الله: إن وقوع هذه الحادثة بهذه الطريقة الإجرامية القذرة ليدلنا إلى أي مدى بلغ الأمر بأعداء الدين؟! إلى أي مدى بلغ الأمر بأعداء الإسلام؟! ولو انتسبوا إلى ملل الإسلام وطوائفه، ليدلنا إلى أي مدى بلغ الأمر بهم في التخطيط والعمل بشتى أساليبهم الخداعة والبرّاقة.
والوحشية والإجرامية بما يخدم مصالحهم، ويضمن التوسع لقاعدة أتباعهم، ويوقف زحف الدعاة الذين يفضحونهم، ويكشفون للناس حقيقة باطلهم، حتى لو وصل الأمر إلى التصفية الجسدية بالقتل أو التفجير.
ثم إن هذه الحادثة كانت دليلاً على قصد أكبر عدد ممكن من العلماء الحضور في ذلك الوقت، إذ لو كان المقصود الشيخ/ إحسان إلهي ظهير وحده لاكتفى أعداؤه بإطلاق الرصاص عليه وحده دون غيره، لكنهم لم يرضوا إلا بتفجير قنبلة في ذلك المكان ليقتلوا أكبر عدد ممكن.
أيها الأحباب في الله: أمام هذه الحادثة التي يدرك كل ذي قلب ولب أن أعداء الدين لا زالوا يعملون ويدبرون، ويخططون، ويغتالون ويقتلون، في سبيل نشر باطلهم، وأمام هذا كله ماذا قدمنا لديننا؟ ماذا قدمنا لإسلامنا؟ أنتم معاشر المسلمين أكثر سكان العالم اليوم، أين عملكم؟ أين بذلكم؟ أين تضحياتكم في سبيل رفعة الدين ونصرة العقيدة؟ لقد تجاوز تعداد المسلمين ألف مليون، فأين هم؟ أرأيتم يا عباد الله!
أرأيت كيف يكاد لـ لإسلام في وضح الصباح
أرأيت أقصانا وما هدم العدو وما استباح
أرأيت كيف بغى اليهو د وكيف أحسنا الصياح
الكفر جمع شمله فـ ـلم النزاع والانفطاح
يا ألف مليون وأين هـ ـم إذا دعت الجراح
هاتوا من المليار مليـ ـوناً صحاحاً من صحاح
من كل ألف واحداً يـ ـغزا بهم في كل ساح
أين المسلمون أمام هذه الحادثة؟ أيها الأحباب في الله: وأمام هذه المصيبة التي يدرك كل مسلم أنهم لا زالوا يعملون ويدبرون، وأن المسلمين في غفلة، وفي نوم عميق، وفي غطيط وسبات، وفي ملهاة بهذه الدنيا بين الزوجات والأموال والأولاد، إذا كان النصارى وأبناء النصارى لا يملون التبرع والدعم لمؤسسات التبشير، ينذرون جزءاً من أموالهم وأوقاتهم لذلك، إذا تخرج الطبيب منهم أو الطبيبة نذر نفسه سنة أو سنوات لأي مؤسسة تبشيرية لخدمة النصرانية، ونشرها في أوساط المجتمعات الفقيرة والمريضة، وإذا كانت التركات وأموال الأثرياء الذين لا يخلفون وراءهم من يرثهم توضع لصالح ميزانية الفاتيكان لدعم التبشير والنصرانية، وجهودهم نشطة ومستمرة وواضحة في جميع دول العالم أجمع، عدا المملكة العربية السعودية، ولو وجدوا متنفساً لما ترددوا في ذلك، فأين تضحياتنا وأين عملنا لديننا؟ إن بعض المسلمين يمن ويستكثر أن يحافظ على الصلوات الخمس مقتصراً عليها وعلى الأركان الخمسة المعلومة من الدين بالضرورة، وأما بعض المسلمين ففي غفلة حتى عن الصلاة وعن أركان الإسلام، ويظن بعضهم أن واجبه أن يقف عند هذا الحد من العمل، جاهلاً أو متجاهلاً أن من تمام العمل والعبادة دعوة الناس ومجاهدتهم في سبيل إقامة الدين.
ألسنا ندرك ونعقل قول الله جل وعلا: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2]؟ إن البشرية في خسر إن بني الإنسان لفي نقص وخسارة: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ومن هذه السورة القصيرة التي يقول الشافعي فيها: "لو لم ينزل على الناس إلا سورة العصر لكفتهم"، من هذه السورة ندرك خسارة البشرية، إلا من آمن وعمل صالحاً ودعا إلى الله وهو معنى التواصي بالحق، والصبر على ما يناله في سبيل الدعوة إلى الله وهو معنى التواصي بالصبر.
معاشر المسلمين: يوماً بعد آخر، وسنة بعد أخرى ونحن نرى مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمته: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل يصيبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت، ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم) لقد نزعت هذه المهابة حتى تجرأ أعداء الإسلام أن يمدوا أيديهم بالقتل والاغتيال والتفجير على علماء المسلمين.
إن علماء المسلمين في محنة إن علماء الدين في محنة، اللهم انصرهم بنصرك يا رب العالمين.
معاشر المسلمين: لا تكادون تجدون دولة ينصر فيها العلماء ويحترمون ويسمع لقولهم سوى هذه البلاد، ودول الخليج والجزيرة، وأما ما سواها فهم يلاقون المضايقة يلاقون الطرد من بلادهم يلاقون الإبعاد عن أوطانهم، وعن زوجاتهم وأبنائهم، إن الآلاف منهم يعيشون مشردين في دول الغرب، وفي دول الكفار، يقولون: رحمة الكفار بنا أهون علينا من العودة إلى تلك البلاد التي نجد فيها ظلماً غاشماً، وطاغوتية وجبروتية.
اللهم أعز علماء الإسلام وانصرهم بنصرك، واحفظهم بعنايتك، وأدم تمكينك لهذه الأمة، وولاة أمورها، لتبقى مكاناً ومأوى لعلماء الدين والإسلام.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(153/4)
أدماء المسلمين رخيصة؟!
الحمد لله منزل الكتاب، ومنشئ السحاب، وهازم الأحزاب، لا إله إلا هو رب الأرباب، عليه توكلنا وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى صحابته الكرام، وعلى زوجاته أمهات المؤمنين، ومن اتبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بسر رفعتكم، ومصدر سيادتكم، وسبيل كرامتكم، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: هذه الحادثة مرت وكأنها ما وقعت، لو قتل صحفي كافر شرقي أو غربي؛ لقامت دول الكفر ولم تقعد؛ ولضجت الصحف، ولطنطنت وسائل الإعلام، أما عالم من علماء المسلمين فإن الدماء رخيصة؟!! حادثة يسيرة!! وعلى حد قول بعضهم:
وموت كلب وادعٍ جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمنٍ مسألة فيها نظر
معاشر المؤمنين: إن لم يلتفتوا لعلمائنا فنحن نلتفت لهم، إذا كانت دول الكفر تضج وتصيح لرهينة من الرهائن، ولا تزال تضغط بكل ما أوتيت من السبل والوسائل أمام كافر لا يساوي هو والكفار وما أوتوا من الأموال والمتاع عند الله جناح بعوضة، فإن في قلوبنا لعلمائنا مكانة، وإن في أنفسنا لعلمائنا مكانة، ندرك هذه المكانة، ونعرف أنهم مصابيح الأرض على الدنيا، ونعرف أن الله جل وعلا شرفهم بحمل كتابه وسنة نبيه.
معاشر المؤمنين: نحن نعلم أن القضاء واقع، وأن الأمور بأسبابها، وأن الشيخ إحسان إلهي ظهير رحمه الله رحمة واسعة، لو لم يمت بهذه القنبلة لمات في تلك اللحظة التي انتقل فيها إلى جوار ربه، لأن كل مسلم يعلم عقيدة يقينية قول الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] الموت لا يتأخر لحظة، ولا يتقدم أخرى، ولا شك أنه سيموت في تلك اللحظة، ولكن لما أراد الله إكرامه بالشهادة، ولما أراد الله إجزال الأجر والمثوبة له جعل وفاته شهادة إن شاء الله، جعل وفاته بهذه المصيبة.
حدثني أحد الإخوان الذي رأى والده وهو يصلي عليه في الجامع الكبير، وبعد أن انصرف الناس من صلاة الجنازة رأوا رجلاً كبيراً طاعناً في السن وهو يفقد ولده، يفقد عالماً من علماء الإسلام، يرفع يداً تنتفض رهبة ورجاءً وخوفاً إلى الله ودموعه تتساقط على وجنتيه من عينيه، وهو يدعو دعاءً بالأردية فقهه الذين يفهمون هذه اللغة، يقولون: كان يقول: الحمد لله الذي جعل موته على هذه الحالة.
ذكرني بـ الخنساء، التي ما تركت ليلة ولا نهاراً إلا وهي تبكي على أخيها صخر يوم أن قتل في الجاهلية.
يذكرني طلوع الشمس صخر وأذكره لغروب كل شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
جزعت وهلعت من موت أخيها صخر، ولما أن دخل الإيمان في قلبها واستشهد أبناؤها الأربعة، جاءوا إليها وقالوا: احتسبي الله في أولادك، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بموتهم في سبيله.(153/5)
طريق الدعوة طريق تضحيات
عباد الله: هذا طريق الدعوة هذا طريق الجهاد هذا طريق الإسلام، لو كانت الدنيا بما فيها من الزخارف والمتاع والأموال غبطة لكان أول من نالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد خيَّره ربه أن يجعل له جبال مكة ذهباً وفضة، فقال: (لا يا رب! أجوع يوماً وأشبع يوماً) واختار عيشة الكفاف حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.
لقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء، وليس هذا أول بلاء على المسلمين، فطريق الدعوة محفوف بالمكاره، و (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات).
رسول الله أكرم من وطأت قدمه الثرى، لقي من العنت والمضايقة والمشقة من قومه؛ وضعوا سلى الجزور على ظهره، وآذوه وطردوه من بلاده، جاء الصحابة إليه صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله متى نأمن؟ بعد أن هاجروا إلى المدينة وما زال الأمن متزعزعاً، متى نأمن يا رسول الله؟ قالوا: يا رسول الله! أحدنا لا ينام إلا وسلاحه تحت فراشه، أحدنا لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، متى نأمن يا رسول الله؟ قال: (إنكم قوم تستعجلون، ألا إن نصر الله قريب) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
جاء خباب وكشف ظهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا بآثار الحديد المحمي على النار في ظهره، يشكو قسوة ما فعلت سيدته به، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد كان الرجل فيمن قبلكم يؤتى به فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، وينشر بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدمه، ما يصده ذلك عن دينه).
وإن كان أعداء الإسلام بهذه الحادثة يخوفون المسلمين في أي مكان، فليعلموا أن الإسلام عزيز بعزة الله، رفيع برفعة الله، قوي بقوة الله وجبروته وقدرته.
يا معاشر المؤمنين: طريق الجهاد والدعوة طريق تضحيات، وقد قدم الدعاة في هذا الطريق شيئاً كثيراً، إلى عهد قريب سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة، لقد فعل به العثمانيون فعلة ما فعلها أحد بمثله، جعلوه في فوهة المدفع ثم أوقدوا هذا المدفع وجعلوا أجزاءه تتطاير، وأشلاءه تتناثر، انتقاماً لمّا أن قام إمام الدعوة وكفرهم بباطلهم، وكفرهم ببدعهم وقبورهم وضلالهم وفسادهم.
إذاً فطريق الإسلام طريق تضحيات، ومن يجزع من هذا الطريق فلا مكان للثبات والصمود عنده.
يا معاشر المؤمنين: اسألوا الله جل وعلا أن يعز هذه البلاد وولاة أمرها، إننا لنعيش في أمن ما عاشه أحد، وعلماؤنا في طمأنينة ما اطمأن بها أحد، والخيرات توافد إلينا ما ذاقها أحد، أي نعمة هذه؟! نسأل الله ألا تكون استدراجاً.
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ركب المراكب التي ركبناها، وما شرب المشارب التي شربناها، لقد طرنا في الهواء، ومشينا على الماء، وجيء لنا بفاكهة الصيف في الشتاء، وما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنحن أفضل منه؟ لا.
وحاشا وكلا، ولا أفضل من عشر معشار واحد من صحابته.
إذاً فاعلموا أنما هي استدراج، قيدوها بشكر الله يا عباد الله! وأقلعوا عن الغفلة، واتقوا الله في أنفسكم، إن كثيراً من المسلمين في غفلة ولهو، إن كثيراً من المسلمين لا يشهدون الصلاة، إن كثيراً من المسلمين في قطيعة، إن كثيراً من المسلمين لا يذكرون الله إلا قليلاً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] الخطباء والوعاظ، الأئمة والعلماء يصيحون ليل نهار، لكن أين القلوب التي تجد مكاناً لهذه المواعظ والذكرى؟ إن في قلوبنا مرضاً، إن في قلوبنا قسوة، إن في قلوبنا بلاء، نسأل الله أن يرفعه عنا برحمته، نسمع آيات الله تتلى ولا تسقط دمعة واحدة من أعيننا، نسمع بإخواننا يُقَتَّلون ولا تتحرك شعرة من مشاعرنا، أي بلاء حل بنا يا معاشر المؤمنين؟ وأي مصيبة نحن فيها يا معاشر المؤمنين؟ اللهم لا تعذبنا بغفلتنا، اللهم لا تسخط علينا بلهونا.
اللهم تب علينا كي نتوب، واغفر لنا يا غفار الذنوب، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم ولنا ظهورهم، اللهم أقم علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، اللهم أهلكهم بدداً، وأحصهم عدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم اجعلهم كالمجانين في الطرقات، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم لا ترحم فيهم كبيراً ولا صغيراً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة أمورنا بفتنة، أو أراد علماءنا بمكيدة، أو أراد شبابنا بضلال، أو أراد نساءنا بتبرج أو سفور، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم آمِنَّا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم مكن إمام المسلمين بكتابك وسنة نبيك، اللهم اجمع شمله بإخوانه، اللهم اجمع شملهم، ووحد كلمتهم، وثبت أقدامهم، ووحد صفهم، اللهم لا تفرّح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله اختم بها آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم عافهم واعف عنهم، اللهم أكرم نزلهم، اللهم وسع مدخلهم، اللهم افتح لهم أبواباً من الجنان.
اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم تلطف بنا وتجاوز عنا وكن لنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومَنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
يا شباب الإسلام: وبعد هذا كله من منكم يقول: أتوب إلى الله وأستغفره عَمَّا بدر مني، وأتوق صراط ربي المستقيم مقلعاً عن الذنوب والمعاصي؟ من منكم يتوب إلى ربه في لحظة استجابة، في لحظة يستجيب الله من عباده! ألا إنا نتوب إليك يا ربنا! فتب علينا.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(153/6)
حسن الخاتمة
إن كل حي وجد على هذه الأرض لا بد وأنه سيلاقي مصيراً محتوماً، ألا وهو الموت، فالموت مصير كل حي على هذه المعمورة، وهو يأتي فجأة دون نذير مسبق، وقد حث الشيخ على الاستعداد لهذا المصير، وذكر مثالاً من سوء الخاتمة يتعظ به من كان له قلب، كما قارن الشيخ بين مصير الصالح ومصير الفاجر بعد الموت.(154/1)
لا يأس في الدعوة إلى الله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين معاشر الأحبة! كثيراً ما نواجه ويواجهه كل واحدٍ منكم طوائف من الشباب ومن كبار السن، من اللاهين العابثين، الغافلين عن الآخرة، الغير مبالين بأي مصيرٍ يئولون إليه وينتهون عنده، إن قدمت شريطاً فيه موعظةً لا يسمعونه، وإن قدمت رسالة فيها كلام جميل لا يقبلونه، وإن قدمت نصيحة لا يستمعونها، وإن تلطفت مع طائفة منهم يظنونه ذلاً واحتقاراًَ، وإن أخلصت النصيحة لأحدهم ظنه استعلاءً وتكبراً، والله يحار العقل ويحار الفكر، ويصبح الحليم حيران أمام طائفةٍ من أولئك اللاهين العابثين، الذين لا يعرفون المساجد إلا نزراً يسيراً، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولهم في بلاد الغرب مع البغايا والفاجرات صولاتٍ وجولات، كيف الطريق إلى قلوب هؤلاء؟ كيف يُدعَون إلى الله؟ كيف ينادون إلى كتاب الله؟ هل نيأس منهم {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] هل نحكم عليهم بالشقاء؟ كلا وبُعداً؛ لأن المسلم ليس مسئولاً أن يحكم على الناس في نهاياتهم أن يكونوا من أهل الجنة أو أهل النار، وعقائد أهل السنة جمعياً ناطقة بأنهم لا يشهدون لأحدٍ بجنةٍ أو نار، لكن يخشون على المسيء العقاب، ويرجون للمحسن الثواب، هل يعتبرون من سقط المتاع، أو على هامش الحياة؟ لا يا عباد الله!(154/2)
الموت هو المصير المنتظر
هناك مدخلٌ رئيس وهناك حقيقةٌ لا بد من طرحها، وقضيةٌ لا بد من مواجهتها، قضيةٌ لا بد أن نواجهها نحن، لا بد أن يواجهها كل واحدٍ في هذا المسجد، ولا بد أن يواجهها كل مسلمٍ وكافر، كل بعيدٍ وقريب، كل ذليلٍ وحقير، كل عزيزٍ وأمير، كل صعلوكٍ ووزير، هي حقيقة الموت، هي نهاية المطاف، هي خاتمة الدنيا، كل البشرية تشهد وتعلم وتنطق أن نهايتها هي الموت، وأن منتهى الطريق بالنسبة لها هي الانقطاع عن هذه الدنيا، انقطاع النفس، وانقطاع الروح، وانقطاع الجوارح، فالعين لا تبصر، واليد لا تتحرك، والأذن لا تسمع، والنَّفَس لا يجري، والدماء لا تتحرك، والشرايين لا تمضغ، إنها النهاية الأخيرة التي يواجهها ويقف أمامها كل صغيرٍ وكبير، كل بعيدٍ وقريب.(154/3)
الموت وفجأته
كثيراً وكثيراً ما سمعنا بشبابٍ كانوا في غفلة، وفي بعد وتسلط، وقسوة وجفاء، كانوا في غلظة وقطيعةٍ وعقوق، بعضهم يشهد ويقر على نفسه، يقول: ما ركعتها في المسجد مع الجماعة، وبعضهم يقول: ما جانبت كأس الخمر مرة، وبعضهم يقول: ما سافرت إلا واقعتُ الفاحشة؛ فإذ به في يومٍ من الأيام تجده باكياً خاشعاً ساجداً راكعاً، سبحان مقلب القلوب والأبصار! ما الذي غيّر هذا؟ ما الذي غيّر أحواله؟ إنه الله جل وعلا، ولكن كيف السبب؟ ما هو السبيل؟ وأي طريقةٍ وصلت إلى قلبه؟ قدَّر الله على الكثيرين منهم أن يقفوا مشهداً ماثلاً حقيقياً لا محيص ولا مناص عنه، قدَّر الله للكثير منهم أن يقفوا أمام حقيقة الموت، وهم يشهدون بأم أعينهم وأمهات أبصارهم، يشهدون صديقاً، يشهدون حبيباً، يشهدون قريباً، ولا ينفع طبيب ولا يجدي نحيب.
حدثني أحدهم، قال: كنت مسافراً في دراسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكان شأني شأن كثيرٍ من الشباب الذين يقضون الليل في الملهى والمساء في المرقص والعبث الذي تعنيه كلمة العبث بأبعادها ومعانيها، وذات يوم كنا راجعين من ملهانا وعبثنا تقدم بعضنا إلى السكن، أما واحدٌ منا فلقد استبطأناه ثم قلنا: لعله يأتي بعد سويعة، أو بعد ساعة، أو بعد هنيهة، ثم لم نزل ننتظر لكنه ما أتى، فنزلنا نبحث يميناً وشمالاً، وخاتمة المطاف قلنا: لا بد أن يكون في الكراج أو في الموقف الذي يجعل للسيارة تحت البناء، فدخلنا ذلك البناء، دخلنا موقف السيارة فوجدنا السيارة لا زال محركها يدور، وصاحبنا قد انخنعت رقبته على إطار السيارة، وهو في مكانه والموسيقى الهادئة لا زالت منذ آخر الليل حتى اللحظة التي فتحنا فيها باب السيارة وهي تدندن وتطنطن، فتحنا، نادينا، تكلمنا: يا أخانا! يا صاحبنا! فإذا به قد انقطع عن الدنيا منذ اللحظة التي وقفت سيارته في ذلك الكراج.
هذه نهاية أشعلت في قلوب الكثيرين من أولئك الشباب يقظةً وغيرةً وعودةً وإنابةً وتوبةً وخضوعاً إلى الله، فعادوا إلى الله تائبين، ما شربوا بعدها، ولا فعلوا بعدها، بل أنابوا واستكانوا، وعادوا لربهم، أسأل الله أن يثبتنا وإياهم، وأسأل الله أن يعامل صاحبهم بعفوه، وأن يتجاوز عنا وعنه.
هذه واحدة والأخرى ليس لها إلا أيامٌ قليلة، سمعتها من أحد إخواني في الله، يقول: كنت كغيري من سائر الشباب، وفي ليلة من الليالي التي كنت أسهر فيها مع أحبابي وأصدقائي ومن بينهم واحدٌ من الأحبة، ومن بينهم أعز حبيبٍ إليَّ، أعز صديقٍ إلى قلبي، وأقرب قريبٍ إلى فؤادي، إذ به فجأةً يصرخ: فلان! أدركني، قلت: ما الذي بك؟ قال: إني أحس بشيءٍ في قلبي، قال: فدنوت منه، فإذا هو يتلبط ويتقلب ويقول: أسرع لي بطبيب، فناديت واتصلت بمن يحضر لنا طبيباً، وكانت الفترة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة أو عشرين دقيقة، ونحن ننتظر وصول الطبيب، وفي تلك الدقائق وهو يقول: إني أحس بالفراق إنها النهاية إنها الخاتمة سأفارق الدنيا سأترك طفلي سأترك زوجتي سأفارقكم ستضعونني في كذا ستتركونني وحدي، وأخذ يمر عليه سجل ذكرياته، وأخذت تتقلب أمامه صحائف أفعاله، قال وأنا أنظر إليه، وكلي وحشةٌ ودهشة، وكلي عجبٌ وغرابة، وأنا أنتفض وهو يحاسب نفسه ويعاتب روحه وأنا والله أصبره، وأنا أشد ألماً منه، وأشد استعراضاً لما يكون في حياتي منه، فأخذت أتقلب في ذلك الموقف، وما هي إلا ست عشرة دقيقة تزيد أو تنقص قليلاً حتى فاضت روحه، وذهبنا وأحبابنا وأقاربنا وأصحابنا نضع قريبنا وصديقنا، وأعز أحبابنا، وأجل أقاربنا؛ نضعه في قبره ونواري عليه التراب، أحب الأحباب هو الذي منا يتقن نفس اللحد ألا يتسرب منه ذرة هواء، أو إشعاع نور، ثم ما برحنا أن نهيل عليه التراب، ثم ودعناه وانصرفنا.(154/4)
شاب يموت ساجداً لباغية
شابٌ من مدة ليست بالقريبة حدثني عن أحد الشباب فيما تسمى بـ بانكوك، قال: لقد كان في ضلالة، وقد كان في بلاء، وقد كان في أمره لا يفيق من المخدرات أو الشراب، وما صاحب ذلك من مصاحبة البغايا والفاجرات، وفي لحظةٍ من سكرٍ وشوقٍ إلى عهرٍ تأخرت صديقته، تأخرت حبيبته عليه، فما هي إلا لحظات وقد كاد يجن من تأخرها، فما هي إلا لحظات حتى أقبلت عليه، فلما رآها خر ساجداً لها تعظيماً، خر ساجداً لها، وما الذي تنتظرونه؟ هي السجدة الأخيرة، هي النهاية، والله ما قام من سجدته، بل أقاموه في تابوته، وأرسلوه بطائرته، ودفنوه مع سائر الموتى.
أيها الأحبة: إن هذا الموت هو أخطر وأعظم وأكبر حقيقة يواجهها الشقي والسعيد الغني والفقير العزيز والذليل الموت أكبر حقيقة، ومن أجل هذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) (ألا وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
أيها الأحبة: أسوق هذه الأحداث متفرقة مختلفة، وكلها تختلف من حيث الخاتمة، وتختلف من حيث النهاية، لكنها في مؤدى واحد وهو الخاتمة، أي خاتمةٍ نواجهها؟ أي نهايةٍ نفضي إليها؟ وأي عمرٍ يمتد بنا؟ وأي شبابٍ نتقلب فيه، حتى ننتقل منه إلى الشيخوخة، ثم نتوب بعد ذلك؟ هل ضمنا هذه الحياة؟ وهل ضمنا هذه الأعمار؟ بادروا بالتوبة، بادروا بالإنابة قبل أن يخطفكم الموت، ويخطفكم الأجل، وتمضي الملائكة بوديعة الله من أرضه إلى السماء فتكون في أعلى عليين أو في أسفل سافلين.(154/5)
أهمية حسن الخاتمة
إن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة لأمرٌ خطيرٌ وعجيب وجليلٌ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز جيشاً من الجيوش لمعركةٍ حاسمةٍ مع الكفار، فجاء صحابيٌ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ كافر، فقال: (يا محمد! أرأيت إن اتبعتك فما الذي لي وما الذي عليَّ؟ قال: إن شهدت أن لا إله إلا الله وإني رسول الله كان لك ما للمسلمين عامة، وعليك ما عليهم عامة، فإن غنموا غنمت معهم، فقال: ما على هذا أتبعك، فشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن غنموا فأنت معهم في الغنيمة، وإن مت فلك الجنة من الله جل وعلا، فقال ذلك الصحابي: والله ما على هذا اتبعتك؟ -أي: ما اتبعتك لأجل الغنيمة- وإنما اتبعتك على أن أغزو معك فأرمى بسهمٍ من هاهنا -وأشار إلى نحره- ويخرج السهم من هاهنا -وأشار إلى قفاه- ثم دخل المعركة وقاتل وأبلى بلاءً حسناً، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمي بسهمٍ دخل في نحره وخرج من رقبته، فقال صلى الله عليه وسلم: صدق الله فصدقه، بخٍ بخ عمل قليلاً ونال كثيراً، دخل الجنة وما سجد لله سجدة) انظروا الخاتمة، انظروا النهاية، انظروا الخاتمة وتأملوها واعتبروا بها.
أسأل الله جل وعلا أن يحسن لي ولكم الخاتمة، وأن يجعلنا وإياكم من السعداء، وأن يتوفانا على التوحيد شهداء.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
جاء عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه، وأجله، وعمله، وشقيٍ أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) حديثٌ صحيح.(154/6)
اسألوا الله حسن الخاتمة
أيها الأحبة في الله: هذا الحديث عمدةٌ في حسن الخاتمة وسوئها، اسألوا الله جل وعلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، واسألوا الله جل وعلا الثبات على نعمة الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من ينشق عنه القبر، وأول من تفتح له أبواب الجنة، وأول من ينال أعلى منازلها، وهو صاحب المقام المحمود، وهو صاحب الوسيلة والشفاعة العظمى، الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يطيل قيامه وصيامه، وكان يطيل سجوده وتهجده، ويقول: (يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب! يا مقلب القلوب!) فيا عباد الله! اسألوا الله جل وعلا بهذا الدعاء، اسألوا الله الذي بيده النواصي، اسألوا الله الذي بيده القلوب وهي بين إصبعين من أصابع الرحمن التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، اسألوا الله أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على الإيمان، وأن يعصمنا من الزيغ والضلالة، ومن الغواية بعد الهداية، ومن الفساد بعد الصلاح، وأنتم يا شباب المسلمين! إن الكثير من شبابنا يسوفون التوبة، ويؤجلون الإنابة، وينشغلون بالعبث، ويلهون في الباطل ظناً منهم أن الحياة أمامهم وهم في ريعان الشباب وربيع العمر وزهرة الدنيا، يظنون أن الاستقامة تعقيد، وأن الطاعة وسوسة، وأن الإخبات لله تضييقٌ وتشديد، لا والله -يا عباد الله! - إننا نفوِّت على أنفسنا حظاً عظيماً من السعادة بقدر ما نفوِّته من الأعمال الصالحة.
واعلموا أن الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فمن ذا الذي يضمن خروجه من المسجد؟ ومن ذا الذي يضمن يقظته من فراشه؟ ومن ذا الذي يضمن عودته إلى بيته؟ ومن ذا الذي يضمن وصوله إلى عمله؟ إذا كان هذا شأننا فيا عجباً لقسوة القلوب، لا تدري متى تخطف وهي مع ذلك عابثة لاهية!
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكمن سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري(154/7)
حث على التوبة والإنابة
فيا عباد الله: استعدوا للقاء الله، وبادروا بالتوبة، وبادروا بالخضوع والإنابة، إنما هذه الدنيا متاع قليل: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55] والله إن هذه الدنيا بما فيها من ملذاتٍ وشهواتٍ ومراكب وقصورٍ ودور، وضيعات وزوجاتٍ وجنات وأموالٍ وذريات، لا تعدل غمسة في نار جهنم، وإن الشقاء في هذه الدنيا بما فيه من الفقر والمرض والسقم والذلة وضيق الحال لا يساوي غمسة في نعيم الجنة.
(يوم القيامة يؤتى بأحسن أهل الدنيا حالاً وأيسرهم عيشاً، ثم يغمس غمسةً -وهي أقل من اللحظة، أو أقل جزءٍ من أجزاء اللحظة- في النار، فيقال: يا بن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا يا ربِّ، ما مر بي نعيمٌ قط، ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً وفقراً ومرضاً فيغمس غمسة واحدةً في الجنة، يقال: يا بن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شقاءٌ قط؟ فيقول: يا ربِّ! ما مر بي شقاء وما مر بي بؤس).
فلنعد لذلك اليوم وهو يومٌ لا بد أن نرده على صراطٍ أدق من الشعرة وأحد من السيف، الناس يمضون عليه على قدر أعمالهم، وكلاليب جهنم عن يمينه وعن يساره، فمن المؤمنين الذين يسعون ونورهم بين أيديهم مد أبصارهم كالبرق الخاطف، ومن المؤمنين من يمرون كأجاود الخيل، ومنهم من يمره كأسرع الناس عدواً، ومنهم من يحبو على الصراط حبواً، ومنهم من يمضي عليه فتدركه كلاليب جهنم، أدركته أعماله السيئة وتفريطه في حقه، وتضييعه وتقصيره في جنب الله وطاعته.(154/8)
مقارنة بين مصير البر والفاجر
فلنعد العدة لذلك اليوم، ولنعد لدارٍ سوف نسكنها، سوف نبقى فيها، والله ما نفع أهل الأموال أموالهم، أين الملوك؟ أين الأمراء؟ أين الوزراء؟ أين الرؤساء، أين الخلفاء؟ أين الذين ذهبوا؟ أين الذين ملكوا؟ أين الذين جمعوا؟ أين الأثرياء؟ أين الكبراء؟ لقد ودعوهم في حفرةٍ لا فراش فيها، ولا خادم فيها، ولا مائدة عندها، ولا باب إليها، ولا نور يضيئها، ولا هواء يدخلها؟ لا شيء فيها إلا خرقةٌ بيضاء يحسدك الدود عليها فينتزعها من جسمك ولا يتركها لك، كتب الله أن تعود إلى هذه الدنيا في نهاية المطاف وفي خاتمة الأمر كما نزلت عليها، حتى كفنك ينازعك الدود فيه، فيقرضه منك خيطاً خيطاً شعرةً شعرةً، وينتزعه من جسدك، فإن منَّ الله عليك وكنت من الصالحين عوضك الله هذا الكفن أبواباً إلى الجنان ونعيماً مقيماً في دار الخلود، فتفتح لك أبواب الجنة، ويضاء لك القبر، وتؤنس بعملك الصالح، وتبقى زاهياً متغنيا، تقول: ربِّ أقم الساعة، ربِّ أقم الساعة، وإن كنت من أهل الشقاء، من أهل الضياع، من الذين ضاعت أموالهم في الربا، وتركوا المساجد وغفلوا عن الجماعات، وضيعوا حقوق الله، وضيعوا محارم الله في كل سفرٍ وفي كل ذهابٍ وإياب، لا يرعون حرمات الله، يواقعون الفواحش لا يبالون، فإنك لا تجني من الشوك العنب وكلٌ سيلقى عمله أمامه.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل
القبر صندوق العمل، انظروا واجمعوا في صناديقكم، لو زار كل واحدٍ منا قبره في الأسبوع مرة، في الشهر مرة، في نصف الشهر مرة، وأنت تنظر وتقول: هذا صندوقي هذا فراشي هذه داري، سأسكنها وحدي، هل وضعت فيها عملاً صالحاً، أم أودعتها خيبةً وضياعاً وحرماناً وحسرة؟ أسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجدادتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، واغفر اللهم لأحبابنا وأصدقائنا وإخواننا الذين فرطوا من بين أيدينا وودعونا ومضوا، ولا نملك لهم قليلاً ولا كثيراً إلا أن نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته وفي دار كرامته.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والمفسدين، اللهم من أراد شبابنا بسوء ونساءنا باختلاط وتبرجٍ وسفور، ورجالنا وعلمائنا وولاة أمرنا بفتنة أو مكيدة، اللهم جازه بالسوء والخزي والعار والدمار، اللهم أدر دائرة السوء عليه، وأرنا فيه عجائب قدرتك، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(154/9)
حُسن المعاشرة
حث الإسلام على الزواج ورغب فيه، وجعل لكلا الزوجين حقوقاً وواجبات، وأوصى بالنساء خيراً، ودعا إلى الإصلاح بين الزوجين في حال وقوع المشاكل بينهما، ووضح أسلوب المعاملة للرجل عند عصيان الزوجة.
وفي هذه الخطبة ركز الشيخ على سوء المعاملات الزوجية الواقعة في المجتمع، وضرب على ذلك أمثلة كثيرة، ودعا الرجال إلى حسن معاملة أزواجهم والوصاية بهن خيراً.(155/1)
سوء معاملات الأزواج
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهو الذي يخاطب عباده كافة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقول الله جلَّ وعَلا في محكم كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
هذه الآية يا عباد الله نص واضح جلي في أصول العلاقات الزوجية التي يجب أن تقوم على المودة والرحمة كما بيَّن سبحانه وتعالى أن من حكمته العليمة بما يصلح للنفوس وما ينفعها أن جعل الزواج سكناً وأمناً واستقراراً واطمئناناً، وأي شيء أبلغ من قوله جلَّ وعَلا: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]؟! والذي نراه في زماننا هذا في أحوال بعض المتزوجين هو انعكاس مفهوم هذه الآية، وحدوث ما يخالفها، فبدلاًَ من أن ترى السكَن والمودة والرحمة في حياتهم الزوجية تجد السباب والشتائم والنكد والحسرة! فلماذا يحدث هذا كله، والله جلَّ وعَلا يقول: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]؟! أليس السكَن يؤوي الإنسان ويستره، وهو ملاذه بعد تعبه، ومستقره بعد مشقته وسفره؟! فلماذا لا نرى جميع هذه الأمور في كثير من الزيجات، وفي كثير من الزوجات التي خلقها الله لنا لنسكن إليها؟! وهل قامت المودة والرحمة فيما بيننا أم لا؟! علينا يا عباد الله قبل أن نجيب على هذه الأسئلة أن نتزن في تحديد الإجابة عليها، بعد تعيين مصدر القلق والنزاع في الحياة الزوجية! فهل السبب من الرجال أم هو من النساء؟ أم هو سبب مشترك بينهم؟ وقبل أن نسترسل في هذا الموضوع يجب أن يعلم الجميع أننا لا نعني أن كل واحد يعيش في مشاكل زوجية، ولكن من الملموس أن بعض المسلمين يعيشون الحسرة والنكد من تلك المشاكل.
حتى إن بعضهم ليضطر أن يأتي الحرام، والحلال قريب منه في داره.
حتى إن بعضهم ليضطر أن يسافر بعيداً فراقاً عن زوجةٍ تكون مصدر نكد وحسرة.
ويا تُرى هل هو السبب أم هي؟! فمن كان من أولئك -عافانا الله وإياهم وستر علينا وعليهم- فليجتهد ما استطاع في حل مشكلته، ومحاولة الوصول بها إلى بر الأمان، وموقع الاستقرار.
ومن كان آمناً مطمئناً، فليحمد الله وليرْعَ نعمته، وليُسْدِ النصيحة لإخوانه الذين يراهم على تلك الحال.
فهناك من النساء من يشكين سوء معاملة الأزواج، وهذا أمر قد حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بلغه أن بعض الصحابة يضربون أزواجهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أولئك خياركم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
وكان صلى الله عليه وسلم خير قدوة وأسوة في تطبيق أسس العلاقات الزوجية على حد سامٍ من المعاملة الحُسنى لأهله وأزواجه، فكانت قوامته على أزواجه على أتم العدل والقسط.
وتذكروا يا عباد الله أنكم يوم عقدتم مواثيق النكاح قبل دخولكم بأزواجكم، أنكم استحللتم فروجهن بما في كتاب الله من القيام بجميع الحقوق الزوجية، من التربية، والنصيحة، والنفقة، والسُّكنى، والمعاملة الطيبة، والإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، ذلك العقد والميثاق الذي دخل به الرجل على زوجته مشهود عليه من قبل الله جلَّ وعَلا، ثم عاقِدُه وشهوده المؤمنون، فكيف يسوغ لمؤمن أن يظلم نفسه بظلم أهله وزوجه! ونحن اليوم يا عباد الله نرى وابلاً كثيفاً من الرسائل والكتابات، ترسل بها بعض النساء إلى برامج التوجيه الاجتماعي، عبر وسائل الإعلام المختلفة، يشتكين فيها سوء معاملة الأزواج، والظلم الذي لا يوجد له أي تفسير، أضف إلى ذلك ما نراه في المحاكم الشرعية التي نراها تمتلئ بخصوص فض النزاعات الزوجية وإنهائها بالخُلع أو الطلاق، عافانا الله وإياكم من ذلك.
ومن العجيب يا عباد الله: أنك ترى كثيراً من المشاكل الزوجية تصدر من رجال تعرفهم بحُسن السيرة والسلوك، والتواضع ولين الجانب، والأدب الرفيع في المعاملة والأخلاق مع الناس خارج منازلهم، لكن إذا دخل أحدهم بيته؛ انقلب على حد زعمه أسداً هصوراً، يأمر وينهى، يُرعِد ويزمجر، نقول له: أليس أهلك وزوجك هم أحق بِحُسن معاملتك ورعايتك؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون!(155/2)
أمثلة واقعية في سوء العلاقات الزوجية
إليكم يا عباد الله بعض الأمثلة الواقعة في سوء المعاملات الزوجية، وظلم بعض المسلمين لأزواجهم -هدانا الله وإياهم إلى سبيل السعادة والاستقرار في الحياة الزوجية- بعضهم تراه يفتتح دخوله في بيته بالسب والشتيمة لزوجته إذا دخل وحده أو كان معه ضيف أو صديق: أحضِري كذا، وأعدِّي كذا، ولماذا هذا الشيء لم يكن كذا؟! وقد نسي أن زوجته ربَّة منزله، ومربية أطفاله، وامرأة كهذه ظروفها وأحوالها مليئة بالعمل المستمر في إعداد الطعام، وتنسيق المنزل، وتنظيف الأطفال، فكيف تُلامُ مسكينةٌ بتأخيرٍ بسيط قد لا يُذكر في إعداد طعام، أو تنفيذ أي أمر من الأمور.
ولا يظن أحدٌ أن هذا الكلام معناه: أن يَسمح الرجل لامَرْأَته بعصيانه، أو أن يُسمح للمرأة بعصيان زوجها، أو عدم المسارعة في تلبية حاجته، بل المقصود من ذلك هو: معرفة حال الزوجة وظروفها، ومعذرتها في ذلك.
وترى البعض الآخر يقيم الدنيا ويقعدها عند حدوث خطأ بسيط من زوجته، أو أحد أطفاله، فيصب جامَ غضبه وحرارةَ لومه على زوجته سِباباً أو شَتْماً أو غضباً، وإني لأعرف أسرة تتكون من أب وأم وأربعة أولاد، طلق الأب زوجته لأجل سِبابٍ ثار بينهم حول لباس الطفل الصغير من العائلة، فأي عقول يعيش بها بعض المسلمين هذا الزمان؟! ونقول لكل إنسان رأى في بيته أو من زوجته ما يغضبه دونما يدخل في الأعراض والأخلاق، نقول له: يا أخي المسلم! هل تظن أن صيحاتك الغاضبة على زوجتك تصلح حالها؟! لا والله، بل إن تلك الصيحات مما يزيد الطين بِلَّة، ويورث في نفس المرأة الكراهية لزوجها، والتصميم على العناد، ثم إن ذلك السيل المتتابع من الألفاظ النابية لا يرد ما فات، ولا يُرْجِعُ ما حدث، فالأولى بكل واحد منا عندما يدرك خطأً من زوجته أن يستدعيها بأسلوب المربي، فيبيِّن لها خطأ ما حدث، ويدعوها إلى عدم العودة إليه مرة أخرى، وتدارك ذلك فيما استقبَل من الزمان.
المشاكل الزوجية متعددة الجوانب والظروف، ولو ذهبنا نحصيها لأخذ ذلك الكثير من وقتنا، فحسبنا أن نشير إلى أهم ما يحدث منها في مجتمعنا ولو في فُرَص قادمة إن شاء الله.(155/3)
اتقوا الله في النساء
معاشر المؤمنين: لا تنسوا أن علاقتكم بزوجاتكم هي علاقة نفسية قبل أن تكون مادية؛ لأن الله جلَّ وعَلا يقول: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] والسكن: في النفس والروح، والعلاقات النفسية لا بد أن تقوم وتدوم في الغالب على مستوىً لا يصل إلى حد البغضاء والكراهية؛ لأن ذلك باب وسبيل إلى النهاية السيئة، وهي الطلاق، أو الفراق، ولقد قال الشاعر:
إن النفوس إذا تنافر ودُّها مثل الزجاجة كسرُها لا يُجبَرُ
إن النساء في حقيقة الأمر يُرِدْنَ قوامة من الرجال، يُرِدْنَ مودة ورحمة وقدوة وتربية قبل أن يطلبن المال والذهب وغير ذلك، وكم من امرأة كرهت زوجها، وطلبت طلاقها منه، وهو قد يعطيها الذهب والمال والحرير؛ لأنها تريد قبل المال وغيره، تريد مودة ورحمة، ولهذا الحديثِ بقيةٌ في فرصة قادمة إن شاء الله.
وتذكروا قول الله جلَّ وعَلا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وإن تركتَه لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء) متفق عليه.
وفي رواية في الصحيحين: (المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وفيها عوج) وفي رواية لـ مسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعتَ بها؛ استمتعتَ بها وفيها عوج، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتها، وكسرُها طلاقها).
وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وذَكَرَ النساء، فوعظ فيهن فقال: (يعْمَد أحدُكم فيجلد امرأته جلد البعير، فلعله يضاجعها من آخر يومه).
معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى في زوجاتكم، وما ولاَّكم الله.
اللهم حبِّب إلينا أهلنا، وحبِّب أهلينا إلينا، واجمع بين الجميع على طاعتِك ورحمتِك مودَّتِك، واجعلنا من الذين آمنوا واتبعتهم ذريتُهم بإيمان، ولا تلتنا وإياهم من أعمالنا شيئاً، إنك أنت الغفور الرحيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(155/4)
سوء التفاهم مع الزوجات
الحمد لله الواحد بلا شريك، والعزيز بلا نصير، والعليم بلا ظهير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، فهو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ومنَّ علينا بسائر النعم، أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، ورزقنا الأمن والأمان في أوطاننا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن المثيل وعن النظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلَّى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله! إن كثيراً من المسلمين -هداهم الله- ممن يلجئون في حال التفاهم مع زوجاتهم بأسلوب الأوامر أو الكلمات النابية أو الألفاظ التي تشتمل على السب والشتيمة، إنهم بذلك يجرئون زوجاتهم عليهم، ويجعلون زوجاتهم لا يقيم لهم قدراً في كلامهم، أما لو أن الإنسان احترم نفسه، وقدَّر ما يقول من الكلام لوجد أن زوجته لَتُقَدِّر أعظم التقدير هذه العبارات التي يكفي منها أقل القليل فيما يدل على اللوم بعيداً عن السباب والشتيمة والألفاظ النابية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تضربوا إماء الله) ونحب أن نقف هنا، فإن بعض المسلمين لا يعرفون أسلوب التفاهم مع الزوجات إلا بالضرب، ألا وإن الضرب لا يجوز للنساء إلا أن يأتين بأمر منكر، ألا وإن الضرب لا يجوز للنساء قاطبة.
(لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذَئِرْنَ النساء -أي: تجرَّأن النساء على أزواجهن- فرخَّص صلى الله عليه وسلم في ضربهن، فطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكين أزواجهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس أولئك بخياركم) رواه أبو داود بإسناد صحيح.
ونحن يوم أن نقول: لا يجوز ضرب النساء؛ هو ذلك الضرب الذي يكون فيه ضرر بالمرأة.
وعلى أية حال: فإن الضرب ليس بأسلوب للتربية، أما وإن الضرب الذي يجوز للمرأة في حال منكر، أو في حال عناد مستمر بشيء قليل؛ لأن المرأة ضعيفة جداً.
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم.
ألا فأحسنوا متاعكم، وأصلحوا زوجاتكم، واستوصوا بهن خيراً؛ لتستمتعوا بهنَّ في هذه الحياة الدنيا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً -أي: لا يُبْغِض مؤمنٌ مؤمنةً- إن كَرَِه منها خُلُقاً رَضِي منها آخر.
أو قال: غيره) رواه مسلم.
وعن عمر بن الأحوص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، وذَكرَ ووَعَظَ، ثم قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هُنَّ عَوان عندكم -أي: أسيرات بين أيديكم- ليس تملكون منهنَّ شيئاً غير ذلك، إلاَّ أن يأتين بفاحشة مبيِّنة، فإن فعلن؛ فاهجروهن في المضاجع، واضربوهنَّ ضرباً غير مبرِّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فحقكم عليهن: أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم مَن تكرهون, ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وإن حقهنَّ عليكم: أن تحسنوا إليهنَّ في كسوتهنَّ وطعامهنَّ) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن معاوية بن حيدة قال: قلت: (يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمتَ، وتكسوها إذا اكتسيتَ، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلا في البيت) حديث حسن رواه أبو داود، وقال: معنى لا تقبِّح، أي: لا تقل: قبَّح الله وجهكِ.
فما الحال برجل يُذيقها ويمسها ألوان السباب والشتيمة، وإن البعض ليصل به الأمر إلى أن يلعنها، أو يلعن والديها، وأن يسبها بأقذع الألفاظ والعبارات، فما ذنبها حتى تنال اللعنة؟! وما ذنب والديها في هذا الأمر؟! وقد تعود اللعنة على المتلفظ بها، عياذاً بالله من هذه الحال.
ألا وإنه ليس كل خطأ من الرجال في أمور العلاقات الزوجية؛ ولكن جانباً كبيراً منهم، وجانباً آخر من النساء.
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يوفق الجميع، وأن يمنَّ على الجميع بالسعادة والسداد والتوفيق والأمن والطمأنينة.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، الذين يريدون بهذه المجتمعات الآمنة المطمئنة فُرْقةً ومشاكل، عبر ما يُعرض في تلك الأفلام من المشاكل، وعبر ما يُعرض من أمور تجرئ النساء على أزواجهنَّ، وعبر ما يُعرض من أمور تجعل المرأة تتحدى زوجها؛ لأنها تشبَّعت بفكرة رأتها في فيلم أو مسلسل أو غيره، فأخذت تخاطب زوجها بما شربته وبما تملأتْ به من هذا المشهد.
نسألك يا حي يا قيوم إن أرادوا بذلك سوءاً في أزواجنا ومجتمعاتنا وبيوتنا نسألك اللهم أن ترينا فيهم عجائب قدرتك، اللهم من أراد بنا وببيوتنا ونسائنا سوءاً؛ فأَدِر عليه دائرة السَّوء، اللهم أهلك سمعه وعقله وبصره.
اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بهم مكيدة، وأراد بعلمائنا فتنة، وبشبابنا ضلالاً، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء! اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله آجالنا، واقرن بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسقِ العباد، والبهائم، والبلاد.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، وعبيدٌ من عبيدك، فلا تحرمنا بذنوبنا فضلك، ولا تمنعنا بمعاصينا رحمتك.
اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولجميع المسلمين.
اللهم اجعل لكل مسلم من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباًَ إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته.
اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم اهدهم للبر بوالدِيهم، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم وفقهم لحضور الصلاة مع الجماعة في المساجد، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم وفقهم في دراستهم، اللهم وفقهم فيما هم مقبلين عليه من الامتحان، اللهم لا تخيِّب تعبهم، ولا تخيِّبهم فيما أمَّلوا، برحمتك ومنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعفُ عنهم، وأكرم نزلهم، ووسِّع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلِّم على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبينا محمد، وعلى الأئمة الخلفاء، الأربعة الحنفاء: أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنِّك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(155/5)
حقيقة التقوى
في هذه الخطبة تعريف للتقوى عند السلف، مع ذكر بعض ثمار التقوى، وأهمية التقوى تكمن في كثرة ذكرها في القرآن وحث النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه كثيراً، فهي وصية الأولين والآخرين، وقد ذكر الشيخ قصصاً تمثلت فيها التقوى بكل ما تعنيها كلمة التقوى.(156/1)
التقوى وتعريفها عند السلف
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجدنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وتفضل علينا بسائر النعم، ودفع عنا كثيراً من النقم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
ولو تأملتم -معاشر المسلمين- حقيقة التقوى التي جاءت في كل صفحة من كتاب الله الكريم، وجاءت في كل نعت من نعوت المتقين المؤمنين، لوجدناها كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل].
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك فقط؛ ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رُزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير.
وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.
وحسبكم -معاشر المؤمنين- بالتقوى أنها وصية الله للأمم السابقة والأمم اللاحقة، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي من يستوصيه بالتقوى.
واعلموا -معاشر المؤمنين- أن التقوى لا يلزم منها أن يكون العبد معصوماً من الذنوب والخطايا واللمم؛ بل إن العباد خطاءون، وخير الخطائين التوابون.
ويقول الله جلَّ وعَلا في محكم كتابه في سياق صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فعدَّهم من المتقين مع أنه جلَّ وعَلا قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] ولكنهم لم يصروا على هذا الظلم وأقلعوا عن تلك المعصية.
ويقول الله جلَّ وعَلا أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
فهذا دليل على أن المتقين قد ينالهم ما ينالهم من مس طائف الشيطان؛ ولكن العبرة بالمتذكرين المنيبين المخبتين الأوابين إلى ربهم، وبعد ذلك ينقلبون من حال المعصية إلى حال التوبة الصادقة النصوح، وبذا يكونون في عداد المؤمنين المتقين.
أيها الأحبة: إن الشيطان يأتي إلى كثير من الناس يوم أن يفعل أحدهم معصية، أو يجترح خطيئة، ويسوِّد صفحات أعماله أمامه، ويقول له: لستَ في عداد المتقين، ولا من المؤمنين، وييئسه من رحمة الله، ويقنِّطه من عفوه ومغفرته، وبعد ذلك قد يصيب الإنسان ما يصيبه من الإصرار على المعصية يأساً وقنوطاًَ من مغفرة الله وعفوه عنه.
لذا فمن تأمل هذه الآيات علم أن حقيقة التقوى: التزام فعل ما أمر الله به، واجتناب عما نهى عنه وحرَّمه، ولو وقع الإنسان فيما وقع من الذنوب والمعاصي فإن العبرة بالتوبة والأوبة والإنابة إلى جناب رب العالمين، وهو الذي يقول في محكم كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(156/2)
التقوى في القرآن والسنة
حسبكم -يا عباد الله- أن يجيء الأمر بالتقوى في كتاب الله قرابة السبعين مرة، وفي غيرها من الآيات التي ذكرت صفات المتقين، وما لهم من الأجر العظيم، ولا غرابة في هذا فالتقوى وصية الله للخلائق أجمعين، وهي خير ذخر، وخير زاد للقدوم على البرزخ والدار الآخرة، وهي سبب للصدق والقول السديد، وهي باب محاسبة النفس في جميع أعمالها، وهي أكبر دعائم التعاون والمحبة والإيثار في مجتمعات المسلمين، وهي خير لباس يتزين به العبد في الدنيا والآخرة: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلَّب عرياناً وإن كان كاسياً
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
وكما أن التقوى خير لباس على العبد حساً ومعنى، فإنها عنوان الرفعة والسيادة والعزة والكرامة فوق كل الجنسيات والقبليات والأعراق والدماء، يقول الله جلَّ وعَلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة جليلة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى عزَّ وجلَّ، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاًَ كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي أمامة صَدِّي بن عجلان الباهلي -وقيل: صُدَي - رضي الله عنه قال: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، فقال: أيها الناس: اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (اتق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: تقوى الله، وحسن الخلق).
ورُوي أن كميل بن زياد قال: [خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما أشرف على الجُبَان التفتَ إلى المقبرة، وقال: يا أهل القبور! يا أهل الوحشة! ما الخبر عندكم؟ فإن الخبر عندنا: قد قُسِّمت الأموال، وأُيْتِمَت الأولاد، واستُبدل بالأزواج، فهذا الخبر عندنا، فما الخبر عندكم؟! ثم التفت إليَّ فقال: يا كميل، لو أُذِن لهم بالجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى، ثم بكى، وقال: يا كميل! القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر].
يا غافلاً عن العملْ وغره طولُ الأملْ
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العملْ
اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم، وعذاب القبر.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، وتوبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى.(156/3)
من صفات المتقين في القرآن
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، نبيٌّ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وجسومكم على وهج النار لا تقوى.
واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
أيها الأحبة: إذا علمتم أن منزلة التقوى في الإسلام عظيمة وجليلة، فما هي صفات المتقين أصحاب الأمن والسعادة في الدنيا، والرحمة والمغفرة والرضوان في الآخرة.
إن الآيات والأحاديث جاءت في صفات المتقين كثيرة جداً، وحسبكم ألا تخلو صفحة من كتاب الله إلا وفيها الحث على التقوى، ومن تلك الآيات الآية الجامعة من كتاب الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].(156/4)
ثمار التقوى
تلك هي صفات المتقين يا عباد الله، وإن كان كل أمر لا يعلو قدره إلا بمعرفة ثمرته، فإن ثمار التقوى عظيمة جداً: أولها: الهداية بنور الله جلَّ وعَلا: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2].
وثانيها: المكانة العالية عند الله، وأعظِم بها من ثمرة {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212].
ثم إن التقوى أجلُّ سبب إلى حصول العلوم النافعة، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ومن اتقى الله وعمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم.
ومن هنا -أيها الأحبة- ندرك سبب الفتوحات الإلهية، والإلهامات الربانية على سلف الأمة الصالح الذين قضوا حياتهم بين الجهاد والدعوة، والتعليم والتصنيف، جمعوا بين ذلك كله وبين العلم الواسع الغزير الذي يجعل المسلم في هذا الزمان يندهش من كل ما ألَّفوا وصنَّفوا، يندهش من محفوظاتهم وما حصَّلوا من العلوم بأنواعها، وما ذاك إلا بتقوى الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
ورابع ثمار التقوى: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر:- {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15].
وأي نعيم يا معاشر المؤمنين؟! أي نعيم على العبد أعظم مما هداه الله جلَّ وعَلا إلى التقوى؟! وبذا ينال محبة ربه وخالقه ومولاه {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76].
وإذا اطمأن العبد الذليل الضعيف إلى محبة الله العظيم الجليل الكريم فلا يسأل بعدُ عن محبة أحد بعد الله ورسوله.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضابُ
إذا صحَّ منك الود فالكل هيِّنٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ
وما لا يُحصى من ثمار التقوى: من المعية والإحاطة من الله جلَّ وعَلا لعباده المؤمنين المتقين، والفلاح والتوفيق لهم في الدنيا والآخرة، واطمئنانهم، وبُعد الخوف والحزن عنهم، وحصول الفوز والبشارة بالنعيم، {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64].
وتأملوا ثمار التقوى بين العباد والبلاد:- {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
عباد الله: ما خلق الله أمةً وضيَّع أرزاقها، وما أوجد الله جيلاً ونسي أرزاقهم وأقواتهم؛ ولكن العباد يبغي بعضهم على بعض، ويسطو بعضهم على أرزاق بعض، ويُحرَم بعضُهم رزقَه بسبب بُعده عن التقوى، وبسبب معصيته وذنوبه: (وإن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه).
ومن تأمل كتاب الله وجد ما لا يُحصى من ثمار التقوى.(156/5)
التقوى عند السلف رضوان الله عليهم
وما أجمل التقوى في واقعة حصلت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة سافر زوجها إلى الجهاد، وأبطأ عنها وتأخر، وكان عمر خليفة رسول الله أمير المؤمنين كان يجوب الأسواق ليلاً، يستمع وينصت إلى حوائج الضَّعَفَة والمساكين، فسمع امرأة تناجي نفسها، وتقول:
تطاول هذا الليل واسودَّ جانبُهْ وأرَّقها أن لا خليل تداعبُهْ
فوالله لولا الله تُخشى محارمه لَحُرِّك من هذا السرير جوانبُهْ
فسأل عمر عن هذه المرأة، وسأل قبل ذلك ابنته حفصة، وأجابته وقالت: [يا أمير المؤمنين! ألم تقرأ كتاب الله جلَّ وعَلا؟] وفهم من ذلك ألا يتأخر الرجل عن زوجته أكثر من ستة أشهر، ثم بعد ذلك أمر أن يُرد زوجُها إليها.
ولكن العبرة في حال هذه المرأة التي لا رقيب عليها سوى الله، ولا حسيب لها سوى التقوى، زوجها بعيد، والليل مظلم، وما ردها عن المعصية إلا تقوى الله ومخافة عذابه.
وتلك الأخرى التي سمعهما عمر، إذ امرأة تقول لابنتها: يا ابنتي! امذُقي -أو امزجي- اللبن بالماء، قالت: وأين أنت يا أماه من عمر؟! قالت: إن عمر لا يرانا، فقالت تلك الصغيرة البريئة: ولكن رب عمر يرانا.
هكذا كانت منزلة التقوى في قلوب كثير من العباد، إذ تزينت لهم المعاصي، وتهيأت لهم المنكرات، تجافوا عنها وابتعدوا، وخافوا من ربهم جلَّ وعَلا.
خَلِّ الذنوب كبيرها وصغيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
والتقوى هي أزمة المجتمعات في هذا اليوم، حاجتنا إلى التقوى عظيمة، وأَزمَت مجتمعاتنا لفقد التقوى، التقوى مفقودة في كثير من مجالات الحياة، لو وجدنا الكثير قد اتقوا الله جلَّ وعَلا فيما تولوه من مصالح المسلمين، وفيما تولوه من مصالح تعليم أبناء المسلمين، وفيما تولوه من مصالح المسلمين عامة.
كل إنسان وكل فرد لو اتقى الله فيما دونه؛ الموظف يتقي الله في وظيفته، والجندي يتقي الله في أمن بلده، والطالب يتقي الله فيما تعلمه، والمسئول يتقي الله في مسئوليته، لم نجد فساداً، ولم نجد خراباً أو دماراً، ونحن بخير ولله الحمد والمنة، وإن كان النقص قد دبَّ إلينا شيئاً فشيئاً، وما ذاك إلا لبُعدنا عن التقوى، ولاستهتار بعض المسلمين بمراقبة الله جلَّ وعَلا، وعدم مراقبة ربهم، واستحضار التقوى في كل أعمالهم، وفي كل ما يأتون ويذرون.
نسأل الله العلي العظيم الجليل الكريم أن يؤتي أنفسنا تقواها، وأن يزكيها هو خير من زكَّاها.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وأبطِل كيد الزنادقة والملحدين.
عباد الله: قد ندب الإمام -معاشر المسلمين- إلى صلاة الاستسقاء صبيحة يوم الإثنين.
فالله الله لا يتخلفَنَّ أحدٌ عن ذلك، ولا يقولنَّ امرءٌ: ما لي ومال هذا، لستُ بذي زراعة ولا محصول، ولا يهُمُّه المطر في قليل أو كثير؛ لِتَوافُر المياه أمامَه، لا.
لا يقولنَّ امرء ذلك؛ ولكن ليعلم أن الغيث رحمة، وأن الغيث توبة ومغفرة من الله جلَّ وعَلا، وشعور من العباد بأن ربهم تقبل دعاءهم، وقد تلطف بحاجتهم وهو أعلم بها قبل أن يسألوه.
فالله الله لهذا، ولا تغفلوا عنه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء الضعفاء المساكين إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سَحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسقِ العباد، والبهائم، والبلاد.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا ولا تخذلنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا.
اللهم مَن أراد المسلمين بسوء، وأراد ولاةَ أمورهم بفتنة، وأراد علماءهم بمكيدة، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء.
اللهم من أراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنساء المسلمين تبرجاً وسفوراً، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
اللهم عذب الذين لا يريدون لدينك نصرة ولا عزة، اللهم من أراد دينَنا بعزة فأعزه بعزتك يا رب العالمين.
ومن أراد للمسلمين ذلة فاخذله، يا أكرم الأكرمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباًَ إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا أسيراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا عليها ويسرتها لنا، يا رب العالمين.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالَنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعفُ عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم آمِنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم لكتابك ولسنة نبيك، اللهم أصلح مُضَغَ قلوبهم، اللهم أصلح بطانتهم، ومَن علمتَ فيه خيراً فقرِّبه منهم، ومَن علمتَ فيه سوءاً لهم وللمسلمين فأبعده عنهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، محمد بن عبد الله، أكرم الخلق، وأفضل البشر، وسيد المرسلين والأنبياء أجمعين.
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبينا محمد، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اتبع هداه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه التي لا تستطيعون حصرها ولا تقدرون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(156/6)
حوار مع الشباب
إن الحديث مع الشباب ذو أهمية بالغة؛ ذلك أن الشباب هم عز الأمة وأملها بعد الله تعالى، فإن صلحوا صلحت الأحوال واستقامت، وإن فسدوا فسدت وضاعت، لذلك كان لابد من الحوار معهم والحديث إليهم بكلمة حب، وهمسة عتاب، علهم أن يرجعوا ويعودوا إلى الله تعالى هذا ما تحدث عنه الشيخ في حواره مع الشباب، حيث وجه إلى الشباب نصائح ثمينة لمن وفقه الله منهم أن يأخذ بها.(157/1)
أهمية الحديث عن الشباب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكر الله عز وجل، ثم أشكر حضوركم وتشريفي أمامكم بالمثول وإليكم بالحديث، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمعنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر كما جمعنا في هذا المكان المبارك إن شاء الله.
أحبابنا! ليس بسر ولا بعجيب أن نتحدث عن الشباب، وأن نعيد ونزيد، وأن نكثر ونردد، لأننا نرى كل أمة إنما عزت برجالها وشبابها أو ذلت بهم، أو رفعت بهم رأساً أو خفضت بهم رأساً، أو نسبت إلى علم وجد وحزم وعلم ونفع، أو نسبت إلى هزل وضياع وسقوط وانحدار؛ لذا كان لزاماً أن نلتفت إلى هؤلاء الناشئة، وأن نتحدث إليهم مصبحين ممسين، غادين رائحين، وأن نتلقفهم أو نقف لهم في كل سبيل وطريق، لنقول لهم: هل تعلمون قدركم؟ وهل تعرفون مكانتكم؟ وهل تثمنون منزلتكم؟ أم أن الواحد يمشي سبهللاً لا يعرف شيئاً! وكما يقول القائل:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
أيها الأحبة! عن ماذا نتحدث عن الشباب، ونحن إن أردنا عن مواهبهم وطاقاتهم وما آتاهم الله عز وجل فذاك خير كثير وعلم غزير؟ وعن ماذا نتحدث عن الشباب إن أردنا أن نتكلم عن المؤامرات والمكائد والفخاخ التي تنصب لهم، والحبائل التي تنسج في طريقهم حتى يقعوا فريسة الشبهات والشهوات، فذلك علم كثير وعلم غزير أيضاً، وعن ماذا نحدث الشباب عن مسئولياتهم تجاه أنفسهم أو تجاه أسرهم ووالديهم، أو تجاه مجتمعاتهم وتجاه بلادهم وأمتهم، فذلك أيضاً كلام كثير؟ لكننا نريد أن نتحدث فقط عنك أنت أيها الشاب، عن شخصك، عن ذاتك، لن نتكلم عن الأسرة ولا عن الجيران ولا عن الدولة ولا عن البلاد ولا عن الأمة، ولكن نتحدث عنك أنت أيها الشاب
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر(157/2)
الإنسان مخير بين الخير والشر
الحديث إليكم -أيها الشباب- حديث إلى كل واحد في ذاته وشخصه، يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10] ويقول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10].
أقول لك أيها الشاب: أنت قد خلقت قادراً مختاراً بين طريقين، بين طريق الهداية وبين طريق الغواية، وقد آتاك الله مشيئة وما تشاء إلا أن يشاء الله، ولكن قد جعلت لك وسائل الاختيار {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] وعلى طريق الخير هداية وعلى طريق الشر دلالة، وأنت قادر على أن تختار بينهما.(157/3)
شبهة الاحتجاج بأن المعاصي مقدرة والرد عليها
واحذر من مقالة الجبرية والمعطلة والضائعين الذين يقولون: هكذا كتب علينا أن نضل، وهكذا اختير لنا أن نزيغ، ولا خيار لنا أن نكون أبراراً أم فجاراً! هذه دعوى كثيراً ما يرددها بعض الشباب، فإذا قلت له: أخي! اتق الله عد إلى الله صل مع الجماعة أطع والديك بر بوالديك صل رحمك إياك والمحرمات إياك والملاهي إياك والعبث إياك والمنكرات إياك والفواحش قال: لو أريد لي الهداية لاهتديت، لكن اسألوا لي الهداية.
سبحان الله العلي العظيم! هذه الحجة التي كثيراً ما نسمع عدداً لا يستهان به من الشباب يرددونها، والواحد منهم لا يلوم نفسه أبداً في أي ضلالة أو منكر أو تقصير أو غواية، وإنما يقول:
هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد
هذا ليس باختياري، قدري أن أكون مدخناً، وقدري أن أستمع ( fm و MBC) قدري أن أكون مغنياً، وقدري أن أكون ممثلاً، وقدري أن أكون ضالاً، وقدري أن أكون مجنوناً في التشجيع الرياضي وملاحقة الأعلام والصياح والصراخ والدوران في الشوارع عند الأهداف، وقدري أن أكون تافهاً سخيفاً لا قيمة لوقتي لا مكانة لشخصيتي أحب الدوران في الأسواق أحب مضايقة الفتيات، ومعاكسة النساء في الأسواق، ومعاكسة الشباب والصبيان والأحداث هذا قدري! نقول: كذبت وما أصبت، وما بحقيقة نطقت، ولا حاجة أن ننصب لك كثيراً من الأدلة الشرعية، لكننا سنضرب لك أمثلة عقلية واقعية؛ حتى تعرف أن احتجاجك بهذا احتجاج ضلالة واحتجاج شبهة، وهي كشبهة الشيطان الذي ضل وغوى واستكبر وجحد وأبى، ثم قال: رب بما أغويتني، لم يقل: غويت، قال: رب بما أغويتني.
أخي الحبيب! سأضرب لك مثلاً: لو أنني الآن أشكو من الظمأ، أليس حالتي في الظمأ هي قدر من الأقدار؟ أنا الآن ظمآن أريد ماءً، والحالة التي أنا فيها قدر، وهذا قدر الشرب أعالج به قدر الظمأ، فأحصل على قدر الري، فلا تحتج بهذا، وكذلك إذا كنت أعاني من الجوع، وأمعائي تتقطع مخمصة ومجاعة وأقول: أنا جائع جداً، نعم إن الحالة التي أشكو منها الآن وهي الجوع هي قدر، ولكن قربوا قدر الطعام لأضرب فيه بخمس، فإذا شبعت وحصلت قدر الكفاية والشبع، كذلك إذا كنت تقول: أنا في قدر الضلالة، أنا في قدر الغواية، أنا في قدر الانحراف، نقول لك: عالج قدر الانحراف بأقدار أسباب الهداية، هذا قدر الانحراف: ملاهٍ وأغان وضياع وقلة أدب ومسخرة وإزعاج للناس، تعال وعالجها بقدر الهداية، وما هي أسباب هذا القدر؟ إنها: جليس صالح كتاب صالح شريط صالح موعظة نافعة قلب حاضر مبادرة إلى الصلاة مجاهدة للنفس، هذه أقدار وأسباب تحصل قدر الهداية.
إذاً هذا هو علاج شبهة كثير من الشباب الذين إذا نصحوا ودعوا إلى الله ورسوله، قالوا: نحن هكذا مكتوب علينا، وإن شاء الله يأتي يوم من الأيام ونهتدي، ويمكن أن نموت على هذه الحال! نقول: لا، لا، لا، وأكبر دليل أنك ما استسلمت لقدر الجوع، بل عالجته بقدر الأكل، فحصلت قدر الشبع، ما استسلمت لقدر الظمأ، بل عالجته بقدر الشرب، فحصلت قدر الري، ما استسلمت لقدر البرد، وإنما عالجته بقدر اللباس، فحصلت قدر الدفء، ما استسلمت لقدر الحر، بل عالجته بقدر المكيفات والمراوح، فحصلت قدر البرد والراحة والطمأنينة، وهذا أمر معلوم، إذاً لا حجة لأحد أن ينازع أو يجادل في ذلك، فضلاً عن أن الله عز وجل قد جعل لك كما أخبر سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6] يحصل قدر اليسرى والهداية {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:7 - 9] يحصل قدر الضلالة والغواية {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:10 - 11].(157/4)
المرء حيث يجعل نفسه
الوقفة الثانية: أخي الشاب: بإمكانك أن تكون عالماً من العلماء أو شيطاناً من الشياطين بوسعك أن تكون إماماً في الهداية وبوسعك أن تكون عفريتاً في الغواية بوسعك أن تكون قدوة يقتدى بك في الخير، وبوسعك أن تكون قائداً يهدي إلى الضلالة، وقد ضرب الله مثل الفريقين جميعاً، فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فلما اجتهدوا وحرصوا وبذلوا كل ما في وسعهم من طاقة وما في جوارحهم من إمكانيات، وإنه بالصبر واليقين -كما يقول أحد السلف -: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] والمسلم لا ينبغي أن يقول: يكفي أن أكون شاباً ملتزماً، نحن نريد أن تكون إماماً في الالتزام، يحتذى بمنهجك وبسلوكك وبطريقك وبعلمك، ويتأسى بفكرك أيضاً {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] هذا من الأدعية المشروعة، أن الإنسان لا يكون فقط واحداً من المتقين، بل يسأل ربه أن يكون إماماً للمتقين، وفي المقابل قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41] في شأن آل فرعون وأهل الضلالة والغواية.
فمن الممكن أن تكون أخي الشاب إماماً في خير، وممكن أن تكون إماماً في شر ممكن أن تكون قائداً في ضلالة، وممكن أن تكون قائداً في هداية، فالمسألة تعود إلى ماذا تطعم نفسك فتنتج بعد ذلك؟ ماذا تغرس وتبذر في أرض قلبك، وفي صحراء فؤادك، وفي طبيعة حواسك؛ لنعرف في المستقبل ماذا سنجني وعلى ماذا سنحصل منك؟
وكل امرئٍ والله بالناس عالم له عادةٌ قامت عليها شمائله
تعودها في ما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله(157/5)
طريق الهداية وطريق الغواية
ليس غريباً أن نجد شاباً منذ أن نشأ في حلقات تحفيظ القرآن، في المراكز الصيفية، في الجمعيات الشرعية والإسلامية، في الأنشطة الخيرية النافعة ليس غريباً أن تجد هذا الشاب بعد أن تجاوز العشرين خطيباً في منبر، أو داعية في مضمار، أو إماماً في خير، أو رئيساً في هدى هذا ليس بغريب؛ لأنه في البداية ماذا كان يزرع في أرض قلبه وأرض بدنه وفؤاده؟ كان يزرع حفظاً وقراءةً وتلاوةً، ومشاركات وأنشطة، وكان إيجابياً، وكان فاعلاً، وكان نشيطاً، فلا غرابة أن يكون اليوم بهذه النتيجة.
ولا غرابة أن تجد شاباً يوم أن كان في صغره سوقياً في عباراته، متسكعاً في جولاته وتصرفاته، دنيئاً في همته، خسيساً في نظراته وفكراته وخطراته، لا غرابة أن يكون في يوم من الأيام ساقطاً من الساقطين، تافهاً من التافهين، ضالاً من الضالين، كل من حوله يتبرأ من ضلاله ويدعو عليه ويسأل الله أن يريح المسلمين من شره.
لا غرابة إن كان هذا منحرفاً مفسداً مؤذياً؛ لأن تاريخه الماضي كان في ضلالة وانحراف، ولا غرابة أن يكون الأول إماماً وهادياً ونافعاً؛ لأن تاريخه الماضي -بإذن الله وتوفيقه وحماية الله له وليس بنفسه ولا بحوله ولا بقوله، حتى لا يغتر الإنسان بنفسه- لأنه كان في ما مضى في محاضن خير وفي رياض علم وهدى وتقوى.
فيا أيها الحبيب! كل شاب فيكم الآن بإمكانه أن يختار، أنت تستطيع أن تحدد الغاية، كما أن بوسعك أن تختار أن تمشي من هذه المنصة أو من هذا المكان إلى السور هناك، وبوسعك أن تختار أن تمشي من هنا إلى نهاية البلاط القريب، فأنت بوسعك أن تختار أن تكون -بإذن الله- إماماً في الهداية، وبوسعك أن تختار أن تكون إماماً في الضلالة كيف يكون هذا؟ بمبادرتك الآن في شبابك، كما تفعل وقت الزراعة، ووقت الغرس والبذور.
ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد(157/6)
المراكز الصيفية ودورها في بناء الأجيال
يا شبابنا: أنتم اليوم في مرحلة زراعة القلوب، لقد كنا -وتعود بي الذاكرة الآن إلى المراكز الصيفية- نتردد فيها كما ترددتم فيها، وننشد فيها كما تنشدون فيها، ونقرأ فيها كما تقرءون فيها، ونمارس ألواناً من النشاط فيها كما تمارسون الآن، ولو أننا استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لبذلنا أضعاف أضعاف ذلك الجهد وذلك النشاط الذي بذلناه؛ لأننا وجدنا عاقبته علينا.
إني أعلم أن كثيراً من الشباب دخلوا المراكز وهم بكم- البكم المعنوي- أعياء؛ الواحد منهم لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه، بعضهم كالعجماء التي لا تنطق، وبعد أن خرج من هذه المحاضن الطيبة المباركة أصبح فصيحاً منطقياً ذا لسان مبين! وبعضهم دخل المراكز وكان وديعاً خمولاً لا يحرك ساكناً، وربما قتله الحياء، أو ربما قتله احتقار نفسه - وهذا أمر سأتطرق له بالتفصيل- وما حالت شهور المراكز بأهلتها إلا وقد عاد نشطاً متفاعلاً إيجابياً قوياً، وله آثار عظيمة فيا سبحان الله! كيف تحركت هذه القوى؟ وكيف اكتشفت تلك الطاقات؟ ومن أين تفجرت تلك المواهب؟(157/7)
المخالطة وأثرها
إن المخالطة إما أن تنمي وإما أن تردي فإما أن تنمي فيك خيراً يزداد، وإما أن تردي فيك أموراً عجيبة وخراب.
أخي الحبيب! لا تعجب من أن المخالطة لها ذلك الأثر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بخبر يدل على أن الإنسان لو خالط بهيمة لتأثر بطبعها، فما بالك إذا خالطت إنساناً؟ فإن من باب أولى أن تتأثر به قال صلى الله عليه وسلم: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) لاحظ أن هؤلاء لما خالطوا الإبل وهم رعاة إبل، يصيحون بها، يعسفونها، يريضونها، ينيخونها، يعالجونها، يتابعونها؛ أورثت هذه الحالة في أنفسهم فخراً وخيلاءً في الغالب، ولاحظ حال أهل الغنم السكينة والوقار في أهل الغنم.
وأنتم يا شباب! لو دخل عليكم من هذا الباب أربعة: اثنان رعاة إبل واثنان رعاة غنم، وتحدثوا قليلاً؛ لقلتم: هذا راعي إبل وهذا راعي غنم، وهذا راعي إبل وهذا راعي غنم، كيف؟ من خلال مخالطتهم لتلك البهائم، أورثت تلك المخالطة في نفوسهم وفي حركاتهم وفي سلوكهم تصرفات دلت عليهم، فكذلك أنت من خلال مخالطتك لأشرار أو أخيار، لأبرار أو فجار، لأناس يحترمون وقتهم أو لسفلة لا يقيمون للزمن قيمة، لرجال طموحهم إلى النجوم والثريا، أو لمساكين الواحد منهم طموحه لا يتعدى نهاية خطوته، تستطيع أن تميز بين هؤلاء وهؤلاء، إما فيما يكتبون، وإما فيما يرسمون، وإما فيما يتكلمون، وإما في لحن حديثهم، قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] ففيه فائدة أن الإنسان ربما عرف من لحن قوله، ولا يحكم على نيات البشر في لحن القول، لكنك تعرف اتجاه الإنسان عموماً في لحن قوله، أما أن الإنسان يعرف من خلال ما يخالط فهذا واضح جداً.(157/8)
صورة لشاب صالح منذ الصغر
في مكان قريب منا شاب صغير لا أظنه قد جاوز السنة السادسة الدراسية سبحان الله! ما أجمل ذلك السمت! ما أحسن تلك الخطوات! ما أطيب ذلك المحيا! ما أبهى تلك الطلعة! إذا قابلت ذلك الشاب الصغير الذي ربما عمره في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة كأنما تقابل واحداً من طلبة العلم سنة والتزام واستقامة، أربعة وعشرون قيراطاً، كما يقال، فلما تأملنا وتدبرنا وبحثنا وجدنا أن له أباً شيخاً صالحاً طيباً، وأماً طيبةً صالحةً، وثلة من الأطفال الصغار الذين في سنه هم على هذا السمت وعلى هذا الهدي.
وتجد في المقابل شاباً كأن قصة شعره ذيل كلب! وكأن فنيلته مجموعة من الأعلام برقاعها وألوانها وأشيائها! وكأن تصرفاته قطة مدعوسة! بعض الشباب هكذا يمشي، فإذا تأملته وجدته مع أناس من هذه الطينة وفي تلك العجينة ومن هذه الصفات.(157/9)
الحث على اختيار أعلى المنازل في أمور الآخرة
فيا أخي الحبيب! ضع نفسك حيثما شئت، لا تقل: قد جنى الناس عليّ، أنت الذي تختار، وقد يسر الله لك أسباب الهداية، إلا أن الهدم أسرع من البناء، البناء يحتاج إلى وقت، حفظ صفحة من القرآن تحتاج إلى استعداد وتفريغ قلب وجلوس وترتيل وإعادة وتكرار، وتقرأ على الشيخ، ثم يجوِّد لك، ثم تعيد النطق، ثم تحكم الأحكام في التجويد، لصفحة واحدة تحتاج إلى عصر كامل، حسب تفاوت الناس في الحفظ والذكاء وغيره، لكن لكي تخرب لا تعمل شيئاً، الخراب لا يحتاج إلى شيء إطلاقاً، الجدار انظر كم يحتاج العامل إلى أن يبنيه، من الصباح الباكر إلى الظهر يمكن لا يبني إلا ارتفاع متر واحد، لكن هدمه يحتاج إلى اثنين أو ثلاثة يضربون عليه ضربة فيسقط في لحظة واحدة.
إذاً بوسعك أن تختار موقعك ومكانتك ومنزلتك، ولقد عرفنا أن الناس إذا خيروا بين المنازل اختاروا أسماها وأعلاها وأرقاها.
أخي الحبيب! إذا ركبت سيارة فإنك تريد أن تكون بمكيف، وتريد أن يكون القطار سريعاً وتريد المنصة وتريد المرتبة السابعة فتجد أن الإنسان دائماً في مسائل الدنيا يحتاج أفضل شيء، وتجده يحرص على أن يختار في أموره الطبيعية أعلى الأشياء وأسماها، فإذا جئت إلى شخصيتك ومكانتك في الآخرة وهي دار الأبد والخلود، يا أهل الجنة، حياة وخلود ولا موت ويا أهل النار، خلود ولا موت!! إذا جاءت الحياة الأبدية فهل تريد العليا أم الدنيا؟ تقول: أريد الدنيا!! تريد الجنة أم النار؟ تقول: أريد النار! تريد الضلالة أم الهداية؟ تقول: أريد الضلالة سبحان الله العظيم!! في الأمور التافهة البسيطة غترة وما غترة وجزمة وحذاء وثوب؛ تريد أحسن شيء، ولما جاءت نفسك التي هي أغلى شيء تذهب وتختار أخس شيء، سبحان الله العظيم! هذا من الغرائب والعجائب!(157/10)
الصاحب والصديق هو طريق الاختيار
أخي الحبيب: إذا فهمت وأيقنت أن بوسعك الاختيار، فإن طريق الاختيار هو الصاحب والصديق، والأمر من الجليس والطبع استراق.
خذ شاباً وسوف يأتي لك بالعجائب هذه عنز سورية، وهذه عنز سعودية، وهذه عنز من سيراليون ساحل العاج، وهذه عنز مصرية، وهذه عنز من كذا، والتي يقص أذنها تصبح أغلى، والتي تقص ذنبها تطول، والتي تفتح رجلها تطلع (تاندة) ما هذا الكلام؟! فتجد عنده عجائب وعجائب لا تنتهي بسبب أنه جالسها، والتيس الذي اسمه صدام قيمته ستمائة، والتيس الذي اسمه سحاب قيمته مائتان، وولد الجازي قيمته ثلاثة عشر، كلام فارغ! القضية وما فيها: أن الرجل ما قرأ كتباً، فلا يوجد كتب تتكلم عن إتحاف الميئوس في أحكام التيوس، إنما جالس أصحاب التيوس والغنم فأصبح لو مرت من أمامه غنمة وضع الذي في يده وأخذ يلاحقها! فالإنسان إذا جالس قوماً أصبح منهم.
وتعال وانظر إلى بعض الشباب الذين حديثهم: هل تعلم أنه صدر الآن في المكتبات شرح جديد للبخاري اسمه فتح الباري لـ ابن رجب؟ سبحان الله! هل تعلم أن شرح الممتع لـ ابن عثيمين وصل إلى الجزء السابع؟ هل تعلم أن الكتاب الفلاني بلغ المكان الفلاني؟ هل تعلم أن كذا طبع مرة أخرى؟ هل تعلم أن الطبعة الأخيرة محققة وخرجت أحاديثها؟ هل تعلم أن هذا الكتاب نفذ من الأسواق؟ من أين أتى بهذه المعلومات؟ جالس طلبة العلم وأهل الكتب والكتاب والوراقين وغيرهم.
فيا أخي الحبيب! أنت تصنع شخصيتك باختيارك، وأكرر مرة أخرى: لا يحتقر الإنسان نفسه، فإن من الأسباب التي جعلت بعض الشباب ينحرف ليس حباً في الانحراف، ولكنه احتقاره لذاته، عندما أراد أن يحضر محاضرة جاءه الشيطان وقال له: أنت ما زلت في ضلالك وتريد أن تحضر محاضرات؟! وتريد أن تصبح مثل الشباب الملتزمين؟! اذهب وابحث لك عن سمر مع الذين يشيشون في الرصيف وشيش معهم، أنت لست لهذه الأمور! إن الشيطان يأتي إلى أحدهم فيصرفه عن طريق الهداية، ويخذله ويحطم شخصيته، ويوهن ويضع من قدره، وصدق الله العظيم حيث قال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] لكن لو أن الإنسان احترم نفسه، وإذا جاءه الشيطان وقال له: لا تذهب، لست بكفء، قال له: اخسأ يا عدو الله! أنا ذاهب إلى المركز الصيفي ولابد، فلابد أن تشعر أن الشيطان عدو ممثل في شخص معين يستعرض عضلاته أمامك، ويدفعك ويأخذ بحجزك، ويدفع دونك من أن تصل إلى أماكن الخير ومواقع الفائدة، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] كيف تتخذه عدواً؟ لو قلت لك: الشخص الفلاني الذي في فصلك في المقعد الرابع من جهة السبورة هذا الطالب عدو لك، كيف سيكون موقفك وتصرفاتك تجاه هذا العدو؟ أولاً: لن تحبه، ثانياً: لن تسمع لقوله، ثالثاً: لو قال أنا لك من الناصحين ستقول له: كذبت، بل أنت من الغاشين المخادعين، رابعاً: لو أعطاك دسماً قلت: هذا سم، ولو أعطاك عسلاً لقلت: هذه نجاسة، دائماً تتهمه في نياته ومقاصده، فكذا ينبغي أن نتعامل مع الشيطان ومع الهوى والشهوات، لأنها تجرنا وتدفعنا إلى رذيلة ونقيصة.(157/11)
أهمية احترام الإنسان لشخصيته
ينبغي أن تحترم شخصيتك، وأن تعلم أن الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة كان شخصاً عدد عينيه كعينيك، وله أنف كأنفك، وعدد أذنيه كأذنيك، وعدد أقدامه كأقدامك، وله يدان ورجلان، وله قلب واحد وعقل واحد وجهاز هضمي واحد وجهاز تنفسي واحد، لم يكن مخلوقاً عجيباً أو غريباً، لكن كان له قلب ليس كقلبك، نعم لك قلب وله قلب، لكن قلبه ألقى السمع وهو شهيد، لك عقل وله عقل، لكنه فكر بعقله ونفعه، وربما بعض الشباب رمى عقله في زبالة واختار أن يقوده الناس.
أنا أعجب من ذلك شاب يا حبيبي! يا ولدي! يا أخي! يا بن الحلال! يا بن الناس! ما هو الذي أودى بك في الفساد؟ ما هو الذي جرك مع هؤلاء السفهاء؟ ما الذي يجلسك في هذه الأماكن؟ ما الذي يجعلك تفحط بالسيارات؟ ما الذي جاء بك إلى الشارع الفلاني تفحط وأتى بك إلى شارع الموت أو مع هؤلاء السفهاء في سيارتهم؟ قال: هم قالوا لي: تعال، وأنا أتيت، حسناً أليس لك عقل؟! هذا العقل مغلق عليه في الصندوق أو موضوع في الفريزر مع اللحم والدجاج وتخرج مع هؤلاء بدون عقل! أين عقلك؟! إذا قالوا: إلى المسجد، قل: حيهلاً، وإذا قالوا: إلى الشوارع، قل: لا إذا جاءك من يدعوك إلى محاضرة، قل: أهلاً وسهلاً، وإذا جاءك من يدعوك إلى ضلالة فقل: لا وألف لا.
فيا أخي الحبيب! لا تحتقر نفسك، أنت فيك خير كثير وأيضاً فيك شر كثير، وبإمكانك أن تفجر الدنيا وأن تنسف العالم وأن تخرب ما حولك، وبإمكانك أن تبني وأن تصلح، بإمكانك أن تكون طبيباً معالجاً نافعاً هادياً مهدياً، وبإمكانك أن تكون علة ومصيبة على هذه الأمة.
واليوم كثير من شبابنا يحسبون علينا ولا نستفيد منهم شيئاً، منهم اليوم الذي عنده محل وأنت الآن لو أن لديك مؤسسة أو شركة أو محل، ثم أحضرت لك موظفاً ووجدت أنه لا ينجز عملاً، نائم دائماً على الطاولة، دائماً لا يرد على التلفون، لا يتابع، لا ينجز، لا يعد تقارير، فإنك ستقول له: تعال، أنا أحضرتك واستقدمتك والخ، اقلب وجهك الله لا يحيي اليوم الذي جئت فيه، اذهب إلى بيتك لا نريدك، ثم تأتي بواحد آخر.
واليوم إن مرض أحد شبابنا، تعالوا زوروه في المستشفى، واذهبوا وائتوا له بواحد يقرأ عليه، وائتوا له بواحد يعالجه، واعملوا له إشاعات وتحاليل ومختبرات، وإذا احتاج دماً فتعالوا يا عباد الله وتبرعوا له بدم، ثم إذا نهض نهض شيطاناً مريداً لا نفع ولا فائدة، وهذا ليس بغريب، وصدق الله العظيم: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] تلقى هذا الشاب يوم أن أصابه المرض أو صدمته السيارة أو حصل له حادث يقول: آه، يا رب! يا رب! ولا يعرف أحداً، فقط: يا رب! يا رب! وفي المستشفى يدفعونه، وهؤلاء الممرضات يطلون في وجهه، وهذه تركب له الدواء، وهذه تركب له المغذية، وهذه تعطيه حقنة، ولكنه مع هذا لم يعبر أحداً يا رب! يا رب! {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً} [يونس:12] إما أن يمشي وهو ملتو أو قاعد على عربية {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] يوم أن عافاه الله قام ينظر، ويقول: تعالي يا هذه الممرضة، ما اسمك؟ من أي بلد؟ قبل قليل يصيح: يا رب! يا رب! {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:12] قام يفتح عينيه، وقام يقلب في عباد الله كما يشاء، سبحان الله العلي العظيم! فيا أخي الحبيب! خاتمة هذا الموضوع: حوار مع الشباب، وقد قلت: نحن نتحدث عنك وعن شخصيتك عليك أن تعلم أن بوسعك أن تحدد منزلتك ومقامك من الآن، تخيل نفسك إذا كتب الله لك عمراً بعد عشرين سنة أو بعد ثلاثين سنة، هل أنت في منابر الهداية أم في مواخير الغواية؟ وبوسعك أن تشق طريقاً إلى الخير وليس هذا بأمر عسير.
كثير من الشباب يقولون: الاستقامة صعبة، والطريق طويلة، ومن يستطيع أن يصبح ملتزماً! وتجد أربعة أو خمسة شباب يجلسون، ويقولون: يا أخي! فلان ملتزم! يا ليتنا نصبح ملتزمين! وهل القضية والهداية والاستقامة صعبة؟! ليس فيها أمر صعب أبداً، لكنها تحتاج إلى عزيمة، تحتاج إلى إنسان جبل بطل رجل، يقول للشيطان: لا، يقول لجلساء السوء: لا، يقول للشهوة والهوى: لا، ويعسف نفسه ويصارعها كما يصارع المصارع صاحبه في الحلبة.
أيها الإخوة: لا أريد أن أطيل أكثر من ذلك، فأكتفي به، ولعل البقية ترد من خلال الحوار والنقاش الذي يرد في أسئلتكم جزاكم الله خيراً.(157/12)
الأسئلة(157/13)
ضابط إخبار الناس بالأعمال الصالحة
السؤال
أنا شاب أحب أن أخبر الناس بأعمالي الصالحة لا لأجل الرياء، وإنما لكي يقتفوا أثري ويتأثروا بي، فما هو توجيهكم لي في فعلي هذا؟
الجواب
أخي الحبيب! لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك الخفي، وبين أنه أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وإن كنت تأمن على نفسك فتنة الرياء والسمعة، وتعلم أنك إذا تكلمت فإن هذا يحدث لا محالة أثراً في السامعين لفعل خير وترك شر؛ فلا بأس، وإن كنت تعلم أنك إن تكلمت فإن كلامك يحدث فيهم فعل خير وترك شر، ولكن يدخل في نفسك ما يدخلها من الرياء والعجب، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، وإياك أن تحبط عملك بالرياء والسمعة، وهي من صفات المنافقين، قال تعالى: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
أخي الحبيب! إن مسألة العمل وإخلاص العمل أمر غريب وعجيب، يقول أحد السلف ولعله الحسن البصري: ما كابدت شيئاً أتعبني كما كابدت نيتي.
وإنا نشكو إلى الله إهمالنا وغفلتنا وتفريطنا وتقصيرنا في أمر النية.
فيا أخي الحبيب! إذا كان الأمر فيه جانبان، وهما: يقينك بتأثر السامع، ويقينك بسلامة نفسك من الرياء والعجب، فلا بأس، وإن تحقق عدم استفادة السامع مع يقينك بسلامة نفسك من الرياء، فلا داعي لذلك أبداً {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وإن غلب على نفسك تأثر السامع وعدم سلامة النفس من الرياء، فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
ويا أخي الحبيب! اجعل بينك وبين الله سراً، مهما كانت ذنوبك، ومهما كانت معاصيك، ومهما كانت أخطاؤك، اجعل بينك وبين الله سر لا يطلع عليه أحد لماذا كل أعمالنا نفسدها بالمن والأذى والرياء والقيل والقال؟ وإني من هذا المكان لأغبط شباباً إن حضروا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفقدوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن سألوا لم يعطوا، والله إنا على يقين أنهم خير منا بمئات المرات، فهنيئاً لهم إذ لم يعرفوا وقد فتح الله عليهم أبواب خير من الدعوة، خاصة دعوة الشباب والعناية بالشباب، ومجاهدة الأنفس، وتربية الشباب، التربية الفردية والدعوة الفردية، فقد حصلوا الأجر وسلموا من فتنة الشهرة والقيل والقال.(157/14)
مرض الهوس الرياضي وعلاجه
السؤال
إنني مصاب بمرض الهوس الرياضي وقد أتعبني نفسياً، فما هو العلاج لهذه المشكلة؟
الجواب
ما كنت أظن أن الرياضة تبلغ ببعض الشباب ما بلغت؛ لولا أن واحداً حدثني قائلاً: إنه إذا كانت مباراة نهائية ثم هزم فريقه ولم ينل الكأس، يقول: أبقى ثلاثة أيام لا أذوق طعاماً أو لا حاجة لي في الزاد! آكل شيئاً بسيطاً جداً، أما الوجبات الرئيسية فلا يذوقها! لماذا؟ لا أريد أحداً يكلمني، ولا أريد ولا أريد.
فقلت له: ولو قيل لك: أن مائة فتاة في البوسنة اغتصبت، فهل تتحرك؟ لو قيل لك: إن عدداً من العلماء في بلاد من البلدان أعدموا وشنقوا، فهل تتحرك؟ لو قيل لك: إن مقابر جماعية حفرت لمسلمين ودفنوا فيها، فهل تتحرك؟ قال: وهذا الذي يؤلمني أنني لا أجد لهذا أثراً.
لا شك أن هذا مصاب بمرض القلب، بل بموت القلب ولا حول ولا قوة إلى بالله! ولا شك أن الهوس الرياضي ما أصابه من أول يوم شجع فيه، لكنه أدمنه حتى أصبح يشكو حالة الانهيار والهوس كما يسميه، ولو أنه جاهد نفسه، وتذكر دائماً، والذكرى تنفع المؤمن، أن يتذكر في كل حال هب أن فريقاً تشجعه فاز فهل يعطيك ريالاً؟ لا، هل يرقيك مرتبة؟ لا، هل يقدمك سنة دراسية؟ لا، هل يزيد في بيتك مساحة؟ لا، هل يقدم لك طعاماً طيباً؟ لا، هذا في مقاييس الدنيا، فإذا أتيت إلى الآخرة: هل هذا يرضي الله عنك؟ لا، هل هذا يقربك من الله؟ لا، هل تتزود به علماً؟ لا، هل يحبك الصالحون ويدعون لك؟ لا، هل ترجو بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة؟ لا، هل تنال بذلك أن تكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ لا.
إذاً: بم ستلقى الله في هوس الرياضة؟ هل ستقول: يا رب! جئتك ومعي تمزيقي لثيابي يوم أن هزم المنتخب، وتفحيط في الشوارع يوم فاز؟ جئتك وقدمت بين يديك ومعي صياح ورسائل وأشرطة؟ والبعض يدفع من جيبه، ولو قيل له: ادفع في حفر بئر أو كفالة يتيم أو كفالة داعية أو بناء مسجد لقال: فريقنا أهم علينا مما تقولون! أخي الحبيب! تأمل وتفكر، فالهوس ليس بحالة لا تستطيع أن تعالجها، كيف جاءك الهوس تدريجياً حتى أصبحت ذا هوس رياضي؟ فأنت تستطيع أن تكون ذا حرقة على الدين، وتستطيع أن يبلغ بك الحال إلى درجة تسهر الليل وأنت تتفكر في قضايا المسلمين، كما يحصل من بعض من نعرف، بعضهم يقول: إذا رميت برأسي على وسادتي تمر الساعات وأفزع -أحياناً- بأذان الفجر وما علمت أن الساعات مرت.
يا أخي فيم تفكر؟ يقول: في جياع البوسنة، وفي المسجونين في كشمير، وفي المقابر الجماعية من قبل الصرب على المسلمين، وفي الاغتصاب للأخوات المسلمات يقول بعضهم: وتارة ربما انحدرت دموع على وجنتي وأنا أتقطع أسى، وكما في الأثر: في آخر الزمان يذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء مما يرى من المنكرات ولا يغير، وأحياناً ربما يتميز الإنسان غيظاً ويضيق حينما يرى من المنكرات والمصائب والبلاوي، لكن ينشرح الصدر حينما يرى أمثالكم ممن يعدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117] فتب إلى الله من هذا الهوس الرياضي.(157/15)
أهمية النية للاستفادة من وقت الإجازة
السؤال
إنني أعرض عليكم المشاركة في هذا المركز لإفادة الإخوان رغم القصور والله المستعان، إلا أنني كنت عقدت العزم على الاستفادة من هذه الإجازة على قدر الإمكان، ويصعب عليَّ التوفيق بين الأمرين، فما توجيهكم لي ولأمثالي؟
الجواب
النية أساس العمل، فما دمت نويت أن تستفيد فسوف تستفيد، أحبابي! لو جلست مع شاب عمره نصف عمرك ونويت أن تستفيد من حديث معه لاستفدت، لو أخذت كتاباً وأنت تنوي أن تنتقده لن تخرج إلا بالانتقادات ولن تخرج بفائدة، ولو أخذت كتاباً وأنت تنوي أن تستفيد منه لاستفدت، فنيتك هي أهم شيء، شعورك بقصور نفسك، قناعتك بأنك مريض تحتاج إلى علاج بحسب درجات المرض، وكلنا نحتاج إلى ذلك، أنا مقتنع أنني مريض، وربما وجدت العلاج بجلسة معكم أستفيد منكم وأسمع منكم وتسمعون مني، وأنت تقتنع أنك مريض بحاجة إلى من يسددك ويصوبك، وكلنا مرضى ومن ذا الذي يدعي الكمال؟ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟ والله -يا أحباب- إننا كما يقول القائل: مريض يعالج مرضى، وعليل يناصح معلولين، ولكن حسبنا أن نتواصى فإنها سمة المؤمنين، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
المشاركة في هذا المركز شرف وفخر أعتز به، وليس عندي مانع أن أشارك ثانية وثالثة، وما تشاءون من المشاركات إذا كان لدي فرصة أو وقت يسمح بذلك، حتى لو أردتم نلعب سلة.(157/16)
الابتلاء بالتعلق بالأشخاص وعلاج ذلك
السؤال
إنني شاب مبتلى بحب شاب، وشغفت بحبه حتى والله أنني تركت بعض النوافل، بل ذهب عني الخشوع في الصلاة، وبدأت أتكاسل وأفكر فيه في كل أوقاتي، فأرجو إرشادي لعل الله أن يبعد عني هذا الحب، وأرجو الدعاء لي لعل الله أن يستجيب في هذا المكان، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك أخي الحبيب! إياك والتمادي في أسباب العشق والتعلق خاصة بالأحداث
فما في الأرض أشقى من محبٍ وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل وقتٍ مخافة فرقةٍ أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق
وكم أفسد هذا الداء الخسيس! نسأل الله أن يعافينا وإياكم، نسأل الله ألا يبتلينا في أنفسنا، والمعافى من عافاه الله، والمسَلَّم من سلمه الله.
أقول: إن هذا قد أنزل رجالاً من مستعصمهم إلى مهاوي الرذيلة والمواقع الآثمة، ثم عجبت أن يهوى شاب شاباً أو رجل رجلاً، سبحان الله العلي العظيم! أما تعلم أن في أنفه المخاط؟ أما تعلم أن في عينيه القذى؟ أما تعلم أن في جوفه الخراءة والعذرة والبول؟ أما تعلم أن في مغابنه وبراجمه العرق؟ أما تعلم أن في فمه البخر؟ أما تعلم أنه قطعة تجيف وينتن ريحها إذا تركت لولا أن الله سترها بالدفن لو ماتت؟ أما تعلم أنه لو مات ما أطاقه أهله وأحبابه وأقاربه؟ أما تعلم أن ما تفعل جزاؤه خسف ومسخ؟ أما تعلم أن جزاء من فعل هذا وتمادى فيه أن يصعد به أعلى شاهق ويرمى من أعلاه عقوبةً له على خسة طبعة ودناءة نفسه؟ وعلاجه الإعراض والبعد، ابتعد، يوجد مكان أنت مبتلى فيه ببلاء فابتعد عنه.
فخاتمة المطاف في هذا السؤال نقول لصاحبنا: إن من الأدوية الناجعة المفيدة لمن ابتلي بمثل هذا الداء الخبيث -والعياذ بالله- أن يبتعد عن الموقع الذي فيه هذه الفتنة وهذه البلية، فلعل العين إذا غابت بنظرها اشتغل القلب بشغل أجل وأهم، أخي! سبحان الله العلي العظيم! أسأل الله ألا يبتلينا في أنفسنا، أسأل الله أن يعافيك وألا يبتلينا.
يا إخواني! تصوروا لو أن واحداً أبوه ميت أو أمه متوفاة، فجاءه واحد صديق وقال له: بياراتنا غير صالحة أصلحها لنا، يا أخي! نحن في بيارات أم في حالة موت حبيب وعزيز وغالٍ؟! لا يمكن أن تأتي بالهم عند الهم هذا إطلاقاً، فكذلك أين الهم في هداية المسلمين ودعوتهم؟ وأين الهم في إصلاح المجتمع؟ وأين الهم في الأمر بالمعروف؟ وأين الهم في الجنة والفردوس الأعلى؟ وأين الهم في رؤية الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وأين الهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنت تعلم أن همك في مثل هذا الشذوذ وهذا البلاء يحرمك ويرديك وينكسك ويحرمك أموراً عظيمة وجليلة، فهل تضيع هم جلال الله والنظر إلى وجهه الكريم، وحب المصطفى صلى الله عليه وسلم ولقاءه، ومقابلة الأخيار، والجنة والنعيم والحور والرضا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، تضيعه كله لأجل هذا الأمر الذي تدعيه أو تذكر أنك متعلق به؟!! أنا لا أقول هذا ساخراً ولا مستهزئاً، فلا تهزأ بأخيك يعافيه الله ويبتليك، لكن أقول: اجعل في النفس هماً عظيماً، ثم ستجد أنك تضحك على نفسك وتقول: كيف أهتم بأمر كهذا
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام(157/17)
طريق الاستقامة والتوبة إلى الله تعالى
السؤال
هناك شاب يقول: إنه يريد الاستقامة، ولكنه متردد فبماذا تنصحونه؟ والثاني شاب تائب يقول: كيف العود الحميد إلى الله؟ وهل التوبة تمحو عني ما مضى؟ وكيف أستقيم حقاً؟ والثالث يقول: إنني شاب مبتلى بالتدخين والعادة السرية فما هو الحل؟
الجواب
أخي الحبيب: الذي يقول: إنه متردد في الاستقامة، فنحن نسأله عن أسباب التردد، بعض الشباب يحب الأخيار ويدعو لهم، يبتسم في وجوههم، يستضيفهم في بيته، يقدم لهم أزكى طعام، ويهديهم أطيب سلام، يذب عن أعراضهم، يدافع عنهم، لا يرضى أن يسمع فيهم مسبة ولا قالة، لكنه لم ينضم معهم، ولم ينخرط في سلكهم، ولم يعمل داعية إلى الله كما يدعون؛ والسبب أوهام ووساوس قال الشيطان بها، وأذكر طرفاً منها: فمن ذلك أن أحدهم يقول: إنني إذا التزمت واستقمت أخاف أن أصبح غداً من هؤلاء الذين يفجرون، لأنه ما بينه وبين التفجير إلا أن يستقيم ويلتزم، كما حصل بعض الناس للأسف من التصور، بعضهم يوم أن أراد أن يستقيم ولده، قال له: عندك نية تطوع وفي الغد تأتي لنا برجال ينسفون أبها، أو عندك نية وعندك نية أصبح كل متدين معناه أن معه حزاماً ناسفاً، و (تي إن تي) و (سي فور) و (ريموت كنترول) تفجير ونسف، هذا ليس بصحيح، إذا كان هناك أربعة أو خمسة أو عشرة أو عشرون أو خمسون ضلوا الطريق، وسلكوا مسلك التكفير، ورضعوا أفكار الخوارج نقول هذا بقوة ولا كرامة، لابد أن نميز وإلا سيأتي يوم من الأيام يرمى الجميع بجرم أي واحد ضال منحرف، لكن إذا كنا صريحين صادقين في التفريق والتمييز والتمايز بين من يحسب على الدين الحق والالتزام الصحيح والمنهج الشرعي وطريقة أهل السنة والجماعة ومن ليس منهم، حتى ولو وفر لحية أو قصر ثوباً، وليس العيب في اللحى والثياب، حينئذ نكون صادقين وجادين ونعرف.
فأقول لهذا الذي يتردد: يا أخي الحبيب! نحن في هذه المملكة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً ممن تأثروا بمثل هذه الأفكار، تحت ظروف المراهقة وصغر السن والجهل وعدم العلم وعدم الاتصال بالعلماء وعدم الرجوع للعلماء، فلا تظن أن كل المتدينين هكذا، لا أحصي لك من مئات الآلاف من الشباب أو الملايين من الشباب المتدين يعفون لحاهم، ثيابهم على السنة، يسمعون الشريط الإسلامي النافع ويوزعونه، يقرءون الكتاب الإسلامي النافع ويلخصونه، يتحلقون على العلماء، يتزاحمون بالركب في دروسهم، أهل الصلاة والمساجد، أهل القيام والصيام والتهجد، أهل البر، وما علمنا عنهم إلا جداً واجتهاداً وعزماً وحزماً وحيوية ونشاطاً وبذلاً وخيراً، ونفع الله بهم الإسلام والمسلمين.
فالتردد من أجل أني لو أعفيت والتزمت واستقمت أني سأصير بهذه الصفة؛ هذا من خلط الشيطان ووسوسته، يقول أحد الشباب: إنه قابل شخصاً في المصعد فقال له: هل معك سيجارة؟ فقال له: يا أخي الكريم! مصعد وضيق، والتدخين يضرك، أتعرف أنه من الخبائث، وكذا، قال: يا رجل! أحسن من اللحية هذه التي فيها متفجرات! مباشرة قال له: تف، وتنفجر عليها ويذهب.
قال: خوفته بلحيتك وأعطيته حركة.
هل هذا عقل عندما يقول: أحسن من اللحية التي فيها متفجرات؟!! انظر إلى أي درجة نزغ الشيطان لسانه فقال بكلمة سخيفة خسيسة.
نحن -والحمد لله- عرفنا الشباب الطيب من أكثر من خمسة وعشرين سنة أو عشرين سنة وما سمعنا -أنا أحدثكم عمن لقيت وعرفت من الأساتذة والدعاة الأفاضل- ما سمعت -والله- يوماً ما من أحدهم كلمة تدعو إلى ضلالة أو غواية أو إفساد في المجتمع، بالعكس نسمع منهم الدعاء لولاة الأمور والتواصي به، نسمع منهم النصيحة للمسلمين عامة ولولاة الأمور أيضاً والتواصي بذلك، نسمع منهم العناية بالوالدين والاهتمام بهما، نسمع منهم العناية بإصلاح أوضاع المجتمع، نسمع منهم العناية بنفع المساكين والمحتاجين هذا معوق، وهذا مشلول، وهذا عنده علاج، وهذا يحتاج إلى مساعدة، وهذا عليه دية لا يجد من يجمع له، وهذا عليه دين يريد من يشفع له، وهكذا تعلمنا من الطيبين الذين نعلم أنهم منتشرون في أنحاء هذه البلاد.
فإذا نزغت نازغة أو خرجت خارجة محدودة في عشرات أو أقل من مائة أو شيء من هذا لا يحسبون على البقية، فينبغي أن نتبرأ من سلوكهم، ونحن لا نكفرهم، فإن علي بن أبي طالب لما سألوه عن الخوارج وقالوا له: [يا أمير المؤمنين! أكفارٌ هم؟ قال: لا، من الكفر فروا، لكن بغوا علينا] ومع ذلك قاتلهم وقتلهم وما كفرهم، فنحن نرضى ونسلم بالإجراءات الشرعية والرسمية التي أجرتها الدولة وصدرت من العلماء ومجالس القضاء محل ثقة، وما عندنا اهتزاز ثقة في ولاة الأمر من كبار العلماء والمسئولين إطلاقاً، ينبغي أن نسلم بالثقة، سيما مسئولية الأمن مسئولية خطيرة، ولولا الله ثم الأمن ما اجتمعنا هنا، لو أننا في حرب فهل نستطيع أن نجتمع في مراكز؟ كيف تدعو في ظل حرب؟ كيف تقوم بمشاريع دعوية أو خيرية أو صحية أو توعية أو اجتماعية، أو غيرها في ظل حرب إطلاقاً؟ فكل خير بعد فضل الله عز وجل في ظل الدين ثم الأمن، ونحن نحترم هذه المسئولية ونرى أنها مسئولية الجميع، سواءً في وزارة الداخلية، في المراكز الصيفية، في جميع الدوائر، في الجامعات، في المعاهد، في المدارس، في كل مجال ينبغي أن يكون عندنا حس أمني، ولله الحمد هذا موجود.
وقد يتردد هذا الشاب الذي يريد الاستقامة، ويقول: وإذا استقمت فأنا قد لا أستمر فنقول: يا أخي! وهل شرعت التوبة إلا من الزلل؟ وهل شرع الاستغفار إلا من الخطأ؟ تب إلى الله عز وجل، أقلع عن ذنوبك، أبعد ما عندك من آلات اللهو وصوره ومجلاته وأشرطته ووسائله، حطمها، كسرها، فإن وقعت بعد ذلك في زلة فأتبعها بالاستغفار {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
قد تقول: أنا متردد في الاستقامة، أخشى أني أغلط مرة ثانية.
نقول: استقم، وإن غلطت فتب، وإذا أخطأت فأحدث بعد الخطأ عملاً صالحاً يمح السيئة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
وقال أحدهم: إنني أريد أن أستقيم، لكن أهلي يمنعونني ويقولون: هؤلاء المطاوعة وراءهم أشياء وأشياء.
أنا أرى الشيخ الآن ماذا وراءه؟ فنيلة علاقي، لست أرى مسدساً ولا ميراجاً، ولا (ترنيدو) ولا (إف 60) ولا (إف 16) إطلاقاً، ليس وراءه إلا فنيلة علاقي.
فالشاهد يا أخي الحبيب! ادفع عنك هذه الأوهام، وبعض الشباب فعلاً، حتى أضرب لك مثالاً على أن الشيطان يعرقلنا، يكبلنا، يقيدنا عن الدعوة والاستقامة، يقول بعض الشباب: أنا -أحياناً- أفكر وأقول: سأدعو إلى الله، وسأوزع أشرطة وكتباً، وأشترك في المركز، وسأفعل، يقول: ثم قليلاً قليلاً أحس أنه ينزل على رأسي جبل من الخوف وأحس أنني مراقب، وأن الناس يطالعونني، وأن حولي أناساً يراقبونني ويتابعونني! يا زعيم المافيا، هم لا يراقبونك، ماذا عندك يا أخي لكي يراقبوك أصلحك الله؟! تراقب لأنك تصلي مع الجماعات! تراقب لأنك تسابق المؤذن إلى المسجد! تراقب لأنك تشتري شريطاً مفسوحاً من وزارة الإعلام! تراقب لأنك تلخص كتاباً يباع في المكتبات وفي الشوارع! تراقب لماذا؟ ما هذه الأوهام الجنونية؟! أقول: ربما أنك تتردد لهذه الأسباب، أو تتردد أسفاً على شهوة، أو لا تريد أن تفارق شهوة، أقول: ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، اترك ما تشتهي لما يرضي الله عز وجل، ولن تكون أبلغ من مصعب بن عمير الذي كان فتى مدللاً غنياً ثرياً وسيماً ناعماً معطراً، فترك كل ذلك لوجه الله، فأكرمه الله بالشهادة في سبيله، وهو مع الأبرار والأخيار في جنات النعيم.(157/18)
الالتزام الأجوف والعزلة
السؤال
أنا شخص أريد أن أكون عادياً ولا أحب الارتباط لأني كثير الأشغال، وأحب الجلوس في البيت كثيراً، فما نصيحتكم؟
الجواب
انظر يا أخي الحبيب! ليس هناك مرحلة بين الاستقامة والانحراف {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] ليس هناك توقف، إما أن تتقدم إلى الاستقامة أو تتأخر إلى الغواية والضلالة، حتى الاستقامة ممكن أن يقع أثناءها شيء من الزلل أو الخطأ أو الذنب، فتتبعه بتوبة واستغفار وإنابة ورجوع، مشكلة بعض الشباب يقول: أنا لا يمكن أن أستقيم؛ لأنني لو استقمت إما أن أصير ملكاً من الملائكة معصوماً ولا أخطئ، وإلا لا يمكن، أنا لا أقول لك: استقم وليس هناك مانع أن تعصي وأن تلعب وتلف وتدور، لا، أقول: استقم، وخذ العهد والعزم على ألا تضل، وألا تنحرف، وألا تتساهل مع النفس، وألا تنساق وراء الشهوات والأهواء، لكن إن وقع منك زلة أو خطيئة، فيا سبحان الله! قد زل من هو خير منك فعاد وأناب إلى الله {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25].
فيا أخي الحبيب! تب إلى الله وعد، وأما أن تقول كما يقول بعضهم: أنا والله أريد أن أكون وسطاً، إذا كنت أنت وسطاً، فماذا يكون أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم؟ أهم غلاة؟ أهم متطرفون؟ ما هذه الوسطية التي ندعيها؟ ويقول: أنا لا أريد أن أكون مروج مخدرات وسفاح دماء، لكن لا أريد أن أكون شاباً ملتزماً، أنا أريد أكون وسطاً؟ لا تخادع نفسك بكلمة الوسط هذه، الوسط هو العدل والخيار وهو الذي يرضي الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] الله جعلنا وسطاً، فالوسط هو الخير والعدل والتمام والصلاح، فلا تخادع نفسك، فعليك بالاستقامة.
وقضية الاستقامة بعيداًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً عن الالتزام بالصحبة الصالحة هذه مسألة ترجع إلى شخصيتك أنت، بعض الشباب مشغول بالقراءة، مشغول بالبحث العلمي، مشغول برسالته العلمية، مشغول بالتعليم، مشغول بالدروس العلمية، مشغول ليلاً ونهاراً، فنقول: ليس من العقل أن تترك هذا الخير العظيم، بل نحن نخالط الشباب، ونعد الشباب، ونستفيد من الشباب من أجل أن نبلغ هذه الدرجة، درجة التأليف والتصنيف ونفع الناس والدعوة إلى الله عز وجل، فإذا استطعت أن تبلغ هذا الخير بمفردك دون الاختلاط بأحد مع أمان على النفس، فلا أحد يمنعك أن تفعل هذا، لكن قد أخبرنا الواقع وحدثتنا التجارب أن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية كما في الأثر، لا تكن طرفاً فإن الذئب إنما يأكل من الغنم القاصية.
وأتذكر يوم أن كنا صغاراً في مكتبة في السويدي، كان معنا أحد الشباب وكان مولعاً بالقراءة، قال: أنا ليس لي حاجة للاختلاط بكم.
والله -يا إخوان- ما هي إلا أيام ثم بدأ يقرأ كتباً منحرفة، ثم بدأنا نفقده في الصلاة، ثم بدأ لا يصلي مع الجماعة، ثم ركب على بيته بعد فترة دشاً، وفي بداية الدشوش، مع بدايتها كان من أوائل الذين ركبوا، وفرض على أهله، وشكا أهله منه انحرافات عجيبة وغريبة، سبحان الله العلي العظيم! كيف حصل هذا الأمر؟ نتيجة لأنه قال: أنا سوف أستقل بنفسي، أما من يثق بنفسه فلا حرج.(157/19)
أهمية الالتحاق بحلقات القرآن الكريم
السؤال
هل الالتحاق بحلقات القرآن الكريم يؤثر في التزامي لأني أحس بثقل في التسجيل فيها؟
الجواب
أخي الحبيب! نحن نريد أن نلتزم لكي نسجل في حلقات القرآن، فإذا استطعت أن تسجل في حلقات القرآن فأنت قد قطعت شوطاً كبيراً في الاستقامة والالتزام، وبالمناسبة لا نريد أن تكون المراكز الصيفية مشغلة وملهية للشباب عن الدروس العلمية وحفظ القرآن الكريم، بل لابد أن يكون من ضمن البرامج في المراكز الصيفية حلقة تحفيظ قرآن موجودة لمدة ساعة أو ساعتين، جميع الأسر تتحول إلى خلايا نحل لها أزيز بالقرآن، حتى يحفظ كل ما يسر الله له يومياً، حتى لا تكون المراكز قد أشغلت وصرفت بعيداً عن تحفيظ القرآن، وما فائدة الاستقامة إذا لم تقربنا إلى كتاب الله عز وجل؟ فإذا كنت ستسجل في حلقة تحفيظ القرآن، فهذه الحلقة وتسجيلك فيها وانضباطك في الحفظ واستمرارك فيه دليل على أنك قطعت في الالتزام شوطاً طيباً جزاك الله خيراً.(157/20)
كيف نكون مصلحين؟
السؤال
نحن صالحون، ولكن كيف نكون مصلحين؟
الجواب
نسأل الله أن نكون صالحين، وأما الإصلاح فأن تنقل ما حققته من الخير والهداية والاستقامة التي تراها في نفسك وسلوكك إلى الآخرين، بالكلمة الطيبة، بالخلق الحسن، بالمعاملة الجيدة، بهدية الشريط والكتاب، بأخذ هذا الشخص الذي تريد دعوته، تتألف قلبه إلى المركز وإلى المحاضرة، تزوره بأخ في الله، تهديه هدية، كل هذه من الأسباب التي تفتح المغاليق، وأحيل إلى شريط عنوانه: "الدعوة الفردية" نافع جداً في هذا الباب.(157/21)
المحافظة على الاستقامة بعد سماع المواعظ
السؤال
كيف أحافظ على حالة الاستقامة التي أشعر بها بعد سماع المواعظ؟
الجواب
تحافظ عليها إذا أكرمت نفسك ونزهتها عن أن تسقط بها في حضيض مجالس اللهو والغفلة، وكنت دائماً في وسط نافع يذكرك بالله إذا نسيت، ويعينك على طاعة الله إذا تذكرت، فهذا يحقق لك بإذن الله، ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لكني أنصح بنصيحة هي من ضمن الأعمال الصالحة التي يزداد بها الإيمان، لكنها -بإذن الله- فيها خير، وهي كثرة الاستغفار وذكر الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة أو تمحى عنه ألف سيئة؟ قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة، فتكتب له مائة حسنة، أو تمحى عنه ألف سيئة).
وقال صلى الله عليه سلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة؛ كان كمن أعتق عشر رقاب، وكانت حرزاً له من الشيطان سائر يومه ذلك).
دائماً عود نفسك على الذكر والاستغفار مع الشهيق والزفير: لا إله إلا الله لا إله إلا الله أستغفر الله أستغفر الله حتى لو اقتضى الأمر أن تأخذ سبحة وتسبح بها، فهذا ليس ببدعة كما يظن بعض الناس، فقد سمعت سماحة الشيخ العلامة الإمام محمد بن صالح بن عثيمين سئل في (نور على الدرب) عن رجل يقول: أنا أستخدم سبحة فيها عدد خمسمائة حبة -انظر هذه سبحة طويلة! - من أجل ضبط التسبيح، يريد أن تكون مثلاً كل مائة تسبيحة مائة تهليلة، يريد أن يضبط العدد؛ فقال الشيخ: إذا كان الإنسان يستخدم السبحة لضبط العدد ليس لقصد الاعتقاد أن السبحة فيها مزية وفضيلة فهذا لا بأس به، لكن يراعى في ذلك أن الإنسان ربما يفتح عليه باب أنه يسبح أمام الناس بسبحة فيدخله الرياء، ولو عود نفسه دائماً أن يسبح في نفسه لكان أفضل، والتسبيح بالأنامل أفضل، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من الصحابيات إحدى أمهات المؤمنين معها مكتل أو زنبيل فيه حصى، فقال: ما تفعلين به؟ قالت: أعد به التسبيح يا رسول الله! فما أنكر عليها ذلك، ولكنه أرشدها إلى التسبيح بالأنامل فقال: (إنهن مستنطقات) أي: تشهد لك بتسبيحك.
فكون الواحد يجعل له سبحة -مائة حبة- يسبح بها، لا بأس به، حتى أن بعض الشباب إذا جاء لينام تأتيه الهواجس وتلعب به وقام يفكر، حتى بعضهم هواجسه تقوده إلى العادة السرية والأمور الخبيثة، لكن توقع لو أنه مد له مائة سبحة وجلس يستغفر الله، فيغلبه النوم وهو يسبح، ما يسبح مائتين أو ثلاثمائة إلا وهو داخل في نومة طويلة عريضة؛ فاجعل التسبيح دائماً قضيتك، إذا كنت لا تسمع شيئاً نافعاً أو لا تتحدث في شيء نافع فسبح بأناملك، واضبط العدد، سبح مائة حبة أو مائتين أو ثلاثمائة، خذ السبحة وسبح ليل نهار، فهذا مما يحافظ على الإيمان ويضيء وجهك بإذن الله عز وجل.
في الختام نسأل الله العظيم أن يرفع قدر الشيخ، وأن يعلي منزلته، وأن يجعل ما سمعنا حجة لنا في موازين أعمالنا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(157/22)
خطبة عيد الفطر
إن الله سبحانه وتعالى أنعم علينا بنعم عظيمة، من هذه النعم ما تعيشه الأمة من أفراح وأعياد، ومن هذه الأعياد هذا العيد الذي توج الله به شهر الصيام والقيام وأجزل لنا فيه البر والإكرام، أحل لنا فطره وحرم علينا صومه، وأوجب علينا فيه شكره، ولقد تحدث الشيخ عن العيد وفضله ثم أتبع بعده توجيهات وقضايا يحتاج المسلم إلى أن يذكر بها خاصة في مثل هذه المواسم.(158/1)
فضل يوم العيد
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلا، الله أكبر كل ما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما لاح برق وأنور، الله أكبر كلما أرعد سحاب وأمطر.
الحمد لله، الحمد لله الذي سهل لنا الصيام والقيام ويسر، نحمده على نعمه التي لا تحصى ولا تحصر، ونشكره على فضله وإحسانه وحق له واحد أحد صمد أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربنا تفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده بأجل مقدر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صام وقام وصلى وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر، وعلى أصحابه الذين سبقوا إلى الخيرات فنعم الصحب والمعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعرفوا نعمته عليكم بهذا العيد السعيد فإنه اليوم الذي توج الله به شهر الصيام، وافتتح به أشهر الحج إلى بيته الحرام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام، عيد تمتلئ القلوب فيه فرحة وسروراً، وتزدان الأرض به بهجة وحبوراً، يومكم هذا -معاشر المسلمين- يوم عظيم وعيد كريم، أحل الله لكم فطره، وحرم عليكم صيامه، يوم كله بر وإحسان، وفيه يحمد المسلمون ربهم على نعمة الإسلام، ويكبرونه جل وعلا على ما أولاهم من الفضل والإنعام، وهو يوم الجوائز، يوم يرجع فيه أقوام من المصلى خرجوا من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم، نسأل الله أن يجعل الجميع منهم.
في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض في كل بلد فيقومون على أفواه السكك ينادون بصوت يسمعه جميع خلق الله إلا الجن والإنس، يقولون: يا أمة محمد! اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي! ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا أن توفيه أجره.
فيقول: أشهدكم أني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم، رضاي ومغفرتي، انصرفوا مغفوراً لكم) فيا فوز العاملين! ويا فرحة الصائمين القائمين بهذا اليوم العظيم! ويا خيبة المفرطين المحرومين! الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.(158/2)
المحافظة على التوحيد الخالص
عباد الله: عظوا بالنواجذ على شهادة التوحيد وكلمة الإخلاص، لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، واعملوا بمقتضاها في توحيده جل وعلا، في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فهو الذي خلق من العدم، وهو الذي ذرأ وبرأ، وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهو المتفرد في أسمائه وصفاته، فله سبحانه صفات الكمال والجلال كما يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
معاشر المسلمين: احذروا الشرك فإنه محبط للأعمال، والجنة حرام على المشركين: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].(158/3)
أهمية المحافظة على الصلاة
معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم التي قالها وهو يجود بنفسه يعالج سكرات الموت، يقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) ذلك أن الصلاة عمود الدين، وثاني أركانه، وآخر ما يبقى منه، وناهية عن الفحشاء والمنكر، ولا دين ولا إسلام لمن تركها، أقيموها مع الجماعة في بيوت الله في أوقاتها المكتوبة، وحذار حذار من تركها والتهاون بها فهي الفيصل بين الرجل والكفر، إن من هانت عليه نفسه ورضي أن تلقى في سقر وفي قعر جهنم هو الذي ضيع الصلاة وتهاون بها وجحدها: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] ويقول الله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:38 - 43].(158/4)
إخراج الزكاة
عباد الله: أدوا زكاة أموالكم لمن ذكرهم الله في محكم كتابه، ولا تبخلوا على أنفسكم بفضل الله الذي آتاكم: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران:180].(158/5)
التحذير من التهاون بالحج
معاشر المسلمين: حجوا فرضكم الذي كتب الله عليكم بقوله جل وعلا: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وإياكم والتهاون بأمر فرض الحج، وإياكم والتسويف فيه، تذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو منع من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً).(158/6)
التحذير من عقوق الوالدين
عباد الله: تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] اجتهدوا في الأعمال الصالحة واحرصوا على مداومتها، وإياكم وعقوق الوالدين فإنه من كبائر الذنوب، يقول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] ويقول صلى الله عليه وسلم: (أربعة نفر حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن خمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم ظلماً، والعاق لوالديه؛ إلا أن يتوبوا).(158/7)
التحذير من الوقوع في فاحشة الزنا
عباد الله: اجتنبوا الظلم واتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، غضوا أبصاركم عما حرم الله عليكم؛ فإن النظر سهم مسموم من سهام إبليس: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
اتقوا الله وتوبوا إليه، وتجنبوا سخطه، وافعلوا الخير وما يرضيه، وأعدوا العدة والزاد لسلعة الله الغالية ألا وهي الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اجتماع لا افتراق بعده، ونعيم لا زوال له، وحياة لا فناء بعدها، وصحة لا سقم فيها، وسعادة لا شقاء يكدرها، ونِعَمٌ لا شيء يكدرها، الحذر الحذر من جماع الإثم وأم الخبائث، الحذر من الخمر وما جرى مجراها فهي مذهبة العقل والغيرة، ومفتاح الديوثية والعار، وملحقة الخزي والعقوبة في الدنيا والآخرة.(158/8)
التحذير من التعامل بالربا
عباد الله: اتقوا الله في أنفسكم وتجنبوا الربا فإن أمره عظيم، وخطره على الأمة جسيم، ويكفيكم زاجراً في تجنبه ودليلاً على حرمته والبعد عنه قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] وقوله صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا يصيبه الرجل أشد من ستٍ وثلاثين زنية) وقوله صلى الله عليه وسلم: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه).(158/9)
التحذير من المثقفين الضالين
واحذروا -يا عباد الله- من الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين أو يحسبون على العلم والعلماء، احذروا الضالين المضلين الذين يروجون الشبهات الباطلة والأدلة الزائفة يريدون فيها إباحة شيء من الربا أو نوع من أنواع الفائدة.
عباد الله: قوموا بحق الجوار، وصلوا أرحامكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، واجتنبوا قول الزور وشهادة الزور، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما شاهد الزور يقوم القيامة حتى تجب له النار).(158/10)
الحث على تربية الأولاد وحفظ الزوجات
عباد الله: اجتهدوا في تربية أولادكم على طاعة الله وما يرضيه، واستروا عوراتكم، واستروا بناتكم وزوجاتكم، حضوهن على الستر والحجاب، وبينوا لهن مغبة التبرج والسفور، وقوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة.(158/11)
الاجتهاد في الأعمال الصالحة
أفشوا السلام بينكم، تسامحوا، أزيلوا الضغائن عن قلوبكم، وكونوا عباد الله إخواناً، اجتهدوا في الأعمال الصالحة، وداوموا عليها، ولا تقطعوا ما عودتم أنفسكم عليه من الصيام والقيام، اجتهدوا في صيام ست من شوال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله) لا تحرموا أنفسكم الأجر، فصيام أيام البيض أو عشر ذي الحجة وعاشوراء وعرفة وغير ذلك من الأمور المشروعة، أدوا الرواتب بعد المفروضات، ولا تنسوا حظكم ونصيبكم من قيام الليل فإن لم يكن فلا يغلبنكم الشيطان، على صلاة الوتر فاحفظوها وداوموا عليها.(158/12)
تذكروا نعم الله عليكم
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله، الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ند له ولا مضاد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فضله الله على جميع الخلق والعباد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله تعالى، واشكروا ربكم على التمام والبلوغ في القيام والصيام، واسألوا ربكم القبول، وتعوذوا بالله من الخيبة والحرمان.
معاشر المؤمنين: تذكروا وأنتم في هذا العيد السعيد ما أنتم فيه من النعم والخيرات، وما تعيشه كثير من الأمم في هذا الزمان من المصائب والنقم، الناس جياع وأنتم تطعمون، الناس خائفون وأنتم آمنون، غيركم مشردون وأنتم مطمئنون، هم أذلاء وأنتم أعزاء مكرمون، غيركم يحكم بالقوانين الجائرة والأنظمة البشرية الظالمة وأنتم يحكم فيكم كتاب الله وسنة نبيه، فاشكروا ما فضلكم به ربكم على كثيرٍ من الأمم، السارق في بلادكم تقطع يده، والقاتل يقطع عنقه، والزاني المحصن يرجم، وغيرهم يجلد ويغيب ويبعد عن بلاده، فاحمدوا الله على نعمة تطبيق الشريعة.
إن كثيراً من الأمم والدول والبلدان لفي حرج ومضض وبلاء ونقم بسبب تطبيقهم لشرع البشر الناقص الضال، وللقوانين الوضعية الجائرة، فاحمدوا الله يا عباد الله، غيركم تتنازعهم الأحزاب والجماعات المتعارضة، وتنهب خيرهم الأمم المتناحرة، وأنتم مجتمعون تحت راية واحدة، وفي ظل أمة واحدة، احمدوا الله على هذه النعم، إنها نعم عظيمة لا يعرف قدرها ولا يقدر شكرها إلا من رأى واقع الناس حولكم من الأمم.
معاشر المؤمنين: لا تظنوا أن هذه النعم في بلادكم لمزية لكم على الله دون غيركم، فإن الله ليس بينه وبين الخلق والعبيد نسب، ليس بين الخلق والخالق إلا التقوى، فهي أعظم وشيجة وأشد قرابة.(158/13)
الحث على التوبة والإقبال على الله
عباد الله: ألم يأن لنا أن نتوب إلى الله توبة نصوحاً، وأن نترك أعمالاً هي سبب وسبيل إلى العقوبة وزوال النعم؟ ألم يأن للذين لا يصلون مع جماعات المسلمين أن يهجروا الغفلة إلى اليقظة ويعودوا إلى المساجد ويعمروها بالطاعة وأداء الواجب؟ ألم يأن للذين أكلوا الربا من البنوك جهاراً نهاراً أن يتوبوا إلى الله قبل حلول اللعنة وحرب الله عليهم؟ ألم يأن للذين يأكلون الحرام ويتاجرون بالحرام ويتكسبون من الحرام ببيع أشرطة الخلاعة والمجون من أشرطة الفيديو والغناء الماجن، ألم يأن لهم أن ينتهوا عن هذا المكسب الخبيث؟ ألم يأن للذين قطعوا أرحامهم وهجروا أحبابهم وأقاربهم وعقوا والديهم أن يعودوا إلى الصلة والصحبة والبر والإحسان قبل حلول الآجال وفوات الآمال؟ عباد الله: كيف يرجو الفلاح والسعادة والتوفيق من هجر الصلاة وفارق الجماعة وأكل الربا وتكسب بالحرام وآلات اللهو والطرب؟ كيف ترجو الفلاح والسعادة امرأة عقت زوجها وهجرت فراشه وضيعت فريضة ربها وفتنت بزينتها وتبرجها غيرها؟ أما تتقي الله في نفسها؟ أما تخاف إثم الذين تفتنهم أو تكون سبباً في وقوعهم في الحرام؟ معاشر المؤمنين: لا تكونوا سبب البلاء والفتن على الأمة، فإن شر الناس من عاد بمصيبته على غيره، وعمت البلوى بعقوبته من حوله.
عباد الله: الله الله لا يؤتين الدين من دار أحدكم بتفريط أو إهمال أو خيانة، واحرصوا على مصالح الأمة وخيرات البلاد، فإن لكم أعداء بكم متربصون، وبما يسوؤكم يفرحون، ولكنهم بكيدهم في نحورهم ينقلبون.(158/14)
الأمل المنشود في شباب الأمة
يا شباب هذه الأمة: إن المرجو فيكم أعظم مما أنتم عليه، وإن الأمل فيكم أكبر مما أنتم فيه فارفعوا هممكم، وتسلحوا بما يحفظكم ويرفع قدركم بين الأمم، والحذر الحذر من العطالة والبطالة والفراغ، الحذر الحذر من أن يكون بينكم عاطل لا فائدة للأمة منه، أو يكون بينكم ضعيف متكاسل يجره الطمع والجشع إلى المولاة والتدبير فيما يضر المجتمع والأمة، أو إلى التكسب بأسباب الحرام والمخدرات وغيرها.
أنتم معاشر المسلمين كل منكم على ثغرة، كل منكم على ثغرة في عمله وفي ميدانه، وفي دراسته وأسرته، أصلحوا شئونكم داخل المجتمع بالأمانة والقوة في تدبير مهماتكم ومسئولياتكم، يهابكم الأعداء ويقتدي بكم الأصدقاء، تناصحوا وتواصوا بالحق والصبر، وابذلوا الإخلاص والنصيحة لولاة أموركم، وائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فيما بينكم.
عباد الله: تذكروا أن هذه الدنيا ممر وليست مقراً، الزراعة فيها اليوم والحصاد غداً.(158/15)
طاعة الزوج
يا نساء المسلمين: اتقين الله في أنفسكن، اتقين الله في طاعة أزواجكن، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فاتقي الله يا أمة الله، يا من تسمعين هذه الخطبة، اتقي الله في نفسك(158/16)
خنجر في قلب العلمانيين
إن العلمانيين هم منافقو هذا العصر؛ ولذلك لابد من فضح مخططاتهم، وبيان عداوتهم لدين الله ولرسوله والمؤمنين.
ماذا يريد منا العلمانيون؟ ما هو الخطر الذي يهددهم؟ لماذا يعادون الدعوة إلى الله؟ كيف نقف ضد هؤلاء المنافقين؟ كل هذا ستجده في هذه الخطبة.(159/1)
ماذا يريد العلمانيون
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، اتقوا الله تعالى حق التقوى فلا يراكم ربكم حيث نهاكم، ولا يفقدكم حيث أمركم، اتقوا الله تعالى حق التقوى فارضوا بالقليل، واعملوا بالتنزيل، واستعدوا ليوم الرحيل، اتقوا الله تعالى حق التقوى، راقبوا الله في السر والعلن {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين إن أعداء الإسلام، إن المنافقين في مجتمعات المسلمين، إن العلمانيين الذين ينخرون في جسم السفينة، إن جرذان المجتمعات الغيورة التي لا تعمل إلا في الخبايا والزوايا وتحت الأنقاض وخلف الكواليس، أولئك يشرقون بريقهم يوم أن يروا عباد الله زرافات ووحدانا يسعدون بالالتزام والانقياد والاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم لا يريدون من الناس أن يشهدوا الجماعة في المساجد؛ لأن العلمانيين والمنافقين لا يشهدونها، إن أولئك لا يريدون من الناس أن يشغلوا سماعهم بالقرآن، وبالأحاديث النبوية، وبالخطب والمحاضرات، وبالفكر النير، والمبادئ الواضحة المستقيمة؛ لأنهم لا يسمعون إلا ساقط القول ورديء الكلام، إن العلمانيين لا يريدون الناس أن يتجافوا عن الذنوب والمعاصي لأنهم لا يتورعون في ولوغها والوقوع فيها، والتقلب في أوحالها ودنسها، وبالجملة فأولئك أعداء الأمة لا يريدون لأفراد الأمة صلاحاً، ولا يريدون لأفراد المجتمع فلاحاً، وإنما غاية سعادتهم ومنتهى آمالهم أن يفسق المجتمع كما فسقوا وأن يضل كما ضلوا، وأن ينحرف كما انحرفوا، فهل تكونون أُحبولة لهم يا معاشر السامعين؟! هل تكونون أُحبولة لأولئك الذين يرغبون أن تكونوا من الضالين كما ضلوا، ومن الفاسقين كما انحرفوا، ومن المجرمين كما سقطوا، والعياذ بالله؟! أيها الأحبة معلوم أن المجرم لا يرضى وحده أن يكون في سجن الجريمة، أو يتلقى العقوبة على انفراد، بل يتمنى أن يسقط مع الآخرين في الجريمة، وأن يلق العقوبة مع الجماعة في الجريمة، وأن يحصل لكل واحد ما حصل له، وهذا واضح جلي نقي.
ولكن -يا عباد الله- إن العلمانيين الذين يصدق فيهم قول الله جل وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33] إن العلمانيين الذين يكرهون الحق لا يستطيعون أن يقولوا: انحرفوا أيها الناس، أو إلى الضلالة يا معاشر أفراد المجتمع، أو إلى الهاوية يا معاشر المسلمين، لا يستطيعون أن يخاطبونكم بصريح ما في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، ولكن ماذا؟ يبحثون ويدرسون حياتكم ويتأملون سلوككم، ويقدمون التقارير والدراسات ليسألوا: كيف اهتدى شباب المجتمع؟ وكيف استقام رجال الأمة؟ وكيف ترك الناس الضلالة إلى الهداية، والظلام إلى النور، والغواية إلى الهدى؟ كيف استقام الناس على أمر الله؟ فيبحثون ويتأملون فيجدون جملة من الوسائل، منها: منابر الجمعة التي بمن الله وفضله هي في كل أسبوع طعنة في صدور العلمانيين وفي قلوبهم.(159/2)
العلمانيون وعجزهم أمام الخطب والمحاضرات
إن العلمانيين وإن نشروا في المجلات أو الصحافة -سواءً كانت الأجنبية أو غيرها- وإن تكلموا في بعض الوسائل التي يتاح لهم الكلام فيها لا يستطيعون أن يقفوا أمام المؤتمر الأسبوعي ألا وهو خطبة الجمعة الذي آلاف الجوامع في المملكة يشهده ملايين المصلين هل يستطيع العلمانيون أن يقولوا: كفوا عن صلاة الجمعة؟! لا يستطيعون أبدا، ولذلك فإنهم يأتون ويقولون: لو أن خطبة الجمعة ارتقي بها عن السفاسف وعن صغائر الأمور، وكان الاهتمام بالأمور الكبيرة والأمور العظيمة حتى لا يتكلم الخطباء ورجال المنابر في باطلهم وكشف زيفهم وخداعهم، وإنا -والله- لنقول لهم: إنما هذه العصا من تلك العصية، وإن عادت الحية فلها مرة أخرى.
والله ثم والله ثم والله ما رأينا لعلماني صوتاً إلا لنفندن باطلة، ولنكشفن زيفه، ولنظهرن خداعه، نسأل الله أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم.
إن العلمانيين أمامهم مصيبة عظيمة اسمها خطبة الجمعة، هي التي أيقظت الناس من سبات الغفلة ونومهم العميق ومن جانب الضلالة إلى الهداية، قالوا: من لنا بهذه المنابر ومن يسكتها، ومن يخرس ألسنة رجالها، ومن الذي يمنعها؟ حاشا وكلا، بل يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
إذاً: فاعلموا -يا معاشر المؤمنين- أن الله جل وعلا ما شرع هذه الجمعة، وشرع الاجتماع لها، وشرع السعي لها، وأوجب حضورها، وأوجب الاستماع والإنصات لخطيبها، إلا لحكمة يراها ويعلمها؛ لأنه قد يمر على المسلمين زمان قد لا تظهر فيه كلمة الحق إلا على المنابر، قد يفقد الناس كلمة الحق في وسائل الإعلام لكنهم لا يفقدونها على المنابر بفضل الله جل وعلا، ومن هنا نتأمل وندرك سراً جليلاً، وحكمة بالغة من أسرار هذه الجمعة كيف شرعها الله جل وعلا في هذا الوقت، وأوجب الناس بالسعي إليها، وحرم على الناس البيع والشراء يوم أن يسمع الناس النداء الثاني لها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] والذكر هو الخطبة، واتركوا البيع والشراء والمعاملة والمعاطات والانشغال بكل أمرٍ يشغل الناس عن خطبة الجمعة؛ لأنها لا بد أن تحتوي على ما يوقظ النائمين، وينبه الغافلين، ويهدي بمن الله الضالين؛ لأنها خنجر في قلوب أعداء الله جل وعلا.
إن العلمانيين والمنافقين يوم أن يريدوا أن يجمعوا لمؤتمر عدداً كبيراً، لا يستطيعون أن يصرحوا صراحة بأهدافهم، أو لا بد أن يلبسوا ذلك ويغلفوه بأهداف فنية أو أدبية أو أشياء أخرى ولا يجتمع لهم إلا عدد قليل، لكن الله جل وعلا قد تكفل بالمؤمنين أن يجتمعوا في ساعات معينة فيقف الخطباء وعليهم مسئولية أمام الله أن يتقوا الله في أوقاتكم، وفي هذه الساعة أو أقل من الساعة التي تجلسونها منصتين مطرقين لكلامهم هل تسمعونهم برنامجاً عملياً؟ هل تسمعونهم موعظة وذكراً؟ هل تسمعونهم فكراً وعملاً نافعاً جيداً نيراً؟ من هنا كانت الجمعة لأسرارٍ عظيمة هذا واحد من أيسر أسرارها وأحكامها التي شرعت لها.(159/3)
القافلة تسير والكلاب تنبح
إذاً -يا معاشر المؤمنين- اطمئنوا، والسكينة السكينة، ورويدكم رويدكم، القافلة تسير قافلة المؤمنين، القافلة تمضي قافلة الدعاة، القافلة ماضية قافلة الصالحين المصلحين، والكلاب تنبح
إذا الكلب لم يؤذيك إلا بنبحه فدعه إلى يوم القيامة ينبحُ
مهما عملوا أو قلبوا أو زينوا أو زخرفوا أو بهرجوا على الناس فإن الجمعة أقرب موعد لكشف باطلهم.
اطمئنوا -يا معاشر المؤمنين- يوم أن ترى حدثاً فيه إرباكاً أو استفزازاً أو رغبة أن يستثار الصالحون، أو يُستفز الغيورون، أو أن يراد بالمؤمنين فتنة وضلالة، فانتظروا يوم الجمعة حتى تسمعوا كلمة بإذن الله جل وعلا حجة لكم وحجة بإذن الله لإخوانكم وبرنامجاً ينير طريقكم، وشراً تعرفون أسراره وحقيقته يكشف لكم بإذن الله جل وعلا، لا يستطيع العلمانيون أن يقفوا أمام هذه المنابر، ولا يستطيع العلمانيون أن يقولوا: أغلقوا هذه المساجد يوم الجمعة، والله ثم والله ثم والله لو ظنوا أن بذل المليارات تمنع الناس من المساجد يوم الجمعة لبذلوها ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ولكن من أين لهم أن يمنعوا فريضة فرضت من فوق سبع سماوات، فهذه منة عظيمة.(159/4)
الدين محفوظ من قبل الله
يا معاشر المسلمين إن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ولكن أنتم أنتم هل تمضون على الهداية؟ هل تستمرون على الصراط المستقيم؟ هل تصبرون على ما يلقاكم وعلى ما تلاقونه؟ هل تمضون جادين حتى تلقوا الله جل وعلا؟ لا بد أن ندرك هذا جيداً، إن دين الله لا خوف عليه وإنما الخوف على أنفسنا وحدنا أن نظل عن هذا الدين، أو نتهاون به، أو نضعف عن أمره، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
يا معاشر المؤمنين دين الله محفوظ، دين الله في أمن، ولكن الخطر والخوف على أنفسنا وعلى قلوبنا أن تفتن ببهرج الشهوات، أو بزيف الشبهات، فأعدوا لذلك عدة بالعبادة والإخلاص والانقياد والإخبات والخضوع بين يدي الله، وسماع الفكر النير، والموعظة الحسنة، ومجاهدة النفوس عن المعاصي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك أعظم صمام لأمانكم، وأعظم عمدة تحفظون بها أنفسكم بفضل الله ومنه وتوفيقه.
معاشر المؤمنين إننا ندرك أن المنافقين والعلمانيين الذين يكرهون الخير في المجتمع، الذين رأوا آلاف الشباب بعد أن كانوا منذ سنين في غفلة، أو في نوع من المعاصي، أو في نوع من التقصير منَّ الله عليهم بالهداية، فلما اهتدى مئات الآلاف من الشباب في أنحاء المملكة قالوا: هؤلاء ما عادوا عبئاً على جهاز الأمن؛ لأن المستقيم راحة لنفسه، ولجهاز أمنه، ولشرطته، ولمحكمته، وللناس أجمعين، يسلم الناس حتى من لسانه ويده، فكيف تريد أن يشقى المجتمع به في جهاز أمنه، قال العلمانيون: هؤلاء مئات الآلاف من الشباب الذين استقاموا، والذين ساروا على الصراط المستقيم، أولئك ما عادوا عبئاً على جهاز الأمن بل عادوا عوناً على أجهزة الأمن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكف المخدرات، وملاحقة مروجيها ورجالها، وكشف أماكن المنكر وأوكار الفساد والدعارة بفضل الله جل وعلا، قال العلمانيون: إذاً مصيبة أن نبقى وحدنا في الساحة، الشباب عادوا إلى الله جل وعلا، حتى من عليهم بعض الملاحظات لا تتجاوز الملاحظات والتقصير الذي يقعون فيه لا يصل إلى حدود تجعلهم في حدود المجرمين في المجتمع، بل إنما هي ملاحظات يسيرة وسهلة، ولا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، لا نتساهل بذنب أياً كان حجمه، ولكن قالوا: هؤلاء جعلوا المجتمع غاية ما فيه إما أن تجد مدخناً، أو حليقاً، أو مسبلاً، ويقول العلمانيون: نحن نريد فساداً في المجتمع أكثر من هذا، نريد ضلالاً في المجتمع أكثر من هذا، نريد الناس أن يطالبوا بقيادة المرأة، نريد الناس أن يطالبوا بما يسمى بتحرير المرأة أو تخريب المرأة، نريد الناس أن يجعلوا المرأة كيف ما شاءت تخرج وتحدث وتكلم وتجالس وتسافر كيفما شاءت، فبمن الله وفضله وتوفيقه ما زاد الناس إلا عودة إلى الله، وقرباً إليه، والتفافاً واجتماعاً حول علمائهم وولاة أمورهم.(159/5)
شدة عداوة العلمانيين للشريط الإسلامي
قال العلمانيون: لا بد أن ننقل المعركة من جبهة عداوة المنابر وعداوة الناس إلى جبهة أخرى اسمها الشريط الإسلامي، فنقلوا المعركة بعد أن استنفذوا قواهم وبذلوا كلما عندهم لصرف الناس عن المنابر والجمع والجماعات، والمحاضرات، وعن أمور الخير، قالوا: لا بد أن نحارب الشريط الإسلامي؛ لأنه واحد من الروافد التي فجرت الصحوة في هذه المملكة، وأقول وبكل منٍّ وتوفيق يوم أن أقول: تفجرت الصحوة في هذه المملكة ما كنا من قبل مشركين فأسلمنا، لا.
وإنما نحن بفضل الله في هذه المملكة حتى في مراحل شهد فيها كثير من الناس ألواناً من التقصير والوقوع في بعض الذنوب ما بلغ الانحراف حد العقيدة، وإنما يوم أن أقول: تفجرت الصحوة في المملكة أعني بذلك الالتزام، حب الدين الحرقة عليه، الرغبة في دعوة الناس إلى الخير، كل يريد أن يقول، كل يريد أن يكون داعية، كل يريد أن يهتدي على يديه عشرات الشباب، كل فتاة تتمنى أن يستقيم على يديها عشرات الفتيات، كل رجل يتمنى أن يسلم على يده عشرات الكفار، أصبح الناس يتمنون أن ينالوا شرف الدعوة، وقد نالوا ذلك بمن الله وفضله.
قال العلمانيون: هذا الشريط هذه المساحة المستطيلة البلاستيكية، هذه هي التي أزعجتنا وأقلقتنا، كيف نحاربها؟ كيف نقضي عليها؟ كيف ننتهي منها؟ كيف نحذر الناس منها؟ فلم يستطيعوا مباشرة أن يسبوا المحاضرات، أو يسبوا الندوات، أو يسبوا المادة المسجلة على تلك الأشرطة صراحة، وإنما بدءوا وكنت أرصد جيداً جملة من المقالات، منها مقال بعنوان: (باتجاه المطر)، تكلم فيه عن تجارة الكاسيت وأشرطة الكاسيت، وأخذ يوحي إلى القارئ أن الأشرطة سبب فتنة، وأن الأشرطة سبب كذا، وأن الأشرطة سبب مصيبة، وأنها خطر على الأمة، ويعني بذلك الأشرطة الإسلامية يكرهون الدين كرهاً، ويكرهون الدعاة كرهاً، ويحقدون عليكم حقداً، كلهم يرقب صيفاً، كلهم يمشي رويداً.(159/6)
من هو المقصود بعداوتكم أيها العلمانيون؟
ماذا يريد العلمانيون؟ يريدون أن تجتمعوا بهم في الجنة؟ يريدون أن تموتوا على الإسلام؟ يريدون أن تكون قبوركم روضة من رياض الجنة؟ يريد العلمانيون أن تموتوا راكعين ساجدين؟ يريد العلمانيون أن تسعدوا بالستر والحياء والعفاف والأمن مع زوجاتكم وبناتكم؟ لا.
{وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] يريدون لكم الميل العظيم يريدون الانحراف الهين يريدون السقوط الواضح لكم ولبناتكم وزوجاتكم وأبناء مجتمعكم، قالوا: مالنا إلا حرب الشريط.
ومقال آخر بعنوان: تجارة الكاسيت، ومقال آخر بعنوان: الكاسيت وما أدراك ما الكاسيت؟ المهم بدأ الضرب على أشرطة الكاسيت، بدأ النقد، بدأ منطلق العداوة تجاه هذه الأشرطة، ما ذنب الشريط؟ أربع (صواميل) ولوحتين بلاستيك، هل يعادى الشريط لهذه القطعة؟ صارحوا تكلموا أيها العلمانيون تعادون من في هذا الشريط؟ القطع الحديدية التي تربط بين جنبات الشريط؟! أم عدوكم ماذا؟ هل هي المحاضرة أم المحاضر؟ هل هي الخطبة أم الخطيب؟ هل هي الدعوة أم الداعية؟ فإن كنتم تريدون أن يكون ميدان المعركة والعداوة هي الخطبة والمحاضرة والدعوة ماذا تعادون في هذا الشريط؟ قول الله جل وعلا؟ إن من كره شيئاً مما أمر الله به كفر، كما صرح بذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نور الله ضريحه يوم أن ذكر نواقض التوحيد وقال: إن منها: من كره شيئاً مما جاء به الله أو أنزله وإن عمل به، والدليل قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].
نقول للعلمانيين: ماذا تعادون في هذا الشريط؟ هل تعادون الآيات القرآنية، هل تعادون كلام الله؟ أم تعادون من قاله وتكلم به؟ تعادون الله، هل تعادون كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أم تعادون النبي صلى الله عليه وسلم؟ من هم أعداؤكم؟ يا معاشر العلمانيين! إني واثق أن هذا الشريط الذي سيسجل في هذه الخطبة سيسمعه بعضهم أو عدد منهم، فأقول لهم: يوم أن تجلسوا على الفراش وكل يغلق الباب على نفسه ليسمع هذا الشريط هل تعادون كلام الله تعالى؟ أم تعادون الإله الذي أنزله؟ هل تعادون كلام رسول الله أم تعادون الرسول الذي تكلم به؟ وكلامه وحي يوحى، وما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.(159/7)
كيفية مواجهة حملة العلمانيين ضد الأشرطة
أيها الأحبة هذه حملة ليست جديدة بل هي قديمة يتكلم عنها أعداء الصحوة وأعداء الأمة، أعداء ولاة الأمر من العلماء والأمراء، هذه حملة يتكلم عنها أعداؤنا، فنقول لهم وبصريح العبارة: تكلموا بصراحة، تقصدون من؟ تعادون من؟ تواجهون من في هذه الحملات المتتابعة؟ ولكن أدعوكم -يا معاشر المؤمنين- أن يكون جوابكم على هذه الحملة تجاه الأشرطة الإسلامية أن نعاهد الله وأن ندعو إلى الله جل وعلا في جانب من جوانب الدعوة ألا وهو الشريط الإسلامي بألا نحضر مناسبة أو وليمة أو عرساً أو أي مناسبة من المناسبات إلا وقد أعددنا جملة من الأشرطة فوزعناها على أقاربنا، وأحبابنا، وأبنائنا، وبناتنا، ولن يكون ذلك من باب رد الفعل وإنما هو لكي نتأكد ونجزم ونؤكد أننا يقظون، لسنا أغبياء بدرجة كافية كما يظن هؤلاء! أريد منكم إن كنتم تعلمون حجم الهجمة وتدركون خطر الحملة المسعورة على الأشرطة الإسلامية أريد منكم ألا تكون عند واحدٍ منكم مناسبة، أو دعوة، أو عقيقة، أو وليمة، إلا وجعلت عدداً من الأشرطة فأهديت كل زائرٍ شريطاً، وأقول: حتى لا يحتج أحد من الأشرطة المسموحة لا الأشرطة الممنوعة، وأعرف أن في الرياض وكل تسجيلات الرياض بفضل الله جل وعلا كلها تتعامل بهذه الأشرطة المسموحة، وما من شريط ممنوع إلا ويمنع مع سؤالنا: لماذا يمنع؟ هذا أمر يقبل النقاش والأخذ والعطاء والمفاوضة، لكن أريد أن نرد على هذه الحملة رداً مستديماً، رداً مستمراً، وهو ألا نجعل في كل مناسبة تفوت سدى، بل ينبغي أن نوزع في نهاية الوليمة أو المناسبة على كل زائر شريطاً وعلى كل زائرة شريطاً.
أحبتي في الله يوم أن يكون عند أحدنا مناسبة، والله إن الواحد قد يبذل ألف ريال أو ثمانمائة ريال من أجل هذه الوليمة، أو من أجل هذه المناسبة، فهل يضرك وقد بذلت ثمانمائة ريال أو تسعمائة ريال هل يضرك أن تزيدها مائة ريال فتشتري خمسين شريطاً، وتعطي كل واحدٍ من الزائرين شريطاً، هل نعجز عن هذا؟ كم نبذل فيما نضعه حول المائدة، من علب المياه الغازية، أو بعض المشروبات التي نشتريها وسعر الواحدة أو الاثنتين منها قد يعادل سعر هذا الشريط الإسلامي النافع، فاجعلوا مناسباتكم دعوة إلى الله، واجعلوا أعراسكم والعقيقة في بيوتكم والوليمة والزيارة، اجعلوا من برنامج الوليمة بأصناف اللحوم والطعام والشراب صنفاً واحداً زيادة صنف الشريط، وليوضع على مائدة الطعام حتى يعرف العلمانيون أننا أصبحنا نتناول الشريط مع الطعام، ونتناول الشريط مع الشراب، هل تعجزون عن هذا يا معاشر المؤمنين؟! هل تعجزون عن هذا؟! لا والله ما تعجزون عنه.
إذاً ما الذي يمنعكم في كل زيارة ومناسبة إذا بذلت المئات زدها مائة واجعل بقيمتها أشرطة وأعطي كل زائرة وزائر شريطا، وما يدريك لعل واحداً من الزوار ممن يصلي في بيته ولا يشهدها مع الجماعة، أو ممن يعق والديه، أو ممن يتساهل ببعض الذنوب والمعاصي أن يسمع شريطاً فيكون سبباً في هدايته بإذن الله جل وعلا، وحينئذٍ: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة) أنت يا صاحب الوليمة! يا من أهديت ذلك الفتى شريطاً! فاستقام بفضل الله على هديتك ما سجد أو ركع أو صلى أو صام أو دعا إلا ولك مثل أجره، ويوم القيامة تفتح سجلات أعمالك، وتفتح سجلات أخرى لك ليست من أعمالك، وإنما هي من أعمال الآخرين توضع في موازين حسناتك، فأي أجر أعظم من هذا؟ والله إنها نعمة عظيمة.
يا معاشر المؤمنين انتبهوا لذلك جيداً، واحرصوا على خدمة دينكم، واعلموا أنه ما دام للحق صوت يرفع وما دامت كلمة الحق تسمع، وما دام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلو فأبشروا بأمن وأمان وطمأنينة، وإذا خبا صوت الحق وضعف وانكسرت راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما عاد لكلمة الحق أذنٌ سامعة فذلك نذير الهلاك والعياذ بالله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(159/8)
العلمانيون وانتقادهم للشريط الإسلامي دون غيره
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله لماذا كره المنافقون والعلمانيون الأشرطة الإسلامية؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها نقلت آلاف الشباب من الضلال إلى الهدى؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها كانت سبباً في صلاح كثيرٍ من الذين تعاطوا المخدرات والمسكرات؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها صارت سبباً في حل كثير من المشاكل الزوجية بين الأزواج والزوجات؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها صارت سبباً في إشغال الناس عن اللهو والطرب وساقط القول ورديء الكلام فأشغلتهم بذكر الله وذكر رسوله وشجعتهم على حفظ كلام الله وكلام رسوله؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها علمتهم الولاء الصادق والنصيحة الجلية لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وحكامهم وعامتهم وعلمائهم؟ هل كره العلمانيون الأشرطة لأنها كانت وقاية قبل السقوط إلى الهاوية؟ هل كره العلمانيون الأشرطة الإسلامية لأنها تقيم الحجة ونحن أمة أمرنا أن ندعو إلى الله وما من بلاد لا نبلغها بأرجلنا نبلغها بأشرطتنا فنرسل لها الأشرطة التي تدعو الناس إلى الله بألسنة أقوامها؟ لأي شيء كره العلمانيون الأشرطة الإسلامية؟! ثم اسألهم أيضاً أولئك الذين كتبوا في بعض المجلات والجرائد والصحف وأخذوا ينددون ببعض الأشرطة وبعض العلماء، هل تكلموا عن الذين ساهموا في تحرير الكويت بأشرطة غنائية؟ هل تكلم أولئك العلمانيون الذين انتقدوا الأشرطة الإسلامية عن الأشرطة الغنائية التي تصرح لها بعض الجرائد والمجلات وتقول: الفنانون كذا يساهمون في تحرير الأرض بحناجرهم الذهبية من استوديوهات القاهرة؟ هل تكلموا عنهم؟ هل تكلم العلمانيون عن أفلام الفيديو وأشرطة الفيديو التي علَّمت الشباب كيف يسافرون إلى البلاد الغربية، وكيف يتفنون في الزنا والدعارة؟ هل تكلم العلمانيون عن أشرطة الغناء والمغنيين؟ هل انتقد العلمانيون مطرباً أو فناناً أو مغنياً؟ من أحق بالانتقاد: داعية إلى الله يقول: قال الله وقال رسوله، وأمر الله وأمر رسوله، أم فاجر بوق من أبواق الشيطان يوجه الناس إلى الرذيلة ويأمرهم بالفحشاء والسوء، من أحق بالانتقاد؟ والله ما رأيت مقالاً واحداً لهؤلاء الذين يكتبون في الجرائد والمجلات من الذين ينتقدون الأشرطة الإسلامية ما رأيت مقالاً واحداً ينتقد فناناً أو مطرباً أو ممثلاً أو سينمائياً، أو ينتقد أحداً من أولئك الذين يدعون إلى الضلالة ويدعون إلى الهاوية وهم دعاة على أبواب جهنم.
إذاً: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56] الحقد البغضاء الكراهية لكم لبناتكم لزوجاتكم لأسركم لمجتمعكم، هذا هو الذي يدعوهم أن ينشروا ويتكلموا في الأشرطة الإسلامية.(159/9)
الرد على العلمانيين في الصحف والمجلات
إني لمستعد أن أكتب الكثير ولكن من يضمن لي أن ينشر ما يكتب، والكثير يكتبون فبعضهم يكتب وبعضهم لا يكتب حينما ينتقد ظاهرة من الظواهر فيما يتعلق بالفن أو ما يكون خطراً على نفوس الشباب، أيسمح بالمقال الذي ينتقد فيه كلام الله وينتقد فيه الشريط الذي فيه كلام الله وكلام رسوله، ولا يسمح بالمقال الذي ينتقد فيه المنكر والباطل والفجور والفحشاء؟ وهل بعد ذلك تقولون: إذاً فلنرد الأقلام إلى جيوبنا وجفت وطويت الصحف ولا نعود إلى الكتابة في الصحف أبداً؟ لا.
اكتبوا إلى المجلات، واكتبوا إلى الجرائد، وما رأيتم من منكر ظهر في هذه المجلة فردوا عليه في نفس بابها وعنوانها، فإذا لم ينشر فصورة مع التحية لسماحة والدنا حتى تقوم الحجة على أولئك الذين يقبلون صوت الباطل ولا يقبلون صوت الحق؟ اكتبوا وردوا إذا رأيتم منكراً في مجلة أو في جريدة، ما الذي يجعل هذه الأقلام تجف عن الحبر وتمتنع أن تسيل بما في جوفها لكي ترد المنكر بالحق: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] اكتبوا إلى هذه المجلات، واكتبوا إلى هذه الجرائد، وحينما تفاجئون بأن مقالاتكم لم تنشر ولم تكتب أرسلوا رسالة؛ لأنها ستحفظ في إرشيف -بإذن الله- عند سماحة والدنا ورسالة إلى ولي الأمر أننا أنكرنا هذا المنكر بهذا المقال وصورة منه مع التحية والاحترام لولي الأمر من العالم والحاكم، واجعلوها في صورة أيضاً عندكم، فإذا جاء يوم من الأيام قيل: هذه مقالاتنا، وهذه كتاباتنا، ولكن ابحثوا وحققوا واسألوا من الذي وقف حائلاً دون نشرها؟ حين ذلك يتولاه ولاة الأمر من العلماء والحكام.(159/10)
أهمية توزيع الشريط الإسلامي
المهم ألا نستجيب لدعوتهم في الأشرطة الإسلامية، بل نريد أن نترجم هذه الهجمة إلى واقع عملي باتجاه معاكس ابتداءً من هذه الجمعة، ومن عنده مناسبة فلا يدخلها إلا وقد جمع ما تيسر من الأشرطة، وليعط زواره وأحبابه وأقاربه وبناته وقريباته، واجعلوها من الآن منطلقاً حتى تلقوا الله تعالى، كما تجعلون القهوة والشاي والطيب والطعام عناصر أساسية في زياراتكم ومناسباتكم، فاجعلوا الشريط الإسلامي أمراً أساسياً في مناسباتكم حتى يرد الباطل بالحق الذي هو أقوى منه، وحتى يعلموا أن الصحوة الإسلامية والمجتمع المسلم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه صحوة شاملة، ولست أوجه هذا الكلام فقط إلى الملتحين، أو من كانت ثيابهم فوق الكعبين، بل أوجه الكلام إلى الحليق، حتى وإن كنت حليقاً هل من العيب أن توزع شريطاً إسلامياً؟ إنك تؤجر ولو كنت حليقاً، إنك تؤجر ولو كنت مسبلاً يوم أن تدعو أحداً، لماذا؟ لأن الميزان يوم القيامة كفتان حسنات وسيئات، فهذه سيئات من سيئاتك، وهذه حسنة من حسناتك، فإذا كنت حليقاً هل يمنعني هذا أن أهدي لزواري وقريباتي وأقربائي لكل واحد شريطاً؟ لا والله.
إذاً فليكن عندنا ميزان دقيق، ولنبادر ولا نظن أو نقول: أنا ملتحٍ أو حليق أو مسبلٌ أو مدخنٌ فلا أستطيع أن أهدي شريطاً، اهدِ شريطاً وقدم وادع إلى الله واعمل حجة لك، وينفعك الله به وقد تكون لست على حظٍ كافٍ من الاستقامة لكن: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه رب مبلغ أوعى من سامع) فيكون في موازين أعمالك، رجل أتقى وأعلم وأخشى لله منك وأنت السبب في هدايته مع تقصيرك أنت، المهم ألا نقول: إن مهمة العناية بالشريط الإسلامي خاصة في مناسباتنا وفي بيوتنا وفي اجتماعاتنا، لا نقول إذا كانت العزيمة عند أحد (المطاوعة) من الأقارب، لا.
كما يقول البعض: أحد أقاربنا مطوع وأعطانا أشرطة، وأنت لماذا لا تعطي أشرطة؟ أليس من أقربائك؟ ألست تحبهم؟ ألست تهديهم؟ ولو كنت حليقاً، ولو كنت مسبلاً، نسأل الله أن يمن عليك أن توفر وتقصر وتتوب ولكن هذا لا يمنعك من أن تشارك وتساهم في نشر الشريط الإسلامي، وحينئذٍ يخسأ العلمانيون حينما يروا أن كل كلمة استفزاز تجعل المجتمع يتفجر طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً، في نشر الخير والدعوة إليه والالتحاق بركب رجاله ودعاته.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم افضح العلمانيين، اللهم افضح العلمانيين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اخزهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم في الدنيا والآخرة، اللهم أرنا فيهم فضيحة لا تستر، اللهم اكشف باطلهم، وزيفهم، وخداعهم، ومكرهم، وسوءهم، وتدبيرهم، وتخطيطهم، واجعل ذلك في نحورهم، واجعل سلاحهم في صدورهم.
اللهم أهلك البعثيين، اللهم أهلك البعثيين، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم أهلك طاغية العراق، اللهم أهلك طاغية العراق، اللهم جمد الدماء في عروقه، اللهم حرك في بدنه ما سكن، وسكن في بدنه ما تحرك، اللهم جازه شر ما جزيت طاغية في طغيانه، ومن دبر وخطط وأعانه في هذه المصيبة والجريمة التي لا ينساها التاريخ أبداً، وما كان ربك نسياً قبل ذلك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اجعل سلاحهم رماداً، اللهم اجعل سلاحهم في صدورهم، وكيدهم في نحورهم، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم أشعل الفتنة والفرقة والخلاف في صفوفهم، اللهم أهلك بعضهم ببعض وسلط بعضهم على بعض، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم حبب إليه الحق والإيمان وزينه في قلبه، وجنبه الكفر والفسوق والعصيان واجعله من الراشدين، وإيانا وإخوانه وأعوانه وجميع المسلمين، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم قرب لنا ولولاة أمورنا من علمت فيه خيراً لنا، وأبعد عنا وعن ولاة أمورنا من علمت فيه شراً لنا ولأمتنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم اجزه منكم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم توفنا على الإسلام شهداء، وأحينا على الإسلام سعداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم توفنا راكعين ساجدين، ولا تقبضنا خزايا ولا مفتونين، اللهم اجعل خير أيامنا يوم نلقاك، واجعل خير أعمالنا خواتمها، ولا تحرمنا من النظر إلى وجهك الكريم.
ربنا لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، اللهم صل وسلم على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(159/11)
دروس مستفادة من الامتحانات المدرسية
في أيام الاختبار يظهر اعتناء الآباء والأمهات بأبنائهم، فتراهم يوقظون أبناءهم قبل موعد الاختبار بوقت طويل، والاعتناء بهم في مأكلهم وراحتهم، وهذا كله دليل على خوف الآباء والأمهات من فشل أبنائهم في الاختبارات، ولو أن هذا الاعتناء كان في أمور الآخرة لكان خيراً لهم من الاهتمام بأمور الدنيا وترك أمور الآخرة!(160/1)
الاهتمام بأمور الدنيا أكثر من أمور الآخرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: غداً أو بعد أيامٍ قليلة يستقبل أبناء هذه الأمة الكريمة ذكوراً وإناثاً على اختلاف مستوياتهم وتخصصاتهم العلمية والتعليمية وغيرها، يستقبلون موسماً يستدعي تحصيلاً مثمراً ليخوضوا غمار الامتحانات، وأمام هذا الموسم ينبغي أن نقف وقفة تأمل ونصيحةٍ لنا ولأبنائنا وبناتنا.
عباد الله: كل واحدٍ منا لا بد أن يكون له علاقةٌ بهذا الأمر المهم، فهو إما معلمٌ، أو متعلمٌ، أو أبٌ، أو أخٌ لهؤلاء الطلاب والطالبات وغير ذلك، والذي نريده لهؤلاء الدارسين والدارسات ومن له علاقةٌ بهم أن يذكرهم بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى، وابتغاء الثواب الجزيل الذي أعده الله لطلبة العلم والعلماء في قوله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فما دام متعلماً ودارساً لا محالة، فليحسن القصد والنية ليفز بالتوفيق والأجر في الدنيا والآخرة، وليس إحسان النية وإخلاص القصد في ابتغاء الأجر والثواب، ليس ذلك مقصوراً على طلبة العلوم الشرعية بل هو مطلوبٌ -أيضاً- من المتعلمين أياً كانت تخصصاتهم الإنسانية والتقنية والعلمية وغيرها، ما دام في تلك الدراسة مصلحةٌ لهم ولأمتهم، فهم بذلك يقومون بتحصيل فروض الكفاية على الأمة مما قد تأثم الأمة بالإجماع والاتفاق على تركه.
أيها الأحبة في الله: إننا نلاحظ ونشاهد هذه الأيام جهد الآباء والأمهات والأولياء في التشجيع والمعونة وتيسير كافة أسباب الهدوء والراحة والدقة في ترتيب مواعيد الاستيقاظ والنوم والعناية الدقيقة بتوصيل الأبناء إلى المدارس في الوقت المحدد، وكل هذا جهدٌ مشكورٌ للآباء والأمهات، ودليلٌ صادقٌ على عمق المحبة والرعاية، وهنا نقف وقفةً لنسأل أسئلة ألا وهي: هل نرى هذه العناية بالأولاد والبنات في أمور العبادة والطاعة؟ وفي أمور الصلاة والسنن المؤكدة؟ تلك العناية التي نستطيع أن نحصل بها الوقاية من عذاب الله وناره بعد حصول رحمته وغفرانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
معاشر المؤمنين: إن الكثير من الآباء والأمهات يجزعون ويخافون على أبنائهم في أمور المستقبل، وهذه الأمور المستقبلية من أرزاق وأموالٍ وحظوظ الدنيا كلها مقسومةٌ مقدرة لن ينال العبد منها أكثر مما قسم له، ولن يستطيع أحدٌ من البشر مهما عز مكانه، أو علا سلطانه أن ينقص منها شيئاً، لكن الأمور التي ننال من وافر حظوظها وجزيل ثوابها بقدر الأعمال الصالحة والاجتهاد فيها، في تلك الأمور نحن في غفلةٍ عنها وعن حظ أبنائنا وبناتنا فيها.
عباد الله: ينبغي أن نلتفت لهذا الأمر، ويا سبحان الله!! كيف يجتهد الخلق في تحصيل ما قسم وقدر وضمن ويغفلون عن تحصيل ما لم يضمن من نيل الثواب والنجاة من العقاب.
وأنت أيها الطالب المجد! كيف تفسر اهتمامك الشديد بموسم الامتحانات، وغفلتك عن الأمانة العظيمة فيما أوجب الله عليك من فعل الصلاة المكتوبة مع الجماعة، واجتناب المحرمات والمنهيات علماً بأن الإخفاق والفشل في هذه الامتحانات -لا قدر الله ذلك- على الأبناء والأحباب يمكن تعويضه في امتحانات قادمة، وأدوارٍ قابلة، لكن الامتحان العظيم يوم التغابن ليس فيه فرصةٌ جديدة، أو دورٌ قادم، النتائج واحدة بعد عرض صحائف الأعمال وما كتب فيها من الحسنات والسيئات، فإما ناجحٌ آخذٌ كتابه بيمينه سائرٌ إلى الجنة، وإما هالكٌ آخذٌ كتابه بشماله مطروحٌ في النار.
فانتبهوا يا عباد الله! وتنبهوا يا شباب الإسلام! واجعلوا من هذه الامتحانات موعظةً وذكرى لعلكم تفلحون في الدنيا والآخرة.
وأنتم معاشر الشباب الذين على أبواب التخرج أو استقبال الأعمال الوظيفية تذكروا أن الشهادات على اختلاف درجاتها إنما هي تأهيل علمي ليؤتمن الفرد بها على أعمال أمته ومقدراتها وخدمة أبنائها، وتذكروا أن الشهادة مهما علت درجتها فإنها ليست هي العلم كله، بل هي بابٌ إلى العلم ومفتاحٌ إلى المعرفة، فاحرصوا على مواصلة الاطلاع وطلب العلم، ولا تقطعوا ذلك عند حد استلام الشهادات والوثائق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(160/2)
أهمية المراجعة والاستذكار قبل دخول الامتحانات
الحمد لله منزل الكتاب، ومنشئ السحاب، وهازم الأحزاب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه مآب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الإخوة: هناك أمورٌ لا بد أن يلتفت الطلاب والطالبات إليها قبل دخول هذه الامتحانات، ألا وإن من أهمها ما قد نطلق عليه بالمراجعة والاستذكار والمذاكرة، هذا جهدٌ مهم، وله دورٌ مهم في تقريب المعلومات وتيسير تواردها على ذهن الطالب أو الطالبة حين الإجابة، ولكن هذا لا يأتي بعكف الذهن والذاكرة وكد الفكر والعقل على القراءة والاطلاع بشدةٍ بعد الإهمال الشديد والتفريط الطويل طيلة أيام الموسم الدراسي أو الفصل الدراسي، إذ أن عملية توارد المعلومات إلى الذهن لا بد أن يسبقها شيءٌ من تأكيد هذه المعلومة وتوثيقها، فإذا حان موسم الاختبار كان تواردها إلى الذهن ومن ثم كتابتها أمراً ميسوراً بسبب المذاكرة والمراجعة.
فالله الله معاشر الشباب! ينبغي أن تنتبهوا لهذه الأيام فإنها مهمةٌ جداً، واتركوا عنكم كثير الكلام وكثير الانشغال بما لا فائدة فيه، وليكب كل واحدٍ منكم على كتبه ودروسه، نسأل الله له التوفيق.
وإن من الأمور التي ينبغي أن تعلموها: أن الذاكرة وعاء وأول ما يخرج منها هو آخر ما يرد إليها، فإن بعض الشباب قد يذاكر مذاكرةً طيبة، ثم يعود إلى البيت فيجلس ليشاهد مسلسلاً أو فلماً من الأفلام، ثم بعد ذلك يظن أنه في صبيحة يومه مستعدٌ بما ذاكره بالأمس وقد نسي أن ما رآه في هذه الفلم أو المسلسل قد شوه عليه آخر معلومةٍ وردت في ذهنه، فينبغي لمن قرأ شيئاً وذاكره أن يحفظه بعدم الانشغال، وقديماً قال بعض أهل العلم: "النوم وعاء الحف" فإذا ذاكرت ما كتب لك أن تذاكر، فبادر إلى فراشك، وإن قدمت قبل ذلك ركعتين قبل نومك لتكون باباً إلى الاطمئنان وسبيلاً إلى الراحة، فإنك ستحمد فضل ذلك ونفعه صبيحة يوم امتحانك.(160/3)
الإخلاص وأهميته
من الأمور التي ينبغي أن ننتبه لها: أن على الإنسان أن يحسن النية، وأن يحدث نفسه بكل علمٍ نافع وبكل قولٍ سديد، إن البعض قد يُحدِّث نفسه بأمورٍ تعود عليه بالبلاء والمصيبة، وقديماً قال الشاعر:
احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكلٌ بالمنطق
فإنك إذا عزمت الهمة وجمعت القصد على أمرٍ من أمور الخير، وجعلت حديثك لنفسك بعد هذا الامتحان فيما يقربك إلى الله وفيما ينفع أمتك فإنك بذلك توفق بإذن الله.
أما من حدث نفسه بعد امتحانه أن يسافر إلى بلد كذا وكذا، أو أن يتمتع بالإباحية في أرض كذا وكذا، أو أن يجعل من هذه الشهادة سُلماً ليخوض مجالاً معيناً قد يكون فيه شيءٌ من النهي، فهذا قد يكون سبباً لشؤم عاقبته وسوء خاتمة عمله في دراسته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأعود وأكرر على الشباب الذين هم على أبواب التخرج أن يعلموا عظم الأمانة التي يتحملونها، وشرف المسئولية التي تلقى إليهم، فإن ذلك أمرٌ جليل، ومهمٌ خطير ينبغي أن يعرف الإنسان قدره، وينبغي أن يعرف فضله وشرفه، خاصة طلبة العلوم الشرعية فإن عليهم أمانةٌ عظمى أعظم مما قد يلقى على غيرهم.
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موكب الذل أحجما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أنشقى به جمعاً ونجنيه ذلةً إذاً فاتباع الجهل أولى وأحزما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمعٌ صيرته لي سلما(160/4)
نصائح للطلاب قبل دخول الامتحانات
فيما معاشر الشباب عامة! ويا طلبة العلوم الشرعية خاصة! اتقوا الله جل وعلا فيما تولون في شهاداتكم، وتذكروا وراقبوا الله جل وعلا في علمكم، فإن عليكم مسئولية عظيمة، ثم إذا دخل الطالب في الامتحان فالذي ننصحه به أن يدخل متوضئاً مطمئناً هادئ البال، فإذا جلس على كرسيه ذكر الله بما يفتح الله عليه من الأذكار، وليحرص على قول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، وليسأل ربه مزيداً من العلم والتذكير والتوفيق والسداد، فإذا قدمت له ورقة الأسئلة فالحذر من أن ينظر إلى الورقة بالجملة عامة، بل عليه أن ينظر إلى السؤال الأول منها، فإن استطاع الإجابة أو وفق بحمد الله إلى الإجابة، فليجب على هذا السؤال، والسبب في ذلك أن يكون جهد الذاكرة مسلطٌ على توريد المعلومات المتعلقة بهذا السؤال، فلا تنشغل الذاكرة بتوريد أي معلومةٍ أخرى، فإذا انتهى من هذا السؤال عاد إلى الذي يليه ثم إلى الثالث ثم إلى الآخر أو الذي بعده، فبهذا ينال راحةًَ وطمأنينة في أمر المذاكرة.
إن بعض الشباب أول ما تلقى إليه ورقة الأسئلة يقرأ السؤال الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، ثم لا يدري ماذا تورد إليه الذاكرة من المعلومات، وقد يكتب بالسؤال الأول وهو يفكر في إجابة فقرةٍ لم يعرفها في السؤال الرابع، فهذا أمرٌ بالنسبة له قد يسبب له الفشل والإخفاق ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحذر الحذر من الغش في الامتحانات فإنه محرمٌ لا يجوز، الحذر الحذر من الغش أياً كان دورك طالباً أو مطلوباً في هذا الغش، فإنه لا يجوز ولا ينبغي، وكيف يؤتمن رجلٌ على أمانة الأمة أن يحفظها ولا يغش فيها وهو يغش في العلوم التي يتعلمها وقد يكون من بينها العلوم الشرعية؟ فينبغي أن ننتبه لذلك، وينبغي للمدرسين الذين يقومون بدور المراقبة أن يلاطفوا نفوس الطلاب وأن يدخلوا عليهم بابتسامة جميلة: (وتبسمك في وجه أخيك صدقه) فينبغي أن تدخل على الطالب منطلق الجبين، باش الوجه، بادي الابتسامة، لكي تدخل السرور والفرح والراحة والطمأنينة إلى قلبه، فإذا أشكل عليه شيء، فينبغي لك أن تتواضع وأن تحني رأسك عند هامته، واعرف ماذا يريد الطالب، فقد يكون سؤاله أمراً مهماً، وقد يكون ما أشكل عليه أمرٌ يحتاج إلى التوضيح، وليس يعني دخول الطالب صالة الامتحان أن نقطع العلاقة به فوراً، فواجبك أن تتصل بمدرس المادة -مثلاً- أن يوضح له ما أشكل عليه في طريقة السؤال لا في بيان الإجابة.
أسأل الله جل وعلا أن يوفق أبناءنا وبناتنا، وأن يرزقهم العلم النافع والعمل الصالح، وأن ينفع أمتنا بهم، وأن يجعل حظ الأمة منهم العمل لما فيه صلاح الدنيا والآخرة، اللهم انفعنا بشبابنا، اللهم انفعنا بشاباتنا، اللهم انفعنا بأبناء الأمة أجمعين ووفقهم إلى ما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً وأراد بولاة أمرنا فتنة وأراد بعلمائنا مكيدة، اللهم أشغله في نفسه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم سخر لنا وله ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، وثبته على كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا ميتاً إلا رحمته.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة النبيين والشهداء برحمتك يا رب العالمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً، فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم افتح عليهم مد أبصارهم، اللهم نور لحودهم، اللهم افتح لهم أبواباً إلى الجنان، اللهم تجاوز عنهم يا رب العالمين، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه التي لا تستطيعون حصرها وعلى نعمه التي لا تستطيعون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(160/5)
دعوة إلى الزواج
لقد حث الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على الزواج المبكر، وبيَّن رسول الله أهمية التناسل والتناكح لتكثر الأمة، وليباهي بهم رسولنا الكريم الأمم يوم القيامة، ولكن لقد وجدت مصاعب وعقبات كئود في زماننا هذا أمام شباب الأمة إذا أراد الزواج الشرعي، ويُسِّرَ لهم الحرام ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهذه توجيهات ونصائح للآباء في ذلك حتى تحل مشاكل شباب الأمة.(161/1)
كمال الدين وعظمة الشريعة
الحمد لله الذي أحل النكاح وحرم السفاح، وقال جل من قائلٍ عليماً: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله جل وعلا قد أكمل الدين، وأتم النعمة، فمن زاد أو استحسن غير ما شرعه الله جل وعلا فقد ابتدع وشرع وضل ضلالاً مبيناً، واعلموا أن الله جل وعلا ما حرم شيئاً إلا لفساد عاقبته وحاله ومآله على عباده، وما أباح شيئاً أو أحله إلا لمصلحة عباده فيه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
إن هذا الدين جاء لإسعاد البشرية، جاء لينشر الأمن والطمأنينة في ربوعها، وليحل السلام في أرجائها، ليسعد الناس صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، ليجتمعوا على محبةٍ ومودة، ويتعاملوا على صدقٍ ووفاء، ولأجل ذلك جاءت شرائع الإسلام متكاملة لتحقق هذه السعادة التي هي بدورها توفر أجواءً طيبة لعبادة الله سبحانه وتعالى، وتكبيره وحمده والثناء عليه واستغفاره وتسبيحه، إذ لم يخلق الخلق إلا لهذا المقصد العظيم، فإن كل تشريع في الدين ما جاء إلا ليحقق مصلحة، وما جاءت هذه المصلحة إلا لتصب في الغاية النهائية التي لأجلها خُلق الخلق وهي عبادة الله جل وعلا، ولأجل ذا ومن بين ذلك كله شرع في هذا الدين النكاح، شرع شرعاً طيباً محكماً عدلاً متكاملاً: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
إن هذا الدين العظيم ينظر إلى هذه النفوس البشرية، وينظر إلى ما فيها من الغرائز والشهوات، فلا يكبتها على طريقة الرهبان، ولا يطلقها على طريقة الإباحيين الغربيين المتحللين، وإنما يشرع ما يحققها بضوابطها، ومن ثم توظف الغرائز في نفع الأمة، وإحلال الأمن والطمأنينة في أنحاء المجتمع، فانظر إلى غريزة حب المال إن الإسلام ما حذر الناس من جمع المال أو نهاهم عنه، ولم يبح لهم إطلاق أيديهم في جمعه وصرفه في كل سبيل ومن أي طريق، وإنما شرع للعبد أن يجمع المال، وندب إلى أن يصرفه في مصارفه التي تعود على الأمة بالنفع والفائدة، كذلك غريزة الجنس في النفوس ما جاء الإسلام ليقطعها أو ليكبتها، وما أباح إطلاقها في الأعراض والذوات، وإنما جاء ليضبطها {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].(161/2)
حث النبي صلى الله عليه وسلم على النكاح وذمه للرهبنة
أيها الأحبة في الله! الحديث عن النكاح لا شك أن مقاصده عائدةٌ إلى تحقيق وإشباع الغرائز الموجودة في النفس البشرية، وما جاء النكاح لإشباع الغرائز فقط، وإنما لتوظيف هذا الإشباع فيما يعود على المجتمع بالتناسل والتكاثر لتكوين أمةٍ محمودة نافعة للبشرية.
لهذا شرع لنكاح، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا -ولم يجعل هذا الأمر مطلقاً بل قال-: فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) إذاً إذا نوقش النكاح أو الزواج فلينظر إليه من جانب تحقيق رغبات النفس، ولينظر إليه من جانب نفع المجتمع، ولينظر إليه من جانب نفع الأمة قاطبة، إذ ما شرعت الشرائع لتحقيق مقاصد شخصيةٍ بحتة، بل إن من سمو وعدل ورقي هذا الدين أن أحكامه وتشريعاته جاءت لتستجيب لحاجات النفس، ومن ثم لتصب فيما ينفع هذا المجتمع.
فأول ذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج، وذم الرهبنة جاء نفرٌ إلى بيته صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عبادة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلما سألوا وأجيبوا كأنهم تقالوها، إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حينها موجوداً، فقال بعضهم: وماذا عليه؛ فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: فأما أنا فأقوم الليل ولا أذوق النوم، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر اشتد غضبه، وبلغ الغضب مبلغاً عظيماً إلى حد أنه صعد المنبر وجُمع الناس له، وقال: (ما بال أقوامٍ يستنون بغير سنتي، أما أنا فآكل اللحم، وأقوم الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وقال صلى الله عليه وسلم: (حُبب إليَّ من دنياكم الطيب والنساء -هذا من الدنيا أما قرة العين- وجعلت قرة عيني في الصلاة) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسيلماً كثيراً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! -وخص الشباب بالنداء لحاجتهم إلى الزواج والنكاح- من استطاع منكم الباءة -والباءة: المقدرة الذاتية والمالية وما تعلق بها- فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)؛ لأن النفس قد جُبلت على محبة النساء، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
هل يوجد خيرٌ من هذا؟ هل يوجد ألذ من هذا؟ هل يوجد أطيب من هذا؟ بلى وربي {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15]، حتى يعلم من اشتهت نفسه أن شهواته منقطعة فانية، وأن وراءه دار الخلود لا تنقطع فيها الشهوات ولا الملذات الشهوة هنا لذةٌ ثم تنقضي، صحةٌ بعدها سقم، نعيمٌ يخلفه كدر، أما اللذة هناك فصحة لا سقم بعدها، وخلود لا موت يكدره، ولذات لا تنقطع.
قال علماء السلف: إن أهل الجنة يأكلون من غير جوع؛ لأن الجوع كدرٌ يكدر اللذات، ويشربون من غير ظمأ؛ لأن الظمأ كدرٌ يكدر اللذات، لكنهم في الجنة يشربون ويأكلون للذات الأكل والشرب، لذاتٍ فوق لذات.
إن النفوس البشرية في هذه الدنيا جبلت وفطرت على حب النساء، ولأجل ذلك كان توظيف هذه المحبة بطريق الزواج: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5 - 6] فما تشبع غريزة الجنس إلا في الزوجات وملك اليمين، ومن أشبعها بغير ذلك {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7].(161/3)
ثلاثة حق على الله عونهم
لقد حث الإسلام على الزواج، وقول الله عظيم بليغ: ((وَأَنْكِحُوا)) أي: زوجوا: ((الْأَيَامَى)) الأيامى جمع أيم، والأيم من لا زوج له ذكراً كان أو أنثى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
قال عمر رضي الله عنه: [عجبت لمن يبتغي الغنى لا يتزوج]، إن أناساً يشكون الفقر والفاقة والمسكنة، وربما عندهم شيءٌ يسيرٌ لو اجتمعوا واقترضوا لجمعوا ما يحقق لهم الزواج، فلمثل أولئك نقول ما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه، قال: [أرى لمن أراد الزواج أن يستدين -أي: إن كان عاجزاً- ويؤدي الله عنه]، كيف لا يؤدي الله عنه؟ كيف لا يوفي الله عنه؟ وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ حقٌ على الله عونهم).
لو قلنا لك أيها الشاب الذي تتقلب على فراش السهر، تعيش الأرق وتتمنى الزوجة تزوج واقترض وتسلف من هنا ومن هنا، لقلت: من يؤدي عني؟ من يعينني؟ من يضمن سداد ديني؟ فلو قلنا لك: إن الأمير سوف يعينك؛ لأقدمت على الزواج بلا تردد، ولو قلنا: إن الثري الغني الفلاني سيعينك؛ لأقدمت على الزواج بلا تردد، ولو قلنا: إن فلاناً من المعروفين بالثراء سيعينك؛ لأقدمت على الزواج بلا تردد، فإنا نبشرك ونقول: إن الله معينك قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ حقٌ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف) الناكح يقصد العفاف، الناكح يقصد غض بصره، المتزوج يريد إحصان فرجه، هذا حقٌ على الله أن يعينه، أما الناكح يريد التذوق وتنويع اللذات أما الناكح يريد العبث والإسراف أما الناكح تقليداً أو مباهاةً فلعله لا ينال من هذا شيئاً (الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء) والمكاتب هو العبد الذي اشترى نفسه من سيده على نجوم منجمة، على أقساطٍ يدفعها دورية حتى يتم عتقه ووفاء كامل قيمته والثالث: (والمجاهد في سبيل الله).
إننا نقول للشباب: أقدموا على الزواج ولا تترددوا، ودعوكم من أولئك الذين قد أدخلوا في أذهان بعضكم أو أذهان غيركم أن الزواج لا بد أن يؤمن له بيتاً أو فلة وسيارة ووظيفة، ولا بد من دخل ومرتب من الذي يرزقه؟ أوظيفةٌ هي التي ترزقك؟ أسيارة هي التي ترزقك؟ أشهادة هي التي ترزقك؟ إن لم تقطع بأن الرازق هو الله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] فإنما عند الناس منقطعٌ مكدرٌ بالمنِّ والأذى، فمن تعلق بحال الناس تعلق بنقصٍ وضعف ومنقصة.
فيا أخا الإسلام يا شباب الإسلام أقبلوا على الزواج ولا تترددوا لتلك الأفكار والشبهات والأباطيل والأقاويل التي نُثرت وسُلطت علينا حرب شعواء، وأُرسلت إلينا سموم وسهام صارخة، سواء في آدابنا أو أخلاقنا، عبر تلك التمثيليات، وعبر تلك المسلسلات التي أقنعت الشباب أن لا زواج إلا بعد الحب لا زواج إلا بعد العلاقات لا زواج إلا بعد الانسجام الطويل والتعارف المتبادل، وتوافق الآراء والأذواق، وتوافق في الألوان والأمزجة، كل ذلك مما استورده مجتمع المسلمين من الغربيين، أو مما صدَّره الغربيون إلى المسلمين.
أقبل، وكم من رجل تزوج فتاة لدينها -وسيأتي الحديث عن هذا- فكان بينهما من السعادة أضعاف أضعاف ما اختلقه ونسجه الواهمون والكاذبون من تلك السعادة التي سرعان ما تضمحل بدعوى حصولها بعد علاقاتٍ طويلة قبل الزواج، فالإسلام حث على هذا، فلا تترددوا، ولا تنكصوا، ولا ترجعوا القهقرى، اجمعوا ما في أيديكم من المال وتسببوا وابذلوا الأسباب، من هنا دين، ومن هنا قرض حسن، ومن هنا معونة، ومن هنا مساعدة، حتى تجمع من المال ما يكون سبباً في إعانتك على الزواج، ثم أقدم على بركة الله.(161/4)
رسالة إلى الآباء في تيسير المهور
وإلى الآباء رسالة يا من تملكون المال! يا من نمتم على أرصدة قلت أو كثرت! ما غيرت أرصدتكم في لباسكم، وما غيرت في طعامكم، وما غيرت في مراكبكم ومشاربكم، ولكنها زادت أرقاماً في حساباتكم في البنوك، أفلا تزعزعون الرقم قليلاً، وتسحبون منه شيئاً يسيراً فيكون عوناً لأبنائكم أو أقاربكم أو ذوي رحمكم في الزواج؟ إنَّا لنعجب أن يأتي شابٌ يطلب المعونة في زواجه وأنت تعرف أن له عماً ثرياً، وخالاً غنياً، وقريباً ممليراً، فما الذي رد قريبه أو ذا رحمه أن يعينه على زواجه؟ فأعينوا وتعاونوا، وما أجمل عادةٍ طيبة وجدت عند بعض الأسر والعوائل؛ أن الشاب إذا أقدم على الزواج قام كبار العائلة ومن لهم دخول طيبة بمعونته، هذا بالخمسة آلاف، وهذا بالألف، وهذا بالخمسمائة، فإن ذلك أمر يعين الشباب على الزواج، خاصةً من تقدم للزواج في المرة الأولى ولا يزال شاباً، ثقوا -والله- أنه ما أراد الزواج إلا يريد أن يغض بصره، وليحصن فرجه، ولو ابتغى الحرام الذي تنوعت وسائله، وتعددت طرقه، وتيسرت أبوابه في هذا العصر وفي مجتمعاتٍ عدة؛ لاستطاع أن يحصل الحرام بأدنى التكاليف، وإنها لمحنةٌ عظيمة أن يكون الحرام رخيصاً ميسوراً والحلال صعب المنال، فحاربوا الحرام بإعانة الشباب على الحلال.(161/5)
الترغيب في البحث عن زوجة ذات دين
المسألة الثانية: إذا يسر الله لك، وقررت وقطعت العزم على الزواج، فلا تضرب كل بابِ.
أكل امرئٍ تحسبين امرأً ونارٍ توقد بالليل نارا
أتظن كل ذات خدرٍ تصلح لك؟ لا.
(الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) إن حافلات المدارس تنقل في الصباح مئات الآلاف من البنات، ولكن الذي يرغب في الزواج يبحث مراتٍ ومراتٍ وعشرات وكرات ولا يجد من تناسبه، إن كان لا يجد من تناسبه في دينٍ وعفةٍ وحشمةٍ فذلك أمر ينبغي أن يتثبت، وأن يزيد البحث حتى يجد المناسبة والموافقة بإذن الله.
أما أولئك الذين لا يجدون من هذه الحافلات والناقلات ما يناسبهم؛ لأنه رأى ممثلةً فرسم في مخيلته أن تكون عروسه مثل هذه الممثلة في نعومة شعرها، وخدها الأسيل، وجسمها الطويل، وجيدها وحركاتها وسكناتها، فإن ذلك قصدٌ وابتعادٌ إلى غير ما شرع الله جل وعلا.
إنما شرع الله لك الزواج لإعفاف نفسك، أنت لم تتزوج لتكون الزوجة راقصة، أو لتكون الزوجة عارضة أزياء، أو لكي تباهي بزوجتك الغادين والرائحين في حفلات الأعراس، وإنما تزوجت لك أنت وليس لغيرك، فاعلم هذا ابتداءً وأولاً.
إن بعض الشباب في بحثه يشترط أن تكون جميلة، بغض النظر عن دينها واستقامتها وتاريخها أبداً، وهذا ضلالٌ بعيد، قال جل وعلا: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] لو أعجبتكم المشركة بجمالها، لو أعجبتكم بصفاتها، لو أعجبتكم بما فيها من المواصفات فإن أمَةً قينة تباع وتشرى لكنها مؤمنة خيرٌ من مشركة، وهذا شيء واضح، فذرةٌ من الحلال تعدل أو تميل وترجح بملء الدنيا من الحرام، فاعلموا هذا علماً يقيناً.
إذاً: الاختيار لابد أن يكون لذات الدين إن الدين -أيها الأحبة- يحقق كل شيءٍ بإذن الله، أما المواصفات الأخرى التي أغرق الشباب في البحث عنها نحن لا نقول للشباب: ابحثوا عن قبيحةٍ أو مشوهة أو إلى غير ذلك، وإن الإسلام حث على هذا.
لا والله، وإنما نقول: لا تجعلوا الجمال مقصداً أولاً وآخراً في ابتغاء النكاح، ولأجل ذلك ترى عدداً من الشباب يقدرون على الزواج ولكن قد وضع في مخيلته تلك الصورة فما وجدها، ولن يجدها، ولست أدري هل يموت متزوجاً أو يموت أيماً أعزباً!! قال صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولدينها، ولحسبها ونسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ما ينفعك جمال جميلةٍ إذا التفتت ظننت بها السوء، وشككت في التفاتتها ما ينفعك جمال جميلة إذا اتصلت على بيتك ظننت بها السوء في طول مكالمة الهاتف ما ينفعك جمال جميلة وأنت لا تأمنها إذا خرجت يميناً أو يساراً مع قريباتها أو في بعض المناسبات، إن هذا الجمال يعود حسرةً على صاحبه، ولذلك جاء في الأثر: (إياكم وخضراء الدمن، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) وجاء أيضاً: (لا تنكحوا النساء لجمالهن؛ فعسى جمالهن أن يرديهن أو يطغيهن، ولا تنكحوهن لأموالهن؛ فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة مؤمنة ذات دين أفضل).
التعرف أمر مطلوب، والله ما يضيرك لو نقصت مواصفات الجمال درجات، لكن اكتملت مواصفات الدين العفة، الحياء، الحشمة، غض البصر، عدم الخضوع بالقول، عدم الجرأة على الرجال، عدم الإقدام على المحرمات، كل هذه الصفات الواحدة منها تعدل مئات المقاييس من الجمال.
فيا شباب الإسلام أقبلوا على الزواج، واجعلوا الدين هدفاً، ومن جعل الدين غايته يسر الله له كل غايةٍ بعدها (من أصبح وهمه الآخرة تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته).(161/6)
أهمية النظر إلى المخطوبة
فإذا اخترت ذات دين يسر الله لك أمرها والسبيل إليها، فلا حرج في أن تتعرف عليها وكيف يكون التعرف؟ أعلى طريقة الأفلام والمسلسلات؟ مكالمات لا تنقضي ليلاً ونهاراً؟ أم على طريقة المراسلات والمغازلات؟ رسائل تحوي ألواناً فاضحة من العبارات كيف يكون التعرف؟ إن التعرف بالرؤية إلى هذه المخطوبة، أن تستأذن وليها في أن يمكنك من النظر إليها وهي غافلة لا تدري في بيتها مثلاً، ولا حرج لو دخلت على من أراد خطبتها أو أراد الزواج بها بشيءٍ من الماء أو الطيب، ثم سلمت وقدمته وخرجت، فرأت خاطبها ورأى من خطبها؛ لأننا في هذا يهمنا -وخاصةً في هذا الزمن- أن نعرف رأي الفتاة بالزوج كما نعرف رأي الخاطب بالفتاة، ولا يلزم من كون الشاب قد أعجب بالفتاة أن تكون الفتاة قد رضيت به واطمأنت إليه، فكان تمكين الناس الخاطبين وتمكين بناتهم من هذا الأمر فيه خيرٌ عظيم، ولن يضير لو رآها ثم قال: ما دخلت قلبي أو ما تيسر لي ذلك إن بعض الناس إذا قيل له: فلان يريد أن يرى مخطوبته التي خطب منكم، قال: وهل عندنا كتلوج للعرض والأزياء؟ هل عندنا معرض نقدمه حتى يرضى؟! إن قبل بها وإلا فعساه لا يرضى أبداً! وليس هذا من العقل أبداً، فلا بد أن تراه ولا بد أن يراها إذا تيسر ذلك، ويصح الزواج بدون ذلك، وكم من زيجة سعد أبناؤها والزوج والزوجة فيها ولم يحصل فيها رؤية، ولكننا في هذا الوقت تحاشياً لوصف الأمهات، وتحاشياً لوصف الأخوات والقريبات للزوج أو للخاطب، أو في المبالغة في نقل الصورة نقول: لعلك أن تراها ولعلها أن تراك لحظةً واحدة، ثم بعد ذلك إذا كتب الله الوفاق بادروا بعقد النكاح، ومن ثم تيسير الزواج.
قال جابر رضي الله عنه: (خطبت جاريةً من الأنصار فقال صلى الله عليه وسلم: هلا نظرت إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، قال جابر: فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها) فلا حرج أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته، فإن هذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (أحرى أن يؤدم بينكما) أن توجد الألفة والمحبة والمودة.(161/7)
مشكلة غلاء المهور والدعوة إلى تيسيره من قبل الآباء
فإذا حصلت الرؤية واطمأن الخاطب إلى مخطوبته والمخطوبة إلى خاطبها، بدأنا في المسألة الخطرة التي هي قضية القضايا عند الأسر والمجتمعات، ألا وهي المهر المهر عجائبٌ من القصص وغرائبٌ من الحكايات نسمعها في مجتمعات يربون البنات للبيع، وينشئونهن للتجارة وكأنهن سلع، وإذا قدم الخاطب بعد مشوارٍ طويل بما يسر الله له من المال رمي مهره في وجهه، وقيل: قد بذل لنا فيها كذا وكذا فرفضنا، فتأتي أنت لتبذل أقل من هذا! إن أعظم النساء بركة أيسرهن مئونة ومهراً، وإن المغالاة في المهور ربما كان عند حدوث شجارٍ أو شقاق بين الزوجين سببٌ في الانتقام، وسببٌ في التشفي من الفتاة وأهلها وأبيها الذي ما مكن الزوج إلا بعد أن كسر ظهره، وأثقل كاهله، وأذل عينه وجبينه بالاقتراض والتسلف من هنا وهنا، حتى جمع أموالاً فقدمها في سبيل حصوله ودخوله على زوجته.
جاء إلى هذا المسجد شابٌ ذات يوم، ومن المؤسف أنه من البادية، وإننا نخص البادية بالخطاب ونعمُّ غيرهم، إذ إننا نسمع عند بعض البوادي والقبائل مغالاةً في المهور ما أنزل الله بها من سلطان، حتى ولو ادعوا أنهم نزلوا في الجرائد إعلانات، أو اتفق بعضهم على أنهم لا يقبلون مهوراً أكثر من عشرين أو ثلاثين ألفاً، إلا أن بعض الأفراد ولا نلوم كبار القوم إنما نلوم بعض الأفراد الذين إذا كانوا في المجالس قالوا: نحن قد قرر المهر عندنا كذا وكذا من يسير المهر وقليله، فإذا تقدم أحد إلى ابنته طلب ما طلب، والعجيب أنهم يكتبون في عقود النكاح ثلاثين ألفاً، ولكن ما جاء خلف الأوراق أضعاف ذلك!! إنها خدعة وحيلة والذي يتأذى بها هو الزوج في نهاية الأمر وخاتمة المطاف.
إن تيسير المهر أمر مهم أيها الأحبة!، ونحن لو فكرنا بعقلٍ ونظر العاقل الذي عنده عدد من البنيات، والله لو أبقيت بناتك عندك لما زادك ذلك إلا ألماً وحسرة تزوجت البنات إلا بناتك! أنجب البنات ذريات إلا بناتك! سعد البنات إلا بناتك! فلماذا حرمتهن هذا؟! لو تأملت بعقل وفكر لوجدت أن من واجبك أن تسعى أنت، وأن تقلب وتفتش وتشتغل شغلاً، أو أن تعمل عمل الباحث المراقب المتابع لشابٍ تختاره لابنتك، ولو كان فقيراً أو معدماً، من أجل أن تهدي إلى ابنتك زوجاً صالحاً إنك يوم أن تختار لابنتك زوجاً صالحاً أسعدتها -بإذن الله- منذ أن زوجتها إلى أن تموت، وأسعدت ذريتها أيضاً بإذن الله، ولكن ما ينفع ابنتك أموال تعطيها، ونفقات تنفقها على اللباس والطيب والشراب والترفيه والفسح والجولات والزيارات، ولكنك رميت بها رمي الثوب الخلق في حضن شابٍ لم تعرف تاريخه، ولم تنقب عن ملف وسجل حياته.
لأجل ذلك نعود إلى هذه المسألة فنقول: ابحث، فإذا وجدت شاباً صالحاً مستقيماً فقل له: إن عندي بنية صالحة أتريد أن أزوجكها؟ وإن شئت فأرسل له رجلاً تثق فيه، وقل له: اذهب إلى فلان وقل له: لماذا لا تتزوج؟ فإن قال: إنني راغب، فأخبرني لعلي أعينه وأجمع له من المال ما يقدمه إليَّ، ويعود الخير إلى بيته وابنته مرة أخرى.
وإني أثني وأشكر وأذكر بالجميل والدعاء أفعالاً كهذه حصلت من رجال بحثوا عن شبابٍ، فأرسلوا إليهم أناساً آخرين وقالوا لهم: تعالوا، ألا ترغبون في النكاح؟ قالوا: بلى، ولكنا لا نجد مالاً.
فدلوهم إلى من أرسلهم أصلاً وأعانهم أبو الفتاة بالمهر عن طريق ذلك الوسيط، فكانت عيشة السعادة، وذرية السعادة، وحياة السعادة، أما أولئك الذين باعوا واشتروا في بناتهم بمئات الآلاف، فواحدة طُلقت بعد شهر، وواحدة طُلقت بعد ولدين وثلاثة، وواحدة تعيش، وواحدةٌ وواحدة وحدِّث عن مشاكل النساء عند الأزواج، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم) أي: أسيرات.
أيها الأحبة: هل لا يصح النكاح إلا بغرفة نومٍ بثلاثين ألفاً؟!! هل لا يصح النكاح إلا بقصر أفراح بعشرين ألفاً؟! هل لا يصح النكاح إلا بخرافٍ تذبح وتنحر على موائد لم يؤكل إلا على أطراف الأصابع منها ثم يترك الباقي للزبالات والنفايات والأتربة والشوارع، وأماكن القمامة؟! هل لا يصح النكاح إلا بألوانٍ طويلة عريضة من الذهب والمجوهرات؟ جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الزواج، فقال الرجل: ليس عندي مالاً، فقال: (التمس ولو خاتماً من حديد، قال: لا أجده، فقال: أتحفظ سورة كذا؟ قال: نعم.
قال: زوجتكها بما معك من القرآن)، هل يوجد رجلٌ يجعل حفظ كتاب الله مهر ابنته؟! هل يوجد رجلٌ يجعل حفظ صحيح البخاري مهر ابنته، أو صحيح مسلم مهر ابنته؟! قل وندر هذا في هذا الزمان.
فيا أحبابنا زوجوا بناتكم، وأعينوا على زواجهن، وأعينوهن فإن الفقير في الغالب أخرق، أي: لا يحسن التدبير والتصرف، فإذا رأيت شاباً تقدَّم لابنتك فقيراً فاجعله ولداً وابناً من أبنائك، وانصحه وقل: يا بني! لا حاجة، فإنا نعرف حقيقة ما عندك من المال، ولسنا الذين سنحكم عليك بقصر أفراح أو بموائد طويلة.
إني لأعجب وألوم وأعاتب بعض الشباب الذين يتسولون في جمع المهر البالغ في رقمه وقيمته، ثم بعد ذلك يقيمون وليمة طويلة عريضة في قصر أفراح بأجرة بالغة!! أين حاجتك؟ أين تجوالك؟ أين دورانك؟ أين خطاباتك وأوراقك؟ ألم تكن بالأمس تجمع مهرك بالخمسة آلاف والألف والألفين حتى جمعت هذا المهر الذي أثقل به كاهلك، ثم بعد ذلك تستأجر صالة بخمسة عشر ألفاً أو بعشرة آلاف، ثم تذبح وتنحر عشرين ذبيحة، ثم تفعل وترسل، أهذا من العقل؟! والله -أيها الأحبة- إذا وجد الصالح الصادق في ابتغاء النكاح، الذي يريد بنكاحه العفاف والذرية الصالحة، ووجد الولي الصالح، فإن عشرة آلاف أو عشرين ألفاً تكفيهم بإذن الله جل وعلا بيتٌ متواضع -وليس من شرط صحة النكاح أن تكون السكنى في قصر منيف- ولباس ميسر، ووليمة (أولم ولو بشاة) ثم بعد ذلك تتم هذه الحياة الزوجية.
أما أن يجمع الشاب أموالاً، فإذا تزوج وتفرق الضيوف وعاد إلى بيته وبعد ليلة زفافه جلس مكباً مطرقاً رأسه بين رجليه يتفكر كيف يسدد ديونه، وكيف يهرب من الغارمين، وكيف يخدع من طلبوا منه المال الذي دنا موعد سداده!! ذلك والله جهل بليغ.
فيا أمة الإسلام: أعينوا الشباب على المهور، ساعدوهم وأعطوهم وأقرضوهم وأعطوهم من الزكاة، وأعطوهم من الصدقات، فإن من احتاج إلى المهر جاز دفع الزكاة إليه بما يكفي لتزويجه، اعلموا هذا جيداً، فأعينوا شبابنا على هذا، فإذا فتحنا لهم أبواب الحلال أغلقنا دونهم أبواب الحرام التي تنوعت وتسهلت وتيسرت في هذا الزمان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(161/8)
توجيهات للأزواج
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.(161/9)
اللعب بالطلاق أمر مذموم
معاشر المؤمنين: إن شأن الزواج عظيم وكبير، ولأجل ذلك سماه الله جل وعلا في كتابه ميثاقاً غليظاً، فقال سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:20 - 21]، سمي في القرآن ميثاقاً غليظاً، مع أن الزواج عقدٌ وهو إيجاب وقبول إن المرأة يجوز لها أن تمارس عقد البيع وهو إيجاب وقبول إن المرأة يجوز لها أن تمارس عقد الإجارة إن المرأة يجوز لها أن تمارس عقد السلم والمساقاة والمزارعة، وغيرها من عقود المعاوضات المالية، أما الزواج وهو إيجاب وقبول فلم يسند هذا العقد إليها، بل أسند إلى وليها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل)، النكاح بغير الولي باطل، وإنما أسند هذا العقد إلى الأولياء بحضور الشهود كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) مع أنه عقد ولكنه عقد غليظ، إنه ميثاقٌ غليظ، فلا تتهاونوا بهذا.
إن من الناس من إذا تيسر له النكاح بمهر يسير وبدون كلفة ومشقة هان عليه أن يلعب بهذا النكاح، فلا يحلف إلا بالطلاق، ولا يدعوا الضيوف إلا بالطلاق، ولا يأمر إلا بالطلاق، ولا ينهى إلا بالطلاق، ولا يمزح إلا بالطلاق، وهذا من العبث بهذا الميثاق الغليظ، أو لما أنعم الله عليك بزوجة صالحة على مهر يسير انقلبت عابثاً بهذا الميثاق الغليظ والعقد العظيم تعبث به بكل قسمٍ ودعوةٍ وحثٍ ومنع؟! لا يا عبد الله! اعلم أنك آثمٌ إن عبثت بهذا، ولا يجوز لك، واتقِ الله في هذه المرأة يوم أن دخلت عليك بيسر، فليست سيارةً تجرب اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وليست بهيمةً تبيعها أنت ويشتريها غيرك ولا يضيرها أن تعيش في حظيرة أو أخرى، إنها امرأة إنها مشاعر إنها نفس إنها فكر إنها قدرة إنها طموح إنها آمال وآلام إنها مسكينة إنها أسيرة عندك، فاتقوا الله في النساء {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك -أي: لا يبغض ويكره- مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).(161/10)
الطلاق ليس حلاً للمشاكل الزوجية
وإني ألوم كثيراً من الشباب الذين لا يفكرون إلا بالطلاق عند أدنى مشكلة لو انكفأ قدرٌ انزوى في حجرةٍ يفكر في الطلاق، لو انكسر زجاجٌ انزوى في حجرةٍ يفكر بالطلاق، لو تعالت الأصوات بينه وبين زوجته ذهب يفكر بالطلاق لو وجد طعامه ذاك اليوم أو لباسه لم يُعد انقلب يفكر بالطلاق هذه من أفكار الصبيان، هذه من أفكار الأطفال، هذه من أفكار الصغار، أما الرجال فإنهم إذا رأوا مشكلةً فكروا كيف يعالجونها، وقد سبق أن قلت على هذا المنبر: من أراد استدامة حياته الزوجية فليجعل زوجته كواحدٍ من أبنائه المضافين في حفيظته، كأنها من صلبه خرجت، فمن وجد خلافاً من أولاده فإنه لا يفكر بنفي نسبهم أو طردهم وإنما يفكر بعلاج مشكلاتهم، فإذا وجدت مشكلةً ففكر كيف تحسن علاج هذه المشكلة، واصبر صبراً جميلاً، وإن احتجت الهجر فاهجر في المضجع هجراً جميلاً، وعظ وعظاً جميلاً، وقل قولاً جميلاً، فإن النفوس تتأثر بالكلام اللين وحسن المعاملة، وقول الله أبلغ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] سواءً كان هذا في معاملة مع شريك، أو صديق، أو زوجة أو قريب: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] كأنه قريب شديد القرابة، فيا أحبابنا! كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي).(161/11)
حسن المعاملة والتخلق مع الزوجة
تقول عائشة: (كان صلى الله عليه وسلم يحلب شاته، ويخصف نعله، ويكون في حاجة أهله) ما ظنكم بأحدنا لو قالت له زوجته: أحضر هذا الطبق لو تكرمت من ذاك المكان، لربما غضب وقال: أنا الضابط الذي تضرب لي التحيات أحضر لك الطبق؟!! أنا المدير الذي يقف الموظفون أمامي أحضر لك الطبق؟!! أنا الرجل الذي يقف الناس لي أحضر لك هذا؟!! كان صلى الله عليه وسلم وهو خير من ركب المطايا ووطأت قدمه الثرى، كان في حاجة أهله، وكان صلى الله عليه وسلم ليناً رفيقاً حبيباً، جلس ذات يوم يخصف نعلاً في ذلك البيت العامر بالإيمان والطهر، فتفصد العرق من جبينه صلى الله عليه وسلم، فنظرت إليه عائشة رضي الله عنها وقالت: (يا رسول الله! ما رأيت أجمل من حبات لؤلؤٍ كما أرى من هذا الذي يتفصد من جبينك، ويتحدر على جبينك، وقالت: وإنك لجميل يا رسول الله! فنظر إليها بابتسامةٍ كلها الحب والحنان والعطف والوفاء، وقال: وأنتِ جميلة أيضاً يا عائشة).
لا تظن أن حياة الإيمان والدعوة والجهاد والرسالة حياة جافة لا عواطف ولا مشاعر فيها، إنها حياة يملؤها العشق الخالص الطاهر بين الزوجين، والحب المعلى الصافي المنقى بين الزوجين، إنها حياة يملؤها العطف والرحمة والمودة والمحبة والتواضع وخفض الجناح ولين الجانب والكلمة الطيبة، وعوِّد نفسك -يا عبد الله- أن تكون رجلاً إننا لا نشكو من قلة الذكور فقد ملئوا الأرض، ولكننا نشكو من قلة الرجال نعم، قد تزوج من الذكور خلق كثير، ولكن الرجال شريحة غير أولئك.(161/12)
حسن الظن بالزوجة
أيها الزوج كن رجلاً ولا تحرص أن تكون ناقص عقلٍ سماعاً نماماً حريصاً على تلقف الكلام والمكالمات، بعض الناس لا يعرف إلا الظن السيئ، بل وبعضهم جعل جهاز التسجيل ومن دون ريبة على هاتف بيته ليعلم ماذا تقول زوجته في غيبته.
احذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق
ظن خيراً تلقه، أما أن تظن السوء وتفسر كل فعلٍ بسوء، وتعين بتصرفاتك هذا على اتخاذ السوء، ثم تريد بعد ذلك حياةً لا يكدرها شيء! كن رجلاً أيها الزوج! إن سمعت هفوة فتغاضَ وكأنك لم تسمعها، وإن رأيت أمراً للوهلة الأولى فكأنك لم تره، وإن رأيت الثانية فبكلمة طيبة، أو بهدية طيبة، أو بنصيحة طيبة.(161/13)
حسن القوامة على الزوجة
يا أيها الزوج كن على مستوى الرجولة، كن على مستوى الولاية، كن على مستوى المسئولية.
يا أيها الزوج! إياك أن تكون سماعاً لأقوال الأخوات في الزوجة، أو أن تكون طائشاً في تصرفاتك عند حدوث أي شجارٍ أو نزاع ولو قليل بين أمك وزوجتك وأبيك.
يا أيها الزوج لا تظن أن قوامتك الزوجية بالأوامر والنواهي، إنما هي بالعقل والرجولة والقدرة والتفضيل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34].(161/14)
الصبر على أذى الزوجة
يا أيها الزوج لا تكن لئيماً تسحب أموال الزوجة لتدخر لنفسك ما تنفقه عليها وعلى أولادها.
يا أيها الزوج من غسل ثوبك؟ ومن أعد لباسك؟ ومن طيب فراشك؟ ومن أصلح طعامك؟ ومن حفظ بيتك؟ ومن ربى أولادك؟ أليست زوجتك؟ بلى، فكيف يضيع هذا كله عند زلةٍ أو هفوة أو غلطة يسيرة من المرأة، وهب أن المرأة فيها نوعٌ من الزلل قد ابتليت به كما يبتلى البعض بمرضٍ مزمن، أو ليس الكثير منا يتعامل ويخالط الناس، يغدو ويروح، ويبيع ويشري، ويذهب ويجيء، وهو يدور بعلته إن كانت من الربو أو من الضغط أو من السكر؟ إن وجود العلة والمرض المزمن لم يمنعه أن يستمر في حياته، فإن وجود علةٍ واحدةٍ وإن كانت مزمنة مع المرأة لا يمنعك أن تعيش معها، ولا يمنعك أن تسير معها إلى أن يمن الله عليها بالعافية، أو تلقى الله جل وعلا بأجر صبرك هذا كله.
يا أيها الزوج عجباً لك كيف تبتسم في وجوه الآخرين، تهدي وتوزع الابتسامات، فإذا دخلت بيتك قطبت جبينك وأغلقت شفاهك كأن الابتسامات في البيوت حرام! يا أيها الزوج عجباً للطفك وأخلاقك مع الناس، فإذا دخلت بيتك انقلبت أسداً شرساً هصوراً وذئباً مؤذياً! يا أيها الزوج اعلم أن صبرك على الناس الذي ترجو به وجه الله لك أضعاف أجره حينما تصبر فيه على زوجتك.
فيا أحبابنا أعينوا على الزواج، وأصلحوا ذات البين، وكونوا رجالاً تجمعون الأمة، وتلمون الشمل، وترأبون الصدع، وتسعون فيما يحقق سعادة المجتمع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم عليك بأولئك الذين يصنعون وينتجون هذه المسلسلات والأفلام التي ما زادت مجتمعنا إلا شقاءً وبؤساً وفتنة واختلافاً.
اللهم عليك بأولئك الذين جعلوا شغلهم إنتاج هذه الأفلام المؤذية لشبابنا وبناتنا والأزواج والزوجات، اللهم اجعل إنتاجهم خساراً وبوراً، واكفنا شرورهم، وندرأ بك ربنا في نحورهم.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين في البوسنة، اللهم انصر المجاهدين في البوسنة، اللهم احفظ أعراض المسلمات في البوسنة، اللهم احفظ اليتامى في البوسنة، اللهم احفظ الأيامى في البوسنة، اللهم احفظ المسلمين هناك، اللهم أهلك الصربيين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(161/15)
دعوى الإرجاء
ظهرت في الأمس القريب دعاوى تنخر في هذا الدين نخراً، ومن أعظم تلك الدعاوى: دعوى الإرجاء بلسان الحال والمقال، والتي تدعو إلى تقسيم الشريعة إلى قشور ولباب إلى مظاهر وحقائق وكل تلك الدعاوى يراد بها الباطل، وبيان ذلك في هذه المادة.(162/1)
دعوى تقسيم الشريعة إلى قشور ولباب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للخلائق أجمعين وللمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
عباد الله: إنه كلما ابتعد المسلمون عن السنة، فإن البدع تقترب منهم بحسب ما ابتعدوا به عن دينهم، وما تركوا أمراً حسناً إلا وحل محله أمر قبيح، وهكذا النفوس إن لم تنشغل بالطاعات انشغلت بالمعاصي.
وإن من سيئ الأفكار الخبيثة السامة التي حلت في قلوب بعض المسلمين المغترين ببريق الحضارة، دون معرفة لحقيقة خوائها الروحي، وما تنطوي عليه من ألوان الدمار الاجتماعي والاقتصادي والتسلط السياسي، تلك هي فكرة تقسيم أمور الشريعة وأحكامها إلى قشورٍ ولباب، ومظاهر وحقائق، وتراهم يبنون على هذا تهاونهم بترك بعض أوامر الشريعة وتساهلهم بها، بحجة أن الأهم والأعظم أكبر من هذا، وقضية الدين هي العقيدة والإيمان الذي هو في القلب، ولو جادلت شخصاً منهم بالتي هي أحسن لأجلب عليك بخيله ورجله بأحاديث يفهمها فهماً سقيماً، ويضعها في غير موضعها، فيقول لك: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) ويقول: التقوى هاهنا، ويشير بيده إلى صدره، وقد تراه متهاوناً بأوامر الشريعة، تاركاً للصلاة مع الجماعة، حليقاً مسبلاً، مجاملاً في أمر دينه، ولو دار بينك وبينه نقاش، وأقمت عليه الحجة بوجوب المتابعة لكتاب الله وسنة رسوله، بالأصول والفروع، بالدقيق والجليل، في العقائد والأحكام؛ لانفض النقاش بينك وبينه، متهماً لك بالقشورية والسطحية، وعدم الغور في أصول الشريعة، أو إدراك مقاصدها، وهكذا تنقض عرى الإسلام وأحكامه عروةً عروة.
وأولئك الجهلة يرددون كالببغاوات حججاً واهية، وأفكاراً سقيمة، استوردوها من أعدائهم جهلاً وغفلة، وصدَّرها الأعداء حقداً ومكيدة، فلو قلت لأحدهم: صلِّ مع جماعة المسلمين، وإياك ومعاملة الربا، وفِّر لحيتك، أو افعل كذا وكذا من أمور الدين، أو أنكرت عليه صوراً وتماثيل مجسمة في بيته، أو حذرته من سماع الأغاني الماجنة، أو نهيته عن شرب الدخان، وأمرته بالاهتمام بأسرته، والحياء والستر وعدم التبرج بالنسبة لهم، وترك مجالسة رفقاء السوء تراه وهو غارقٌ في كل هذه المعاصي والمنكرات، يرد عليك بكل جرأة قائلاً: لا تكن متشدداً، لا تكن معقداً، أو لا تكن سطحياً، الأمر أهم من ذلك، والقضية قضية عقيدةٍ وإيمان إلخ هذا الكلام الذي يردده ولا يفهمه، ولا طائل تحته سوى البوار والخسران المبين.
والأدهى والأمر من ذلك كله أن تراه راضٍ عن نفسه، فيجعلها في عداد الملتزمين الصالحين رغم تلك المنكرات التي يرتكبها، ويزيده ضلالاً ووبالاً أنه يشعر بالرضا عن نفسه؛ لأنه يقارن نفسه بأولئك الذين يسرقون ويزنون ويرتشون، فيرى نفسه أحسن حالاً منهم، وقد نسي المسكين أنهم إنما وقعوا في تلك الكبائر والفواحش يوم أن تهاونوا بوقوعهم في المنكرات الصغيرة، ثم تلتها المعاصي والكبائر التي هو غارقٌ في لججها، غافلٌ عن خطرها على نفسه وذريته وماله.(162/2)
الرد على دعوى تقسيم الشريعة إلى قشور ولباب
أيها الأحبة في الله: لا يخفاكم أن مدعي تلك الدعوى لا حجة له، بل هو المحجوج بقوله وما يردده؛ لأن مقتضى الإيمان والتصديق العمل والتطبيق، وثمار التقوى التي هي في القلوب أن يبدو العمل ظاهراً بالمأمور وأن يترك المحظور، والدين كلٌ لا يتجزأ، وليس فيه قشور ولباب، ويوم أن نصغي لنداء الله جل وعلا في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] يوم أن نصغي لهذا النداء نعلم حقيقة هذا النداء الرباني الرحيم بالعباد، ونتيقن وجوب العمل بجميع أوامر الشارع ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: هذا أمرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام، وأن يعملوا بجميع أوامره، وأن يتركوا جميع زواجره، ومعنى قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الإسلام جميعاً، كما قال ابن عباس وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
ودعوى أولئك الغافلين بقولهم: إن الدين والإيمان في القلب، لو سلَّمنا بها على إطلاقها؛ لجعلنا فرعون وهامان وأبا لهب وغيرهم من الطواغيت في عداد الصالحين؛ لأنهم يؤمنون بالله، ويوقنون بوجوده وتصرفه في الكون، ولكنهم ضلوا وأضلوا يوم أن تكبروا وتجافوا عن عبادة الله والانقياد له، وابتعدوا عن العبودية له في الصغير والكبير من الأعمال.
إذاً فلا يكفي في دعوى الإيمان أن يدعيه الإنسان دعوى من دون تطبيق أو برهانٍ صادق على دعواه، ثم إن الحس والملاحظة يشهدان بالارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن، فمن صلحت سريرته؛ استقامت علانيته، ومن ساءت وحادت عن جادة الصواب علانيته؛ كان ذلك دليلاً على فساد باطنه، وهذا أمرٌ تعرض له شيخ الإسلام ابن تيمية في عددٍ من كتبه حول كلامه عن هذا الموضوع، وتكلم فيه أيضاً في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم حيث بيَّن بقوله رحمه الله: والأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال؛ يوجب في القلب شعوراً وأحوالاً، فالمشاركة في الهدي الظاهر؛ تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمرٌ محسوس.
أسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم التساهل بأمور الدين وأحكام الشريعة، وأن يجعلنا من المتمسكين الذين يمسكون بالكتاب، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(162/3)
آثار دعوى تقسيم الشريعة إلى قشور ولباب
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، منزل الكتاب، رب الأرباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي لم يعلم طريق خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شرٍ إلا حذر الأمة منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبيٍ عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام بصغيرها وكبيرها، بدقيقها وجليلها، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٌ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: إن التساهل بأحكام الشريعة وأوامر الشارع بدعوى أن بعض الأمور من القشور، أو أن بعض أحكام الشريعة ليست من اللباب، إن التساهل بالأمور المهمة والأمور الدقيقة والجليلة في الشريعة يقود إلى سقوط عرى الإسلام عروةً وعروة، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، فكيف بمن وقع في الذنوب والمعاصي، بل بمن وقع في الكبائر باقترافها، وإصراره عليها، فهل ترونه إلا غارقاً في لجج المحرمات، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينهما أموراً مشتبهات، فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات؛ فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت؛ صلح الجسد كله، وإذا فسدت؛ فسد الجسد كله) فلو صلحت أفعالهم واستقامت جوارحهم على ما شرع الله؛ لكان دليلاً على صلاح مضغ قلوبهم.(162/4)
شبهة أخرى في تقسيم الشريعة والرد عليها
يا معشر الأحباب! هناك شبهةٌ يرددها أولئك الذين يقسمون أمور الشريعة، ويجعلون ذلك ذريعةً إلى التهاون بها، ألا وإن تلكم الشبهة هي: أنهم يقولون: إن هناك أموراً مهمة، وأموراً أهم منها، هناك أمرٌ عظيم، وهناك أمرٌ أعظم، ولكن هذا لا يعني أن نترك التمسك بكل صغيرٍ وكبيرٍ من أحكام الشريعة، والقول: بأن هناك مهمٌ وما هو أهم، إنما هو في مجال الإصلاح والتغيير والدعوة، فإذا كنت في مجال الدعوة إلى الله وقابلت رجلاً تاركاً للصلاة، حليقاً، شارباً للدخان، فإن أول أمرٍ ينبغي أن تتوجه إليه، وأن تناصحه فيه، ألا وهو أمر ترك الصلاة، فإذا استقام على ذلك؛ سيصلح حاله، أو أنت تدعوه إلى ما هو بعد ذلك رويداً رويداً.
إن هذا الأمر -وهو تقسيم أمور الشريعة في مهمٍ وأهم- إنما هو في جانب الدعوة والإصلاح، أما جانب الالتزام، وجانب العمل بالشريعة، فينبغي لكل مسلمٍ أن يتمسك بكل صغيرٍ وكبيرٍ منها، وينبغي لمن كان في مقام الدعوة أن ينبه على الأهم فالأهم، وهذا أمرٌ لا شك في أهميته؛ لأن من وقع في الربا وترك الصلاة، وشرب الخمر، وفعل أموراً دونها؛ فينبغي أن يوجه أولاً إلى الصلاة مع المسلمين، ثم إلى ترك الربا وترك شرب الخمر، وبعد ذلك إلى بقايا الأمور التي لوحظت عليه، أما أن يقول شخص: إن هذا من القشور، وإن هذا من اللباب، وما كان من القشور فليس بمهم، فإن هذا يدعو الإنسان إلى الوقوع في الكبائر رويداً رويداً.
نسأل الله جل وعلا أن يقينا شر ذلك، ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من المؤمنين المتمسكين بكتابه وسنة نبيه.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
لا تقولن: هذه صغيرة وهذه كبيرة.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، الذين يضللون عقول شباب المسلمين، ويدعونهم إلى ترك التمسك بدينهم، بحجة أن هذه أمور صغيرة، وهذه أمور مهمة، وهذه أمور ليست بذات أهمية.
اللهم من أراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أذهب سمعه وعقله وبصره، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم شتت شمله، اللهم امحق بركته، اللهم لا تبق أحداً ممن أراد بنا سوءاً، وأحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، فإنك جبار السماوات والأرض لا يعجزونك وأنت على كل شيءٍ قدير.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النار منقلبنا ومثوانا.
اللهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصماً.
اللهم لا تدع لنا في هذا المقام الكريم الطيب المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره.
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك محمد وعبادك الصالحون، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدأنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اجعل ميتتنا على شهادة الإخلاص، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم اجعل ختامنا من هذه الدنيا، وفراقنا عنها، وما فيها من الأحباب والأصحاب، اللهم اجعل فراقنا منها غير خزايا ولا مفتونين، غير ظالمين أو مظلومين، وما ظلمنا أحداً من خلقك بمظلمةٍ في مالٍ أو عرضٍ أو قليل أو كثير برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تربص بنا إذا جاوزنا، اللهم تلطف بنا إذا احتضرنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم ارفعنا ولا تخذلنا، اللهم لا تعاقبنا بذنوبنا ولا تعذبنا بما فعل السفهاء منا، برحمتك يا رحمان يا رحيم، يا قيوم السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبيك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(162/5)
دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثر ذلك على المجتمع
إن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الأسرة عظيمة، وقد أمر الله المؤمنين بأن يقوا أنفسهم عذاب النار بتربية الأسرة والأولاد، ولكن ينبغي للإنسان أن يعرف كيف يصلح زوجته ويربي أبناءه، وأن يأخذ الأساليب النافعة، والعلاج الناجع في ذلك، حتى يُكون أسرة صالحة مستقيمة على طاعة الله سبحانه.(163/1)
المرأة ودورها في البيت والأسرة
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجزي القائمين على هذه السلسلة العلمية المباركة خير الجزاء، في اختيار الحديث، والتذكير بركنٍ عظيم، ومهمٍ جليلٍ من أعظم المهمات الدينية والشرعية، ذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كان الخطاب بهذا الأمر موجهاً إلى كل فردٍ بعينه، أو كان موجهاً إلى الأسرة أو إلى من تولى أمراً من الأمور، إذ أن ذلك من صفات المؤمنين، وذلكم هو باب الخير، وسبب الخيرية والكرامة والرفعة التي استحقت بها أمتنا هذه أن تكون خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولن أفيض في مقدمةٍ ربما سبق الأجلاء من أصحاب الفضيلة في بداية هذه السلسلة حتى البارحة إلى الحديث عن كثيرٍ من جوانبها، ومباحثها ومسائلها، ولكني سأختصر الحديث على موضوع محاضرة هذه الليلة وهو " دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".
أحبتنا في الله: تعلمون جميعاً أن كثيراً من الآباء وليس بدعة يشقون في النهار ويسهرون الليل؛ خوفاً وشفقة وحباً ورعاية وعناية واهتماماً بالأولاد من البنين والنبات، وهل جُل مهمات سعي الوالد إلا لأجل إكرام أهله وأسرته، زوجةً وأولاداً؟ بل ولا تسل عن بالغ الرعاية وعظيم الرعاية بهم في الطعام والشراب، واللباس والدواء، والتعليم والترفيه، ولك أن تعجب غاية العجب مما تراه من جرِّ بعض الآباء ذريته وأسرته إلى سخط الله ومقته وعذابه، وتلك والله مسألة غريبة داعية إلى الدهشة والعجب، أن ترى أباً يسهر الليل ويشقى النهار، وينفق كل ماله، من أجل ترفيه وإسعاد هذه الأسرة، في لباسها وطعامها، وشرابها ودوائها، والترفيه عنها وكل احتياجاتها، ثم بعد ذلك تراه في ذات الوقت نفسه يعمد إلى هذه الأسرة ليسمح للصوص لتتخطفهم ذات اليمين وذات الشمال، يتخرمونهم من كل جانب، يقفزون عليهم في الأسواق، يدخلون عليهم الباب بلا استئذان، إنهم ليس بالضرورة أن يكونوا لصوصاً ممن تلاحقهم الشرطة، أو ممن يمنعهم القانون، ولكنهم لصوصٌ ربما دخلوا عبر الشاشات والقنوات والإذاعات، وترى هذا الأب الذي يزعم أنه ما ترك شاذة ولا فاذة، ولم يدخر نقيراً ولا قطميراً على هذه الأسرة إلا وصرفه وأنفقه وبذله لها، تراه في ذات الوقت يرى أسرته تخطف، ويرى أولاده وبناته وزوجاته يهاجمون، ويرى الخطر محدقاً بهم من كل جانبٍ، ثم لا تراه يتحرك ولا تراه يدفع عنهم، ولو أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، لالتفت إلى حجم القنابل الموقوتة التي زرعت في بيته عبر هذه القنوات، أو عبر كثيرٍ من الوسائل التي لم يلتفت لها ولم ينتبه إليها.
أيها الأحبة في الله: الحديث عن دور الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يلفت النظر على وجه الخصوص إلى دور المرأة في هذا الركن العظيم، وذلك لأمورٍ أهمها: أن النساء يبقى الأولاد معهن فترة أطول من مكث الرجال معهم، ثم إن الأولاد أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء خاصة في فترة التوجيه والتقبل والاستجابة، وتلكم فترة الطفولة، فلا يستطيع أحدٌ أن يدعي أن أولاده من البنين والبنات في حال التوجيه والاستجابة والانقياد والإذعان يبقون معه أكثر مما يبقون مع أمهاتهم، إذ الواقع والطبيعة، بل والفطرة والغريزة والجبلة، كل ذلك شاهدٌ على أن الأطفال يبقون مع النساء أوقاتاً أضعاف أضعاف ما يبقى الآباء أو الرجال معهم، ثم لا تنسى أن للمرأة دوراً في إكمال دور الرجل في الأمر والنهي، إذ لابد من موافقة ومتابعة من قبل المرأة للرجل في الاحتساب والأمر والنهي وإلا لأصبح المنزل طرفين، طرفٌ يبني، وطرفٌ يهدم، أمٌ تبني، وأبٌ يهدم، أو العكس أبٌ يبني وأمٌ تهدم.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
إن من المشكلات التي تعاني منها كثيرٌ من الأسر والمجتمعات: أن ترى أماً صالحةً طيبةً مباركة، تعتني بالرعاية والعناية والاهتمام بهؤلاء النشء، ثم تجد في المقابل أباً يهدم ما بنته المرأة، أو العكس ترى أباً حريصاً على تعليم أولاده، يدخلهم حلقات تحفيظ القرآن، يمنع عنهم المجلات الخليعة، يذود ويبعد عنهم تلك القنوات الضارة السامة، وفي المقابل ربما ابتلي النشء وهؤلاء الأطفال بأمٍ لا تبالي في أي وادٍ هلكت الذرية وتلكم مصيبة وأي مصيبة، ثم إن للنساء أثراً كبيراً على أزواجهن، وهذا ملاحظ ومشاهد، بل ولك أن تعلم بكل قطعٍ ويقين أن كثيراً من الرجال سبب هدايتهم إلى الاستقامة والثبات على طاعة الله، هو فعل زوجاتهم ودأب الزوجات على دعوة الأزواج إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى وطاعته.(163/2)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثم إن الأمر مهمٌ للغاية إذ أن الذي لا يلتفت إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مأمورٌ به، فربما تراه عاجزاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أي مكان، من عجز عن الاحتساب والنهي في بيته، فإنه أعجز وأضعف من أن يأمر وينهى خارج بيته، فالذي التفت إلى ذلك ينبغي أن يدرك أن الذي عجز عن الأمر والتوجيه في بيته، لهو أعجز وأضعف عنه خارج بيته، وذلك أن مظنة الجرأة والقدرة وعدم الخوف في حق من لك عليهم سلطة وولاية أو بينك وبينهم ارتباطٌ في ظل أسرة واحدة يهون عليك، ولا تجد حرجاً في أمرهم ونهيهم، فهؤلاء الذين لك عليهم سلطة، تنفق عليهم، تعطيهم المال، أنت الذي تكسوهم، وأنت الذي تطعمهم، وأنت الذي تسقيهم، وأنت الذي ترعاهم، إذا كنت بواقع القوامة والسلطة والمحبة والإشفاق والرعاية، مع هذا كله عاجزٌ عن أمرهم ونهيهم والاحتساب عليهم، فلا شك أن من عجز عن الأمر والنهي على هؤلاء سيكون أعجز إذا أراد أن يأمر غيرهم، وهذا أمرٌ جليٌ وواضح.
والأسرة -أيها الأحبة- من عموم المؤمنين الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] ولا حاجة إلى سرد الأدلة، في أن الأمر والنهي شاملٌ متناولٌ جميع أفراد الأمة ولا يختص بذلك طائفة، وإن كان على ولاة أمور المسلمين أن يخصصوا طائفة معنية بالسلطة ولها القوة في ارتباطها بالسلطان والأمر والنهي، لتباشر شيئاً لا يستطيعه من يحتسب بنفسه أو يحتسب على عامة الناس بقلبه أو بلسانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -كما تعلمون أيها الأحبة- شاملٌ عامٌ في حق الذكر والأنثى، والأب والابن، والأم والأخ والأخت، ومن تحته جملة من الذرية أو من الأسرة، ومن له ولاية ومسئولية، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صدر خطابه (من رأى) كلمة (من) كما قرر أهل الأصول من صيغ العموم: فتعم كل مسلم ومسلمة؛ فرداً ولياً، أو حاكماً على الأسرة، أو ولياً على الصغير واليتيم، أو غير ذلك، ولا أخال إلا أنه قد سبق في هذه المحاضرات التي طرحت في أول هذه السلسلة المباركة بيان كثيرٍ من الأحكام المتعلقة بهذا المهم العظيم مما يغني عن إعادتها، وحسبكم قول الله عز وجل في الآيات التي سمعنا طرفاً منها آنفا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].(163/3)
خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الأحبة: إننا ينبغي أن نتذكر دائماً أن مجتمعنا على خطرٍ عظيم ما لم يكن ثمة إصلاحٌ وائتمارٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وإلا فإن الأمة متوعدة بعذابٍ عظيم خطير، قال صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم) وقول الله عز وجل في سورة هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فإذا كانت الأمة فيها إصلاحٌ، وفيها أمرٌ بالمعروف وتناهٍ عن المنكر، وفيها دعوةٌ إلى الخير وفيها عنايةٌ إلى حفظ مستوى الأخلاق، وفيها رعايةٌ وحراسةٌ لمهمات الدين وأمور الشريعة، فإن الأمة بإذن الله عز وجل ستنجو من الهلاك، أما إذا فرطت وكلٌ أخذ ينحي باللائمة على غيره ويلقي بالمسئولية على عاتق من سواه، وكلٌ يدعي ويقول: هذا ليس مني! وليس بي! ولا إلي! ولا علي هذا مسئولية فلان هذا مسئولية علان؛ فلا تسل عن هلكة الأمة في يومٍ من الأيام.(163/4)
متى يتعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على بعض أفراد الأسرة
أيها الأحبة في الله: معلومٌ أن الآمر إذا كان أقدر على التغيير، وأحرى بالقبول والاستجابة، وكان مظنة أن يؤتمر بأمره وينتهى عن نهيه، فإن ذلك يعني تعين الأمر والنهي وتعلقه به أعظم من غيره، فمن يعلم أنه إذا أمر استجيب لأمره، فإنه يكون الأمر والنهي في حقه واجباً متعيناً متعلقاً على رقبته، يحاسبه الله عليه ويسأله عنه، لأنه قد ملك السلطة والإرادة، فكذلك الأب والأم ولهم السلطة والمسئولية على أفراد الأسرة جميعاً يتعين عليهم تعيناً ليس بالقدر الذي يتعين ربما على الأخ أو الأخت أو القريب؛ لأن أولئك مظنة إن أمروا ائتمر لأمرهم، أو نهوا انتهي عما نهوا عنه، أو دعوا استجيب، أو نصحوا استمع لنصيحتهم، فأولئك يتعين عليهم من الأمر والنهي والحساب والمعاتبة عليه ما لا يتعين على غيرهم، ومعلومٌ أن في الأسرة من الاعتبارات الداعية إلى الاستجابة والانقياد ما لا يكون في غيرها، وهي في الغالب القوامة، القوامة من الاعتبارات التي تدعو إلى أن يكون الآمر يؤتمر لأمره، والناهي ينتهى عما نهى عنه، والسلطة والمحبة والاحترام كقوامة الرجل على زوجته مدعاة لقبول الزوجة أمر الزوج ونهيه في مرضاة الله، وحب الزوجة لزوجها مدعاة لذلك، وسلطة الأب وهيبته في نفوس أفراد أسرته مظنة، بل داعية إلى القبول والاستجابة، ومحبة الأولاد إلى الأبوين مدعاة إلى استجابة أفراد الأسرة للأبوين، وإذا علم هذا تبين أنه يتعين على أفراد الأسرة تجاه بعضهم من الأمر والنهي ما لا يتعين على غيرهم بنفس القدر والدرجة، فالذي يتعين عليك في أمر أختك أو في أمر أخيك بالمعروف ونهيه عن منكر واجبٌ عظيمٌ، وليس بالقدر الذي يتعين عليك في أمر جارك أو في أمر أبناء جيرانك أو في أمر بقية الأقارب ولو كانوا على درجة قريبة أو بعيدة في أمر القرابة، إذ الواجب في حقهم آكد منه في حق غيرهم، والإثم الذي ينال أفراد الأسرة بترك العمل والنهي ربما كان أعظم من الإثم الذي ينال غيرهم حال ترك الأمر والنهي.(163/5)
تخصص رب الأسرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولقد ورد الأمر لعموم المؤمنين بالأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى، بل وزيادة على ذلك، مع الأدلة العامة الشاملة التي وردت في المحاضرات التي سبقت بهذه السلسلة، إلا أن ثمة أدلة ونصوص جاءت في الأمر والنهي، والتواصي في حقوق الأسرة المؤمنة، جاءت في نصوص عدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فهذا مع ورود النصوص العامة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه أمرٌ خاصٌ في أمر الولي؛ من تحت ولايته من الزوجة والأبناء والبنات والأخوات والقريبات، أن يقي نفسه أولاً، وأن يقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، وذكر الله من شأن عظم عذابه فيها ما ذكر.(163/6)
قصص تستفيد منها الأسرة المسلمة(163/7)
قصة لقمان وما فيها من العبر للأسرة المسلمة
ومن تأمل سورة لقمان وما فيها من الوصايا التي أوصى لقمان بها ولده ووعظه بها، وجده نموذجاً رائعاً وصورةً مشرقة، وصورة موعظة الأب لولده، واحتسابه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واسمع إلى قول الله عز وجل في سورة لقمان: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ثم قال بعد آياتٍ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:16 - 19] أمرٌ ونهيٌ واحتسابٌ، وموعظةٌ بليغة، وإرشادٌ جميل في باب العقيدة، في الأمر بالتوحيد، في النهي عن الشرك، ثم تذكيرٌ بمراقبة الله عز وجل، وعلم الله سبحانه وتعالى على أن هذا الولد عليه من الله رقيبٌ شهيدٌ مطلعٌ حسيب عليه في كل حركاته وفي كل سكناته وفي كل أحواله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان:16] والمعنى: يا بني! لا تظن أن الصغيرة يغفل الله عنها، وإن كانت خردلة في صخرة أو في السماء أو في الأرض، فإن الله يأتي بها ناهيك عن فعلٍ تفعله، والله عز وجل مطلعٌ على ما تفعل.
ثم أمرٌ بالوصية العظيمة التي أمرنا بها، بل وذكرنا فيها في حال موت نبينا صلى الله عليه وسلم يذكرنا بها: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17].
ثم وهو يأمر ولده أن يأمر بالمعروف: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] إذ الآمر لا بد أن يصيبه ما يصيبه من حال الناس، إما من يستطيل في عرضه، وإما من أحدٍ يرده أو يكذبه، وإما من شامتٍ أو حاسدٍ أو حاقدٍ أو عدوٍ، وربما تسلط على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر باليد، ومع ذلك فإن من احتسب بهذا الأمر المهم العظيم الذي كرامة فاعله عند الله بالجنة عالية، فإنه لا بد أن يوطن نفسه للصبر على ما يفعل.
ثم توجيهٌ في مسألة السلوك: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18] لا تنظر إلى الناس باحتقار، لا تنظر إلى الناس بتصغير، لا تتكبر عليهم: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:18 - 19] إياك والرعونة! لا ترفع من صوتك من غير حاجة، كل ذلك من الآداب الجميلة والرائعة، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في محيط الأسرة الذي يتمثل من وصايا لقمان لابنه.(163/8)
تأملات في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه
وتأمل قول الله عز وجل -أيضاً- في سورة مريم، وفيها احتسابٌ وأمرٌ ونهيٌ من ابنٍ لأبيه، من نبيٍ مؤمنٍ موحدٍ بل هو إمام الموحدين لأبيه الذي لا يزال على الشرك، إنه إبراهيم عليه السلام يأمر أباه بالتوحيد وهو أعرف المعروف، وينهى والده عن الشرك وهو أنكر المنكر، فيقول سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [مريم:41 - 45].
نعم، أيها الأحبة: من تأمل هذه الوقفة الجميلة الرائعة التي تجسد مشهداً وصورةً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محيط أسرة الولد المؤمن يأمر وينهى ويحتسب ويدعو أباه المشرك، في هذه الآيات تأمل هذه المسائل: صدر إبراهيم عليه السلام كل نصيحة لوالده بقوله: يا أبتِ! مذكراً والده برابطة الأبوة التي هي من أقوى الروابط، ومن شأنها أن تجعل كلا الطرفين حريصاً على مصلحة صاحبه.
الثانية: أنه طلب من والده أن يتدبر في فعله، حيث أن الأب يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً.
الثالثة: أنه لم يصف والده بالجهل المفرط؛ لأنه كان في مقام الدعوة، فيتألفه ويستأنس حاله، ويتقرب إليه ولا يتهمه بجهلٍ مطبقٍ وغباءٍ فاحشٍ وظلماتٍ بعضها فوق بعض، وإن كان الشرك جامعاً لهذه الصفات، لكنه في مقام الدعوة يحتاج أن يتألفه، بل بين له بأدبٍ جم: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] إن معي طائفة من العلم ليست معك، ثم أخبر أباه أن إعراضه عن توحيد الله بالعبادة ليس إلا بسبب اتباعه للشيطان الذي هو عدو له، ثم لم يقل لأبيه: إن عذاب الله لاحقٌ بك مرتبطٌ بك، بل أخبر بأدبٍ رفيع أنه يخشى أن يصيبه عذاب من الرحمن.(163/9)
تأملات في موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب
وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم في إطار الأسرة الواحدة يحتسب على عمه أبي طالب، في آخر لحظة، وهي لحظة سكرات الموت، جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو طالب في النزع الأخير، فيقول له: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فانظروا إلى لطيف الخطاب (يا عم!) ثم يقول له: (قل كلمة أحاج لك بها عند الل) فما ذاك -أيها الأحبة- إلا دليلٌ على أن الواحد مأمورٌ أن يتلطف غاية اللطفِ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان في محيط الأسرة.(163/10)
أمر الاحتساب على الأسرة
وإذا كان الآمر مأموراً بالحلم والحكمة والرزانة واللطف والعناية بالمأمورين والمنهيين، فإن ذلك في حق الأسرة وفي حق أفرادها من الآباء والأمهات والإخوة والبنين والبنات إن ذلك من باب أولى.
وقال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] كل هذه الآيات دالة على ضرورة تخصيص الأسرة بمزيدٍ من العناية والرعاية والحياطة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(163/11)
الاحتساب على الأولاد
وتأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرقوا بينهم في المضاجع) وهذا أمرٌ في غاية الأهمية أيها الأحبة.
إن من واجبنا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر ليس الذي قد بلغ وناهز الاحتلام أو تجاوز هذه المرحلة، بل ينبغي أن نأمر الصغير الذي لا يزال يتعلم بدقة الأحرف والكلمات، نعلمه كيف يكون لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، نعلمه كيف يبدأ يومه بذكر الله سبحانه وتعالى، إذا رأى هذا الطفل الذي لم يفقه بعد سبب حبنا لشيء، أو سبب بغضنا لشيء، أو سبب قربنا لشيء، أو سبب بعدنا عن شيء، إذا رأى هذا الطفل منا نفرة عن المنكرات، فإنه ينفر منها جبلة قبل أن يعرف أحكامها وعللها ومناطها، وإذا رآنا نحب أموراً من طاعة الله، فإنه ينشأ ويتعلم حبها والتعلق بها قبل أن يعرف العلة في ذلك وتعلق المناط به، وهذا غاية الأمر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
نعم أيها الأحبة: إن من أهم الأمور التي ينبغي أن نعلم الصغار عليها مسألة الصلاة، لأنها سترتبط بهم في حياتهم إلى أن يموتوا، سترتبط بهم في حلهم وترحالهم، في ظعنهم -في سفرهم- وإقامتهم، بل وسترتبط بهم في حال الأمن والخوف، بل وترتبط بهم في كل أحوالهم في الصحة والسقم إن قياماً أو على جنوبهم أو على مضاجعهم أو على جميع أحوالهم (مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشر) ودل ذلك على أن الصغير إذا رئي منه عنادٌ أو التفاتٌ أو عدم اهتمام بمسألة الصلاة وقد بلغ العاشرة أو أدركها، فينبغي أن تزاد له الجرعة في الأمر والنهي ولو تعلق الأمر بشيء من الترغيب والترهيب، أو بشيء من العقوبة اللينة التي لا تجعله يكره ويمقت ويحقد، بل تجعله يهاب ويخشى ويرغب ويتعلم بإذن الله عز وجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفرقوا بينهم في المضاجع) وتلك والله من الأمور المهمة، وإن كنا نرى اليوم أن أذناب الغرب، والذين انصهروا وذابوا في بوتقة رياح التغريب الوافدة من الحظيرة الغربية ولم يبالوا بها؛ بهذه القضية يدفعون الثمن غالياً، إن أناساً يصيحون ويقولون بأعلى أصواتهم: أطفال مساكين لماذا نفرق بينهم في المضاجع؟ طفل عمره عشر سنوات أو تسع سنوات، أو حول هذا السن، لا يفقه لا يعرف القضايا الجنسية لا يعرف الأمور الجنسية لا يعرف معاني التذكير أو التأنيث لا يعرف الذكورة أو الأنوثة! لماذا نسيء بهم الظن؟ تأمرونا أن نفرق بنيهم؟! نعم؛ لأن الذي خلق هو الذي أدرى، والذي خلق هو الذي شرع: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فرقوا بينهم في المضاجع وإلا فإن العاقبة ما وقع لكثيرٍ من الذين أهملوا هذه القضية، ولم يلبثوا إلا وقد رأوا نذر الشر والبلاء والفاحشة والعار قد ظهرت على أولادهم وبناتهم، لأنهم استخفوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.(163/12)
احتساب كل من الزوجين على الآخر
ثم إن مسألة الاحتساب ليست فقط من الآباء للأبناء أو للبنات، بل هي أيضاً مسألة متعلقة من الزوج لزوجته ومن الزوجة لزوجها، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم لما كانت عائشة تحدثه، فتكلمت عن صفية رضي الله عنها، وصفية هي زوجة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، فأشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إشارة تعرض بـ صفية -تعني أنها قصيرة- فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ليأمر زوجته بالمعروف ولينهاها عن المنكر، فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) انظروا -أيها الأحبة- هذا النوع من العناية ومن الاحتساب والأمر والنهي من الزوج لزوجته، من نبينا صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين لأم المؤمنين رضي الله عنها، فما بالنا نحن اليوم الواحد ربما سمع الغيبة تلو الغيبة، والنميمة تلو النميمة، والقالة تلو القالة من زوجته، تكلمه زوجته عن بني فلان وبنات فلان وآل علان، وآل فلان أبوهم بخيل، وأهل فلان أمهم خراجة ولاجة، وبنات فلان فيهن كذا وكذا وأبناء فلان فيهم من الصفات والصفات، غيبة تتلوها غيبة، نميمة تتلوها نميمة، ثم لا تجد الأب ينكر ذلك، ولو أن الواحد أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لقال لزوجته بكل حبٍ وإشفاقٍ وحنان: يا هذه! إنك غنية عن أن تهدي ثواب أعمالك وأن تهدي حسناتك لأهل فلان وبني علان، احفظي أعمالك لا تعطي الناس ثواب عملك، وحسناتٍ تتعبين الليل والنهار في جمعها.
الواقع اليوم أن كثيراً من الأزواج يتحدثون في أناسٍ والزوجة تسمع وتتلذذ لذلك، ولو كانت ممن تعتني بالأمر والنهي لقالت: يا زوجي الحبيب! يا زوجي العزيز! ألا تظن أن في هذا الكلام غيبة؟ أتظن أن هذا يجوز؟ ألا تظن أن هؤلاء سيأخذون ثواب عملك؟ ألا تظن أن هؤلاء الذين نتكلم فيهم، حتى ولو أشركت نفسها معه بصيغة الخطاب حتى لا تجعله في زاوية المهاجم لتقول: ألا ترى أن هؤلاء الذين نتكلم فيهم أليسوا يأخذون من أعمالنا؟ أليسوا يأخذون ثواب صلاتنا وصيامنا؟ أليسوا يقتصون منا إذا استطلنا بألسنتنا في أعراضهم يقتصون منا من حسناتٍ نجنيها؟ فحينئذٍ يذكر كل واحدٍ منهم الآخر، وذلك أمرٌ لا بد منه.
إن الحاجة ماسة إلى الأمر والنهي في الأسرة ليست في مرحلة معينة، بل منذ ولادة الطفل، والحاجة إلى التربية وإلى الأمر والنهي؛ لتحقيق العبودية وبناء الشخصية لمراحل مبكرة أمرٌ لابد منه، ولذلك لم يكن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مختصراً على الكبار، بل أمر الصغار ونهاهم، فهذا هو الصحابي الصغير كان غلاماً يجلس على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة -أي: يأكل تارة هنا، وتارة من وسط الصحفة، وتارة من طرف الإناء- فيأمره صلى الله عليه وسلم ويؤدبه وينهاه، ويقول له: يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ولك أن تنظر إلى هذا المشهد الجميل يوم قدم أحد أبناء فاطمة أحد أبناء النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحسن أو الحسين أخذ يأكل تمراً من تمر الصدقة فقال صلى الله عليه وسلم: (كخٍ كخٍ) يعني: أخرجها لا تأكلها دعها، مشيراً إلى أن آل البيت لا يحل لهم أن يأكلوا الصدقات أو الزكاة، ما أجمل هذه المعاني! وما أجمل هذه الصور التي تمتلئ بالأمر والنهي!(163/13)
صور مشرقة في احتساب النساء
ولنا أن نسرد عليكم طائفة من الأخبار الجميلة والصور المشرقة التي فيها احتساب النساء أيضاً على أقاربهن وذويهن.(163/14)
امرأة أبي رافع تحتسب على زوجها
فهذه امرأة تنكر على زوجها أمراً أحدثه، أبو رافع الصحابي الجليل كان يصلي، وفي أثناء صلاته أحدث فاستمر في صلاته، فأمرته زوجته سلمى رضي الله عنها أن يتوضأ، حيث روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (أتت امرأة أبي رافع رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه على أبي رافع قد ضربها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي رافع: ما لك ولها يا أبا رافع؟ قال: تؤذيني يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: بم آذيته يا سلمى؟ قالت: ما آذيته بشيء، لكنه أحدث وهو يصلي، فقلت له: يا أبا رافع! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر المسلمين إذا أخرج أحدهم الريح أن يتوضأ، فقام فضربني، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: يا أبا رافع! إنها لم تأمرك إلا بخير) رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الكبير، فهذه امرأة تحتسب على زوجها، تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر.(163/15)
امرأة حبيب العجمي تحتسب على زوجها
وقد ذكر الإمام ابن الجوزي أن عمرة امرأة حبيب العجمي انتبهت ليلة وهو نائم فنبهته في السحر وقالت له: قم يا رجل! قد ذهب الليل وجاء النهار، وبين يديك طريقٌ وزادٌ قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قبلنا، ونحن قد بقينا.
تشير إلى دعوته وأمره بالمعروف، وهو قيام الليل عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأة دعت زوجها إلى الصلاة من جوف الليل، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) وروى الأئمة أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء).(163/16)
احتساب عائشة على مولاتها
ولقد روى الإمام البيهقي عن منبوذ بن أبي سليمان عن أمه، أنها كانت عند عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليها مولاةٌ لها، فقالت: يا أم المؤمنين! طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: [لا آجرك الله! لا آجرك الله! تدافعين الرجال! ألا كبرت ومررت؟!] تشير إلى الإنكار عليها يوم أن زاحمت الرجال لأجل استلام الركن.(163/17)
احتساب أم سلمة على جاريتها
وروى الحافظ ابن عبد البر عن أم الحسين أنها كانت عند أم سلمة رضي الله عنها، فجاء إلى البيت فقراء، فجعلوا يلحون ويستجدون في المسألة، وفيهم نساء قالت: فقلت: اخرجن، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: ما بهذا أمرنا يا جارية! ردي كل واحدة ولو بتمرة تضعينها في يدها، أيضاً هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار الأسرة.(163/18)
احتساب عائشة على يزيد بن الأصم
وروى الإمام الحاكم عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة رضي الله عنها أنه قال: [تلقيت عائشة رضي الله عنها وهي مقبلة من مكة وأنا وابنٌ لـ طلحة بن عبيد الله -وهو ابن أختها- وقد كنا وقعنا في حائطٍ من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك، فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله، وأقبلت عليَّ فوعظتني موعظة بليغة، ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك حتى جعلك في بيت أهل نبيه، ذهبت والله ميمونة، ورمي برسنك على غاربك -أي خُلي سبيلك- فليس لك أحدٌ يمنعك عما تريد، أما إنها -تعني ميمونة - كانت من أتقانا لله عز وجل، وأوصلنا للرحم، تنكر عليه أنه عبث بهذا الحائط].(163/19)
احتساب عائشة على ابنة أخيها
وروى الإمام ابن سعد عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه قالت: [رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما وعليها خمار رقيقٌ يشف عن جيبها، فشقته عائشة رضي الله عنها -لما رأت عليها هذا، وهو شفاف، يشف عن جسمها- قالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور، تشير إلى قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ثم دعت بخمارٍ فكستها].(163/20)
احتساب أم سلمة على الذي لبس خاتماً من ذهب
وروى الإمام ابن أبي شيبة عن عمر بن سعيد بن حسين، قال: أخبرتني أمي عن أبي، قال: [دخلت على أم سلمة رضي الله عنها وأنا غلامٌ وعلي خاتمٌ من ذهب، فقالت: يا جارية! ناولنيه، فناولتها إياه، فقالت: اذهبي به إلى أهلك واصنعي خاتماً من ورق -يعني: من فضة- فقلت: لا حاجة لأهلي فيه، قالت: فتصدقي به واصنعي خاتماً من ورق].
فهذا إنكارٌ من أم سلمة رضي الله عنها على هذا الذي ألبس خاتماً من الذهب.(163/21)
احتساب عائشة على عروة بن الزبير
وروى الإمام مسلم عن هشام عن أبيه عروة بن الزبير [أن حسان بن ثابت رضي الله عنه كان ممن تكلم في عائشة رضي الله عنها يوم شأن الإفك قال: فسببته، فقالت: يا ابن أختي! دعه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] أي: يدافع ويناضل.(163/22)
كلكم راعٍ وكلم مسئول عن رعيته
الأحداث والقصص والوقائع كثيرة، في إنكار الرجال على أفراد أسرهم، وفي إنكار النساء على أفراد الأسرة، ولو ذهبنا نستعرض لضاق بنا الوقت عن ذكر ذلك كله، ولكن لعل فيما مضى كفاية بإذن الله عز وجل، وشاهده أن المؤمنين ما كانوا يحصرون الأمر بالمعروف، وأن السلف الصالح والرعيل الأول ما كانوا يحصرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق أو في المنتديات أو في الشوارع أو في الأماكن العامة، بل كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حتى داخل بيوتهم وبين أفراد أسرهم، وذلك واجبٌ ومسئولية يمليها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ولقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالإمام- الأعظم الذي على الناس- راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئولٌ عن رعيته، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته).(163/23)
مفاهيم في الاحتساب يجب أن تصحح(163/24)
دعوة الأولاد للوالدين
وهنا مسألة مهمة -أيها الأحبة- وهي: دعوة الأولاد للوالدين، ينبغي أن نعرف أن وقوع الوالدين أو أحدهما في المنكر لا يسقط حقهما في البر والاحترام، وغاية ما يفقدانه عند ارتكاب الإثم أو الدعوة إليه ألا يطاعا فيما دعوا إليه من المعصية، بل وتبقى حقوقهم ثابتة لا يهزها شيء، ألم يقل الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] لأن شأن الوالد والوالدة عظيمٌ جداً جداً، فإن هذا الحق العظيم وتلك المكانة والمنزلة التي أنزلها الله الوالدة، وأوجب فيها الطاعة على الأولاد لوالديهم لا يهزها أن يكون الوالد أو الوالدة قد ارتكبا معصية ما لم يأمرا بمعصية أو يدعوا إلى شركٍ وكفر، فحينئذٍ لا يطاعا فيما دعوا إليه، وإنما يؤمرا ويدعيا إلى الله عز وجل باللين والحكمة والمعروف، وينبغي لمن يدعو والديه، أو يدعو أحدهما إلى معروفٍ يفعلانه أو لمنكرٍ يتركانه ألا يصدع قاعدة البر والحب والإجلال والاحترام، بل ربما دعا الأمر والحال هذه إلى بذل مزيدٍ من البر والرفق والعناية حفاظاً على منزلتهما، وتودداً وتقرباً وإشفاقاً بهما حتى يقلعا عن الذنب الذي به يستوجبان سخط الله وعذابه، وإنك لتعجب من بعض الأبناء حينما ينكر أحدهم على والده -مثلاً- شاب يرى والده يدخن، فيظن هذا الشاب الملتزم الصغير الناشئ مع أحبابه، المتحمس للدعوة المحب للخير، الذي قد أشرق الإيمان في وجهه، يظن أن إغلاظه وشدته ورفعه يده ورفعه صوته أمام والده أن ذلك مما يقربه، أو مما تبرأ به ذمته في الأمر والنهي، وذلك في غاية الغلط، بل إن الأب إذا ارتكب إثماً لا بد أن يتودد إليه في الأمر والنهي، وأن يتلطف به، وألا تسقط حقوقه، فمن حقه أن يُطاع، لو أن أباً من الآباء عنده منكر من المنكرات، ثم قال لولده: اذهب بإخوانك إلى السوق، اذهب بأمك إلى المستشفى، اشتر الحاجة الفلانية، ما ينبغي له أن يقول: أنت مدخن، فأنا لا أطيعك، أو: لا تستحق الطاعة لأنك عصيت الله ورسوله، لا، وليس من حقه، بل لا يجوز أن يعصيه، لابد أن يطيعه، وهذا واجبه، ولو عصاه لعد ذلك من العقوق الذي يأثم به ذلك الشاب الناشئ المستقيم الملتزم الصالح، ولو كان أبوه عاصياً لله عز وجل؛ لأن حق الوالد حال معصيته أن يُدعى إلى طاعة الله، لا أن يعصى فيما أوجب الله، حقه أن يدعى إلى طاعة الله إلى مرضاة الله إلى الاستقامة على مرضاة الله، إلى الاستقامة على شرع الله، لا إلى أن يعصى فيما أوجب الله من حقه وطاعته، وكذلك الأم إذا كان عليها من الملاحظات ما يدعو إلى الإنكار عليها، فإن ذلك لا يعني إسقاط حقها أو عدم العناية أو الالتفاف أو الاكتراث بأمرها، وإن الواجب أن تطاع فيما أمرت به في طاعة الله، ولا تطاع في معصية الله، وتكرم ويتقرب إليها أكثر، لعل الله سبحانه وتعالى أن يجعل في مزيد البر والصلة والرقة واللطف والمحبة والعناية سبباً في إقلاعها عن الذنب وإقلاعها عن المعصية.
بالأمس القريب سمعت من أحد الأفاضل غاية سخطه، وغاية انزعاجه من أبيه الذي بلغ من العمر سبعين عاماً، وما ذاك إلا أن والده في هذا السن قد تزوج مرتين أو أكثر من ذلك وهو منكرٌ على والده أنه يتزوج، فقلت: يا سبحان الله! أتنكر على أبيك شيئاً أنت احتجت إليه بعد حين؟! أتنكر على أبيك أنه تزوج على أمك؟! نحن لا نقول لك: اضرب الدف على رأس أمك فرحاً بدخول ضرةٍ عليها، وإن كانت قد بلغت من الكبر عتياً، ولا نقول لك: ينبغي أن تتشمت على أمك لدخول ضرة عليها، ولكن لا يعني ذلك أن تسخط على أبيك، ولا يعني أن تهجره، ولا يعني ذلك أن تقصر في حقه، بل إن أباك لو أمرك أن تذهب بزوجته -وهي ضرة أمك- أن تذهب بها في سوقٍ أو مستشفى أو أمرٍ أو حاجة لقضائها؛ فإنه يتعين عليك أن تطيع أباك وألا تعق أمك، مع غاية المراعاة والعناية لمشاعر أمك.
إننا لنسمع العجب العجاب من بعض البنات يوم أن ترى مجموعة منهن أو بعضهن يرتكبن العقوق المتعمد مع سبق الإصرار والترصد ضد أبيهن؛ لأن أباهن قد تزوج على أمهن زوجة أخرى، ويا سبحان الله! ألأنه قد فعل شيئاً مما شرعه الله وقرر أمراً قد أذن الله به عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]؟! ألأنه تزوج الثانية أو الثالثة يجوز للبنات أن يهجرن أباهن؟! يجوز لهن ألا يسلمن عليه؟! هل يجوز لهن ألا يتبسمن في وجهه، وأن يقابلن الابتسامة بالاكفهرار، وأن يقابلن البشاشة بتقطيب الجبين، أو يقابلن الرقة واللطف واللين في الكلمة والعبارة والجملة بالصوت الأرعن، وهو العبارة الفضة الغليظة؟ لا.
هذا لا يجوز، فهذا عجبٌ عجابٌ في كلا الطرفين، بعضهم ينكر على أبيه إذا فعل شيئاً مباحاً، وتجده يعقه ولا يحترم أمره ونهيه، وبعضهم يظن أن فعل والده للمعصية موجبٌ أو مؤذنٌ بإسقاط جميع حقوقه، ومن تأمل قول الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] إذا أمرا بالشرك، إذا أمرا بمعصية الله فلا تطعهما، ولكن يبقى الجانب الآخر: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] والمصاحبة بالمعروف تعني: طاعتهم، تعني: خدمتهم، تعني: الرعاية، تعني: الدعوة، تعني: الاهتمام والرفق واللطف واللين والمحبة.
إني لأعجب من شابٍ اتصلت أخته إلي وقالت: إن فلان بن فلان الذي تعرفه وهو ممن عليه سيماء الصلاح، يرفع صوته على أبيه، ويهز يده أمامه، ولا يكترث لأمره، ولا يلقي له بالاً أبداً، فقلت: ولم يا أمة الله؟ فإني لا أعرف عن فلان إلا كل خير.
قالت: لأن والدنا مسرفٌ شرهٌ في التدخين على ما هو عليه من صلاحٍ، بعض الناس مبتلى والعياذ بالله، قد تجده محافظاً على الصلوات وصاحب صدقات وأعمال خيرة، لكنه ابتلي بمعصية من المعاصي، هذا الأب قد ابتلي بشرب التدخين، فما كان من ولده إلا أن أغلظ عليه إغلاظاً عظيماً، وأثر في فؤاد الأب، بل وكسر قلبه، وذلك لا يجوز البتة، ولما سألته أبدى شيئاً من الاعتذار ووعد بعدم معاودة ذلك.
الشاهد أيها الأحبة: أننا حينما نمارس ونطبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنزل لا نتصور أننا في صالون ونأمر وننهي، ولا نتصور أننا في سيارة، أو نأمر الإخوان، أو القريبات أو العمات، أو الذي معنا في إطار الأسرة أن نأمرهم من علو، ينبغي أن نجعل مع الحسبة دعوة، وكلكم يعرف أساليب الدعوة وأهمها: العلم والحكمة والبصيرة، والرفق واللين والشفقة على المدعو، الحرص على المدعو ألا يفلت من يدك، ينبغي أن يتلطف الكبار في دعوة الصغار بالرفق واللين؛ لأنه أدعى إلى القبول وعدم النفرة خاصة إذا كان الولد في مرحلة المراهقة، وهذه قضية أخرى.(163/25)
دعوة الآباء للأبناء
الأولى: دعوة الأبناء للآباء، وهنا دعوة الآباء للأبناء، ينبغي للآباء وينبغي للأمهات أن يتلطفوا في دعوة الصغار، وأن يكون ذلك بالرفق واللين، وأن يكون ذلك بالترغيب بالجائزة بالمكافئة بالتشجيع بالإغراء بالأمور التي تقربه وتحفزه إلى أن يفعل من الخير الذي تصبو إلى أن يفعله.
وكذلك بشيء من الشكر والثناء، والتقدير والإعجاب، وإعلان ذلك بين أفراد الأسرة أن فلاناً تجنب الكذب وبإمكانه أن يكذب، أن فلاناً رد الأمانة وكان بوسعه أن يأخذها ويجحدها، أن فلاناً لم يفعل كذا وكان بوسعه أن يفعل ذلك، هذه من الأمور المهمة والجلية.
أيها الأحبة: ربما يتحول الأمر والنهي للأبناء، وخاصة المراهقين، ربما يتحول من الشفقة والخوف عليهم والحرص على سلامتهم إلى التحدي وإثبات الوجود وبيان القوة واستعراض العضلات، وحينئذٍ يبدأ مسلسل المطاردة بين الأب وابنه والأم وبنتها، أو بين الوالدين والأولاد، كيف يأتي ذلك؟ حينما يسمع الأب أن الولد قد ارتكب منكراً من المنكرات، ثم يأتيه بكل ما أوتي من صوتٍ عالٍ، وأغلظ عصا يملكها، وبأقسى عقوبة يملكها، ثم يلوح ويزمجر ويزأر ويصول ويجول على هذا الولد، لأفعلن بك، ولأقطعنك إرباً، ولأجعلنك أسوة، ولأحبسك، يريد الأب في صورة كهذه أن يثبت جدارته، أن يقول: نحن هنا، الأسد في المنزل رب البيت لم يغب إن المسئول عن البيت حاضر، ولا يمكن أن تطوف هذه الألاعيب، ونحو ذلك، ولا يعلم أنه في المقابل يزرع حلبة للمصارعة يدخل هو وولده في جولاتٍ خاسرة تنتهي بهروب الولد من المنزل، تنتهي بكراهية الولد لأبيه، تنتهي إلى عدم الاستجابة، حتى ولو أذعن أمامه، فإذا خلا بنفسه ورأى أن الحسيب أو الرقيب من الوالدين أو ممن يبعثهم الوالدان عيوناً على هذا الولد قد ابتعدوا، حينئذٍ.
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
إنني أحذر من هذا الأسلوب في التربية، أحذر الآباء الذين يظنون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة يعني أن تجرب أغلظ العصي، وأن تجرب أشد أنواع العقوبة، وأن تلوح بأقسى العبارات، وأن تهدد بغليظ القول وفظ الكلام، إن ذلك يحول ولدك إلى ندٍ لك، بالأمس كنت أباً تأمر فيأتمر بأمرك، وتنهى فينتهي عما نهيت عنه، وتدعو فيستجاب لك، وتتكلم فينصت لكلامك، أما إذا بدأت الاحتساب في المنزل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة، إذا بدأت بهذا الأسلوب، فإنك ترفع ولدك من درجة البلوى إلى درجة الند والقرين والمنازلة، وتدخل أنت وإياه في حلبة، ثم كلٌ منكم يقول: من الذي ينتصر؟ وربما انتصرت على ظاهر الحلبة وأمام الجمهور أمام الأم والإخوة والأخوات، ولكن الابن قد جعل الشيطان ينتصر لما خلا به، وجعله يفعل ألواناً من المعاصي والمنكرات، بعضها لا يميل الولد إلى فعلها، ولا يرغب أن يقع فيها، غاية ما هنالك أنه أراد أن ينتقم من أبيه، أراد أن يثبت لوالده الذي هدده ورفع الصوت عليه أنه قادرٌ على أن يفعل كل ما توعده على فعله، ربما جريمة واحدة، فسرد عليه الأب جملة من الجرائم، إن فعلت كذا وإن فعلت كذا وإن فعلت كذا وعد عليه عشر جرائم، ثم قال: لأقطعنك وأذبحنك وأطردنك وأسجننك وأجلدنك وأفعلن بك، والولد مشكلته واحدة، وهذا عد له عشراً، ثم يدخلون جولة أو حلبة المنازلة والمصارعة، ثم ينتقم الولد لرد الاعتبار وهذه الشخصية التي كسرت وحطمها الأب، خاصة إذا كان الأمر والنهي أمام الأقارب أو أمام الجيران، إن بعض الآباء أرعن في أمر ولده ونهيه، فتراه لا يحسن النصيحة والأمر والنهي إلا أمام الناس، بل ربما الولد يحتاج أن تأمره وتنهاه على خلوة حتى وإن كانت المشكلة على إطار البيت، حتى لو لم يكن في البيت إلا الأب والأم والإخوة والأخوات، وبلغوك قالوا: إن فلاناً فعل كذا، خذ فلاناً على انفراد ولا يلزم أن يكون من أول يوم أو ثاني يوم، خذه في الوقت الذي تراه قد هدأ وسكن واطمأن، ثم تنفرد به، يا بني! بلغني أنك فعلت كذا، وأنت تعلم حبي لك، وتعلم شفقتي عليك، وتعلم أنني ما أسهر الليل إلا لأجلك، وما أكدح في النهار إلا لأجلك، وتعلم شفقتي بك واعتزازي وفخري بصلاحك واستقامتك، وخوفي عليك من قرناء السوء، يا بني! هل فعلت ذلك؟ يقول لك: نعم، فعلت ذلك، فتقول: يا بني! إني أخشى عليك، وتعلم أن هذا أمرٌ قد حرمه الله، وقال الله عز وجل فيه كذا وتعلم أن هذا قد حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وتعلم يا بني أن مغبة هذا الأمر خطيرة، وأن عاقبته وخيمة، وأن الأمر ربما وصل إلى كذا وكذا وتكون العاقبة والحال، ثم بعد هذه النصيحة الرقيقة اللطيفة خذ ولدك هذا واحتضنه وقبله على خديه، وقبله على جبينه، واجعل رقبتك على كتفيه شيئاً ما، واسأل الله وأنت تحضنه، واجعله يسمع هذا الدعاء: اللهم لا تخزني فيه، اللهم لا ترني فيه يوماً أسوداً، اللهم لا تفرح عليه حاسداً، اللهم لا تشمت به عدواً.
اجعله يسمع هذه الدعوات التي هي جزءٌ من النصيحة، أتظن أن ولدك بعد ذلك يجرؤ على أن يخالف أمرك؟ لا والله، لكن كيف يجرؤ على المخالفة إذا قلت: يا أنا يا أنت في البيت، يا رأسي يا رأسك، لا نجوتُ إن نجوتَ، لا يصلح هذا الأسلوب! أو تقول لأمه: أخبريه أن الليلة هي الفاصلة هي القاضية هي المهلكة، بعض الأبناء يهرب ويسعى في الشوارع ضائعاً تائهاً هائماً على وجهه، ثم يأتيه بعض قرناء السوء ويأخذونه ويسكنونه يوماً أو يومين، وربما تفاقم الأمر وكانت المسألة إنكار معصية صغيرة، ثم أوقعوه في فواحش، ثم أوقعوه في كبائر، ثم جعلوه ربما مطية يروج، ويبيع ويشتري، ويوزع ويقسم، ويناول مخدرات ومحرمات ومصائب كبيرة.
ونحن -أيها الأحبة- في مجتمعٍ نتصارع مع عناصر شتى في تربية الأولاد، من منّا يقول: أنا الذي أنال نصيب الأسد مع أولادي؟ المدرسة لها نصيب، والمنزل له نصيب، وربما الجيران والأقران في الشارع لهم نصيب، وكلٌ له نصيب، وبعض البيوت لا تجد للآباء فيها نصيباً، النصيب لفئتين: للقنوات الفضائية، وللمدرسة والخادمة ذات النصيب الباقي، والأب لا يعرف شيئاً من ذلك.
أيها الأحبة في الله! ختاماً أؤكد هذه المسألة وهي أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان المنكر من الوالدين، فلا بد أن نعالجه بمزيدٍ من الطاعة، في طاعة الله، ومزيد من الحب والهدية، والعناية والرفق واللين، والكرامة والتودد، وإننا مهما تكلمنا عن البر وفضله وثوابه وعظمة وجزائه عند الله عز وجل؛ إلا أن كثيراً منا لا يحسنون كيف يتقربون إلى آبائهم وأمهاتهم، هل فينا -يا عباد الله- من رأى والده ذات يومٍ قد مد رجله، فأقبل فقبل رجل والده؟ هل فينا من رأى ذات يومٍ والدته قد مدت رجلها، فنزل وخر وقبل رجل والدته؟ هل فينا من يتعود أن يقدم حذاء والديه إذا أراد أن يخرج أو يدخل؟ نعم.
فينا وقليلٌ ما.
إذا جلست على طعام هل تقدم أطيب ما فيه لوالديك؟ إذا وجدت نفسك تشتهي هذه القطعة، ثم امتدت يدك إليها تقول: مادامت لذيذة في نفسي وفي خاطري فإنها في فم والدي أو والدتي ألذ؟ هل تتلطف في أن تقدم طيب الطعام لهم؟ هل تهيئ الطعام إذا كنت على فاكهة، أخذت تقطع من هذه الفاكهة وتلينها وتجعلها قطعاً صغيرة ورقيقة حتى يأكلها متلذذاً بها، أو أن الواحد يقعد كأنه طاحونة بر، وعنده شاي، ومركب له طقم ضروس، ما يحسن الأكل، ثم يقوم قبل والده؟ هذا ليس صحيحاً، هناك مسائل نحتاج أن نتفنن في التودد للوالدين، أن تجد على الوالد ثوباً خشناً ثم تأتي فوراً بثوبٍ ناعمٍ رقيقٍ طيب تقول: يا أبت! هذا ألذ هذا ألطف، إن الذي يقدم البر لوالديه، بإذن الله إذا أمرهم بأمرٍ ائتمروا، فيه خير، وإذا نهاهم عن منكر انتهوا؛ لما يرونه من أن التزامه قد دعاه إلى البر والعناية والرعاية، أما هذا الذي لا يعرفهم إلا افعلوا ولا تفعلوا، فإذا جاء البر ما عرفوا منه شيئاً، فقولوا لي بالله وأسألكم بالله، كيف يأتمران بأمره، وينتهيان عن نهيه؟! هذه مسألة مهمة جداً.(163/26)
عدم نشر صفات الوالدين بين الأقارب
وهنا مسألة أخرى أيضاً: إن بعض الأبناء إذا رأوا على والدهم شيئاً، أو بعض البنات إذا رأين على أمهن شيئاً سرعان ما يقولون هذا للأقارب، ويظنون أن ذلك ليس بغيبة في حق الأب، ويتكلمون فيه: أبونا بخيل، أبونا أرعن أبونا قاس أبونا فيه كذا والدنا فيه كذا والدنا فيه كذا، وهذا لا يجوز، إلا في مقامٍ ضيقٍ تضيق الحيلة فيه مع الأولاد، فيضطران للكلام طلباً لعلاج المشكلة التي يعيشونها مع الأب والأم، وما سوى ذلك فلا يجوز.
إنك لتعجب من أناسٍ يهون على أحدهم أن يشرح عرض والده أو والدته مما يلقى من المعاملة معهم، ولو فتشنا في الأمر لوجدنا أن شيئاً كبيراً من المسئولية وحملاً ليس بالقليل منها يتحمله؛ لسبب انصرافه عنهما وعدم العناية بهما والرعاية لهما، فذلك أمرٌ مهم.(163/27)
أسلوب الاحتساب من قبل الآباء والأمهات
وفي المقابل عنايتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الآباء والأمهات على الأبناء، ينبغي أن نلتفت على جانبٍ مهم وهو: جانب الرحمة وإظهار المحبة والخشية، لا إظهار التحدي والانتصار، وتلك مشكلة كبيرة إذا رأى الولد أن الأب يأمر وينهي، وإذا رأت البنت أن الأم تأمر وتنهى من منطلق السلطة، والسيطرة والتحدي، وإثبات الوجود قالوا: لا يمكن أحد يعبث بالبيت ما دام الرأس يشم هواء، وأن الأمر والنهي له، فثق أن المسألة تتحول من أمر ونهي إلى تحد، ويدخلان جميعاً في حلبة مصارعات، المنتصر فيها خاسر، والخاسر فيها مهزوم ضائع، وتلك والله مشكلة، ينبغي أن يكون الأمر والنهي في الأسرة من قبل الآباء على الأبناء بإثبات المحبة والشفقة بكل الأدلة والبراهين والتأكيد على ذلك، وبسط هذا بكل عبارة وبكل دليل، وبما يدل عليه من التصرفات، ومن الإشارات، ومن الأعمال الطيبة من الرفق واللين حينئذٍ يستجيبون لهم، ولا يوجد علاج كالحب في معاملة الأولاد لأمرهم ونهيهم، يقول لي أحد الإخوة وكان يشكو من معاملة واحدٍ من أولاده، يقول: أعيتني الحيلة، وضاقت بي السبل في إصلاح هذا الولد، فعرضت أمره على طبيبٍ يعنى بالمشكلات النفسية وأمور الشباب، فقال: هل عالجته بالحب؟ أثبت له وتأكد أن الرسالة وصلت أنك تحبه غاية المحبة، لأن بعض الأبناء يظن أن أباه لا يتمنى إلا هلكته وخسارته ومحقه، وطرده وذلته، وكل أمر سيئ فيه، لو أخذت تكلمه قليلاً يقول: لا يا أخي هذا كلام طيب وجيد، لكن أنت لا تعرف أبي هذا يحقد علي ويكرهني، إلى درجة أنه يقول: أنا أشك أنني من صلب هذا الرجل، من شدة القسوة والعياذ بالله، وهذا أمر لا يليق؛ والسبب فيه ربما يكون في جزءٍ منه يعود إلى الأب الذي لا يعرف التعامل إلا بالوعيد والتهديد والزمجرة والعقوبات القاسية، كأنه جلادٌ في سجن، أو قاضٍ في محكمة، لا يعرف إلا أن يصدر أحكاماً وقضايا على هذا فقط، لا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسرة، يحتاج إلى رفق ولين.(163/28)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإخوة والأخوات
وهنا مسألة أخرى: الأمر بالمعروف بين الإخوة والأخوات، إذا ظهر لأحد الإخوة مشكلة على أخته، فليتأمل الأمر ولينظر المصلحة، ربما كانت المصلحة إذا كان الذي اطلع عليها رجلاً متزناً عاقلاً قادراً على التصرف ربما المصلحة ألا يطلع عليها الأب، وحينئذٍ تعالجها الأم والأخ بطريقتهم المباشرة، وربما بعض الأمور تسند المهمة فيها إلى الأم، ومن لم يستطع أن يتخذ القرار، فعليه أن يستشير اللبيب المجرب العاقل.
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وهذه مشكلات وتقع، وبعض الناس ربما أراد أن يعالج مشكلة ففجر منها مشكلاتٍ ولدت مشكلات أخرى، وذلك لعدم قدرته على الأمر والنهي، وعدم تصرفه المناسب، وعدم الحكمة التي تعني: فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.(163/29)
كيفية إزالة المنكر في البيت
أيها الأحبة: ينبغي أن نتهم أنفسنا بالتقصير، وأن نتدبر ما في بيوتنا من المنكرات، ولنتأكد أننا بحاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا أردنا أن نزيل منكراً في البيت، فما أجمل أيضاً أن نجعل هذا قراراً جماعياً بقناعة كل أفراد الأسرة نجمع أفراد الأسرة: يا أبناءنا! يا أحبابا! إن الله عز وجل يقول كذا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا وعندنا هذا المنكر يخالف أمر الله ورسوله، هل تريدون أن نعصي الله أم نطيع الله ورسوله؟
الجواب
سيجمعون ويقولون: نريد أن نطيع الله.
طيب، ماذا تقترح يا فلان؟ ماذا نفعل في هذا؟ ماذا تقترحين يا فلانة؟ سيقولون: نقترح جميعاً إبعاد هذا المنكر، نقترح جميعاً أن يعامل بهذه الطريقة، نقترح جميعاً فإذا لم يكن الجميع على قلبٍ واحد، فليكن الذين على هدى وعلى صراطٍ مستقيم من أهل البيت أن يصلحوا الحال، وأن يتخذوا موقفاً ولو رقيقاً لطيفاً، في أحد البيوت أبٌ مولعٌ بالدش والقنوات، وأسرته صالحةٌ، والأم مؤمنة تقية، وقد أزعجهم وجود الدش، والوالد مصر على بقائه، فتصوروا ماذا حصل؟! اجتماع قصير وقرر فيه المجتمعون بعد محاولات باءت بالفشل في إقناع الوالد بإبعاد هذا الجهاز (مستقبل القنوات الفضائية) قالوا: قررنا أن نتوجه إلى أبينا بالالتماس الآتي: أيها الوالد الحبيب الكريم! نريد منك أن تخرج هذا لتجعله في طرف الدار بأقصى مكانٍ من البيت، وألا يكون لنا فيه صلة ولا علاقة خاصة الصغار والأطفال، فما كان منه إلا أن استجاب.
نعم أيها الأحبة! قضايا الإنكار في البيوت تحتاج إلى لين وحكمة ورفق، وإلى لطف وعناية وموعظة حسنة، أقول: لا ندعي الكمال في بيوتنا، ففيها من الأخطاء، وربما فيها من المخالفات والمنكرات التي ينبغي أن ننتبه لها.(163/30)
بعض المنكرات الموجودة في البيوت
ولو سردنا على سبيل المثال جملة من المنكرات التي ينبغي أن نأتمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر من أجل سلامة بيوتنا منها، لعددت لكم ما يلي:(163/31)
منكر القنوات الفضائية
المستقبلات للقنوات الفضائية والشاشة، أليست منكراً يعرض على الأبناء سماً زعافاً يقتلهم ثم يذبحهم بإرادتنا ليل نهار؟ بلى والله، إنه لشرٌ، والعجب العجاب من أبٍ يرضى لأبنائه وبناته أن يمكثوا الساعات الطوال أمام هذه الشاشة وهو لا يدري ماذا يقال لهم! أسألكم بالله لو طرقت الباب على واحدٍ من الآباء وقلت له: أريد أن أتحدث مع ولدك ثلاث ساعات على انفراد أرجوك لا تتدخل ولا تسمع ماذا أقول، هل سيطمئن هذا الأب إلى هذا العرض؟ هل سيوافق على أن أخلو بولده أو يخلو أحدٌ بولده ليحدث ولده ساعتين أو ثلاث؟ لا.
ماذا ستقول له؟ وما الغاية؟ وما الحاجة إلى هذه الجلسات الطويلة؟ وماذا عندك؟ وماذا وراءك؟ إذا كان بعض الآباء أصابه الشك من لقاءات ولده ببعض الأخيار، فأقول: سبحان الله! كيف ترفض ذلك وتقبل أن يبقى ابنك أو ابنتك أمام القناة الفضائية خمس ساعات أو ست ساعات، من الساعة التاسعة إلى الساعة الواحدة أو الثانية في الليل، أربع ساعات أو خمس ساعات؟ كله تعليم وغرس؛ البنت تتعلم كيف تخرج؟! تتعلم كيف تعاكس؟! تتعلم كيف تخدع؟! تتعلم كيف تحتال؟! إذا كان بجوار هذه القناة هاتف أخذت الهاتف وأخذت تتصل: ممكن نشارك، أنا أقول، أنا أفعل، أنا أنا إلى غير ذلك، هذا يجوز يا عباد الله؟! أليست مسئولية؟ أليست قضية تحتاج إلى أمر ونهي؟ وبعضهم يقول: مشغولون والله ما عندنا وقت لهذه القضايا:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه وحيدا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
أو في المقابل يقول: لا.
نحن ربيناهم تربية ممتازة، أنا أثق بأولادي، وأثق ببناتي، هذا لا يخطر أن يقع لأولادي أو بناتي، سبحان الله! من المخلصين الأخيار! من المصطفين! معصومين! ما يمكن أن ترد الصغائر والكبائر؟ ما هذا الظن الذي تظنه وأنت تقرب منهم السم الزعاف وتقول: لا.
معصومون لا يمكن أن يفعلوا ذلك، هذه من المصائب والمشكلات الطائفة في البيوت والمنكرات التي يجب أن يتعاون أفراد الأسرة أو الأقارب على إزالتها.(163/32)
منكر خلوة السائق بالمرأة
من المنكرات: خلوة السائق بالمرأة، أن يخرج بها وحده، أو يخلو بها في البيت، أو السائق يدخل في آخر الدار، من غير وجود محرم بحجة أنه ينزل المقاضي ويرد المقاضي، قليلاً قليلاً، رويداً رويداً؛ ويطول السهاد، ويدنو الوساد، ثم تقع المصيبة الكبرى، ويصبح السائق فترة من الفترات ما عنه غطاء، كما يقول العامة إلى أن تقع المصيبة الكبرى.(163/33)
منكر تقليد الغرب والتشبه بالكفار
تقليد الغرب والتشبه بالكفار في بعض البيوت؛ انصياع وانسياق وانهزام أمام حملات التغريب، وقد قلت غير مرة: كما أن المجتمع اليوم يقام في أسابيع للتوعية أسبوع الشجرة أسبوع المساجد، أسبوع التحذير من الإيدز، أسبوع كذا، نحن بحاجة إلى شيء اسمه أسبوع التحذير من الغرب والتغريب، والأمة على خطر، والتغريب لا يمكن أن يأتيك بصورة رجل أعجمي فرنجي يقف في بيتك ويقول لأبنائك: افعلوا وافعلوا، لا، يدخل التغريب من خلال مطاعم، يدخل التغريب من خلال وجبات، يدخل التغريب من خلال مجلات، يدخل التغريب من خلال قصص، يدخل التغريب من خلال قنوات، من خلال أشياء كثيرة، أنت بماذا تفسر هذا الانصياع والانسياق الهائل؟ ولو سألت محللين وأخصائيين لأخبروك أن من أسرار اللهث الذي لا ينقطع أمام المطاعم ذات الشهرة الغربية هي: وجود استعداد في النفوس، استعداد لتلقي ما يوجد عند الغرب، لو أن الغرب أمة منهزمة لا يلتفت لها، لو فتحت مطاعم مشهورة، لكن ليست من أمريكا وأوروبا لكنها من سيراليون، ومن غينيا وبيساو ومن كوناثري ومن الجابون وساحل العاج، من يلتفت لهذه المطاعم الإفريقية التي جاءت من دولٍ متخلفة فقيرة؟ لا يلتفت أحد لها، لا يوجد في النفوس رصيد من الإعجاب بها، لكن عندما جاءت هذه المطاعم من دول ذات قوة وذات بأس وسطوة وسيطرة، وصلت الرسالة إلى القلوب عبر القنوات الإعلامية، ولأجل ذلك أصبحت مصيبة.
في الصين الكبرى التي عدد سكانها مليار ونصف المليار، وربما الآن قاربوا اثنين مليار الصين الكبرى لما فتحت أول سلسلة مطاعم ما تسمى: (مكدونوم) وقف الجيش بالقوة أمام الناس، لأن الناس في حصار شيوعي ويريدون الانفتاح أمام الغرب، فيعرفون أن القضية ليست قضية أن الناس تريد أن تأكل خبزة في وسطها قطعة مما يسمى بالهمبرجر أو بالدجاج أو بالسمك أو غير ذلك، لا، القضية أنه يوجد اتجاه يوجد انسجام توجد رغبة يوجد تلذذ يوجد ارتياح للغرب، وأنا لا أقول: هذا حرام، لا يقول أحد: والله جاءنا شيخ وقال: إن (وينديز) و (بيتزا هت) و (بتزإن) و (مكدونم) حرام، لا، ما قلنا ذلك، لكن أقول: إن الانسياق: تأتي للولد بالبر الطيب، والسمن والأكل الطيب، المتعوب عليه النظيف الذي لا شك أنه مفيد وقيمته الغذائية عالية، لا يقبله، ماذا يقبل؟ يقبل أكلة قد ثبت علمياً من قبل متخصصين أو محللين أن فيها من الأضرار وهي خالية من الفوائد، منخفضة السعرات الحرارية، منخفضة كذا الشيء الكثير تجده يقبل بها، وأقول: إن الحاجة أن نعظم في نفوسنا حب المسلمين، وحب الإسلام، وأمور الإسلام، وآداب الإسلام، وأن نقلل من شأن أمور الغرب، خذ على سبيل المثال ما يسمى بـ (البرنيطة) التي في فترة ما قلَّ أن تجد شاباً في المرحلة الابتدائية والمتوسطة إلا على رأسه (برنيطة)، ليست (البرنيطة) محرمة في ذاتها، لكن الهزيمة النفسية، لما وجدت (البرنيطة) في القناة الفضائية قبل أسبوع، لبست هنا بعد أسبوع.
وتلك مشكلة يا إخوان! وينبغي أن نلتفت إلى تأثر المجتمع، أحد المسئولين في فرنسا وقف -وهم كفار يشتكون من كفار- يقولون: مشكلة عندنا خمس قنوات تلفزيونية فرنسية ولا يزال الشعب الفرنسي يسجل معدلات طلب على الأفلام الأمريكية، حسبك من كافرٍ يشكو من كافر، فما بالك بالمسلم إذا شكا من الكافر، مع أن بينهم وعندهم ولديهم من وسائل التحدي في شتى المجالات ما لا يوجد عندنا في مواجهاتهم، فيا أحباب! هذه مسألة عظيمة وهي من المنكرات التي ينبغي أن نلتفت لها، إذا يوجد شيء معين يكفي أنه تقليد غربي، علينا أن نبرأ منه، وأن نعلم أولادنا كيف يكرهون الكفار، وكيف يكرهون الكفر، وكيف لا يقبلونه، مثلاً: بعض الناس تؤتى إليه بالهدايا فيما يسمى: بعيد الكرسمس، أو عيد رأس السنة، أو ميلاد المسيح، ويقول: بمناسبة عيد المسيح صديقنا الأمريكي أو النصراني قدم لنا هدية، ويحضر الكعكة أمام الأطفال وعليها صورة (بابا نويل) أو الأم (تريزا) أو نحو ذلك، وتلك مشكلة، ينبغي أن يقول لهم: هذا شخص يعمل معنا، يحسب أننا غير فاهمين، وأعطانا هدية بمناسبة الكرسمس، ثم اذهب أنت وعيالك وارموها في الزبالة والعيال ينظرون، حتى لو كانت أجمل أنواع الكيك وأطيبها، ليست القضية أن تخسر كعكة بمائة ريال، القضية أن تقتلع شيئاً اسمه تقليد غربي يوشك أن يغرس في نفس أولادك، فكل قضية متعلقة بغرس تقاليد غربية ينبغي ألا نوردها، وأضرب لكم مثلاً: لو قلنا: هذا زي يلبسه البعثيون العراقيون نريد من شبابنا أن يلبسونه، أعوذ بالله! هؤلاء البعثيون الذين دمروا الناس وتسلطوا على الناس وجروا الأساطيل، وأنشبوا الحروب، وفجروا القضايا، وجوعوا المنطقة، تريد منا أن نقلدهم؟! لأنك تكرههم، ولذلك ما تقبل أن تقلد شيئاً من تقاليدهم أبداً، حتى الفنانين يعتزلون الفن حقهم، والرياضيين يقاطعون المنتخب حقهم، وكل على مستواه يقاطع ما يقابلهم، لكن مسألة الحب لما كان في النفوس شيء من الرضا في الغرب ما كان هناك إشكال أن يقلد الغرب سواءً في بنطلونه، أو في قميصه، أو بلوزته أو في الكاب أو في غير ذلك.(163/34)
منكر ترك الصلوات مع الجماعة والجمع بين الصلوات
أقول: هذه من المنكرات لمن وجدت في بيته أن يعتني عناية فائقة بتنظيف البيت وتحذير الأسرة منها، ترك الصلوات مع الجماعة من المنكرات الخطيرة الكبيرة العظيمة التي توجد وكثيرٌ من الآباء لا يلتفتون لها، ولاحظ صلاة الفجر وصلاة المغرب، صلاة المغرب صفوف الأولاد والمراهقين والكبار يملئون صفين وثلاثة في المسجد، والفجر ما تجد إلا ما دون العمود، أين الأبناء؟ تخطفهم الطير؟! هووا في وادٍ سحيق؟! ماتوا؟! هلكوا؟! خسف بهم؟! المصيبة لا يوجد: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] العناية بالأمر هذا لا توجد، وهو من الأمر التي يلزم الأسرة أن تعتني بإنكاره، وتأمر الذرية بالصلاة والبنات خاصة، بعض البنات فرض الظهر يلحق العصر، وفرض العصر يلحق المغرب، والأم لا تدري هل ابنتها صلت الفجر أم لا؟ قامت أم لا؟ هل أيقظتها أم لا؟
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
إذا كانت الأم لا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فلا تسأل عن ذهاب البنت إلى المدرسة وهي لم تصل الفجر، إذا كانت الأم لا تذكر صلاة العصر إلا إذا دخل المغرب، فلا تسأل عن أن البنت أن تجمع بين المغرب والعشاء، وتلك من المصائب الموجودة في بعض البيوت، وهل تعلمون أن بعض البيوت فيها من الأسر من يؤخرون صلاة المغرب والعشاء إلى آخر الليل، ويقول: إن شاء الله مقصرين وسيتوب الله علينا، ولا يوجد أحد يأمر وينهى وتلك مصيبة، وتتحمل المرأة المسلمة مسئولية كبيرة.(163/35)
منكر اختلاء الأولاد بالهاتف
بعض البيوت فيها شيء مزعج وهو الخلوة بالهاتف، كل واحد معه بالحجرة هاتف، الولد الذي عمره ثلاث عشرة سنة موصل لحجرته هاتف، والبنت التي عمرها ست عشرة سنة موصلة لحجرتها هاتف، لماذا كل واحد في حجرته هاتف؟ أنا لا أدعو إلى الوسوسة والشك في الأولاد والبنات، لكن لماذا نفتح الباب للشر؟! قالوا لأحد الأعراب: إذا وطأت الجني بسمِ، قال: لا تطأ الجني ولا تسم، لماذا تدخل الهاتف في حجرته ثم تقعد تحذره؟! الهاتف في الصالة في المكان المنظور المشهود أمام الجميع، والذي يريد أن يتصل يتصل هنا، في هذا الوقت، في هذه اللحظة، في هذا المكان، وإذا بدأنا نلاحظ طول المكالمات عرفنا أن المسألة فيها خطر، أما أن نقول: والله ما ينبغي أن الواحد يشك، أعوذ بالله من الوسوسة، ما ينبغي أن نشك في أولادنا وبناتنا، ما ينبغي إلى متى؟ إلى أن نجد غريباً في البيت؟ إلى أن نجد البنت خرجت في وقت متأخر؟ إلى أن نبحث عن البنت في ساعة فلا نراها في البيت ولا نعلم أين ذهبت؟ تلك مصيبة وأي مصيبة، بدعوى أن أولادنا لا يزالون وما يزالون بخير، ما عليهم إلا كل خير، لا تسيئون بهم الظن إلى غير ذلك.(163/36)
منكر وجود الأصنام والمجسمات المحرمة والتدخين
الأصنام والمجسمات المحرمة، بعض البيوت تعجب وتستوحش إذا دخلتها، هذا صنم وهذا مجسم وهذا وهذا؛ فهذا أحضروه من فرنسا، وهذا من باريس، وهذا هدية، يا أخي! الأصنام لا تجوز (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة) لا تدخل الملائكة في هذا البيت، منكرات ينبغي إزالتها، وتجدها موجودة في كثير من البيوت، التدخين وحدث ولا حرج وقضية طويلة إلى درجة أن بعض الآباء لا يبالي أن يدخن السيجارة أمام الأولاد ويتفنن فيه لأجل أن يضحكوا، فمرة تجده يخرج الدخان من أنفه، ومرة من فمه ومرة من هنا ومرة من هنا، لكي يجدونه أمراً يعجب منه، فيذهب الأولاد ليتعلموا ويفعلوا ما كان يفعل أبوهم من قبل.
إذا كان رب الدار بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ(163/37)
منكر وجود الخادمات الجميلات في البيت مع المراهقين
وجود الخادمات الجميلات أمام المراهقين، والله يا إخوان قد أخبرني شاب، عندهم في البيت خادمات، يقول: لا أحصي كم من المرات فعلت ما فعلت مع الخادمات، هذه من جنسية، وهذه من جنسية، ولما تحققت وتأكدت ووقفت على البيت، وإذا به للأسف، لا يحتاج الإنسان أن يخوض بالكلام حرصاً على ألا تشيع الفاحشة بالمؤمنين، والسبب شاب مراهق ووسيم وجميل، ويحضر في البيت خادمات جميلات من جنسيات مختلفة، وبعض البيوت قد جمعوا خادمات جميلات مع أشكال وألوان في البيت، وتلك مصيبة أيضاً والعياذ بالله، فإذا كان ولا بد واحتاج الناس إلى الخادمة فكبيرة لا تشتهى ولا يطمع فيها، مع محرمها ولا يخلى بها، ويكون التعامل في حدود، بعض البيوت تفاجأ إذ بالخادمة داخلة في المجلس وتضع الشاي، وجاء الولد وقال: لازم تجلسي وتصبي لنا الشاي، تلك مصيبة، ولماذا لا نلتفت وندرك أن هناك منكرات ينبغي أن نعتني بها؟(163/38)
منكر الاختلاط في المناسبات
مسائل الاختلاط في المناسبات، بعض البيوت أصبحوا يتهاونون بمسألة الاختلاط، إما إلى سن معينة، خمس عشرة سنة؟ ما زالوا صغاراً دعوهم يجلسون مع بعض، تلك مصيبة، لكن إذا بلغ انتهى الأمر، بل وقبل البلوغ ينبغي أن يحضَّر نفسياً للبعد عن مجتمع الحريم والنساء، وتحضَّر البنت نفسياً للبعد عن مجتمع الرجال والذكور والأولاد، حتى نكون على بيئة طاهرة نقية نظيفة ما نخشى عليها شيئاً.
المجلات الخليعة يأتي بعض الآباء أو الإخوة ويرمي بها، ينبغي أن ننتبه هذه من المنكرات الموجودة.
الغيبة والنميمة في بعض الجلسات، عدم التفريق بين الصغار في المضاجع، وقد مر بنا الكلام عن ذلك.(163/39)
الأعمال الوقائية في بداية تكوين الأسرة
ختاماً أيها الأحبة: هناك أمرٌ ونهيٌ وقائيٌ قبل وقوع المنكرات، وحتى لا نحتاج إلى كثير من العلاج، ونحن نستطيع أن ندفع الشر بقليلٍ من الوقاية، وذلك من بداية تكوين الأسرة وحلول الأحباب وتفتح البراعم منها، منذ دخول الزوج على زوجته ينبغي أن يكون الزوج لبيباً في معرفة ما تحتاج إليه الزوجة في بيان منفعته والأمر به، وبيان ضرره والنهي عنه، الزوج الذكي من أول مرة يدخل على زوجته يعرف المداخل والمسالك والأشياء الذي عند الزوجة تقصير فيها، ويبدأ من وقت مبكر (والعود على أول ركزة) مثلما يقول العوام، وليس تقعد سنوات ثم تبدأ تعدلها.
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب
تستطيع أن تقوم المرأة من بدايات الزواج، لأنها راغبة حريصة: ما رأيك فيني؟ لعلك أحببتني لعلي أعجبتك؟ تتمنى أن تتأكد أنه في ضمانات لاستمرار الحياة الزوجية معك، فإذا أثبت لها أن الضمانات موجودة شريطة أن يعدل هذا ويغير هذا ويصلح هذا، هي ستعدل وستتمنى كل ما تريد، وكذلك العكس؛ الزوجة ينبغي أن تكون لبيبة في إدراك ما يحتاج إليه الزوج في بيان منفعته، والأمر اللطيف بالعرض الظريف، في مصلحته ودعوة الزوج إليه بإذن الله عز وجل، وهنا مسألة -أيها الأحبة- نريد أن نعقد اجتماعاً في بيوتنا، البيت الذي لا يعقد فيه اجتماعات أعتبر أن هناك حلقات اتصال مفقودة، كل واحد تارك هذا يدخل في وقته وهذا يخرج، لابد أن توجد جلسة شبه يومية، إن لم تكن يومية، كل يومين كل ثلاثة أيام، جلسة ماذا عندك؟ وما هي أخبارك؟ وما هي الملاحظات؟ أعطني يا فلان! تقريراً على إخوانك، ووزع مسئوليات؛ أنت مسئول على اللمبات تطفؤها، وأنت على الشبابيك تقفلها، وأنت تأكد على الأبواب هي مغلقة قبل ما ننام، ووزع مسئوليات، وهناك اجتماع دوري مستمر على أساس تعرف ما الذي يدور في الأسرة، أما أنك ما عندك وقت تجلس، قد تكون مشغولاً، لكن لا يعني ذلك ألا تجتمع، نريد اجتماعاً، الأب الذي يريد أن يحقق شيئاً في بيته يحتاج أن يعقد اجتماعات دورية، الفنادق الناجحة تجتمع كل يوم، المكاتب الناجحة تجتمع كل يوم، الشركات الناجحة تجتمع كل يوم، كلٌ في دائرته، كلٌ في قسمه لمعرفة ماذا جد، وما الذي انتهى، وما الذي ينبغي أن يفعل، حتى يحافظ الجميع على مكاسبه، ومكاسبنا هم فلذات أكبادنا، هم من نرجو أن يكونوا عملاً صالحاً يستمر لنا بعد موتنا، فلا بد أن نجتمع بإذن الله عز وجل معهم على طاعة الله ومرضاته، ويتخلل هذا الاجتماع موعظة قصيرة، أو كلمة، أو شرح حديث، أو شرح آية، إلى غير ذلك، فيه نفعٌ عظيم بإذن الله.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، واجعلنا ممن يفوزون بهذا الثواب العظيم من عنده سبحانه.
أسأله سبحانه أن يجعل أنفسنا وأولادنا هداة مهتدين، صالحين ومصلحين، لا ضالين ولا مضلين.
كما أسأله سبحانه أن يحفظنا وأن يحفظ ولاة أمرنا وأن يوفق علماءنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا على طاعته، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(163/40)
ذئاب تحوم حول المرأة المسلمة
المرأة المسلمة مستهدفة اليوم أكثر من غيرها، وهناك أخطار كثيرة تهدد المرأة، منها: التلفاز الهاتف المجلات الغناء تتبع الموضة إلخ، فيجب على أولياء الأمور توجيه المرأة إلى النظر في الآخرة، وتربيتها على حب العفاف والتعقل، وهنا بيان للأخطار المحيطة بالمرأة وكيف نحاربها.(164/1)
أخطار تهدد المرأة المسلمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين إن الله عز وجل سائلنا عما استودعنا من الأمانات، فكلنا راع وكل راع مسئول عن رعيته، وإن من أخطر وأهم وأجل ما ولينا أمر بناتنا وزوجاتنا ونسائنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] فهي أمانة عظيمة، ومسئولية جسيمة، ولقد ضيعها كثير من الناس إذ جعلوا شأن المرأة خاصة والذرية عامة، الحبل على غاربة كل يفعل ما يشاء، ويغدو ويروح، ويظهر ويلبس، ويتصرف كيف شاء، وذاك والله خطر عظيم.
وإن من صور ضياع هذه الأمانة التي وليناها ما نراه من شأن النساء في ضياع أوقاتهن، وغفلة الرقيب أو الولي عنهن، يضيعون ذلكم الزمن الذي أقسم الله به عز وجل فتارة يقسم ربنا: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] ذلك الزمن يقسم الله به لشرفه وجلالة قدره ولكن ضيعه كثير من الأولياء، وكثير من الرجال والنساء، حتى إذا بلغ الناس مقام الحساب، وودعوا زمن العمل، أخذ الواحد يقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] أما الخاسرون الهالكون فهم في النار يصطرخون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ولن ينفع ذاك الصراخ، ولن يجدي ذلك الدعاء بالويل والثبور، إذ
الجواب
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
أيها الأحبة الزمن ضاع عند كثير من الرجال والنساء، والخطاب على عمومه لنا ولإخواننا وأخواتنا، للرجال والنساء، ولكننا نوصيكم بأن تضعوا مزيداً من الاهتمام لنقل هذه الوصية، ولفت تلك الضعينة، وتوجيه المرأة إلى الخطر الذي يحيط بها في الزمن الذي تضيعه، وستندم على ضياعه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].(164/2)
خطر الإعلام على المرأة المسلمة
إن من الصور المؤلمة التي نراها في حال الرجال والنساء خاصة ما يضيع من الأوقات أمام هذه الأفلام والمسلسلات، وذاك أمر قد عم وطم حتى أن بعض البيوت تصبح على البث وتمسي على نهايته، وإذا أغلقت موجة فأخرى، فهم في الرباط يتناوبون، حال أولئك المساكين من موجة إلى أخرى، ومن شاشة إلى أخرى، وقد تناسى أولئك أو جهلوا -وتلك مصيبة- أن تلك الأجهزة وما تبثه من الأفلام والمسلسلات أقسم بالله تعظيماً أنها خطر وإفساد، وما فيها من الإصلاح فشره يغلب على خيره، ذلك خطر عظيم، وتخريب عمَّ كثيراً من البيوت، فأفسد الزوجة على زوجها، وأخرج البنت على أبيها، وجرأ العاقل على المرأة المصونة، فمتى تتعلم المرأة الحياء والتلفاز يربيها، والشاشة توجهها، والبث يحيط بها ويحاربها.
تعلم بعض النساء كيف تخرج عن طوع الزوج، وكيف تهرب عن ولاية الولي، وكيف تهرب مع العشيق، وكيف يهدد الولد أباه، وكيف تحب الفتاة ابن الجيران، وكيف يغازلها خلسة عن أهلها، وكيف تتخلص المرأة من زوجها، وكيف يتخلص الرجل من امرأته، في تلكم الشاشات مسلسلات خليعة، وأفلام هابطة، وأغانٍ ماجنة، وبث مسعور، والأمة تحترق، والمقدسات مسلوبة، والرقاب تقطع، والدماء نازفة، والنساء تغتصب، فإنها لهجمة على هذه الأمة، تسلطت عبر السماء وأطباقها، وعبر القنوات وشاشاتها، ناهيك عما فيها مما يسمى بالغرام والحب والغزل، وفيه من الفساد فنون، وللإفساد أطور ومجون، وخروج عن أدنى حدٍ للحياء والأدب، وحدث ولا حرج، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فالعاقل -يا عباد الله- يتقي الله في نفسه، وفيمن ولاه الله من زوجة وأخت وغيرها، وليخرج ما يسمى بجهاز الاستقبال، وليتجنب هذا الدش الخطير الذي أفسد كثيراً من البيوت، وجرأ كثيراً من العفيفات، ذلكم خطرٌ من الأخطار يهدد مجتمعنا.(164/3)
خطر الهاتف على المرأة المسلمة
وأما الخطر الآخر فهو خطر الهاتف وما فيه من شر كامل، نعم الهاتف من المخترعات المفيدة، يوفر الأوقات، ويقصر المسافات، ويصلك بجميع الجهات، وربما استخدم في الأعمال الصالحات، ولكن بعض الناس -هداهم الله- استخدمه في أنواع من الشر عديدة، وكم كان ذاك الهاتف سبباً في تدمير بيوت بأسرها، وإدخال الشقاء والتعاسة على ساكنيها، وربما جرهم ليمتهنوا الرذيلة ويحترفوها، لقد سمعت بأذني قصص كثير من الفتيات وهي تتصل مستنجدة، وتتكلم مستغيثة تريد من يخرجها من مأزق وقعت فيه، فالعشيق المزعوم يهددها بالصوت والصورة، والزوج المتربص ربما لا يغفر خطيئتها، وربما كانت نهاية المسألة فضيحة لا يسترها إلا التراب، وسببها أن الأذن أدمنت السماع، واللسان أدمن الكلام، وتعود الرجل أو المرأة ضياع الوقت عبر هذا الجهاز فيما لا ينفع ولا يجدي كم ضيع فيه من الأوقات بمحادثات تافهة سببت للقلوب قسوة، وألهت عن ذكر الله، خاصة بين النساء، وكم من رجل دخل بيته، وقد ودع زوجته الصباح راضية مرضية، فآب إليها، فوجدها منقلبة ساخطة وهو يعلم أن لم يدخل عليها مع الباب أحد، لكن دخل عليها ذلك الثقيل بغير استئذان صوت عبر السماعة من صديقة أو قريبة أطالت معها الحديث فقالت لها: يا حبيسة الدار! يا مهيضة الجناح! يا مسكينة الجانب! كيف أنت في هذا وغيرك أعلى منك في نفقة ومركب، وكسوة وملهى، وذهاب وإياب، يعود الرجل فيجد امرأته قد تغيرت، وعن حالها تقلبت، بسبب الإسراف ومزيد من القول عبر هذا الجهاز.
إنا لا نقول أن استعمال الهاتف حرام، ولا نقول أخرجوه لعدم الفائدة منه، بل فيه من الفوائد ما ذكرنا، ولكن من المصائب التي عمت عند كثير من الناس، وعند النساء خاصة الإسراف في القول، وإضاعة الوقت، وإطالة الحديث عبر هذا: (وإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وإذا طال الكلام خرج عن المباح إلى المكروه، ثم من المكروه إلى الحرام، ولن يكون من الحرام صلاح للبيوت، بل فيه فسادها وإفسادها.
وكم من امرأة أو كم من فتاة كانت حصاناً رزاناً عفيفة كريمة جرأت عبر هذا، فخرجت لتقع فريسة للذئاب والمفسدين، وخذوا هذه القصة الواقعية، وهي واحدة من عشرات القصص إن لم تكن المئات، هذه القصة تقول: كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية، ثم تطورت إلى قصة حب وهمية أوهمها أنه يحبها، أنه ميت دنف هلك في غرامها، وسيتقدم لخطبتها لكنه يطلب رؤيتها، فرفضت فهددها بهجر أو بقطع علاقة فضعفت، فأرسلت له صورة مع رسالة وردية معطرة، فتوالت الرسائل، ثم طلب منها أن تخرج معه، لكنها هذه المرة رفضت بشدة فهددها بتلك الصورة وبالرسائل المعطرة، وبالصوت المسجل عبر الهاتف، فخرجت معه على وعد أن تعود في أسرع وقت وأقرب فرصة، لكنها عادت وقد كُسر حياؤها، وانتهكت عفتها، وتجرأ على صلاحها، فقالت له بعد ذلك: لا بد من ردم الأمر وستره بالزواج حتى لا تكون الفضيحة، فقال لها بكل احتقار وسخرية: إني لا أتزوج فاجرة، كيف العلاج؟ وكيف السبيل إلى حل يجعل هذه البيوت تستيقظ من الشر الذي أحاط بها؟ إن من الفتيات من تصبح على الأغنية، وتضحي على الشاشة، وظهيرتها على الهاتف، وعصرها في السوق، ومساؤها في المناسبة، فقولوا يا عباد الله: متى تعود إلى الله أو ترعوي عن غيها وضلالها؟!!(164/4)
المجلات الخليعة وخطرها على المرأة
أما البلية الثالثة التي تشكل خطراً على بعض البيوت وبعض الفتيات والنساء، ويشارك الرجال بقدر لا بأس به في هذا، فهي متابعة الصحف والمجلات الخليعة، تلكم التي انتشرت في كل مكان، تراها في كثير من الحوانيت والدكاكين والأزقة والأسواق، وماذا تقدم هذه الجرائد؟ وماذا تقدم تلكم المجلات؟ إنها موضات ودعاية ورذيلة ليس فيها خيرٌ أبداً، فيها من الصور الخليعة، وفيها ما يهتك الستر ويجرئ الشباب على الفاحشة، ويغريهم بالسفر إلى الخارج، ويملأ عقولهم بما لا يرضي الله، ويضرهم ويفسد عليهم عقولهم وأفئدتهم.(164/5)
الغناء خطر رابع على المرأة
أما الخطر الرابع الذي ابتليت به المرأة المسلمة، الخطر الذي سلط على بعض نسائنا في هذا الزمان؛ فذلكم هو خطر الغناء الذي لا يشك أحد أنه من البلاء الذي دخل كثيراً من البيوت إلا من رحم الله، مع أنه محرم وأدلة تحريمه جلية، قبل من قبل، أو اعتذر أو رد، أو عاند من عاند، خاصة ونحن في هذه الأيام أصبحنا نرى ونسمع أن إذاعة مسعورة وبثاً فاجراً فاسقاً قد سلط على مسامعنا لا يبث إلا الأغاني ليل نهار، فليعلم أولئك، وليعلم الذين يبثون، وليعلم الذين يسمعون بحكم الله ورسوله فيه، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] قال ابن مسعود: إنه الغناء، إنه الغناء، إنه الغناء.
وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59 - 61] قال ابن كثير: قال الثوري عن أبيه عن ابن عباس: السمد هو الغناء، وهي يمانية، يقول أحدهم: اسمد لنا، أي: غنّ لنا.
وقال مجاهد: هو الغناء، يقول أهل اليمن: سمد فلان إذا غنى.
ويقول تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [الإسراء:64] قال ابن كثير: ومعنى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) صوت الشيطان هو الغناء.
وقال مجاهد: اللهو والغناء أي: استخفهم بذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر -أي: الفروج- والحرير والخمر والمعازف) قال ابن حجر في الفتح رحمه الله: المعازف هي آلات اللهو، وقيل: أصوات الملاهي.
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) رواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وهو صحيح.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ؛ وذلك إذا شربوا الخمور، واتخذوا القينات، وضربوا بالمعازف) ذكره ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وهو صحيح، وأورده الألباني في صحيح الجامع وفي السلسلة أيضاً.
أيها الأحبة أما شأن الغناء وما يحدثه من قسوة القلوب وإنبات النفاق فيها؛ فحدث عن خطره ولا حرج، وحسبك أنه صارف للقلب عن التلذذ بكلام الله، لا يجتمع صوتان ولا يجتمع أمران:
حب الكتاب وحب ألحان الغنى في قلب عبد ليس يجتمعانِ(164/6)
خطر الإسراف في اللباس والأزياء ومتابعة الموضة
والخطر الخامس الذي ابتليت به المرأة المسلمة، وعلى الزوج والرجل والولي في هذا مسئولية: الإسراف في اللباس والأزياء، وما يسمى بالموضة والزينة والعطور، والانشغال بتوافه الأمور.
إن هذا الانشغال بهذه الأمور الرخيصة الصغيرة التي ليست بأمر يعد ولا شأن يذكر إذا اشتغل الإنسان بها أصبح عبداً لها، فكم من فتاة أصبحت رقيقة وأمة لفساتينها، رقيقة لمرآتها، رقيقة لمساحيقها، ولتتذكر وليتذكر الجميع قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) رواه البخاري.
فما بالكم بحال رجل أو امرأة يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة، ويدعو عليه بالانكباب على وجهه والانقلاب إلى قفاه، وألا يسلم من شوكة أو ينتقشها إذا دخلت في رجله أو قدمه.
وأما ما تصرفه بعض بناتنا وأخواتنا ونسائنا في مستحضرات التجميل فواجبنا -يا عباد الله- أن ننبههن إلى خطر الإسراف في هذا، إذ أن كثيراً من النساء يهون عليها أن تصرف الألف والألفين في قطعة من المساحيق المجملة، ويشق عليها مشقة بالغة أن تصرف مائة لتساهم في إغاثة مجاعة في الصومال، أو منكوبين في البوسنة، أو مساكين في كشمير وغيرها.
إن إحصائية أوردتها مصلحة الإحصاء عن إجمال قيمة الواردات عام 1409هـ من مستحضرات التجميل بما في ذلك المواد العطرية تقول: لقد بلغ ما أنفق على هذا من استهلاك عامة الناس لهذه المساحيق والعطور، أكثر من ثمان مائة مليون ريال، وهذه الإحصائية أوردتها جريدة الرياض في عددها (8372) يوم الإثنين/ 13/ 11/ 1411هـ.
إنها من المصائب التي ابتليت بها المرأة في ضياع وقتها بسماع الأغاني، ومشاهدة الأفلام، والخروج إلى الأسواق لغير حاجة، ومتابعة الموضة والمجلات والأزياء وما يتعلق بها.
وإنا لن نقف عند وصف الأمراض لنصيح ونقول: نحن مرضى أو بنا سقم، ولكن يجب على من شخَّص الداء أن يصف الدواء، فنصيحتنا لكل ولي أن يوجه موليته أن تقلل الخروج إلى الأسواق، تلكم شر البقاع عند الله، وأن تقصر خروجها على ما تمليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة الراجحة مع محرم أو مع ثقاة من النساء، وألا تمكث في السوق أكثر من وقت حاجتها، كما نوصي الجميع أن يلتفتوا إلى محاولة اكتفاء المرأة في ملابسها بأن تتعلم خياطة ما تحتاجه بنفسها، أو أن يكون لها مع قريباتها أو مجموعة من جاراتها حائكة أو خياطة تحسن ذلك، فلا تخرج المرأة إلى الدكاكين أو إلى الأسواق بحجة الملابس.
وينبغي لكل فتاة أن تنظر إلى من يسمين بعارضات الأزياء، واللائي يغدين ويرحن بهذه الملابس الفاضحة، على الفتاة المسلمة أن تنظر إلى تلك المرأة التي جعلت من نفسها لوحة للعرض وشاشة للدعاية نظرة العطف والرحمة فيما وقعت فيه في مستنقع الرذيلة الآثم، ونظرة ترى فيها أن تلك المسكينة قد جعلت من جسدها تجارة رخيصة يتاجر فيها مصمم الأزياء والموضات.
ألا وإن هذه الأمور مما ينبغي أن نلتفت إليه.(164/7)
طول الأمل سبب في الضياع
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام وأطيبه وألذه وأجمله هو كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، واعلموا أن كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.
أيها الأحبة في الله إذا تأملنا هذه الأمور التي ذكرناها وما ابتليت به بعض الأسر وبعض البيوت منها، وما تسلط به أعداء هذه البلاد وأعداء الإسلام من بث مركز مسلط عليها فيها، تأملنا أن من أسباب ضياع أوقاتنا ووقوعنا في هذه الغفلات، طول الأمل والتسويف، فإن الله عز وجل بيَّن أن الذين يطيلون الأمل ويلهيهم الأمل يعلمون ولكن ساعة لا ينفع الندم، قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] قال القرطبي: (يلههم الأمل) أي: يشغلهم عن طاعة الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.(164/8)
خطر قرين السوء
اعلموا -يا عباد الله- أن من أسباب وقوع بعض الفتيات أو بعض الناس في هذا القدوة السيئة، وغياب القدوة الحسنة، وذلك أن العامة والنساء خاصة ينظرون إلى من هو أقل منهم في استغلال أوقاتهم واستثمار حياتهم، والواجب أن نعلم أن قدوتنا في من هو أعلى وأكمل وأجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] فالحذر الحذر من قرين وقرينة السوء اللذين يدسان السم في العسل، واللذين يغران بمعسول الكلام، والحذر الحذر ممن يهونون المعصية، ويعظمون أمر الطاعة، ويجعلون شأن التوبة بعيداً، ومنالها أمراً صعباً حديداً، فأولئك من شياطين الإنس الذين قاد بعضهم بعضاً إلى ما لا يرضي الله عز وجل، إنه قرين السوء لا يريد بصاحبه خيراً:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالحُ
قل لنا من جليسك فنقول لك من أنت، واعرف وانظر من جليس ابنتك أو موليتك ثم احكم لتعرف من هي، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
إن بعض الفتيات -هداهن الله- يشعرن بالنقص كلما أرادت التوبة، ويشعرن بالعجز كلما أرادت الإقلاع، وتشعر بالإحباط كلما صممت على هجر المنكر والمعصية، وما ذاك إلا من الشيطان الذي هو عدو الإنسان قال عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] أما إن الفتاة لو صممت وعزمت وشمرت واجتهدت ثم تركت هذه المنكرات، وطلقت تلك المعاصي، وأقبلت على الطاعة؛ قراءةً للقرآن، وتدبراً للسنة، وإقبالاً على النافع من الكتب، وحرصاً على جليسة صالحة، وقرينة نافعة، فإن ذلك -بإذن الله- يورثها استقامة وصلاحاً، وإن كثيراً من الناس ليعلمون إدبار بناتهم أو أخواتهم أو مولياتهم عن الاستقامة ولكن بعضهم كثيراً ما يضرب الأنامل بعضها ببعض، أو يضع كفاً على كف ويقول: كيف أنصحها وأنا رجل وهي امرأة، وأنا ذكر وهي أنثى، وكيف أؤثر عليها، نقول: خاطبها كلِّمها وجهها أرشدها حذرها، بيِّن لها ما يحاك لها ويدبر ويتربص بها، وعظها وقل لها في نفسها قولاً بليغاً، وادعها إلى التوبة التي أمرنا بها، فالله عز وجل يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وبين لها حاجتها إلى التوبة، وحذرها من سوء الخاتمة، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) فأيما رجل أو امرأة مات على خنا بعث عليه، مات على رباً بعث عليه، مات على فاحشة بعث عليها، مات على معصية بعث عليها، ومن مات على طاعة بعث عليها، فالواجب أن ننبه إلى خطر سوء الخاتمة.(164/9)
نساء خُلِّد ذكرهن
لابد أن نرشد إلى سير الصحابيات، القدوة الصالحة من نساء المؤمنين وأمهات المؤمنين، وخذوا هذا الأنموذج الرائع الفريد الجميل.(164/10)
أسماء بنت يزيد
جاء في صحيح مسلم رحمه الله أن أسماء بنت يزيد الأنصارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم والنبي جالس بين أصحابه: فقالت أسماء بنت يزيد: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة، فآمنا بك وصدقناك، إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجاً أو معتمراً أو مجاهداً حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا أثوابكم، وزينا أولادكم، أفنشارككم في هذا الخير والأجر؟) لله درها من امرأة! لله درها من صحابية! تسأل النبي هل لها فيما يناله الرجال من الأجر نصيب، تقول: أفنشارككم في هذا الخير والأجر؟ -قالت أسماء مقالتها هذه- فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم وسر بها سروراً بالغاً، ثم التفت إلى أصحابه يسألهم قبل أن يجيبها فقال: (هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من مسألة هذه المرأة في دينها؟ فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا امرأة تهتدي إلى هذا؟ فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أسماء يجيبها على مسألتها ويرد على مقالتها، فقال: اعلمي أيتها المرأة وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته يعدل ذلك كله).(164/11)
ماشطة بنت فرعون
أيها الأحبة هذه أنموذج لنا أن نسرده، وأن نبينه، وأن نقصه لبناتنا ونسائنا، وفي التاريخ من النساء الصابرات الصامدات الثابتات على الحق اللائي ابتلين بفتنة الموت في سبيل الله فثبتت على ذلك، ومن هذا ما يبينه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (كانت الليلة التي أسري بي فيها أتت علي رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل! ما هذه الرائحة الطيبة؟ فقال: هذه رائحة ماشطة ابنت فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ فقال: بينما هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم إذ سقط المدرى -أي: المشط- من يدها، فقالت: باسم الله، فقالت ابنة فرعون: يعني أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، فقالت: أخبره بذلك؟ فقالت الماشطة: نعم، فأخبرته، فدعا فرعون الماشطة فقال فرعون: يا فلانة! وإن لك رباً غيري؟ قالت: نعم.
ربي وربك الله، فأمر بتنور من نحاس، فأحميت ثم أمر بها أن تلقى الماشطة هي وأولادها في هذا التنور فقالت الماشطة: إن لي إليك حاجة، فقال: ما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام أولادي في ثوب واحد وتدفننا جميعا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأمر فرعون بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها رضيع، وكأنها تقاعست وأدركتها الشفقة لأجله، فأنطق الله رضيعها فقال: اقتحمي يا أماه فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت) هذه قصة ثابتة في مسند أحمد رحمه الله، وسندها صحيح، نسوقها إلى كل فتاة مسلمة أن تنظر ما تلقى من بلاء وامتحان، وما تلقى تلك الماشطة الصابرة الثابتة من بلاء وامتحان.
ولها أيضاً في سمية بنت خياط، وفي نسيبة، وفي أم عمارة، وفي غيرهن من الصحابيات أسوة حسنة، تلك امرأة تمتحن بالقتل والإحراق بالنار في سبيل الثبات على دينها، فتختار نار الدنيا على نار الآخرة، وتختار أن تقتحم النار ثباتاً على دينها، وواحدة من بناتنا -يا عباد الله- تبتلى في أغنية فلا تصمد في هجرها، تبتلى في موضة فلا تصمد في مقاطعتها، تبتلى في شيء من هذه الأمور الحقيرة التافهة فلا تثبت فيها، ألا وإنا ننتظر من بناتنا وزوجاتنا ونسائنا توبة نصوحاً، وصلاحاً في الذات، وإصلاحاً لغيرهن، ونذكر الجميع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا).
فالله الله يا عباد الله! وجهوا البنات والزوجات، والفتيات والأمهات، إلى طلب العلم بما تيسر من وسائله وسبله، وإلى حفظ القرآن والعناية بالسنة، وجهوا المرأة إلى الشريط الإسلامي استماعاً وتلخيصاً، وتكراراً وإهداءً وتبادلاً، وجهوا المرأة إلى الدروس الدورية النافعة في بيوتهن أو في المساجد، وجهوهن إلى ما يرضي الله عز جل، وجهوهن إلى الندوات والمحاضرات النافعة، فكم من رجل يحمل أولاده إلى أماكن ما يسمى بالفسحة، وقل أن يحملهم معه إلى محاضرة نافعة أو ندوة مفيدة، وإن على معاشر الأولياء، أن يعينوا الفتاة بأن تقيم في بيتها دروساً لها ولقريباتها ولجاراتها، ففي هذا نفع عظيم، واجعلوا من كل واحدة منهن قدوة حسنة عسى الله أن يكف بأس الذين ظلموا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً:
رب البنات على الفضيلة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاقِ
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراقِ
أسأل الله أن يثبت بناتنا ونسائنا، وأن يصلحهن، وأن يجعلهن لنا قرة أعين، وأن يعيننا على ما ولينا في شأنهن وتربيتهن والعناية بهن.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بالمرأة المسلمة بهذه البلاد خاصة وفي سائر بلاد المسلمين عامة تبرجاً وسفوراً ورذيلة، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، وأرنا فيه عجائب قدرتك، وعجل اللهم به بأسك وسخطك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارنا.
اللهم اجمع شملنا، وولاة أمرنا، ولا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً يا رب العالمين، اللهم اهد إمامنا وأصلح بطانته، وقرب له من علمت خيراً له ولإخوانه يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين وكشمير وأرومو، وإرتيريا، والفليبين، وفي طاجكستان وأفغانستان وسائر البقاع يا رب العالمين.
اللهم توفَّنا وأنت راضٍ عنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم يا حي يا قيوم، يا من لا يخيب سائله، لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مرضاً إلا شفيته، ولا حاجة إلا قضيتها، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلى قبلته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته.
اللهم صلِّ على محمد على آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(164/12)
رحلة إلى الدار الآخرة
الموت حق على كل حي في هذه الأرض؛ سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو جباراً أو عنيداً، أو صالحاً أو فاسقاً، لكن ماذا بعد الموت؟ وماذا بعد دار الدنيا؟ بعدهما دار الآخرة التي غفلنا عن الاستعداد لها، وأنت هنا مع الشيخ في رحلة إلى تلك الدار، فاستعد نفسياً لما يقع فيها من عجائب وأهوال.(165/1)
الفرق بين المسلم والكافر يوم القيامة
الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال ربنا وعظيم سلطانه، نحمده سبحانه، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا، له الحمد في الأولى والآخرة، له الحمد وحده لا شريك له، نثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، جل عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولا سبيل شرٍ إلا حذَّر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر الأحبة: كلنا يعلم أنه لو كان بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، مليحة أو قبيحة، فإنه يتخيل نفسه فيها، ويتصور ما سيكون له تجاهها، فالذي ينتظر التفرج مثلاً، يتخيل يوماً يقف فيه أمام زملائه وأمام مكرميه، لكي يستلم شهادته غبطاً مسروراً بنتيجة جهده وتحصيله، والذي ينتظر وظيفةً يتخيل مكتبه ومقعده وما بين يديه من الدفاتر والمعاملات، والذي ينتظر زواجاً يتخيل زفافه ومسيره ووصوله إلى أهل عروسه، ويتخيل دخوله على زوجه، ويتوهم ويتخيل أحلى أيامه ولياليه معها، والذي ينتظر صناعةً يتخيل إنشاء مصنعه، والإنتاج في هذا المصنع، ثم خروج بضاعته ومنتجاته وتوزيعها على مستهلكيها، ويقبض غلتها وريعها ومردودها، يتخيل عده دراهمه وإيداعها في خزينته، والذي يتخيل تجارةً، يتخيل بضاعته ومستودعاته ودفاتره ومحاسباته، والذي يهم أو ينتظر سفراً يتخيل إقلاع طائرته، ثم تحليقها وهبوطها ونزوله إلى بلدٍ يسافر إليها، ثم بعد ذلك يتخيل أيامه في سياحته أو في سفره وتنقلاته، ونحن يا عباد الله! بانتظار مفاجأة سارةٍ أو ضارة، بانتظار مفاجأةٍ مليحة أو قبيحة، حسنها وقبحها، يتوقف على عمل صاحبها، ألا وهي رحلتنا من الدنيا إلى دار البرزخ، ومن دار البرزخ إلى دار القرار والآخرة.
على أي متن رحلةٍ سننتقل؟ وما هي مدة الرحلة؟ ومن هم المضيفون؟ ومن الذين يستقبلون؟ وماذا سيقدم لنا في سفرنا ورحلتنا هذه؟ ينبغي أن نتوهم ذلك وأن نتخيله وأن نتذكره، كيف سيكون شأننا في هذه الرحلة؟ والذي يسافر في رحلةٍ ولا يتخيل ماذا سيكون له من أعماله أو مفاجآته، أو جدول ما سيقدمه ويعده، فذاك نسميه معتوهاً أبله؛ لأنه يسافر إلى بلدٍ لا يدري ماذا سيفعل فيها، ولأي شيءٍ ولأي غرضٍ قدم إليها.
فيا أحبتنا في الله: تعالوا معي، وتخيلوا وتوهموا حالنا، ونحن نودع هذه الدنيا، وننتقل إلى دار البرزخ، تخيل كأنه قد نزل بك الموت وشيكاً سريعاً، فتوهم نفسك وقد صرعك الموت صرعة، ملك الموت واقفٌ على رأسك، يصرعك صرعةً لا تقوم منها إلا في الحشر إلى ربك، فتوهم نفسك في نزع الموت وكربه وغصصه، وسكراته وضمه وقلقه، قد بدأ ملك الموت يجذب أرواحنا من الأقدام، فوجدنا ألم جذب الروح من أسفل القدمين، ثم تدارك الملك الجذب واستحث النزع، وجذبت الروح من جميع أجزاء البدن، فنشطت الروح من الأسفل متصاعدةٍ إلى الأعلى حتى إذا بلغ منك الكرب منتهاه، وبلغت الروح الحلقوم، وعلت آلام الموت جميع جسمك وقلبك، وقلبك وجلٌ محزونٌ مرتقب، تنتظر البشارة أو النتيجة، إما بغضبٍ من الله أو رضى، وقد علمت أنه لا محيص لك دون أن تسمع إحدى البشارتين، لا محيص ولا محجى ولا منجى إلا أن نسمع إحدى البشارتين من الملك الموكل بقبض الروح ونزعها.
يا ابن آدم!
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
فبينما أنت في كربك وغمومك، وأنت في آلام الموت وسكراته وشدة حزنك، لارتقابك وانتظارك البشارة، كالذي يقف بين يدي الحاكم مطرقاً رأسه، إما أن يؤمر بعذابه أو أن يؤمر بتكريمه وتفريحه، بينما أنت تنتظر البشارة من ربك، إذ نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى ملك الموت بأقبح صورة، ونظرت إلى الملك، وأنت ترى من حولك وأنت في بعدٍ وفي شأن آخر منهم، تراهم ولا ينظرون إلى ما تنظر إليه -على سريرك أو على فراشك، في بيتك أو في المستشفى- يجثون على ركبهم، ينتظرون ماذا يحل بك، وأنت تراهم وتعلم أنهم لا يرون ما تراه، أنت ترى ملك الموت، نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأحسن صورة، أو نظرت إلى صفحة وجه ملك الموت بأقبح صورة، ثم مد الملك يده إلى فمك ليخرج الروح من بدنك، فذلت نفسك، وخارت قواك، وضعفت قوتك لما عاينت ذلك، وعاينت وجه ملك الموت، وتعلق قلبك بماذا يفاجئك من البشارة إذ سمعت صوت نغمةٍ جميلة، أبشر يا ولي الله! برضىً من الله، أبشر يا ولي الله! برضى الله وثوابه، أو تسمع ذلك الملك قبيح الصورة يقول: أبشر يا عدو الله! بغضبٍ من الله وعقابه، فتستيقن حينئذٍ بنجاحك وفوزك، ويستقر الأمر في قلبك، فتطمئن إلى الله أو تستيقن العذاب والهلاك، ويحل الفزع قلبك وتندم حينئذٍ غاية الندم، ويحل بك الهم والحزن أو الفرح والسرور حين انقضت من الدنيا مدتك وودعت من عمرك أيامك وانقطع أثرك، وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك، كلٌ يرى حين موته مقعده من الجنة أو من النار، فهذه ابتسامة الموتى يوم أن نراها على وجوههم، أو قلق وانزعاج الوجه والمحيا، حينما يرون ما لا يسرهم.
عباد الله: ثم ماذا بعد ذلك؟ توهم نفسك، تخيل نفسك حين استطار قلبك فرحاً وسروراً، أو ملئ حزناً وعبرةً بفترة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين وسؤالهما، يسألانك عن إلهك، عن إيمانك بربك، فمثبتٌ من الله جل ثناؤه بالقول الثابت، أو متحيرٌ شاك مخذول، الذين حولك إن كان منهم من يحبك، وقف لحظات عند قبرك وهو يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم ثبته بقولك الثابت.
أنت أنت يا من لم تسمع في ظلمة اللحد، واللبن قد أغلق على لحدك، وأهيل التراب حتى ختم باب قبرك، ثم ولى الناس مسرعين إلى حوائجهم ينسونك عند آخر خطوةٍ يتجاوزون فيها باب المقبرة، وإن كان لك من حبيب أو أخٍ في الله وقف عند قبرك والناس قد ولوا وتركوك، وحبيبك هذا يقول: اللهم ثبته بقولك الثابت، اللهم لقنه حجته، اللهم لقنه حجته، فتوهم ذلك وأصوات الملائكة عند ذلك، توهم صوت الملكين حين يناديانك فيجلسانك ليوقفاك على السؤال، توهم كيف تجلس في ضيق لحدك، وقد سقطت أكفانك على حقويك، والقطن سقط من عينك على ركبتيك وقدميك، ثم رفعك البصر، وشخوصك ببصرك إلى صورة الملكين، وعظم أجسامهما، فإن رأيتهما بحسن الصورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة، وإن رأيت ملكين قبيحين تيقنت الهلاك والعذاب، تخيل أصوات الملكين وكلامهما وتخيل سؤالهما، ثم بعد ذلك هو تثبيت الله إن ثبتك أو خذلك، وتخيل جوابك يوم يسألانك، وجوابك باليقين أو بالحيرة والشك، وتخيل إقبال الملكين عليك، إن ثبتك الله عز وجل، وإقبالهما عليك بالسرور، وضربهما بأرجلهما جوانب القبر فينفرج القبر عن النار ثم تنظر إلى النار، وهي تتأجج بحريقها، وأنت تنظر ما صرف عنك من لهيبها ونارها، فيزداد قلبك سروراً وفرحاً، وتوقن أنك نجوت من هذه النار التي نظرت إليها، أو توهم أن الملكين ضربا بأرجلهما جوانب قبرك وانفراجه عن الجنة بزينتها ونعيمها وقولهما لك: يا عبد الله! انظر إلى ما أعد لك، فهذا منزلك وهذا مصيرك، أو تتخيل أن ترى الجنة ثم يقال: حرمت منها، وأن ترى النار ويقال: أنت من أهلها، تخيل سرور قلبك وفرحك بما عاينت من نعيم الجنان وبهجة ملكها، وعلمت أنك صائرٌ إلى ما عاينت من نعيمها وحسن بهجتها، وإن تكن الأخرى، إن كنت عاينت النار توهم خلاف ذلك كله، تخيل ما ينهرك، وتخيل ما تنظر إليه ويقال لك: انظر إلى ما حرمك الله عز وجل من النعيم، ثم تنظر النار ويقال لك: انظر إلى ما أعد الله لك، فهذا منزلك ومصيرك، فأعظم بهذا خطراً، وأعظم عليه بالدنيا غماً وحزناً حتى تعلم في القبر حالك، وتعلم في القبر مآلك.(165/2)
أبيات شعرية تصف الموت والقبر
هذه الرحلة أيها الأحبة! وهذا الوداع، وهذا الفراق، وهذه الغربة التي لا أنيس ولا جليس ولا حديث، سوى العمل الصالح، والله إنها الغربة، ليست غربة الأوطان، ولكنها غربة الأبدان في الظلمات، وغربة الأشلاء بين الدود والتراب.
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن
إن الغريب له حقٌ لغربته على المقيمين في الأوطان والسكن
لا تنهرن غريباً حال غربته الدهر ينهره بالذل والمحن
سفري بعيدٌ وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن
يا معاشر المؤمنين: ما أحلم الله، إن الله حليمٌ علينا!
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلةً كتبت في غفلة ذهبت يا حسرةً بقيت في القلب تحرقني
دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني
دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتفكير والحزن
دعني أسح دموعاً لا قياس لها فهل عسى عبرة منها تخلصني
كأنني بين تلك الأهل منطرح على الفراش وأيديهم تقلبني
كأن ما كان حولي من ينوح ومن يبكي عليَّ وينعاني ويندبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب في ذا اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرقٍ بلا رفقٍ ولا هون
وأخرج الروح مني في تغرغرها وصار حلقي مريراً حين غرغرني
وسل روحي وظل الجسم منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن
وقام من كان أولى الناس بي عجلاً إلى المغسل يأتيني يغسلني
وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن
فجاءني رجلٌ منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأطرحوني على الألواح منفرداً وصار فوقي خرير الماء يغسلني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن
وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطي حين حنطني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا عليَّ صلاةً لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني في قبري على مهل وأنزلوا واحداً منهم يلحدني
وأكشف الثوب عن وجهي لينظره وأسبل الدمع من عينيه أغرقني
فقام محتزماً بالعزم مشتملاً وأطرح اللبن من فوقي وفارقني
وقال: هلوا عليه الترب واغتنموا حسن الثواب من الجبار ذي المنن
بكيت لما كساني الترب منجدلاً صار التراب على ظهري فأثقلني
في ظلمة القبر لا أمٌ هناك ولا أبٌ صديق ولا أخٌ يؤانسني
وأودعوني ولجوا في سؤالهمُ ما لي سواك إلهي من يخلصني
وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت من هول مطلع ما كان أغفلني
من منكرٍ ونكير ما أقول لهم إذ هالني منهم أمر فأفزعني
جاءك منكر ونكير وقال لك: ماذا عملت في دنياك؟ تقول: نمت الليل إلى وقت الدوام، بعت أفلام الملاهي وأشرطة الفيديو، بعت آلات الطرب، سهرت مع الأصدقاء، ضيعت صلاة الجماعة، اشتغلت بالغفلة، طربتُ للغناء، نسيت ذكر الله، غفلت عن قبري.
وهالني صورةٌ في العين إذ نظرت من هول مطلع ما كان أغفلني
من منكرٍ ونكير ما أقول لهم إذ هالني منهم أمر فأفزعني
فامنن عليَّ بعفو منك يا أملي فإنني موثق بالذنب مرتهن
تقاسم الأهل مالي بعد ما انصرفوا وصار وزري على ظهري يثقلني
واستبدلت زوجتي بعلاً لها بدلي وملكَّته على مالي وفي وطني
وصيرت ولدي عبداً ليخدمه وصار مالي له ملكٌ بلا ثمن
فلا تغرنك الدنيا وزينتها وانظر إلى أهلها في الأهل والوطن
انظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
انظروا إلى الملوك، انظروا إلى الأثرياء، انظروا إلى الحكام، انظروا إلى الرؤساء، انظروا إلى أرباب الأموال، هل جعلوا في القبر معهم رصيداً؟ أو وقف على القبر لهم حارساً؟ أو جعلوا في اللحد معهم خادماً؟
انظر إلى من حوى الدنيا ليجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
خذ القناعة في دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
يا نفس كفي عن العصيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعل الله يرحمني
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.(165/3)
دعوة للمحاسبة
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أحبتي في الله: هل سمعتم برجلٍ أو شابٍ إذا علم أن صديقه في السجن ذهب نجدةً ونخوةً وبذل شفاعته وجاهه وماله لكي يخرج صديقه من السجن، فأنت ماذا فعلت حتى تخرج نفسك من النار؟ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ماذا فعلنا حتى نخرج أنفسنا من سجون اللحود إلى روضات الجنات؟ ينزل بنا الأصدقاء والأقارب والأهل، فننحر لهم الذبائح ونعد لهم الضيافة ونكرمهم ولا نبخل عليهم، لكننا نبخل على أنفسنا بالأعمال الصالحة، أي بخيلٍ أبخل من الذي يهمل نفسه ويجعلها مقادةً للشيطان، إذا قال له الشيطان: احلق لحيتك، توجه إلى المرآة فحلقها، إذا قال له الشيطان: اسبل ثوبك، أطلق ثوبه يجره، وهو يعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) إذا قال له الشيطان: اسهر هذه الليلة، سهر حتى ترك صلاة الفجر، إذا قال له الشيطان: اسمع هذا الطرب والغناء، ذهب ليشتري نسخة أصلية، ويباهي زملاءه وقرناءه وأنداده بوجودها عنده، وليست عندهم.
إذا قال له الشيطان ووسوس وأوحى إليه أي كافر: سافر إلى بلد الفجور والخنا والزنا، إذا وسوس له الشيطان: اشرب ما بدا لك، شرب وطاح ثملاً سكيراً مستطلاً، إذا قال له الشيطان: افعل كذا، استجاب وانقاد، يغويه الشيطان فيستجيب له: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] أولئك يعلمون ويسمعون مثل هذه المواعظ ويعرفون الخاتمة، ويعرفون الفناء وقرب الرحيل، ودنو الزوال، ومفاجأة الموت، وهول المطلع، وإفلاس النفس من شفاعة الأصدقاء والأقارب والجلساء، ولا يبقى لك إلا نفسك، إن كان معها عملٌ صالح يخلصك بهذا العمل بعد رحمة الله جل وعلا، وإلا فتبقى كسيراً طريداً شريداً وحيداً في قبرك، أفبعد هذا نتمادى يا عباد الله؟! أبعد هذا ننسى الآخرة؟ أبعد هذا نستمر على عصياننا؟ ويوم أن ينصحنا أحدٌ من الصالحين نقول: الحمد لله نحن ملتزمون، وإذا سمعنا ونظرنا إلى هذا الالتزام، وجدناه التزامٌ على سماع الغناء، والتزامٌ على سهرٍ في معصية، والتزامٌ على ترك صلاة الفجر والصلوات مع الجماعة، والتزام على المداهنة، والتزامٌ على ترك الأمر بالمعروف، والتزامٌ على ترك النهي عن المنكر، أي التزامٌ هذا يا عباد الله؟! والله لقد زين الشيطان لأقوامٍ حسن أفعالهم.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
تأملوا وقفوا وحاسبوا أنفسكم أياماً قلائل وتصدر ميزانيتنا، فما هي ميزانية الأعمال الصالحة؟ فنمضي فنودع عاماً مالياً، سنسمع فيه كل شيء، فلنحاسب أنفسنا، ما هي ميزانيتنا المالية بالحسنات والسيئات؟ كم حسنة أودعناها في الصحيفة؟ وكم خزيةٍ وسيئة وعارٍ ومعصية أودعناها في الصحيفة؟ ولو ختم لنا بهذه الخاتمة بماذا نقابل الله؟ أيتسع القبر لمن تاجر بالملاهي؟ أيتسع القبر لمن ترك صلاة الجماعة؟ أينفرج اللحد لمن عصى الله جهاراً نهاراً؟ أيتسع القبر لمن جاهر الله بالمعصية؟ أيتسع القبر لمن غفل عن ذكر الله واستطرب الملاهي ومزامير الشيطان؟ أم يتسع القبر لعبدٍ من عباد الله مشى في ظلمة الليل والبرد القارس؟ (بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) يتسع القبر لمن تدثر ملابسه ومضى يمشي خطوةً خطوة، وهو يسبح الله ويذكر الله، يسأل الله غفران زلة، ويسأل الله الثبات على يومٍ يستقبله، ويسأل الله استقبال يومٍ مليء بالصالحات، يتسع القبر ويرى الملائكة الحسان الوجوه، من حافظ على الصلاة مع الجماعة، من لم يتاجر بالملاهي، من لم ينشر الدعارة والأفلام الخليعة، من لم يساهم في نشر الفاحشة في المؤمنين، ينتظر أن يرى مقعده من الجنة، من دعا إلى الله على بصيرة، وأصبح هادياً مهدياً، داعياً إلى الله برحمةٍ من الله، لا بعمله ولا بقوله ولا بحوله، يقول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، أسأل الله أن يتغمدنا برحمته، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم اغفر ذنوباً سترتها، اللهم امح سيئات ما علمها الناس وعلمتها، اللهم إنا نتوب إليك فتب علينا في هذه الساعة المباركة في هذا اليوم المبارك، في ساعةٍ لعلها ساعة إجابة، نسألك اللهم أن تعفو وتغفر ما سلف، وأن تهدينا إليك فيما بقي، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم توفنا راكعين ساجدين، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم توفنا على ما يرضيك، اللهم توفنا على ما يرضيك، ولا تقبضنا على خزيٍ أو عارٍ أو شرابٍ أو معصيةٍ أو فاحشةٍ أو جريمةٍ يا رب العالمين.
اللهم زينا بزينة الإيمان، اللهم جملنا واسترنا بالإيمان، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم من كان منهم على ظهر هذه الدنيا حياً، اللهم متعه بالصحة والعافية على طاعتك، واختم اللهم له بمرضاتك.
اللهم لا تجعل لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(165/4)
رسالة إلى الشيخ المبارك
هذه رسالة موجهة إلى كبار السن الأجلاء، إلى من طعن في السن فبلغ الستين، أو أدركه الكبر فهو في السبعين، أو صار هرماً فهو في الثمانين.
رسالة إلى من امتن الله عليه بنعمة الشيب في الإسلام، ندعوه فيها إلى المحافظة على هذه النعمة بحسن العمل، ومحاسبة النفس، وقبول الحق، والاستعداد للقاء الله، والإنابة والرجوع إليه.(166/1)
أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: يا عباد الله: فاتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج:5] ويقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] وقال صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يجاوز ذلك).
أحبتنا في الله: اليوم نقف وقفة مع أنفسنا وهي تقبل على المشيب، أو تدخل الكهولة، ونقف وقفة مع آبائنا وأحبابنا الذي ودعوا سن الكهولة ودخلوا في المشيب، نقفها مع هؤلاء الأعزاء على قلوبنا، مع كبار السن الذين نحبهم إجلالاً، ونعزهم تقديراً، هؤلاء الذين رسموا للجيل طريق النجاح، وأناروا للجيل درب الحياة، نقف وقفة تحية وثناء، وشكرٍ وعرفان، لمن سطروا بتجاربهم أروع المثل في تربية أبنائهم وإصلاح مجتمعاتهم، ونقفها وقفة مع الذين شابوا، ولكنهم لا يزالون سادرين غافلين لاهين:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
فلأولئك الدعاء والثناء، وآخرون ممن كبروا ولا يزالون يعيشون المراهقة:
ويقبح بالفتى فعل التصابي وأقبح منه شيخٌ قد تفتى
وقفة مع كبار السن الأجلاء، أو من بلغ شأواً أو طعن في السن فبلغ الستين، أو أدركه الكبر فهو في السبعين، أو صار هرماً فلا تسأل عنه وهو في الثمانين:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ(166/2)
بيان فضل المشيب في الإسلام
أيها الأحبة: نقول لمن شابت لحيته، أو شاب ذقنه وعارضاه، نقول لمن كبر سنه، أنت من أنت في مكانتك ومنزلتك وقدرك، أنت الذي شبت في الإسلام، فاحمد الله على ذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة في الإسلام، كانت له نوراً يوم القيامة) رواه الترمذي والنسائي، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من شاب شيبة كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة).
فيا من اشتعل رأسه شيبا! يا من كبر وهو يتردد على المسجد كل يومٍ خمس مرات! احمد الله على أن بلغت هذه الحال وأدركت هذه السنين وأنت على التوحيد والعبادة، بلغت من الكبر عتيا ولم تسجد لصنم، ولم تركع لوثن، بل أنت عابدٌ خاشعٌ منيبٌ أوابٌ أواهٌ محبٌ لله تعالى، فمن حق هذا الذي شاب على هذه الحال أن يجل ويوقر، وأن يدعى له بحسن الخاتمة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم) رواه أبو داود، فأنت لك شرفك ومنزلتك، تقدم في المجالس، وتقدم في الكلام، وتقدم في كل شيءٍ حتى في أمر الدين إن لم يكن معك من هو أعلم منك، بل إذا استوى كبير السن ومن هو أصغر منه في العلم، فيقدم كبير السن لكبر سنه: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، وإن كانوا بالسنة سواء، فأقدمهم هجرة، وإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا) رواه مسلم وغيره، يقول ربنا عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] والنذير هو الشيب كما جاء في تفسير الآية، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئٍ أخر أجله حتى بلغه ستين سن) رواه البخاري.
قال القرطبي رحمه الله: والمعنى أن من عمّره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لأن ابن الستين قريب من معترك المنايا، في سن الإنابة والخشوع، وترقب المنية والاستعداد للقاء الله عز وجل.
ويقول قتادة رحمه الله: [اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نغتر بطول أعمارنا].
ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) وليس كل طولٍ في العمر مزية يُحمد العبد عليها، بل ربَّ أناسٍ طالت أعمارهم وشابوا واحدودبت ظهورهم، وضعفت قواهم ولكنهم في مزيد من سخط الله وغضبه، واستجلاب عقابه وعذابه
المرء يفرح بالحياة وطول عيشٍ قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائل لله دره
ليس كل طول عمرٍ يحمد عليه العبد، إلا ما كان في طاعة الله: (طال عمره وحسن عمله).
فيا أيها الشيخ المبارك! يا من مضى من عمرك خمسون أو ستون ماذا قدمت؟ وماذا أعددت؟ وما هي عدة الرحيل وأنت تتهيأ لينقلك الأحباب والورثة، والأبناء والزوجة، لينقلوك من سعة دارك وقصرك، إلى ضيق لحدك وقبرك، ومن أنس أحبابك وخلانك، إلى وحشة الدود والجنادل والظلام في المقبرة؟ ومن نور هذا البيت وإضاءة هذا القصر، إلى ظلمة هذا اللحد والقبر، ماذا أعددت وأنت على وشك الرحيل: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه).(166/3)
الاستعداد للقاء الله سبحانه وتعالى
أيها الشيخ المبارك: جاوزت الخمسين أو أقبلت عليها أو تمضي فيها ولم تحفظ بعد جزءاً من كتاب الله عز وجل.
أيها الشيخ المبارك: جاوزت الخمسين وأنت لا تزال تدع الصلاة مع الجماعة وتصلي في دارك بأوهى عذرٍ، ولو كان عرضاً قريباً أو سفراً قاصداً، أو مصلحة مادية لانقلب ذاك الضعف قوة، وذلك التقوس في ظهرك اعتدالاً وصلابة، وتلهث وراء عرضٍ من الدنيا يسير، أولما دعاك المنادي حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح تثاقلت وجثمت على فراشك، أولما دعاك عبدٌ من عباد الله إلى عرضٍ فانٍ، وحطامٍ حقيرٍ من الدنيا انقلبت شاباً صلباً قوياً جلداً، طويل اللسان إلا في ذكر الله، طويل الباع إلا في الإنفاق في سبيل الله، طويل الخطى إلا في المشي إلى طاعة الله ومرضاته! عجباً لمن شاب على هذه الحال! نسأل الله السلامة والعافية.
البعض يشيب ويكبر ويطعن في السن، ولم يتعود بعد أن يتقدم بين يدي ربه في الهزيع الأخير من الليل، بل لا زال بعضهم يكبر سنه ويطول سهره، ويكبر سنه ولا يزال يسهر افتتاناً بهذه القنوات الفضائية، وحديثه في المجالس إذا تصدرها رأيت في القناة الفلانية في البارحة الساعة الثانية ليلاً من قال كذا وكذا، وشاهدت في القناة الفلانية في الساعة الثالثة ليلاً من فعل كذا وكذا، ومثلك حقيقٌ به أن يكون في الثانية والثالثة ليلاً راكعاً ساجداً، باكياً أواباً، خاشعاً خاضعاً لله، يرجو الآخرة ويخشى عذاب ربه.
[رأى أبو الدرداء رجلاً فقال له: كم عمرك؟ قال: ستون سنة، قال أبو الدرداء: الله أكبر! منذ ستين سنة وأنت تسير إلى ربك، يوشك أن تصل، فبكى الرجل فقال: ما الحيلة رحمك الله أبا الدرداء، قال: أصلح ما بقي يغفر الله لك ما مضى].
أيها الشيخ المبارك: يا من شبت وشاب ذقنك وعارضك، وسواءً ظهر الشيب أم أخفيته بالصبغ أو الحلاقة: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل منهم من يجاوز ذلك) إذا علمت بقول نبيك صلى الله عليه وسلم، فلا تظنن أن حساب المنايا وقدوم الآجال يتوقف إن أنت غيرت من هيئتك، أو أخلفت من حالك، ظناً أن الآجال لا تأتي إلى كبار السن، واعلم أن مزيداً من التلميع أو التغيير في هذه الشخصية، لن يجعل المنية تبتعد قليلاً أو كثيراً، واعلم أنك لا تصلح ما أفسد الدهر:
عجوزٌ تمنت أن تعود صبية وقد ذبل الخدان واحدودب الظهر
فراحت إلى العطار تبغي شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
إذا جاء النذير، وضعفت القوة وضعف البصر، واحتجت إلى العصا، وأدركت أنك مودعٌ، وأنك في انحدارٍ وانقطاعٍ من هذه الدنيا،
إذا الرجال ولدت أولادها وأصبحت أسقامها تعتادها
وكثرت من سقمٍ عوادها تلك زروعٌ قد دنا حصادها
فما أجمل الاستعداد للقاء الله عز وجل، يا من شبت ماذا تصنع إذا بلغت هذه الحال والله عز وجل يقول: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15]؟ قال ابن كثير رحمه الله: وفيه إرشادٌ لمن بلغ الأربعين، أن يجدد التوبة وأن يعزم عليها.
وقال النووي رحمه الله في رياض الصالحين: بابٌ في الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر.
ونقلوا أن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة.
وقال مالك رحمه الله: أدركت أهل العلم عندنا وهم يطلبون الدنيا والعلم، ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت.
نحن لا نقول يجب على كل من بلغ الأربعين أن يقطع مصالح الدنيا من كسبٍ حلالٍ وسعي على الذرية والزوجة والولد، بل نقول ينبغي لمن بلغ هذا السن أن يستعد، وأن يأخذ مزيداً من الاستعداد في وقته وطاقته، وإنفاقه وماله؛ ليقدم على الله عز وجل بذلك، ولتعلم أن العبرة بصلاح النهايات لا بقوة البدايات، ولتعلم أن المدار على آخر العمر، وأن الأعمال بالخواتيم، ولهذا كان من الدعاء المأثور، اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) ولا شك أن من شاب وتقدمت به السن، فهو أقرب إلى الموت، لأن الشباب ينتظرون مزيداً من العمر، وأما من شاب فلم يبق في عمره بقدر ما مضى، فالحرص الحرص يا من شبتم، والحرص الحرص يا كبار السن، والحرص الحرص يا من تخطون في هذه الأعمار إلى المقابر والدار الآخرة، الحرص على الإكثار من الطاعات، والإكثار من الاستغفار، والاستكثار من ذكر الله عز وجل، فإن الإنسان إذا تعود شيئاً أكثر من ذكره وشب وشاب ومات عليه:
عود لسانك ذكر الله تحظ به إن اللسان لما يعتاد قوالُ(166/4)
قبول الحق ولو على النفس
أيها الأحبة! كثيرٌ من الناس ومنهم كبار السن على الأخص، ظن أن كبر سنه مسوغٌ له أن يتكلم في رد حقٍ أو قبول باطلٍ أو مكروه، وبعضهم إذا أُمر بمعروف أو نهي عن منكر قال لمن نصحه أو عامله: اسكت أنا أكبر منك وأنا أعلم منك، وليس في الحق كبيرٌ وصغير، إنما الكبر في قوة العلم بالدليل وخشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] أيها الكبير في السن: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] نعم.
بعض كبار السن إذا أمر أو نهي قال حدثنا من قبلنا، وأخبرنا من أدركناهم ونقلنا عمن عرفناهم فنقول له: إن كنت نقلت عن علماء أجلاء (فأنعم وحيهلا) وإذا كنت تنقل عن كبار سنٍ، أو آخرين ممن سبقوك إلى المقابر لم يعرفوا بعلمٍ ولا هدى ولا دليل، فليس في قولهم حجة، وليس في كلامهم محجة، بل الحجة فيما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفتى به عالمٌ جليلٌ يُطمأن إلى علمه وخشيته وتقواه، وهذه مسألة عظيمة لكبار السن ولصغارهم، أن يقبلوا الحق ولو على أنفسهم، وأن يقبلوا الحق ممن جاء به ولو كان الذي جاء به صغيراً أو أقل علما:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علمٍ كمن هو جاهلُ
رب كبير القوم لا علم عنده صغيرٌ إذا التفت عليه المحافل
فبعض كبار السن قد ينفر من الحق ويرده إذا جاء به ولدٌ أو صغيرٌ أو قريبٌ ممن يراه ليس حقيقاً أن يحمل هذا، ولكن الحقيقة أن من حمل كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو شريفٌ بذلك، يعظم شأنه وقدره بمقدار ما حمل من كلام الله وكلام رسوله، ويا أيها الذي شاب {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].(166/5)
الاستعداد للمشيب
أيها الأحبة في الله: الاستعداد للمشيب حتى لا تكون الخطبة والكلمة لمن اشتعلت رءوسهم شيباً، بل وحتى تكون الموعظة للمتكلم والسامع، والشاب والذي بلغ سن المشيب، إن صلاح المشيب يتطلب استعداداً في وقت الشباب، الذين شابوا وتعودوا دخول المساجد قبل المؤذنين، والذين شابوا وتعودوا أن يمكثوا في المساجد ليكونوا آخر الناس خروجاً منها، الذين شابوا وأصبحت قلوبهم ترفرف في المساجد، وتهوي وتخفق شوقاً إلى المساجد، الذين شابوا وهم إذا دخلوا في المسجد أصبحوا كالسمكة في الماء، نعيماً ولذة، وإذا خرجوا منها أصبحوا كالسمكة قد أخرجت من الماء فهي تحن إلى الماء؛ لأن فيه أنس أرواحهم، ولذيذ ذكرهم، وجميل إخباتهم، ولذتهم في ركوعهم وسجودهم، هؤلاء لم يبيتوا ليلة غافلين عن المساجد فأصبحوا فجأة عشاقاً لها، لا إنما عودوا أنفسهم على ذلك، وقطعوا قطعاً وفصلاً جذرياً جوهريا في مرحلة من مراحل عمرهم استعداداً وقراراً صائباً حاسماً لا تردد فيه؛ أن ما مضى وانتهى ما انتهى، ليعود الواحد استعداداً للقدوم بين يدي ربه.
نحن ما خلقنا في هذه الدنيا لنظل ونستقر فيها، إنها ممر وليست مستقراً، ومن تعلق بالدنيا استوحش من الآخرة، ومن اشتاق إلى الآخرة أعد لها وعمل لها، قيل للحسن البصري: [ما بالنا نكره الموت ونحب الدنيا؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخركتم، فتكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب].
فيا أيها الأحبة: لا بد من الاستعداد للمشيب، ولا بد من تعويد النفس على المكث في المساجد، والتبكير إليها، ما الذي يضيرك أن تعود نفسك تاراتٍ وتارات، حتى يصبح أمراً لا بد منه ولا تقبل أن تتأخر عنه، أن تذهب إلى المسجد قبل الأذان وتمكث فيه؟ وما الذي يصدك أو يردك أن تمكث فيه؟ وما الذي يصدك أن تعود نفسك البقاء في بيوت الله، على حلق الذكر ورياض الجنة، ومجالس العلم، حتى تعود نفسك الأنس واللذة وأنت تخر بوجهك وجبهتك ساجداً إلى الأرض، عود نفسك أن تتلذذ بتمريغ الجبهة والأنف في حال السجود.
وتأمل حالك وأنت تخضع وتركع لله عز وجل متلذذاً بهذه الحال التي حرم منها من لا يستطيع الركوع، أو حرم منها من لا يستطيع السجود.(166/6)
سوء الخاتمة في الجور بالوصية
يا من شاب في الإسلام: احذر أن تفسد خاتمتك بالجور في الوصية، فإن من الناس من يكون صاحب مسجدٍ وعبادة، وصاحب قيامٍ وتهجدٍ وذكر، ولكن إذا خط القلم وكتب وصيته جار فيها جوراً عظيماً، جعله -والعياذ بالله- ينقلب إلى سوء الخاتمة، فتراه يوصي بحرمان البنات من الميراث، أو تراه يوصي بتفضيل ولدٍ على ولد في الميراث، وذلك لا يجوز أبداً، وما دام أن الله قد أحسن إليك في مشيبك وأقبلت على هذه الخاتمة الحسنة، فإياك أن تفسدها بجورٍ في الوصية، واعلموا يا معاشر الورثة أن من رأى وصية جورٍ، فإنه واجبٌ عليه، ولا نقول يجوز؛ بل واجبٌ عليه أن يبدلها وأن يغيرها، وألا يكون سبباً في تحقيق إثمٍ على كاتبها أو من أوصى بها، بل هو آمرٌ بمعروف مغيرٌ للمنكر.(166/7)
كن قدوة لغيرك
أيها الشيخ المبارك: يا من شبت في الإسلام! أنت القدوة لأولادك ولأبناء حيك وجيرانك، فليكن كلامك حسناً ولباسك حسنا، وفعلك حسنا، وإياك أن تخرم مروءتك، وإياك أن تهدم هيبتك حينما تزبد أو ترعد بأدنى تصرفٍ في متابعة أمرٍ لا يليق، أو انسياقٍ وراء شهوة شبابية من لعب ورقٍ، أو مشاهدة مباريات رياضية، أو مصارعة حرة، أو سهرٍ على الباطل، أو قنواتٍ فضائحية،
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما بال أشيب يستهويه شيطانُ
إنك لتعجب يوم أن ترى كباراً في السن أخفوا شيبهم أو بقي شيبهم ظاهراً، وهم أمام المصارعة الحرة، يتصرعون أمام الشاشة إذا صرع صاحبهم أو صرعه خصمه، وإنك لتعجب من عباراتٍ بذيئة نتنة ملؤها السباب والشتيمة واللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله، إذا كان يلعب الورق ثم أخلف صاحبه لعبته، أو أفسد عليه خطته، ينقلب إلى مراهقٍ يملأ المجلس سباً وشتماً، وربما بلغت المسألة إلى حد المضاربات والكلام البذيء.
عجباً لأولئك الذين كبروا في السن وهذا فعلهم ولا يزالون على ذلك، كيف تكون قدوة صالحة ولا يزال (بكت الدخان) في جيبك؟ كيف تكون قدوة صالحة وأنبوب الأرجيلة أو الشيشة لا يزال أنيس شفتيك بدلاً من أن يكون ذكر الله ديدنك وطبعك وهجيراك؟ يا من شبت في الإسلام! أما تستحي وقد أكرمك الله بشيبة كريمة، إخوانك في الشيشان وداغستان، والبوسنة، والصومال وغيرها، شابوا يشردون، شابوا يطردون، شابوا مرضى لا يجدون دواء، شابوا فقراء لا يجدون مالاً، شابوا جياعاً لا يجدون طعاماً، شابوا ظمأى لا يجدون ماءً عذباً زلالا، وأنت قد شبت والدواء بين يديك، ولا تزال العافية في بدنك، ولا تزال كريماً في مجلسك في بلدك، في وطنك، في عزك وكرامتك، شيبة كريمة فلا تفسدها بالذنوب والمعاصي، شيبة عزيزة فلا تذلها بمعصية الله عز وجل والإمعان فيها، بل اجعل بينك وبين الله سراً في التهجد والذكر، والإنفاق في سبيل الله عز وجل.
سبحان الله! شيخٌ كبيرٌ يريد أن يحاكي الشباب في مشيته، وحركته، وكلامه، وربما زين له الشيطان فحلق لحيته، أو خضب لحيته بالسواد، أو غير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (لا تنتفوا الشيب! فإنه نور المسلم، من شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة، وكفر عنه بها خطيئة، ورفعه بها درجة) رواه أحمد وأهل السنن.
وذكر عبد الرزاق في مصنفه عن سعيد بن جبير أنه قال: (يعمد أحدكم إلى نورٍ جعله الله في وجهه فيطفئه).(166/8)
الحث على التوبة والرجوع إلى الله
أيها الشيخ المبارك: يا من شبت في الإسلام! يا من طعنت في هذه السنين! يا من ودّعت من السنين ما ودّعت، العودة العودة إلى الله، والإياب الإياب إلى الاستغفار، والرجوع الرجوع إلى طاعة الله ومرضاته، وبادر نفسك بالتوبة، بادر نفسك بالإنابة، وتخلص من الذنوب والمعاصي قبل أن يتلذذ بها من بعدك، وأنت الذي تحاسب عليها يوم القيامة.
بعض الذين شابوا يؤتى إليهم فيقال لهم: أسهمكم في البنوك الربوية تخلصوا منها ما دمتم على قيد الحياة، فيقول: لا.
اشترينا السهم بألف ريال، والآن السهم بمائة وثلاثة وستين ألفاً، من يفرط في مائة واثنين وستين ألفاً، إذا لم تجعل هذا الفرق تحت قدميك توبةً وإنابة لله عز وجل، واستغفاراً من ذلك: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] فاعلم أن مائة واثنين وستين ألفاً سوف يتمتع بها الورثة من بعدك، وإذا جاءوا يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
وقال كل خليلٍ كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغولُ
تأتي يوم القيامة تطلب حسنة، نصف حسنة، ربع حسنة، ألم أجمع لكم أموالاً، ألم أخلف لكم ثروات، ألم أفعل لكم؟ يقولون: هذا يومٌ كلٌ يقول فيه: نفسي نفسي، إذا كان أولوا العزم والملائكة الكرام والأنبياء والرسل، والشهداء والصديقون يقولون: نفسي نفسي، يقول صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أملك لك من الله شيئاً يوم القيامة) إذا كان هذا شأن أولي العزم، بل شأن سيد الأنبياء والمرسلين، فما شأنك يا مسكين؟ أتظن أنك إذا خلفت ثروة من الحرام، من أسهم البنوك الربوية، أتظن أنك تبيت أو تموت قرير العين، وأنت الذي تحاسب عليها وتعذب عليها، وتكوى بنارها، ألا فتخلص منها، لأنهم لو ضربوا هذه المبالغ في عددها عشر مرات ما أخرت الأجل عنك ساعة: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85] ماذا يفعل أبناؤك الذين خلفت لهم أموالاً حراماً؟ إن كان فيهم خيراً تخلصوا منها وإلا تمتعوا بها، وجعلوا عذابها وحسابها وشؤمها عليك وحدك، إن كانوا لا يعرفون حقيقة مصادرها.(166/9)
السفر إلى بلاد الكفار
أيها الأحبة! إن من العجب والمحزن والمبكي، أن ترى بعض كبار السن لا يزال غارقاً في لشهواته، عددٌ ليس بالقليل من كبار السن، لما تقاعدوا من أعمالهم، تجد البعض منهم سافروا إلى الخارج وسكنوا هناك، والناس يتمنون أن يعيشوا في بلاد الإسلام، إن من الصالحين من لما تقاعد من وظيفته واشتعل رأسه شيباً هاجر إلى مكة والمدينة يريد أن يموت فيها، من استطاع أن يموت في المدينة فليفعل، المدينة خيرٌ لهم لو كانوا يعلمون، وآخر لما تقاعد اشترى له شقة في بلدٍ النساء فيه كاسيات عاريات، وبعضهم لا يجد أنسه إلا إذا أخذ جرائد الصباح واستمتع بها في مشهدٍ قد امتلأ طريقه وممر عبور الناس فيه بألوان الغاديات، وأصناف الكاسيات العاريات، يا سبحان الله إن منهم هداهم الله -وأقول هذا الكلام، وهي رسالة لا شك أنها ستصل أناساً ممن هم على هذه الشاكلة- من يمكث طيلة السنة خارج المملكة، فإذا جاء رمضان جلس في بيته يصوم مع أولاده، وليلة العيد الويل كل الويل إن لم تكن بطاقة الصعود إلى الطائرة للعود إلى تلك البلاد قد أعدت له، يترك شيئاً يسيراً من المال لأهله ويعيش وحده هناك، الله أعلم كيف يعيش، بل بعضهم معلومٌ عيشه بشهادة الشهود العيان، يشار إليه بالبنان، ويعرف حاله ومآله، وما يتقلب فيه بتلك البلاد، وقد قلت ذات يومٍ لأحدهم يا فلان! في كل مرة يستقبلك أولادك في المطار، وإن لم تتب فيوماً من الأيام يستقبلون تابوتاً فيه جثتك، اعلم إن لم تقطع هذه العادة والهجرة إلى بلاد الكفر والسكنى والمكث والبقاء فيها، إن لم تقطع هذه المعصية، إن لم تبادر بالإقلاع عن هذا الفعل لتعيش في بلاد التوحيد والإسلام، ولتجاور واحداً من الحرمين مكة أو المدينة، اعلم إن لم تبادر بالتوبة والإنابة والرجوع وأنت تعز وتكرم بين أولادك الذين يتعطشون لاستقامتك، ويتعطشون لحسن خاتمتك، ويخافون من حالٍ يشمت بهم الشامتون فيك، يقول لهم الناس فلانٌ أولاده تعودوا أن يستقبلوه، واليوم استقبلت جثته مع العفش، مع عفش المسافرين في المطار، فأسألك بالله من الذي يحمد حالك، أو يشكر صنيعك، أو يذكرك بخير، أو يذكر لك سيرة حسنة.
اللهم أحسن ختامنا، اللهم أحسن ختامنا، اللهم أحسن ختامنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(166/10)
نهاية الحياة الدنيا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في دين الله ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أحبتنا في الله: عودٌ والعود أحمد إلى آباءٍ كرام، وأجدادٍ أجلاء لا يزال بعضهم جاهلاً بطريق الحياة، وأنها تنتهي إلى بابٍ مسدودٍ اسمه المقبرة، انتقالٌ إلى دار برزخية، وما أدراك ما يكون في هذه الدار البرزخية.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه وأين العظيم إذا ما افتخر
انتهاء وانتقال من هذه الدنيا إلى حالٍ لا يدفن مع الملك خادمه، ولا مع القائد جنديه، ولا مع الثري ماله، ولا مع الأميرة وصيفتها، ولا مع كبيرٍ ولا صغير: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] القدوم بين يدي الله عز وجل، الحال: حفاة عراة {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] فلمَ لا نستعد، ولِمَ لا نتهيأ، ولِمَ لا نتخلص من هذه الذنوب وهذه الأوزار بدلاً من أن تكون ميراثاً وتركة؟ ما ظنكم برجلٍ يشيب ثم يموت، فيقول الناس قد ترك مائة سهمٍ ربويٍ يتنازعه الورثه، أو ترك ألواناً وأصنافاً من آلات اللهو والطرب، أو ترك أضرباً وأنواعاً من أسباب العقوبة والمقت والسخط؟ إن الواجب على من تقدمت به السن، أن ينتبه لنفسه أكثر وأكثر، والعجب أن المثقفين من كبار السن، كلما تقدمت بهم السنون؛ كلما ازداد مراجعاتهم للأطباء، والتحاليل المخبرية، وفحوصات الأشعة، من أجل ماذا؟ لأنهم يدركون أن الضعف قد بدا على الأبدان، وما كانوا يترددون على الأطباء في فترة شبابهم، لكن لما كبر السن وظهر الشيب وضعفت القوى أخذوا يترددون، وهذا دليل على أن الشيء ينقص ثم ينقص ثم ينتهي، فيا كبار السن! عودوا إلى الله عز وجل، حتى تكون الخاتمة سعيدة هنيئة لذيذة.
اللهم إنا نسألك عيشة هنيئة، وميتة سوية ومرداً إليك غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، إلهنا وربنا ومولانا وخالقنا، يا ودود يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعالٌ لما تريد، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، يا من إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، اللهم أهلك الروس الشيوعيين، اللهم اجعل سلاحهم في صدورهم، واجعل كيدهم في نحورهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم كما قهرتهم في أفغانستان فاقهرهم في الشيشان وداغستان، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنهم يحاصرون جروزني عاصمة إخواننا في الشيشان، إلهنا فاجعل جندك وملائكتك تحول بينهم وبين ما يريدون يا رب العالمين، اللهم اجعل جنودك الذي لا يعلمها إلا أنت تحول بينهم وبين ما يريدون، اللهم اجعل جنودك الذي لا يعلمها إلا أنت تحول بينهم وبين ما يريدون، اللهم ارحم النساء الثكالى، والأطفال اليتامى، والشيوخ الركع، والبهائم الرتع، اللهم ادفع البلاء عن إخواننا، اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في الشيشان وداغستان، إلهنا لا حول ولا قوة إلا بك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، حسبنا وحسب إخواننا الله، حسبنا وحسب إخواننا الله وكفى وهو نعم الوكيل، اللهم سدد إخواننا المجاهدين، ووحد صفهم واجمع كلمتهم، وأقم على التوحيد دولتهم يا رب العالمين، اللهم انصرهم، اللهم عجل نصرهم، اللهم احفظهم، اللهم ثبتهم، اللهم أعنهم، اللهم أنزل الصبر والثبات واليقين والطمأنينة في قلوبهم يا رب العالمين، إلهنا ومولانا آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا على طاعتك، ولا تفرّح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً يا رب العالمين.(166/11)
ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين معلومة، فلا يحتاج إلى تردد أو مشاورة أو دراسة، فهو مذكور في الكتاب والسنة، به نجاة الأمة، وبه نجاتنا وفوزنا وفلاحنا، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم أتبعها بذكر شروطه وآدابه وبعض مسائله.(167/1)
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة: نقف اليوم مع حديث عظيم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
عباد الله: الأمور مقدرة، والآجال مؤجلة، والأرزاق مقسومة، والفرص محدودة، والأنفاس معدودة، وكل شيء بأجل مسمىً عند الله سبحانه وتعالى، فلنحسن ما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى؛ فعند ذلك لا نخشى شيئاً قل أو كثر.
أيها الإخوة: هذا حديث عظيم وجليل ينبغي أن ننتبه له وأن نجعله مقياساً دقيقاً في أعمالنا كي لا نقع في رضا الخلق بسخط الخالق؛ ولكي نستطيع أن نكسب رضا الخلق فعلينا بطاعة الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون هاجساً وحديثاً وعملاً وهمة في نفس كل مسلم، ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً دائماً نشغل أنفسنا به؛ لأن ذلك دليل على إخلاصنا ومحبتنا لربنا، وغيرتنا أن يعصى الله أمام أعيننا، ومحبتنا أن يكون الخلق كلهم مطيعين لله سبحانه وتعالى.
يقول أحد السلف: وددت أن هؤلاء الخلق أطاعوا الله ولو قرض لحمي بالمقاريض.
يريد أن يكون الناس في عبادة لله سبحانه وتعالى، وعدم عصيان لله سبحانه وتعالى ولو قرض لحمه بالمقاريض، انظروا الغيرة والإشفاق والمحبة لعباد الله سبحانه وتعالى! ولقد كان السلف الصالح يعتنون بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية عظيمة، حتى إن بعضهم مع مجافاته وعدم محبته للمناصب والولايات يلزم نفسه أو يضطر لأن يتولى ولاية معينة فيها أشد الحساب ألا وهي القضاء، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول ابن رجب: وكان بعض الصالحين يتولى القضاء، ويقول: أنا لا أتولى القضاء إلا لأستعين به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها الإخوة: لا أظن بعد هذا -وقبل هذا في نفوسنا- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى تردد، أو مشاورة أو اتخاذ قرار أو دراسة، فالأمر وارد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبه صلاح الأمة، وبه نجاتنا وفوزنا وفلاحنا.(167/2)
العدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الأحبة: نحتاج إلى عدة حتى نمضي على هذا الأمر وأهم عدة هي الصبر، يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] لأن الإنسان لابد أن يصيبه شيء، وهذه سنة الله جل وعلا أن يكون أصحاب الباطل وأصحاب الحق في صراع دائم، فلابد أن يصيبك شيء من الابتلاء والامتحان في مالك، أو ولدك، أو فرصك، أو حياتك، لكن اسمع قول الله جل وعلا على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] وانظروا هذا الأمر: (أَقِمِ الصَّلاةَ) ثم ثنى بعده: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) الصلاة مناجاة بل هي أعظم سند للمسلم في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].
كذلك يا أخي المسلم! حينما تتسلح بالصبر في هذا الأمر المهم ينبغي أن تكون متصفاً بأمر آخر وهو الذي يجعل العباد يتأثرون بأمرك، ويقبلون كلامك، ويمتثلون ما تأمرهم به من أمر الله سبحانه وتعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الإخلاص فهو مفتاح الانقياد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالإخلاص يجعل هذه الكلمات مفاتيح سحرية شفافة تدخل إلى قلوب مغلقة فتفتحها، ثم توصل هذا الكلام إليها فتتأثر وتتفاعل، وهنا نتهم أنفسنا، ونتهم إخلاصنا؛ لأننا عرفنا أن الصحابة والسلف الصالح وعلماء الأمة كانوا يقفون في موقف واحد، أو في منبر واحد، أو في مكان واحد، فيعظهم ويأمرهم وينهاهم فتجدهم متأثرين يبكون خاشعين مخبتين، ما بالنا كثرت خطبنا، كثر كلامنا، كثرت محاضراتنا، كثرت كلماتنا ولا يتأثر إلا أقل القليل.
أيها الإخوة: لنتهم أنفسنا، فإخلاصنا فيه دخن.
يقول الحسن البصري: [الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم] فالإخلاص الذي هو مفتاح سر الانقياد قد أوتينا من قبله، أو قد دخل علينا منه، فينبغي أن نحاسب أنفسنا وأن ندقق في أمورنا.
أيها الإخوة: حينما نعلم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجته أن ينتشر الباطل ويتكاثر أصحابه ويتجرءون على أهل الخير والصلاح، ويجرءون في السخرية، ويجدون في الاستهزاء بهم، أيرضى المسلم أن يقع هذا لدينه وأبناء دينه؟! لا والله.
إذاً: ما هو السلاح لصد هذا الأمر؟ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسأضرب مثالاً كلنا نعرفه: منذ فترة كان الذي يُذكر عنه في بيته أن عنده عوداً إنساناً يتحدث به في المجالس، والآن يتجرأ كثير من الشباب ويخرج بهذا العود ويقف على قارعة الطريق مع شلة من الشباب، ثم يبدأ يعزف وقت الصلاة، يؤذن للصلاة وتقام الصلاة وينصرف الناس وهؤلاء على لهوهم وباطلهم، وقد كان أصحاب المنكر لا يستطيع واحد إظهاره، بل أن بعضهم يخرج العود في خيشة، وهي: كساء من الليف؛ خشية أن يظن أن في بيته عوداً، والآن بكل بجاحة وجرأة يقف على قارعة الطريق، والسبب في ذلك نحن؛ لأننا رأينا أول واحد وثاني واحد وعاشر واحد ولا نقف في وجهه إلا ما ندر، وما وجد من يقول لهؤلاء الشباب: اتقوا الله الذي جعل لكم السمع والبصر، لو شاء الله لأشل هذه الأصابع التي تعزف بها وتتفنن بالعزف بها، لو شاء الله لجعلها مشلولة فما استطعت أن تحركها، إذا لم تقلع عن هذا المنكر فكن مختبئاً، لا تجاهر بالمنكر، فإن أنكر المنكر أن يجاهر المرء به، وإن أفسق الفسق أن يجاهر الفاسق بفسقه.(167/3)
أمور ينبغي أن تراعى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: من الأمور المهمة التي ينبغي أن نلاحظها وأن نراعيها فيما يتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:(167/4)
المصالح والمفاسد
حينما نأمر بمعروف نعلم أن هذا الأمر أو أن هذا النهي لا يفضي إلى مفسدة، وأن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يكون ميزانه في درجات، وبالمناسبة فالاستجابة ليست شرطاً، فإنه قد يقول قائل: أنا أعلم مليون في المليون إن كان هذا الجدار يتحرك من مكانه فإن هذا الذي آمره بالمعروف لا يتحرك، نقول له: مر بالمعروف وانه عن المنكر، ولو لم يغلب على ظنك أن هذا المأمور وأن هذا المنهي يقلع عن الباطل، أنت مأمور وما عليك إلا البلاغ، والهداية بيد الله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20].
والمنكر في تغييرنا له حالات: إما أن يستجيب، وإما ألا يستجيب المدعو، وإما أن يكون في تغيير هذا المنكر منكر أعظم منه، فالواجب علينا في تلك اللحظة ألا نغير هذا المنكر، وأن نتركه حتى حينه، نكون أصحاب موازين ومقاييس، أصحاب فقه وحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] ينبغي أن نعرف وأن نعلم إذا غلب على ظننا حينما نأمر بهذا الأمر أو ننهى عن هذا الشيء، أنه سيفضي إلى مفسدة عظيمة فينبغي أن نترك الأمر، إذا تساوى الأمران، قال بعض العلماء: تنكر، وقال بعضهم: لا تنكر، والواجب بل الأرجح أن الإنسان ينكر، أما ما دون ذلك فالإنكار لا شك مطلوب، فينبغي أن يكون لدينا فقه ومعرفة.(167/5)
اتباع الأسلوب اللطيف
كذلك ينبغي للإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون متبعاً لأسلوب مهم، ألا وهو أسلوب معرفة حماية النفس، لا أقول هذا لأنقض الكلام السابق فيما يتعلق بالخوف على النفس في المال أو في الرزق أو في غير ذلك، لا.
ولكن أقصد بذلك أن تكون قد سلكت الأسلوب الذي يجعلك فيما يغلب على ظنك مؤثراً، أو بالأحرى ألا تكون متعرضاً لتحديات ومواجهات، وأنت تعرف سلفاً أن هذه المحاولات فاشلة، ومن ثم يترتب على ذلك منكر أعظم من المنكر الذي أنت في صدد تغييره، أضرب لكم مثالاً: ذات مرة جاءني أحد الأصدقاء الذين أعرفهم ووجهه قد أدمي، وفي وجنته بعض الجراحات، وأخذ يبكي، فقلت له: يا أخ فلان! ما الذي بك؟ أخذته العبرة ثم بعد ذلك سكت أو سكن مما بخاطره وسألته، قال: لنا جار يبني عمارة، وكان عنده عمال لا يصلون، فجئت ودخلت على العمال في العمارة، ولعله صار بينه وبينهم شيء من رفع الصوت والغلظة والجدال، فما كان من صاحب العمارة ومعه أناس آخرون إلا أن أمسكوا به وضربوه وجلدوه وفعلوا به فعلاً لا يفعل بمسلم، ثم بعد ذلك أخرجوه، فقلت له: يا أخي: كان من واجبك أن تتبع أسلوباً لطيفاً رقيقاً، وفي هذه الحالة: أيهما أفضل أنك أنت الآن يستهزأ بك ويتمسخر بك أمام هؤلاء الفسقة الذين ضربوك، أو أنك اتخذت الأسلوب الأمثل فذهبت إلى الهيئة وقلت: هناك أناس أنا أخشى منهم مثلاً -إلا أن يكون مفادياً بنفسه لله؛ فذلك أجره على الله- لكن أقول ذلك لأستشهد للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن: (لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) إذا كنت صبوراً وتتحمل وتصارع وتجادل أهل الباطل وتصرعهم وتذلهم نقول: أعانك الله على هذا التغيير، لكن أنت لا زلت شاباً صغيراً تدخل على مجموعة في بيت الله فلا تعرض نفسك لشيء لا تطيقه.
إذاً: لا نقول: من واجبك أن تسكت، ولكن أن تأخذ من هو أكبر منك، إمام المسجد، عمدة الحي، إنسان مسئول، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة، وتقول: هؤلاء لا يصلون، وعند ذلك إذا سلكت هذا الأسلوب تكون بإذن الله جل وعلا قد أديت الواجب وحفظت نفسك، ولم تعرضها لما لا تطيق من البلاء.(167/6)
أن يكون الآمر والناهي قدوة لغيره
كذلك من الأمور والآداب التي ينبغي أن نراعيها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة القدوة، بأن تكون أنت بنفسك مؤتمراً بالمعروف منتهياً عن المنكر قبل أن تأمر الناس، قال رجل لـ ابن عباس: [إني أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهي عن المنكر، قال: نعم.
انظر إلى ثلاث آيات، فإن استطعت ألا تقع في واحدة منهن فاؤمر جزاك الله خيراً، قال: وما هي يا ابن عباس؟ قال: قول الله جل وعلا: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] والآية الأخرى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] والآية الثالثة: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3]].
إذاً: من واجب الإنسان أن يكون قدوة صالحة حتى يكون لكلامه وقع وأثر على النفوس.(167/7)
عدالة الآمر والناهي
وهذه مسألة ذكرها الفقهاء وتعرضوا لها في كتب الفقه وفي كتب الحسبة، وهي هل يشترط عدالة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ أعني: هل يشترط أن يكون عدلاً صالحاً عالماً مستقيماً، سليماً خالياً من الصغائر والكبائر؟ هذه مسألة خلافية، ورجح أغلب أهل العلم أنه لا يشترط العدالة التامة، وإنما يشترط العدالة العامة وذلك بالسلامة من فواحش المنكرات وكبار المعاصي، أما الصغائر فلا يسلم منها أحد، ولذلك فإن الإنسان حينما يحجه الشيطان ويقول له: أنت تفوتك صلاة الفجر أحياناً، كيف تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون عليك ذنبان، ترك الصلاة جماعة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول الحسن البصري: [ود الشيطان منا أن نقع في المنكر وألا نأتمر بالمعروف ولا نتناهى عن المنكر] الشيطان يتمنى ذلك، لكن ينبغي إذا وقعنا في واحدة ألا نقع في اثنتين، إذا زل الإنسان في زلة بسيطة أو سهلة يستغفر ويتوب إليه سبحانه وتعالى، ومع ذلك يبقى مصراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يجمع على نفسه هذين الأمرين يقول الشاعر:
إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد
المعصومون هم الأنبياء: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] ليس هناك أحد يسلم الصغائر إذاً: فلا تكن هذه المسألة حجة.
كنت أعرف صديقاً، من حسن صفاته أنه كان دائماً إذا صلى في مسجد استأذن إمام المسجد أن يلقي كلمة، فيقوم يلقي كلمة يتأثر بها كثير من الناس الحاضرين، وبعد مدة ترك هذا الشيء، وسألته: يا أخ فلان! مالك؟ قال: يا أخي أنا أرى نفسي مقصراً في بعض الأمور، إذاً: يا أخي! عالج نفسك ولا تحرم الناس هذا الخير، ولا تحرم نفسك هذا الأجر والثواب، انظروا هذا المدخل الشيطاني! أيها الإخوة: لا يأتي الشيطان إلى أحدنا ويقول له: من أنت؟ لست بعالم، ولست بكامل، وفيك وفيك من الذنوب ما الله به عليم، نقول: لا.
أنا أستغفر الله وأتوب إليه، وأجاهد نفسي، وما دمت حياً فأنت في جهاد مع نفسك، لأن هناك شيطاناً يجاهدك، وهوىً متبعاً، ونفساً أمارة بالسوء، كلها ستجاهدها في وجه الله وفي طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يكون ذلك مدخلاً عليك في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(167/8)
لا إنكار في مسائل الخلاف
أيها الإخوة: هنا أيضاً مسألة مهمة جداً وهي الإنكار في مسائل الخلاف: قد ترد مسائل خلافية عند بعض أهل العلم، أي أن فريقاً من العلماء يقول: هذا الشيء يجوز، وبعض أهل العلم يقول: لا يجوز، فعند ذلك نأتي في دبر هذا الزمان الذي اتسع فيه خرق افتراق الأمة ونريد أن نجمع الناس على رأي واحد وأمر واحد، ما دامت النصوص موجودة، والاجتهاد مفتوح، وكل يتبع شيخاً بدليل، إذا كان مقلداً قد يتبع هذا الشيخ بدليله، وإذا كان مجتهداً فعنده الدليل، تأتي أنت تقول: لا.
لابد أن تتبعوا هذا الأمر.
وأعطيك مثالاً على ذلك: رجل دخل المسجد وقت نهي، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في أوقات معلومة، ويستثنى من ذلك بما هو معلوم، يستثنى قضاء الفوائت، يستثنى أشياء معينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) جاء إنسان بعد صلاة العصر، وصلى ركعتين، يأتي واحد يمسكه ويقول: لا يجوز يا أخي، لا يصلح، ثم تقعد تبلج في حلقه، لماذا هذا كله؟ لأن هذا وقت نهي، فنقول: اتركه يا أخي! المسألة وارد فيها الدليل، وهناك من الصحابة من رأى هذا الرأي، ومن الصحابة من رأى الرأي الثاني، فالمسائل الخلافية التي جاءت الأدلة فيها بالتوسيع على الأمة، ينبغي ألا ننكر فيها؛ لأنه قد يغلب على ظننا أو بالأحرى نظن لهذا الرجل أنه قد أخذ بدليل هذا الشيخ أو بدليل هذا العالم، إذاً فالمسألة ورد فيها عدة أدلة، وعند ذلك لا ينكر أي: لا يشدد النكير بعضنا على بعض، بإمكانك إذا كان طالب علم أن تتناقش معه، تقول: أنا أريد أن أستفيد، والرسول نهى عن الصلاة في هذا الوقت، وذلك إذا كنت تستدل عليه فهو يقول لك: إنها من ذوات الأسباب، أو كذلك العكس، فعند ذلك إذا كان في المسألة مجموعة من الأدلة، والمسألة خلافية بين العلماء، فلا ينبغي أن نشدد النكير فيما اختلفنا فيه.(167/9)
شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
أيها الإخوة: كلنا يعلم أن شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عديدة: منها:(167/10)
الإسلام
أن يكون مسلماًً؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولاية، والولايات لا يتولها الكفار: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] فالإسلام شرط أساسي من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك نص الفقهاء ألا يولى الحسبة كافر.
وكذلك أن يكون: عدلاً بالجملة، وليس عدلاً بالدقيق والجليل، لأن العدالة الكاملة شبيهة بالعصمة والعصمة للأنبياء، والكمال لله تعالى.(167/11)
الاستطاعة
المسألة الثالثة: الاستطاعة، كل فيما يخصه، أنت رأيت منكراً فأقل الأمور أن تنكر بقلبك إذا لم تستطع بلسانك، وإذا غيرت بلسانك جزاك الله خيراً إذا لم تستطع أن تغير بيدك، وكلنا يعلم قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] بحيث لا يترتب على هذا الإنكار منكرات أعظم وأشد، ومسألة الاستطاعة كل بحسبه، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وما أمرتكم بشيء أو بأمر فائتوا منه ما استطعتم) فكذلك إتياننا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل فيما يخصه بقدر استطاعته.
من شروط هذا المنكر الذي ننكره أن يكون منكراً فعلاً، ليس -كما سبق- قد تكون المسألة فيها أقوال متعددة، فعند من لا يرى هذا الأمر يعده منكراً، فلا.(167/12)
وجود المنكر
المسألة الثانية: أن يكون المنكر معلوماً موجوداً حال إنكارك؛ لكن إذا فات فعل المنكر يأتي هنا دور الوعظ والنصيحة، ومثال ذلك: إنسان علمت أنه شرب الخمر في يوم أمس، وفي اليوم الثاني جاء ودخل المسجد وصلى، تأتي تمسكه في المسجد وتقول له: لماذا تشرب الخمر في يوم أمس؟ صحيح أنك تنكر المنكر لكن فات وقته، وعليك الآن أن تنصحه، تقول: علمت أو سمعت أو لاحظت، حتى مسألة سمعت مسألة لنا فيها كلام وسنتحدث فيها، سمعت أنك بالأمس في وقت كذا أغواك الشيطان، أو كذا، ولكن التوبة مفتوحة، وأقلع يا أخي، فالخمر أم الخبائث إلى آخر ذلك من النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة؛ لأن الإنكار ليس هذا وقته، فالمنكر لم يكن موجوداً الآن، وقد فات وقته، فدورك الآن الوعظ والإرشاد.(167/13)
عدم التجسس والتحسس
كذلك أن يكون المنكر ظاهراً بغير تحسس أو تجسس، فلا يجب على المسلم بل يحرم عليه أن يتجسس يقول: والله يمكن أن يوجد في ذاك البيت منكرات، فلابد أن نتجسس على بيتهم كي نعرف هل عندهم منكرات أم لا.
فنقول: لا يجوز لك أنك تتصنت حتى تعرف ماذا يدور من المنكر في هذا البيت، هل عندهم غناء ورقص أم لا، إذا علمت بحاسة ممكنة، ببصرك وبرؤيتك أو بأذنك، عند ذلك تستطيع أن تنكر، لكن أن تتسور أو تتحسس وتتجسس حتى تنكر، لا.
ما هذا بإنكار، هذا تجسس، وهذه جاسوسية نهى عنها الإسلام، والمسألة ليست بالأمر الهين.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أن منكراً في بيت رجل، فتسور عليه الباب وأطل عليه، ووجده فعلاً على منكر، فأمره عمر بن الخطاب بالمعروف ونهاه عن المنكر الذي هو فيه، فقال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين! لقد أنكرت منكراً ووقعت في ثلاثة منكرات، المنكر الأول: أنك تجسست علي والله سبحانه قال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تحسسوا).
الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
والأمر الثالث: أن الله جل وعلا قال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وأنت تسورت الجدار يا عمر وما أتيت البيت من الباب، فرجع عمر، وكان وقافاً عند كتاب الله.
إذاً: من شروط إنكار المنكر الرؤية، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى) ما قال من سمع بمنكر يعني: يذكر له منكر، لا.
رأيت أو علمت هذا المنكر بحاسية شخصية منك، عند ذلك وجب عليك، إلا أن يكون مسئولاً تحت سلطتك وتحت يدك من رجال الأمن ومن هم مكلفون بمعرفة هذا الأمر، وبلغت هذا الأمر، لا تقول له: اصبر حتى آتي أنظر بنفسي، لا.
هؤلاء مكلفون، وهؤلاء في مكانك وفي مكان ولي الأمر لمعرفة هذه الأشياء.(167/14)
مسألة: إنكار المنكر المعلوم
فيما يتعلق بمسألة إنكار المنكر المعلوم أو الموجود كما قلنا في مثال شارب الخمر، أعني المنكر الذي ينبغي ألا نتحسس ولا نتجسس عليه، وهناك حالة نستثنيها، يجوز فيها التحسس والتجسس وهي أن المنكر إذا وقع يفوت ولا يستدرك، كمن علم أن رجلاً سيقتل رجلاً في هذا البيت، فعند ذلك يجوز لك إلى حد ما أن تبذل من الأسباب ما يدفع هذا الأمر، ولا تنتظر حتى يقع المنكر، والمسألة قد نص عليها أهل العلم قالوا: بشرط أن يخشى فواتها، كذلك إذا علمت بوسيلة من الوسائل أن امرأة سيزنى بها، فهل تنتظر حتى يقع الزنا ثم تأتي تنكره؟! لا.
يجوز لك ولو تحسست إلى حد ما أن تحول بالوسيلة التي مكنك الله بها بين هذا المنكر وبين أصحابه.
أيها الإخوة: وكما قلت: نحن بأمس الحاجة إلى الأسلوب اللطيف بالتغيير، وبأمس الحاجة إلى الأسلوب الجميل في الدعوة إلى الله، وذلك لقول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] أسلوب التغيير ينبغي أن يكون بالأسلوب اللطيف، أسلوب النصيحة، أسلوب الإشفاق، أسلوب المحبة والمودة.
كذلك إذا أردت أن تنصح أقواماً ومن بينهم مجموعة كلنا يعلم أنك تقصد فلاناً في الصف الرابع من المجلس فهذا لا يجوز، كان صلى الله عليه وسلم إذا أنكر أمراً قال: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) إذاً: فلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فالله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى وهارون إلى فرعون الذي تجبر وطغى وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] وقتَّل بني إسرائيل وفعل وفعل، قال الله لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] والله سبحانه وتعالى يقول لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فلا بد من اللطف واللين، لابد من المشاورة، والتقدير والاحترام حتى أثناء الإنكار، حتى أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم نموذج نسوقه الآن في إقناع الإنسان، وفي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، جاء شاب وقال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا، فهم الصحابة أن يقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه، اتركوه، فجاء ومسح على رأسه، فقال: أترضاه لأمك؟! قال: لا.
أترضاه لأختك؟! قال: لا.
أترضاه لخالتك؟! قال: لا.
وكان كلما قال له: شيء قال: لا.
فكان الرسول يقول له: فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لعمتك؟! قال: لا.
قال: فإن الناس لا يرضونه لعماتهم، ثم مسح الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسه أو قلبه ثم قال: اللهم حصن فرجه -ودعا له بدعوات- قال: فما فارق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والزنا أبغض شيء إليه) الأسلوب الجميل في الإنكار له الأثر العظيم.
جاء أحد الوعاظ إلى أحد الخلفاء وأغلظ عليه في الموعظة، فماذا قال الخليفة؟ ضجر وقال: على رسلك، فقد بُعث من هو خير منك إلى من هو شر مني، بعث موسى إلى فرعون ومع ذلك قال له الله سبحانه وتعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
ويذكرون أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله رحمة واسعة كان له جار يسكر أحياناً، فيقول إذا سكر وانتشى واضطرب:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
كما نقول: ينتفل، فافتقده ليالي، ثم ذهب إلى دار الحسبة أو المحتسب، فإذ بالرجل قد شرب الخمر وسجن، فبعد أن شفع فيه الإمام أبو حنيفة، والمسألة لا شك متعلقة بإقامة الحد عليه، وخرج وجاء الإمام أبو حنيفة وسأل عن حاله وخرج به، قال: يا فتى! وهل ضيعناك، أنت في كل ليلة تقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ها نحن أتينا نسأل عنك فهل ضيعناك؟ فعجب الرجل، ذلك سبباً في تركه للخمر، وبغضه لها، وأصبح ذلك سبباً في هدايته واستقامته بسبب هذه التصرفات والفعال الطيبة.
أيها الإخوة: ينبغي أن يكون الدافع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ينبغي ألا يكون إنكارك للمنكر للتشفي من هذا الإنسان، لأنه في يوم من الأيام أخطأ عليك فأردت أن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر أمام أناس حتى تتشفى أو تشفي غليلك منه أمام هؤلاء الحاضرين، عند ذلك والله لا يقبل منك ما لم يكن دافعك لهذا الأمر هو إخلاصك لوجه الله سبحانه وتعالى، وأن يكون دافعك لهذا الأمر هو محبته والإشفاق عليه، وعدم الشماتة به، عند ذلك يكون لأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر أثر مهم جداً ويكون له فائدة في نفس الرجل.(167/15)
اشتراط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هنا مسألة مهمة: هل يشترط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ اختلف الفقهاء في هذه المسألة، والصحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتعلق باللسان وإنكار القلب لا يحتاج إلى إذن الإمام، ولا خلاف في ذلك، وكذلك الإنكار باللسان، إلا فيما يتعلق باليد، فالإنسان الذي يريد أن ينكر منكراً بيده لا بد إذا غلب على ظنه خاصة بأنه ينتج عنه فتنة، أو مصيبة، أو مشكلة، أو عراك، أو جدال قد يشهر سلاحاً وقد يحدث جراحاً، فلابد أن يؤخذ إذن الإمام في ذلك حتى لا يكون الأمر فوضى، ولو قلنا إن إنكار المنكر باليد مسموح لأي إنسان لأتى مجموعة يريدون بإنسان سوءاً أو يحقدون عليه أو يكرهونه؛ فيضربونه ويقولون: رأيناه على منكر وغيرناه، لا.
المسألة ليست بالأمر الهين، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الحيل والألاعيب والأساليب وغير ذلك فيما يتعلق بإنكار المنكر، ولابد من استئذان السلطة كما يقول الفقهاء: اشتراط إذن الإمام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها الإخوة: هذه جملة مما قرأته وكتبته في هذا الموضوع، وأفدت نفسي والله، والسبب والفضل لله ثم لكم أن كلفتموني بهذا الأمر.
أسأل الله جل وعلا أن أكون قد أفدت إخواني بما قدمت، وكل ما تسمعونه إن كان صواباً وحقاً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان.
أسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم ما يسخطه، وأن يعصمنا عما يغضبه، وأن يوفقنا إلى ما يرضيه، وأن يجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان والنفاق والرياء فيها نصيباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(167/16)
الأسئلة(167/17)
رفع الصوت في مخاطبة الوالدين
السؤال
ما حكم رفع الصوت على الوالدين؟
الجواب
لا شك أن في ذلك إثماً عظيماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] قال العلماء: لو علم الله شيء أدنى من الأف لنهى عنه في خطاب الوالدين: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وأنت يا أخي تقول: أنا أرفع صوتي على والدي وعلى والدتي، لا يجوز لك أن ترفع صوتك، وقولك: للشر الذي أتوقعه، يمكن في ظاهر تصورك أنه شر، وإلا فإن الوالدين لا يضمران لابنهما شراً إطلاقاً، فالوالد له قلب حنون كأنه أغصان شجرة في مهب الريح فيخشى على ولده، وحينما يقسو عليه فإن قسوته هذه من فرط المحبة
قسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
فلا يجوز لك أن ترفع الصوت، بل من واجبك أن تخضع وتطأطئ رأسك، وأن تسمع والدك، فإذا انتهى والدك من كلامه تقول: الله يغفر لك يا والدي، الله يجزيك الجنة، الله يعينك على طاعته، بكل كلام جميل من الثناء والدعاء حتى تتألف قلب والدك؛ لأنك مهما فعلت فلن تبلغ معشار ما قدم لك، إذاً: لا يجوز لك أن ترفع صوتك عليه على الإطلاق.(167/18)
المعاملة مع الوالد العاصي
السؤال
شاب هداه الله؛ لكنه يعاني من مشكلة في بيته بأن والده لا يصلي؛ فماذا يفعل؟
الجواب
الواجب علينا لهذا الأخ هو الدعاء، وأرجو من الإخوة أن يأمنوا: نسأل الله جل وعلا، الحليم العظيم، رب العرش العظيم، رب السماوات ورب العرش الكريم أن يمن على والده بالهداية، نسأل الله أن يمن على والده بالهداية، وأن يرده إلى الطاعة والصلاة والعبادة رداً جميلا، هذا واجب الأخ علينا أن ندعو له، وأقول لك أيها الأخ: لا تدخر وسعاً في نصح والدك، ولكن بالأساليب اللطيفة، نشرات عن حكم ترك الصلاة تعطيها إياه، تستطيع أن تجابه والدك مجابهة بغير العنف، وأن تتحدث معه بكل رقة وبكل لين، يا والدي! لك الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في وجودي في هذه الدنيا، ومن تمام محبتي لك أن أنصحك، يا والدي! الصلاة عمود الدين، ورأس الأمر في الإسلام، يا والدي! ما كلفك الله إلا بخمس مفروضات، هون عليه المسألة رويداً رويداً، يا والدي المسألة كذا، كذلك من تعرف من أبناء عمك، من أخوالك، من أعمامك، من أصدقاء والدك، من إمام المسجد إذا كان له علاقة بالوالد، أو أردت أنه يكون له دور التأثير على الوالد، المهم أن يعلم الوالد منك فعلاً صدق المحبة، وصدق الاحترام، وفي نفس الوقت لا يشعر الوالد أن الابن يفتخر عليه، هذا مستقيم متدين يصلي وهذا فاسق لا يصلي، لا يشعر منك والدك بهذا الأسلوب إطلاقاً، ينبغي أن تشعره بكل أسلوب يفضي إلى الاحترام والمودة والتبجيل والإجلال، يشعر الوالد أن قصدك محبته، وإن شاء الله تكون النصيحة سبباً في نجاته من النار ودخوله في نعيم الله سبحانه وتعالى.
أيها الأخ: بهذا الأسلوب وبكل أسلوب تستطيعه، ضع عند سريره مثلاً أو عند المسجل الذي يستمع شريطاً عن حكم ترك الصلاة، أرسل النشرات هذه وضعها في مكانه، أو عبر من تعرف من الأقارب والأصدقاء، وعند ذلك سيكون لك الأجر العظيم.
أيها الإخوة: أنا أعرف شاباً أسأل الله أن يكثر من أمثاله، كان شاباً عادياً، وإخوانه عاديين جداً بل يمكن يميلون إلى شيء من الوقوع في المعاصي، هداه الله سبحانه وتعالى، ليس هو أصغر إخوانه، بل هو وسط بينهم، لكن هذا الشاب لما أن منَّ الله عليه بالهداية وحفظ كتاب الله، تأثر والده أثراً عظيماً، وذلك بأسلوب التقدير والاحترام، كان يقدر والده ويحترمه، إذا قدم والده قبل يد والده وقبل رأسه وسلم عليه، وإذا أراد والده أن يخرج قدم نعاله أمامه، وإذا أراد أن يخرج هو ووالده لا يدخل قبل الوالد؛ مراعاة للأدب الكامل، ألا تلاحظون أدب الخدم مع الملوك، كان يفعل بوالده أشد من ذلك، فتأثر هذا الوالد تأثراً عظيماً وأطلق لحيته وهجيراه وديدنه وطبيعته -هذا الوالد- كتاب الله سبحانه وتعالى دائماً يقرأه، يخرج من العمل، وإذا نام وأخذ قسطه من الراحة فتح كتاب الله وأخذ يقرأ، ويحب هذا الولد محبة عظيمة، وأثر هذا الشاب على إخوانه أيضاً.
وهكذا حينما يكون هناك إخلاص وصدق وحسن أسلوب، فإن المقاصد تتحقق بإذن الله؛ لأن الله وعدنا بها.(167/19)
بدء التغير في البيت والأقارب
السؤال
ما رأيكم في بعض الشباب الذين يأمرون وينهون الناس، وأحدهم تجد أخته تخرج قد أخرجت ذراعيها إلى غير ذلك من المنكرات التي لا ينكرها على أهله؟
الجواب
كما قلنا فيما يتعلق بالشق الثاني من
السؤال
أن يكون الآمر بالمعروف قدوة في نفسه وأهله وبيته وكلما يتعلق به، ومن واجبك أن تساره بالنصيحة فيما بينك وبينه، قد يكون غافلاً، قد يكون ناسياً، قد لا يأبه لهذا الأمر، فمن واجبك أن تركز على هذا الأمر بأسلوب ودي، وإذا كنت تعرف أنه قد يضجر منك، أو قد يمل منك أو يفضي ذلك إلى كراهية، انظر إلى إنسان آخر آمر بالمعروف وناه عن المنكر، وله به صداقة، تقول له: لو تكرمت يا أخي، أنا لي ملاحظة كذا، أسأل الله أن تكون ملاحظتي في غير محلها، لكن من باب براءة الذمة، بحكم أنك صديقه، تخبره بهذا الأمر، عند ذلك تكون -جزاك الله خيراً- قد بذلت ما في وسعك.(167/20)
منكرات في البيوت
السؤال
لي إخوة وأخوات في بيتنا يستمعون الأغاني ويشاهدون الأفلام والمسلسلات والتلفاز؟
الجواب
فيما يتعلق بالمنكرات الموجودة في بيته من الملاهي والفيديو والأغاني والملاهي وغير ذلك، واجبك من الدرجة الأولى النصيحة بالأسلوب الطيب والحكمة والموعظة الحسنة، وإيجاد البديل، تهدي إخوانك مثلاً أشرطة مفيدة تهديهم شيئاً من القصص والأقلام والحاجات التي يشعرهم أنك إنسان كريم، وحبيب ولطيف وطيب في المعاملة، عند ذلك يكون عندهم استعداد لتقبل كلامك ونصحك.
يأتي شاب ما عمره أهدى لأخته هدية، عاش معها خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة، ما يوم من الأيام فكر أن يشتري مقلمة أو هدية صغيرة يعطيها لأخته، وإذا به يريد أن يأمرها كما يأمر السيد عبده، لا يمكن هذا، لابد أن يكون لك قاعدة تنطلق منها في الأمر، ألا وهي: قاعدة المحبة والمودة، إذاً: أوجد محبة أولاً ثم مر بما بدا لك، لابد أن نؤسس هذه القاعدة، فإذا فعلت هذا الأسلوب ولم تجد شيئاً وأظن إذا كنت جاداً وصادقاً وحريصاً فإن هذا الأسلوب ينفع إن شاء الله، عند ذلك إذا كنت تستطيع أن تغير بيدك؛ لأن هذه سلطة في داخل بيتك، نقول: جزاك الله خيراً، ولا يعني ذلك أن تأخذ الفاروع وتهد التلفزيون وتكسره وتأخذ الأشرطة وتكسرها، فقد يشترون بدل الواحد اثنين، وبدل الأشرطة أضعافها، وتكون مناورة فاشلة خاسرة، بل من واجبك أن تتنحى قليلاً ولا تكثر المجالسة، إذا كانوا جالسين على منكر لا تجلس معهم، إذا كانوا جالسين على غير ذلك فاجلس، لا تقطعهم مرة واحدة، فالقطيعة مع أهل البيت -مهما كان- خطأ، لكن إذا جلست معهم فليكن لك دور الناصح الواعظ، صاحب القصة الجميلة والطرفة المؤدية إلى هدف من أهدافك، الإنسان الذكي يستطيع أن يستغل الفرص أياً كانت.(167/21)
حكم الاستهزاء بمظاهر الدين
السؤال
ما الحكم في المصر على الاستهزاء باللحية ومظاهر التمسك بالدين؟
الجواب
كما تفضل الأخ فيما يتعلق بالأمور الشرعية: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] ليس هناك اختيار أو آراء أو وجهة نظر، المسألة مسألة استجابة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] بالنسبة لهؤلاء الذين يستهزئون ونحو ذلك، إذا أردت أن تسأل عن حكم إصرارهم فيما يفعلون فهم على خطر عظيم، وقد يكون هذا الاستهزاء والعياذ بالله مخرجاً عن الإسلام والتوحيد، قد يكون مخرجاً عن الملة، قال الله جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] أنت حينما تستهزئ بالملتحي تستهزئ بالصانع أم بالصنعة؟! تستهزئ بالخالق أم بالمخلوق؟ أنت حينما تستهزئ بهذا الإنسان الذي قد اتبع السنة في ثوبه، تستهزئ بالذي شرع هذه السنة أم تستهزئ بهذا الذي أطاع الله في طاعته وامتثاله؟ {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] فلا يقبل العذر حتى كانوا يقولون: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب.
كما ورد في أحد الغزوات التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان المنافقون يقولون: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً ولا أقسى أفئدة إلى آخر تلك المقولة، يستهزئون بالقراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء في العصر الحاضر يستهزئون بالشباب الصالحين بتمسكهم وقراءتهم واستقامتهم، كان الواحد منهم يمسك بزمام الناقة والحجر يدمي عقبيه ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول على ناقته: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، والقرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] حكم بكفرهم، إذاً فهذا المستهتر المستهزئ على خطر عظيم، وقد يقع في الكفر والعياذ بالله، فينبغي لكل من رأى هؤلاء المستهزئين أن يهمس لهم همسة لطيفة: أنت تسخر من لحيتي من الذي خلقها أنا باختياري أم الله الذي أمرني بتوفيرها؟ أنت تسخر من ثوبي من الذي أمرني أن أتبع السنة فيه؟ الذي أمرني هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] إذاً: تسخر من وحي الله؟! {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ذكره بالآية هذه وعند ذلك لا يتجرأ، والله لا يتجرأ مسلم مهما بلغ من ضعف الإيمان أو ضعف اليقين بعد قيام الحجة عليه، لا يتجرأ أن يستهزئ بملتزم في التزامه وبمتمسك في تمسكه بدين الله.(167/22)
والدي يمنعني من مجالسة الصالحين
السؤال
أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكن والدي يمنعني من مجالسة الصالحين في أيام الدراسة يقول: إني لا أستفيد من ذلك؛ فماذا أفعل أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
ينبغي ألا تعصي والدك وألا تنقطع عن إخوانك؛ لأن إخوانك هؤلاء بإذن الله يكونون سبباً عظيماً ومهماً في استقامتك وصلاحك، وفي رقيك التعليمي وتقدمك، كثير من الشباب لولا أن الله منَّ عليهم بصحبة صالحة وإلا كانوا سوقة (أولاد شوارع) كما يقال، ضيعوا مستقبلهم في الدنيا والآخرة، لكن منَّ الله عليهم بجلساء طيبين، وكان منهم من ترك الدراسة وأوشك على الهاوية والانحراف، فبعد معرفته بهؤلاء الطيبين منَّ الله عليه ورجع وانتسب وواصل وتوظف وتخرج ونفع الله به أمته ومجتمعه وبلاده، وأهل بيته، وزملاءه، إذاً: ينبغي أيها الأخ أن تجتهد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وأن تقنع والدك وتشعره بمدى انتفاعك من زملائك خاصة فيما يتعلق بالدراسة والتدريس.
إذا كان هناك إمكانية أن تكون الدراسة والمذاكرة بعض الأيام في بيتك لكي يطلع والدك ويعرف فعلاً أنكم تذاكرون وتدرسون وتقرءون وتسترجعون وتتعاونون في هذه الأمور التعليمية فذلك خير، لأن الوالد لا يألو جهداً في جلب الخير إلى ولده، فإذا تأكد وتحقق له أن هناك مصلحة من اختلاطه بهؤلاء الصحبة الطيبة سيبعثه بل ويقول له: ما الذي أجلسك هنا اذهب.
أنا أعرف آباء صالحين بعد العصر يقول لولده: اذهب إلى المكتبة واستفد مع إخوانك، هناك آباء لما أدركوا وعرفوا هذا الأمر أحبوا ألا يتخلف أولادهم يوماً ما عن المكتبة إذا لم يكن لهم حاجة في البيت، فينبغي أن تسلك الأسلوب الذي يجعل والدك يقتنع ويفهم ويعلم علماً يقينياً أنك تستفيد من إخوانك ومن زملائك؛ بجلوس زملائك مع الوالد، بجلب زملائك إلى البيت بعض الأحيان والدراسة معهم والمذاكرة.
لكن للأسف بعض الشباب -وأنا أقولها وبكل صراحة- أخذ يغرق في الذهاب والإياب، والكثير من الاختلاطات بلا فائدة، وإذ بالنهاية راسب في تسعة، راسب في ستة، راسب في سبعة، والسبب في ذلك أنه لا يقر له قرار، دائماً كدوامة، لكنه لو كان يقتصر ويعطي الوقت حقه، هذا وقت مجيئي بالمكتبة، أو مجيئي بالمركز، أو مجيئي بالنادي، أو مجيئي في المكان المعين للاستفادة، الحمد لله جلسنا واستفدنا، لكن أرجع إلى البيت، هناك وقت لحاجة الأهل، وهناك وقت لحاجتي أنا، دروسي وأموري، قراءتي للقرآن، قراءتي للسنة، عبادتي، كل شيء له وقت، فتجد أن هذا الشاب هو الذي قصر، فتقصير هذا الشاب بما يفسره أهله؟ أو إخفاقه وفشل النتيجة، هذا السبب ذهبت مع فلان وفلان وفلان، ضيعوا وقتك وهذه النهاية، لا، السبب أنت لأنك ما أحسنت الأسلوب الذي ينبغي منك للمجالسة والمخالطة.(167/23)
الجلوس مع أناس يتهاونون بالصلاة
السؤال
إذا كان لي زملاء يتهاونون بالصلاة والغيبة، وأنا أتودد إليهم وأعمل معم صداقات لكي أستقطبهم بالكلمة الطيبة فهل علي إثم؟ وكيف التعامل معهم خصوصاً أني أعمل معهم؟
الجواب
لا شك أنك مأجور إن شاء الله على إنكارك عليهم في تركهم للصلاة، وفي وقوعهم في الغيبة، وواجبك ألا تنقطع عن هذا الأمر، ومثلما أخبرنا سلفاً: كل ما تراه مناسباً من وسيلة فعليك أن تؤثر عليهم بالنشرات، بالكتب، بالأشرطة، بالجلسات الطيبة، بالمخالطات النافعة، هذا طيب، إذا جلسوا وولغوا في حديث من الأحاديث التي تحسب عليك ولا تحسب لك، ووقعوا في الأعراض ونهيتهم فلم يرتفعوا عن ذلك، فإذا كان لك فرصة في أن تتجافى وأن تبتعد فذلك خير لك، إذا كان هناك إمكانية ورأيت إصرارهم وعدم إقلاعهم بعد أمرك لهم ونهيك ومناصحتهم ووعظهم، إذا كان لك إمكانية أن تسكن مع شباب آخرين -كأني أفهم من الشاب هذا أنه ساكن في عزبة أو في سكن جامعي أو شيء من هذا- فذلك خير لك، لأن كثرة مجالسة صاحب المنكر يجعل المنكر طبيعياً، بعد مدة يصبح ترك الصلاة بالنسبة لك شيئاً طبيعياً؛ لأنك ترى هذا يترك الصلاة دائماً، وأصبحت تدخل البيت وتخرج من البيت وأنت تراه على فراشه لا يذهب إلى الصلاة، فيصبح الأمر بالنسبة لك عادياً، وكذلك الحديث في أعراض الناس، لأن (كثرة المساس تفقد الإحساس) فينبغي أن تنتبه لنفسك، والإنسان كما يقال: (المرء من جليسه والطبع استراق).
الإنسان يسترق الطباع وهو لا يشعر، ويتأثر وهو لا يشعر، فحفاظاً على دينك، وحفاظاً على أخلاقك الطيبة وسجاياك الحميدة ينبغي أن تنتبه، فإن استطعت أن تغير فبها ونعمت، فإن وجدت فرصة في التنقل أو الانتقال عنهم إلى فئة طيبة مثلاً غرفة أخرى في سكن معين أو في جناح ثاني فذلك خير لك وهو أولى بك.(167/24)
التقصير لا يمنع من الدعوة
السؤال
أريد أن أنهى عن المنكر، ولكني بعض الأحيان لا أطبق ما أقول، فهل هذا يمنعني من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
يا أخي تعرضنا لهذا، تعرضنا لهذا خاصة لما يتعلق بالشق الثاني قلنا: إن الإنسان قد يأمر وهو عاص، هنا مثلاً مسألة: حينما يقف من بيننا آمر ويأمرنا ويبين لنا مزايا الصيام، صيام ثلاثة أيام من كل شهر، صيام الإثنين والخميس، صيام يوم وإفطار يوم، صيام تاسوعاء وعاشوراء، صيام عشر ذي الحجة، صيام يوم عرفة، صيام ست من شوال وكذا، هل من واجب هذا أن يصوم كل هذه الأيام؟ لا.
قد يصوم شيئاً منها والحمد لله، لكن أن يقال: ينبغي أن يصومها كلها أو لا يأمرنا ليس بصحيح، وكما قلنا:
إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد
هذا جانب متعلق بفعل الأوامر، كذلك ترك المناهي، افرض إنساناً ينهى الناس كثيراً ويأمرهم وينصحهم، وفي يوم من الأيام زل في غيبة أو نميمة، زل في قضية معينة، لكنه تاب إلى الله وأناب، نفتح له باب الشيطان ونقول له: لا تأمر ولا تنه، أنت وقعت في هذا المنكر، ونعين الشيطان عليه حتى يجمع بين مصيبتين، بين وقوع في المنكر، وبين ترك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا.
هذا لا يمكن ولا يليق.(167/25)
المعصية لا تنفي حب الله
السؤال
أنا شاب أحب الله ورسوله ولكني أفعل بعض المعاصي، فهل يتعارض ذلك مع حبي لله ورسوله؟
الجواب
أما بالنسبة لهذا الذي يقول: أنا أحب الله ورسوله ولكني أفعل المعاصي، أذكر هناك قصة ولا أذكر اسم الصحابي، لما هم بعض الصحابة أن يفتك به على فعلة فعلها على وقت رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه فإنه يحب الله ورسوله) لا أدري هل كان شارباً للخمر أو شيئاً من ذلك، فمحبة الله ورسوله تبقى، لكن المؤمن يرتفع عنه الإيمان أو كمال الإيمان يرتفع عنه أثناء المعصية، فإذا انتهى منها عاد إليه: (الإيمان كالظلة) كما جاء في الحديث، لكن يبقى على محبة الله ورسوله، بل وقد يحب الله ورسوله أكثر مما كان يحب إذا كان قد عاد بتوبة صادقة إلى الله سبحانه وتعالى، واستغفر وأناب من فعلته تلك، رب ذنب أحدث إخباتاً وطاعة وإنابة إلى الله تعالى، وقد يكون هذا من الذنوب التي تعتبر محمودة في جانب هذا الشخص، الذنب لا يحمد لكن قد يكون سبب خير لهذا بسبب وقوعه في هذا الذنب فيتوب ويعود إلى الله.
فأسأل الله أن نكون وإياك وجميع إخواننا الحاضرين والمسلمين ممن يحبون الله ورسوله.(167/26)
علاج المجاملة
السؤال
يقول: ما علاج من يجد في نفسه مرض المجاملة؟
الجواب
المجاملة أقسام، إذا كانت المجاملة في تحمل الناس فيما يتعلق بالأمور العادية في المقابلات، في بعض المعاملات وكذا، لكن شيء اسمه شريعة الله سبحانه وتعالى، الشرع، أحكام الله وأحكام رسوله هذا ليس فيه مجاملة، هذا اسمه مداهنة، وواجبك أن تغير وأن تنكر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وإن غلبتك نفسك على الإنكار في تلك اللحظة بعد فراقك لتلك اللحظة، يعني قد تكون جلست في مجلس، وحينما دخلت عند هذا الرجل وجدت أشياء في بيته، وغلبك الشيطان وما أنكرتها، خرجت من بيته، اكتب ورقة إذا كنت تعرفه، فقد يكون قريباً لك، فترجع وترصد ورقة وتقول: والله كان في نفسي شيء أحب أن أقوله وما استطعت أقوله، ولذلك تفضل هذه الورقة فيها بعض ملاحظاتي لتقرأها جزاك الله خيراً وتستفيد منها، وهي من مشفق وناصح وخائف عليك، وأذكر أبيات الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
النصيحة بين الملأ فضيحة، وقد يأتيك شيطان ويقول: أنت مجامل أنت مداهن، انصحه الآن أمام الحاضرين هؤلاء كلهم، الشيطان يغرر بك حتى يوقعك في الخرق ويوقعك في عداوته وأنت تريد أن تصلحه وتدعوه، فتقول: ذلك الأسلوب النظيف الجميل وتنتظر حتى تخلو به، ثم تنصحه على انفراد، فقد يفتح الله على قلبه بسببك فتنال الثواب.(167/27)
الشدة في الأمر والنهي
السؤال
هل ترى أن اللجوء إلى الشدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر حسن؟
الجواب
الشدة في الجملة شيء من العنف، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا عائشة! إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فالعنف والشدة يا أخي العزيز لا تنبغي، إلا إذا كان هناك اضطرار لها؛ ولست أنت الذي تملك تطبيقها كما قلنا، لأن الشدة يفهم منها قرب وصول الأمر إلى مرحلة التغيير باليد، وعند ذلك إذا كان الأمر منطلقاً من إذن ولي الأمر، وإذن الجهة المختصة، عند ذلك تكون الشدة في محلها.
إذاً: فالأمر بحسبه، واللبيب يفهم كيف يستخدم الأمور، الإنسان إذا أراد أن يخاصم إنساناً يبدأ بالمدفعية يضربه فيها، أو بالسلاح ويقتله؟ لا.
كلمة ونصيحة، حتى العداوات بين الدول، حتى العداوات بين القبائل سابقاً وحديثاً تبدأ بالمفاوضات بالاتصالات، بالحرب النفسية، بالحرب الاقتصادية، فالحكمة منطلق عام عند جميع الأمم والجماعات، ما أحد يبدأ بالعنف من أول مرة.
إذاً: من واجبنا أن نعرف متى نستخدم العنف بضوابطه وشروطه التي أخذناها، وأن نستغني عنه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ لأن هذا الدين ينتشر بالقوة الذاتية الكامنة المتعلقة بفطرة الناس، هناك اتصال، حينما يقوم إنسان يتحدث في أمر من أمور الدين هو يخاطب قاعدة في كل قلب من قلوب الناس؛ التي هي قاعدة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
إذاً: هذا الدين لا يحتاج إلا إلى شيء من جميل المعاملة، والعبارة الحسنة، والحكمة والموعظة الطيبة، وعند ذلك بإذن الله فإن الله جل جلاله يشرح الصدور إذا كان الآمر مخلصاً عمله ذلك لوجه الله سبحانه وتعالى.(167/28)
طاعة عظيمة
إن طاعة الوالدين والإحسان إليهما من أعظم الأمور في شرع الله، حيث قرن الله طاعة الوالدين بطاعته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم حق الوالدين في سنته، حتى إنه لم يأذن بالذهاب إلى الجهاد في سبيل الله إلا بعد إذنهما، وعظم حق الأم وجعل لها حقاً أعظم من الأب لما تلقته من متاعب ومصاعب حال صغر ابنها حتى كبر(168/1)
عظم طاعة الوالدين في الكتاب والسنة
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهو الذي يقول في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: لا شك أن حق الوالدين عظيم بتعظيم الله له، حيث قرن طاعتهما بطاعته، وثنى بالشكر لهما بعد الشكر له، وحسبكم أن عصيانهما من الكبائر التي تودي بصاحبها إلى النار والهلاك إن لم يتب من العقوق والقطيعة.
معاشر الإخوة: كثيراً ما سمعنا عما وقع فيه بعض المسلمين عامة، وبعض الشباب خاصة الذين عقوا والديهم، وقدموا طاعة الزوجات على الأمهات، وجعلوا حوائج الوالدين بعد الفراغ من حاجات الزوجات والأصدقاء، فترى الرجل له الولدان أو الثلاثة يقف على قارعة الطريق صباحاً أو مساءً ينتظر محتسباً يوصله أو يقربه على طريقه، وأولاده مع أصدقائهم أو على فرشهم لم يرد الواحد منهم أن يقطع لذيذ نومه أو طويل غفلته لأجل والديه، وكثيراً ما نرى المرأة الكبيرة تلتمس من جيرانها ومن حولها مساعدةً في الوصول إلى المستشفى، أو منزلٍ قريبٍ، أو بيت ذي رحم وأولادها في المنزل يتشاكسون، وكلٌ يعتذر عن الذهاب لقضاء حاجة أمه، فيا للحسرة والأسف من شاب بذل فيه والده الجهد الجهيد، ونهاية الأمر لا ينفعه في أدنى حوائجه! فاحذروا معاشر المسلمين، واحذروا معاشر الشباب عقوق الوالدين، فإن ذلك سببٌ للشقاء في الدنيا والخزي والعذاب في الآخرة، في الحديث الذي يرويه النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثةٌ لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان، وثلاثةٌ لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة) وروى الحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة حقٌ على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حقٍ، والعاق لوالديه) فإياكم والعقوق! والزموا البر والصلة، واعلموا أن الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظوا على هذا الباب إن شئتم أو دعوا، جاء في الحديث عن ابن عباس: (ما من مسلمٍ له والدان مسلمان يصبح إليهما محتسباً إلا فتح الله له بابين من الجنة وإن كان واحدٌ فواحداً، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه والده، قيل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه).(168/2)
ذم تعنت الوالدين في الطاعة
واعلموا معاشر المؤمنين إن من الآباء والأمهات من يتعنتون على أولادهم في حق طاعتهم تعنتاً شديداً، يصل في بعض الأحيان إلى أمر الولد أن يطلق زوجته، أو أن يفارق جلساءه الصالحين، أو أصدقاءه الطيبين، وألا يخالطهم أبداً، فهذا معاشر الآباء تشددٌ وتعسفٌ في باب الطاعة والبر، فما المصلحة لأبٍ أو أمٍ كرها زوجة ابنهما لغير سببٍ وجيه فأمراه بطلاقها؟! أيريدون أن يجنوا على زوجته المسكينة حتى إذا طُلقت عاشت دهرها أيماً لا زوج لها؟ وقد يجران البلاء والشقاء لولدهما في الحصول على زوجةٍ جديدة قد توافقه وقد لا توافقه، وقد كان قرير العين بزوجته الأولى، وينبغي لمن وقع في مثل هذا أن يحتسب الجهد في إقناع والديه ببقاء زوجته عنده وعدم طلاقها، وتأتي بحق والديه على زوجته لمضاعفة البذل والخدمة والعناية، وأما تشدد بعض الآباء هداهم الله على أبنائهم في مجالسة الصالحين والأخيار من الأصدقاء فإنهم بهذا يفتحون مجالاً لهم في أن يجالسوا الأشرار والسيئين والفاسقين، فالنفس لا بد لها من صاحبٍ إما أن يكون جليساً صالحاً، أو جليساً سيئاً، وقد يتشدد الأب على ولده في هذا النوع من المجالسة خوفاً عليه ولا شك، فالحل عند ذلك لا يكون بقطع الابن عن أصدقائه وجلسائه، أو أن يمنعه من الذهاب إلى مكتبةٍ خيرية نافعة، بل الصواب هو متابعة الابن والتأكد من ذهابه مع أصدقائه الصالحين، وسؤاله عما يدور بينهم في مجالسهم سؤال تلطفٍ واستفادة متبادلة لا سؤال تحقيقٍ وامتحان، وعند ذلك يطمئن الأب إلى ذهاب ولده وإيابه.
وبهذه المناسبة أكرر النصح والدعوة إلى الشباب عامة، وإلى الأخيار من الشباب الصالحين خاصة أن يضاعفوا البذل والعطاء والبر بوالديهم، فإن الجميع لا شك مقصرٌ في هذا الباب تقصيراً عظيماً.(168/3)
عظم حق الأم دون الأب
واعلموا معاشر المؤمنين! أن للأم النصيب الأوفى، والقدح المعلا، والدرجة العظمى في مقام البر وحسن الصلة، ففي الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك؟ قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) ولا عجب أن تنال الأم هذا النصيب من البر والصلة، فلها حقٌ كبير وكثير، وما نقدمه يسيرٌ وقليلٌ بالنسبة لما قدمته لنا.
وكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنةٌ وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقةٌ فمن غصصٍ منها الفؤاد يطير
فكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك عما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شربٌ لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فآه لذي عقلٍ ويتبع الهوى وآهٍ لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
وذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى القاضي على غلامها منه: أيهما أحق بحضانته؟ فقالت المرأة: أنا أحق به؛ لأنني حملته تسعة أشهر، ثم وضعته، ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين حضني كما ترى، فقال أبو الأسود: أيها القاضي! حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه، فلي الحق كله أو جله، فقال القاضي: أجيبي أيتها المرأة! فقالت: لئن حمله خِفاً فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرهاً، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها، ودعني من سجعك.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (أن امرأةً قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني بعد أن طلقني، فقال: أنتِ أحق به ما لم تنكحي) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
يقول الإمام القرطبي: إن من الإحسان إلى الوالدين والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما، وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: أحيٌ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) رواه مسلم.
وروى البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) ولا شك يا عباد الله! أن بكاء الوالدين بما يجره الولد لهما لهو من العقوق، بل أعظم العقوق كما جاء ذلك في الحديث، ومن الحديث الذي سبق ينبغي لمن أبكى والديه أو أغضبهما أن يتوب إلى الله، وأن يسعى جاهداً لإرضائهما، ورد الابتسامة إلى وجهيهما بفعلٍ يرون منه ندماً وأسفاً على ما فرط في حقهما، بهديةٍ وتلطفٍ ولباقةٍ في المعاملة، ودعاءٍ لهما وخضوعٍ وخفض جناح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(168/4)
الجنة تحت أقدام الآباء والأمهات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيءٍ قدير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المؤمنين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.(168/5)
رجل عق أمه فأنقذه الله من النار برسول الله
معاشر المؤمنين: جاء عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آتٍ، فقال: يا رسول الله! شابٌ يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله فلم يستطع أن يقولها، فقال صلى الله عليه وسلم: أكان يصلي؟ قال: نعم.
فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا أستطيع، قال: لِمَ؟ قالوا: كان يعق والدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحيةٌ أمه؟ قالوا: نعم.
قال: ادعوها، فدعوها، فجاءت، فقال لها رسول الله: أهذا ابنك؟ قالت: نعم.
فقال لها: أرأيت لو أججت ناراً ضخمة فقيل لكِ: إن شفعتِ له صلينا عليه، وإلا حرقناه بهذه النار، أكنتي تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله! إذاً أشفع، قال: فأشهدي الله وأشهديني أنكِ قد رضيت عنه، قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلامٌ! قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار) وقد جاء في بعض الروايات: أن هذا الشاب كان يؤذي أمه، ويؤثر زوجته عليها.(168/6)
رجل يشتكي أباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألزمه طاعته
فيا عباد الله: الله الله في حق الوالدين بالدعاء لهما، وخفض الجناح، ومن كان والداه كبيرين فإنهما أعظم الفرصة للبر ولنوال أسباب الرحمة، ومضاعفة الدرجات، وتكفير الخطايا والسيئات، جاء في الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة) ولقد جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أبي أخذ مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب وائتني بأبيك، فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول: إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيءٍ قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الأب -وهو الشيخ- إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما بال ابنك يشكوك، أتريد أخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله! هل أنفقته إلا على عماته أو أخواته أو نفسي، فقال صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا، أخبرني عن شيءٍ قلته في نفسك ما سمعته أذناك، فقال ذلك الرجل: والله يا رسول الله! آمنا بك وصدقناك، وما زال الله يرينا فيك مزيد صدقٍ ونبوة، إني قلت كلماتٍ في نفسي لم تتحرك بها شفتاي، قلت:
غذوتك مولوداً وعُلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقتٌ مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أُؤمل
جعلت جزائي غلظةً وفضاضةً كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمالٍ دون مالك تبخل
فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بتلابيب ولده، فقال: أتسمع؟ أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك).
فهل بعد هذا يا عباد الله! يستكثر الابن على والده عطاءً أو يستكثر عملاً أو خدمة؟ والله إن حق الوالدين عظيم، ولن يجزي والدٌ ولده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه، ولن يبلغ أحدٌ حق والديه حتى فيما فعله، أو كان يظن بفعله أنه قد نال شيئاً من درجات البر بهما.(168/7)
دعوة للرجوع إلى طاعة الوالدين
رأى رجلٌ ابن عمر، وكان ذلك الرجل يحمل أمه على ظهره يطوف بها عند البيت، فقال: [يا ابن عمر! أتراني قد جازيتها حقها؟ فقال: لا.
ولا بطلقةٍ من طلقات مخاضها].
إذاً فيا عباد الله! حق الوالدين عظيم، أمَا آن لشبابٍ قد آذوا آباءهم وقطعوهم لعروض من الدنيا حقيرة، ولأنواع من المال يسيرة قطعوا آباءهم، وهجروا بيوتهم، وشبوا نار الفتنة والفراق بينهم وبين آبائهم، أمَا آن لهم أن يتوبوا؟ أمَا آن لهم أن يئوبوا؟ أمَا يخشون الله حق خشيته؟ والله لو مات الوالد لندم الولد غاية الندم، ولن ينقطع ندمه إلى أن يموت، ولو مات الولد لتذكر أول ما يتذكر عند سكرات موته، هل يموت ووالداه قد رضيا عنه أم لا؟ إن ذلك لأمرٌ خطير، إنه لأمرٌ عظيم ألا وهو العقوق يا عباد الله! فانتبهوا لعظم جزائه وخطر عقوبته، فاتقوا الله في الوالدين، وأحسنوا إكرامهما، وأحسنوا صحبتهما وإن كانا قد توفيا فأكثروا من الدعاء لهما، والصدقة عنهما، فإنه: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولدٍ صالحٍ يدعو له، أو صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به) إذاً فاجتهدوا في ذلك يا عباد الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والسعادة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم فنوِّر ضريحه، ووسع له قبره مد بصره، وافتح له أبواباً إلى الجنة، واجعلهم شفعاء لنا، واجعلنا شفعاء لهم، واجمعنا بهم في دار كرامتك يا رب العالمين، يا واسع الرحمة والمغفرة! اللهم عليك بالإيرانيين الفرس الشيعيين، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم إن زرع باطلهم قد نمى وترعرع، اللهم فهيئ لهم يداً من الحق حاصدة تحصد زروعهم، وتميت ضروعهم، وتحصد شرورهم وتنزل بهم عذابك، اللهم أنزل بهم سوط عذابك، اللهم لا ترفع يد نقمتك عليهم بقدرتك وجبروتك يا رب العالمين! اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وشبابنا بضلال، ونساءنا بتبرجٍ وسفورٍ واختلاطٍ في التعليم، واختلاطٍ في الوظائف، اللهم فأهلكه عياناً بياناً، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، وأسوأ من ذلك يا جبار السماوات والأرض! اللهم إنا نصبح ونمسي منك في عافيةٍ وأمنٍ وسترٍ ورزقٍ في الأموال والخيرات، وبركاتٍ في الأموال والذريات، اللهم من أراد التغيير علينا بتغيير ما نحن فيه، اللهم فغير عليه وحده، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، ولا تعم بذنبه وشؤم ذنبه عامة المسلمين بمنك ورحمتك يا رب العالمين! اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح إمام المسلمين، اللهم انصر وأعز وارفع إمام المؤمنين المسلمين، اللهم انصره وإخوانه وأعوانه، وارزقه البطانة الصالحة، وسخِّر له ولنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وارحم تضرعنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إن بالمسلمين من الجهد والنصب والتعب واللأواء والمشقة ما لا يعلمه إلا أنت فارفع ذلك عنا وعنهم، بغيثك ورحمتك وواسع رزقك وكرمك يا رب العالمين! إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن صاحب نبيك على التحقيق أمير المؤمنين أبي بكر الصديق، وارض اللهم عن الإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب، وارض اللهم عن مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان، وعن فتى الفتيان، ليث بني غالب، علي بن أبي طالب، وعن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(168/8)
طوق النجاة
كثيرة هي الفتن التي تواجه المسلم في هذه الأيام، تعرض على قلب الإنسان وجوارحه، فمن أنكرها نجا وسلم، ومن أشربها خسر وحُرِم؛ ويبقى باب التوبة مفتوحاً، ويبقى في الخاطر سؤال عن كيفية النجاة والخلاص!! وهنا بيان لطريق النجاة، في كتاب الله، وفي سنة رسول الله، وتحذير من إغواء الدنيا، ووجوب التعرف إلى الله في الرخاء والسراء.
كما أوردت هذه المادة نماذج من أحوال أهل التقوى والخشية، ونماذج من أحوال أهل العصيان والغفلة.(169/1)
الفتن وكيفية النجاة منها
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ثم الصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أفضل من وطئت قدمه الثرى، بآبائنا هو وأمهاتنا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة! عنوان محاضرتنا: طوق النجاة، ننجو من ماذا؟ وأي طوق نتقلده حتى ننجو؟ وأي مصيبة تعترضنا؟ وأي فتنة تلك التي نخاف منها حتى تنجو؟ والله إن أعمالنا في صباحنا ومسائنا وذهابنا وإيابنا وغدونا ورواحنا كلها هلاك علينا، وبوار بنا وخسارة في سعينا {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] بنص كلام الله جل وعلا حيث قال وأقسم جل من قائل عليماً: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] إن جميع بني الإنسانية، إن جميع أفراد البشرية لفي خسر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
أيها الأحبة في الله! أما الفتن التي نلقاها فحدث عنها ولا حرج، وليس الخبر عنها بدعاً من متأخري زماننا، بل هي من معجزات نبوته صلى الله عليه وسلم: (تكون فيكم فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً فأيما قلب أشربها؛ نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب دفعها أو نجا منها كان فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على واحد من اثنين) أو كما يقول صلى الله عليه وسلم، إما أن يكون قلباً أسود مرباداً كالكوز مجخياً، أو أن يكون القلب فيه مثل السراج يزهر أصبح أبيض جميلاً صقيلاً، هذا معنى مجموع من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! والله إن الفتن لتعرض علينا عوداً عوداً، قال العلماء: عوداً عوداً، شبه عرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، كعرض العود في الحصير، عود بجانب عود، وآخر بجانب مثله، فهكذا تعرض الفتن على هذه القلوب وعلى معنى وتفسير آخر: عَوداً عَوداً أي مرة بعد مرة، والحاصل: أنه لا يسلم أحد من عرض هذه الفتن عليه.(169/2)
عرض الفتن على السمع والبصر
فأول هذه الفتن ما نسمعه بآذاننا من ملة عن ذكر الله جل وعلا، أو سماع لما يسخط الله جل وعلا، أو لكلام بذيء أو فاحش نميم أو غيبة أو ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
فتلك فتنة في الأسماع، إما أن تدخل إلى الأسماع فتنفذ إلى القلوب، وإما أن تبعد واحدة بعد الأخرى، إما رجل يفتح أذنه بل بمكبرات الصوت التي يسلطها على أذنه لكي تعرض الأغنية تلو الأغنية، والمصيبة تلو المصيبة، والرديء من القول يعقبه ساقط الكلام، والغيبة تتلوها النميمة على هذه الأذن، فتن تعرض على هذه الأذن واحدة بعد الأخرى، فإذا قبلت الفتنة الأولى استعدت للفتنة الثانية، وإذا قبلت الثانية استعدت للفتنة الثالثة وهلم جراً، حتى تمتلئ هذه الأذن بكل نغم ماجن وبكل صوت خليع وبكل عزف وضيع، فإذا سمعت كلام الله نفرت، وإذا سمعت ذكر الله ابتعدت، وأصبحت كالحمر المستنفرة فرت من قسورة.
والله ثم والله هذا شأن طائفة من عباد الله من البشر الذين رأيناهم في هذا الزمان، يوم أن يعلو صوت كلام الله أو سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم، أو داعٍ إلى الله على أسماعهم ينفرون كما تنفر الحمر، لماذا؟ لأن هذه الآذان قد امتلأت قيحاً وصديداً من رديء يسخط الله ويغضبه، وهل تستطيع أن تملأ في كوزٍ واحد مادتين في آنٍ واحد، فهو إما أن تملأ فيه خيراً، وإما أن يخرج الخير منه ويمتلأ الشر به، وإما أن يختلط الخير بالشر على مداهنة ونفاق وذلك شر العباد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وتعرض الفتن على أبصارنا عوداً عوداً، وتعرض الفتن على أعيننا عَوداً عَوداً، مرة بعد أخرى، فنرى منظراً لا يجوز النظر إليه ثم نكرر النظر، ولو كانت لنا الأولى فليست لنا الثانية، فنديم النظر ثم نطلق العنان للخطرات، ونطلق للخيال عنانه حتى يتأمل هذه الصورة ويستحسنها، وكما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: إن الشيطان يقول لجنوده وأتباعه: عليكم بثغر الأذن! الله الله لا يدخل منه كلام مما توجل منه القلوب أو تخشع له الأفئدة، بل زينوا في هذه الآذان كل لحن وعزف وغناء، ثم عليكم بثغر العين فاجعلوها لا تنظر إلا إلى ما حرم الله، واحجبوا نظرها عن أن تنظر في ملكوت الله في سماواته، أو أن تنظر إلى بديع صنع الله في مخلوقاته، واحجبوا ذلك كله، واجعلوا هذه العين تنظر إلى ما حرم الله، فإذا رسخت هذه الصورة المحرمة زينوها في قلب هذا الناظر وانقشوها فيه ومنوه بها حتى تخالجه الخطرات في اللقاء، وتزين له الخطوات الدنو، فإذا قاب قوسين أو أدنى من المعصية فدعوه لي وأنا دونكم عنده أصرعه على فاحشة وعلى مصيبة تجعله من أهل الفواحش والكبائر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه فتن تعرض على أبصارنا على الشاشات والمجلات، وفي الأسواق بين الغاديات والرائحات، وفي كثير من الأماكن والمناسبات، وفتن تعرض في مجالسنا إما أن يستطيل الكلام في أعراض الأبرياء، وإما أن يطول الحديث في أعراض المحصنات، وإما أن تملأ المجالس بالغيبة والنميمة، وما يثقل الموازين بالسيئات، ففتن الكلام كلمة تتلوها كلمة، فإذا تحدث واحد ممن تسلط ألسنتهم أو تسلطت ألسنتهم عليهم زين أحد الجالسين حديثه بابتسامة وأكمل بقية الحاضرين حديثه بضحكٍ وإعجاب، فما يزال بعضنا يثني على كلام بعض، حتى نستمرئ الغفلة ونستلذ الكلام في المعصية، ونأنف أن نتلذذ بسماع خطاب الله وجميل كلام نبيه صلى الله عليه وسلم.(169/3)
عرض الفتن على الأيدي والأقدام
هكذا -أيها الأحبة- تعرض الفتن على هذه الأيدي، فإما أن تمتد لتدخل في هذه الجيوب حراماً، أو أن تمد اليد بطشاً وظلماً وعدواناً إلى حرام، وتعرض الفتن على هذه الأقدام فتخطو إلى الحرام وتدنو منه وتواقعه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، فإذا رتعت ثم استحلت المرعى وقعت، ثم بعد ذلك أنى لك أن تخرجها وقد سامت المرعى وشبعت منه، ولو وجدت في الحرام والعياذ بالله لذة حجبتها وأبعدتها أن تستشعر حقيقة لذة الحلال والإيمان.(169/4)
النجاة من الفتن في الكتاب والسنة
أيها الأحبة في الله! إما أن نكون في فتن تعرض علينا فهذا والله حق لا شك ولا مرية فيه، ولكن ما هي النجاة من هذه الفتن؟ أي طوق نتقلده، وأي قارب نستقله، وأي سفينة نبحر بها ونحن في بحر تتلاطم أمواجه؟ والله -يا عباد الله- إن اطلاعة منكم على ما يدور في مجلس بعض الشباب لكافٍ في أن تعلموا إلى أي حد بلغت الغفلة في القلوب، وهجمت الشهوات والشبهات على الأنفس، بل أصبح المعروف منكراً، وأصبح المنكر معروفاً، واختلط الأمر على الناس في هذا الزمان بين قاسي القلب لا يخضع لموعظة، وبين مشتبه قد اشتبه عليه الحلال والحرام، قد سمع علماء الدنيا قالوا كذا، وآخرين للسلاطين قالوا كذا، وآخرين للمراتب والجاه قالوا كذا، ثم بعد ذلك احتارت قلوبهم وتباينت وتشتت أذهانهم ما هو الحلال من الحرام؟! أيها الأحبة في الله! العصمة في كتاب الله، وطوق النجاة في قرآن أنزله الله، وفي سنة أوحاها الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة النبوية، فطوق النجاة فيها أيها الأحبة.(169/5)
صراحة الاعتراف طريق للتوبة
من المصائب العظيمة أيها الإخوة أن يعرف كل واحد منا حقيقة ما في نفسه من الذنوب، والله لو سأل كل واحد من الحاضرين نفسه: أي ذنب تستحي أن تلقى الله به؟ لقلت وأجبت نفسك الآن: إنه الذنب الذي فعلته يوم كذا، في ساعة كذا، في مكان كذا، يوم أخذت مالاً، أو انتهكت عرضاً، أو فعلت فعلة {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] أنت والله أدرى بنفسك، أنت والله أعلم بنفسك، القلب يا مغرور أعلم بدائه، كل منا يعلم ما هو الذنب الخطير الكبير الذي فعله ويخشى أن يفضح يوم القيامة ويرجو من الله ستره.
نعم أيها الأحبة! الحديث مع القلوب بالصراحة هو سبيل إلى التوبة، أما أن نتزين بالمظاهر والملابس، والله أعلم ببواطننا، فإننا سنقف يوم العرض الأكبر على الله يومئذٍ لا تخفى على الله خافية، لا يمكن أن نخبئ شيئاً عن الله، ولا يمكن أن نجعل جريمة تبقى في طي الكتمان والنسيان، كيف نستطيع أن نكتم شيئاً والله جل وعلا يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
تأمل نفسك يا أخي وأتأمل نفسي أيضاً! يوم ينصب الميزان ويدعى عبد من عباد الله باسمه واسم أمه وأبيه، ولو دعي باسمه لعرف أنه المقصود المراد لم يحتج إلى بينة أو قرينة لا تتشابه الأسماء ولا الأنساب، ولا الصفات ولا اللغات، كل يكون أدرى بالخطاب يوم أن يوجه النداء، فإذا قيل: يا فلان بن فلان! قم يوم الحساب إلى الحساب ومناقشة الأعمال أمام العرض الأكبر عند الله جل وعلا، فيوضع الميزان وأنت حينئذٍ يدور بك شريط ذكرياتك، ما أول سيئة توضع في كفة السيئات؟ وتبحث أيمن منك وأشأم منك أي حسنة تظن أن فعلتها خالصة نقية على سنة واتباع وإخلاص ترجو أن توضع في موازين حسناتك، سنقف هذا الموقف وكل سيكون أدرى بما سيوضع في ميزان حسناته وسيئاته.
ثم يسدل الله ستره على عبده وهو الستار الحليم الغفور الرحيم، يقول: يا عبدي! أتذكر ذنب كذا، الذنب قد وضع في الميزان، المعصية الفاحشة الجريمة الخطيئة الزلة قد وضعت في الميزان، عبدي! أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا، فتقول: إي يا رب والله -تكذب على الله، تقول: ما فعلتها يا رب، أنت لستَ أمام البشر الذين تنطلي عليهم الحيل، لا والله، لا تستطيع أن تكذب أو تزيد أو تنقص- تقول: نعم إي والله يا رب أذكرها ولا أنساها، ولو كذبت على الله الذي لا تخفى عليه خافية لأنطق الجارحة التي فعلت المعصية، فإن كانت المعصية بقدمك تكلمت رجلك، وإن كانت المعصية بيدك تكلمت اليدان، وإن كانت المعصية بفرجك تكلم الفرج، وإن كانت المعصية ببصرك تكلم البصر، وإن كانت المعصية بسمعك تكلم السمع.(169/6)
شهادة أعضاء المذنب عليه
الله أكبر يا عباد الله! كيف نجرؤ على الله جل وعلا بزيادة أو بنقصان {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] لا يمكن أن يكتم عن الله شيء.
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ومهما يكتم الكاتم الله يعلم
لا يمكن أن يكتم الله شيئاً {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21] لماذا تشهد؟ أيتها القدم التي لذذتك بهذه العملية، لماذا تشهدين؟ أيتها اليد التي جملتك بهذه الشيء لماذا تشهدين؟ أيتها العين التي متعتك بهذا المنظر لماذا تشهدين؟ أيتها الأذن التي أسمعتك هذا اللحن لماذا تشهدين؟ (قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ) ليس الأمر بأيدينا (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) رب خلقنا من العدم فهل يعجز أن ينطقنا؟! رب خلقنا من التراب من مني يمنى حتى كنا نطفة فعلقة فمضغة فطفلاً فبلغنا أشدنا ثم كنا شيوخاً، ثم توفانا ثم بعثنا بعد موتنا، يعجز أن ينطقنا!! والله ما ذلك على الله بعزيز.
هكذا ظن الكفار لما وقف العاص بن وائل، وأخذ عظماً قد رمّ، فقام يفته ويفركه بين يديه وقال: يزعم محمد أننا إذا متنا وكنا عظاماً كهذا وقد أصبحنا رميماً أن الله يبعثنا! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (نعم.
يبعثك الله ثم يحشرك إلى جهنم).
وأنزل الله جل وعلا قوله في كتابه الكريم في سورة يس: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] هذا المعاند المتكبر العاصي نسي أنه خلق من عدم {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:78 - 80].
قال العلماء: أورد الله جل وعلا هذه الآية إبلاغاً في دفع حجج الكفار وعنادهم في قضية البعث {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً} [يس:80] الشجر يتولد من التراب والطين وأصل ذلك من الماء، العنصر الناري محرق، والعنصر المائي مطفئ مبتل، الذي يخلق من هذا العنصر المائي المطفئ المبتل يجعل منه ناراً {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80] والله قادر على أن يجعل البحار المائية والمحيطات العظيمة نيراناً متأججة {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] أشعلت وجعلت ناراً.
يقف العباد يوم العرض الأكبر على الله يقولون: لم شهدتم علينا {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:21 - 22] هلَّا يوم أن أردتم أن تفعلوا فاحشة أو معصية أو جريمة أو أردتم أن تتجرءوا على أمر الله استترتم يميناً أو يساراً، {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22 - 23].(169/7)
السجل الدقيق للحسنات والسيئات
إخواني! يدني الله جل وعلا واحداً منا، لا نتكلم عن أجيال قبل ألف وأربعمائة سنة، أو عن أمم بعد مائتين سنة، لا.
واحداً من هؤلاء، كل سيقف على العرض الأكبر على الله، يقول أحدنا: سبحان الله! هناك وقت كافٍ لكل إنسان تناقش أعماله وسيئاته وحسناته، ثم ما هي هذه السجلات التي سيجد فيها الإنسان الحسنات والسيئات والزلات والغفلات؟ أقول: يا إخواني، لو قلت لكم: أنا أنكر الكمبيوتر، هذا الكمبيوتر أنا لا يمكن أن أصدق ما فيه، تقولون: هذا شيخ مجنون أهبل، الكمبيوتر خلال لحظة -مركز معلومات- يعطيك أسماء دولة كاملة بأفرادها وأبنائها وأمهاتها وتعداد سكانها ومنابع نفطها وموارد مائها وعدد إشاراتها خلال لحظات أمام الشاشة تخرج أمامك المعلومات بكاملها، هذا أنت يا مخلوق يا ضعيف صنعت الكمبيوتر الذي أتى بهذه المعلومات كلها، فالخالق القوي الذي خلقك أيها المخلوق أيعجزه أن ينثر أعمالك هكذا في لحظة؟! ثم تعرض عليك واحدة بعد الأخرى، لا والله لا يمكن أن تخفى على الله خافية.
ثم ملائكة الله الذين هم أضعاف أعداد سكان الأرض، ملائكة لا يحصيهم إلا الله، إذا صار كل شخص معه ملكان يكتبان حسناته وسيئاته، نفر من الله إلى أين؟ إلى الله.(169/8)
الذين يرجون رحمة الله
يا إخوان: يدني الله عبداً من عباده فيقول: يا عبدي يا فلان بن فلان! أتذكر ذنب كذا في يوم كذا وكذا، فيقول: إيه يا رب أذكره ولا أنساه، فيقول الله جل وعلا: أتذكر ذنب كذا وأنت تعلم أن هذا الذنب سوف يعرض عليك، فتقول: إيه يا رب والله أذكره ولا أنساه، فيقول الغفور الرحيم الجواد الكريم: يا عبدي! إني سترتها عليك -لم يعلم بها أحد- وجعلتها حسنات، اذهبوا بعبدي إلى الجنة، الله أكبر يا عباد الله! ليرحمنا الله يوم القيامة رحمة ما خطرت على قلب بشر، من يتعرض لهذه الرحمة؟ من يلبس طوق النجاة لينال هذه الرحمة، من يلبس تاج الوقار لينال هذه الرحمة؟! من يقدم دموع الندم لينال هذه الرحمة؟ من يبذل عبارات الأسف والندم على ما مضى لينال هذه الرحمة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218] يرجو رحمة ربه من آمن بالله، وجاهد في سبيل الله، وجعل في قلبه هجرة من السيئات إلى الحسنات، ومن المنكرات إلى الطاعات، ومن جلساء الشر الأشرار إلى أصحاب الخير الأبرار، ينالها من بلغ هذه المنزلة ومن أدركها وليست والله بعيدة يا عباد الله.
الله أكبر يا عباد الله! عجب في شأننا مع الله، يرزقنا ونشكر غيره، يخلقنا ونعصيه، يحفظنا ولا نحفظ أمره، يهدينا ولا نهتدي بهديه، ما أحلم الله على عباده، والله إنها لآيات عظيمات تدل على أن الله رحيم حليم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] والله لو أن العبد يؤاخذ بالمعصية، والله ما سلم أحد خطوة بعد معصية، تفعل معصية ثم لا تكون بعدها خطوة واحدة.
أين أنت ممن يعصي رب السماوات بين الأرض والسماوات، معصية في الطائرة، أين أنت ممن يعصي الله بين الأمواج المتلاطمات.
إخواني! متى نرتبط بالله؟ متى نقول: يا الله، من خالص قلوبنا؟ متى نصيح ونجأر إلى الله ونقول: يا الله، لقد أسرفنا في أمرنا وأفرطنا تفريطاً عظيماً؟ متى نقول ذلك؟ إذا وقع الواحد منا مريضاً، ارتفعت درجة الحرارة إلى أربعين ثم وضع جهاز الضغط على اليد، ثم جاء الطبيب ويقف وأنت تقول: يا الله يا الله يا الله، وأين يا الله يوم أن كنت قوياً معافى؟ أين كلمة يا الله يوم أن كنت تجلس الساعات الطول أمام الفيديو والشاشة؟ أين كلمة يا الله يوم أن كنت تملأ هذه الآذان بألوان الغناء أو الطرب الذي يبلغ به الأمر إلى الاستهزاء بالله وسنة رسول الله ونبي الله وكلام الله والصالحين من عباد الله، أين كلمة يا الله؟(169/9)
أهمية التعرف على الله في الرخاء
إذا كنت تقول: يا الله! وقت الاضطرار فإن كفار قريش الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم كانوا عند الاضطرار يقولون: يا الله! {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22] إذا كنت تقول: يا الله! وقت الاضطرار فلست وحدك التي تقولها، كفار قريش يقولونها.
حصين بن عبيد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حصين! كم من إله تعبد؟ قال: سبعة، قال: وأين آلهتك يا حصين؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، قال: من الذي لشدتك وكربك؟ قال: الذي في السماء) الاضطرار إلى الله وقت الحاجة، والاضطرار أمر طبيعي في البشر، لكن يا أخي! كن مع الله في حال الرخاء يكون الله معك في الشدة، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في حال الشدة.
نبي الله يونس بن متى كان من المسبحين، فلما ألقي في البحر والتقمه الحوت نادى في الظلمات {أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قالت الملائكة: يا رب! صوت مسموع- ليست أول مرة يسبح - {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143] فلولا أنه كان فيما مضى من المسبحين {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144] ولكن لأنه كان من المسبحين في الرخاء فسبح في الشدة، فجاء الفرج عاجلاً بين الكاف والنون {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
إخواني في الله! ينبغي أن نتعرف على الله في الرخاء، ينبغي أن نقوم بأمر الله في الرخاء، ينبغي أن نبادر إلى الله ما دمنا أقوياء، اغتنم بادر (اغتنم خمساً قبل خمس: فراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن نفسك لنفسك).(169/10)
مثل يبين حقيقة الدنيا
هذه الدنيا كما ضرب بها أحد السلف المثل قال: مثل الدنيا كمثل رجل لحقه عدو معه سلاح يريد أن يقتله فهرب، فما زال يلحقه وما زال يهرب، فلما نجا منه إذا بأسد جائع مفترس يلحقه ففر من الأسد فلم يجد أمامه إلا بئراً فرمى بنفسه في هذه البئر، فإذا في قاع البئر حية ووقف الأسد على شفير هذا البئر، فأمسك حبلاً يتدلى به، فإن نزل إلى قاع البئر فستلدغه الحيات، وإن خرج فالأسد الجائع ينتظره، تمسك بهذا الحبل فإذ بفأرين واحد أبيض وآخر أسود تسلطا على هذا الحبل يقرضانه، فمد ذلك الخائف الهرب، مد يده إلى جدار البئر فوجد منحلة من عسل، فلما ذاق العسل أخذ يتذوقه، ويقول: هذا عسل لذيذ، وأخذ يأكل من هذا العسل، هذا هو ابن آدم.
الخاتمة الحيات تنتظره، الموت، والأسد يدركه، وعمره هذا الحبل، والفأران الأبيض والأسود هما الليل والنهار يقرضان كل يوم من حبلك حتى ينقطع بك الحبل، أفتشتغل بعد هذا وتأكل عسلاً، تأكل من عسل هذه الدنيا يا أخي، أتشتغل بهذا والحية تحتك والفأر يقرض في حبلك، أم تحاول أن تبحث عن النجاة ثم بعد ذلك تجد فسحة ومتسعاً للعسل والحلوى وما لذ وطاب، هذا هو شأن كثير من الناس في هذا الزمان، والله ما جعلنا لله وقاراً، والله ما قام لأمر الله في قلوبهم غضب ولا غيرة، والله ما غضب أحدهم غضباً كغضبه على أحدٍ من أولاده يوم أن ضيع مائة ريال، ما غضب لله جل وعلا لحظة، وإذا رأى معصية أو منكراً مما يعصى به الله ربما ضحك وربما سكت، وإذا سمع كلمة في عرضه أو نسبه أو أصله أو شرفه، أخذ يزمجر ويزأر، ويثبت وهو يقول: أنا ابن جلَّا وطلاع الثنايا، من هذا الذي يتكلم فينا وفي أسرتنا وفي قبيلتنا ونحن ونحن ونحن، والكلام في دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل والنهار عبر كثير من الوسائل وعبر كثير من الأجهزة وعبر كثير من الوسائل المختلفة، بل وفي كثير من المجالس يستطيل وينتشر وما ترى غضبة لله، أو تغيراً لله لماذا يا إخوان؟(169/11)
غيرة الله على نعمه
إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه، والله يغار على نعمه {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
يا إخواني، والله لقد مرَّ بأهل هذه الجزيرة زمن ما أدركناه وحدثنا عنه كبار السن الذين بلغوا المائة في هذا وهم حتى الآن أحياء.(169/12)
مداولة الأيام وتقلب الأحوال
يروي أحد المسنين قصة يقول: امرأة في منطقة ليست بعيدة من هذه المنطقة كان معها مزادة، أتت ومعها بُنيات إلى صاحب بستان والناس يحرثون البساتين؛ لأن الجوع مستطير يخشون أن تداهم الثمرة ويأكل المال، جاءت امرأة وقالت: من فضلك وإحسانك حط عندك هذه المزادة، قال: مربوطة ووضعتها، فإذا جاء آخر النهار طرقت علي الباب، وقالت: أعطني المزادة التي عندك، قال: وتأخذها وتتنحى هي وبُنياتها وتفتح وكاء هذه المزادة وتخرج شيئاً ثم تجلس هي وبناتها ثم تعود وترد لي هذه المزادة وتقول: جزاك الله خيراً على الذي كان، قال: فسولت لي نفسي يوماً أن أفتح لأرى ما بهذه المزادة، قال: فوجدت فإذا رأس حمار يأكلونه من الجوع، من الجوع الذي بلغ بأهل هذه البلاد يا من تلبسون المشالح وتركبون السيارات بلغ بكم منذ زمن قريب جوع لا يعلمه إلا الله، تقطع من لحم رأس هذا الحمار وتقدم لبنياتها على شواء أو ملح أو غير ذلك، بلغ بالناس مبلغاً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، إذاً: لا تطمئنوا لهذه الدنيا.
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شان
أين الملوك ذوي التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا(169/13)
تفاهة نعيم الدنيا أمام سكرات الموت
إخواني! والله لو أنك منذ أن ولدت والحشم والخدم والعبيد في قصور الملوك يخدمونك على ثياب الحرير يلبسونك، على موائد الطعام يطعمونك، والله ما تساوي لحظة من سكرات الموت التي بلغت بخير أهل الأرض قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم، والله لو هون الموت على أحد لهون على المصطفى صلى الله عليه وسلم، لقد جاءه الموت واشتدت به الحمى، وبردت منه الرجلان، وضعفت منه القدمان، وازرقت منه الشفتان، وسكنت منه اليدان، وهو يغمس يديه في شنة من ماء، ويقول: (اللهم هون عليَّ سكرات الموت، لا إله إلا الله إن للموت لسكرات).
يعني فلنفرض أنك ملذذ منعم من كل شيء والله لا يساوي ذلك لحظة تواجه فيك سكرة من سكرات الموت.
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى الحساب وقلبه مذعور
{يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17]
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
الله أكبر! يا إخوان: كم بلغنا من العمر؟ ثلاثين سنة! أربعين سنة! هل حفظنا القرآن؟ هل جاهدنا في سبيل الله؟ فلان نعم أسس نفسه قدم على البنك وبنى له فيلة، رجل ممتاز، هكذا أصبحنا نقيس الناس، نحن لا نمنع من ذلك، ما بذلة الإنسان في حلال فخير، والله جل وعلا يؤجره عليه، لكن أين حظنا من الآخرة؟ لقد عمرنا الدنيا وخربنا الآخرة.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع(169/14)
صور مشرقة من التقوى والخشية
يقول أبو بكر الصديق: [يا ليتني شعرة في صدر عبدٍ مؤمن] يا إخوان: ماذا قدمنا حتى نطمئن.
عجبت للجنة كيف نام طالبها، وللنار كيف نام هاربها! عمر بن الخطاب الذي نزل الكتاب موافقاً لقوله، عمر بن الخطاب الإمام الأواب، شهيد المحراب، عمر بن الخطاب الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما سلك ابن الخطاب فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر، وإن الشيطان لا يجري في فج يجري فيه عمر بن الخطاب) عمر بن الخطاب أحد العشرة المبشرين بالجنة، عمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة وضع عبد الله بن عمر ولده الصحابي الجليل رأس والده عمر على حجره، فيقول عمر: [إليك عني واجعل رأسي على الأرض، ويل عمر إن لم يرحمه ربه].
عبد الله بن عمر رأس والده على حجره، فيقول عمر: إليك عني ويل عمر وويل أم عمر إن لم يرحمه ربه، ثم يمرغ لحيته في التراب، ويقول: يا رب! رحماك، يا رب! رحماك، عمر بن الخطاب يسأل حذيفة بن اليمان يقول: سألتك بالله، يعني: ما ترك له فرصة يفر من الجواب للحديث: (من سألكم بالله فأجيبوه) سألتك بالله: هل عدني رسول الله من المنافقين؟ الله أكبر! إذا كان عمر يخاف على نفسه النفاق نحن ماذا نكون؟ من العشرة المبشرين بالجنة، نكون من أهل بدر، نكون من أهل بيعة الرضوان، من أهل الشجرة، ماذا نكون يا إخوان؟ نحن لا نقنط أنفسنا من رحمة الله، ولكن أسوق هذا الكلام لأننا نرى غروراً من أنفسنا، الواحد منا يرضى عن نفسه إذا صلى مع الجماعة وبس.
احمد ربك أني أصلي مع الجماعة، هناك أناس والله لا يصلي في المسجد، لا يركع في المسجد، احمد ربك أنني لا أسافر مثل الذين يسافرون، احمد ربك أنا أنا أنا إلخ، وكأنما يستكثر على الله، يا مسكين يا مسكين المنة لله عليك، والفضل لله عليك، وأنت لا تنفع إلا نفسك، الله غني عن العباد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
يا إخواني: فلنستعد لله، واعلموا أننا على خطر، لا بد أن نرتدي طوق النجاة من هذه اللحظة، لا بد أن نلبس لباس النجاة وهي التوبة من هذه اللحظة.
يا إخوان: والله إنها لفتن، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، والواقع شاهد بذلك، كما عرفنا من كثير من أبناء الأسر وشباب المجتمع، تفلتوا رويداً رويداً حتى قلَّ حظهم من الإيمان، واستحكم في قلوبهم أمر الشيطان، وزين لهم الفسوق والعصيان، فماتوا على خاتمة سيئة أو كفر بالله جلَّ وعلا.(169/15)
صورة من سوء الخاتمة
ذكرت في خطبة جمعة من الجمع أن شاباً بلغ من شأنه، كان كسائر الشباب ما زال مع قرناء السوء وإيمانه يضعف ولا يتفقد نفسه حتى سافر إلى بانكوك، وأنتم تعلمون ما بانكوك؟ وفي لحظة هوس وعشق ومجون فقد حبيبة قد شغفها حباً وأشرب قلبه حبها، فلما أبطأت عنه كاد يجن، فلما قدمت عليه خر ساجداً لها، فكانت السجدة الأخيرة قبضه ملك الموت كافراً فاسقاً فاجراً ساجداً لغير الله.
يا إخوان! سوء الخاتمة ليس بعيداً عن أن تقلب القلوب، كان صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر أكثر ما يدعو وهو ساجد، وأكثر دعائه في سجوده أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) وكان كثيراً ما يحلف ويقول: لا ومقلب القلوب، يحلف بالله مقلب القلوب، أفيأمن أحدنا على نفسه يا إخوان.(169/16)
ورع ابن خثيم وعفته
أين إيماننا؟! إيمان الربيع بن خثيم، الذي تمالئ عليه فساق المنطقة التي كان يسكنها، اجتمع فساق المنطقة قالوا: نريد أن نضل الربيع بن خثيم، شاب وسيم جميل عابد تقي صالح، قالوا: كيف نضله؟ قالوا: نأتي ببغية غانية، وتسمى الغانية غانية؛ لأنها استغنت بجمالها عن المجملات، فأتوا بباغية غانية، قالوا: نريد منك أمراً، قالت: ما هو؟ قالوا: نريد منك أن تضلي الربيع بن خثيم، وندفع لك مائة دينار، قالت: وماذا تريدون؟ قالوا: قبلة واحدة، اجعليه يقبلك قبلة واحدة، قالت: قبلة فقط، أجعله يزني، هل تدفعون أكثر؟ قالوا: نعم.
ندفع.
وفي هذه القصة عبرة: وهي أن الفساق لا يطمئنون لترك الأبرار والأخيار على خير، فإما أن يتجه الأبرار لدعوة الفساق فيكونون صالحين أمثالهم، وإلا فإن الفسق يسري حتى يعم الصالح والطالح، إذا كان الفساق يتمالئون على الأبرار، فما بالك بالشخص العادي الذي مثلك، عادي يعرف الصلاة في المسجد فقط، وليس هناك التزام ولا استقامة، مع الأغاني أغاني، ومع البلوت بلوت، ومع السفر سفر، ومع الشلة شلة، ومع الغفلة غفلة إلى آخر ذلك.
قالوا: نريد أن تجعليه يقبلك قالت: لا.
أجعله يزني، فوقفت له مع استغنائها بجمالها، وزادت فيما يجملها عطراً، يفوح شذاه بالمعصية ويطرح ضعاف الإيمان، فلما وقفت له في طريق، ثم أماطت الرداء عن بدنها فوقفت له، فقال الربيع: كيف بهذا البدن إذا نخره الدود، وكيف بهذه العين إذا غارت في التراب، وكيف بهذا اللسان إذا شهد عليك، فصاحت صيحة وصرخت صرخة، ثم قالت: قتلني الربيع بن خثيم، قتلني الربيع بن خثيم.(169/17)
صور أخرى من المعاصي
الله أكبر! يا إخوان: والله منذ مدة كنا في محاضرة بـ الرياض، محاضرة بعنوان: (الحذر من الفتن) فأرسل إلينا شاب وكنا على المنصة، وقال: يا شيخ! ولسنا والله بمشايخ ولكن هذا الزمن جعل التلميذ أستاذاً، قال: يا شيخ! إني نزلت في الليل فوجدت أبي يزني بالخادمة، تسلط على خادمة قد لا يكون فيها من الجمال ما يلفت النظر؛ لكن انظر الضعف في الإيمان! فما بالك لو وقفت له امرأة كما وقفت للربيع بن خثيم، إيمان ضعيف يحتاج إلى تقوية يا إخوان، الإيمان ضعيف.
وفي مجلس قريب حدثني أحد الشباب أن شاباً سافر ولم يزل بصاحبه ليسافر معه، والشاب حصلت منه سابقة لكنه مل من الفساد، والعاصي يا إخوان ترى ما يطمئن للمعصية ولو ضحك، ولو شرب ولو سكر، كما يقول الحسن البصري: [والله وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] والله لو مر قدامك (كادلك) أو (مرسيدس) ولا معه أجمل وأحسن وأفضل شيء وهو عاصٍ لله، والله إنك أيها المسلم التقي الحفي حافي القدمين متقلب في طمرين أشعث أغبر والله إن في قلبك عزة ما يبلغها هذا الذي في السيارة، لأن ذل المعصية لا يفارق أصحاب المعاصي.
المهم: شاب حصل منه ما حصل، وأراد أن يكون عادياً، وهذا الزمن لا تصلح فيه كلمة عادي، الدين الذي يريده كثير من الناس يقول: لا تكن فاسداً ومدمن مخدرات، ولا تكن ملتزماً جداً كالذين لا يسمعون الأغاني، ولا ينظرون إلى النساء، كن وسطاً، ككل الناس، المهم أن هذا الشاب أراد أن يكون عادياً نسأل الله أن يعفو عنا وعنه وقد أفضى إلى ربه، ما زال ابن عمه يحاول معه ويحاول، قال: يا أخي أنا طفشت ومليت يعني في هذه اللحظة لو وفق ذاك الشاب بجلساء طيبين يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة لتاب إلى الله توبة صادقة نصوحاً.
المهم يا إخوان قال: تذكر صديقتنا فلانة، الدعوة المجردة لم تنفع، تذكر صديقتنا فلانة التي في الفندق، وتذكر صديقتنا فلانة التي طلعنا معها، وأخذ يذكره بفلانة وفلانة، حتى ما زال به وسافر معه، فلما سافر معه لا زال قلبه كارهاً، فاتفق مع واحدة، دائماً أهل الفجور لو يسافر ثلاثة فساق فيزني اثنان والثالث لم يزنِ مستعدين أن يأتوا له بفاجرة لكي يزني مثلهم، هذا معروف معلوم، يحب أهل المعصية أن يشتركوا في العذاب والذنوب والمعاصي.
فذهب وأتى بامرأة وأدخلها عليه، فإذا بابن عمه يسمع رفيقه هذا الذي وصل له تقريباً على هذا الشيء، غصب إكراه يعني مجاملة وهلم جراً، إذا به يسمع ضحك ومداعبة وأخذ يكلم صديقه، ابن عمي فلان! تحرك، قم فلان استيقظ، نائم ما يسمع صوت، وإذا بنفسه قد سكنت ومات بعد أن قذف الماء فيها، الله أكبر يا إخوان! هذه خاتمة، هذه خاتمة يا إخوان {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] ذكر القصص والاستشهاد بها من الواقع لا من الخيال، لا من ألف ليلة وليلة، حتى نعتبر ونتدبر ونتذكر، ما الذي أقلق الأولين والآخرين والصحابة والسلف والصالحين، إنه سوء الخاتمة.(169/18)
أهمية التزود بالتقوى والاستعداد للموت
تزودوا يا إخواني، تزود من الدنيا، إنه ليس أمامنا بعد هذا الذي رأينا وعرفنا وعلمنا إلا أن نستعد، ليس أمامنا إلا أن نستعد، والخاتمة لا نعلم متى تفاجؤنا.
وكل نفس لها يوم منيتها تأتي إليها صباحاً أو تماسيها
والله ما تردي موتك يأتيك على فراش الصبح أو فراش الليل أوفي الدوام أو أو إلخ.
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
لا يعلم الإنسان متى يلقى الله جل وعلا.
إخواني: لو دخل ملك الموت من هذا الباب، وقال: من المستعد للموت بعمل صالح الآن إلى الجنة؟ من يقوم منكم؟ والله ما منا مستعد، والله ما فينا مستعد، صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم قد استعدوا للقاء الله وأحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم، ومع ذلك مع حبهم للقاء الله يخشون، عملوا عملاً صالحاً ويرجون رحمة الله ويخشون أن تزل بهم القدم، والحسن البصري رحمه الله لما حضرته الوفاة بكى، قيل: يا أبا عبد الله، أنت الذي تصيح؟ أنت الذي تبكي؟ أنت تبكي إذا حضرك الموت، فماذا نفعل نحن؟! قال: أخشى أن يقذف بي في النار ولا أبالي، من أنت على الله يا مسكين {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف:99] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:48] {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كان إذا قرأها السلف أخذوا يبكون {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}.
على عملنا هذا أنت لو سألناك وقلنا لك: أنت يا أخي والثاني والثالث العمل الذي أنت عليه هل تريد به جنة وحريراً، وحور عين، وأمناً عند رب العالمين، يعني: أنت دليلك حاكم على نفسك بأنك مقصر وما بلغت هذه الدرجة وهذه المنزلة، لم لا تستعد للقاء الله؟ لم لا تبدأ طوق النجاة بالتوبة الصادقة إلى الله.(169/19)
دعوة للمبادرة بالتوبة إلى الله
أيها الإخوة! خلاصة هذه المحاضرة أن نتوب إلى الله جل وعلا من هذا المكان، وأن نعلنها توبة صادقة صالحة من هذه الساعة، فمن كان مقصراً فليبادر بالتمام, ومن كان مفرطاً فليعد إلى الله، ومن كان مرتكباً فليتب إلى الله جل وعلا، منذ هذه اللحظة إن بلغ الإيمان في قلبك مبلغاً، وأن كلام الله ينفع في قلبك وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تجدي في خطابك، فاسمع قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
تفقد نفسك! ما هو أمر الله في نفسك؟ ما هو أمر الله في استقامتك؟ ما هو أمر الله في بيتك؟ فقل: سمعت وأطعت ونفذ منذ هذه اللحظة، لا نشاور الجماعة والأصدقاء، أو نشاور الشباب وننظر هل فلان يستقيم أم لا يستقيم؟ فلان يلتزم أو لا يلتزم؟ أحد الشباب كان في طريقه إلى منطقة جلاج، كنت أتحدث أنا وإياه عن أحد الفنانين الذين هداهم الله جل وعلا مطرب فنان محبوب الجماهير على ما قالوا، يقولون له: يا فلان، والله لا تهتدي، قال: والله لو يهتدي فلان بن فلان لاهتديت، والعجيب أن مطربه هذا الآن وإن كان مسجوناً إلا أن الله قد منَّ عليه بتوبة صادقة نصوح، فتاب إلى الله توبة من الفن والطرب، وأخذ ينصح ويعظ المساجين في السجن، وإذا جئنا لصاحبنا هذا وقلنا له: هذا مطربك المفضل تاب فتب إلى الله، قال: هاه أنظر، يمكن أن أقلب، أو يقول: أنا سأتوب ولكن الأغاني لا أستطيع تركها، والدخان هذا صعب، واللحية ماذا يقول الناس عني؟! مطوع معقد!! والثوب أخاف من كلامهم، ويمكث يجمع لك (أتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) يخشون الناس ولا يخشون الله، الناس هؤلاء يؤخرون الأجل لحظة؟ يعجلون عرضك على الله يوم القيامة؟ يدخلونك الجنة؟ يخرجونك من النار؟ ما قتل الناس مثل الناس، وما ذبح الناس مثل الناس، مجاملة الناس، مراءاة الناس، الأصدقاء، الشلة، الآخرون وهلم جراً، ولو جئت إلى أحدهم في ريال أو عشرة أخذ يقلب عينه فيك ويحسب ويناظر وأنت كفء أم لا، وأنت تستحق أم لا، ويمكن يعطيك وينظر ما هو مردودها معك، وربما يستغلك فيما يعطيك، لكن عليك برب كريم يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ينزل ربنا في ثلث الليل الآخر فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ أين التائبون؟ أين المستغفرون؟ أين المقبلون على الله؟(169/20)
كيفية تعامل التائب مع منكرات بيته
يا إخواني! خلاصة كلامنا أن نتوب إلى الله وأن نقبل على الله، وأن نستجيب لأمر الله، وليس معنى هذه الاستجابة منذ أن تدخل مع الباب تبصق في وجه زوجتك وتكسر التلفزيون والأشرطة وتقلب الدنيا على عقب! لا، ليست هذه الاستجابة، الاستجابة أن تدخل ضاحكاً مبتسماً، منطلق الجبين خافض الجناح، تبدل المعاملة السيئة مع أهلك وزوجتك بمعاملة حسنة، تبدل وتغير العبارات البذيئة بالكلمات الطيبة، تغير العادات الخبيثة بعادات نافعة، تغير مجالس الأشرار إلى مجالس الأبرار والأطهار.
هكذا تفقد نفسك وتفقد حالك، ثم بعد ذلك أقنع نفسك وأهلك وذريتك رويداً رويداً حتى تقنعهم بما منَّ الله به عليك، بما في قلبك من الخير والهداية، ثم تقول: هذا فيه شر، ممكن نستفيد منه إذا أردنا ذلك، وإذا لم تستفد، أو كان ضرره أغلب علينا من نفعه، نخرجه، الذي ينفعنا في ديننا ودنيانا نبقيه، والذي يضرنا في ديننا ودنيانا نخرجه، الذي ينفعنا في ديننا ودنيانا نفعله، وهلم جراً.
هكذا تكون الاستقامة ويكون الالتزام، ويكون صدق الإقبال على الله جل وعلا، وعند ذلك تنام مطمئناً، والله لو مرت بك لحظة مرض شديد قلت: الحمد لله على هذه الساعة الذي جاء هذا المرض وقد يكون مرض موت وأنا قد تبت إلى الله، وأنا قد أقبلت على الله واستجبت لله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] الله يدعونا لما يحيينا {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] أنت الآن تدعى لكي تستجيب لله، فإذا لم تستجب فلست في كل حال تستطيع الاستجابة، ليس في كل وقت تستطيع الاستجابة، إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر لا تستطيع الاستجابة.(169/21)
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
رجل كان من الفساق المبغضين الكارهين لله، الكارهين للأخيار الطيبين، فلما حضرته الوفاة قال لأخيه: هات لي هذا المصحف الذي على الدولاب، ففرح أخوه وقال: يا الله جاءت خاتمة حسنة لأخي، فأخذ المصحف، وقال: اللهم إني كفرت بكل آية في هذا المصحف، ثم أغلق المصحف وفاضت روحه، أقسم بالله إنها وقعت، انظروا سوء الخاتمة {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
ما فائدة الكلام في أن الله يحول بين المرء وقلبه بعد أن يستجيبوا، أي: إذا لم تستجيبوا الآن بعد أن أقيمت عليكم الحجة وبلغتكم النذارة فليس بالضرورة أن تستجيبوا في كل وقت {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] تشتهي التوبة، التوبة مفتوحة وقد هيئت لك فرصها ونفحاتها ولكنك أعرضت عنها وما استجبت لله جل وعلا، فتوبوا إلى الله واذكروا الله، فذكر الله دواء، وذكر الناس داء.
وصلى الله وسلم على محمد.(169/22)
ظاهرة تَفَشَّت
من زرع أدوات الفساد فلابد أن يحصد الفساد وثماره المُرَّة، ومن كان يرى أن هذا الأمر من لوازم الحضارة فليتحمل عار هذه الحضارة المدعاة.
وليس هذا الكلام لإزالة وإنكار ما وصل إليه العلم، ولكن هو تحذير من تسخير هذه الأدوات في الإفساد وحسب، فإن من أهمل رعيته في الدنيا واعتدى على أعراض الناس ذاق مغبة عمله في الدنيا قبل الآخرة!(170/1)
دوافع تفشي ظاهرة المعاكسة
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا في محكم كتابه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
عباد الله: إن في هذه الآية لَعِبَراً وأبواباً عظيمة؛ من تأملها وجدها كافية لسد جوانب كبيرة من جوانب الفساد، وإن من يتأمل واقعه ومجتمعه اليوم ويرى ما انتشر فيه من مصيبة المعاكسات، أو ما يُسمى بالمغازلات والاتصالات الهاتفية؛ ليجد أن في هذه الآية بلسماً شافياً، وترياقاً طبياً لمن أراد الهداية والاستقامة على شرع الله المبين.
أيها الأحبة في الله: أما هذه الظاهرة فموجودة لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها، وإن البحث عن الأمراض والكشف عليها، ومن ثم دواؤها وعلاجها لخيرٌ من ادعاء النزاهة والبراءة من المرض أو العيب، ومن ثم يقع المسلم في يومٍ من الأيام فريسة مرض سرى تحت جلده، أو سرى في خفية وغفلة منه، فإذا هو يتكشف فضيحة وعاراً على وجهه وبيته، وخزياً عليه أمام الله.
ومادامت هذه الظاهرة موجودة، وأنها حقيقة لا نشك في وجودها، فيا تُرى! ما هي أسبابها؟ وما دوافعُها؟ وما علاجُها؟ أيها الأحبة في الله: إن قضية المعاكسة والمغازلة والتعرض لنساء المؤمنين عبر أجهزة الهاتف، لَهِيَ واحدة من سائر الفواحش والمعاصي والمصائب والآلام، ومنبع كل معصية وفاحشة ومصيبة تنشأ من الفراغ؛ لأن من تراه مشغولاً في عمل لمصالح دينه ودنياه، حاشاه أن يلتفت إلى مثل هذا النوع من البلاء والفساد.
وقد يكون أبطال هذه المعصية ممن قد نالوا حظاً وافراً من مكاسب الدنيا ورءوس أموالها؛ ولكن في ظنهم أن هذا الاتصال والمعاكسة يحقق مزيداً من اللذة، ويكشف أبواباً جديدة من التلذذ، وهذا -والله- سوء جهل وخبث طوية، ما لم يتوبوا إلى الله ويخبتوا إليه.
أيها الأحبة: يقع كثير من الشباب والشابات في مصيبة هذه المعاكسة، وتنفضح أمورهم، ويضحون ضحية لها، وإذا تأملت أحوالهم وجدت الكثير منهم من ذوي الفراغ والبطالة، وقديماً قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجِدَة مفسدة للمرء أي مفسدة
فإذا وُجِدَ عنفوان الشباب وقوة الصحة والعافية، ومعها من النشاط والعافية والفراغ ما جعل الإنسان متوجهاً إلى هذه المعصية، بعيداً عن أن يستفيد من وقته في عمل نافع، عند ذلك يجد أسهل وأهون وأقرب طريقة للفساد والانحراف، أن يرفع هذه السماعة ويدير قرص هذا الهاتف، أو يضغط بأصبعه على أرقامه؛ لكي يخبط خبط عشواء، في بيت من بيوت عباد الله الصالحين أو غيرهم.
فقد يوافق امرأة، إما أن تسبه وتشتمه وإما أن تعرض عن حديثه من البداية وإما أن يكون أمرها كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فقد تكون نتيجة هذا الاتصال وإدارة هذا القرص والأرقام في امرأة أو فتاة فارغة مثل هذا الفارغ الذي اتصل، ومن ثم تبدأ العلاقة، وتنشأ المعصية، وتنمو المصيبة، ويُرتَّب لما بعدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: لا شك أن جهاز الهاتف لمَِن أهم وسائل البنية الاجتماعية، ومن أهم دلائل تطورات المجتمع، وعمق اتصالاته ونمو أعماله؛ ولكن -والله- إن في هذا الهاتف لمصائب عظيمة، ولا أقول هذا لكي نقطع أسلاكه، أو نخرجه من بيوتنا، فقد أضحى في هذا الوقت ضرورة من الضرورات؛ ولكن أقول هذا لكي ننتبه انتباهاً واضحاً مبيناً.
عباد الله: إذا كان البعض يتصل على بيته في الضحى فيجد الهاتف مشغولاً، ثم بعد نصف ساعة يجده أيضاً مشغولاً، ثم بعد مضي ساعة يجده أيضاً مشغولاً، وتمضي ساعة أو ساعتان والهاتف مشغول، هذا يدل على واحد من اثنين: الأول: إما أن يكون طفل قد رمى بهذه السماعة جانباً، فأضحى الاتصال يعطي نتيجة الإشغال.
الثاني: وإما أن تكون هناك مكالمة طويلة، ولا نجزم مباشرة أن تكون هذه المكالمة معاكسة؛ لكنها مما يدل على الفراغ، مما يدل على أن الرجل أو المرأة أن الفتى أو الفتاة قد انشغلوا بهذه السماعة نتيجة فراغ يجدونه ويعانون منه.
وقد يكون إشغال الوقت من أحاديث الناس في منازلهم، وملبوساتهم، ومطعوماتهم، ومشروباتهم، وما أوجدت هذه الأجهزة للتفصيل في هذه الأخبار المنزلية اليومية.
وإما أن يكون الأمر الآخر، وهذا احتمال وارد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عند ذلك ينبغي أن ينتبه صاحب المنزل إلى منزله، خاصة من كان بيته مليئاً بأجهزة التلفاز والفيديو، وما يُعرض فيها من مسلسلات وأفلام، قد يتعلم من يشاهدها فنوناً وألواناً من فن المعاكسة وضروبها.
نعم -يا عباد الله- ينبغي أن ينتبه صاحب المنزل إلى ما وضع في منزله، وأنه ما من شيء إلا وله نتيجة، ما من بذر إلا وله حصاد، فمن بذر بيته بالأجهزة والأفلام من بذر بيته بالمجلات من بذر بيته بأشرطة الغناء الماجن الخليع، فلا بد أن يجد النتيجة، سواءً كشفها عاجلاً أو آجلاً، وتدل على تَدَنٍّ في الأخلاق، وضعف وانكسار في الحياء {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].
بعض أرباب البيوت يزرعون بيوتهم؛ في كل مجلس جهاز وشاشة، في كل صالة جهاز وشاشة، والأفلام متدفقة يَمْنة ويَسْرة، ثم بعد ذلك ينكر ما يجد من النتائج، وقد يكون أيضاً هو من أبطال هذا العمل.
إذا كان رب الدار بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ
عجباً! أن نجد رب البيت وصاحب المنزل وعائل الأسرة وراعي رعية أسرته، إذا كان غافلاً مشغولاً بألوان من هذه الأشرطة، وألوان من هذه الاتصالات، وتساهل في العلاقات، وانفتاح في اللقاءات، إلى حد التساهل بالمحارم والمحرمات، فلا عجب أن يسري ذلك إلى أولاده وأطفاله.
وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى روح العدالة في الشباب ضئيلا
إذا لم يكن المعلم أو رب الأسرة عدلاً ثقة أميناً فإنك لا تجني من الشوك العنب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(170/2)
الرقي خاضع للدين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
واعلموا أن خيرَ الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: تأملوا قول الله جل وعلا في الآية السالف ذكرها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب:32] لا تخضعن بالقول: لا تتدللن بالقول, لا تتكسرن بالقول، لماذا؟ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32].
يكون الجواب على قدر السؤال، يكون الكلام بقدر الحاجة، من غير انكسار أو تدلل، وإننا -والله- لنستحي أن نطلب -مثلاً- واحداً ممن لنا به حاجة -وأنتم ترون هذا- فإذ بك تجد من يرد عليك، إما فتاة أو امرأة تتكسر في صوتها، أو تتغنج في لحن عبارتها، وما الحاجة إلى هذا؟! وما الداعي إلى ذلك؟! أما طائفة من البشر، فيظنون أن هذا من علامات الرقي، ومن علامات التمدن، ومن علامات الحضارة، أن ترد الفتاة بصوت كله نعومة، وما هذه نعومة، بل هي خشونة المعصية بداية شرها بداية دخول المرض في القلب المريض.
إن مئات من الآذان بل آلافاً لَمَريضة جداً.
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
يتلذذ بعضهم بهذا الخطاب، فلا يجد بُداً من أن يتفنن في السؤال، ويطرح ألواناً من الأسئلة وأنواعاً من الاستفسارات، لا حاجة له -والله- بها، وإنما هو يريد مزيداً من السماع، مزيداً من الكلام، مزيداً من العرض، وهذا هو أول خيوط المعصية، وأول بداياتها.
يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32].
عباد الله: لم يقل الله: ولا تزنوا، وإنما قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]؛ لأنه لا يمكن أن يقع أحدٌ في الزنا مباشرة، لا يمكن أن يوجد رجل فيرفع ثيابه على امرأة لكي يزني بها من أول وهلة؛ قد يسبق الزنا إما مكالمة، وإما نظرة، وإما اتصال، وإما وقوف وانتظار ونظرات.
خدعوها بقولهم: حسناءُ والغواني يغرهن الثناءُ
حينما يبدأ بعضهم بهذا الاتصال قد يطرح سؤالاً ويجيب عليه بنفسه، ويمدح هذه المسكينة، والمرأة ضعيفة، والفتاة هزيلة، عند ذلك تنكسر وتذوب لمديح هذا الفاجر، ثم بعد ذلك يبدأ ليبني طوب مصيبته، ويبني جدار معصيته على هذه العبارات، وعلى هذه الكلمات، وعلى هذه النظرات.
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
عباد الله! من هنا نكشف سر قول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]؛ لأن الزنا يكون قرباناً، يكون خطوات، يكون خطوة تليها خطوة، فإذا نجحت الأولى تقدم المجرم إلى الثانية، وإذا استعصت الثانية أطال المكوث فيها طويلاً حتى يذلل صعوبة وجدها أمامه، وينتقل إلى الثالثة، وهَلُمَّ جراً، وكل هذه المعاصي، وكل هذه المصائب مبدؤها من الصغائر التي نتساهل ونتهاون بها، ونعد أن من المرونة في الدين، وأن من المرونة في العلاقات أن لا ندقق في هذه الصغائر، وأن لا نهتم بها، وألا نلقي لها جانباً، لا.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ضِ الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
ويقول الآخر:
كل المصائب مبدؤها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ!
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضررِ
ونقول نحن أيضاً:
كم (كلمة) فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ؟!
يسر (مسمعه) ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضررِ(170/3)
الزنا ديْن لابد من قضائه
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نحذر على أنفسنا، ينبغي أن ننتبه لأنفسنا.
ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً جميلاً في شأن من وقع في أول هذه المعاصي، فقال: مثله كمثل من كانت معه فرس عنيدة شمَوس جموح، كان يقودها ويذللها، فبعد ذلك انتهى به الطريق إلى زقاق ضيق، إلى سكة ضيقة، ثم نشبت رأس الفرس في بداية هذا الطريق، ما الحل لتخليص الفرس من هذه المشكلة؟ أمن الحل أن يضربها بالسياط حتى تمضي تتوغل في هذه السكة والزقاق؟! لا.
إنما الحل أن يداريها وأن يرجع بها حتى يتخلص من هذا الطريق، ويسلك بها طريقاً أخرى.
والفرس: هي النفس الإنسانية.
والطريق: هي طريق المعاصي والشهوات.
فمن بدأ أو وقع في ذلك فليسحب فرسه من البداية، وليسلك بها طريقاً أخرى مذللة.
عباد الله: إن كثيراً من الشباب ليتساهلون بهذا الأمر، وما يعلمون أن الأمور بالموازين، وأن المكاييل كما تكيل لغيرك فالناس يكيلون لك، ومن حفظ عينه عن أعراض الناس حفظ الناس أعينهم عن عرضه، ومن حفظ مسمعه عن أعراض الناس حفظ الناس مسامعهم عن عرضه.
يا أيها الشاب، الذي قد يرفع هذه السماعة لكي يعاكس فتاة! يوم أن تمتد يدك لتغازل أو تعاكس فتاة اعلم أن مئات الأيادي بل آلاف في هذه اللحظة وفي هذه الساعة سوف ترفع السماعة وتدير الرقم والقرص على بيتك، وإن أنت وضعتها خوفاً من الله، ليصرفن الله عن أهلك وعنك السوء، وعن كيد الماكرين.
فيا عباد الله: ينبغي لنا أن ننتبه لهذه المعصية، ومن وجدناه واقعاً أو متساهلاً بها، أن نحذره ونخوفه منها؛ لأن الناس لا يرضون ذلك لبناتهم، ولا لإخواتهم، ولا لإمهاتهم، وإن كان بعض المعاكسين-كما علمتُ- ومنهم مَنْ مَنَّ الله عليه بالتوبة -أسأل الله أن تكون لنا ولهم توبة صادقة نصوحاً- يقول: إنه لا يتورع أن ينشئ علاقة بين أخته وأخ الفتاة التي يعاكسها؛ حتى تتوقد العلاقة بينه وبين الفتاة التي يريدها.
إلى هذا الحد ترخص الأعراض، وتهون الكرامات والشيم؛ لكي يضحي الإنسان بهذا كله، من أجل الوصول إلى مكالمة، ووراءها ما وراءها؟!
مَنْ يَزْنِ يُزْنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فاهمِ
إن الزنا دَين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلمِ
جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا -هل طرده النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو سَبَّه؟ أو شتمه؟ لا بآبائنا هو وأمهاتنا، بل دعاه يدنُ منه قليلاً- فقال: يا غلام، أترضاه لأمك؟ قال: لا.
يا رسول الله! قال: فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لأختك؟ قال: لا.
يا رسول الله! قال: فإن الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لعمتك؟ قال: لا.
يا رسول الله! قال: فإن الناس لا يرضونه لعماتهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(170/4)
نتيجة عدم الالتزام بالأخلاق الإسلامية
أيها الأحبة في الله: علينا أن ننتبه لهذه الظاهرة التي سبق الكلام عنها، ولكن الاستقراء والتأمل ليدل على أنها تفشَّت، وأول مصائبها: الفراغ، وغيبة راعي الأسرة، وكذلك ضعف التربية الإسلامية، التي أوجدت ألواناً من الشر والفساد، ولم تفتح باباً من التعليم والتربية والأخلاق الإسلامية.
واعجباً منا -يا عباد الله- الواحد يوم أن يبني فلة جميلة، بما فيها من الأدوات الصحية والأبواب والنوافذ، يستقدم خادماً أو خادمة ليلمع الزجاج والأبواب والمرايا وغير ذلك، وما يبذل من ماله ما يلمع به أخلاق أولاده، ما يلمع به سَمْتَهم وعلاقاتهم، ما يجعل من وقته ما يكفي لتربيتهم، لا يحرص على أن يوجد من يهتم بهم أو يعتني بهم، بل بعضُهم -والعياذ بالله- يوم أن يرى في بعض أولاده بذرة من الهداية، وبداية في الاستقامة يقول: هذا بدأه الوسواس، هذا دخله الدين، هذا تطوع، هذا تعقد، هذا تشدد.
ينبغي أن يفهم الدين على أصوله، ينبغي أن يفهم الدين الذي فهمنا من آبائنا وأجدادنا وجداتنا، وهَلُمَّ جَرَّاً، وينسب إلى الأجداد والجدات فهماً هم -والله- منه براء؛ لأن أولئك -عفا الله عنهم وجمعنا بهم في مستقر رحمته- عرفوا الدين خوفاً وورعاً، وكفى بخشية الله علماً، ومن كان لله أخوف فهو به أعرف، أولئك الذين ما كنتَ ترى من إحداهن كفاً ولا أصبعاً، ما كنت ترى من إحداهن ثوباً لا قصيراً ولا طويلاً.
أما في هذا الزمان -والله- إنه المستقيم المتعفف لينكسر بصره في الأرض، مما يرى من حرقة أبصار النساء إليه، لقد انكسر الحياء وضاع عند كثير من الفتيات، بسبب ذلك.
ولا تعجبوا -يا عباد الله-! أن ما نزرعه بأيدينا نحصده بأيدينا أيضاً، فانظروا ماذا زرعنا في بيوتنا منذ عشرات السنين وها نحن نجد اليوم غيه.
إن هذه لَمِن المصائب أن يغفل الإنسان عما يدور في بيته.
فانتبهوا لذلك -يا عباد الله- وإن مصائب المعاكسات لَذَاتَ شرٍّ خطير، ووزر مستطير، وآثام منتشرة، ولا يملك من ينكشف له العار من الساعات إلا أن يقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23].
أسأل الله أن لا يرينا الخزي في أنفسنا، ولا في أحبابنا، وأن يستر علينا، وألا يهتك لنا ستراً، وألا يكشف لنا عورة.
يا عباد الله: إنها لمن أعظم المصائب يوم أن تُكشف القضية أمام رجال الهيئة! من هذه؟ إنها فلانة بنت فلان! من هذا؟ إنه فلان بن فلان! فتكون مصيبة لا يمحوها إلا التراب، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ إلا من تداركه الله بتوبة صادقة صالحة، فإن الله -جل وعلا- يقول: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
وللحديث في هذا الموضوع بقية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب، أن يحفظنا، وأزواجنا، وبناتنا، وأمهاتنا، وأخواتنا، وعماتنا، وخالاتنا، وجميع أقاربنا.
اللهم لا ترينا في أنفسنا فاحشة ولا مكروهاً، اللهم لا ترينا في أنفسنا فاحشة ولا مكروهاً، وتجاوز عنا أجمعين، برحمتك يا رب العالمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازِه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم يا حي يا ودود يا ذا العرش المجيد قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، اللهم يا حي يا ودود يا ذا العرش المجيد أبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين! ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرِّح علينا ولا عليهم عدواً، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين! اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم اهد قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم وحد صفهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم سدد رصاصهم، اللهم أقم دولتهم، يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود أعدائك أعداء دينك وأنبيائك ورسلك وكتبك، اللهم اهلك زروعهم، وضروعهم، اللهم اجعلهم شذر مذر، واجعلهم غنيمة للمسلمين، يا رب العالمين! اللهم أغثنا وأغث قلوبنا وبلادنا وأرض المسلمين أجمعين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(170/5)
على شارع الحياة
لقد منَّ الله علينا بنعم كثيرة لا تحصى، ومع ذلك ترى الكثير من شباب المسلمين لاهين غافلين لا يؤدون شكر نعمة من نعمه، ولو أن هؤلاء الشباب سخروا أوقاتهم وأموالهم وأسفارهم للدعوة إلى الله عز وجل لكان خيراً كثيراً ولكن ألهتهم الشهوات، وسوف يعلمون.(171/1)
عظمة الله تعالى
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:11]، والقائل في محكم كتابه: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36] أحمده على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: والله إني لأستحي أن أحدثكم وأنا جالس أو قاعد، وإكراماً لوجوهكم وإفادة بكوامن الشعور والإخاء والمودة بيني وبينكم، لا أرضى لكم ولا أرضى لمقامكم من نفسي إلا أن أقف بينكم، وأسأل الله جل وعلا، أن يجعل مقامي ومقامكم هذا في خالص أعمالنا يوم نلقى الله يوم القيامة.
أيها الأحبة: إن مما يطعن قلوب اليهود والنصارى، ومما يُبطل مخططات أعداء الإسلام، ويفسد مؤامرات أهل الكيد والتخطيط والتدبير في شباب الجزيرة مثل هذا الاجتماع، إن اجتماعكم هذا -أيها الشباب- لأعظم طعنة وأعظم بصقة في وجه أولئك الذين أصبحوا يراهنون عليكم، ووالله ثم والله، لقد تحدث الأعداء عنكم وقالوا: كفيتم شأن هؤلاء الشباب، أشغلناهم بالأفلام، وبالمعاكسات، والمجلات، والتفحيط والمخدرات، والشذوذ والعلاقات الشاذة، والأمور الخبيثة إلى غير ذلك من كل جديد يبتكرونه وينتجونه لصدكم عن صراط الله المستقيم.
أما وقد عادت شوارعنا مجالس ذكر، وعادت مساجدنا رياض جنة، وعاد شبابنا دعاة إلى التوحيد وإلى الاستقامة والصلاح، فهذا والله موطن يغيض الكفار، هذا موطن يغيض أعداءكم وأعداء أمتكم، وأعداء بلادكم، وأعداء المسلمين في كل مكان.
يا شباب الإسلام! يا شباب العقيدة! أتظنون أن الله جل وعلا خلق الواحد منكم في أحسن تقويم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]؟ يا شباب الإسلام! أتظنون أن الله كرمكم، وفضلكم وجعل لكم منزلة فوق سائر المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70]؟ يا شباب الإسلام! أتظنون أن الله أسجد الملائكة لأبيكم آدم: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34]؟ الملائكة خلق عظيم شديد، كلهم ما بين راكع وساجد، ومسبح ومكبر ومؤتمر بأمر الله: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] الملائكة يسجدون لأبيكم، أليس هذا دليل تكريم لكم؟ أليس هذا دليل منزلة لكم؟ أليس هذا بيان مرتبة لكم؟ بلى والله، ولكن كثيراً من شبابنا وأبنائنا يدعون إلى مائدة القرآن ليكرموا، فيختارون موائد السفالة والرذيلة.
إن بعض شبابنا يدعون إلى رحمة الله لينجوا فيختارون المعصية والهلكة.
إن كثيراً من شبابنا، يدعون إلى العز والكرامة، فيختارون الذلة والهوان.
إن كثيراً من شبابنا يدعون إلى مرضاة الله، ويدعون إلى حِلقٍ تغشاها السكينة، وتتنزل فيها الرحمة، وتحفها الملائكة، ويذكر الله الجالسين فيها فيمن عنده، فيختارون مجالس لا يفتح فيها إلا صفحات السيئات، ولا يكتب فيها إلا ملائكة السيئات، يجلسون في سيئة، ويأكلون على سيئة، ويشربون على سيئة، ويتحدثون في سيئة، ويقيمون عن خطيئة وربما انتهت بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
أيها الشباب! إن واقعنا في هذا اليوم يحتم علينا أياً كان الواحد منا، أستاذاً أو تلميذاً، مدرساً أو معلماً، موظفاً أو بناء، أو أياً كانت وظيفته، أو أياً كان عمله، إن واقعنا وواجب ديننا علينا أن يشعر الواحد منا أنه مربوب لله معبود لله، تذكر أنك عبد لله قبل كل شيء، وتذكر أنك مخلوق صغير جداً بالنسبة لخلق الله جل وعلا.
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
كيف يجرؤ ابن آدم على معصية الله وهو خلق صغير جداً جداً أمام عظمة الله جل وعلا، ما تظنون في هذه المدينة العظيمة؟ فسيحة جداً، وما تظنون في المدن الأخرى؟ أكبر منها، ما تظنون في دول العالم؟ كبيرة جداً جداً، ما ظنكم بعرش الله جل وعلا؟ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5].
استوى ربنا على عرشه، استواءً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وعرش الله أكبر من هذه الأرضين جمعياً، بل أكبر من السماوات جميعاً، إذا كان هذا عرش الله، فما بالكم بربكم؟ {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103].
أيها الشباب! قبل أن ندخل في تفاصيل الحديث، اعرفوا من أنتم؟ واعرفوا من هو ربكم؟ أمَّا نحن فخلق ضعيف {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] أما نحن فخلق عجول: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11].
أما نحن فخلق هلوع جزوع منوع: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19 - 21].
أما نحن فخلق ضعيف، إذا أصابنا ألم انكسرنا ونقول: يا الله، يا الله، يا الله، فإذا عوفينا وعادت العافية إلى أبداننا، ودبت الدماء في عروقنا، بدأنا نقول: دعنا من كلام الله، دعنا من كلام رسول الله، آخر أغنية ما هي؟ آخر مسرحية ما هي؟ آخر شريط ما هو؟ يوم أن كنا في بلاء المرض والألم، كان الواحد يصيح: يا الله، ولما سرت الحياة في عروقه، وانتفض الدم في جوفه، أصبح يلتفت يمنة ويسرة فيسمع الأذان ولا يجيب، ويرى جلسة اللهو والطرب فيستجيب، يسمع نداء (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فلا يهب ولا يتحرك، ويسمع جلسةً فيها عزف أو وتر أو طرب فيتحرك، ولا أقول: إن من حضر جلسة طرب قد انقطع الأمل فيه، لا والله فيه من الإيمان خير، فيه من الإسلام بقية، ولكن كيف غلبه الشيطان! أيها الأحبة: يقول الله جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
وأنا أعطيكم أكبر دليل على هذا، أنتم ترون شاباً ربما أتى إلى الإسعاف في ليلة من الليالي على أثر مرض، أو صداع أو شيء يؤلمه، ثم بعد ذلك يؤتى به في حالة إسعافية، وماذا بعد ذلك؟ يؤتى إليه بالعربية، أو بالسرير الذي أعد للإسعاف، فيوضع على هذا السرير، وهو يقول: آه، آه، آه، يصيح من المرض، يتألم، والممرضات في طريقه ولا يلتفت إليهن، والزائرات في طريقه ولا يراهن، والحسناوات مقبلات مدبرات ولا ينظر إليهن، فإذا دخل المستشفى ووضع المغذي في عروقه، واعتني بصحته، ودبت إليه العافية، إذا جاءت الممرضة تعطيه علاجاً أخذ ينظر إليها بطرفٍ خفي، نعم لما دخل المستشفى في تلك الليلة، وهو يصيح: آه آه من المرض والألم لم يكن يلتفت لحسناء ولا ممرضة ولا مقبلة ولا مدبرة، ولكن لما دبت العافية في عروقه، وسال الدم دفاقاً قوياً في شرايينه، أصبح لا يرى مقبلة إلا أحرقها ببصره، ولا يرى مدبرة إلا نفذها ببصره، ولا يسمع شيئاً إلا أرهف الحس لنغمه وطربه، ألست أنت وأنا ذلك المسكين؟! {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس:12] لما كان في الإسعاف {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].(171/2)
الحث على الدعوة إلى دين الله
أيها الشباب: إن المرجو فيكم والمرجو منكم، والمؤمل فيكم، فوق ما أنتم عليه، وإن العالم الإسلامي، والكرة الأرضية أبصارها تتجه إليكم.
يا شباب الجزيرة! إن العالم الإسلامي ودول العالم تعلم يقيناً: إن كان هناك إسلام فالإسلام في بلادكم، وإن كان هناك بلاد اسمها بلادكم فهي بلاد الإسلام، فإذا جاء الوافدون، أو سافر أبناؤنا إلى الخارج، ورأينا من أبنائنا أول ما يسأل أين ( Night Club) أين النادي الليلي، أين المرقص؟ أين مكان كذا وكذا؟ أين السينما؟ أين هذه الملهاة؟ أين مكان الأهازيج؟ إذا علم أولئك أن هؤلاء هم أبناء هذه البلاد، قالوا: أي أمل نعقده فيكم؟! أي أمل نعقده في بلادكم؟! خذوا مني وإن كنت أود لا أتكلم بهذا قبل أوانه، كنا في زيارة لـ كمبوديا، وكمبوديا دولة كانت شيوعية، قتل فيها من المسلمين سبعمائة ألف مسلم، ذبحوا ذبح النعاج.
والله لقد رأينا مكاناً كبيراً من جماجم المسلمين، تصوروا -نسأل الله ألا يقدر عليكم شراً أو مكروهاً- لو أن سيفاً جاء وقطع هذه الرقاب جميعاً، وجمع الجماجم ماذا تتصور أن تجد؟ جبلاً من الجماجم، والله لقد رأينا جماجم المسلمين، صنع منها خريطة على الطبيعة، خريطة كبيرة على حائط طويل عريض يقال: هذه خريطة هذه البلاد وهي من جماجم المسلمين، أي: أن الأمر لم يستمر ولم يستقر إلا على رقاب المسلمين.
أيها الشباب! أيها الإخوة! أهذه جماجم إخواننا، وتلك جلسات لهونا وطربنا؟! أهذه جماجم أمهاتنا وبناتنا وفلذات أكبادنا وأطفالنا وأولادنا؟ أهذه جماجمهم وتلك محلات لهونا وطربنا؟! لا والله يا شباب الإسلام.
العالم ينتظر منكم أن تقدموا شيئاً، كم عدد الشباب الذين سافروا إلى مانلا؟ كم عدد الشباب الذين سافروا إلى بانكوك؟ كم عدد الشباب الذين سافروا إلى كازا بلانكا؟ كم عدد الشباب الذين سافروا إلى جاكرتا؟ كم عدد الشباب الذين سافروا إلى بلاد العهر والدعارة والفساد، أو سافروا إلى بلاد وكان قصدهم الدعارة والعهر والفساد؟! كم أنفق الواحد في تذكرته ذهاباً وإياباً؟! كم أنفق في الفندق والهوتيل ذهاباً وجلوساً وإقامته؟! كم أنفق على طعامه وشرابه؟ في كمبوديا رأينا واحداً من كبار المسلمين، يسكن في بيته عدد من أيتام المسلمين ويعمل من الصباح إلى الظهر ومن قبل العصر إلى العشاء وراتبه ستة عشر دولاراً.
يا شباب! ستة عشر دولاراً اضرب ستة عشر في ثلاثة فاصل خمسة وسبعين، تقريباً ستين ريالاً، أي: هذه الآلاف التي صرفها بعض أحبابنا وبعض شبابنا -نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية- كان بوسعها أن تحمي المسلمين، وأن تجعل لهم دوراً بدلاً من الفيضانات التي تجتاحهم، تلك الآلاف التي ينفقها بعض الشباب في اللهو والدعارة والطرب وغير ذلك، كان بإمكانك أن تشتري بها قارباً صغيراً لخمس أسر من المسلمين يعيشون على النهر ويصطادون من السمك ويأكلون من رزق الله.
حياة الفقراء، حياة المساكين، واقع المسلمين هناك شيء، وواقع شبابنا شيء آخر، تايلاند، بانكوك، كم بينها وبين بنوم بنه عاصمة كمبوديا؟ ما بينهما إلا ساعتين فقط، وربما تجد في بعض البلدان مسلماً لا يزال متمسكاً بالإسلام، لكنه لا يعرف أحداً يعلمه الإسلام، يقول: أنا مسلم، يدعى إلى الكنيسة فيأبى أن يدخل، ويدعى إلى معبد البوذيين فيأبى أن يدخل، ويدعى إلى المسجد فيأتي، وربما يتمنى أن يقام في بلده مسجد، وربما لا يزال يحافظ على هويته الإسلامية، ولا يعرف من الإسلام إلا أنه لا يأكل لحم الخنزير، ويريد من يعلمه الوضوء، ويريد من يعلمه الصلاة، ومن يعلمه الفاتحة، وإذا علموا أن مسلماً جاء إلى بلادهم تدافعوا إليه زرافاتٍ ووحدانا، وجلسوا حوله كالنحل حول الملكة، جلسوا حوله كالسوار على المعصم، والمشكلة أنه يأتي بجوارك لا يعرف لغتك وأنت لا تعرف لغته، أتدرون من الذي استطاع أن يترجم لنا؟ مسلم هناك، كيف نجا من القتل؟ لما بدأ حاكم تلك البلاد بحملات المذابح في المسلمين، قام ذلك المسلم الذي يجيد اللغة العربية وأزال كوفيته وأزال كثيراً من ملابسه، وجعل الطين على رأسه وجسمه، والروائح الخبيثة على بدنه وأخذ يمشي ويركض ويصرخ في الشوارع، يدعي أنه مجنون، لعله أن يسلم من القتل، وفعلاً سلم ذلك المسلم ووجدنا مسلماً يترجم لنا، ويترجم حديثنا مع هؤلاء.
فيا أحبابنا الشباب! الذين سافروا إلى الفلبين، والذين سافروا إلى تايلاند، هل كانوا لا يعرفون الوضوء؟ بلى والله يعرفون الوضوء، هل كانوا لا يعرفون الصلاة؟ بلى يعرفون الصلاة، هل كانوا لا يعرفون القرآن؟ بلى يعرفون القرآن، فشبابنا لو تقدموا ساعتين وبدلاً من الجلوس في أحضان العاهرات والفاجرات، امتدوا خطوات لكي يعلموا القرآن الكريم، ولكي يعلموا الفاتحة والوضوء والصلاة، لكي يعلموا أركان الإسلام، لكي يعلموا توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، لكانوا على ذلك من القادرين.
والله إن الشاب الذي أمضى جزءاً من حياته في فسادٍ وانحرافٍ ودعارةٍ يستطيع أن يكون داعية على الأقل إلى تعليم الوضوء والصلاة والفاتحة، وأجره أعظم من أجورنا هنا جميعاً.
يا إخوان! العالم ينتظر منكم شيئاً عظيماً في أولان باتور عاصمة منغوليا خمسة عشر ألف مسلم لا يوجد فيهم من يحسن الفاتحة، ومسلمون يدعون إلى الشيوعية فيرفضون، ويدعون إلى النصرانية فيرفضون، ويدعون إلى البوذية فيرفضون من أنتم؟ مسلمون، ينتظرون مسلماً يأتي إليهم، فما بالكم إذا وطئت قدم شاب مسلم أرضاً قريباً من أرضهم، فقيل: هذا مسلم فلحقوه يتبعونه، فإذا تبعوه وجدوه آخر الطريق يسهر في مرقص، فإذا تبعوه وجدوه آخر الطريق في مكان دعارة، فإذا تبعوه، وجدوه في آخر المسار في ملهاة ومعصية وأمر لا يرضي الله جل وعلا.
أيها الشباب! إن أمة الإسلام تنتظر منكم شيئاً عظيماً، وإن ما نراه من شبابنا اليوم من إقبالٍ على الله جل وعلا وصحوة عمت صغيرهم وكبيرهم، وعمت ذكرهم وأنثاهم وفتاهم وفتاتهم، هذه لابد أن يكون لها ثمرة، وثمرتها فيكم وفي جهودكم.
إن من أهم واجباتنا ومن أهم أمورنا -يا شبابنا- أن ننظف مجتمعنا من الرذيلة، وأن ننظف مجتمعنا من الانحراف، ليس غريباً أن تسافر إلى دولة كافرة أو إلى دولة علمانية، أو إلى دولة شرقية أو غربية، فترى الخمور تباع علناً، وترى الدعارة مقننة، وترى الأرصفة مليئة بالفجرة والفسقة الذين يسهرون على الشراب والمنكرات، لكن في بلادنا الطبيعي والمؤمل والمنتظر كما نرى في المساجد رياض الجنة وحلق الذكر أن نرى على الطرقات من يكونون عوناً فيها، وإرشاداً للمارين (أما وإن جلستم فأعطوا الطريق حقه، قيل: وما حقه يا رسول الله؟ قال: كف الأذى، ورد السلام، وغض البصر) فهل الجالسون في طرقاتنا اليوم يقومون بحقوق الطريق؟ هل هم ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف؟ هل يعرفون أن أوقاتهم محسوبة عليهم؟ هذا منتظر منكم -أيها الشباب- وإني يوم أن أكرمني الله جل وعلا بحضور هذا المقام هذه الليلة، أطلب منكم طلباً واحداً، إذا حضرت فأريدك أن تأتي بشاب منحرف معك، لا أريدك أن تأتي بشاب قد منّ الله عليه بالمحافظة على صلاة الفجر مع الجماعة وسائر الصلوات، وشاب لا يسمع الملاهي ولا يشغل وقته بها، أو شاب أشغل وقته بالقراءة وطلب العلم، هذا قد سلك الطريق، وعرف الجادة، وظهرت عنده الحجة، واستقام على المحجة، ولكن أيها الشباب! أريد من كل واحد منكم أن يبحث في حيه عن أفجر وأفسق شاب في الحي، وأكثر شباب الحي انحرافاً، فيأتي به، ولو كان في جيبه الدخان، ولو كان في جيبه الصور، وإن كان أشعث أغبر متطاير الشعر، فأت به هنا إلى رياض الجنة، وإلى غسيل القلوب، وإلى طريق الحياة، فهنا البداية، اُدع والدعوة بإذن الله إذا ظهرت منكم بإخلاص واتجهت إلى إخوانكم بشفقة ورحمة وسمعتم ووافق السماع قلباً مستعداً بإذن الله جل وعلا سوف ترى المنحرف بالأمس إماماً اليوم، وسترى الضال بالأمس هادياً مهدياً في الغد، هذا هو الذي نرجوه، وهذا الذي نأمله يا شبابنا، لئن كانت هذه الجالسة في هذا الشارع، فإنا بحاجة إلى جلسات في شوارع عديدة.
شباب يقولون: أين أنتم؟ ما وجدنا من يحدثنا، ما وجدنا من يسلم علينا، ما وجدنا من يُهدينا شريطاً، ما وجدنا من يعطينا كلمة، ما وجدنا من يصبر على رائحة الدخان فينا قليلاً، ما وجدنا من يجلس معنا ولو تجهم وجوهنا، وأنكر ما يرى من ملامحنا، فليسمعنا، إن قلوب هؤلاء الشباب ليست غلفاً بمعنى لا يمكن أن تقبل الحق أبداً، ولكن يوم أن يأتي من يلينها بلطيف الموعظة، ودقيق الحكمة، ولذيذ الأسلوب، بإذن الله جل وعلا سيجد فيها خيراً كثيراً.(171/3)
لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر
كانت أرغب أن أحضر معي هذه الليلة فناناً من الفنانين، ومطرباً من المطربين، في مدينة من مدن المملكة، يقول لي وزارني في البيت، ورسالته عندي، ومع زيارته لي يقول: كنت أول من فتح محل الفيديو في مدينتي، وكنت أسهر في هذا المحل من فلم مصارعة النساء إلى رقصات النساء، ومن فلم المطاردات إلى فلم الجنس، ومن فلم الخلاعة إلى فلم الشذوذ، وهكذا كانت حياتي، وزيادة على ذلك يقول: كنت مطرباً، أعزف العود عزفاً أنافس فيه أحسن المطربين، وكنت شاعراً أقول الشعر بنوعيه فصيحه ونبطيه، وما كنت أحب أحداً من أهل الخير، وإذا رأيت متديناً تجهمته، وإذا رأيت ملتحياً كرهته، وإذا رأيت مستقيماً أعرضت عنه، فأحدث في نفسي أمراً عجيباً جعل الناس يضجرون مني، حتى جاءني ذات ليلة شابان أول ما رأيتهما، يقول: تمنيت لو رأيت الشيطان وما رأيتهما، وهم من أهل الخير! لكن ليس عجيباً إذا استحكمت المعاصي وأصبحت القلوب غلف إلى درجة مغلقة: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].
قال: جاءني شابان سيماهم في وجوههم من أثر الطاعة، وإكرام لحاهم، وحسن سمتهم، وهدي سلوكهم، قال: فلما جاءا إليّ قلت لهما: ماذا تريدان مني؟ عندي فيديو، عندي عود، عندي شعر، وأقول شعراً نبطياً خليعاً، يقول: والله كنت أتغزل والعياذ بالله إلى درجة الإفساد والتشبيب، وأحكي قصصاً مفصلة، كما لو كنت فعلتها وهي لم تفعل.
قال: فلما جلسا إليّ، قالا لي: السلام عليكم، قلت: وعليكم السلام، ماذا تريدان؟ قالا: يا أخي! نريد أن نسمع منك قصيدة، ما عندك قصيدة؟ قال: بلى عندي قصيدة، قالا: نسمع بالشارع؟! نريد أن ندخل عندك ونسمع قصيدة، نسمع قصيدة على الرصيف؟! لا يصلح، قال: فدخلا عندي، وكان عندي شقة مخصصة فقط للفساد والمعاصي -والله يا شباب- قال: فلما دخلا عندي وأردت أن أعرض ما عندي عليهما عرضا عليّ بضاعة كسرت مغاليق قلبي: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].
قالا: اسمع منا، اسمع منا؟ فأسمعاه كلاماً ثم خرجا من عنده، قال: فبت تلك الليلة وأنا على أمر عجيب، ضيقة في صدري، وقلق في نفسي، وتناقض في كواملي، حالةٌ لا أستطيع أن أصفها من نفسي.
قال: فتذكرت شيئاً من كلامهما، وقلت: ماذا لو ذهبت إلى المسجد؟ قال: فذهبت وتوضأت -قال: والله قد كان يمر عليّ أربعة أيام وأنا جنب، لا يغتسل والعياذ بالله- قال: فتوضأت وذهبت إلى المسجد، فلما دخلت كأن شيئاً دخل في جوفي، أرى منه إشراقاً ونوراً، وكان والدي هو إمام المسجد، فلما دخلت قبل أبي إلى المسجد في صلاة الفجر، إذا بأبي يفاجأ عندما رآني في المسجد، فما كان من والدي إلا أن رفع يديه، وقال: اللهم اهده.
الأمل في الله عظيم -أيها الشباب- لا نيئس من هداية إخواننا، الأرصفة مليئة، ولكن الشباب الذين على الأرصفة فيهم خير كثير بإذن الله جل وعلا، ومتى يتفجر هذا الخير هدىً ودعوة وصلاحاً واستقامةً وأمراً بخير ونهياً عن شر؟ يوم أن يكون لكم هذا النشاط، إذا أتيت إلى هذا المكان، ائت بواحد منحرف أو اثنين فقط، نريد من كل واحد أن يأتي بواحد معه، حتى تسمعه كلام الله، وتقيم عليه الحجة، وتبين له المحجة.
يقول: فلما بدأت أصلي كنت كالذي يتذكر شيئاً فقده من زمان وهو أني لم أكن أصلي، قال: فلما هويت ساجداً إذ بأمرٍ ينتابني، قال: فسال دمعي وأنا أصيح وأقول: يا الله! يا الله! يا الله! اهدني وافتح على قلبي، اشرح صدري، يا خالقي! يا رب! قال: أخذت أناجي الله جل وعلا بكل ما تيسر على ذاكرتي من اسم أو صفة لله جل وعلا، قال: فلما رفعت من السجدة الأولى، إذ كأن صدري هذا قد شق وأدخلت الدنيا فيه من ساعتي.
قال: فلما عدت إلى السجدة الثانية وفيها من البكاء والنحيب والتضرع والانكسار ومناجاة الله جل وعلا.
يأيها الشباب! يقول ربنا جل وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] وهل هناك ضرورة أعظم من ضرورة الضال إلى الهداية؟ وأعظم من حاجة الضال إلى الهداية، هل هناك ضرورة أعظم من حاجة المنحرف إلى الاستقامة؟ وهل هناك ضرورة أعظم من حاجة الذي لا يصلي في المسجد من صلاته إليها؟ هل هناك ضرورة أعظم من حاجة الذي امتلأ رأسه وقلبه وجوفه ودماغه بالغناء ومزمار الشيطان أعظم من حاجته إلى كلام الرحمن؟ {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
حاجتك إلى دينك أعظم من حاجتك إلى الطعام والشراب، حاجتك إلى معرفة ربك أعظم من حاجتك إلى الطعام والشراب، أخي! قلت لك في بداية الكلمة، إن الله كرمك، وأسجد الملائكة لأبيك، وفضلك على كثيرٍ ممن خلق، ولكن متى؟ يوم أن تهتدي بهداية الله، وإلا إن ضللت عن نهج الله وطريق الله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] يوم أن يضل عن طاعة الله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] يقول صاحبنا: فما كان مني بعد أن فرغت من تلك الركعتين إلا وقررت أن أترك المعصية إلى غير رجعة، فتخلصت من محلي ومن أشرطتي ومن شقتي، ومن أعوادي ومزاميري وما عندي، وأصبحت مؤذناً للمسجد خلف أبي، فلما كبر سن والدي أصبحت مؤذناً وإماماً.(171/4)
فضل الدعوة إلى الله وتعليم الدين
يا إخواني! الواجب والمسئولية والدور يقع عليكم أنتم، كم يوجد في سجون المخدرات من الشباب؟ لو أن كل واحدٍ مع صديقه، عقدا العزم على أن يسخرا ويسلطا جهودهما لعلاقة بذلك الشاب المنحرف في زيارته وذهاب معه، وإياب به، وهديته ودعوته ومخالطته وقطع الطريق بينه وبين الأشرار الذين يزينون له المعاصي، والله لأنتجتم للمجتمع خيراً كثيراً.
يا شباب الإسلام! هذا هو الدور المنتظر، لو أن كل اثنين أو ثلاثة منكم عقدوا العزم على أن يحدثوا في هذا المجتمع خيراً لأحدثوه، بلادنا فسيحة والناس بحاجة إلى من يعلمهم جزءاً من القرآن الكريم، وعشرة من الأحاديث، وجملة من الأحكام، وشيئاً من أصول العقائد، وأنتم تتقنون هذا، كما قلت: الذين ذهبوا إلى بانكوك ومانلا، هل هم لا يعرفون الصلاة؟ بل ربما الواحد منهم صلى سنين طويلة، ولا يزال يصلي، فهذا الذي سافر وهو يعرف الوضوء والصلاة ويعرف الفاتحة ويعرف شيئاً من القرآن، لو مد الخطوة ساعتين وترك طاعة الشيطان إلى الدعوة إلى دين الله جل وعلا، وعلم عشرين أو ثلاثين مسلماً الوضوء والفاتحة، والتوحيد، لعاد يوم القيامة بأجر آلاف المسلمين.
إن الواحد منكم، يمكن أن يبقى واحداً، ويمكن أن يصبح مائة، أنت أيها الشاب! بإمكانك أن تكون واحداً، ولدت واحداً، وتعيش واحداً، وتموت واحداً، وبإمكانك أن تكون مائة، وبإمكانك أن تكون ألفاً، وبإمكانك أن تكون عشرات الآلاف، كيف تبقى واحداً؟ إذا كان جهدك حول نفسك.
طعامك وشرابك ونومك وسيارتك وحاجتك ملهياتك، لا يكون عندك شيء من اهتماماتك الرخيصة، وبإمكانك أن تكون مائة يوم أن يكون وقتك في الدعوة إلى الله، قدوة لتطبيق ذلك على نفسك، واستقامة على مرضاة الله، ودعوة الآخرين والصبر على الأذى فيه، والصبر على ما ينالك في هذا:
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى
يا شبابنا! هذه الأرض فيها من رميم البشر قبلنا شيء كثير، خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد، الأرض التي تسيرون عليها قبلكم أمم سارت عليها ودفنوا الآن تحتكم، أنتم تمشون على رميم أمم قبلكم في هذه الدنيا، وستمشي أقوام على رميمكم، ولكن أين ستكون أرواحكم؟ في أعلى عليين أو في أسفل سافلين: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89] أو تكون في زقوم وحميم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا شباب الإسلام: إياكم أن يأتي الشيطان لأحدكم، فيقول: أنت لا تستطيع أن تكون صالحاً ولا مصلحاً، إياكم أن يأتي الشيطان إليكم، فيقول: أنت أيها التافه أيها الحقير يا صاحب الرصيف! يا صاحب التفحيط! يا صاحب الدخان والشيشة! يا صاحب المطرب! يا صاحب التمثيلية! والفلم! يا صاحب كذا، إنما أنت هينٌ حقيرٌ تافه، ويبدأ يحقر من شأنك فتنقاد للشيطان، وإذا أردت أن ترفع نفسك، ضربك الشيطان ضربة على أم رأسك، وقال: اجلس يا ذليل يا حقير يا تافه.
حينما تذل للشيطان فإن الشيطان لن يدعك، لن يدعك الشيطان تشم نسمة من نسمات العزة، ولكن إن أردت الحق، فأنت عزيز بعزة الله، قوي بقوة الله، غني بفضل الله، عليم بما علمك الله، كريم بما أكرمك الله به، تستطيع أن ترفع من نفسك.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
إخوانكم الشباب في أفغانستان، شابٌ بالأمس كان من أهل التفحيط والفساد، أصبح قائداً على جبل كرجل، شابٌ كان بالأمس في المنطقة الشرقية لا هم له، ولا هم لجهاز الأمن إلا مطاردته من كثرة جرائمه ومعاصيه، فلما فتح الله عليه، يسمي بالله ويمسك الشيوعي ويذبحه بالسكين على رقبته، الله أكبر! أي إيمان جعل من هذا الحقير التافه الذليل صاحب المعاصي والمنكرات والفواحش والسيئات، رفعه إلى درجة أصبح يضع رجله على رقبة الشيوعي ويسل السكين ويذبحه، وهو يقول: إيماناً بالله وتصديقاً بسنة رسول الله في الجهاد: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14].
قال: والله لما ذبحتهم بيدي وجدت شفاء روحي، ووجدت راحةً في صدري؛ لأنهم قتلوا عدداً من إخواني المجاهدين، فما وجدت شفاء الصدر إلا في هذه الآية، لكن أين كان بالأمس؟ كان منحرفاً، وكان يعاكس ويغازل، وكان له صديقات، وله أمور عجيبة جداً، فلما أكرمه الله بالتوبة، والتوبة تجب ما قبلها، والله يفرح به (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم أضل ناقته في فلاة وعليها طعامه وشرابه، فلما تيقن هلكته، توسد يده موقناً بهلاكه، فلما أفاق وجد راحلته عنده، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).
إذا كان هذا فرح ربنا جل وعلا، فمن واجبنا أن نفرح بتوبة إخواننا، وأن ندعوهم إلى التوبة، وأن نفرح بتوبتهم، وأن نقدم لهم وقتنا، وهديتنا، ودعاءنا بظهر الغيب، ونصحنا، ولكن أين الذين يعملون؟ أين الذين يدعون إلى الله جل وعلا؟ أين الذين يحرصون على الدعوة؟ إن دعوة الشاب الضال والمنحرف والذي وقع في كثيرٍ من الأمور لا تحتاج إلى شهادة الليسانس أو بكالوريوس أو ماجستير أو شهادة من الشهادات العلمية العصرية، تحتاج دعوة هؤلاء أولاً: إلى إخلاص، وإلى نية صادقة ورغبة كما هداك الله أن يهديهم الله: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94].
أن يمنّ الله عليه بما منّ الله عليك، توبة صادقة، ومن ذاق لذة الدعوة إلى الله بعد توبة نصوح صادقة، والله لا يكل ولا يمل أبداً و (ما مع الحب إن أخلصت من سأم).
يوم أن تكون محباً لهذه الدعوة مخلصاً إياها لوجه الله جل وعلا، فلن ترَ سأماً ولا مللاً.
يا إخواننا! يا من جمعتم وتجمعتم في هذا المكان الطيب المبارك! أسألكم بالله: هل فيكم من قال: أنا لها؟ هل فيكم من قال: سمعنا وأطعنا؟ هل فيكم من قال: استفدنا مما سمعنا؟ هل فيكم من قال: عرفت فالزم؟ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] لو فعلتم ما تسمعون وطبقتم ما به تنصحون، لكان خيراً لكم وأشد تثبيتاً: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:66 - 70].
هذه أفضال الله، وهذه نعم الله، وهذه بركات الله تتدفق عليكم تترى، ولكن من المؤسف -كما قلت- أن تعرض علينا العزة فنختار الذلة، وتعرض الكرامة فنختار الهوان، ويعرض الغنى فنختار الفقر، ويعرض الخير فنختار الشر، وتعرض الهداية فنختار الضلالة، وتعرض الاستقامة فنختار الانحراف، معاذ الله أن نكون كذلك.
أسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، أسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، أسأله بكل اسم هو له، سمى به نفسه، أو أنزله في كتابه، أو علمه أحداً من خلقه، أو استأثر به في علم الغيب عنده، أن يمنحكم نفحةً من بركاته، وأن يمنحكم بركةً من فيض رحمته، وأن يمنحكم خيراً وتوبة، وإيماناً ودعوة، وإخلاصاً وصدقاً، وثباتاً واستقامة حتى نلقى الله بذلك وإياي والسامعين وإياكم أجمعين.
أيها الأحبة: قد زانت هذه الليلة، والليالي تزينها الأقمار، وتعطر هذا اللقاء وازدان هذا المجلس بحضور والدنا وحبيبنا وشيخنا نسأل الله أن يجعله مباركاً أينما كان، نسأل الله جل وعلا أن يجعل كل خطوة من خطواته في موازين أعماله، نسأل الله أن ينفعنا بعلمه، وألا يحرمنا بركته، وأن يريه ما تقر به عينه فيكم وفي أبنائكم وفي ذريته وأبناء ذريته من الهداية والاستقامة والعلم والعمل والدعوة، ذلكم هو سماحة الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين قد زين هذا اللقاء متواضعاً بمجيئه، أسأل الله أن يرفع درجاته في عليين.
اللهم ارفع درجاته في عليين، واجعلنا بركبه سائرين على نهج سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(171/5)
عندما يكون لحياتنا معنى
حينما تكون القلوب حية، يكون للحياة معناها المنشود؛ ومن نظر إلى الحياة على أنها متع وملذات، فقدت حياته معناها.
وهنا بيان لمظاهر الحياة الحقيقية، ومميزات أصحابها، وأهمية الإعداد للحياة الأخرى، وقد خصصت هذه المادة حيزاً للكلام عن صلاح المرأة، وأثر ذلك، ومعاني حياتها.(172/1)
نعمة الاجتماع في مجالس الذكر
الحمد لله؛ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يكتب خطاكم إلى هذه الروضة العبقة من رياض الجنة في موازين أعمالكم، كما أسأله أن يحط عنكم بكل خطوة خطيئة، وأن يرفع لكم بكل خطوة درجة، كما أسأله سبحانه أن يحشرنا وإياكم كما اجتمعنا بكم في هذا المكان الطيب، نسأله أن يحشرنا وإياكم في زمرة نبيه صلى الله عليه وسلم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
أيها الأحبة! إنه لجمع نباهي به بفضل الله جل وعلا، وإنه لاجتماع يبعث في النفوس الإشراق ويبعث في القلوب الأمل ويستمطر الرحمات بالدعاء من الله جل وعلا أن يسدد هذه الصحوة وأن يجعل مسيرها إلى خير، وأن يجعل عاقبتها إلى رشد وفلاح في الدنيا والآخرة، وأن يعصمها عن مواقع الزلل والفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها الأحبة! إن جمعاً كهذا كان قبل اثنتي عشرة سنة نادراً في أكبر المدن، والله لقد كنا في المحاضرات قبل اثنتي عشرة سنة أو قبل ذلك أيضاً، يندر أن تجد اجتماعاً كهذا في مدينة من كبريات المدن، أما ونحن بفضل الله جل وعلا في منطقة من المناطق أو في ضاحية من الضواحي ونرى هذا الجمع الطيب المبارك برجاله ونسائه، بشبانه وشيبه، بذكوره وإناثه، بصغاره وكباره، فهذه نعمة نسأل الله جل وعلا أن يديمها علينا، اللهم لك الحمد كلما قلنا: لك الحمد، اللهم لك الشكر كلما قلنا: لك الشكر، اللهم لك الثناء الحسن كلما قلنا: لك الثناء الحسن.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الآماد واتصل الدهر
إذا عم بالسراء أعقب مثلها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
فذلك فضل من الله عظيم جدا.(172/2)
حياة القلوب هي الحياة الحقيقية
أيها الأحبة! موضوع هذا الحديث معكم اليوم (حينما يكون للحياة معنى).
أيها الأحبة! الحياة الحقيقية ليست هي الحياة التي يراها الناس في ظاهر تصرفات بني جنسهم من الذهاب والإياب واليقظة والنوم والحل والترحال والسفر والنزول والوصول، وإنما الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، قال جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] إن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، إن الحياة الصادقة هي توجه الأفئدة إلى بارئها إلى الذي خلقها وأنشأها من العدم، إلى الذي قسم أرزاقها وقسم آجالها، إلى الذي يطعمها ويسقيها ويكفيها ويؤويها، إن الحياة الحقيقية أن يتوجه الإنسان بقلبه وقالبه، بظاهره وباطنه، بشكله ومضمونه بجوهره وعرضه، أن يتوجه بهذا كله إلى الله جل وعلا.(172/3)
البداية الحقيقية للحياة
أيها الأحبة في الله! الحياة الحقيقية أن يدرك الإنسان بدايته الحقيقية، وأن يدرك الإنسان البداية، وأن يدرك الدوام بعد البداية، أما بداية الحياة التي تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت منتقلة بذلك إلى برزخ يكون فيه الواحد من العصاة والمعذبين والأشرار الذين لم يكونوا في عداد عباد الله الصالحين في الدنيا، فأولئك ليست حياتهم بحياة.(172/4)
المعنى المطلوب للحياة
أيها الأحبة! عندما يكون للحياة معنى فإن هذا يعني أموراً عديدة: أولها: أن يشعر الإنسان أن حياته ليست لذاته فحسب، يعني هذا أن حياتك ليست لجوفك، وليست لفرجك، وليست لجيبك، وليست لرصيدك، وليست لمالك، وليست لأنانيتك، وليست لأثرتك، وإنما الحياة الحقيقية أن تعيش دائراً مع الحق حيث دار، الحياة الحقيقية ألا تكون حياتك قمة الأنانية في خدمة البدن.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أذهبت عمرك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
الحياة الحقيقية عندما يكون لها معنى أن يشعر الإنسان بأن بدايته قديمة، وأن نهايته لا تخط أثراً للترحال إلا في رضوان الله جل وعلا، يوم أن تكون من المكلفين فإنك تشعر ببدايتك بداية الحق الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، فليست بدايتك أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى، ليست بدايتك هي ولادتك وإنما بدايتك هي بداية الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم وبشر به الأمة وأنذر به الأباعد والأقارب وكان رسولاً به إلى الثقلين كافة الجن الإنس بشيراً ونذيرا، بدايتك تبدأ مع هذا الحق وتشعر أن نبيك هو قائدك الأول، وأن صحابة نبيك هم المثل وهم القناديل، وهم النجوم الزاهرة الذين تتلألأ كواكبهم في سماء الحق وفي طريق الهداية، وفي جادة الدعوة التي تمضي بها إلى مرضاة الله مروراً بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين وعلماء الإسلام وقادة الأمة المسلمين أجمعين، البداية ليست بداية الميلاد حينما يكون للحياة معنى وإنما هي بداية الحق، والنهاية ليست بخروج الروح من البدن، وإنما خروج الروح من البدن هو أول خطوة تضعها في باب نوال الجزاء والثواب وجميل المغفرة والستر والفوز والفلاح برب العالمين، أيها المسلم حينما يكون لحياتك معنى فإن حياتك لا تنتهي بموتك، وإنما تبدأ رحلة جديدة أوسع آفاقاً وأبعد مدى وأعمق أصولا وأشمل في جميع الجوانب؛ لأن نهاية المؤمن من الحياة هي بداية النعيم إلى مرضاة الله جل وعلا، وكما يقول واحد من دعاتنا وعلمائنا: أيها المسلم أنت موعود بمستقبل مشرق يبدأ بموتك.(172/5)
الحياة التي لا معنى لها
هذا حينما يكون للحياة معنى، أما الذين لا معنى لحياتهم فأولئك الذين يرون الحياة في لذة الجوف، ومتعة الفرج، ونظرة العين، وحلاوة الطعم، وما يشربون ويأكلون ويلبسون، وتلك وأيم الله فانية، تلك وأيم الله حياة قصيرة، تلك وأيم الله حياة لا معنى لها؛ لأنها يشاركنا فيها الدواب والبهائم والطيور وسائر بهيمة الأنعام.
حياة الذين لا معنى لحياتهم ماذا يجدون فيها؟ مهما بلغ الواحد من الثراء والنعم والأموال فإنه لا يلبس إلا ثوباً واحداً، ولا يرى إلا بعينين اثنتين، ولا يجد إلا أنفاً واحداً في بدن محدود القوة قصير الصحة مهدد بالسقم والآلام تصبحه أو تمسيه، حياة الذين يرون الحياة التي لا معنى لها، الذين يرون الحياة مطعما حياتهم في الحقيقة أيها الإخوة نغص ونكد وآلام.
من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينة في صدره
أو ما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره
ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره
والوحش يأتي موته في بره والحوت يأتي حتفه في بحره
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره
الحياة التي تتعلق بالمتع أو بالملك أو بالوزارة أو بالإمارة أو بالجاه أو بالثراء أو بالسلطان هي حياة والله قصيرة، ولذلك عبر عنها إمام أهل السنة صاحب تاج الوقار في المنافحة عن منهج أهل السنة والوقوف عقبة كئوداً أمام البدعة أحمد بن حنبل رحمه الله، لما ابتلي بالقول بخلق القرآن وأوذي أذىً شديداً وعذب عذاباً بليغا، جلد بالسياط فتمزق قميصه، وبقي أثر السياط على جلده، دخل عليه ولده عبد الله بن الإمام أحمد، جاء ليسأل أباه: أين الحياة؟ أي حياة هذه؟ إمام السنة يعذب، إمام السنة في السجن، إمام السنة يعلق برجليه، إمام السنة يسجن في الجب والبئر، إمام السنة في ضيق والمبتدعة في سعة، إمام السنة في ضنك ونكد وأهل البدع على مفارش الحرير والنمارق والسندس، إمام السنة يبتلى صباح مساء وأولئك يتقلبون كيفما يشتهون، قال عبد الله بن الإمام أحمد: يا أبتي متى الراحة؟ أين الحياة؟ أين طعم الحياة؟ أين لذة الحياة؟ فقال الإمام أحمد: يا بني الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة.
فحي على تلك المنازل.
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم(172/6)
بعض مظاهر الحياة الحقيقية
أيها الأحبة في الله! الحياة حينما يكون لها معنى ألا يكون همك كم تجمع من المال؟ ألا يكون همك ما تلبس من الثياب؟ ألا يكون همك أي مرتبة رقيت عليها؟ ألا يكون همك كم رصدت في رصيدك في البنك؟ ألا يكون همك كم جمعت من الدور والضياع والقصور؟ وإنما الحياة الحقيقية أن يكون همك أن تكون من عباد الله المتقين، أن تكون من المقبولين، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] أن يكون همك أن تكون مع الثلة الذين هم على منابر من نور، أن تكون رفيقاً للأنبياء جليساً للشهداء، قريباً من الصالحين، داخلاً هذه الجنة أول الداخلين، هذه هي الحياة الحقيقية، أيضاً عندما يكون للحياة معنى فإن الفكر يختلف والبصر يختلف والسماع يختلف والخطى تختلف والبطش والأخذ والمد والرد يختلف، حينما لا يكون للحياة معنى سترى أقواماً الجميل في أعينهم ما كان جميلاً في دائرة العقل الضيق، وأما حينما يكون للحياة معنى فالجميل ما كان مرضياً لله جل وعلا، والقبيح ما كان مسخطاً لله جل وعلا، حتى ولو تزخرف الباطل، حتى ولو تزين بألوان الملابس والمراكب والمراتب، والجميل والعالي الطيب النفيس ما كان نفيساً عند الله جل وعلا.
حينما يكون لحياتك معنى فبصرك بنور الله جل وعلا، وسماعك لما يرضي الله لكلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطواتك في الدعوة إلى الله والسير في سبيل الله والسعي في مرضاة الله جل وعلا.
حينما يكون لحياتك معنى فإن نَفَسَك تسبيح، ونومك عبادة، وأكلك عبادة، وشربك عبادة، وبذلك عبادة، وأخذك عبادة، وقبضك عبادة، هذا حينما يكون للحياة معنى أن تجد النية لصيقة لا تفارقك بأي حال من الأحوال، فإذا خرجت من بيتك سألت القدم: إلى أين؟ وسألت القلب: من المقصود بهذا؟ فتقول القدم: إلى روضة من رياض الجنة، ويقول القلب: لكي نكون مع الذين غشيتهم الملائكة، وحفتهم السكينة، ونزلت عليهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده، ففي القلب إخلاص لله جل وعلا، وفي القدم سير صحيح على صراط الله المستقيم.(172/7)
الصبر من مظاهر الحياة الحقة
حينما يكون للحياة معنى فإن نَفَس المسلم في هذه الدنيا طويل، حتى وإن وجد شيئاً من الآلام، حتى وإن رأى شيئاً من الأذى، أو قوبل بشيء من السخرية، أو لقي شيئاً من الاستهزاء، لأن هذا كله لا يعدل شيئاً أمام نفحة من نفحات الرحمة، ولحظة من لحظات القبول إذا قال الله: يا عبدي سعيك لأجلي وذهابك لأجلي وبصرك لأجلي ومجيئك وكلامك وصمتك وفكرك وذكرك ونطقك وحركاتك وسكناتك لأجلي، حينئذٍ يهون كل شيء حينما يكون للحياة معنى.
انظر إلى اثنين في المستشفى أحدهما إذا انقلب قال: يا الله، وإذا أحس بالألم استعان بالله، وإذا وجد مرارة السقم احتسب هذا عند الله جل وعلا؛ لأنه يعلم أن نبيه قد بلغه عنه: (ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله بها من خطاياه) هذا لحياته معنى وإن كان على سرير المرض، وآخر على سرير المرض إذا انقلب انقلب بالويل، وإذا تجافى تجافى بالثبور، وإذا تحرك تحرك بالسخط، وإذا قام قام بالاعتراض على قدر الله جل وعلا، فشتان بين هذا وهذا، حياة سقيم رضا وحياة سقيم سخط، حياة سقيم عبادة وحياة سقيم تعجيل للعقوبة في الدنيا، وإن لم يتداركه الله برحمته ففي عقوبة الآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حينما يكون للحياة معنى ترى الواحد منا يحدد البداية والغاية والنهاية والوسيلة، البداية بهذا الحق، والغاية مرضاة الله جل وعلا، والوسيلة إلى هذا الدعوة إلى دين الله جل وعلا، سواء في الوظيفة أو في المسجد أو في السيارة أو في المنتدى أو في المعسكر أو في المركز أو في النادي أو في السوق أو في المستشفى أو في الذهاب أو في الإياب، هذه عبادة، الدعوة إلى الله غاية لنيل رضوان الله جل وعلا.(172/8)
الفرق بين الحياتين
أيها الأحبة! شتان بين من هذه حياته وبين من حياته إنما هي لفرجه وجوفه ومشربه ومأكله، اسألوا الذين لا يعرفون للحياة معنى إلا في شهواتهم هل يشربون شراباً يبقى في أجوافهم لا يتحدق؟ وما الظن لو أن أحدهم شرب شربةً احتبست، وما الظن لو أن أحدهم أكل أكلةً احتبست، وما الظن لو أن أحدهم أُغلقت عليه سبل بدنه فلم يستطع أن يُخرج أو يُدخل شيئاً، أليست هذه حياةٌ قصيرة؟! بلى والله، حياة تافهة، فمن أراد أن يجعل الحياة بالجسوم والرسوم فهي حياة تافهة، سواء افتخر صاحب الحياة فيها بملكه فإن فرعون كان ملكاً ومع ذلك فهو من أهل النار، وإن افتخر فيها بوزارته فإن هامان كان وزيراً ومع ذلك فهو من أهل النار، ومن افتخر بحياته بماله فإن قارون كان من الأثرياء ومع ذلك عد من أهل النار، من افتخر بنسبه فإن أبا لهب من جرثومة قريش ومن عظمتها ومن وسطها وسوائها ومع ذلك قال الله فيه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] إذاً الحياة إنما هي بالقلوب، إنما هي بالأرواح، إنما هي بالتعلق بالله جل وعلا، فـ أبو لهب النسيب الرفيع من أهل قريش يقول الله فيه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3]، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3] هذا أبو لهب من جرثومة قريش، وأما بلال بن رباح العبد الحبشي، كان مملوكاً اشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يا بلال أخبرني أي عمل ترجوه فإني سمعت دفي نعليك في الجنة) وهو بلال العبد الحبشي الأسود، فإن كانت معاني الحياة بالنسب فأهل لذلك أبو لهب، وإن كانت معاني الحياة بالملك فأهل لذلك الطواغيت من الذين سادوا وشادوا وملكوا، ولكنهم كانوا في كفر بالله وعصيان لأمر الله جل وعلا، لو كانت الحياة بالوزارات لكان هامان من أقرب أهل الأرض منازل، ولو كانت بالأموال لكان قارون والذين جمعوها على نحو ما جمع ملحدين منكرين نعم الله، واقفين بما أوتوا من هذه النعم في صراط الله يصدون عن صراط الله المستقيم لكانوا أسبق بذلك، لكن هذه ليست هي الحياة، إنما الحياة في قلب يتعلق بالله جل وعلا.
قيل لـ بلال بن رباح: كيف كنت تصبر على حر الرمضاء يا بلال؟! كيف تصبر والحجر يوضع على ظهرك ويوضع على بطنك وتسحب في الرمضاء، والحجارة تنكب جسدك، كيف كنت تصبر؟ قال: [والله أما إني كنت أجد ألماً عظيماً، ولكني مزجت حرارة الألم بلذة الرضا في ما أرجوه من عند الله فغلب ذلك ما أجد من آلامها] إنه قلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).(172/9)
التميز عن الأنعام من مظاهر الحياة الحقة
الحياة الحقيقية ليست حياة الجسوم والرسوم، لقد ذكر الله حال الكافرين وما فتح لهم وما زخرف بين أيديهم وما سخر بينهم، ومع ذلك قال الله جل وعلا في شأنهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
وذكر الله جل وعلا شأن المعرضين وإن كانوا أحياء على وجه الأرض شأن المعرضين عن ذكر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جل وعلا: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] تلك حياة الذين لا يستجيبون لله ورسوله، {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ} [الأحقاف:17] فيكون جوابه العناد والاستكبار ويقول لهما: {مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] ليست الحياة أن يرمق الطرف، أو أن تمشي الخطى، أو أن يخفق القلب، أو أن يضخ الدم، أو أن تتحرك الجوارح، هذا عرض من أعراض الحياة، لكن الحياة الحقيقية هي حياة القلوب، كما مر أحد السلف برجل من الذين ابتلوا بالأمراض والأسقام فقيل له: يا فلان كيف تجد حالك؟ قال: أحمد الله الذي آتاني لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وبدناً على البلاء صابراً.
هذه حياة القلوب ليست حياة الجوارح التي لا تنقاد ولا تستجيب لأمر الله جل وعلا.(172/10)
حرية القلب من مظاهر الحياة الحقة
أيها الأحبة في الله! إذا عرفنا ذلك جيداً فليسأل كل واحد منا نفسه: أين أنت من الحياة الحقيقية؟ هل تشق طريقاً إلى حياة أبدية طويلة؟ هل تشق حياة إلى دار ينادي الله عباده إليها: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] هل تشق طريقك الآن إلى حياة ترجو أن تلقى الله جل وعلا بعد فراغك من الدنيا لتحط عصا الترحال في بداية نعيم: (لا أذن سمعت به، ولا عين بصرت به، ولا خطر على قلب بشر)؟ هل نحن نشق طريقنا إلى هذه الحياة الأبدية؟! أيها الأحبة! أيضاً حينما يكون للحياة معنى فإن القلب يكون حراً حتى وإن غلت الأيدي إلى الأعناق وإن القلب يكون حراً وإن كُبلت الأقدام بالسلاسل، وإن القلب يكون حراً وإن هدد البدن بالموت، وإن القلب يكون حراً حتى وإن هدد الإنسان بقطع رزقه أو أجله، لماذا؟ لأن الحياة بالقلب والقلوب بيد الله جل وعلا.
تالله ما الدعوات تهدم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني
والدعوة هي الحياة الحقيقية.
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكينِ
لن تستطيع حصار فكري ساعةً أو نزع إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني
الحياة الحقيقية أن يكون القلب حراً حتى وإن كان الجسد محبوساً، أن يكون القلب غنياً حتى وإن قطعت موارد المال، أن يكون القلب عزيزاً بالله حتى وإن مس بألوان الأذى والبلى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا سجني خلوة، وطردي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟!(172/11)
الإيمان بحقيقة الرزق والأجل
هذه حياة لها معنى أيها الأحبة، أما الحياة التي يرتاح صاحبها، وحينما ينقص ماله بتهديد بشر أو بخسارة مال يرتعد وينقلب هلوعاً جزوعاً، الحياة التي يتردد صاحبها يخشى أن يقول كلمة حق أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر خوفاً على رزقه وأجله.
الحياة الحقيقية حينما يكون لها معنى فإنها ترتبط بالبداية كما في حديث ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله).
الحياة الحقيقية أن تعرف أن الرزق مقسوم وأنت جنين صغير تتحرك في رحم أمك، الحياة الحقيقية أن تعرف أن الأجل محدود، والنفس معدود، وأنت جنين مضغة مخلقة في رحم أمك، هذه هي الحياة الحقيقية ليست حياة الجبناء.
ترددت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما(172/12)
الارتباط بالله من مظاهر الحياة الحقة
الحياة الحقيقية أن ترتبط النفس بالله جل وعلا، الحياة الحقيقية كما عبر عنها عبد الله بن حذافة السهمي لما بعثه عمر بن الخطاب رسولاً إلى الأكاسرة فماذا فُعل به؟ لما بعث رسولاً إلى الروم ماذا فُعل به؟ عرضوا عليه أن يتنصر فأبى فدعاه ملك الروم، وقال: أعطيك نصف ملكي وتدع دين محمد قال: لا، قال: أعطيك ملكي كله وتدع دين محمد، قال: لا، قال: فإنا نزوجك أجمل بناتنا، قال: لا، فعرض عليه المال, والجاه، والجمال، والشهرة، والمنصب، والمرتبة، فلما استنفدت وسائل الترغيب أغراضها وانتهت صلاحيتها بدأ التلويح بوسائل الترهيب والتخويف، فجاءوا برجل وقد أوقدوا ناراً عظيمة ونصبوا عليها قدراً يغلي بالماء والزيت فقذفوا واحداً من المسلمين لما ثبت على دينه ولم يرتد فأصبح لحمه يتطاير في هذا القدر وهو يراه، فلما رأى ذلك عبد الله بن حذافة السهمي بكى، فأُخبر القيصر بذلك فرد عليه: فقال: بلغني أنك لما رأيت صاحبك ألقي به في القدر، أخذت تبكي فما الأمر؟ أتعود عن دين محمد ونعطيك ما وعدناك به؟ انظروا إلى الذين يعرفون معنى الحياة، انظروا إلى الذين يعرفون حقيقية الحياة، ماذا قالوا؟ قال عبد الله بن حذافة: بكيت لأنه ليس لي إلا نفس واحدة وكم تمنيت أن لي مائة نفس تموت هذه الميتة في سبيل الله.
هذا حينما يكون للحياة معنى، كما قال صلى الله عليه وسلم في موقفه وفي حديثه صلى الله عليه وسلم: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) ما قال فانتصر أو فأغنم أو فتفتح لي قال: (وددت أن أغزو في سبيل الله فأُقتل) القتل هو بداية الحياة، (ثم أغزو ثم أُقتل ثم أغزو ثم أُقتل) ثلاث مرات يرددها صلى الله عليه وسلم، هذه هي الحياة الحقيقية حينما ترتبط النفوس بالله جل وعلا، ولكن أيها الأحبة من الذي يعرف قيمة الحياة؟ هل يعرف معنى الحياة من استهلك نور البصر والبصيرة بالأفلام والمسلسلات على ألوان الشاشات؟ هل يعرف قيمة الحياة من لا يجد للسماع مذاقاً إلا في الأغاني والملاهي والطرب والزمر والدندنة؟ هل يعرف للحياة معنى من لا يجد السعي إلا إلى مجالسة البطالين والعاطلين الذين تفنى أيامهم وتنقضي ساعاتهم وتشهد عليهم ملائكة الليل والنهار بغفلتهم وإعراضهم وإدبارهم وتشهد الأرض عليهم بما يقترفون ويشهد الناس عليهم بصدهم عن سبيل الله جل وعلا؟ أهذا هو معنى الحياة؟! لا والله، الحياة الحقيقية إما أن تكون في علم وتعليم، أو في بذل ومال ترضي به وجه الله، تسلطه على هلكته في الحق، أو تكون في جهاد في سبيل الله، أو تكون في عدل وقسط بين الناس، أو تكون في ركوع وسجود وما أطيبها إذا اجتمعت جميعاً.(172/13)
أثر الحياة الحقة في أهمية الإنسان
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يبين قيمة الحياة لأهل الحياة الحقيقية:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة
وموت الفارس الضرغام هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصب ونعمة
وموت العابد القوام ليلاً ينادي ربه في كل ظلمة
أولئك الذين كانت حياتهم معنى، كانت حياتهم وجودا، وكان غيبتهم فقدانا، أولئك الذين كانت حياتهم عطاء وإيجابية، وكان ذهابهم سلبية وحرمانا:
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمة
وباقي الخلق همج رعاءٌ وفي إيجادهم لله حكمة
الحياة الحقيقية أيها الأحبة أن تجد لذة العبودية وأعلى مراتب العزة بتمريغ الجبهة والأنف بين يدي الله جل وعلا، أن تشعر بالتحليق في طباق السماوات وأنت تمرغ الجبهة والأنف والجبين بين يدي الله جل وعلا.
كذلك أيها الأحبة في الله حينما يكون للحياة معنى فإن الإنسان تجده بركة أينما حل وأينما كان، كما قال عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31].
أيها الأحبة! حينما يكون للحياة معنى فإن لوجودك أثراً ولغيبتك أثراً، وحينما يكون للحياة معنى فإن لحركاتك وسكناتك وذهابك وإيابك أثراً، كما قال الله جل وعلا على لسان عيسى بن مريم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] إخواني! من هو المبارك فينا أينما كان؟ أين المبارك في وظيفته؟ أين بركتك على زملائك في الوظيفة؟ أين بركتك على بيتك المبارك بأسرته؟ أين المبارك في مسجده؟ أين المبارك بين جيرانه؟ أين المبارك بين أصدقائه؟ أين المبارك بين زملائه؟ أين المبارك بين زملائه في الدراسة في الجامعة في الوظيفة في كل مكان حل وارتحل؟ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] إن الذي تجد فيه بركة أينما حل هو الذي لحياته معنى، وأما الذي يعيش ولا أثر لحياته فذلك كما يقول القائل:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموت فاجع
غاية ما يوجد بعده أن تفجع مصيبته أمه وأباه أو أهله وذويه، بموته، ويُنسى.(172/14)
الحياة الحقة لا تنتهي بالموت
أيها الإخوة حينما يكون للحياة معنى سنظل أحياء ولو كنا في المقابر، فـ سيد قطب رحمه الله هل هو الآن من الأحياء أم من الأموات؟ هو والله من الأحياء، كتبه مؤلفاته وفيها خير كثير، ولا تسلم من شيء والبشر لا يسلمون لكنه من الأحياء حتى وإن كانت نهايته أن يشنق على خشبة صفراء أو حمراء، قبله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أليس من الأموات؟! ولكنه حي مع الأحياء، كتاب التوحيد تعجبون أيها الإخوة أن بكين عاصمة الصين الكبرى فقد كنت في زيارة من مدة قريبة كنت ذاهباً إلى الصين في بكين وجدت مدرسة يدرس فيها رجلٌ عجوز من أهل الصين، ماذا يدرس؟ يدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته وجمعنا بك في الجنة، متى توفي الشيخ الإمام المجدد العلامة محمد بن عبد الوهاب؟ 1206هـ ونحن الآن 1412هـ والأصول الثلاثة وكشف الشبهات تدرس في الصين ليست دولة لا دينية أو دولة علمانية أو دولة نصرانية، دولة أهل كتاب، وإنما دولة ترى أن الدين أفيون الشعوب، دولة الإلحاد: لا إله والحياة مادة، إن الرجل في قبره وحياته فوق ظهر الأرض بل في أقاصي البلاد، ليس في هذه الجزيرة وحدها وإنما في أبعد نواحي الدنيا، هذه هي الحياة الحقيقية.
وميت ضجت الدنيا عليه وآخر لا تحس له نعيا
الناس ألف منهم كواحد وواحد كألف إن أمر علا
وكما في الحديث الصحيح عن ابن عمر: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) نعم ما أكثر الخلق الذين نراهم، ما أكثر الذين يملئون الطرقات والشوارع والمساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات والشركات والدوائر لكن لا تكاد تجد في كل ألف إلا واحدا، كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في نونيته الكافية الشافية:
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
أيها الإخوة! حينما يكون للحياة معنى، سنظل أحياء حتى وإن كنا في قبورنا، إنا لنرجو الله جل وعلا إن يصل أجرنا ونحن في اللحود والقبور، لعلها ببركة من بركات القبول التي يمن الله بها علينا لشريط من الأشرطة، محاضرة من المحاضرات، كلمة من الكلمات، كتيب من الكتب، رسالة من الرسائل، جولة غدوة وروحة في سبيل الله لدعوة ضال أو توجيه منحرف أو مناقشة صاحب شبهة، يرجو الإنسان أن يبقى حياً وإن كان ميتاً، هذه هي الحياة الحقيقية، يبقى لك الذكر بعد موتك، يبقى الثناء وتذهب الأموال ويبقى الثناء والحمد بخير، ولكل عصر دولة ورجال:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فاحفظ لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
شيخ الإسلام ابن تيمية أليس حياً من الأحياء؟ بلى والله، فقد توفي في أوائل القرن الثامن 720هـ، وابن قدامة، وابن عبد البر، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن حجر، علماء الإسلام، كل أولئك ما زالوا أحياء وإن كانوا الآن في قبورهم، أياً كانت نهايتهم ماتوا بالقتل، أو ماتوا حتف أنوفهم، أو ماتوا على فرشهم، لكنا رأينا حياتهم، ورأينا ما كتب لهم من القبول، حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهو سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قال له الأتراك في ذلك الزمن: أنت تكفرنا، قال: نكفر كل من يعبد القبور، ويتوسل بها، ويرجو منها جلب المنافع ودفع الكربات وتحقيق الغايات، قالوا: ما ترجع عن قولك هذا؟ قال: لا، فأتي به وهو العالم النحرير العلامة الذي ألف من أشهر كتبه تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، يقول في مقدمة هذا الكتاب: وإني لأعرف رجال الحديث أكثر من معرفتي بأهل الدرعية.
وهذا من علمه وتحقيقه، هذا الرجل لما فتن في هذا الباب، في باب التوحيد ثبت ولزم عقيدة الأنبياء والمرسلين، ماذا فعل به؟ عزفت الموسيقا بين يديه تبكيتاً له، ثم ربط في فوهة المنجنيق وأطلقت قذائفه فتطايرت أشلاؤه رحمه الله، هل مات سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب؟ لا، ما مات، فلا زال تيسير العزيز الحميد من أشهر شروحات كتاب التوحيد التي يتداولها طلبة العلم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في هذه البلاد وفي غيرها، إذاً حينما يكون للحياة معنى سنظل أحياء ولو متنا، سنظل أحياء وإن كنا في القبور، سنظل أحياء وإن كنا في اللحود.(172/15)
مراحل الحياة بعد الموتة الأولى
ولا يخفاكم أيها الإخوة لو كانت الحياة في مقياس الذين يقولون: نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، أو مقياس المعاند المكابر الذي قال الله فيه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] وهذه الآية نزلت قيل في الوليد بن عقبة، وقيل في العاص بن وائل، وقيل في عبد الله بن أبي، وأئمة التفسير لا تفوتهم الفطنة قالوا: نزولها في ابن أبي مستحيل لأن الآية مكية وابن أبي إنما ظهر في المدينة، فهي نزلت في أحد هذين جاء بعظم قد رمّ يفته بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: يا محمد تزعم أن الله يبعثنا بعد أن نموت ونكون عظاماً رميماً كهذا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، يميتك الله، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى جهنم.
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
أيها الأحبة! لا تظنوا أن من دفن انتهت حياته، انتهت المرحلة الأولى من الحياة، وانتقل إلى المرحلة الثانية ألا وهي حياة البرزخ؛ فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، إما أن يقول: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة، لما يرى من نعيم في حياة البرزخ، وإما أن يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة، مما يرى من بدايات العذاب في دار البرزخ، والمرحلة الثالثة الحياة الأبدية حياة الجنة أو حياة النار، حياة في نعيم أو حياة في جحيم، حياة السعداء أو حياة الأشقياء، ينبغي أن نعرف أن معنى الحياة أن تمتد به آفاقنا وتفكيرنا وسعينا وحركاتنا وجهودنا لكي نبلغ تلك المنازل، حينئذ كما قال الإمام أحمد: حينما نضع أول خطوة أو أول قدم في الجنة، نكون قد بلغنا الحياة الحقيقية.
وهذه مراحل قبل الحياة، أو مراحل أولية {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [لقمان:33] الحياة الدنيا من غرته فليست لحياته معنى، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] إنما الحياة الحقيقية هي الدار الآخرة والحيوان الكامل {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].(172/16)
نسبة حياة الدنيا إلى حياة الآخرة
الحياة الحقيقية ليست هي هذه الحياة التي نحن فيها؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] إنما هذه الحياة الدنيا بما فيها من نعم وما فيها من مظاهر وما فيها من مراتب وأموال وزوجات وضياع وقصور وغير ذلك كلها وليست في بلادكم وحدها، بل في الكرة الأرضية وما حول هذه الكرة وما خلق الله في هذه الحياة الدنيا، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان هذا كله: (إنما مثل الحياة الدنيا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم -في البحر- ثم يلجئه أو يخرجه فلينظر هل يخرج من ذلك بشيء أو هل ينقص من ذلك بشيء) يعني: إنما هذه الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كمقدار ما يعلق بإصبعك من الماء حينما تدخله في البحر ثم تخرجه، أما الآخرة فهي المحيط فهي البحر المتلاطم بأمواجه الذي لا يحصيه إلا الذي خلق، هذه أيها الإخوة هي الحياة القصيرة، حياة كلها كدر، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
الحياة، اسأل نفسك يا من تظن أنك الآن في الحياة الحقيقية، أخي الكريم هل عافيتك لا يكدرها المرض؟ هل حياتك لا يهدمها الموت؟ هل اجتماعك لا ينغصه الفراق؟ هل ملذاتك لا تكدرها المخاوف؟
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب
ما حل بغيرك يحل بك، أقل ما فيه السقم والموت، من الذي رأيته سالماً لا ينصب ولا يمرض ولا يتعب؟ ومن رأيت مخلدا؟
ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا
إذاً فليست هذه بحياة، أين أبوك؟ أين جدك؟ أين أمك؟ أين ذهبوا؟ اسألوا الملوك أين ذهبوا؟ هل نزل في القبور معهم خدم؟ هل نزل معهم الوزراء؟ اسألوا الأثرياء هل فتح البريد الإلكتروني في اللحود والقبور؟ اسألوا الأغنياء هل نزل بالشيكات والأرصدة في اللحود؟ اسألوا الرؤساء حينما يقبر أحدهم كسائر الناس وربما تتجول الكلاب في المقابر فتبول على قبري أو قبرك أو قبر أي ملك من الملوك، لا قيمة لهذا البدن لا مكانة لهذا البدن، إنما القيمة والمكانة والمنزلة الحقيقية إنما هي في هذه الروح، الروح إن كانت متعلقة بالله جل وعلا فلتبشر بخير عظيم وفضل عميم في الدنيا والآخرة.
ولا تظنوا أن العمل الصالح في الحياة الدنيا لا يجد العبد نتيجته إلا في الآخرة، لا، جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، إن البشرى والبركة والنعم وحسن الجزاء والثواب هو في الدنيا وهو أيضا في الآخرة: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30]، {إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة:120].
فيا أحبابنا! هل من الأحياء من لا ينام إلا وقد قلب عينه في فيلم السهرة ولا ينام إلا الساعة الحادية عشرة والنصف؟ أو في المسلسلات اليومية؟ أسألكم بالله هل هذه حياة؟ أهذه حياة أن يسهر الإنسان في الليل على الأفلام والمسلسلات، ينام متأخراً ويتخلف عن صلاة الفجر، يخرج إلى عمله متأخراً، يقابل الناس بوجه عبوس قمطرير، ضعيف في الصلاة لا يحضر قلبه، بطيء حينما يقوم إليها، لا يخشع لذكر الله، لا تدمع عينه من خوف الله، لا يرقب في مؤمن إِلاً ولا ذمة، إن وجد مالاً قبضه لا يسأل عن حله أو حرمته، أهذه حياة؟! لا، هذه شريعة الذئاب، هذه مناهج الغاب، هذه حياة السباع التي يبغي بعضهم على بعض.(172/17)
حياة الذكر وحضور القلب
الحياة الحقيقية أن تجد لقلبك حضوراً بين يدي الله، أن تجد لنومك طمأنينة وأنت تقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت روحي فارحمها، وإذا أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين.
الحياة حينما تستيقظ من الموت الأصغر أو من الموتة الصغرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] حينما تستيقظ من هذه الموتة الصغرى في الحياة، أن تقول: الحمد لله الذي رد علي روحي، أو الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.
الحياة أن ترى إشراقه الصباح فتقول: أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر هذا اليوم وشر ما بعده، رب أعوذ بك من عذاب النار وعذاب في القبر، الحياة أن تدخل البيت فتقول: باسم الله اللهم أسألك خير المولج وخير المخرج، الحياة حينما تخرج أن تقول: بسم الله توكلت على الله، باسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا، اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أُزل، أو أضل أو أُضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يجهل علي، الحياة أن تلقى المسلمين فما ترى أحداً من المسلمين إلا ابتسمت في وجهه لماذا؟ لأنها تدنيك إلى درجات الحياة الحقيقية، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، الحياة أن تجد قلبك حاضراً بين يدي الله وفي تلاوة كلام الله، الحياة أن تجد من نفسك استعداداً للقاء الله جل وعلا، هذه الحياة، أما حياة الذين ضاعت -كما قلت- لياليهم في السهر والعبث والضياع والغيبة والنميمة فليست هذه والله بحياة، ليست هذه والله بحياة، والحياة الحقيقية كما قال عنها أحد علماء السلف: [إننا لفي نعمة ونعيم لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف].(172/18)
افتقاد الأرض للأحياء الحقيقيين
الحياة حينما يكون لها معنى فإن الكرام الكاتبين يعرفون حسناتك ويكتبونها في ذهابك وإيابك وكل حركاتك وملائكة الليل والنهار وشهود الله في أرضه، والأرض تحدث أخبارها بصلاحك وعبادتك وأعمالك، هذه حياة لأناس كان لحياتهم معنى فأثبتتها الأرض وشهدت بها، {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4] كتبتها الملائكة وسجلت وسطرت في الكتب وادخرت لك في يوم عصيب، أما حياة أهل الترف والنعيم فاسمعوا قول الله جل وعلا فيهم حينما يكونون معرضين عن هدي الله وشرعه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29] الحياة الحقيقية هي التي يفقدك حتى الجماد، حتى الجمادات تفقدك بها، أما الحياة الهزلية والحياة الضعيفة التي لا معنى ولا قيمة لها، فمن ذا الذي يفقدك؟ من ذا الذي يسألك عنك؟ أي بناء كنت تبنيه فوقف؟ أي سعي كنت تسعى به فانقطع؟ أي صلاح كنت تدعو إليه ففقد؟ أبداً ما أكثر الذين عاشوا وما أكثر الذين فقدوا:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحداً مراراً والهاً من تزاحم الأضداد
أيها الأحبة! كم عاش على الأرض قبلكم؟ أمم كثيرة وملوك كثر! وأثرياء كثر! ولكن ما ذكر إلا طائفة كانت حياتهم حقيقية فهل تجعلون لحياتكم معنى؟ هل تجددون نمط الحياة فيما يرضي الله جل وعلا؟ هل تنتقل الحياة من الأنانية والأثرة وحب الذات والسؤال عن النفس والاقتيات الشخصي إلى الحياة الواسعة لخدمة قضايا المسلمين والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير والمساهمة فيه، والدعاء للصالحين، على الأقل حياة القلوب بالدعاء لهؤلاء فيما يرضي الله جل وعلا.(172/19)
المعاني المنشودة في حياة المرأة
أيها الإخوة: إن الخطاب إلى المكلفين في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم شامل للرجال والنساء، فحينما يكون للحياة معنى فهذا أمر على حد سواء، يوجه للرجل والمرأة، وللذكر والأنثى والفتى والفتاة، حينما يكون لحياة المرأة المسلمة معنى أماً كانت أو زوجة أو أختاً أو بنتاً فإنها تتوجه بكرامة الله لها، وبما فضلها الله به جل وعلا: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وهي تعرف كرامة الله لها، ورفعة منزلتها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فهي داخلة في الخطاب، {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآيات، فكما ذكر فيها فريق الرجال ذكر فيها فريق النساء، حينما يكون للمرأة لحياتها معنى فإن حياتها تتجاوز ما جرت به عادة النساء في كثير من المجتمعات في هذا الزمان، فلئن كانت حياة النساء بمفهومها القاصر أن تهتم المرأة بفستانها أو ملابسها أو موضتها أو بردة الأزياء أو عرض الأزياء أو غير ذلك، فإن الفتاة المسلمة الملتزمة الصادقة حينما يكون لحياتها معنى فإنها ترى أن الحياء أجمل اللباس، وترى أن غض البصر هو أطيب عدسة تجعلها على عينها، وترى قصر الخطى والقرار في البيت أعظم عرش تتربع عليه لكي تربي أولادها، ولتحسن رعاية بيتها، وتقوم بحقوق زوجها على أكمل وجه.(172/20)
أهمية صلاح المرأة
حينما يكون لحياة المسلمة معنى تراها مصلية صائمة عابدة قانتة، تربي أولادها على ذكر الله، يحفظون منها الأذكار في الصباح والمساء، يتعلمون منها أن يستهلوا اليوم بذكر الله وأن يختموه بحمد الله، حينما يكون لحياتها معنى تعد للمجتمع رجالاً يكونون صناعاً للتاريخ، يسيرون دفته ويمسكون بزمامه، حينما يكون لحياتها معنى فلن يكون للعبث واللهو ومتابعة الأفلام والمسلسلات والأغاني والمطربين والمطربات والمجلات ودعوات العلمانيين ودعوات الذين يصيحون بها: اخرجي! توظفي! اعملي! اختلطي، لن يكون لدعواتهم من قلبها نصيب أو من سمعها مكان أو منزل، حينما يكون أيضاً لحياة المرأة المسلمة معنى فإنها تعرف دوراً تواجه به اليوم، إن التحدي الكبير في هذه الأمة في آخر قلعة من قلاعها المرأة المسلمة، وفي هذه البلاد يقف التحدي الآن على مرحلة المرأة فإن استطاع العلمانيون ودعاة التغريب والضلالة والسفور والتبرج والاختلاط عبر وسائلهم المتعددة بالفيلم والمسلسل والرواية والقصة والمسرحية والكلمة والمجلة والجريدة إذا استطاعوا أن يقولوا لها: أنتِ حبيسة، أنتِ مضيق عليكِ، أنتِ متخلفة، أنتِ مسكينة، أنتِ لا حرية لك، فإذا سمعت مقالهم واستجابت لضلالتهم وتركت عينها وعرشها ومملكتها فحينئذٍ اعرف أن مجتمعك هذا ينهار أو قد انتهى.
ربوا البنات على الفضيلة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعاهده الحيا بالري أيرق أيما إيراق
حينما يكون لحياة المرأة المسلمة معنى فإنها ستتعدى مستعلية مرتفعة محلقة بفكرها وخلقها وسمتها وصلاحها، ترتفع عن مجالس الرقص والطبل واللهو وتبادل الحديث الطويل الذي يأخذ الوقت في الأقمشة والأواني.(172/21)
أهمية الدعوة النسائية
فترتفع عن هذا كله لكي تكون داعية لبنات جنسها، تجتمع بجاراتها فتهديهن شريطاً، أو تقرأ عليهن نصيحة، تجتمع بطالباتها فتعطي كل طالبة شريطا، تعطي كل طالبة كتابا، تجتمع بزميلاتها فيتبادلن المسائل والأحكام الفقهية والشرعية في آدابها وطهارتها وحجابها وحدود ما أباح الله لها، وما نهاها الله عنه، هكذا حينما يكون لحياة المرأة المسلمة معنى، إن عدداً قليلاً من الداعيات ولله الحمد بمجتمعنا والله إن حياتهن لأبرك من حياة كثير من الشباب والرجال؛ بما فضلها الله به بالدعوة إلى الله، فنحن ننتظر من الفتاة المسلمة أن يكون لحياتها معنى بالدعوة إلى الله، لا نريد أن تخرج أو يلزم من ذلك أن تخرج، بل بالدعوة إلى الله في بيتها، بين أبنائها، بين أقاربها، وأقارب زوجها، تصوروا -وهذه واقعة من الوقائع التي حصلت في المجتمع- امرأة صالحة انحرف زوجها ولكن كان لحياتها معنى ولم يسمع زوجها نصيحة واحدة منها، ولا يزال مغرقاً ممعناً في ضلالته ومعصية، أتدرون كيف كان أطيب السبل وأقرب الأسباب إلى إصلاح بيتها وتعديل مسار زوجها؟ أولادها، كانت معتنية بأولادها فإذا جاء الأب تعلق الأولاد به، يا أبتي لا نريد الفيديو في البيت، يا أبتي لا نريد هذه الأفلام في البيت، وإذا جاء الأب ربما سلموا عليه وبقوا ساكتين فيسأل الأب: يا أولادي لماذا لا تلعبون؟ لماذا لا تتكلمون؟ لماذا لا تضحكون؟ يقولون: يا أبي إذا كنت تريد أن نلعب معك، ونضحك، ونتكلم، فأخرج هذا الشيطان عن البيت، فكان وراء هؤلاء الأطفال الصغار أم، امرأة عظيمة استطاعت أن تعدل مسار الانحراف في زوجها، نعم كانت فتاة لحياتها معنى.
فهذا أيها الأحبة أمر له أكبر الأثر، والأم والزوجة والبنت لها أثر طيب، عرفنا أسراً كانت مغرقة في الفساد والضلال فانقلبت إلى رياض من الذكر والتوحيد وحفظ القرآن والحجاب والستر والحياء، أين دخلها النور؟ وأين بدأت بالاستقامة؟ من فتاة استقامت وحفظت القرآن وأصبحت حريصة في دعوة أمها وأخواتها وإخوانها حتى أثرت على من حولها جميعاً، فليس الأثر للرجال دون النساء، وليس الأثر والفعل والتأثير محصور في الرجال دون النساء، بل من النساء من فيهن خير كثير ولهن قبول كثير، فنرجو أن تحرص كل واحدة من أخواتنا اللاتي يسمعن هذا الكلام أن يكون لحياتها معنى بأن يكون لوجودها معنى وأن يكون لحياتها أثر في نفسها وذريتها ومن حولها، وأبويها وإخوانها وأخواتها وجيرانها وقريباتها.
أيها الأحبة! لا أود أن أطيل، أسأل الله جل وعلا أن يجعل أعمالنا وإياكم خالصة لوجهه، كما أسأله أن تكون حياتنا حياة طيبة، كما أسأله سبحانه أن نكون من الذين بارك الله فيهم وجعلهم مباركين أينما كانوا، كما نسأله أن تكون حياتنا طويلة ولو كنا في قبورنا، ولو كنا في لحودنا، اللهم إنا نسألك بركة الأعمال وإن كنا في اللحود، ونسألك القبول والرضا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(172/22)
الأسئلة(172/23)
أسباب القحط
السؤال
سائل يقول: فضيلة الشيخ إني أحبك في الله، حبذا لو تحدثتم عن أسباب القحط الذي أصاب البلاد وخاصة بلادنا هذه؟
الجواب
أيها الأحبة، هذا والله أمر مهم، وأعظم سبب كان شؤمه جلياً على العباد والبهائم والبلاد الربا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279] الربا شره خطير وشؤمه مستطير، بل إن أدنى آثار الربا أن تمحق البركات وأن يحبس القطر من السماء.
ومن أسبابه: قطيعة الأرحام وعقوق الوالدين، والغش في المعاملات، والتدليس في البيوعات، هذا أيضا من أسباب القحط ولا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك انتشار بعض المعاصي ورضا كثير من الناس بها على أنها أمر قد فرض نفسه، الملاحظ مثلاً كل واحد يمر يجد على اليمين فيديو الأماني مثلاً، ليتهم يسمونه بأسماء حقيقية لو يقولون مثلاً: فيديو الانحراف، فيديو الإفساد فيديو الجريمة، لكان معقولاً، لكن يسمونها بغير اسمها وغاياتها، فيمر الإنسان على محل الفيديو على اعتبار أن محل الفيديو أمر طبيعي قد فرض نفسه، لا، هذه شوكة ونبتة نجسة غريبة في قلب المجتمع المسلم هنا، فلو أن كل واحد مر وكما قال أبو محمد بن حزم: لو اجتمع المنكرون بقلوبهم على أمر ما غُلبِوا عليه.
يعني: لو أن كل من يمر على محل الفيديو وينزل قائلاً: يا أخي الكريم! اتق الله لا تكن سبباً في شؤم نفسك وأولادك والإنفاق على أهلك من السحت والحرام، اتق الله لا تفسد بيتك وتفسد أهلك وتفسد مطعمك ومشربك وملبسك وجيرانك ومجتمعك، ما ظنكم هذا الجمع الآن لو أن كل من مر على فيديو دخل إليه يعطيه شريطاً أو كتاباً وآخر ينصحه أو يدعو له، أو يسأل الله له الهداية، والذي يقول: يا أخي اترك هذا أسأل الله أن يبدلك خيراً منه، هل تظنون أن صاحب هذا المنكر سيبقى على ضلالته وإمعانه وانحرافه؟ لا والله، لو اجتمع المنكرون بقلوبهم على أمر لم يغلبوا عليه، لكن تعود الناس أن يقبلوا صوراً من المنكرات ويعتبرونها أمراً طبيعياً، فكثير من الأمور يظن بعض الناس أن هذا وضع طبيعي، خذ مثالاً آخر على ذلك: محل الأغاني، بيع المحرمات وآلات اللهو والطبل والزمر وغير ذلك، فيا إخوان لو أن كل واحد رأى منكرا أنكره بكل ما في وسعه، وأقول: أما الإنكار باليد فلا تمدن يدك إلا إن كنت مخولاً بسلطة من ولي الأمر، لماذا؟ لأننا لو فتحنا باب الإنكار باليد، لربما جاء عدو لصاحب الفيديو وكسر محله ليس غيرة له ولكن انتقاماً لذاته وليس لمرضاة الله، ويدعي ويقول: جئت لأنكر المنكر، ولا تنضبط الأمور بقاعدة، نقول: لا، إنما الإنكار بالقلب واللسان هو من مسئولياتكم: (من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) فأنت مأمور بأن تغير ما كان تحت قدرتك وتحت صلاحياتك وتحت مسئولياتك في مؤسستك وشركتك ومتجرك ودكانك وقسمك ودائرتك، وهذا الأمر بين يديك فلا يجوز أن تقر منكراً وأنت قادر على تغييره.
أيضا من أسباب القحط: عدم شعور الناس بحاجتهم إلى الغيث والقطر، فالناس قد غرهم أن المياه تحلى من البحار، وهذه نعمة من نعم الله جل وعلا، ونرجو ألا يكون استدراجاً، نسأل الله جل وعلا ألا نكون من الذين قال الله فيهم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] حتى البحار المالحة جاءت إليهم في أنابيب بيوتهم حلوة {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44] نسأل الله ألا نكون من أولئك.
فبعض الناس لم يشعر بالحاجة إلى ذلك، وظن أن القضية مسألة مياه من البحر، محطات تحلية وتصل، ما هي الحاجة للاستسقاء؟ شغلونا في كل وقت بالاستسقاء! ما هي الحاجة إلى ذلك؟ والدليل على ذلك، أن هذا الجمع مثلاً لا تجده غداً في صلاة الاستسقاء، هذا الجمع بأكمله لا تجده غداً في صلاة الاستسقاء، بل الكثير ربما يجلس لفطوره أو يتقلب في فراشة أو يتقلب ويقول: فرصة أن نتعذر بالاستسقاء ونتأخر عن العمل قليلاً، البعض ولا أعمم -أستغفر الله- فيا أحبابنا شعورنا بعدم الحاجة إلى ذلك أمر خطير، ثم إن هذه الأنابيب التي تحلي المياه، لو شاء الله لجعل الماء جامداً حجراً صلتاً لا يسري فيها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] أليست قدرة الله جل وعلا التي سخرت البحار المالحة، عبر الأنابيب عبر هذا التكاتف والترشيح ومختلف أساليب التحلية والتقطير وغيرها، حتى تصل إليك حلوة، أليست قدرة الله التي جعلت هذا ممكناً؟ بلى، فينبغي أن نتقي الله في أنفسنا، وأن نشعر بحاجتنا إلى الله، ونسأل الله سبحانه بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم نستغفره ونتوب إليه ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، أن يغيثنا وأن يسقينا وأن يرحم العباد والبهائم والبلاد بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين.(172/24)
نصيحة للجالسين على الأرصفة
السؤال
يقول: فضيلة الشيخ نخبرك أننا نحبك في الله، ونسأل الله أن يجعل لحياتنا وإياك معنىً يرضي الله جل وعلا، وبعد نرجو من فضيلتكم إعطاء الشباب الذين يقفون على أعتاب السكك والأرصفة ويضيعون حياتهم وأوقاتهم في الشوارع ولا يهتمون بطاعة الله، نرجو إعطاءهم نصيحة جزاكم الله خيرا؟
الجواب
نصيحتنا لهؤلاء الشباب أن يسألوا أنفسهم ما هو دورهم في الحياة؟ وما هي الغاية من وجودهم؟ هل سأل كل واحد منهم نفسه سؤال الجاد، وأجاب جواب الصادق، ووقف يخاطب نفسه صراحةً أو أمام مرآة ويشير إلى عينه بعينه، ويقلب الوجه بالوجه ويسأل هذا الجسم، العين خلقت للبصر، والأذن خلقت للسمع، والأنف خلق للشم والنفس، وهذا الجسم خلق لماذا؟ أتخلق كل جارحة لحكم عظيمة وهذا البدن يضيع هباء منثورا، هذا أمر عجيب، ثم أيضاً أهذا البدن يستمر على هذه الدنيا معافىً مسلماً بلا كدر ولا نكد
ما أضيق العيش ما دامت منغصة لذاته بقدوم الموت والهرم
أيها الإخوة! أيها الشباب! إن من عرف قيمة نفسه عرف أين ينزل بها، وخذ مثالاً على ذلك: تجد الإنسان إذا كان من أهل الثراء والمال، حينما يريد أن يسافر فيقول له موظف الخطوط: أين تريد أن نحجز لك؟ يقول: طبعاً أحجز درجة أولى، لأن الإنسان يعرف عن نفسه إنه إنسان في مرتبة عالية، رجل أعمال لا يليق به إلا درجة أولى، أو إنسان تسأله عن أمور دنياه وملابسه من أي ثياب تلبس؟ يقول: ثيابي من المحل الفلاني، المقص الذهبي، أو خياط الأمراء، لأنه يرى نفسه في الأعلى، فيما يتعلق بأمر عرض في الحياة وليس من أساسيات الحياة، سفر أو ثوب أو حذاء -أجلكم الله- أو غتره أو شيء من ذلك، لكن تعال لنفسك، السفر: درجة أولى، الغتره: شماغ ملكي، الثياب: دفة أصلي -هذه دعاية للدفة- وهلم جرا المهم يعني تجد الرجل يختار لنفسه منازل محددة في ملابسه وتنقلاته وسيارته، فأي المنزلتين تختار لنفسك؟ رياض الجنة، وحلق الذكر أم المجالس التي تحضرها الشياطين وتفتح لأصحابها صحائف السيئات، وتكتب الملائكة على أهلها الزلات والعبارات؟ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فعجباً للناس، وعجباً للإنسان كيف يختار لنفسه في أمور تنقله، وملابسه، وذهابه وإيابه، وطعامه، وأكله وشرابه يختار أرقى الأمور، لكن بالنسبة لنفسه ومنزلته في هذا الكون يختار أدنى الدرجات؟! سبحان الله، مجلس كهذا تغشاه الملائكة، تحفه الرحمة، تتنزل السكينة، يذكركم الله فيمن عنده، هل أحد يترك هذا المجلس لكي يجلس على رصيف ليلعب (بلوت) أو (يعمر شيشة) أهذا معقول؟ من الذي يقال له: أتريد الطيب أم النجاسة؟ يقول: لا، لا أريد طيباً أريد نجاسة، أتريد العزة أم الهوان؟ أريد الهوان، نقول: أتريد الكرامة أم الذلة؟ يقول: أتريد أن تكتب لك الحسنات أم تكتب عليك سيئات؟ يقول: نريد أن تكتب السيئات ولا تكتب الحسنات، أتريد أن تذكر في عداد الأبرار الأخيار الأطهار، أو في عداد سقط المتاع على الأقل؟ يقول: دعني مع سقط المتاع، أنا لا أقول كل من جلس على الرصيف من سقط المتاع، لكن أقول: ينبغي لمن جلس أن يعرف كما قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله: ما لنا عنها بد، قال: فإن كنتم فاعلين لا محالة، فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: رد السلام وغض البصر، وكف الأذى) نعم لا أحد يمنعك أنك تجلس إذا مشيت أنت ومجموعة من إخوانك لكن اجلس على مرضاة الله، اجلس على أمر ينفعك وإخوانك، يجلس عشرة من الشباب يقرءون في كتاب، يسمعون شريطاً، يشوون دجاجاً، يشوون حماماً كما يشاءون، لا أحد يمنعك؟ لا تقل: والله هؤلاء المطاوعة عقدونا حتى على الأرصفة لا يريدون أحداً يجلس، أين تريدوننا أن نذهب؟ لا، نقول: لا حرج أن تجلس لكن بالضوابط الشرعية، أعطوا الطريق حقه، ما حقه؟ كف الأذى ورد السلام وغض البصر، أما جلسة على الطريق أذكر ذات مرة كنا في جدة، فمررنا على طريق اسمه الكورنيش، فرأينا شاباً مع صديق له فاتحين (الكبوت) و (الشنطة) والزجاج، والأغاني تصدح، حتى كأن الحوت منزعج في الماء، من ارتفاع الصوت فقلت لأخي الذي كان معي: ما رأيك بأن نقف ونرى ماذا عند الشباب، ونزلنا: سلام عليكم، حيا الله الشباب، فأخرج السيجارة، تدخن يا شيخ، قلت له: شكراً جزاك الله خيراً، وجعلناه يعيد الدخان في مكانه، فقد كان لديه (باكتين) فوق بعض، وعنده الزمزمية ونحن جالسون، قلنا: يا أخي سمعنا هذا الصوت الذي هو يصدح يميناً ويساراً أو ينعق بالأحرى والله وينعب يميناً ويساراً، وأحببنا أن نسألك يا أخي الكريم، أسألك بالله هل أقصى حجر أو مدر يبلغه الصوت من الغناء تؤجر به يوم القيامة؟ الصوت الذي كلما بعد وسمع يكون لصاحبه أجر وقبول، هو صوت الحق داعي الفلاح، داعي الأذان، (إذا كنت في ماشيتك أو في غنمك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يبلغ مدى صوت المؤذن أو لا يبلغه حجر ولا مدر إلا شهد له يوم القيامة) يا أخي الكريم! كل من يصل له هذا الصوت يشهد عليك ولا يشهد لك يوم القيامة، يا أخي الحبيب! الله أكرمك، ليس لتجعل الدخان المضر يدخل في جوفك ويحتبس في رئتيك، يا أخي الحبيب! حياتك ثمينة، حياتك عظيمة، الله خلقك في أحسن تقويم، وأسجد الملائكة لأبيك، وجعل أحسن الخلق والإبداع والدقة والتكوين فيك {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت:53] أعظم الآيات (ِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ثم دخلنا في موضوع الوظيفة، وما الوظيفة؟ وهلم جرا، أخيراً الشاب أخذ الدخان وحطه، وأغلق سيجارته، وقصر أو أغلق الموسيقى الذي كانت معه، وكان معنا شريطان وأعطينا كل واحد منهما شريطاً، ودعونا لهم بالهداية والتوفيق وذهبنا وتركناهم.
فيا أحبابنا! نحن لا نقول ذلك حتى لا يقولوا والله هؤلاء المطاوعة يحرمون الجلوس على الأرصفة، لا، من الذي قال: هذا حرام، لكن إذا جلست فأعط الطريق حقه، وإذا جلست أيضاً تذكر أن جلوسك من حياتك، أن تشذب وتقطع وتنشر في عمرك:
والليل فاعلم والنهار كلاهما أرواحنا فيها تعد وتحسب
الليل والنهار مطيتان تقربان إلى الأجل، فإذا مضت ليلة قرب موتك ليلة، وإذا مضى يوم دنا موتك يوماً، فأحبابنا نقول أيضاً: إن الوقت هو الحياة، وما دمت تعرف ذلك جيداً فاحرص أن تنتفع وليكن جلوسك مثلاً أنت وخمسة وستة من إخوانك على الرصيف، إذا رأيت شاباً منحرفاً تعال دعه يجلس معكم، ابتسموا معه تبادلوا المرح والمزاح في المباح، والكلام الطيب وتألفوا قلبه، أهدوه شريطا، أعطوه كتابا انصحوه، حينئذ يكون لكل واحد منا دور ونفع ويكون للحياة معنى في كل موقع، حتى ولو كانت حياة على الرصيف فلها معنى أيضاً.
جزاكم الله خيراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(172/25)
عوامل وحدة الأمة
إن مما يحقق ويعين على وحدة المسلمين أن يفقه كل مسلم أن الأخوة الإسلامية لا تحول دونها التضاريس الطبيعية، وأن يعلم أن إخوانه هم أطرافه وجوارحه، فمن سقي بسموم العصبية فليتقيأ هذا السم، وليشرب من نمير الأخوة عذباً، وعسل المحبة مصفى، وليدرك أنه إن قطع فيده، وإن بتر فرجله، وإن طعن ففؤاده، وإن أراق فدمه، وإن أزهق فنفسه، حينها يعلم معنى الأخوة.(173/1)
بلاغ رسالة الله من رسله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهو الواحد في ربوبيته، المالك المدبر المحيي المميت، الخافض الرافع، القابض الباسط، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
واحد في ألوهيته، فله التنزيه والتسبيح والتهليل والتكبير، والركوع والخضوع والسجود، والإنابة والتوكل والاستعانة والذبح، وكل صغير وكبير من العبادة فله وحده لا شريك له، ومن صرف من ذلك شيئاً فقد أشرك مع الله، واحد في أسمائه وصفاته، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى، جل عن الند والشبيه، وعن المثيل والنظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: إن حكمة الله في خلق عباده أن يعبد وحده لا شريك له، وهو القائل عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وما في هذا الكون من يستطيع الخروج عن أمر الله، وأنى له ذلك {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].
هذه الغاية الواحدة وهي عبادة الله وحده، هي مهمة ورسالة جميع الأنبياء والرسل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
ولقد بلغ رسل الله رسالة ربهم، والغاية من خلقهم والخليقة معهم، بلغوا الرسالة إلى أقوامهم، فتفرق القوم بعد بلوغ الرسالة إلى فريقين: فريق على الهدى وفريق على الضلالة، بعد أن كانوا على الكفر فريقاً واحداً {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] باتوا فريقين بعد أن كانوا على الكفر أمة واحدة، وعلى الشرك صفاً واحداً.
ولقد بلغ رسل الله أتم البلاغ وأوضحه، فلم يبق حجة أو عذر لمعاند يكابر في الإذعان للحق والانقياد له، بل قامت الحجة وبانت المحجة: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:163 - 165].
ذلك لأن الوقوع في الباطل والمنكر وفوات الحق وعدم ظهوره، يعود إلى كتمان من المبلغ والداعي، أو إبهام وخفاء في البلاغ والخطاب، أو إعراض من المبلغ لهواً وكبراً، مع العلم واليقين بالحق: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، فهذا المعرض ضال ليس عن جهل، ولا عن خفاء للحق، ولكنه الهوى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].
لقد تقرر في الشريعة بواضح الأدلة أن الرسالات ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم يموت ويحمل الدين من بعده أمته، ليستمر البلاغ والدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].(173/2)
فتن تفتك بوحدة الأمة
بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عاشت أمة الإسلام حقبة من الزمن في ظل وحدة تلم شتاتها، وتوحد صفها وكلمتها، وتحوط الأمور بعنايتها ورعايتها، وتحقيق ما يصلح شأنها، وما زال الحال بالمسلمين من نقص إلى مثله، ومن انحدار إلى أسفل منه، حتى انتهى الأمر اليوم إلى ما ترون وتسمعون، وقد مر بالمسلمين في فترات ماضية أنواع وألوان مما حل بهم اليوم، ولكن لا أظن منصفاً أو عاقلاً متأملاً بنظرة شاملة، يقول: إنه مر بالمسلمين فيما مضى مثلما حل بهم في هذا الزمان وهذا العصر وهذه الحقبة، ولستم بحاجة أن أفصل لكم ما نعنيه بما أصاب المسلمين، فترى كثيراً من المسلمين يجهلون الإسلام جهلاً مطبقاً، ولا يعرفون عن الإسلام إلا اسمه، والانحراف عن العقيدة السوية أمر منتشر عند كثير من المسلمين أيضاً، وفشو البدع، وغزو المسلمين في أخلاق شبابهم، وعفاف نسائهم، ناهيك عما حل بأعراضهم من استباحة، وما حل بأراضيهم من سلب، وما حل بأموالهم من نهب، وما حل بدمائهم من نزيف، وما حل بجراحهم من ثلم.
ثم أصبح اجتماعهم فرقة، وبات حال الواحد منهم يرى أن الموت بات أمنية، والفراق للدنيا أجمل أغنية.
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وأن المنايا قد غدونا أمانيا
أو كما قال بعضهم:
ألا موت يباع فنشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حر تصدق بالوفاة على أخيه
وهل يلام من قال اليوم: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] وهو يرى تسلط أبناء القردة والخنازير، اليهود الحفنة القليلة، يرى تسلطهم على الأمة العظيمة، وهو يرى ويبصر حروباً وقودها جماجم المسلمين، وحصادها أعراضهم وأرواحهم.
وهل يلام على ذلك وهو يرى الذين تدخلوا في شئون المسلمين باسم حقوق الإنسان، يراهم لا يعتبرون لمسلم قدراً، ولا يحسبون له حساباً، حتى ولو وطئت المنجزرات والدبابات أشلاؤه في الشيشان، أو سورته المدافع من حوله، وأظلته القاذفات السابحات من فوقه في البوسنة والهرسك، أو ظل في الجبال والأدغال يطالب بأدنى حقوقه، ويفنى ويضيع ويضل ويذهب كثير منهم {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98].
كل هذا فهل يلام من يرى ما حل بالمسلمين وهو عاجز، أن يتمنى أن لو كان مات قبل هذا، وكان نسياً منسياً، أما من يستطيع أن يفعل شيئاً ولو يسيراً، فالصبر والمصابرة والجلد والمجالدة أولى به، وهو المشروع في حقه، حتى لا نظن أنها دعوة إلى اليأس، أو حرب على التفاؤل، أو نداء إلى القنوط.
إن ما مضى بمجموعة لا يساوي أشد طعنة طعن بها المسلمون، وهي ضرب المسلمين في وحدتهم، وتفجير العصبيات والقبليات في أوساطهم، وتشجيع التحزب على الضلالات والشعارات، حتى أصبح الحديث عن وحدة المسلمين عند القوميين جريمة، وعند العلمانيين خرافة، وعند المنهزمين أضغاث أحلام.(173/3)
المخرج من الفتن إلى الوحدة
أيها المسلمون: إن حاجة الأمة إلى الوحدة الصحيحة على العقيدة السوية والمنهج القويم في هذه الحقبة خاصة فوق كل حاجة، وإن ما أصاب المسلمين يوم أن أصابهم، حتى تحول حالهم إلى هذا اليوم، إلى ما نراه في هذا اليوم، ما ذاك إلا للأسباب أهمها بعدهم عن كتاب الله، وتشتت وحدتهم، وتفرق صفوفهم، وذهاب ريحهم، واختلاف كلمتهم، وصدق الله إذ يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
أما المخرج من هذا التيه، والخروج من هذا الضياع، فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بيَّن ونبأ أن الأمة ستواجه فرقة واختلافاً، ثم بيَّن المخرج من ذلك، ففي الحديث عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً).
وقد رأينا هذا الخلاف، وصدق رسولنا صلى الله عليه وسلم، ثم قال بأبي هو وأمي: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة) فبين صلى الله عليه وسلم أن الخلاف سيقع، وأن المخرج منه لزوم السنة.
أيها المسلمون: المخرج في صراط الله المستقيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] وهذا الصراط نأوي فيه إلى ركن شديد يعصمنا بكل معنى العصمة، يعصمنا من الزلل والتفرق، نأوي فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وكل معصوم لا يزل ولا يضل من لزمه ولم يبرحه.
فالقرآن محفوظ لم يفرط الله فيه عز وجل من شيء، والسنة مثل القرآن (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) وقد قيض الله للسنة رجالاً وضعوا لها علماً لم يوجد في الدنيا له مثيل، يميزون به الصحيح من غيره، وينفون به عن السنة انتحال المبطلين، والإجماع معصوم، إذ لا تجتمع الأمة قاطبة على ضلالة، وإن حمل الأمة، وسوق الأمة، ودعوة الأمة، وبث الوعي في نفوس أبنائها باليأس، ندعو الأمة إلى اليأس والقنوط، نحمل الأمة على اليأس وننادي إلى القنوط من كل حل أو مشروع أو نظام أو منهج لا يرتبط بالمنهج المعصوم، وهو الإسلام، أو لا ينبثق منه.
إن هذا من المهمات التي يستطيعها كل واحد منكم، إن هذا من الأمور التي يستطيعها آحاد المسلمين، فضلاً عن النظم والمؤسسات، بمعنى أن يتقين عامة المسلمين، وأن يفقهوا معنى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] إن حمل الأمة، ودعوة الأمة، ومناداة الأمة، وبث الوعي في نفوس أبنائها بأن كل عقدة أو مشكلة أو فتنة أو نازلة أو واقعة أو مصيبة لا ترد إلى كتاب الله وسنة نبيه؛ فإن ذلك يجعل الظلام دامساً، والمر علقماً، ولا يزيد الأمة إلا رهقاً، ولا يزيد الطين إلا بلة، ولا يزيد الأمور إلا تعقيداً، فما من مصيبة لا ترد إلى الله ورسوله، إلا وتتضاعف وتفرخ وتنتشر وتتنامى.
ولا حل إلا بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يمتعكم متاعاً حسناً، ويزدكم قوة إلى قوتكم.(173/4)
خطوات على طريق الوحدة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
إنه ما من مسلم إلا ويتغنى ويتمنى وينشد ويرمق ذلك اليوم الذي يرى فيه المسلمين أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] وإن مما يعين على تحقيق هذه الوحدة، أن نعظم في النفوس شأن الانقياد والاستجابة لله ورسوله، وأن نعظم في النفوس محبة الخضوع والتسليم للدليل بلا نزاع أو جدال أو تسويف، فلا إيمان إلا بتسليم لله ورسوله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
أن نعظم في النفوس هذا الاستسلام والانقياد، وهذه الاستجابة: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] أن نربي أبناءنا وبناتنا ومجتمعنا عبر كل وسيلة إعلامية وتعليمية وتربوية على الخضوع والاستجابة الفورية لأمر الله ورسوله.
وإن مما يعين على تحقيق وحدة المسلمين: أن يعرف المسلمون من هم أعداؤهم، من هم الأعداء التاريخيون، ولو تلونت الوجوه، وتغيرت الأقنعة، أو تبدل السرج، وتغيرت المواقف.
إذا عرفنا من هم أعداؤنا، نسينا خلافات جانبية أو جزئية فيما بيننا، لنقف وقفة واحدة، بغضبة وغيرة لله ورسوله في مواجهة عدو لم يألوا المسلمين خبالاً، ود عنتهم، يعض عليهم الأنامل من الغيظ، لا يفتأ يتربص بهم الدوائر، وإن تصب المسلمين حسنة تسؤهم، وإن تصب المسلمين سيئة يفرح بها.
إن مما يحقق الوحدة الإسلامية: أن يفقه كل مسلم أن الأخوة بين المسلمين لا يحدها جبل أو بحر، أو سهل أو وعر أن يفقه كل مسلم أن إخوانه المسلمين هم أطرافه وجوارحه، فمن سقي بسموم العصبية عبر أي وسيلة من الوسائل، فليتقيأ ذلك السم، وليشرب نمير الأخوة عذباً، وعسل المحبة مصفى.
أن نشعر أن إخوننا المسلمين هم أيدينا وجوارحنا وأطرافنا، فإذا ثارت نعرات القومية والعصبية والبغضاء والتناحر؛ أدركنا أننا إن نقطع فنقطع أيدينا، وإن نبتر فنبتر أرجلنا، وإن نطعن فنطعن أفئدتنا، وإن نرق نرق دماءنا، وإن نزهق نزهق أنفسنا، حينما يعظم في نفوسنا معنى الأخوة لكل المسلمين، بغض النظر من أي اتجاه هو.
وحيثما ذكر اسم الله في وطن عددت أرجاؤه من لب أوطاني
إن مما يعين على تحقيق الوحدة بيننا: ألا يؤخذ المسلمون بذنوب أنظمتهم؛ إذ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
وإن مما يعين على تحقيق الوحدة: نشر الوعي بكتاب الله والحاجة إليه، ونشر القنوط واليأس بإفساد وخواء وإفلاس الأنظمة التي ما جرت على الأمم إلا فشلاً بعد فشل، وهزيمة بعد هزيمة، وسقوطاً بعد سقوط.
إن مما يعين على تحقيق الوحدة: أن ندعو إلى هذا وأن ننشره عبر الأشرطة، والكتب، وعبر كل سبيل ووسيلة نافعة.
اللهم اجمع شمل المسلمين على طاعتك، اللهم أصلح قلوبهم، وثبت أقدامهم، ووحد صفهم، وسدد رصاصهم، وأقم دولتهم.
الله صلِّ على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(173/5)
غلاء المهور
إن غلاء المهور، وتكاليف الولائم لمن المشاكل والصعوبات التي يواجهها شبابنا في هذه الأيام، وإنها لشر مستطير ينذر بهلاك الأسر والمجتمعات، والسير بشباب الأمة إلى أحضان الفسق والرذيلة، والتدني في الأخلاق، والانسياق وراء الشهوات، ولقد حث المصطفى على تيسير المهور، وجعل فيه الخير والبركة، وتكفل الله بغنى من تزوج فقيراً، ولكن ترك ما هنا لك!!(174/1)
آثار غلاء المهور على المجتمع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن اهتدى بهديه وسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، التقوى سبيل النجاة في الدنيا والآخرة، التقوى سبب الفوز في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة.
معاشر الأحباب! في هذه الأيام نشهد مناسبات تثلج الصدور، وتطمئن القلوب، ألا وهي إقبال كثير من الشباب وانتقالهم من حياة العزوبة والتأيم إلى حال الزوجية والسكن والاطمئنان.
معاشر الأحباب! هذه ظاهرة يفرح بها كل مسلم، إذ إن الزواج لا شك إحصان لفروج الشباب، وغض لأبصارهم، ولكن ينبغي أن نذكر في المقابل شباباً يكتمون أناتهم وآهاتهم، ويحبسون غرائزهم رغبة في النكاح ولكن لا يجدون إليه سبيلاً، رغبة في الإحصان والعفاف، ولكن قلة ذات اليد، وظروف العيش بالنسبة لهم حال بينهم وبين ذلك، فهم على فئتين: فئة آثرت أن تصبر وتحتسب حتى ييسر الله لهم من همهم فرجاً ثم يتزوجوا بعد ذلك.
والبعض الآخر لم يجدوا ولم يبالوا إلا أن يتوجهوا إلى بلاد الغرب ودول الإباحة؛ ليفرجوا عما يحبسونه من الغرائز في جوارحهم، ولا شك -أيها الأحباب- أننا وإن شهدنا هذه المناسبات الكثيرة في هذه الأيام إلا أننا نرى عوائق أخرى تحول بين الشباب وبين الزواج، وتجعلهم يبتعدون عن حياة السكن والاطمئنان، ألا وهي مشكلة غلاء المهور، تلك هي أكبر عامل يصد الكثير من الشباب عن الزواج، وتجعل المجتمع يميل ميلاً خطيراً عن جادة الصواب في الطريق الأمثل إلى تكوين الأسرة المسلمة، فإن غلاء المهور والمغالاة للصداق لهي المشكلة الثانية التي تأتي بعد سوء الاختيار أو الزواج من دول الخارج بلا مبالاة أو تقدير للعواقب والآثار، ومشكلة الغلاء بوجه عام نراها شبحاً مانعاً وإن قال البعض: إنها خفت شيئاً يسيراً، ولكنها والله ما زالت بحالها إلا في نوادر من بعض أهل البيوت الذين امتلأت قلوبهم مروءة وشهامة، وآثروا الكرامة والتقى لبناتهم ولمن يصاهرونهم على الرغم من تأخر البنات في كثير من المنازل بلا أزواج، وإلحاح البعض من البنات صراحة في طلب الزواج اعتباراً بسوء المصير الذي لحق من قبلهم، واعتبار البعض الآخر من الآباء والأولياء بعد أن رأوا الشقاء الذي جروه على بناتهم بسبب مغالاتهم لمهورهن، أو تأخير زواجهن لعل ذلك ابتغاء المزيد من الرواتب، والنفع المادي، وإن كان بعض أولئك يذكر نفسه بادعاء المحبة الخالصة لابنته، وعدم قدرة قلبه على فراقها، إلا أن الذي يجب أن يعرفه كل واحد منا أن تمام المحبة والمودة هي أن نسعى في زواج من هو تحت ولايتنا من بناتنا وأخواتنا، حتى ولو لم يأتِ خاطب يخطبها منا، فلنبحث نحن عن أزواج أكفاء، ولقد جاءت الآيات والأحاديث مبنية ومبينة وجوب أداء المهر والصداق وعدم المغالاة فيه، ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] فالصداق إذاً هو للمرأة؛ هو لابنتك أو لأختك، هو للمرأة التي يراد لها أن تتزوج، أو يطلب الزواج منها، وليس المهر للأب والأم، أو للخال والخالة والعم والأقارب، وما يفعله الكثير من الناس هذا اليوم يقول: أريد مبلغاً وقدره كذا لأمها، وحاجة وقدرها كذا لأبيها، ومبلغاً آخر لخالها، هذه جريمة اجتماعية، والذين يقعون فيها يجدون غبها ولو بعد حين.
وقف بي شاب ذات يوم بعد صلاة الجمعة في هذا المسجد وسألني قائلاً: إنني أريد أن أقترض مبلغاً فلم أجد إلا رجلاً يداينني مداينة،، فقلت: ما الذي يحدوك إلى ذلك؟ قال: الزواج، قلت: وهل تزوجت؟ قال: لقد خطبت ابنة قريب لي قد فرض علي من المهر مبلغاً وقدره (120000) ألف ريال فمن أين لي بهذا؟ قلت له: وماذا فعلت؟ قال: بدأت أقترض من فلان وعلان، أدفع راتباً إلى آخر، وأحرم نفسي ما أشتهيه حتى جمعت قرابة ثمانين ألفاً، وتدينت سيارة بأضعاف قيمتها، والآن بقي علي عشرين ألف ريال، ولقد أخبرني والدها إن لم آت وأكمل المهر فإنه سيزوجها برجل آخر، فكان لا بد من ذلك المسكين أن يذهب إلى والدها وأن يسلم له ما جمع بيده، فقال: زوجنيها، فعقد له عليها، فدخل بها، ولكن الأب أمسك البنت رهينة عنده حتى يؤدي باقي المهر والصداق، وقدره عشرون ألف ريال، قلت له: أليست زوجتك؟ قال: نعم؛ قلت: أوليست تحبك؟ قال: نعم، قلت: وما الذي يمنعك أن تأتي بها إلى مقر عملك هنا؟ قال: ولكن والدها يرفض حتى أكمل هذا المبلغ، ولم أجد إلا من يداينني عشرين ألفاً بستة وثلاثين ألف ريال.
فهل هذا يجوز؟ فوالله ما أجد من نفسي دهشة أو تأسياً أو حزناً لشاب يريد إعفاف نفسه، وغض بصره، وإحصان فرجه، وبعد ذلك يقع في صهر كهذا، فبئست هذه المصاهرة، فلم أجد بداً من أن أوجهه ما أستطيع، ولعل ذلك قد يجديه أو لا يجديه شيئاً ولكن المشكلة هي مشكلة ذلك الأب الذي جعل المرأة والبنت رهناً حتى يقدم ما بقي من الصداق.
هذه صورة من الصور الاجتماعية الموجودة عندنا.
وإن البعض ليقدم مهراً ثلاثين ألفاً أو أربعين ألفاً، وبعد ذلك يرد عليه مهره؛ لأن هذا المهر لا يكفي للذهب، ولغرفة النوم، وللعطورات، وللملابس ولغير ذلك، فهل الزواج إلا رحمة وسكن أو مصيبة وشقاء، وهل المهر إلا لهذه البنت وحدها تشتري به ما تشاء وتقتصر على ما تشاء، وليس لأبٍ أن يرد زوجاً لقلة مهره.(174/2)
الحث على تيسير المهور في الكتاب والسنة
يقول الله جل وعلا: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] والصداق إن كان باهضاً مرهقاً فإنه عند ذلك لا يكون نحلة عن طيب نفس، وإنما يضطر إليه راغب النكاح ليسد حاجته ولينال مقصده، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (خير النكاح أيسره) رواه أبو داود عن عقبة بن عامر بسند حسن.
يقول صلى الله عليه وسلم: (خير النكاح أقله كلفة) ويقول عمر بن الخطاب: [لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مرغوبة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسولكم صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ما أصدق أحداً من نسائه ولا أصدقت واحدة من بناته أكثر من خمسمائة درهم] أي: ما يعادل مائة ريال تقريباً، والفضلاء الكرماء من الرجال لا يؤثر قلة الصداق في نفوسهم شيئاً، وإنما جل مقصدهم أن يتصل خاطبهم بابنتهم في حالة تنبعث من المودة والمحبة، ألا وإن اعتذار بعض الأولياء في تزويج البنات من قلة الصداق جريمة من أعظم الجرائم التي يرتكبها ذلك الأب، ولو أدرك قليلاً مما في قلب ابنته لوجد أنها تريد الزواج ولو على أدنى اليسير من لقمة العيش، ونحن في خطر ومصيبة حينما يقدم الكفء خاطباً فيرد لقلة ماله أو لقلة صداقه الذي قدم وما شابه ذلك؛ لأن الولي إذا وقف أمام الكفء في طريقه إلى الزواج من ابنته؛ فإنه بهذا يغلق طريق السعادة على ابنته لا قدر الله ذلك إن بقيت بلا زوج، أو تزوجها سفيه لا يبالي بالمرأة على أي ذنب سقطت تحت خشونته وعبثه.
ولقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (من آتاكم ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم) رواه الترمذي.
وليعلم أولئك الذين يردون الخطاب الأكفاء عن بناتهم لقلة المال أنهم حرموا أنفسهم وبناتهم خيراً كثيراً، ولو تمسكوا بأمر المال والمتاع من باب قوله جل وعلا: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] والأيامى: جمع أيم وهو الذي لا زوج له من بنت أو ولد: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] لوجدوا أن الغنى أسرع ما يكون لمبتغي النكاح قاصداً لذلك الستر والعفاف والذرية الصالحة، ما رأيكم برجل أقسم الله على نفسه أن يعينه أترونه يحتاج إلى الناس وقد أعانه الله، أترونه يفتقر إلى العباد وقد أغناه رب العباد: (ثلاثة حق على الله عونهم: -ذكر منهم- الناكح يريد العفاف).
فاتقوا الله يا معاشر الأولياء ولا تردوهم من أجل مال.(174/3)
آثار ومصائب المغالاة في المهور
أيها الأحباب! إن المغالاة في المهور تجر مصائب كثيرة: أولها: الإسراف في وليمة النكاح التي تمد لها فرش الموائد مزينة بألوان الأطعمة ولذيذ أصنافها، ولا يؤكل منها إلا القليل، وبعدها أترضى أن توزع على المستحقين والفقراء؟ لا والله، بل تقذف في الفضلات، حيث ترمى بين أنقاض التراب بعيداً في البرية، والآلاف من غيرهم يجوعون ولا يجدون ما يأكلون، وإن جاء بعد ذلك من يأكل منها بعد انصراف الضيوف عن الموائد فلن يأكل إلا أقل القليل، والباقي مصيره ما تعرفونه وتشاهدونه في كثير من الملاهي والحفلات، وإن زواجاً أوله وبدايته إسراف وتبذير في نعمة الله، واحتقار لقدرها في كتابه؛ لحقيق أن يعاقب بالفشل والفرقة في وقت قريب.
وإذا تأملتم -أيها الأحباب- في واقع الزواجات المتواضعة، ذات الصداق المتواضع الذي لا كلفة فيه ولا مشقة، ترونها تسير براحة وعدم إسراف وتبذير، وتذكروا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف: (أولم ولو بشاة) معنى ذلك: دليل على بركة الاقتصاد في هذا النكاح، وسبيل إلى التوفيق والمودة بين الزوجين فيه، ولكن الأدهى والأمر أن يأتي عائل مستكبر لا يملك شيئاً من المال إلا يسيراً، وقد تدين ذلك المال من أهل المداينات، ثم يخطب امرأة ويطلب منه من المال الشيء الكثير، ومن ثم يوافق على المهر؛ فيأخذ المهر على ما فوقه من الشروط والتكاليف، ويتم الزواج على ما يتم عليه في لحظة إسراف في الوليمة؛ فإذا انتهت أيام الولائم والأفراح وضع ذلك الزوج يده على خده، وثنى رأسه بين ركبتيه يتفكر في هم الديون العظيمة التي لحقته، فتنقلب حياته نكداً وشقاء عليه وعلى زوجته المسكينة الضعيفة، وإن من كرم الشمائل وتمام العقل أن ينظر الولي للمتقدم إلى ابنته؛ فإن قدَّم مهراً كثيراً رد عليه ما زاد عن المئونة المتواضعة والكافية لحاجة ابنته، لكي يكسب بذلك أجراً عظيماً من الله، ويكون أدعى للقرب منه، لما عرف من تواضعه وزهده، أما ما شاع بين الناس أن فلاناً أخذ على ابنته من المهر كذا، فليعلم أن الذي يرغب في مصاهرته بعد ذلك ويريد الزواج من بقية بناته أنه لا بد أن يقدم مهراً كالمهر الذي قدمه غيره أو ينافسه، وإلا فلا يقبل، وبها تبقى بناته واحدة بعد الأخرى في البيت لا نصيب لها بسبب ما جره صداق الزوج الأول، وقبول الولي لذلك الصداق دون مراعاة ودراسة لحال ذلك الذي قدمه.
نسأل الله جل وعلا أن يستر على بناتنا، اللهم لا تفضح لنا ستراً، ولا تكشف لنا عورة، واستر على بناتنا واجعلهن في كنفك وسترك وعافيتك من أيدينا أمانة إلى أزواجهم سعداء شرفاء، إلى قبورهم شهداء سعداء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(174/4)
آثار حرمان المرأة من الزواج
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشانه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذ في النار.
معاشر الأحباب! إن مشكلة الغلاء هذه لمصيبة على الشباب والشابات، لمصيبة على الأولاد والبنات، ولا ندرك أثرها إلا يوم أن ينبت أول الشيب في رأس البنت، وبعد ذلك يندم ندماً عظيماً أن لو كان زوجها لذلك الفقير الذي لم يلبث سنوات قليلة إلا ورءاه قد أغناه الله من واسع فضله، لستم الذين ترزقون، الله وحده هو الذي يرزق: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] إذاً فلا نجعل فقر ذلك الفاضل أو قلة حاله سبباً لرده، أو قلة مهره سبباً لبعدنا عنه.
اعلموا يا معاشر الأحباب! أن ذلك قد يكون جريمة ينعكس على بناتنا ولا حول ولا قوة إلا بالله! سمعت مراراً أن رجلاً كان يرد عن ابنة له، فإذا تقدم الخاطب قال: هذا ليس من طبقتنا، وهذه عبارة كثيراً ما يرددها بعض الناس، هذا ليس عنده من المال ما يكفي لسعادة ابنتنا، يتردد الخطاب عليها واحداً تلو الآخر حتى جاوزت الثلاثين من عمرها، فلما اقتربت من الخامسة والثلاثين أينعت، وبعد أن أينعت ذبلت شهوتها وانكسر ذلك الشباب المتألق فيها، فاتجهت إلى الذبول رويداً رويداً، وأصابها مرض من الأمراض فاتجهت على هاوية الموت رويداً رويداً، طرحها ذلك المرض على الفراش أياماً وليالي وشهوراً، وانتهى بها ذلك المرض حول الأربعين إلى أن جاءتها سكرات الموت، وقبل ذلك وقف أبوها يبكي ولا ينفع البكاء حين ذلك، يعتذر لابنته ويشعر بجريمته يوم أن أوشكت هذه البنت أن تنتقل إلى الدار الآخرة، وقد حرمها نعمة الزواج، يسألها أن تحلله وأن تبيحه، فقالت: لا حلك الله ولا أباحك، وتشهدت وأسلمت روحها إلى بارئها، أترون ذلك الأب يعيش سعيداً إذا تذكر هذا المشهد، أو تذكَّر ذلك الموقف، وهو يرد عن هذه البنت المسكينة طمعاً في رواتبها؛ ويتعلل بأن من تقدم إليها ليس من طبقته أو ليس من أهل المال والثراء، هذه مصيبة ينبغي أن ننتبه إليها.
ثم اعلموا يا معاشر المؤمنين! أن عشرين ألف ريال أو خمسة عشر ألف ريال لشابٍ يسكن مع أهله لكافية في زواجه، هل من شرط الزواج أن ينام على غرفة نوم؟ لا والله، أي فراش على الأرض يكفي ذلك.
هل من شرط الزواج أن يقدم ملابساً بعشرة آلاف؟ لا والله، يكفي ما ستر العورة وما جمل الإنسان، وإن القليل القليل من ذلك المهر ليكفي.
هل من شرط الزواج أن يقدم وليمة تكلف عشرة آلاف ريال؟ لا والله، إذاً نحن الذين نعظم مشكلة الزواج، وإلا يوم أن نجد شاباً مستقيماً يعيش في كنف الله في بيت والده أو في سكن من السكن المهيأ له، أو نستطيع أن نساعده نحن في ذلك، فلنزوجه، وينبغي أن نفاتح البنت عندنا: يا بنية! جاءك فلان بن فلان معه كذا من قليل المال والله يرزقه، والله يتولاه والله يرحمه ويرحمك معه، ولعل ذلك سبب السعادة بينك وبينه إن قبلت هذا الزوج ورضيت به في حياة تبدأ على أساس من القناعة والاقتصاد، وإن الكثير من البنات ليقبلن ويرضين ولكن الآباء والأمهات هم الذين يرفضون ويمتنعون، وبعد ذلك يتندمون إذا تعدت البنت ثلاثين أو أربعين سنة ولم تجد زوجاً، ومن ذا الذي يتقدم لبنت الثلاثين أو الأربعين والبيوت ملأى من البنات في سن المراهقة؟ من ذا الذي يتزوج هذه؟! من ذا الذي يتزوج هذه ولو زوجة ثانية ومجتمعنا يرى أن الزواج من زوجة ثانية أمر غير مرغوب فيه؟! أسال الله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين الذين أدخلوا علينا التقاليد والعادات التي يريدون بها لشبابنا تغيراً ويريدون لبناتنا فتنة، ويريدون لمجتمعنا تفككاً.
اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بشبابنا انحلالاً، وأراد بنسائنا تبرج وسفور اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، وأدر عليه دائرة السوء، وأرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
اللهم استر على ولاة أمورنا وانصرهم بالإسلام وانصر الإسلام بهم، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم اجمع شملهم، ولا تفرح عليهم عدواً ولا تشمت بهم حاسداً.
اللهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.
اللهم زوج شباب المسلمين، اللهم بارك لهم في أزواجهم، اللهم استر على نساء المسلمين، ووفق شباب المسلمين، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ولموتانا الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(174/5)
فضل الاستسقاء
إن العبد مهما حاول أن ينسب الفضل إلى نفسه إلا أن هناك شاهد عيان من الواقع الشرعي والعقلي على أن الله عز وجل له الفضل الأكبر في كل شيء، وإن من أعظم النعم على عباده أن جعلهم يلجئون إليه في كل نائبة ونازلة، ومن هذه النوازل جفاف المياه وقلة الأمطار، فشرع في هذا صلاة الاستسقاء؛ ليتضرع العباد إلى ربهم ويلجئون إليه، ويعترفون بنعمه سبحانه عليهم.(175/1)
تعريف بنعمة الله على عباده
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وأطعمنا، وكفانا، وسقانا، وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولسائر الأمم قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ويقول سبحانه أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! تقرر أن يُقام في يوم الإثنين القادم صلاة الاستسقاء، وهي مشروعة، يندب الإمامُ الناسَ لها إذا تأخر نزول الغيث، أو احتبس القطر، فالحمد لله على ما شرع؛ ولكن -أيها الأحبة في الله- إن الذي نلاحظه ونشهده أن كثيراً من المسلمين -هداهم الله- لا يلتفتون إلى إقامة هذه الشعيرة، ويتهاونون بها، ويتخلفون عنها، فما السبب يا تُرى؟! قد يظن البعض أن المياه موجودة في منازلهم في علوها وسفلها، والماء متيسر على كل حالة، فلا يشعر بمزيد حاجة إلى نزول القطر من السماء، ويرى البعض أن البحار بأمواجها متلاطمة بالمياه، وأن محطات التحلية منتشرة في كل مكان -ولله الحمد والمنة- والماء يصل عبر هذه المحطات إلى المنازل نعم، هذه نعمة سخرها الله لنا، ونشكر القائمين عليها؛ ولكن هل يعني ذلك أن ننشغل أو نلتفت عن صلاة الاستسقاء، ولا نشهدها؟! لماذا إذا اجتمعنا لصلاة الاستسقاء لا نرى إلا صفين أو ثلاثة؟! هل استغنى البعض عن رحمة ربهم؟! أهم في غنىً عن فضل خالقهم، لا والله، نسأله أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
إن أولئك الذين يظنون أن المياه متوفرة في كل لحظة ومن ثم لا يشعرون بمسيس الحاجة إلى الغيث من السماء، قد يجهلون قول الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].
والله لو غارت المياه لعجزت قوى الجن والإنس، قوى البشرية بآلاتها ومخترعاتها ومحطاتها، أن تجذب ولو قطرة واحدة من باطن الأرض؛ لأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الماء، وهو الذي أنزله، وهو القادر على أن يجعله جماداً لا يخرج عبر هذه الأنابيب، وهو القادر على أن يجعله صلباً لا يسيل فيها، وهو القادر على أن يحبسه عن العباد؛ ليعرفوا مدى ضعفهم، وليدركوا حقيقة ذلهم وفقرهم إلى خالقهم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان:50].
أيكفرون بنعمة الله؟! أيجحدون فضل الله؟! أهم في غنىً عن هذا الغيث الذي ينزله الله سبحانه وتعالى؟! {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68 - 70].
من الذي يخلق هذا السحاب، ويجعله متراكماً؟! من الذي يأمر هذا السحاب أن يمطر ماءاً عذباً زُلالاً؟! أليس الذي أمَر ذلك بقادر على أن يجعل هذا العذب الزلال أجاجاً، فلا تستمرئه النفوس، ولا تسيغه الحلوق ولا تقبله؟! أليس الذي أودعه في باطن الأرض قادر على أن يمنعه من الخروج مهما أراد العباد ذلك؟! أليس الذي خلق هذه البحار، وهذه الأنهار، وهذه المحيطات بقادر على أن يمنعها أن تنفذ عبر هذه الآلات والمخترعات إلى أيدي الناس؟! أليس الذي جعل هذه المخترعات قابلة لجذب المياه، وقابلة لتحليتها، أليس قادراً على أن يُبطل مفعولها بكلمة (كُنْ)؟! {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
فالله سبحانه وتعالى بكلمة (كُنْ) قادر على أن يجعل هذه المحيطات جماداً صلباً لا يتحرك.
والله جل وعلا قادر على أن يجعل هذه البحار نيراناً تتأجج، وسيرى الناسُ هذه العلامة يوم القيامة: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] فيرون الماء ينقلب ناراً وله لهب عظيم، أليس ذلك بقادر على أن يمنعه أن ينفذ إلى العباد؟! إذاً: فيا عباد الله! لا غنى لكم عن فضل خالقكم، ولا استغناء عن رحمة ربكم، فإنكم فقراء إلا بغناه، مساكين إلا برحمته، أذلاء إلا بعزته.
فاسألوا الله جل وعلا الغيث، وتوبوا إليه قبل ذلك، وتوبوا إلى خالقكم قبل ذلك، وقدموا أعمالاً، وتصدقوا، وصوموا، وصلوا، وقوموا.
اسألوا الله جل وعلا أن يتوب عليكم توبة صادقة نصوحاً: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(175/2)
الاستعداد لصلاة الاستسقاء بطاعة الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، وعن الضد وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شي قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خيرَ الكلام كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة في الدين بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
معاشر المؤمنين! التفتوا وتنبهوا، واستعدوا لصلاة الاستسقاء بعد بزوغ الشمس، من يوم الإثنين: [8/ 5] لهذا العام.
وقدموا قبل ذاك توبة صادقة، وأعمالاً صالحة.
كان طارق بن زياد متجهاً إلى الأندلس، وشكا الناسُ حاجة وجدباً وقحطاً، فقالوا: لو استسقيت أيها القائد؟ قال: نعم.
فأمهلهم ثلاثة أيام، وأمرهم بالصيام والقيام والتضرع إلى الله.
فلما حان يوم خروجهم، قال: اخرجوا بالبهائم، فخرجوا بها، قال: افصلوا بينها وبين أبنائها، فارتفعت أصواتها ولها حنين إلى السماء، ثم اجتمع الناس وقام فيهم مصلياً، ثم قام فيهم خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه، وخطب خطبة عظيمة، وقالوا له: هلا ذكرت أمير المؤمنين في خطبتك؟ فقال: هذا مقام لا يُذكر فيه إلا الله.
فما انتهى من كلمته هذه حتى تشققت السماء بمطر كأفواه القِرب، وأغاثهم الله سبحانه وتعالى بعد قيام وصيام وتوبة وإنابة وإقلاع عن كل ذنب يبغضه الله سبحانه وتعالى.
فأخبروني -يا عباد الله- يوم الإثنين بأي شيء نستسقي؟! بأي شيء نستسقي؟! بمحلات الفيديو التي توجد في كل مكان وشارع؟! ببنوك الربا التي هي لعنة على من أكلها، وكتبها، وشهد فيها؟! (لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279].
بأي شيء نستسقي يا عباد الله؟! نستسقي بلهو الكثير منا، وهو يصبح ويُمسي لا يذكر الله إلا قليلاً؟! صوت الغناء والشيطان في بيته، لا يُسمع القرآن في بيته إلا قليلاً، ولا يُتلى كتابُ الله في بيته إلا نادراً.
بأي شيء نستسقي يا عباد الله؟! أنستسقي بأولئك الذين يتخلفون عن صلاة الفجر، ولا يشهدونها؟! بأولئك الذين لا يرون من صلاة الجماعة شيئاً؟! بأي شيء نستسقي يا عباد الله؟! لقد طفحت المكاييل بذنوبنا، ولقد جاوزنا الحد، وما يمنع العذاب عنا إلا الله سبحانه وتعالى، نستسقي برحمته سبحانه، برحمته التي سبقت غضبه، بفضله الذي سبق عقوبته، نستسقي برحمته وحده لا شريك له، وإلا فأعمالنا يا عباد الله شاهدة على أولئك الذين يُمْطَرون بالعذاب من السماء.
اللهم إنا نتوب إليك فتب علينا.
اللهم إنا نئوب إليك فتب علينا.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، نبوء لك بذنوبنا، ونبوء لك بنعمتك علينا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
اللهم لا إله إلا أنت الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم.
اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا.
اللهم لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.
اللهم اغفر لنا.
اللهم تجاوز عنا.
اللهم ارحم شيوخاً وعجائز رُكَّع، وأطفالاً رُضَّع، وبهائم تَرْتَع.
اللهم ارحمنا برحمتك.
اللهم لا تعاجلنا بعقوبتك.
اللهم إنا نتوب إليك فتب علينا.
اللهم إنا نتوب إليك ونستغفرك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
عباد الله! هل نتوب إلى الله؟! هل نخرج يوم الإثنين مستغفرين تائبين؟! هل نقلع من هذه اللحظة عن الذنوب؟! الذين لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، الذين لا يعرفون الفجر مع الجماعة، أفلا يتوبون إلى الله ويتدبرون أمره؟! هل يعودون إلى المساجد؟! هل يعمرون بيوت الله من جديد؟! الذين يتساهلون بالأموال وأكلها بالباطل أو بالشبهة، ألا يخشون الله ويتوبون إلى الله؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء:29 - 30].
عباد الله! توبوا إلى الله واستغفروه، حاسبوا أنفسكم، ماذا تفعلون في بيوتكم؟! بأي شيء تخلون به؟! بأي شيء تتعاملون؟! بأي أمر تخرجون؟! وبأي أمر تعودون؟! اتقوا الله وردوا المظالم إلى أصحابِها، وتوبوا إلى الله ودعوا الغيبة والنميمة في المجالس، توبوا إلى الله وأقلعوا عن كل ذنب صغير وكبير؛ فإن الله جل وعلا يقبل توبة التائبين، حتى ولو كانوا من الذين قتلوا، أو زنوا، أو سرقوا: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [مريم:68 - 69] {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [مريم:60] فأولئك يتوب الله عليهم.
فتوبوا إلى الله يا عباد الله، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم افتح لنا أبواب القبول، اللهم افتح لنا أبواب التوبة.
اللهم ارزقنا الاستعداد قبل الممات، والاستدراك قبل الفوات، اللهم إنا نسألك توبة قبل الموت، وراحة عند الموت، ولذة ونعيماً بعد الموت، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم اختم بالسعادة والشهادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل اللهم إلى النيران منقلبنا ومثوانا.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ربنا أنت أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، اللهم لا تعذبنا بما فعلنا، ولا تؤاخذنا بما اجترح السفهاء منا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والمجرمين، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأراضين بقدرتك.
اللهم اجمع لنا ما تفرق.
اللهم اجمع لنا ما تشتت فيما يرضيك وينفعنا في الدنيا، ويقربنا إليك في الآخرة، يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اجعلنا على حوض نبينا من الواردين، ولكأسه من الشاربين, وعلى الصراط من العابرين.
اللهم بيض وجوهنا يوم تسود وجوه الفجرة والمجرمين، اللهم أدخلنا الجنة بسلام آمنين، اللهم اجعلنا على الصراط يوم تزل الأقدام من العابرين، ولا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم، اللهم لا تحرمنا النظر إلى وجهك الكريم.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيِّماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، برحمتك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا؛ اللهم اغفر لوالدِينا ووالدِي والدِينا.
اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان ميتاً اللهم نوِّر ضريحه، وافتح له باباً إلى الجنة، وآنسه برحمتك يا رب العالمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ لعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العلي العظم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(175/3)
فضل العلم وخطورة الأمية
رفع الله شأن العلم والعلماء في كتابه، وإن كنا نعاني اليوم من أمية عامة، فإننا نعاني أشد المعاناة من حملة الشهادات، فهم أجهل وأشد أمية في دينهم وعلمهم بالله تبارك وتعالى من العوام، وهنا يبين الشيخ فضل العلم المعرِّف بالله وخطر الجهل.(176/1)
فضل العلم والعلماء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: إن من السمات الحضارية المميزة لعصرنا هذا سمة العلم وانتشار مراكز التعليم، على اختلاف وتنوع درجات المؤسسات التي تباشره وتعنى به، ولا غرابة في هذا -يا عباد الله- فما بليت أمة من الأمم، وما رمي مجتمع من المجتمعات بمثل الجهل وعدم المعرفة، وما شرفت أمة من الأمم، وما سعدت المجتمعات إلا بالعلم والمعرفة المنبثقة عن العلم بوحدانية الله وحده وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، وحسبكم أن علامة إرادة الله لعبده الخير الفقه في الدين (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سمو درجات العلم وشرف المنتسبين إليه، والساعين في تحصيله، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن: (أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وأن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وأن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) فهل بعد هذه الفضائل يستوي العلماء والجهال؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] حاشا وكلا.
بل رفع الله منازل أهل العلم وأكرمهم بقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
أيها الإخوة في الله: الآيات والأحاديث في فضل العلم وطلبه وكرامة أهله المعلمين والمتعلمين الساعين في تحصيله كثيرة وكثيرة جداً، نكتفي بما ذكرناه حثاً وتشويقاً وترغيباً، حثاً لأنفسنا لنستفيد من العلم والمعرفة والاطلاع، وتشويقاً وترغيباً لبعض إخواننا الذين فاتهم التعليم في شبابهم، فرضوا أن يشبوا ويشيبوا غير مكترثين بما فاتهم من الكنوز العظيمة والخيرات العميمة بالتعليم، وقد يكون لبعضهم عذر في ذلك لانشغال الكثير منهم بلقمة العيش في زمن كان تحصيل لقمة العيش فيه أمراً عسيراً.
أيها الإخوة في الله: لسنا بهذا نقول: إن من لم يقرأ ولم يكتب فلا وزن له ولا قيمة كلا.
فرب أمي لا يقرأ ولا يكتب خير عند الله من مائة متعلم، وما يفيد العلم إذا انقلب حجة على صاحبه، لكن الذي نقول: العلم كرامة، العلم رفعة تزيد من وزن الإنسان ومن رفعته واحترام رأيه واحترم قوله في بيته ومجتمعه وبلاده، فلماذا يبقى بعض إخواننا راضين بما هم عليه حال يستطيعون معها من القراءة والكتابة خاصة وأن البعض منهم دون الأربعين أو حول الخمسين أو فوقها تقريباً؟ وهي سن لا يزال الإنسان فيها قادراً على الاكتساب والتحصيل العلمي إن حصلت له همة وعزيمة.
أيها الإخوة: كلنا يعلم الكثير من الآيات والأحاديث التي فضلت العلم والعلماء، فتصوروا كم يفوت المعرضين عن التعليم وعن القراءة والكتابة من الخيرات والدرجات.
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
لا شك -أيها الإخوة- أن القراءة والكتابة المعتمدة على نعمة البصر بالعينين ليست وحدها هي سبيل تحصيل العلم، بل إن السمع بالأذنين -أيضاً- من أعظم وسائل تحصيل العلم، ولذلك قدم الله السمع في آيات كثيرة من كتابه، وهذا شيء محسوس معلوم؛ لأننا نرى كثيراً من الذين فقدوا البصر، ومع ذلك تراه حافظاً، ذكياً، ألمعياً، لا ينقص بعلمه وفكره وسديد رأيه عن غيره من المبصرين الذين يقرءون ويكتبون، بل وقد يفوق الكثير منهم.
وعلى أية حال فالواجب على كل واحد منا أن يدفع عن نفسه سمة الجهل والانتساب إلى الجاهلين؛ وذلك بالعلم وتحصيله عبر أي وسيلة تيسرت له بما أنعم الله عليه من السمع والبصر والفؤاد.
معاشر المؤمنين: إن بعض الذين يرغبون في العلم وهم كبار في السن يترددون في تحقيق رغبتهم، مع تيسر الوسائل والمدارس لقولهم: إن الحياء يمنعهم وهم بهذا السن أن يتعلموا مبادئ وحروفاً قد حفظها أطفالهم وصغارهم، والله إنها حجة يلقنها الشيطان ويسوقها على المسلم ليرده عن العلم، وليستريح من عناء مجاهدته عن صراط الله المستقيم، إذ الواجب ألا يتردد المسلم -إذا كان من الذين لا يحسنون القراءة والكتابة- في الإقبال على التعليم والتعلم، والواجب ألا يتردد في الانخراط في سلك التعليم، ومحو الأمية ونبذ الجهل، والإصرار والتصميم على العلم.
والعلم -يا عباد الله- موهبة ربانية يكرم الله بها عبده ولو بعد بلوغه من العمر شيئاً كثيراً، فكم سمعنا عن بعض العلماء الذين طلبوا العلم وهم كبار في السن فما هي إلا سنوات معدودة ثم أصبحوا من كبار العلماء الذين يأخذ عنهم ويتزاحم الناس في حلقات دروسهم.
وأخيراً: اسمعوا قول الإمام الشافعي رحمه الله:
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(176/2)
أثر الجهل على المجتمع
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، وعن الند والنظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ شد في النار.
عباد الله: إن بعض المسلمين من الذين لا يقرءون ولا يكتبون لا يأبهون ولا يبالون بما يدعون إليه من الانضمام إلى حلقات العلم، أو مدارس محو الأمية ومتابعة التعليم بحجة أنهم في شغل شاغل عن هذا، وهذا أمر في غاية الخطأ والبعد عن الصواب، ولن يدركوا خطورة هذا إلا بعد سنين طويلة حيث يضطر الواحد منهم طائعاً أو مختاراً إلى ترك المشاغل إما لكبر سنه أو لسبب غير ذلك، وبعد ذلك سيصبح قلقاً من طول الأوقات ومرور الساعات، وسيشعر بالفراغ القاتل فعلاً وهو يرى كبر سنه وانشغال من حوله بأعمالهم، ولا شك أن مآلهم إلى ما آل إليه.
لكن -يا عباد الله- لو أن ذلك الرجل الكبير قَبِل النصيحة يوم أن سمعها، وبادر بالالتحاق إلى مراكز محو الأمية ومتابعة التعليم للكبار لاستفاد من ذلك أعظم فائدة وأربح تجارة، أتدرون ما هي؟ إنها القدرة والاستطاعة على تلاوة كتاب الله جل وعلا، وهذا أمر ملحوظ مشاهد حينما تدخل مسجداً من المساجد وترى كبار السن قد تسابقوا وتقدموا إلى المسجد، فمنهم من تراه ممسكاً بمصحفه مكباً على قراءة كتاب الله، كل حرف بحسنة، وكل حسنة بعشر أمثالها، وترى البعض منهم يتمنى أن لو كان كصاحبه القارئ كتاب الله، لكنه حرم هذا بتفريطه أو بتهاونه بالتعليم ولو كبيراً، لكنه يشتغل بالتسبيح والتهليل.
وترى البعض هداهم الله لا بهذه ولا بتلك مشتغل، بل انشغلوا بالحديث عن أمور دنيوية أو أعراض غافلة، وهم في بيت الله سبحانه وتعالى عياذاً بالله من ذلك، وما ضر الواحد إذا كان من الذين لا يحسنون القراءة والكتابة، ما ضره لو تعلم القراءة والكتابة فاستطاع بذلك أن يقرأ كتاب الله جل وعلا، واستطاع بذلك أن يجلب الخيرات والحسنات العظيمة المضاعفة إلى صحائف أعماله بتلاوة كتاب الله، والتلاوة لا تحتاج إلا إلى فهم القراءة، وقراءة الحروف وتدبرها ومعانيها، وكتاب الله جل وعلا بعد ذلك خير معين على فهم جوانب هذه القراءة.
ثم إن الذي يستطيع القراءة والكتابة يمكن أن يستفيد وأن يدرك شيئاً كثيراً من حلقات العلم المعقودة في المساجد، ويمكن أن يستفيد كثيراً من المحاضرات والمواعظ والندوات سواءً سمعها في الأشرطة أو غير ذلك، وإن الذي يحسن القراءة والكتابة يستطيع أن يفيد أولاده الصغار وأن يساعدهم، ولو كان كبيراً فقد يعين ويساعد أحفاده، يساعد أولاد أولاده في القراءة والكتابة، وهذا اشتغال بأمر جد عظيم ومفيد إن شاء الله.
إذاً: فما الذي يجعل البعض منا يتردد في أن يلتحق بمدرسة تمحو أميته، وتنبذ وتبعد عنه سمة الجهل والجهالة؟ إن الذي يتردد بعد هذا، إن الذي يبتعد عن هذه المدارس وهو بحاجة إلى تعلم القراءة والكتابة مخطئ في حق نفسه خطأً عظيماً، وأي شيء أعظم من أن يحرم نفسه قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى؟ أما البلية العظمى والداهية التي أكبر منها أن تجد شباباً لا زالوا في ريعان الشباب لا يقرءون ولا يكتبون، ومثل ذلك يوجه لهم الحديث خصوصاً، وتضاعف لهم النصيحة مضاعفة، ينبغي لهم أن يبادروا إلى التعلم ونفي الجهل والجهالة عن أنفسهم؛ إذ أن الجهل مدعاة إلى الفراغ، والفراغ مدعاة إلى الانحراف والجريمة، وحسبكم أن تعلموا أن جملة عظيمة من الإحصائيات الواردة في جرائم الاختطاف والسرقات والمخدرات والخمور وغيرها، أن نسبة عظيمة من الذين يتعاطون هذه الأمور هم الذين لا يقرءون ولا يكتبون أو من الذين تعلموا تعليماً ضعيفاً.
وإن البعض منهم نتيجة لهذا الأمر يكون عاجزاً عن نوال وظيفة مناسبة يخدم فيها أمته، ويجلب فيها رزقاً حلالاً إلى نفسه، فيضطر بعد ذلك بإقناع شيطاني أن يلتفت إلى سبل الحرام والمتاجرة بالمحرمات أياً كان ذلك النوع، إما أن يفتتح محلاً للفيديو يبيع فيه أفلاماً لا يعرف إلا اسم هذا الفلم أو ذلك الفلم، وهذا ما يفلح فيه أو يستطيع، أو يفتح محلاً يبيع فيه الأغاني والأشرطة، أو يتاجر بأمور محرمة، أو يخاطر بمخدرات يمنعها الشرع وتحضرها الدولة ويعاقب عليها القانون وولاة الأمر، كل ذلك أمر خطير جداً.
إذاً: فإن العلم شرف وفضل ومنزلة رفيعة سامية، ومن حرم هذا الشرف وهذه المنزلة فقد قاد نفسه طائعاً أو مكرهاً إلى سبيل لا يرضاه ولا تحمد عقباه.
معاشر المؤمنين: نسوق هذا الكلام ونحن قرب مناسبة تسمى "اليوم العالمي لمحو الأمية".(176/3)
رسالة إلى أنصاف المتعلمين
أيها الإخوة: إننا نجد نوعاً من الأمية ألا وهي أمية المتعلمين، أمية الذين يحملون الشهادات ولكن الكثير منا ولو حلمنا شيئاً من هذه الشهادات قد نكون أميين في كثير من مسائل الدين والشريعة، إذ أن كثيراً من الذين يقرءون ويكتبون يجهلون أبسط القواعد في أحكام الدين، ويجهلون أبسط الأحكام في أمور الشريعة! تلك والله أمية عظيمة، وتلك والله أمية خطيرة، ورب أمي لا يقرأ ولا يكتب يفقه من كتاب الله ومن سنة رسوله وبمجالسته العلماء ومواظبته على حضور دروس العلم وحلقات التعليم يفقه شيئاً كثيراً، أكثر مما يفقهه حامل شهادة من الشهادات.
إذاً -أيها الإخوة- إنه نوع آخر من الأمية وهو أمية المتعلمين، أو أمية الذين يقرءون ويكتبون، أمية خطيرة، أمية خطيرة جداً وهي أمية الجهل عن العلم بأحكام دين الله سبحانه وتعالى، إذ الواجب على من حمل شهادة أو انتسب إلى العلم والعلماء أن يتم علمه وتعليمه بعلم كتاب الله وسنة رسوله على أقل الأحوال، أبسط ما يحتاج إليه في أمور الصلوات الخمس والوضوء والطهارة وطهارة النساء في ما يعلم به زوجته وبناته وأولاده، لا بد أن يكون ملماً بذلك في أبسط قواعد أحكام الصيام، في أبسط قواعد أحكام الحج، في كثير من الأمور التي نحتاجها ذاهبين آيبين غادين رائحين، وتتردد علينا إما يومياً أو أسبوعياً أو سنوياً، أو في موسم من مواسم السنة، ومع ذلك ترى الواحد منا وهو يحمل هذه الشهادة الطويلة العريضة لا يستطيع أن يدرك شيئاً من أبسط أحكام الشريعة! هذه والله أمية عظيمة نحتاج إلى محاربتها، ونحتاج إلى أن نبعد أنفسنا عن أن نوصم بها أو نوصف بها.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه، اللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا، وارزقنا العمل بما علمتنا، اللهم اجعل عملنا حجة لنا لا حجة علينا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة الأمر فينا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأرد نساءنا بتبرج وسفور واختلاط وعمل مع الرجال، اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق.
ربنا إننا نصبح ونمسي ونبيت في عافية وأمن، ونعمة وستر، ورزق وفضل منك وحدك لا شريك لك؛ ربنا أتمم علينا ذلك، ولا تغير علينا بذنوبنا، اللهم من أراد علينا تغييراً بما يريده من فساد أو إفساد، اللهم أهلكه عاجلاً غير آجل، اللهم أبعده عنا، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم ارزقنا توبة قبل الموت، وراحة عند الموت، ونعيماً ولذة في القبور بعد الموت، اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى الجنة مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل ربنا إلى النيران منقلبنا ومثوانا.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا غائباً إلا رددته برحمتك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين! اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك، ومن زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا فأنت بنا راحم، اللهم اغفر لنا وارحمنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم اغفر لوالدينا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فأجزل الرحمة له، وأوسع السعة في قبره، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم ثبت عبادك المجاهدين، اللهم وفق الدعاة المصلحين، اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم وفقهم وارزقهم العلم النافع والعمل الصالح، واجزهم عن المسلمين خير الجزاء فإنهم على ثغر عظيم من ثغور الدين.
اللهم اجعلنا من عبادك الذين يراقبونك في كل ما يأتون ويذرون، اللهم اعصمنا عما يسخطك، اللهم جنبنا ما يغضبك، اللهم حل بيننا وبين معصيتك، اللهم وفقنا إلى طاعتك ومرضاتك يا رب العالمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم أصلح إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح أعوانه وإخوانه، اللهم اجمع شملهم، اللهم لا تفرق بينهم، اللهم وحد صفهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجعلهم لكتابك وسنة نبيك عاملين، ولدينك داعين يا رب العالمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(176/4)
فقيد الجهاد عبد الله عزام
إن للإسلام رجالاً ضحوا بدنياهم وملذاتها لإعلاء كلمة الله، وجعلوا أوقاتهم وجهودهم وقفاً لله، والزمان وإن كان يفجع بموت الأبطال إلا أن العزاء جنات وجنات، وفي هذه المادة تجد عزاء للمسلمين في فقيد الأمة وأبي الجهاد في هذا العصر الشيخ عبد الله عزام رحمه الله وغفر له، وبوأه الفردوس الأعلى في الجنة.(177/1)
اغتيال الشيخ عزام رحمه الله
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياًَ مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: عقيدتنا وعقيدة كل مسلم على وجه هذه البسيطة ألا يموت أحد قبل أن يستوفي رزقه وأجله، والأرزاق والآجال بيد الله جل وعلا، لو اجتمع الجن والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيراً، على أن يؤخروا أجل مسلم ولو يوماً واحداً، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ولو اجتمع الجن والإنس وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يخطفوا دقيقة واحدة من أجل المسلم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] فلو أن عبداً من عباد الله قدر موته في بلدة بعيدة، لتهيأت له أسباب السفر إلى أن يبلغ برجله وإرادته البلاد التي تخطف روحه فيها.
فيا عباد الله: الموت أمر سهل هينٌ ميسور بالنسبة لفهمه، وبالنسبة لميعاده وأجله، لكن الأمر كل الأمر في الاستعداد للموت ولما بعد الموت.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: وإن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فتنفح فيه الروح ويؤمر الملك بكتب أربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد) فالرزق والأجل محدود معدود معلوم مقسوم وكل واحد منا جنين في بطن أمه.
أحبتي في الله: أسوق هذه المقدمة الطيبة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأذكر لكم واقعة كلكم عرفها وتلقاها بواسع الرضا بقدر الله جل وعلا، ألا وهي استشهاد أمير المجاهدين العرب عبد الله عزام رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته، وخلف أهله وذريته بخير منه، وخلف المجاهدين بخير منه.
عباد الله: منذ جمع ماضية وليست الجمعة الماضية كانت محاولة باءت بالفشل دبرت لاغتياله رحمه الله حيث وضعت مادة متفجرة تحت المنبر الذي يخطب عليه، وقبل وصوله إلى المسجد بدقائق معدودة اكتشفها عامل النظافة فأخرجها مع مشاركة رجال البوليس والأمن، ونجاه الله جل وعلا حيث لم تكن ساعته، ولم تحن منيته.
ثم بعد ذلك تعرض لمحاولة أخرى كانت خاتمة الشهادة بالنسبة له، كان ماضياً بسيارته إلى المسجد ليخطب الجمعة في المصلين والمجاهدين، وبينما السيارة في طريقها إذ مرت على عبوة ناسفة شديدة الانفجار وضعت في أنبوب مد عرضاً تحت السيارة، فما أن قاربته السيارة إلا وانفجرت شطرين، انفجرت القنبلة وتلك المادة الشديدة الانفجار، وانشطرت السيارة التي كانت تقله رحمه الله، وكان معه ولداه، تناثرت الأشلاء، وتطايرت الدماء، وسالت على الأرض لتشهد كل بقعة من البقع التي وقعت عليها قطرات الدماء بأنهم ماتوا وهم في طريقهم إلى توحيد الله وكلام الله، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، بأنهم ماتوا وهم في طريقهم للركوع والسجود، بأنهم ماتوا وهم في طريقهم ليشهدوا جماعة الملائكة، وجماعة المصلين، فرحمك الله يا عزام رحمة واسعة.
واعلموا -يا عباد الله- أن هذه الحادثة لا تجعلنا نظن أنه لو لم يسلك هذه الطريق لنجا، بل في علمنا أنه لو كان في بيته لمات في تلك اللحظة التي انفجرت فيها سيارته، ولو كان في بر أو في بحر أو في طائرة أو في سفينة أو في قصر مشيد لمات في لحظته التي انفجرت بها السيارة {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] يموت الإنسان ولو كان في بروج مشيدة، يوم أن تدق الساعة الأخيرة من عمر الإنسان.
لكن -يا عباد الله- قفوا وتأملوا هذه الحادثة، هذه الحادثة الشنيعة التي تنم عن حقد دفين على الجهاد والمجاهدين، وهل بعد هذا وقبله يبقى مسلم ساجد يجهل العداء بين الصهيونية والإسلام، أو يجهل العداء بين الشيوعية والإسلام، أو يجهل العداء بين النصارى والمسلمين، أو يجهل العداء بين ذوي الأفكار المنحرفة، والتيارات الهدامة، والمذاهب المفسدة، مع الإسلام والمسلمين.
أسلوب التصفية الجسدية، أسلوب قديم، حاول الكفار واليهود أن يغتالوا نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يحفظه وأن الله يعصمه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
مات صلى الله عليه وسلم ثم خلفه أبو بكر الصديق، ثم خلفه عمر وانتهت بتصفية جسدية، طعن رضي الله عنه وهو في المحراب شهيداً يصلي بالمسلمين صلاة الفجر، ثم خلفه عثمان فتسور القتلة بيته وقتلوه في قعر داره، ثم خلفه علي بن أبي طالب ومات بالتصفية والاغتيال، ذلك شهادة لهم من الله في منازل الأنبياء والشهداء، ولا يزال التاريخ يعيد نفسه جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن.
عمر بن عبد العزيز مات مسموماً رضي الله عنه، وهكذا مات كثير من سلاطين الإسلام وأئمة الدين وعلماء الشريعة بهذا النوع من التصفية، وهذا الأسلوب الوحشي الهمجي، حتى جاء عصر فيه إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رحمة واسعة، ولما خرج من العيينة أرسل وراءه من يشيعه، فإذا بلغ مكاناً معلوماً أمر بان يسل السيف عليه، ويبين رأسه من جسده، فلما رفع السيف وهم أن يقتله عصمه الله، وجمدت يد القاتل وجمد السيف في يده، فعلم ذلك الذي وكل بقتله أن هذا ولي من أولياء الله، عصمه الله بعصمته، فولى أدباره وعاد منكسراً، وحفظ الله إمام الدعوة، وبعد ذلك توالى العداء إلى أن بلغ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، حفيد إمام الدعوة، لما أعلن شرك ووثنية الذين يطوفون بالقبور ويدعون من دون الله، ويستغيثون بالموتى وينذرون لأضرحتهم ويذبحون لها، ضايق ذلك الشياطين، فأسروه وأخذوه ووضعوه في فوهة المدفع.
وقبل أن يضعوه فيه عزفوا الموسيقى تبكيتاً وعناداً له، يعلمون أنه رباني بوحي الله، رباني بكلام الله، يغيظه مزمار الشيطان وكلام الشياطين، فعزفوها أمامه ثم كتفوه وربطوه، ووضعوه في فوهة المدفع ثم ألقوا المدفعية، لتنطلق كلمة التوحيد، وتنطلق أشلاؤه متناثرة في ذلك المكان، وماذا بعد ذلك؟ أنشر فكره وانتشر علمه، ذلك المحدث الجليل حفيد إمام الدعوة، الشيخ سليمان الذي كان يقول: إني لأعرف رجال الحديث أكثر من معرفتي بأهل الدرعية يوم أن كان ساكناً فيها، يعرف الأسانيد والمتون والرجال، بتلاميذهم ومشايخهم، علماً أعظم من علمه برجال الدرعية.
الله أكبر يا عبد الله! كانت نهايته تصفية جسدية، وها هو التاريخ يعيد نفسه، منذ سنتين أو ثلاث فجرت طائرة تقل رجلاً كان نعم العون للمجاهدين وهو ضياء الحق رحمه الله رحمة واسعة، وعفا عنا وعنه، والآن تفجر سيارة عزام، بأولاده ومن معه، وهكذا يستمر أعداء الإسلام، يستمرون في أسلوب التصفية الجسدية، ظناً منهم أن هذا يكبت صوت الحق، ويكتم أفواه رجاله، ولكنهم جهلوا أن موت الرجال انتشار للفكر، وأن موت الأرواح وأرواح الشهداء لا تنتهي، وأن موت الأجساد انتشار للدعوات والمبادئ، قتلوه قتلهم الله، وانتقم منهم، وفضحهم على رءوس الخلائق.(177/2)
ورع الشيخ عبد الله عزام رحمه الله
أيها الأحبة في الله: كان رحمه الله جسراً متيناً بيننا وبين الجهاد، كنا لا نعرف أخبار الجهاد والمجاهدين، وولايات أفغانستان وأخبارها العسكرية، والتموينية، والدعوة في تلك الصفوف إلا عبر مجلته الجهاد، وعبر المجلات التي كانت على نفس الصف والمنوال، البنيان المرصوص، والمجاهد، ولهيب المعركة، والملتقى، كان له دور عاطر واضح فيها، نسأل الله أن يجعل ذلك في موازين أعماله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
يريدون أن يقتلوا الجهاد بقتل عزام، وما علموا أن أماً أنجبت عزام مثلها مئات الأمهات تنجب الأبطال والرجال والأجيال، هنيئاً لمن مات هذه الميتة.
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جباناً
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
كان رحمه الله أستاذاً في الجامعة الأردنية، كان بوسعه أن يكون يوماً ما رئيساً أو ذا منصب مرموق في تلك الجامعة أو ذا منصب في تلك الدولة، ولكنه ترك المراتب والمناصب، والمراكب والمفارش وهاجر بنفسه وبزوجته وبأولاده ووالده وبناته إلى أرض الجهاد، وعاش في بيت متواضع في مكان متواضع، والله -يا عباد الله- كان بوسعه رغم الملايين المتدفقة عليه من أنحاء العالم كي يبذلها في الجهاد، وكفالة الأيتام، وكفالة المجاهدين والشهداء والأرامل، والمعوقين كان بوسعه أن يفتي لنفسه أو يتأول لنفسه ليشتري بيتاً فاخراً فارهاً عامراً أو سيارة مريحة، لكنه سكن بيتاً متواضعاً، سكن داراً صغيرة متواضعة، وركب سيارة صحراوية، سيارة كان بوسعه أن يركب ما هو أفخر وأفضل منها؛ لكنه كان يحاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، كل ذلك ألا يدخل ماله وجيبه، قرشاً واحداً من أموال المجاهدين، في بقعة هاجر إليها وترك تلك البلاد، هاجر إلى أرض قد تكون من دول العالم المتخلفة، أو دول العالم النامية، تنقصها كثير من الخدمات، رضي بأن يعيش هناك وترك عيشة الترف وعيشة الرفاهية، ليختار شظف العيش وخشونته.
كان رحمه الله صديقاً للشيخ تميم العدناني رحم الله تميماً رحمة واسعة، كان مثله يشهد هذه المشاهد والمعارك والغزوات واللقاءات ضد أعداء الإسلام، في يوم واحد، في المأسدة، في لهيب المعركة، لم يشعر المسلمون المجاهدون إلا وسحب الطائرات تحلق على مواقعهم ومعسكراتهم ثم أمطرت نيرانها وقذائفها، والشيخ تميم كان مستظلاً بظل شجرة، لم يستطع أن يتجاوز مكانه؛ لأنه لو جاوز شبراً واحداً من ماطر القنابل والقذائف لنالته، كان جالساً تحت شجرة يقرأ كتاب الله، قرأ خمسة أجزاء من القرآن تحت تلك الشجرة التي تناثرت أغصانها وجذوعها وهو قاعد مكانه، وكل يناديه، تعال يا شيخ! تعال هنا، انج بنفسك، فيقول: أبقى هنا، اسأل الله أن أكون شهيداً، وإن بقي لي حياة تقدمت لأرمي أعداء الإسلام الشيوعيين، كان يريد الشهادة في سبيل الله، لكن نسأل الله أن يؤتيه أجر الشهداء، مات بنوبة قلبية، يوم أن كان مسافراً إلى أمريكا رحمه الله رحمة واسعة، فحزن عزام حزناً بليغاً على فراق صاحبه تميم وكتب في رثائه، ما وهي إلا أسابيع معدودة، فمات عزام شهيداً بعده، فمن الذي يرثيك يا عزام؟ ومن الذي لك إلا الله جل وعلا.
نسأله أن يجعلك من الشهداء، نسأله أن يجعل روحك في الجنة، وأرواح شباب المسلمين المجاهدين، وأن يجمعك بجميع المسلمين في دار كرامته، الله أكبر يا عباد الله! {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
هاجر رحمه الله والله جل وعلا يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج:58] {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] رحمك الله يا عزام.
عرفناك حراً طوال السنين تبيع الحياة لرب ودين
فإن كنت فارقت دار اختبار فأنت شهيد مع الخالدين
نسأل الله أن نكون وإياك مع الشهداء في صحبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قدمت النساء يعزين زوجته جبر الله مصيبتها وخلفها خيراً من ذلك، قدمت النساء يعزين زوجته فخرجت إليهن وقالت بروح الأم المسلمة الصامدة: أتعزونني والله إنها لمفخرة لي أن أقدم زوجي واثنين من أولادي في سبيل الله، أمٌّ لا كالأمهات، أين الأم التي كان ولدها يسافر إلى مانلا وإلى بانكوك وهي تحزم أمتعته وملابسه وتودعه، ولما من الله عليه بالهداية وقال: يا أمي! أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله قالت: لا.
لا يا ولدي، إني أخاف عليك، أتخافين أن يموت؟! يوم أن كنت تحزمين أمتعته وتعدين ملابسة وتعدين متاعه يسافر إلى تلك الدول ما قلت: أخاف عليك أن تموت موتة سيئة، أو أن يختم لك بسوء الخاتمة، ويوم أن أراد الجهاد تقفين له وتقولين: لا يجوز الجهاد إلا برضى الوالدين، نعم.
نحن نقر وندين الله جل وعلا أنه لا يجوز الجهاد إلا برضى الوالدين، ولكن كيف تأذنين له وترضين بسفره هناك، والآن تمنعينه وتقفين أمامه يوم أن أراد أن يموت شهيداً في سبيل الله؟ إذا مات شهيداً كان شافعاً لك عند الله جل وعلا.
عباد الله: اعلموا أنها سنة الله في الحياة، واعلموا أن جثة الشيخ بقيت سليمة لم تتناثر ولم تتجزأ، انشطرت السيارة وتناثرت أشلاء من معه، إلا جثته وحده رحمه الله، فبقيت سليمة صحيحة، ما تناثر منها شيء، ومات ولفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمداً رسول الله في الطريق إلى المستشفى رحمه الله رحمة واسعة، هكذا تحيا الدعوات، وهكذا ينتشر الحق، وهكذا يظهر النور.(177/3)
الجهاد وأهميته في نشر الدين
إن الإسلام -أيها الإخوة- انتشر يوم أن أُريقت دماء أصحابه على أرض الجهاد، وإن الفتوحات الإسلامية توسعت يوم أن سالت دماء الصحابة، ودماء التابعين، وجنود المسلمين على أرض المشرق والمغرب، وهي سنة الله، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة.
لن ينتشر هذا الدين إلا بالجهاد في سبيل الله، شريعة الأمة، شريعة الخلود، شريعة البقاء، فإن كنت حياً فمن السعداء، وإن مت في الأرض، في أرض الجهاد فمع الشهداء، هكذا يعيش المسلمون.
عباد الله: كم من شخص لم يُعرف فكره وصدقُ نيته وصلاحه إلا بعد أن واراه التراب، انتشر وعرف وعلم شأنه وقدره، سيد قطب رحمه الله كان معلوماً لديكم، وقع أن قدم للإعدام في المشنقة، وطلب منه أن يعتذر أو أن يقول كلاماً ليرضي به من حوله، ولكي يخفف عنه الإعدام إلى السجن المؤبد، أو نحو ذلك، فماذا قال؟ إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في كل يوم خمس مرات، يرفض أن يعتذر للطغاة، الله أكبر يا عبد الله! هكذا تنتشر الأديان، هكذا ينتشر الدين وتنتشر العقائد، وبدون ذلك لا تنتشر فكرة ما لم يروها أبناؤها بدمائهم.
وقال رحمه الله في تفسيره في ظلال القرآن حول كلامه عن قول الله جل علا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] قال رحمه الله: وكم من شهيد بلغت دعوته مبلغاً بعيداً، لو قدر له أن يعيش آلاف السنين لم تبلغ دعوته عشر ما بلغت، فهذا عزام مثله، وقبله أئمة الدعوة في نجد، وفي سائر أنحاء المعمورة يوم أن قدموا دماءهم لله انتشر التوحيد، وانتشرت الدعوة، وانتشر فكرهم، الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! على هذه الخاتمة الحسنة وهذه الخاتمة الطيبة، وإنها والله تدفع آلاف الشباب، أن يعلنوا ثباتهم وصمودهم واستمرارهم في لقاء العدو ومواجهة الأعداء، إلى أن يأذن الله لهم أو يفتح الله للمؤمنين أجمعين:
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو رد إيماني ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني
الله يحفظ عباده، والله يحفظ دينه، والله يحفظ شريعته، الله متكفل بحفظ دينه {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(177/4)
الجهاد لا ينتهي بموت أحد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: هل انتهى الجهاد بموت عزام؟ أو هل انتهى الجهاد بمقتل ضياء الحق؟ ولو استشهد قادة الجهاد، لو استشهد سياف أو جميل الرحمن، أو رباني أو حكمتيار أو أي من قادة الجهاد، لو استشهدوا جميعاً في لحظة واحدة، أو في يوم واحد -يا عباد الله- لو استشهد هؤلاء هل ينتهي الجهاد؟ لا والله، الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وإن الذي بعث للجهاد عبد الله عزام لهو بأمره ومشيئته ورحمته قادر على أن يبعث ألف عزام مثله، فنسألك اللهم أن تظهر من شباب المسلمين من يكون على مستوى هذا الرجل أو أفضل منه، لكي يقدم ما يجب عليه تجاه المجاهدين، وإن أرحام النساء ما عقمت أن تنجب مثله.
إن الله جل وعلا علمنا شريعة ماضية وسنة كونية، يوم أن تكلم الصحابة رضوان الله عليهم، وأشيع في معركة أحد أن النبي مات، كان لذلك أثر في قلوب بعض الصحابة، فقال الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] لا والله، لم ولن ينقلب الصحابة والمؤمنون على أعقابهم، ثم لا والله لم ولن ينقلب الشباب على أعقابهم بعد استشهاد عزام، أو بعد استشهاد قادة الجهاد، فكل ماضٍ إلى ما يرضي الله جل وعلا، وكلٌ سائر بأمر الله جل وعلا، ولكن -يا عباد الله- الأمر الذي بقي هو أن عزاماً مات ودفن في قبره، ومازالت صحائف حسناته مفتوحة، تكتب ملائكة الحسنات أعماله، والله إن آلاف المسلمين لم يعرفوا كفالة الأيتام إلا منه، ولم يعرفوا كفالة الشهداء إلا منه، ولم يعرفوا كفالة المعوقين إلا منه، وما التزموا وتحمسوا للبذل والجهاد إلا بفضل الله ثم بفضل خطبه، كل ذلك بفضل الله ثم بخطبه ورسائله ومجلة الجهاد التي كان ملفها في جيبه، مصبحاً وممسياً ماضياً آيباً، مرتحلاً مقيماً في كل مكان ترى معه ملف هذه المجلة، لكي يكتب لي ولك وللخامس والعاشر، ليكتب للمسلمين أجمعين، عن أخبار إخوانه المجاهدين، فهذا رجل مات، ولكن لا زالت حسناته ماضية، وشتان بين رجل يموت كهذا وآخر لا دور له في الجهاد ولا في الدعوة ولا في النفع.
وميت ضجت الدنيا عليه وآخر لا تحس له أنيناً
والناس ألف منهم كواحدٍ وواحد كالألف إن أمر عنا
كان رحمه الله عن أمة، كان رحمه الله عن ألف وآلاف مؤلفة، لا أقول هذا غلواً فيه، ولا أقول هذا مبالغة، ولا أقول هذا إطراءً في المديح، فإن الرجل أفضى إلى ربه ولو كان حياً ما تكلمت فيه على منبر، لكنه أفضى إلى ربه، وإذا كان ولا بد فالكلام في الأحياء فتنة، لكن الكلام في الأموات إظهار لمآثرهم ومناقبهم ومحاسنهم، وأقول: قفوا يا أيها المستمعون، قفوا، وأنصتوا إن أناساً تكلموا في عرضه، وإن أناساً نالوا من سمعته، وإن أناساً لفقوا عليه الأقاويل، وتكلموا في صاحبه الشيخ تميم العدناني، إما بشريط، أو بمقالة، أو بكتيب، أو برسالة، فأقول: إن كان هدفهم النصيحة فما هكذا تورد الإبل -أيها الإخوة في الله- هلا ذهبتم إليه في بيته ونصحتموه إن كنتم ترون شيئاً يستحق النصيحة، لكن الرجل أفضى إلى ربه، فأين لكم أن تقفوا معه أو تجلسوا معه لتقولوا: سامحنا وحللنا وأبحنا فيما نشرناه عنك؟! أو سجلناه عليك، أو قلناه فيك؟! أيستطيع أحد أن يناجيه أو يكلمه عند قبره، لا والله سيقف من تكلم فيه مع عزام رحمه الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، سيقفون عند رب لا يجور، وعند رب لا يظلم، وميزان لا شطط فيه، ليكون القصاص وليكون القضاء فمن الحسنات أو السيئات.
لكني أقول لمن وقع في عرض هذا الرجل أكثروا من الاستغفار له، واسألوا الله له العفو والمغفرة، فلعل ذلك أن يكون سبباً للمغفرة والتوبة عليكم.
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن يكون من شباب أمة الإسلام من يسد هذا الثغر، ينبغي أن يكون من بينكم يا شباب الإسلام من يقوم بهذه المنزلة، وهذه المكانة، فلا تحتقروا أنفسكم أنتم أبناء فطرة، من أرض هي مهبط الرسالة، ومكان تجديد العقيدة، فالله الله لا يثبطنكم الشيطان، أو يحقر من شأنكم، فو الله ثم والله -بمشيئة الله وفضله ومنه- ليكونن على أيديكم خير عظيم في الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تكون بعد ذلك في سجل الخالدين المرموقين الذين يموتون ومازالت معالمهم شامخة، وقممهم باسقة، وشخصياتهم قائمة:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتىً كثير الجود محل فإن بقاءه خصب ونعمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق هم همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
فكونوا من الذين يبكى عليكم بعد موتهم، كونوا من الذين يذكرون بالخير، كونوا ممن تبقى صحائف حسناتهم مفتوحة تنورها الملائكة بالحسنات، تنورها الملائكة بالصالحات ولو كنتم في قبوركم.
أسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وأن يجمعنا به في جنته، وأن يعفو عمن نال من عرضه، وأن يتجاوز عنهم، وأن يوفق الجميع إلى ما يحبه ويرضاه، ونسأله بحفظه وبعزته التي لا تضام، وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظنا ويحفظ ولاة أمرنا، وعلماءنا وقادة الجهاد في كل مكان.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم تب عليهم توبة صادقة، اللهم وفقهم للتوبة النصوح، اللهم اجعلهم خير الشباب لأمتهم، وخير الرجال لأوطانهم، وخير النفوس لأهلهم وزوجاتهم ووالديهم وأولادهم، برحمتك يا رب العالمين! اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغث قلوبنا، اللهم أغث قلوبنا، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد برحمتك يا رب العالمين! اللهم استعملنا بطاعتك، اللهم استعملنا بطاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك، وثبتنا على دينك وتوفنا على ما يرضيك، اللهم لا تقبضنا على خزي، اللهم لا تقبضنا على معصية، اللهم توفنا ركعاً سجداً، مجاهدين مصلين، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، اللهم صل وسلم على محمد وآله وصحبه.(177/5)
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1]
إن الكفار على مر العصور والأزمان ومنذ سالف التاريخ ما زالوا ينفقون أموالهم وما يملكون؛ ليصدوا عباد الله عن دينهم؛ حسداً وحقداً وبغضاً، وفي هذا الدرس تتعرفون على شيء من عداوة الكفار للإسلام وأهله، وطرق محاربتهم للدين الإسلامي، ثم الحث على العمل لهذا الدين وتحويل العواطف إلى برامج عمل في عرض حقيقة هذا الدين بالأسلوب الحسن اللين.(178/1)
عداوة الكفار للإسلام وأهله
الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه هو الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأصلي وأسلم على نبيه وصفيه من خلقه، محمد بن عبد الله الذي بعثه للجن والإنس بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقول الله جل وعلا في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
أيها الإخوة في الله! إن المتأمل لهذه الآية وهذه الحقيقة القرآنية التي لا تتبدل ولا تتغير، يجد مصداقها برهاناً عملياً في واقع العصور والأزمان، فالكفار منذ سالف التاريخ والعصر لا زالوا ينفقون أموالهم وما يملكون؛ ليصدوا عباد الله عن دينهم، حسداً وبغضاً وحقداً، وصدق الله حيث يقول: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105] ويقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109].
فيا معاشر الأحبة! لا شك أنكم تعلمون وتزدادون علماً بما تقرءون وتسمعون، مما يحيكه أعداء الإسلام ضد المسلمين، وكتاب ربهم وسنة نبيهم، وأقلياتهم في مختلف البلدان في هذا الزمان, مما يحيكونه ويدبرونه من المؤامرات التي دافعها الحقد والكراهية، فهم لا زالوا ينفقون وما زالوا يسخرون، وحسبكم أن تعلموا أن كل تركةٍ لا وارث لها فإنها تصرف للمجلس الأعلى للكنائس؛ لكي تسخر في خدمة تنصير المسلمين وإخراجهم عن دينهم، وأن الفوائد البنكية في بنوك أوروبا وفي البنوك الغربية العالمية وغيرها ما لم يأخذها أصحابها فإنها -أيضاً- توجه إلى المجلس الأعلى للكنائس الذي يمون الكنيسة في العالم ويضمن نفقات قسسها ورهبانها وصلبانها وشياطينها، وأن هناك أموالاً تفرض في ميزانيات الدول النصرانية تسخر لخدمة الكنيسة في كل بقاع المعمورة.
فيا أيها الأحبة! والله لو علمتم واطلعتم على ما يملكه الفاتيكان أو ما يملكه المجلس الأعلى للكنائس من أموالٍ طائلة لوقفت شعور رءوسكم من حجم تلك الملايين العظيمة التي سخرت لهذا المجال، سخرت لعقيدةٍ محرفة ولكتاب ملفق، ولعقيدةٍ منسوخة، ولحقدٍ مستمر، ولبغضاء دامية، كل ذلك مسخرٌ، فما يقابل ذلك من جهود المسلمين؟ وما الذي يفعله المسلمون في مقابلة صد عدوان أولئك الكفرة الفجرة؟!(178/2)
طرق الكفار في محاربة الإسلام
أيها الأحبة في الله! إننا إذا تأملنا ما يلزمه أولئك الذين يتخرجون من الكليات الكنسية واللاهوتية حيث يلزم الخريج منهم أو الخريجة بأن يخدم الكنيسة سنةً بعد تخرجه، سنةً مجانيةً على الأقل أو أكثر من ذلك، إما في مجاهل أفريقيا، وإما في دول شرق آسيا، تلك الملايين المسلمة التي فقدت الوعي والتوجيه الصحيح، وسادت في كثيرٍ من البقاع عندهم الطرق الصوفية والمبادئ المنحرفة، وظن كثيرٌ من المسلمين أن هذا هو الإسلام بأسره، سجادةٌ توجه، ومسبحةٌ تقلب، وهمهمة، وكلامٌ قليلٌ وكثيرٌ في هذا، وقد جهل كثيرٌ منهم أن حقيقة الإسلام انطلاق، وأن حقيقة الإسلام قوة، وأن حقيقة الإسلام حركة تأبى الضيم وتأبى الذل والخضوع، إن أعداء المسلمين حاربوا الأمة المسلمة بطرقٍ سافرة وبطرقٍ مزيفةٍ مستترة.
فأما الطرق السافرة؛ فهي الحرب العسكرية، والعداوة العقدية والمواجهة.
وأما الطرق المستترة؛ فهي تشجيعهم لطرق الصوفية وللمبادئ المنحرفة التي تتسمى باسم الإسلام، وهي في حقيقتها تنخر في كيانه وتهدم بمعاولها أساسه، ولذلك لا تعجبوا أن تجدوا من الطرق التي تنسب بهتاناً وزوراً إلى الإسلام والمسلمين تنشط في دول اليهود وفي دول الكفر ولا تجد من يعارضها أو يعاندها!! لماذا؟! لأنها طرقٌ تسمت بالإسلام لكنها تحمل في داخلها وفي طياتها هدماً وتدميراً للإسلام.
أرأيتم القاديانية هي بدعةٌ أول ما ظهرت، ومحنةٌ كافرةٌ أول ما انتشرت، قادها الفاجر المسمى: المرزا غلام أحمد القادياني، ذلك الذي ادعى -فيما ادعى به- شيئاً من المبادئ التي جاء بها الإسلام ثم كشف عن باطله؛ فادعى إبطال الجهاد، ثم ادعى قرب رفعة المنزلة إلى أن قال بنبوته، إن هذه المحنة التي اجمع المسلمون في العالم على تكفير منتحليها وأصحابها، لمحنةٌ كافرةٌ تنشط في إسرائيل، وتنشط في كثيرٍ من الدول التي تعادي الإسلام والمسلمين، ومثلها البابية، ومثلها البهائية، ومثلها كثيرٌ من الطرق التي يتزعمها غلاة الصوفية، وتجدون أربابها وأقطابها وأوسادها في بلدانٍ يجد المسلمون فيها ضيقاً وعنتاً وتشديداً عليهم، أما دهاقنة الصوفية وغلاتها المنحرفون فلا يجدون أدنى أذى، لماذا يؤذى أولئك المعتدلون ويترك أولئك المنحرفون؟! الجواب واضح: لأن أولئك الذين فهموا الإسلام على حقيقته، وأدركوا الدين على حقيقته، يمثلون خطراً على تلك الدول والحكومات الكافرة، وأما أولئك الذين فهموا الإسلام فهماً تقليدياً متقوقعاً وطرقاً صوفية، ومسابح وانكشاف، وإلهامات وتخريفات، أولئك لا يمثلون أدنى خطر، بل إن من أعظم معتقدات أولئك المنحرفين ومبادئهم: البعد عن الخوض في أمور السياسة، والبعد عن الخوض في أمور الحياة وفصل أمور الدين عن واقع الحياة.
فيا أيها الأحبة! افهموا جيداً من هم الذين يعملون للإسلام على الساحة، ومن هم أولئك الذين ينتسبون إليه والإسلام منهم براء، المسلمون في هذا الزمان جاوزوا المليار جاوزوا الألف مليون! ولكن يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلةٍ نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير).
ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظروا تعداد المسلمين اليوم في العالم، إنهم كثير، لكنهم غثاء كغثاء السيل، يقول صلى الله عليه وسلم: (يصيبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت، وينزع الله المهابة من صدور أعدائكم) نعم.
فلم يعد المسلمون يهابون كما كانوا يهابون من قبل؛ لأنهم انشغلوا بالدنيا وتركوا أمر الله وراءهم ظهريا إلا ما شاء الله منهم وقليلٌ ما هم.(178/3)
الحث على العمل لدين الإسلام
فيا عباد الله! انظروا تعداد المسلمين ثم أخرجوا من هذا التعداد أولئك الذين هم على دينٍ صحيح، ثم أخرجوا من أولئك من الذين يعملون ويدعون إلى الله جل وعلا، تجدون أولئك ثلة وقلة ومجموعة يسيرة في واقع العالم الإسلامي، وإذا ما نظرنا إلى تعداد هذه الطائفة القليلة في مقابل جهود أعداء الإسلام، وتعداد مبشريهم ومنصريهم وما ينفقون من أموال ليصدوا المسلمين عن دينهم لوجدتم أن البون شاسع، والفرق واسع، والهوة ساحقة بين أولئك وأولئك، لكن الله جل وعلا بين أن الفجار ينفقون الأموال فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون بما أنفقوا من أموالهم ومأواهم جهنم يحشرون إليها وبئس المصير.
أما أولئك المؤمنون فمع إخلاصهم وبتوفيق الله لهم يوفقهم الله جل وعلا إلى ما يسرهم وينفعهم ويمكن لهم الغلبة، إن يكن منكم مائة يغلبوا مائتين، فالله جل وعلا قد جعل ميزان القوة ليس بالعدد ولا بالتعداد ولكنه بما يكمن في قلوب الرجال من الإخلاص لله والولاء لدينه ولكتابه ولسنة نبيه، والإخلاص لأئمة المسلمين وعامتهم.
فيا عباد الله! بعد هذا كله ليسأل كل واحدٍ منكم نفسه: هل أنت منتسبٌ إلى الإسلام؟ لا شك بأن
الجواب
نعم، إذا كنت منتسباً حقاً فماذا قدمت للإسلام؟ وماذا حقق الله على يديك لدين الله؟ إن كل واحدٍ منكم لمسئول فيما قدم للإسلام وأين موقعه من الإسلام؟ موقعنا: أن وجدت في أرض مسلمة ثم تقلبت في أنواع الأكل والشراب والمسكن واللباس ثم انتهت حياتك وانقضى الأمر بعد مماتك، ثم فارقت الدنيا كمن لا يعرف له شيء، ولم تذكر له منقبة، ولم يشهد التاريخ ولم تشهد الأرض ولم تشهد الناس له بفعلٍ يشهد له به عند الله، أو يشهد له به في خدمة الإسلام والمسلمين.
أيها الأحبة! قد يقول البعض: وما حيلة العاجز؟ وماذا نفعل ونحن لا نقدر؟ الجواب مراراً وتكراراً تسمعونه في الإذاعات وفي المجلات وفي الخطب والندوات، أن كل واحدٍ يقدر على أن يبذل لدينه مهما كان بذله قليلاً أو يسيراً، وبالمناسبة فإن الحديث يجر إلى أولئك الذين ينطلقون قرب الإجازة الصيفية في جولاتٍ وسياحاتٍ وانتقال وسفر، كل واحدٍ منا ومن أولئك ملزمٌ ومسئولٌ أن يجعل في طريقه وفي ذهابه وإيابه وفي حله وسفره وترحاله، مسئولٌ أن يقدم وأن يبذل شيئاً للإسلام والمسلمين.(178/4)
عناصر هامة لتحويل العواطف إلى برنامج عملي
وإليكم عناصر عملية نستطيع من خلالها أن نحول العواطف إلى برنامجٍ عملي، فإن مما يضر بالمسلمين أن تسخن عواطفهم وأن يلهب حماسهم ثم يتفرقون ولا يفقهون ما المراد من الكلام، وما الذي ينبغي عليهم علمه بعد خروجهم من المساجد، إن مما ينبغي علينا أن نعلمه ونفقهه أن من واجبنا إذا سمعنا ندوةً أو خطبةً أو نصيحة أن نتساءل في ختام الأمر ما الخلاصة وما البرنامج وما هي ورقة العمل التي نطبقها في الواقع؟ لا أن نتعود سماع المواعظ ورفع الأصوات وتحرك الآهات وطنين الأنات، ثم بعد ذلك نخرج وكأن شيئاً لم يكن، كمن ينفخ في قربةٍ ثم يجعلها منتفخة مما بجوفها من الهواء ثم يتركها فجأةً، فيخرج الهواء الذي بداخلها وتعود لصيقة الأرض كما كانت، لا نريد هذا بل نريد أن نعرف البرنامج العملي من واقع كل نصيحةٍ أو خطبةٍ أو ندوة.(178/5)
أهمية نشر المطبوعات المعرفة بالإسلام في كل سفر وترحال
أيها الأحبة في الله! كم من أبناء المسلمين من الذين يسافرون إلى الخارج؛ إما في علاجٍ أو في تجارةٍ أو في مهماتٍ أو أعمالٍ أخرى، ما ظنكم لو أن كل واحدٍ سافر معه باثنين كيلو من الكتب التي ترجمت بلغة البلاد التي ينتقل إليها، لو أن كل سائحٍ سافر إلى أوروبا حمل جملةً من الكتب المترجمة باللغة الإنجليزية ثم تركها في الفندق الذي نزله ووزع شيئاً منها على من قابل وعلى من عرف، والله ما هي إلا مدةٌ يسيرة وبلاد الغرب تشهد تجدداً في فهم الإسلام، حتى ولو لم يسلموا لكنهم سيجددون النظر وسيقلبون الفكر في دين الإسلام، وسيعلمون أنهم كانوا لا يفقهون من الإسلام إلا الصور المحرفة والأشكال المزيفة.
أتدرون كيف يفقه الغرب دينكم؟ إنهم يظنونه ضريحاً وقبراً قد سجيت عليه ألوان الزخارف والسجاجيد، ويطوف حوله من يطوف، ثم محاريب نصبت، ومسابح بين الأصابع تقلب، وهز للرءوس، ورقص شرقي، وموسيقى هافته، هكذا يظنون دين الإسلام.
وذات مرةٍ عرض في أحد التلفزيونات الأوروبية على رأس عيد السنة عرضٌ للأديان، فعرضوا شيئاً عن النصرانية، وشيئاً عن بعض الأديان الأخرى، فلما جاء العرض على الإسلام أتدرون بمن جيء؟ جيء بعازفٍ بما يسمى بالقيثارة وجيء بأناسٍ يهزون رءوسهم، وسجاجيد نحو المحاريب وجهت، ومسابح تقلب في الأصابع، وهزٌ للرءوس، هكذا يفهم كثيرٌ منهم دين الإسلام، والله إنهم لا يعرفون جوانب العدل في الحياة الاجتماعية، ولا يعرفون جوانب الإيثار، وجوانب الكفالة، وجوانب الإرفاق، وجوانب التعامل بالأمر بالمعروف ونفع الناس، يجهلون ذلك كله ولو أيقنوا وعلموا حقيقة هذا في دين الإسلام لتجدد الأمر لهم، لكن ويا للأسف إن كثيراً من الأوروبيين لا يعرفون عن أبناء المسلمين إلا من يسألهم عن أجمل حانة وأعتق بارة، وأطيب مكانٍ للهو والخلاعة، يسألونهم عن هذا، فيعرفون أن بعض أبناء المسلمين أو أن جل أبناء المسلمين على هذه الشاكلة وعلى هذا المنوال.(178/6)
أهمية عرض حقيقة الإسلام في كل مؤتمر واجتماع
أيها الأحبة! حدَّث طبيبٌ ذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليشهد مؤتمراً يبحث في دور الكالسيوم في جسم الإنسان، وذكر في رحلته أمراً عجيباً غريباً مما يدل على عزة المسلم، وأن تمسك المسلم يجعل الغرب يلتفتون إلى الدين ويسألون بكل قوة، ويبحثون بكل دقة، ويغيرون الصور التي كانوا يحملونها عن دين المسلمين.
قال: لما حضر المؤتمر وعلى مدى ثلاثة أيامٍ من البحوث التي ناقشت أطروحة المؤتمر، دعي ذلك الطبيب المسلم لكي يستمع أولئك الأوروبيون والغربيون منه كلاماً، فلما قام متحدثاً إليهم قال: لقد أجاد المؤتمرون وأفادوا ببيان دور هذه المادة التي ركبها الله وخلقها في جسم الإنسان، وإني أسألكم معاشر الأطباء والاستشاريين، إني أسألكم: إذا كان هذا دور الكالسيوم في جسم الإنسان، فما دور الإنسان في الحياة؟ فأخذوا يسألون أنفسهم: ما دور الإنسان في الحياة؟ أهو دور الأكل والشرب والنكاح والنوم، هذا دورٌ تشارك البهائم فيه بني الإنسان، ثم بدأ يشرح أن للإنسان دوراً مميزاً مستقلاً، فمازال يأخذ لبهم ويأخذ قلوبهم بأسلوبه العبق وعباراته الرقيقة، فلما انتهى تجمهر حوله أربعون من أولئك، وانفض الاجتماع بإسلام ستة من الأطباء وإسلام طبيبتين.
فيا أيها الأحبة! ليس الأمر منحصراً على من يسافر طبيباً، أو من يسافر مهندساً، لكن الأمر يتضح إذا خرج كل واحدٍ منا في أي مهمةٍ كانت له في داخل بلاده وخارجها ثم رأى أولئك الذين لا يفهمون في الإسلام، ورأوا صدقاً في المعاملة ووفاءً في الأمانة ولطفاً ودعوةً بالحكمة واللين والموعظة، بعد ذلك يستجيبون ويتهيئون ويستقبلون.
فيا عباد الله! لو أن من ذهب إلى بريطانيا أو إلى فرنسا أو إلى أي دولة من الدول حمل معه مجموعة من الكتب باللغة الإنجليزية، كم تشهد الصالة الدولية سفراً ورحلات مستمرة، لو أن كل مسافرٍ حمل في جعبته وفي حقيبته كيلو أو اثنين أو ثلاثة من الرسائل التي توضح دين الإسلام وتبين حقيقته فأعطاها لمن يقابله إما في الطائرة وإما في مكانٍ آخر وإما في فندقه وإما في أي جهةٍ ينزل بها، بعد مدةٍ وليست بالطويلة سيشهد أولئك دعوةً صريحة وقوةً ناطقةً تصحح مفاهيم الإسلام لدى الأمة الغربية ونرد هذا الهجوم بمثله، والله إنكم لتعجبون عجباً عظيماً يوم أن تكشفوا أدق الوسائل واتفه المناسبات التي يستغلها المنصرون لكي يعرضوا دينهم على أبناء المسلمين.
حدثني شابٌ حضر الدورة الأولمبية الأخيرة في سيئول وجاءني بهدية، وجاء مع الهدية بمناظر جميلة من سيئول فقال: لا تبهتك المناظر ولكن انظر إلى ما بقلب الصورة، فلما طلبتها وجدت نصوصاً من الإنجيل معربة مطبوعةً باللغة العربية: هكذا يدعوكم المسيح، وهكذا أحب الله العالم، وهكذا خلص المسيح أصحاب الخطيئة، بمختلف العبارات التي يريدون من خلالها أن يلقي المسلم عن نفسه وعن كاهله شعوره بالذنب والمعصية، ليظن أن المسيح هو المخلص من شؤم الخطيئة ثم يفعل ما بدا له ويحيل الذنب والخطيئة على المسيح، كما هو معتقد النصارى فيما يفعلون ويتركون.
أيها الأحبة في الله: هذا اقتراحٌ أول ولو أن كل مسافرٍ عمل به، ولو أن كل من سافر وانتقل وخالط أولئك دعاهم إلى الإسلام لكنا نشهد دعوةً ودخولاً في دين الإسلام أفواجاً.
وإننا لنشكر الله جل وعلا ثم نشكر الذين يقدمون برامج نافعة في القناة الثانية لدعوة الناس إلى الإسلام، كما ندعو أولئك القائمين عليها أن يجتهدوا مادامت هذه القناة والشاشة باللغة الإنجليزية التي يفقهها كثيرٌ من دول العالم، ونحثهم أن يركزوا البث فيها على ما ينفع دعوة الناس والإسلام، وعلى ما يشرح الدين الصحيح والعقيدة السليمة التي تهدي الناس إلى دين الله، وندعو الله أن يمن عليهم بأن لا يضعوا فيها إلا ما يرضي الله ورسوله حتى لا نكون من الذين ينفقون فيما يضر أنفسهم أو أبناءهم نسأل الله ألا نكون من أولئك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.(178/7)
أساليب لدعوة الكفار إلى دين الإسلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.(178/8)
أثر المعاملة الحسنة في إقناع الناس
أيها الأحبة! إن من أساليب دعوة الكفار إلى دين الإسلام المعاملة الحسنة والصدق والوفاء في المعاملة، إن من الناس من يستقدم من العمال عمالاً يجعلهم في أرض المسلمين، ثم يتركهم كالغنم البهيمة السائحة التائهة في الأرض، ثم إذا جاءوا يبحثون عنه لا يجدونه، ثم إذا جاءوا يستوفون حقوقهم لا يجدون حقوقاً، وبعضهم يتخلص منهم بالإعلان عن تخلفهم وتغيبهم، ثم إخراج تأشيرة الخروج بدون عودة بعد أن يجهز القبض عليهم وإخراجهم وتسفيرهم قبل أن يعطيهم حقوقهم وهذه مصيبة.
إن عاملاً يأتي إلى بلاد المسلمين ثم يخرج ولا يستوفي حقوقه، يعود إلى بلاده ساباً شاتماً مبغضاً لاعناً للمسلمين أجمعين، لا يسب ذلك الذي عامله بالخيانة ولا يشتم ذلك الذي أخلف معه الأمانة، وإنما يظن أن هذا ديدن المسلمين أجمعين، وهذا طبع المسلمين أجمعين في بلادٍ أتى إليها وقدم إليها.
فيا عباد الله! ادفعوا القالة والسوء عن أنفسكم، واتقوا الله جل وعلا فإن الظلم ظلمات، حتى ولو كان الظلم على كافر، واتقوا دعوة المظلوم ولو كان كافراً، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، إن من صدق في معاملة عماله وقام بالوفاء والأمانة معهم، ثم بعد ذلك دعاهم إلى الإسلام وتلطف في دعوتهم سيجد استجابةً عظيمة، وإن مكتب الجاليات في القصيم ومكتب الجاليات في الرياض ومكتب الجاليات التابع لرئاسة دراسات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ليشهد أفواجاً -بحمد الله- يدخلون في دين الإسلام بعد أن يجدوا من يعرض عليهم الإسلام عرضاً ليناً رقيقاً لطيفاً، يدخلون في دين الله سبحانه وتعالى.
فلو أن كل واحدٍ منا مع حرصنا على ألا نستقدم إلا المسلمين، ولكن لو أن كل واحدٍ منا احتك أو رأى كافراً في عمله أو استقدمه في أعمالٍ لا يتقنها إلا أمثالهم، أو وجده في أي مناسبة، فأخذ عنوانه وأرسل إليه كتيباً بلغته التي يفقهها ويعلمها، وأرسل له شريطاً وأرسل مع الشريط شيئاً مما يلطف القلب، فإن هذا مما يهيئ أولئك ومما يجعلهم يستعدون ليدخلوا في دين الإسلام، فينبغي أن نستغل الفرص وينبغي أن نستغل المناسبات.(178/9)
مسئولية المسلمين عن تبليغ الدعوة
كم من كبار الشركات التي تأتي إلى بلادنا وقد تأتي الشركة وتخرج ولم يفق فيها إلا في النزر اليسير، داعيةٌ أو اثنين، والبعض منهم قد يأتي إلى هذه البلاد ويخرج منها ولم يفهم حقيقة الإسلام، إننا مسئولون عن أولئك الذين في أماكنهم وبلدانهم لِمَ لم نبلغ لهم دعوة الله، أفلا ترون أن المسئولية أعظم فيمن جاء من بلاده إلى أرضنا ولم نسمعه كلام الله، ولم نبلغه دعوة الله.
واعلموا أن الوسيلة ميسرة، فاتصالك بمكتب رابطة العالم الإسلامي بـ الرياض، أو اتصالك بمركز الجاليات في الرئاسة العامة للبحوث، أو اتصالك بالندوة العالمية للشباب الإسلامي، أو بغيرها من المؤسسات التي جعلتها هذه الدولة وفقها الله وجعلها مرفوعة بالإسلام، وجعل الإسلام مرفوعاً بها، هي ولله الحمد موجودةٌ ومكاتبها متفرقة في مدن المملكة لو اتصلت بأي جهةٍ من هذه وأخذت منهم أشرطةً وكتيبات ونشرت باللغة التي يفقهها ذلك الذي عرفته أو لقيته أو علمت مكانه سواءً كان عاملاً أو مهندساً، أو صغيراً أو كبيراً، ثم قدمتها له واجتهدت في ذلك، انظر كيف يهدي الله على يديك رجلاً واحداً، يكون ذلك خيرٌ لك من حمر النعم، وإن كل واحدٍ ليسأل نفسه: كم بلغت من العمر؟ هل أسلم على يدي كافر؟ هل اهتدى على يدي ضال؟ هل بلغت دعوة الله إلى من كان يجهلها أو لا يعرفها؟ ومن المؤسف أن نطرق الرءوس وأن نجيب بلا، فيا خيبة الأمة إن كان الأعداء يصلون إليها فلا يسمعون منهم كلام الله! ويا عجب الحال إذا كان الأعداء يبثون أفكارهم، ويبثون دعواتهم ومبادئهم وعقائدهم، يبثونها إلى المسلمين غزواً في عقر دارهم، وما غزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا!! أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم مباركين أينما كنا، وأن يهدي على أيدينا كفاراً إلى الإسلام، وأن يهدي على أيدينا ضلالاً إلى الالتزام.(178/10)
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [2]
معلوم أن المسلم لا يعرف الفراغ سواءً كان في عمل أو إجازة، ولا يعرف اللهو واللعب والبطالة؛ لأنه لا يخلو في كل حال من عبادة يرضي بها الله جل وعلا، وفي بعض الأيام يواجه أبناؤنا إجازة طويلة، قد تكون لبعضهم منحة إلهية ومنة ربانية، وقد تفتح على بعضهم باباً إلى الهاوية والردى، وفي هذا الدرس دعوة إلى الاهتمام بالوقت والمحافظة عليه فيما يعود بالنفع، والتحذير من الإغراءات السامة التي تهدف إلى إفساد الشباب عبر الرحلات السياحية والدورات التعليمية خارج بلاد المسلمين.(179/1)
الإجازة بين الصلاح والفساد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: معاشر المؤمنين! جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) فهذا سؤالٌ سيواجه كل مسلمٍ منا، فينبغي أن نعد للسؤال جواباً، وللجواب صواباً.
أيها الأحبة في الله! مر بنا الحديث في جمعةٍ ماضية عن وصول الإجازة وتباين آراء الناس وأفكارهم في قضائها، ومعلوم أن المسلم لا يعرف الفراغ في كل وقته، سواءً كان في عملٍ أو في إجازة، ومعلوم أن المسلم لا يعرف اللهو ولا البطالة؛ لأن المسلم لا يخلو في كل حالٍ من عبادةٍ يرضي بها الله جل وعلا، سواءً كان في ليلٍ أو في نهار في ذهاب أو في إياب، في حلٍ أو في ترحال.
أيها الأحبة! يواجه أبناؤنا إجازة طويلة، وهذه الإجازات قد تكون بالنسبة لبعضهم فتحاً إلهياً، ومنةً ربانيةً باستقامتهم وثباتهم وحسن إسلامهم، وتكون على البعض باباً إلى الهوى والشهوة، باباً إلى الفساد والغفلة، باباً إلى كل ما يجر البلاء والمصيبة عليه وعلى أفراد مجتمعه.
فأما الذين تكون لهم هذه الإجازات أبواباً إلى الاستقامة وحسن الفقه في دين الله، فأولئكم الذين أعدوا لسؤال المواجهة جواباً، الذين تذكروا يوم يقفون بين يدي الله جل وعلا، ليسألوا عن أعمارهم فيما أفنوها وعن شبابهم فيما أبلوه، أولئك الذين تكون لهم الإجازة منةً ربانيةً للهداية والاستقامة، أولئكم الذين عرفوا قيمة الوقت، أولئك الذين علموا أن الوقت هو الحياة وأن كل يومٍ يمضي إنما يقربهم للأجل، وكل شهرٍ ينطوي إنما يقودهم إلى المنية، وكل سنةٍ تمضي إنما تقفز بهم إلى دارٍ برزخية، فمن أيقن ذلك وعلمه وعلم أن قيمة الوقت مرتبطةٌ بالنهاية، مرتبطةٌ بالمصير والمواجهة، اجتهد أن يستعمل في طاعة الله ومرضاته، واجتهد أن يسخر وقته فيما ينفعه
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا
كثيرٌ من الناس يفرح بمضي الليالي والأيام، أو الشهور والأعوام فرحاً بما ينتظره من حظوظ الدنيا وبما سيناله في مراتب هذه الدنيا الفانية، ولكن البصير الذي يفقه حقيقة الدنيا يعلم أن مضي الأيام فيها إنما يقربه إلى أجله، ومن أدرك أن منيته قد دنت واقترب أجله ومضى أعظم عمره، أو لا يدري ما الذي مضى وما الذي بقي فحريٌ به أن يعد ويستعد، حريٌ به أن يتزود لدار الرحلة ونهاية المصير، نسأل الله لنا ولكم حسن الختام.(179/2)
دعوات لإفساد الشباب في الإجازة
معاشر المؤمنين! أولئك الذين تكون إجازتهم فتحاً ربانياً عليهم من الله، أولئكم الذين اعتنوا بمزيد العبادة، واجتهدوا في الصلاة مع الجماعة، وأشغلوا أوقاتهم بمرضاة الله جل وعلا، وعجبٌ أيما عجب أن ترى الأسئلة الكثيرة عن مشكلة الفراغ وفيما يقضي الناس أوقاتهم، ويفتح دعاة السوء ومزامير الباطل أبواباً من الفتن وصفحاتٍ من البلاء يدعون كثيراً من الشباب لقضاء أوقاتهم وإجازاتهم فيها عبر الرحلات السياحية، وعبر الدورات التعليمية التي يعدونها لأبنائنا خارج بلاد المسلمين.
فلنعلم -أيها الأحبة- أن هذا خطرٌ وأي خطر، وبلاءٌ وأي بلاء، أن يظن بعض من لا حظ لهم من الوعي والفهم أنه يجازي ولده على نجاحه ويكافئه على تفوقه أن يرسله مع بعثةٍ سياحية لتتجول به في دول الغرب أو في أي بلادٍ كافرة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] والبعض يلقي بفلذة كبده إلى التهلكة، والبعض يقذف ويزج بولده إلى الردى والهاوية.
اعلموا يا معاشر المؤمنين: أنما تعلمونه أو تقرءونه أو تسمعونه من دعواتٍ تستجلب أبناءكم وشبابكم لتعلم اللغة الإنجليزية مثلاً عبر بعثةٍ سياحية، أو لتعلم دورةٍ على الحاسبات الآلية خارج أرض المسلمين، إنما هي دعوةٌ سامة قد لبست بالحلاوة وعليها طلاوة الفجور، فانتبهوا لأبنائكم! من ذا الذي يستقبلهم؟ ومن ذا الذي يتولاهم؟ أتهبط بهم الطائرات في مكة والمدينة؟ أتنزل بهم تلك البعثات إلى المراكز الإسلامية، أم تهبط بهم إلى الفنادق وإلى الشواطئ والأندية وإلى صالات اللهو وساحات الرقص؟ أيها الأحبة! الحذر الحذر من أن تزجوا بأبنائكم في مثل هذه الدعوات الباطلة، فإن كثيراً من المسلمين قد يغتر بها ويظن أنها تنمي قدرة ولده، فيحدوه أو يوافقه على التسجيل فيها، ويغيب ولده عن ناظريه شهراً أو أقل أو أكثر ويعود وقد كره مجتمعه وتكبر على ما في مجتمعه من القيم والآداب الشرعية والإسلامية، ويعود وقد تبرم من هذه المحافظة ومن هذا الستر، وقد جعل في قلبه نية العودة بعد الفرار من سيطرة والده عليه.
إن كثيراً من الناس يشكو كيف تمرد ولده عليه وقد نسي أنه هو الذي فتح له باب التمرد، إن كثيراً من الناس يتألم لما أفلت زمام ولده من يده ونسي أنه هو الذي قدم له الزمام وأفلت له الخطام فجعله يعيش ويلهو أينما شاء وحيثما شاء وكيفما شاء.(179/3)
الإجازة مزيد من الفهم والوعي
فيا عباد الله! اعلموا أن الإجازة مزيدٌ من الفهم مزيدٌ من الوعي مزيدٌ من العلم والإدراك لمن قام بما أمر الله وانتهى عما زجر الله، الإجازة نافعة والإجازة فرصةٌ بما فيها من مزيدٍ من الوقت لأن يرفع المسلم كفاءته وينمي قدراته، ويفتح أبواب مواهبه لتنطلق بناءةً نافعة فيما ينفعه وفيما ينفع أسرته وأبناءه.
أما الذين يظنونها وقتاً يحتاج إلى القتل، ومصيبةً تحتاج إلى الإزهاق، فأولئك في الغالب لا يستفيدون من إجازتهم إلا مزيداً من البلاء والمصيبة، الوقت من أعظم النعم والمواهب لمن رزق فيه بعدم الانشغال بالضروريات وقد كفي مئونتها فله حظٌ في أن يسمو على أبناء جنسه، وأفراد مجتمعه بما يستغله من وقته وكان عون الدين بن هبيرة الوزير رحمه الله رحمةً واسعة، كثيراً ما يردد قوله:
والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
وكان علامة الشام جمال الدين القاسمي رحمه الله إذا مر بأهل اللهو والفراغ والبطالة قال: والله لو تشترى الأوقات لاشتريت أوقاتكم! لما علموه من أن هذه الأوقات ضروف ومجالاتٍ تملأ بالعبادة والأعمال الصالحة.
كيف كان أبناء السلف وكيف كان السلف وكيف كان الصحابة يملئون أوقاتهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل لهو امرئٍ باطل إلا تأديبه ولده، أو تعليمه فرسه، أو ملاعبته زوجه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فاعلموا أن أي برنامجٍ ينشغل فيه الواحد عما يعود عليه بالنفع العام فيما يقربه إلى الله، أو فيما هو مختص بما ورد في هذا الحديث فليعلم أنه لهوٌ باطل ألا فليغير برنامجه وليغير منهجه وليستفد من وقته ما دام الفراغ ممكنا والاشتغال بعيداً.
أسأل الله جل وعلا أن يحسن لكم الخاتمة، وأن يستعملنا في مرضاته، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.(179/4)
أهمية المحافظة على الوقت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة؛ وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: قضاء الإجازة أو وقت الفراغ يعود لكل واحدٍ بالنسبة لحاله ومرتبته ومكانته، فأما سائر الشباب فإنا ننصحهم على اختلاف مستوياتهم أن يملئوا أوقاتهم بما يرفع قدراتهم، فمثلاً: تمضي هذه الإجازة بشهرين أو بثلاثة وقد كنت لا تحفظ من القرآن شيئا فلو قررت ألا تنتهي الإجازة إلا وقد حفظت من القرآن حظاً طيباً فهذا قرارٌ رشيد، وحظٌ جزيلٌ لمن قام به وناله، وما الذي يمنع الكثير منا وهو يملك في كل يومٍ وليلة أربعاً وعشرين ساعة، أيعجزه أن يقضي ساعةً في بيتٍ من بيوت الله عند أحد القراء الحافظين؛ لكي يحسن تلاوته ولكي ينمي موهبته ولكي يزيد حظه من كلام الله جل وعلا.
إن من قام ولو بساعةٍ واحدة في كل يومٍ عبر هذه الإجازة لقادرٌ أن يحفظ ثلث القرآن كاملاً بلا شك أو تردد، فما الذي يعيقنا أو يردنا أو يمنعنا إلا أن الأوقات تضيع في السبات العميق، وفي النوم الطويل وفي الذهاب والإياب مع أناسٍ قد لا يعود الذهاب والإياب معهم بحظٍ وافرٍ من الأجر على النفس.
فيا عبد الله: قارن نفسك إن كنت تحترمها، وقارن وقتك إن كنت تقدر قيمته قبل الإجازة وبعدها في بداية الإجازة ونهايتها، إن كنت ممن يحترم نفسه فأنت ممن يحترم وقته، ومن قدر قيمة الوقت وضع القرارات المناسبة لما يملأ به وقته ليجد نفسه أمام آخر يومٍ من أيام الإجازة، هل حقق ما قرر أم لا؟
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني
أما الذين يسوفون وليتنا ولعلنا ولو أننا إلى آخر ما يرددون به على أنفسهم ويتمنونه، فإن التمني رأس أموال المفاليس، فأولئك يبدءون أعواماً وليست إجازات، وتنتهي سنوات وليست لحظات وهم على مكانهم عرفناهم قبل خمس أو عشر سنين وهاهم اليوم كما عرفناهم لم يزدادوا فقهاً ولا حفظاً ولا علماً ولا دعوة، فمن كان يعرف قدر نفسه وقيمة وقته فليقارن بين بدايته ونهايته ليعلم إن كان حقق نجاحاً ليحمد الله أو ليقيم نفسه في عداد الذين لا يعرفون لأوقاتهم قيمة، إن أصحاب المشاريع ليضعون المخططات ثم يقسمون مراحل العمل على مرحلةٍ أولى، فيقدرون أنهم في الشهر الأول ينهون هذه المسافة من هذا المشروع، وفي الشهر الثاني ينهون هذه المسافة من هذا المشروع وفي الشهر الثالث يكملون مشروعهم كاملاً، فحريٌ بنا ونحن نعنى بأوقاتنا فيما يقربنا إلى طاعة ربنا أن نجعل المخطط أمامنا وأن نبني المشروع بين أعيننا، فمشروعنا كتاب الله، من ذا الذي يعاهد ربه في هذه الإجازة أن يحفظ حظاً من كتاب الله جل وعلا، من ذا الذي يعزم بنفسه على أن ينال حظاً من سنة رسول الله، أين داعية يعزم على نفسه أن يهدي الله على يديه في هذه الإجازة أربعةً أو خمسةً من الشباب، يردهم إلى المساجد بعد أن كانوا لا يصلون، يردهم إلى البر بعد أن كانوا يعقون، يردهم إلى الصلة بعد أن كانوا يقطعون، هذه مشاريع الشباب المسلم في هذه الإجازة، حفظ لكتاب الله، وفقه لسنة رسول الله، ودعوةٌ إلى الله، وهداية للضلاّل إلى صراط الله، وعملٌ بما يقربهم إلى مرضاة الله جل وعلا.
أما الذين تبدأ الإجازة وتنتهي ولم يزدادوا بها إلا كسلاً ونوماً وخمولاً، فأولئك قد دفنوا جزءً عظيماً ووأدوا حظاً وافراً من أعمارهم.(179/5)
الواجبات أكثر من الأوقات
أيها الأحبة: من أدرك قيمة الوقت ما عاد لديه فراغٌ يشكو منه، الواجبات أقصر من الأوقات، فلو اعتنى كل واحدٍ منا ببر والديه وصلة رحمه وزيارة إخوانه في الله، والتقلب في أنواع طاعة الله سبحانه وتعالى، والمشاركة بما يجعل له حظاً في الدعوة إلى الله لما وجد وقتاً يشكو من فراغه، بل لتمنى أن اليوم والليلة ثمانية وأربعين ساعة بدلاً من أربعٍ وعشرين ساعة، لما يجد من الواجبات التي تحتاج إلى مزيدٍ من الأوقات لقضائها.
وإننا لنعرف شباباً يحصل لهم في هذه الإجازة فتور وكسل وتهاون، والسبب والله أعلم عائدٌ إلى تفلتهم من مجالسة الأخيار وتساهلهم بمقارنة الأشرار
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
فمن صاحب الأشرار يوماً يعد في جملتهم وقائمتهم، ومن صاحب الأخيار نال شرف النسبة إليهم.
فيا شباب الإسلام! الله الله لا تنقطعوا عن إخوانكم في الله بل إن الإجازة لفرصةٌ ممكنة في أن توثق الروابط، وأن تتعمق الصِلة بإخوانكم في الله الذين تذكركم بالله رؤيتهم، وتعينكم على الحق مصاحبتهم، وتذكركم مصاحبتهم ما نسيتم من أمر الله.(179/6)
الإجازة فرصة لتنمية المواهب
فيا شباب الإسلام! الإجازة فرصةٌ لتنمية المواهب ورفع القدرات والكفاءات، ألا ليت شاباً يأنس من نفسه حب الوعظ والإرشاد، يتجول في المساجد لكي يستأذن الإمام في أن يلقي كلمةً يتدرب بها على الإلقاء وعلى الوعظ والإرشاد، فما تمضي هذه الإجازة إلا وهو في عداد المرشدين النافعين، ألا ليت شاباً يعرف قيمة هذه الإجازة فيقرر أن ينال حظاً وافراً من الدعوة إلى الله: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) فلو عرفت جاراً لا يصلي وقررت أن يكون هذا الجار هو مشروعك في هذه الإجازة، فبدأت بهديته ومضيت على نصيحته، ولاطفته فيما يقربه إلى الله فنلت محبته ونلت مودته، فهداه الله على يدك، أي نصرٍ وأي نجاحٍ وأي فلاحٍ أعظم من أن تنال عباداتٍ كاملة، يقوم بها رجلٌ سواك وكل عملٍ يفعله فلك مثل أجره: (من دعا إلى هدى فله مثل أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة).
شباب الإسلام! المراكز الصيفية تفتح أبوابها بما فيها من مختلف الأنشطة الرياضية والاجتماعية والفكرية، فهلم إليها وتوجهوا إليها واستفيدوا مما يدور فيها، وإن البعض ليقول: قد شاركنا فلم نستفد، أقول: نعم، من شارك مشاركةً سلبية فلن يستفيد شيئاً، ومن شارك مشاركةً إيجابية فسيستفيد بإذن الله خيراً عظيماً.
كثيرٌ من الشباب حينما ينتسب إلى مركزٍ صيفي أو مكتبةٍ خيرية أو صحبةٍ صالحة، تراه مطرقاً ساكتاً صامتاً قد يمنعه الخجل والحياء، فليعلم أن العلم والفضل لا يناله مستحٍ ولا مستكبر، إن الحياء الذي يردك عن مزيد العلم لا يعتبر حياء، وإن التكبر الذي يردك أن تتواضع لكي تتعلم لمن أخبث الطباع أيضاً، فشارك في هذه المراكز وبادر إليها وكن عنصراً إيجابياً في كل مجالاتها، وقارن نفسك قبل الالتحاق بها وبعد الخروج منها، ستجد أنك نلت حظاً عظيماً، ولقد عرفنا كثيراً من الخطباء وكثيراً من الدعاة وكثيراً من الذين واصلوا تعليمهم كان الفضل لله، ثم لهذه المركز الصيفية يوم أن التحقوا بها وشاركوا في أنشطتها فعرفتهم قيمة أنفسهم وثمن أوقاتهم بإذن الله جل وعلا.
فالله الله يا شباب الإسلام! لا تضيعن الإجازة سدى واعلموا أن بناتكم -أيضاً- يواجهن قضية الإجازة، ولعل المشكلة تكون أكبر بالنسبة للفتاة، فالواجب على كل شابٍ وعلى كل زوجٍ وعلى كل أخٍ أن يجعل في بيته منتدىً إسلامياً ومركزاً صيفياً ونشاطاً يومياً، يقدم كل يومٍ شريطاً جديداً لزوجته أو لأخته أو لأهل بيته، يقدم كل يومٍ مجلةً إسلامية تحوي أخبار المسلمين ومختلف المواضيع، يقدم كل يومٍ برنامجاً نافعاً لا أن يستمتع هو بإجازته وأخته أو زوجه أو أهله حبيسة البيت، لا تستفيد من إجازتها شيئاً، فالأقربون أولى بالمعروف.
وابدأ بنفسك ثم بمن تعول فهم أحق من يحتاجون إليك في هذه الإجازة، فأعنهم وشاركهم في قضاء أوقاتهم بما ينفعهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بشبابنا ضلالة وأراد بنسائنا تبرجاً واختلاطاً وسفوراً، وأراد بعلمائنا مكيدة، اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره في تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعهم بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم أسبغ وافر الرحمة على قبره، وافتح له باباً إلى جنتك يا رب العالمين.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.(179/7)
قصة من آثار الخدم
إن من المخجل والمخزي ما تهاون به كثير من المسلمين من استقدام الخدم والخادمات من غير حاجة ماسة لذلك، أو مراعاة لمصلحة راجحة أو غير راجحة، وفي هذه المادة يتكلم الشيخ عن جملة من الإرشادات التي ينبغي مراعاتها لمن ابتلي بالخادمات في بيته.(180/1)
أمور في استقدام الخادمات
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: الحديث عن الخدم والخادمات معلوم لدى الجميع شيء كثير عنه؛ لكثرة ما يتعرض له في الإذاعات والندوات والخطب وغيرها، لكن الذي نريد أن ننتبه له في هذه الخطبة، هو أن نعلم جملة من القوانين والإرشادات التي ينبغي مراعاتها لمن ابتلي ببلية الخادمات في بيته، وقبل أن نفصل في ذلك فلا بد أن نذكر أن الكثير منا يعلم أضرار استقدامهن ومساكنتهن ومخالطتهن في البيوت مع الأطفال والشباب وأفراد الأسرة، لكن البعض ابتلي بهن للحاجة الماسة إليهن؛ لظروف مرض أو عجز أو حاجة، كل يختص فيما دعاه إلى استقدامهن.
أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أنه لا ينبغي لأحد أن يجعل خادمة في بيته إلا لحاجة ماسة ومصلحة راجحة، تدعوه للإقدام على ذلك، ومن أجلها يضطر أن يتحمل جزءاً من سلبيات هذا الاستقدام محاولاً تلافي ذلك ما أمكن إليه سبيلاً، لكن المؤسف والمخجل هو ما تهاون فيه كثير من المسلمين في هذا الباب حيث فتحوه على أنفسهم، فأخذ كل يستقدم من غير مراعاة لحاجة ماسة أو غير ماسة، من غير مراعاة لمصلحة راجحة أو غير راجحة، ومن صريح القول -أيها الإخوة- أن نحدد النقاط التي نريدها كما يلي:(180/2)
استقدام أكثر من خادمة
الأمر الأول: يستقدم البعض منا أكثر من خادمة في حين أنه لا يحتاج إلا لواحدة فقط أو قد لا يحتاج، لكن المباهاة والمفاخرة جعلت بعض المسلمين يستقدم الخدم من دون حاجة، ويستقدم أكثر مما يحتاج إليه، وهذا الأمر هو الذي فتح باب الفراغ القاتل والبطالة الخطرة على بعض الفتيات، وسينتج هذا أو قد أنتج عدداً كبيراً من الفتيات اللاتي لا يعرفن إعداد أدنى واجبات المنزل، ويبدو هذا واضحاً عندما تتزوج الواحدة منهن فتقع في خلاف ومشاكل زوجية، فهي لم تتعود سلفاً أن تعد الطعام، أو أن تجهز الملابس، أو أن تعتني بالبيت، بل قد كان ذلك من واجبات الخادمة، ومن ثم سيضطر زوجها إلى طلاقها أو البقاء معها في مناخ تسوده الخلافات وسوء العشرة.(180/3)
التهاون في لباس الخادمة ومخالطتها
الأمر الثاني: أن البعض منا حينما يستقدم خادمة لحاجة لا بد منها، تراه يتهاون في حجابها ولباسها وحشمتها أمامه وأمام أولاده، ومن المؤسف أن ترى كثيراً من المسلمين لا تتورع الخادمة في بيته أن تلبس ما شاءت من لباس زاه أو خفيف يشف ويكشف عما تحته من أجزاء بدنها وعورتها، ولا تتردد أن تدخل وتخرج أمام رب المنزل بهذا اللباس، ولا شك أن هذا من الحرمة بمكان، ولما ينتج عنه من إفشاء نيران الشهوة والفتنة المحرمة، والرغبة في الخلوة وتزيين الفاحشة والعياذ بالله.
ومن المؤكد أن السبب في تساهل الخادمة بأمر الحشمة إلى هذا الحد هو صاحب المنزل الذي استقدمها، وسكت عن بداية تهاونها حتى أغرقت في سفورها عن مفاتنها أمامه وأمام أولاده، فتنبهوا لذلك -يا عباد الله- وليحرص من ابتلي بالضرورة والحاجة إليهن أن يبقي حاجزاً كبيراً في المعاملة معهن، ولا يتباسط في المعاملة والحديث؛ لكي يجعل الخادمة تعاب منه ومن الدخول عليه وهو في أي مكان في منزله، وليجعل من زوجته أو بناته وسيلة الاتصال فيما يأمر بإعداده وتجهيزه.
ولقد نتج من تهاون كثير منا بحشمة الخادمة أن أصبحت الخادمة تدخل على الواحد في حجرة نومه أو بيته من غير مراعاة لأدب أو حياء، ومن ذلك خروج الخادمة مع زوجة الرجل كاشفة حاسرة عن وجهها وشعرها، وذلك لا شك يعرض الجميع -يعرض الزوجة والخادمة- لأطماع الشاذين والمنحرفين أياً كان ذلك الخروج، سواءً كان في السيارة أو في السوق أو في الطريق، وربما جرت الخادمة البلاء والمكروه لزوجة الرجل في داره بسبب خروج الخادمة بهذه الطريقة.
ومن ذلك خروج الخادمة بمفردها أو مع خادمة أخرى، وهذا كثيراً ما نراه في هذه الأيام، تخرج الخادمة بمفردها أو مع غيرها في بعض الأوقات في وقت متأخر من الليل، أو مبكر في الصباح في حين خلوة؛ لشراء بعض الحاجات المنزلية، وهذا -أيضاً- أمر خطير، إذ أن تلك الخادمة المسكينة قد تقع في شباك الفاحشة بإغراء المال الذي لم تترك بلادها إلا لأجله، أو بالفتنة والخلوة وتزيين الشيطان أو غير ذلك من الأسباب.(180/4)
استقدام الفتاة الصغيرة الجميلة
الأمر الثالث: أن بعض الذين يحتاجون إلى الاستقدام يستقدم فتاة صغيرة جميلة يتراوح عمرها بين الثامنة عشر أو الخامسة والعشرين أو بين ذلك، ولا شك أن رجلاً كهذا استقدم وصيفة أو جارية ولم يستقدم خادمة، إذ أن الفتاة الصغيرة أو من تكون في هذا السن أقرب إلى الشهوة والفتنة من غيرها، وذلك لشباب عمرها وضعف عقلها، خاصة إذا كان في المنزل شباب في سن المراهقة أو حول سن المراهقة، فإن هذا -يا عباد الله- استقدام مصيبة وبلية لا خادمة، إذ من الواجب على من احتاج لهذا أن يستقدم امرأة جاوزت الثلاثين من عمرها تقريباً، غير جميلة وفاتنة.
ومن المضحك المخزي أن ترى واحداً قد استقدم خادمة أصغر وأجمل من زوجته إلى حد كبير، فيا ليت شعري أي باب من الفساد في حياته الزوجية قد فتحه على نفسه.(180/5)
استقدام الكفار
الأمر الرابع: أن بعض من احتاج لاستقدام الخدم والخادمات يستقدم الكفار ولا يرغب في استقدام المسلمين، وهذا لا شك أنه لا يجوز؛ لمخاطر الخادمة الكافرة في الدين والعقيدة والتربية على الأطفال والنشء والصغار، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب وقال: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً) رواه مسلم.
واستقدام الكفار قد يدخل في موالاتهم والعياذ بالله، فكيف يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من جزيرة العرب والبعض منا إذا جاء يريد أن يكتب توكيلاً أو يطلب خادمة يقول: أريد كافرة لا مسلمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(180/6)
سوء المعاملة مع الخدم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ شد في النار عياذاً بالله من النار.
معاشر المؤمنين: إن بعض المسلمين الذين اضطروا إلى استقدام الخادمات لا يتقون الله جل وعلا في معاملتهن، ويحملونهن من الأعمال والبلاء ما لا تطيقه الواحدة منهن، وهذا والله ظلم عظيم، وأشد الظلم ما كان لضعيف لا يملك لنفسه حولاً ولا طولاً ولا قوةًَ إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المؤمنين: إن بعض الذين يقسون في معاملة الخادمة، سواءً كان الذي يعاملها هو الرجل أو المرأة، ولا ينبغي للرجل أن يأمرها أو ينهاها وإنما ينبغي له أن يجعل زوجته وسيلة الاتصال بذلك، أو أن يأمر وهو في مكان بعيد يسمع صوته ويلبى ما يريد، ويوضع في مكانه بحيث لا تحصل الخلوة أو تتكرر المشاهدة والمقابلة، إن بعض الذين يقسون في معاملة الخادمة يضطر الخادمة إلى أن تنتقم منهم انتقاماً في أي مكان استطاعت أن تنثر غيظها فيه وأن تضيح بمكلوم بغضها لما لاقته من هذه المعاملة الشرسة، وعلى أقل الأحوال إن عادت إلى بلادها وقد سلم أهل المنزل منها تعود بمفهوم سيئ عن المسلمين في معاملتهم، وتعود بمفهوم سيئ عن المسلمين في تطبيق أحكام دينهم، وهذا باب من الفساد عظيم.(180/7)
عواقب سوء المعاملة مع الخدم
إن الذين يعاملون الخادمة بهذه الطريقة القاسية فلا يراعون ما يحل بها من المرض أو الجهد أو الضنك، إنهم بذلك لا يخشون الله في هذه المسكينة، رغم الحاجة إليها فإنه لا ينبغي لأحد أن يحملها من العمل والجهد ما لا تطيق، ومن خالف ذلك فإنه على خطر أن تنتقم الخادمة منه خاصة إذا كانت كافرة، ولا ينبغي لمسلم أن يستقدم كافرة.
ولقد سمعنا كثيراً وكثيراً عن عدد من الخادمات اللاتي انتقمن بسرقة الذهب والمجوهرات وغير ذلك، أو على أقل الأحوال إتلافها، انتقمت بإتلاف كل ما هو ثمين في المنزل خشية أن يكشف معها على الحدود أو المطارات، فجعلته في مكان لا يعرف أو ألقته في مكان يجل المسجد عن ذكره، إن ذلك كله بسبب القسوة والمعاملة السيئة، إذ أنه لا بد للإنسان حينما يرى تهاوناً أو تكاسلاً يريد لهذه الخادمة أن تنتبه إليه أن يجعل ذلك عبر زوجته، وأن تنبهها بأسلوب لطيف كي لا تنتقم من أولاده أو من زوجته أو أي فرد من أفراد الأسرة.(180/8)
صورة من انتقام الخادمات لسوء المعاملة
علمت علم اليقين بحادثة دامية، وحادثة هي التي جعلتني أكتب هذه الخطبة، وهي أن خادمة -وهي كافرة- كانت تلقى معاملة سيئة، والأصل أنه لا يجوز استخدام الكافر والكافرة، وكلكم يعلم هذا، وتردد هذا كثيراً في الندوات والخطب والمحاضرات.
استقدم خادمة كافرة، وكانت تلقى قسوة في المعاملة من صاحبة المنزل فيما يبدو ذلك، فلما قرب أو بقي مدة لا بأس بها على ذهابها إلى بلادها وتسفيرها وخروجها ماذا فعلت؟ في حين غفلة من أهل المنزل، وفي حين عدم وجود صاحب المنزل، والأم في غفلة عظيمة عن أولادها وأطفالها، أسأل الله أن يجبر مصيبتها فيما حل بها، أمسكت تلك الخادمة الخبيثة بالطفلة الصغيرة فذهبت بها إلى دورة المياه ووضعتها في مكان يسمى البانيو، فلما وضعتها أخذت شيئاً حاداً أشبه ما يكون بالشاطور فضربت به بين مفصل رقبتها وكتفها ضربات متعددة حتى أزهقت روحها، وجعلت دماءها تطيش في هذا الحوض داخل دورة المياه، ثم اتجهت إلى أخيها الصغير وأرادت أن تنتقم منه وطعنته طعنات متعددة فسمعت الأم بسبب صراخ طفلها، فجاءت لتنظر ما الخبر، وإذ بها ترى طفلة تتشحط في دمائها، وطفلاً قد طعن طعنات في زند يده، فأخذت تدافع وهمت الخادمة بقتل الأم -أيضاً- ثم تعاركت معها في عراك شديد، فأعان الله الأم عليها ودفعت بها في مكان وأقفلت عليها، واتصلت بزوجها ودعت سلطات الأمن والشرطة للتحقيق في ذلك، ولما حقق معها ماذا قالت؟ قالت: كنت أريد أن أنتقم من أفراد المنزل كلهم جميعاً، أريد أن أقتلهم جميعاً.
هذا ما صرحت به ونطقته في هذا التحقيق الذي علمته علم اليقين ولا أقوله نقلاً عن فلان أو علان، إنها لحادثة مؤلمة، إنها لحادثة تجعل الإنسان يسأل الله جل وعلا ألا يحيجه إلى هؤلاء الخدم والخادمات، وأن يستغني بما آتاه الله جل وعلا عنهن أياً كانت الظروف، وأياً كانت الأسباب والمسببات، ولكن إذا كان لا بد للإنسان منهن؛ فليتق الله في المعاملة، وليحرص على عدم استقدام الكافرة التي لا دين لها يردعها، ولا عقيدة في قلبها تمنعها، ولا تعرف إلا الانتحار حين تفعل ما دار بخلدها، وحينما تطبق ما تريد أن تفعله في أهل الأسرة انتقاماً منهم، الكافرة لا دين لها، الكافرة لا عقيدة لها فكيف نرضى أن نجعلها في بيتنا؛ نأكل من طبخ يديها، أو نشرب من إعداد يديها، أو نرضى أن تمس أطفالنا أو تمس عوراتهم؟ هذا والله بلاء عظيم! وهذا قد يدخل في ضعف الولاء والبراء، وضعف الموالاة والمعاداة في الله.
لا ينبغي لأحد أن يستقدم الكافر والكافرة أياً كانت الظروف ما دام يجد عن ذلك بديلاً ولغيره سبيلاً، لا بد أن يمتنع وينتهي أقوام عن وجود الخادمات الكافرات في بيوتهم، وعليهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يبادروا بتسفيرهن وإخراجهن أياً كانت الخسارة، بضعة آلاف لا تتجاوز الأربعة أو الخمسة في سبيل بقاء الأسرة على مستوى من صفاء العقيدة ونقاء الدين.
أما المسلمة التي يستقدمها الإنسان في حاجة إليها فعليه أن يراعي ما ذكرنا ذلك كله.
وإن من البلاء: أن بعض المسلمين -هداهم الله- يهين الخادمة إهانة عظيمة، فتجده يمرح ويضحك مع أصدقائه وزملائه ثم يصيح للخادمة بأعلى صوته أن تحضر له الشاي والقهوة، فتأتي هذه المسكينة تمشي على استحياء وتدخل والنظرات تأكلها من مفرق رأسها إلى أخمص قدمها، تنظرها العيون مقبلة مدبرة، وتدخل على الرجال لكي تضع ما بيدها من شاي أو غير ذلك.
أما يتقي الله ذلك الذي استقدمها كيف يرضى أن تدخل بين الرجال؟ ما دمنا قد غضضنا النظر مع شعور الإنسان بالخطأ وشيء من الإثم والمخاطرة في استقدامها بدون محرم لها، فما الحال في دخولها على الأجانب، وما الحال في تعويدها على الدخول على الرجال، إما أن تقدم شيئاً أو تخرج شيئاً، هذا غلط عظيم وشر جسيم، وبلاء قد عم كثيراً من المسلمين وأخذوا يتهاونون به.
عباد الله: اتقوا الله في معاملة أولئك الضعفاء الذين اضطرتهم الحاجة إلى المال وإلى لقمة العيش إلى السفر، وخلفوا أطفالاً صغاراً وعجائز كباراً، خلفوا كل ذلك لكي يأتوا بقليل من المال، فما بال بعضنا يفتن الواحدة في عرضها وفي دينها، ويكسر حجاب حيائها وحشمتها في إدخالها أمام الزوار في المجالس ذاهبة آيبة، أو بأمرها أن تخرج إلى السوق أو الدكان لتحضر له شيئاً مما يريد، وهذا ينافي تعاليم الإسلام وآدابه، وإن من فعل ذلك لعلى خطر عظيم.
أما تخشى الله جل وعلا الذي أعزك في بلاد عز وأكرمك في أرض كرامة، وآتاك من المال والجاه والمتاع، وجعل أولئك يبتلون في مالهم وأنفسهم فاضطروا أن يهاجروا رجالاً ونساءً ليخدموك؟ أما تخشى الله أن يزيل الدولة وأن يغير الأيام {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]؟ أما تخشى الله الذي جعلك غنياً وجعلها فقيرة أن يجعلك فقيراً ويجعلها غنية؟ اتق الله في هذه المسكينة التي في يدك، إذا كنت في غير حاجة لها فاحرص ما استطعت أن تستغني عنها، وأن تبقى سعيداً في بيتك مع أولادك لعدم وجود من يكدر صفو هذه الخلوة مع زوجتك وأولادك، فإذا كان لا بد منها لحاجة لا مفر منها فعليك أن تتقي الله فيها.
لا تخرجها في سيارتك حاسرة الوجه والرأس، ولا تتحدث معها، ولا تجعلها تدخل عليك، واجعل وسيلة الاتصال بها زوجتك، ولا تخرجها إلى السوق لكي تحضر شيئاً من الحاجيات من الدكان أو غيره، وإذا رأيت ما تكره كذلك فازجرها وانهرها، وإن رأيتها متهاونة في لباس فازجرها ومرها بلباس حشمة، فإن ذلك أتقى لك ولها، وأقوم لأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر.
ولا تحملها من العمل ما لا تطيق، وعلم زوجتك أن تحسن معاملتها؛ فإنك إن أسأت المعاملة وظننت أنها مسكينة ضعيفة لا تملك أحداً تشكو إليه الحال إلا إلى ربها، فإنك بذلك قد تجني هذه النتيجة في أولادك وفي زوجتك والعياذ بالله.
نسأل الله جل وعلا ألا يعرضنا للفتنة والبلاء، وأن يحفظنا بالإسلام قائمين قاعدين، اللهم احفظنا بحفظك، اللهم اكلأنا بعنايتك، اللهم احرسنا بعنايتك يا رب العالمين! معاشر المؤمنين: اتقوا الله في هذا الأمر كثيراً، وأمروا من تعرفونهم يتهاونون في ذلك، ومن المؤسف المخزي -أيضاً- أن بعضهم لا يصرف لها رواتبها، ولا يعطيها حقوقها، ولا يكرمها بما يكرم به أهله، والواجب على الإنسان الذي اضطر إليها أن إذا أتى بشيء من الملابس أو غير ذلك أن يشتري ولو حاجة بسيطة يدفعها لزوجته تقدمه إليها تطييباً لخاطرها، وإشعاراً لها بخاطر الرحمة والرأفة والشفقة والمودة من إخوانها المسلمين، لكي تعود وهي تعلم أن في بلاد الإسلام مسلمين على حق، ومسلمين بحق، مسلمين يخشون الله حق خشيته فيما ولاهم الله وفيمن كانوا دونهم من الخدم والحشم وغير ذلك.
فاتقوا لله -يا عباد الله- خاصة فيما يتعلق بالمعاملة، فإن هذه الحادثة الدامية التي سمعتم بها ليست أولى ولا أخيرة، ولقد سمعنا كثيراً وكثيراً لكن كثيراً ما نسمعه بالنقل وعن وعن وعن، أما هذه فعلمته من مصدر أشبه ما يكون مباشراً في مباشرة الأمر وتحقيقه.
إذاً: -يا عباد الله- اتقوا الله تعالى في هذه المعاملة، واحرصوا ألا تجعلوا الخادمة تتولى أمر الأطفال خاصة في نظافتهم ومباشرة عوراتهم وفروجهم؛ لأن ذلك قد يعودهم في المستقبل على أمور سيئة لا تحمد عقباها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءً، وأراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأرد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
اللهم يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم يا من بيده ملكوت كل شيء، اللهم يا رب السماوات والأرض، اللهم يا من بيده الملكوت، يا ذا العزة والجبروت، اللهم أرنا عجائب قدرتك في الفرس الإيرانيين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم وفناءهم، اللهم أرنا فيهم شر ما تجزي به ظالماً في ظلمه، وطاغياً في طغيانه، ومتجبراً في تجبره، وفاسقاً في فسقه، وكافراً في كفره، وملحداً في إلحاده، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين، اللهم اردد كيدهم في نحورهم، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم اجعلهم أحزاباً وطوائف شتى، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين آمنين بقدرتك يا رب العالمين! اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلى زوجته، ولا أسيراً إلا فككت أسره، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ولوالدينا، واجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اغفر لنا ولموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه.
اللهم اختم بالشهادة والسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى الجنة مصيرنا ومآلنا، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم إنا نسألك توبة قبل الموت، وراحة عند الموت، ونعيماً في القبور بعد الموت.
اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم أعز إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح إخوانه وأعوانه، اللهم اجعلهم(180/9)
قصص وعبر
في هذا الدرس تجد قصة لفتاة تهاونت بالمعاكسات الهاتفية، فأدى بها ذلك إلى ذهاب عِرْضها ثم ذهاب حياتها، وقصة لمجاهد يحترق بيته فتموت ابنته وزوجته ولكنه يقف صابراً محتسباً أمام قضاء الله وقدره.
وبعد ذلك يتحدث الشيخ عن فضل الجهاد والمجاهدين وحث الناس على دعم المجاهدين.(181/1)
مقدمة في فضل حلق الذكر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، واسمه الأعظم الذي سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب أن يجمعنا في جنته كما جمعنا في هذا المكان، وأسأله سبحانه أن يجعل اجتماعنا وكلامنا واستماعنا هذا خالصاً لوجهه الكريم، فإن العمل إذا فقد الإخلاص كان هباءً منثوراً، وكان حجة وعذاباً وبلاءً على صاحبه، يقول الحسن البصري: [الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم].
ووالله -أيها الأحبة في الله- إن الإخلاص ما فقد من عمل إلا وكانت أموره ومشوبة بنقص وخلل، ومهما كثر ذلك العمل، وإن وافق الإخلاص عملاً من الأعمال كان بركة وطهارة وفضلاً وخيراً عليه، فأعود وأسأله أن يرزقني وإياكم الإخلاص الذي من أجله أمرنا الله أن نعبده: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5].
أحبتي في الله: لا يفوتني أن أذكركم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي معناه: (إن لله ملائكة سيارين في الأرض يبتغون حلق الذكر، فإذا وجدوا شيئاً منها نادى بعضهم بعضاً أن هلموا، فيجتمعون فيسألهم ربهم: علام اجتمع عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يا رب! اجتمعوا يسألونك ويشكرونك ويذكرونك ويستعيذون.
فيقول الله جل وعلا: وما الذي يسألونني؟ فتقول الملائكة: يسألونك الجنة) الجنة التي من أجلها نسعى هذا السعي ونطلبها ونرجوها، الجنة -أيها الأحبة- التي كما قال أحد السلف: عجبت للجنة كيف نام طالبها؟! وعجبت للنار كيف نام هاربها؟! الجنة التي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها رجلاً من الأعراب، فقال: (يا أعرابي! كيف تصلي؟ فقال الأعرابي: يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ -أنا لا أعرف كيف تدعو أنت وكيف يدعو معاذ - ولكني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: أنا ومعاذ حولها ندندن).
تقول الملائكة: (يا ربنا! يسألونك الجنة.
فيقول الله: وهل رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: لا.
فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد لها طلباً) والجنة شأنها عجيب والناس عنها غافلون في هذا الزمان، وكل خير وكل بر طريقٌ مفضٍ ومؤدٍ إليها ولكن الناس يغفلون عن هذا، فهي كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
حور تزف إلى ضرير معقد يا محنة الحسناء بالعميان
تتمة الحديث أن الله جل وعلا يقول للملائكة: (وممَ يستعيذ عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يا ربنا! يستعيذون بك من النار.
فيقول الله جل وعلا: وهل رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: لا.
فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد منها هرباً وخوفاً.
فيقول الله جل وعلا: يا ملائكتي! يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت لهم) فأبشركم -أيها الأحبة- أن من جلس في بيتٍ من بيوت الله يسمع كلام الله وذكر الله، ويحمد الله ويسبح الله فليبشر بخير عظيم وفضل عميم، ولعله أن يخرج من هذا المسجد وقد محيت ذنوبه وسيئاته.
(ثم تقول الملائكة: يا ربنا! إن في هذا الجمع فلان بن فلان ليس منهم وإنما جاء لحاجة -أرسل لأمر ما- فيقول الله جل وعلا: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فيا أحبتي في الله: أبدأ كلامي مثنياً على الله الخير كله، ونحمده على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، ونعم الله علينا تترى متتابعة، ومعاصينا تترى لا تنقطع، الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه بعد مقدرته.
أيها الأحبة في الله: موضوعنا -كما تعلمون- قصص وعبر، ما جئنا في هذا المكان لنقول لكم: كان يا ما كان، في قديم الزمان، وما جئنا في هذا المكان لنختلق أو لنجمل أو لنزين، أو لنفذلك أو نزيد أو ننقص في أحداث بلغت أو سمعنا، ولكن أريد أن نعلم قبل ذلك أن القصص أخبار، والخبر الصادق نوع من أنواع المسالك التي تثبت بها العقائد.(181/2)
سبل تثبيت العقيدة في القلوب
يقول العلماء: إن العقائد تصل إلى القلوب بثلاث سبل: فأولها -المسلك الأول الذي تثبت به العقائد-: المسلك الحسي، فأنت حينما ترى بعينك عموداً تعتقد أن الذي رأيته عمود، وحينما تلمس بيدك جداراً -لو كنت كفيفاً مثلاً- فإنك تعتقد بواسطة هذه الحاسة أن هذا الشيء الذي لمسته جدار، فبمجرد هذه الحاسة التي ركبها الله جل وعلا فيك فإنك تعتقد جملة من الأشياء.
وكذلك فإننا نعتقد جملة من الأمور بواسطة الاستنتاج العقلي، يعني: إما أن نعتقد بواسطة الحواس وإما أن نعتقد بواسطة الاستنتاج، كيف الاستنتاج؟ كما في قول الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] هل يعقل أن عدماً خلقنا؟ لا يعقل أبداً؛ إذاً: يقودنا هذا إلى استنتاج أن الذي خلقنا خالق قادر حكيم قاهر مدبر حليم عليم.
والمسلك الثالث من المسالك التي تثبت بها العقائد: هو مسلك الخبر الصادق، فإذا جاءنا خبر عن ثقة أو خبر صادق أو خبر استفاض واشتهر فإننا بموجب هذا الخبر نعتقد الأمر، مثال ذلك: لو حدثكم رجل عن أفغانستان، ولعل بعضكم لم يذهب إلى أفغانستان، ثم أفاض الكلام عن أفغانستان وأحوال أفغانستان ومجاهدي أفغانستان وأيتام أفغانستان وأيامى وثكالى وجراحات أفغانستان، فإن كل واحد منكم يعتقد اعتقاد اليقين أن هناك بلاداً اسمها أفغانستان وإن لم يرها، وذلك بناءً على الخبر الصادق الذي أخبر به، ويعتقد أن هناك في أفغانستان جهاداً في سبيل الله، كيف اعتقد وهو لم يجاهد معهم ولم يقف ولم ير الجهاد معهم ولم يشاركهم؟ إنه اعتقد أن الجهاد قائم في أفغانستان بناءً على الخبر الصادق؛ لذا فإن الخبر الصادق واحد من السبل والمسالك التي تثبت بها العقائد.
حتى لا نتهاون بشأن الأخبار، وحتى نأخذ الأمور بمهماتها وبلوازمها من العبر والفوائد والتطبيق، والله جل وعلا يقول في كتابه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] ويقول سبحانه: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ} [الأعراف:176] {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] فالله جل وعلا جعل القصص في القرآن فيها عبرة وفيها عظة وفيها ذكرى وفيها تربية، وفيها أنس للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من صحابته ومن بعده من أمته المؤمنين الموحدين.
فإذا كنا نتكلم -كما قلت لكم- عن القصص وما يتعلق بها فلسنا ننسج من خيال أو نسبح في خيال ثم بعد ذلك نرتب مشهداً على مشهد أو فصلاً على فصل، وإنما نخبركم بأقدار الله في عباده، ونخبركم بما قدر الله جل وعلا على أمم أو بشر أو أفراد أو مجتمع من المجتمعات، وعند ذلك يكون الأمر فيها عبرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
ثم اعلموا -أيها الأحبة- أن القصة عديمة الفائدة إلا إذا أخذنا منها العظة والدرس، القصة لا جدوى منها إلا إذا عرفنا أن نستنبط الدروس والمواعظ والزواجر والأمور النافعة من فصولها ومقاطعها، ولقد كان بوسعي أن أحدثكم كما أضمرت في نفسي حديثاً غير هذا، إلا أني وجدت أن الأحباب قد اختاروا هذا العنوان "قصص وعبر" وإن كنت من المقلين في شأن القصص ولكن أخبركم بما وقفت عليه بنفسي، أو بما أخبرني به من كان متصل السند بالحادثة.(181/3)
عقوبات فعل المعصية
فأذكر لكم أولاً حادثة مدارها والعبرة فيها على أن المعاصي وإن كانت صغيرة فإن شؤمها عظيم، يقول شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية رحمه الله: هناك بشر أو أناس يفعلون المعاصي، فإذا لم يعاقب على المعصية بعد فعلها فوراً يظن أنه قد نجا من شؤمها وسلم من إثمها وعقوبتها، على حد قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
الجدار إذا سقط اليوم هل يغبر بعد ثلاثة أيام؟ إذا لم يغبر الآن وإلا فلن يكون له غبار، بعض الناس يظن أن المعصية كذلك، أنه إذا لم تنل عقوبتها فوراً فإنك قد سلمت منها ولن تنال منها شؤماً أو أذىً، وليس بهذا صحيح؛ لأن شأن المعاصي يختلف، بل إن من المعاصي ما يكون شؤمه ولو بعد أربعين سنة، ومنها ما يكون شؤمه عند الموت، ومنها ما يكون شؤمه في أشد الأحوال التي يحتاج الإنسان فيها إلى نفسه، وابن القيم على جلالة قدره ذكر عدداً من الأخبار التي بين فيها شؤم الذنوب والمعاصي، قال: ومن عقوباتها، ومن عقوباتها، ومن عقوباتها ذكر أربعة وسبعين عقوبة وشؤماً وبلاءً وفساداً وضرراً يحصل من المعصية، وأذكر شيئاً بسيطاً مما ذكر ابن القيم وأعود إلى قصتي لكم.
يقول ابن القيم: ومن عقوباتها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، وذكر قصة رجل أنه لما حضرته الوفاة فقيل له: قل "لا إله إلا الله" فأصبح يغني:
ورب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
يا فلان: قل: لا إله إلا الله، فأصبح يغني:
ورب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
وآخر قيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: أوه! هذا فتن حار.
وآخر قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: (ده يازده) كلمة فارسية معناها: العشرة بخمسة عشر كان مرابياً.
فأدلل هذا الكلام تأييداً لقول ابن القيم أن المعاصي يكون شؤمها ولو بعد حين، وبعض المعاصي تكون بدايتها سهلة أو هي في نظرك سهلة وإن كانت ليست سهلة، بل عظيمة وخطيرة وشنيعة؛ لكن البعض قد يراها سهلة هينة فيقع فيها، وما يعلم أن لها شؤماً وإثماً وحوباً وعاقبةً وخيمة.(181/4)
قصة تبين عاقبة استهانة الفتاة بالمعاكسات الهاتفية
هذه القصة لفتاة لم تكن تعرف الاتصال بالشباب، ما كانت زانية، ما كانت تفعل الفواحش إلا أنها كانت تتساهل بالهاتف، كانت تتساهل بالهاتف الذي نسميه "المغازلة أو المعاكسة"، فتكلم هذا وتتحدث مع هذا؛ ظناً منها أنها تقطع الوقت لا أقل ولا أكثر، المهم أن هذه الفتاة تزوجت وهي واثقة من نفسها أنها بكر، ليس هناك شيء يدعوها إلى الخوف أبداً، ثم تزوجت برجل يسكن أخوه معه في نفس البيت، ولما كان زوجها يذهب إلى عمله كانت تجد شيئاً من أوقات الفراغ فاشتاقت أو زين لها الشيطان أن تكلم من تكلم فاتصل بها وأخذت تتحدث لاحظ أخو زوجها أن الهاتف يشغل مدة من الزمن في أوقات متكررة فدعاه ذلك إلى الشك لما رأى تكرر الأمر وتكرر الحادثة فأحضر جهازاً يتنصت به على الهاتف -أو على التليفون- وإذ به يجد الطامة التي لا يسكت عليها، إنها زوجة أخي تعاكس وتمازح شاباً غريباً، وتحدثه ويحدثها، فما كان منه إلا أن سجل هذه المكالمات في شريط واحتفظ به.(181/5)
أخو الزوج يهدد زوجة أخيه بالمعاكسات الهاتفية
وفي يوم من الأيام جاء أخو الزوج إلى البيت فوجد الفتاة -زوجة أخيه- على حالها لا تزال عروساً فداخله الشيطان أن يهم بها وأن يفعل، فدنا منها فسبته وشتمته وأخذت تبتعد عنه بكل شيمة وبكل كرامة وعزة وبكل ثقة، واثقة أنها لن تمكن هذا منه، فلما سمع نخوتها وكرامتها وشيمتها تظهر في عباراتها وكلامها ذهب أدراجه وعاد وراءه، ثم أحضر مسجلاً وأحضر شريطه وأسمعها الكلام الذي دار بينها مع ذلك الشاب في المحادثة التي سجلها، وإذ بها بعد أن كانت رافعة الصوت تنعكس ذليلة خاضعة خانعة ثم رجته قالت: أرجوك أن تستر علي، والله ما كان بيني وبينه شيء إنما هي مجرد مكالمة.
قال: لا.
إما أن أفعل بك وإما أن أفضحك عند أخي!
فقال أصيحابي الفرار أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مر
فإن فعلت فمر وإن أخبر زوجها فمر -أيضاً- ولكن الجاهلة المسكينة اختارت الستر المفضوح، الستر المفضوح قالت: تستر علي وأعطيك ما تريد.
فما كان من ذلك الوقح القذر إلا أن تجرأ على حرمة أخيه واستمتع بزوجة أخيه، وليس متاعاً بل هو شناع وأمر فضيع، ففعل بها على أن تكون هذه هي المرة الأولى والأخيرة على وعد أن يتلف الشريط وألا يعود إلى تهديدها به وألا يخبر أخاه بذلك.
لكن الشيطان يجر المعاصي ويرقق بعضها ببعض، يرقق بعضها ببعض والسيئة تقول: أختي أختي، بعد أيام قليلة جاء الشاب في وقت غريب وكان أخوه غائباً عن البيت فنادى زوجة أخيه: فلانة فوجست روعة وخوفاً من هذا الصوت، فلما سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد أن نفعل مثلما فعلنا.
فأخذت تبكي وتتوسل: أرجوك ألا تفعل هذا، ألم تكفِ المرة الأولى؟ أما يكفيك أنك هتكت ستر أخيك؟ ألم ألم ثم أخذت تتوسل إليه وترجوه، ولكن ذلك المجرم الذي استولى الشيطان على قلبه عاد يهددها بالشريط، فإن لم تعطه هذه المرة الأخيرة ولا أعود لها وإلا فضحتك عند أخي؛ فما كان منها إلا أن اختارت مرة أخرى الستر المفضوح وأسلمت نفسها له، فلما فعل بها أصبح لا يترك فترة بين الفينة والأخرى إلا وهو يطلبها ويهددها ويفعل بها.
وفي واحدة من المرات ناداها، ظنت أنه كالعادة يريدها وإلا سيفضحها، وإذ به يريد أمراً أخبث وأخطر وأخزى من ذلك، قال: إن لي صديقاً عزيزاً علي أريد أن تفعلي معه هذا الشيء، فأخذت تبكي أشد البكاء وأحر البكاء، ولما لم تجد في هذا القلب رحمة، وتكسرت آهاتها وعبراتها أمام صلابة ذلك الحجر القاسي ما كان منها إلا أن استجابت خوفاً من أن يعلم زوجها بذلك، فحدد لها ميعاداً تخرج فيه من مكان ما إلى صديقه وتخرج معه وتفعل معه.
ماذا بعد ذلك؟ الذي حصل -أيها الإخوة- أنه رتب مع صديقه موعداً وجاء بسيارته، وأصدر لها الصوت المنبه فخرجت في الوقت والساعة المحددين، ولما ذهبت معه وكلها أمل وحسرة واختلى بها وفعل بها أعجبته فلم يرغب أن يردها إلى البيت، الحاصل: إنها رجته وتمنته وتوسلت إليه بعدما قضى حاجته منها أن يعيدها إلى مكانها، فما قبل ذلك المجرم، بل حبسها عنده أياماً وأخذ يتكرر عليها، جاء الزوج إلى بيته فلم يجد زوجته، سأل الجيران، سأل الأقارب، سأل الأحباب، لم يجد عنها خبراً حتى أمضت أياماً! فما كان منه إلا أن بلغ الجهات المسئولة، وأخذت الجهات المسئولة تبحث عن زوجة الرجل.(181/6)
المعاكسة الهاتفية أودت بعرضها وبحياتها
جاء أخو الزوج إلى صديقه وقال: فضحتنا، لماذا تأخرت بها؟ الشرطة تبحث ورجال الأمن يبحثون، وكل الناس تسأل وتبحث أين المرأة؟ أين الزوجة؟ أين الفتاة؟ قال: والله أعجبتني! بمجرد الكلام السخيف الساقط.
قال: وما الحل؟ نريد أن نردها، وكيف نردها وأجهزة الأمن تبحث عنها؟ قال: لو رددناها إلى بيتها لفضحنا، لكن أرى أن نتخلص منها.
فاجتمعوا وفعلوا بها كلهم مرة أخرى سوياً!! ثم خرجوا بها إلى مكان ما وقتلوها ودفنوها.
الذي حصل أن واحداً من رجال الأمن الذين أعلموني بهذه القضية كان خارجاً في طريقه فوجد في طريقه أو في مكانه الذي كان جالساً بالقرب منه تربة غير طبيعية، ورجال الأمن الذين لهم دراسة بالجنايات يعرفون الأماكن التي نبشت حديثاً أو قديماً، المهم عرف أن هذه التربة ليست طبيعية فجاء ونبشها وإذ به يجد الجثة، فتحفظ على هذا الحادث وطلب فرقة نقلت الحادث، وجاء الطبيب الشرعي فشرح وحلل، وإذا بالطب الشرعي يجد من خلال تشريح معين وجود ماء يقارب فصيلة الرجل في رحم المرأة.
المهم أنهم في البداية أحضروا أخا الزوج وحققوا معه ومسوه بشيء من العذاب ولم يعترف، فلما وجدوا هذه القضية وجدوا ماءً قريباً من ماء أو من فصيلة ماء الزوج، رجعوا إلى أخي الزوج ومسوه بزيادة من العذاب حتى اعترف بما ثبت لديهم من الأدلة، والآخر لم يكن موجوداً.
الحاصل أن الآخر ارتاع على صديقه والقاعدة الأمنية تقول: المجرم يدور حول مكان الجريمة، وإذ به جاء يوماً ما يسأل وقبض عليه وأودع السجن؛ لأنهم لم يعرفوا من القضية إلا رقم السيارة التي حملت هذه المرأة ونوع السيارة، فمسكوا بالآخر وقالوا: إن صاحبك اعترف بكل شيء فاعترف؛ فاعترف بالقصة من أولها إلى آخرها.
أما أحدهما فقتل وأما الآخر فينتظر عقوبته، فالعبرة -أيها الإخوة-: هذه جريمة حصل فيها الزنا مراراً، وحصل فيها القتل بأبشع صوره! ما هو سبب هذه الجريمة؟ ما هو السبب الأول؟ إنها المكالمة، إنها الذنب الذي يعده البعض صغيرة، إنه المعصية التي يعدها البعض من صغائر الذنوب والمعاصي، انظروا كيف جرت بشؤمها وويلاتها إلى أن انتهت بهتك ستر المحارم، وفعل الزنا من المحارم، وفعل الزنا مع الأجانب، وانتهت بالقتل على أبشع صوره، فحسبنا الله ونعم الوكيل! ونسأل الله ألا يهتك لنا ستراً وألا يفضح لنا عورة، وألا يرينا في أنفسنا ولا في أحبابنا ولا في بناتنا وزوجاتنا عيباً ولا سوءاً ولا مكروهاً.(181/7)
خطر التساهل بالصغائر
الذنوب -أيها الأحبة- التي يتساهل بها كثير من الشباب، فكثير من الشباب والشابات يتساهلون بجملة من الذنوب والمعاصي منها هذه المعاكسة، لا أقول: المعاكسة وحدها، بل إن لكل ذنب شؤماً بطريقة لا تخطر على بالك، كيف يتفاقم شؤم الذنب وكيف يكون خطره:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
يضر خاطره ما سر ناظره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
إن صغار الذنوب أمر يتساهل به كثير من الناس، كقوم اجتمعوا -كما جاء في الأثر- وأرادوا أن يوقدوا ناراً، فجاء هذا بقشة وهذا بعود وهذا بقطعة حتى أضرموا ناراً عظيمة، فمثلها مثل الذنوب نتساهل بصغارها، فإذا اشتعلت على صاحبها أوقدت عليه ناراً عظيمة وتأججت وأحرقته بشؤمها وعذابها وويلها.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
وافعل كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
هذه الصغائر التي نتساهل بها في أنفسنا في ذواتنا في بيوتنا في شخصياتنا في أحوالنا المختلفة هي شؤم خطير، وحسبكم أنها تحجبنا أن نصل إلى منازل الأبرار والمقربين، إن أناساً -وإن كنت تعرفهم بحسن السيرة والاستقامة- بقوا على ذلك المستوى إن لم ينحدروا عنه، لماذا لم يترقوا في دين الله؟ لماذا لم يرتفعوا في بركة الله وفضل الله؟ لقد حجبتهم الصغائر، لقد حجبتهم الذنوب التي تساهلوا بها فبقوا على مكانهم.
لذلك -أيها الأحبة- إننا أحوج ما نكون إلى محاسبة النفوس محاسبة شديدة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقوله: (أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق) ولماذا كانت التقوى وحسن الخلق أثقل الأمور التي توضع في الميزان؟ أخبركم بهذا والأمر جلي.
أما التقوى فلأنها علاقة السر بينك وبين الله، وأما حسن الخلق فلأنه مقياس المعاملة بينك وبين الناس، فمن أحسن المعاملة مع ربه وأحسن المعاملة مع خلق الله كان ذلك العمل من أثقل ما يوضع في موازين أعماله يوم القيامة: (اتق الله حيثما كنت) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] الأمر بالتقوى كثير في كتاب الله جل وعلا؛ لأنه العلاقة السرية التي تحجبك وتراقبك وتحاسبك أن تفعل شيئاً وأنت تقدر عليه، لا يردعك عنه جهاز أمن أو تصنت أو خبير أو رقيب أو حسيب إلا الله جل وعلا.
حينما تكون التقوى قوية، حينما تكون التقوى في النفوس حاضرة غير غائبة فأبشر بالخير وكما يقول ابن القيم: اتق الله ونم في أي مكان شئت بين السماء والأرض.
حينما تحصل التقوى، مراقبة الله عن الصغائر قبل الكبائر، عن الذنوب التي يتساهل بها الكثير منا ويفعلها، وبعضهم لا يزال يعد نفسه مع الأتقياء ومع الملتزمين ومع الصادقين، ومع الأبرار المقربين وهو يتساهل في جملة من الذنوب لو جمعت لاستحى أن تظهر أمام الناس، فالله أحق أن يستحيا منه.
في السنن -والحديث الصحيح- يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباءً منثوراً، قال صلى الله عليه وسلم: إما إنهم مثلكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، فقالوا: يا رسول الله! صفهم لنا، جلهم لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) التساهل بالذنوب والوقوع في المعاصي والآثام من غير مراقبة ولا استحضار لوقار الله سبحانه وتعالى، ولذلك نوح عليه السلام لما تنوعت أساليب قومه عرف السبب الذي جعلهم يعرضون.(181/8)
حذر الصحابة من الذنوب
نقول -أيها الأحبة- إن هذه المسألة من أهم الأمور والمسائل التي هي حسن العلاقة وحسن المراقبة فيما بيننا وبين ربنا جل وعلا، وإذا علمنا أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على الرغم من أنهم مبشرون بالجنة بقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وعلى الرغم من أعمالهم التي سبقوا بها في دين الإسلام، وجيشوا الجيوش وفتحوا الأمصار كانوا يتخوفون من صغار الذنوب ويخشونها.
أبو بكر الصديق يقول: [يا ليتني كنت شعرة في صدر عبد من عباد الله] وهو المبشر بالجنة، وعمر بن الخطاب لما حضرته الوفاة جاء عبد الله بن عمر -ولده- يضعه على فخذه فقال: [وحيك يا بن عمر! ضع رأسي على الأرض، ويلي إن لم يرحمني ربي!] وهو المبشر بالجنة، فإذا كان هذا فعل المبشرين بالجنة فما فعلنا يا عباد الله؟ وكان صلى الله عليه وسلم يطيل القيام حتى تفطرت قدماه، وتقول عائشة: (يا رسول الله! ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً؟!) أين نحن من أولئك؟ تلت عائشة رضي الله عنها قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:59 - 60] قالت عائشة: يا رسول الله! ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا)) يفعلون ما فعلوا ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) خائفة ((أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) هل هم الذين يزنون؟ هل هم الذين يسرقون؟ هل هم الذين يشربون الخمر؟ قال: (لا يا بنت الصديق، أولئك أقوام يصومون ويصلون ويتصدقون، ومع ذلك قلوبهم وجلة خائفة يخشون ألا يتقبل الله منهم).
فيا أحبتي في الله: أين نحن من عمالقة الإسلام وقمم التقوى الذين بلغوا في الصلاح ذروته، وفي الزهد والعلم والتقى غايته وهم يخشون سوء العاقبة؟ الحسن البصري لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: أتبكي وأنت أمير المؤمنين في الحديث؟ قال: ذكرت قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر:47 - 48].(181/9)
أحسنوا العمل وأحسنوا الرجاء
فيا إخوان: نحن لو أردنا أن نتذكر ذنوبنا ومعاصينا وآثامنا وفواحشنا وسيئاتنا لعددناها كما نعد هذه الإضاءة في هذا المسجد، نذكرها بالوقت واللحظة والظرف والزمان والمكان والتاريخ، ولو أردنا أن نعد حسناتنا لوجدنا حسنات لم نتأكد منها، ذلك حج عبثنا وهزلنا فيه، ذلك صيام لم نتقنه، تلك صلاة لم نخشع فيها، حينما نريد أن نعد أعمالاً صالحة لا نجد عملاً نتيقن كل اليقين أننا أحكمناه على الوجه الذي يرضي الله بالإخلاص والمتابعة والدقة في التزام السنة، وحينما نريد أن نعد المعاصي والله نعدها ونتذكرها كما نرى هذه الإضاءة في السقف، ومع هذا كله لا نزال نطمع في درجات الأبرار والمقربين، والله إننا لنطمع فيها برحمة الله جل وعلا، اللهم لا بأعمالنا ولا بسعينا ولا بكدنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولكن برحمتك التي وسعت كل شيء يا رب العالمين.
فأحسنوا العمل وأحسنوا الرجاء، وإن الذي يرجو لا بد أن يحسن العمل، الذي يحرث الأرض ويسقيها ويبذرها ويزرعها يرجو الثمرة، أما الذي يرجو الثمرة وهو لم يزرع هذا مجنون، والذي يرجو الولد وهو لم يتزوج هذا مجنون، فإذا كنا نرجو الجنة والرحمة فلنبذل ولنعمل وبقية الأمر على الله بمنه ورحمته، وأبشروا: إن من سعى إلى ربه بسعي مبارك مع حرصه على مرضاة ربه فليبشر بالخير، لا أقنطكم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من معركة هوازن - حنين - اجتمعت أربعة وعشرون ألف ناقة، وستة آلاف امرأة من السبي، وأربعون ألف شاة، وغنائم كثيرة، فلما كانوا من بين السبي إذا بامرأة تنطلق، تشق الطريق بين السبي، ثم تأخذ طفلاً وتضمه على صدرها وتظهر ثديها وتلقم فمه في ثديها، والنساء يستحين ويخجلن أن يرضعن أولادهن إلا أن تضع ستاراً أو رداءً يستر ثديها، أما هذه فبين الناس فعلت ذلك، حيل بينها وبين طفلها والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: لَله أرحم بعبده من هذه بولدها) فأبشروا خيراً -يا عباد الله- أنتم تقرءون في كل يوم: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] إنها قمة الرحمة من الله جل وعلا لعباده، لكن لمن يلتمس طريقها، ولمن يسلك مسالكها، أما الذي يرجو الرحمة وهو على عناد وإصرار فذلك شأنه غريب.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
فيا أحبتي في الله: لنراقب أنفسنا جيداً، إننا -ولله الحمد والمنة- في زمن التزم الشباب والشابات، واستقاموا وتابوا، وهم الآن أحوج ما يكونون إلى مراقبة سلوكهم وتصرفاتهم، بحاجة إلى غربلة أفعالهم وما يجترحونه بجوارحهم وكل أدرى بنفسه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فما دام الأمر ممكناً قبل أن يختم المطاف، وقبل أن تغلق الصحائف وينقطع النفس وينتهي الأجل فلنحاسب أنفسنا محاسبة جيدة.
هذه -أيها الإخوة- قصة بمتابعة أحداثها من ثقة أخذتها، هي والله لخير دليل على أن المعاصي لها شؤم وإن تصاغرناها أو تساهلنا بها واعلموا أن الأذن تعشق:
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
وينبغي للمسلم أن ينتبه لنفسه، ولذلك يقول الله جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] المرأة نهيت عن الخضوع في القول، وينبغي للمسلم ألا يستطيل الحديث مع النساء فيما لا طائلة ولا حاجة له فيه، بل اجعل الحديث بقدر ما تحتاج إليه فإن ذلك أنقى لقلبك وأتقى لربك، حينما تجعل هذه الأذن نقية شفافة في السمع، فإذا سمعت كلام الله وكلام رسوله استطعت أن تتلذذ بالسماع، لم يخالط سماعك صوتاً أطلت الحديث معه فيما لا فائدة فيه.(181/10)
من قصص المجاهدين(181/11)
قصة مجاهد في سبيل الله وبيته الذي احترق
أما القصة الثانية -أيها الأحبة- فهي لواحد من إخوانكم المجاهدين من خيرة شباب الجهاد، أسأل الله جل وعلا أن يأجره في مصيبته وأن يخلف له خيراً منها، وإذا أراد الله بعبد خيراً ابتلاه، ذلك شاب من خيرة الشباب المجاهدين، له زوجة حافظة للقرآن الكريم متقنة مدرسة للتجويد.
كان في مدينة الرياض في ليلة من الليالي في غرفته، وقبل أن ينام كانت زوجته تدارسه قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32] كانت تدارسه وتشرح له هذه الآيات، كانت عالمة بكتاب الله، وما أجمل الحياة مع زوجة تقية صالحة! هنيئاً لمن له زوجة كهذه! الحاصل -أيها الأحبة- أنه قرابة الساعة العاشرة وزيادة كان يتحدث معها، وفي تمام الساعة الثانية إلا قليل -أو بعد الواحدة والنصف- إذ به يستيقظ على رائحة دخان أشبه ما يكون بحريق في المنزل، فلما فتح باب غرفته إذ به يجد الحريق مشتعلاً في البيت، وعرف أنه إن لم يتصرف فهو محترق هالك لما محالة، فما كان منه إلا أن حمل طفلته الكبرى -عمرها أربع سنوات والأخرى رضيعة، عنده طفلتان- وحملهما ومر على الأرض وهي محترقة، الموكيت والفرش محترق بالنار يلتهب نتيجة التماس في الكهرباء، البيت كله محترق لكنه مر حافياً على هذا الحريق وأخذ الطفلة، ثم توجه إلى باب الصالة يريد أن يفتحها فوجد بابها مغلق، فقام وعبر مرة أخرى على الحريق وألقى بالطفلة في المطبخ واتجه إلى المطبخ، خرجت زوجته الأخرى بالطفلة الأخرى فإذ بها تعثر في الفرش -في الموكيت- مع ذوبانه في النار التصق برجليها فظنت أن باب الصالة مفتوح فرمت بالصغيرة تريد إنقاذها برميها والباب مغلق فارتطمت الصغيرة وسقطت مرة أخرى في الحريق.
وأخذت هذه، هو في المطبخ ويصيح وينادي زوجته وهي تجيب، يريد أن يصل إليها فلا تستطيع، وهي تريد أن تتحرك، فاحترقت الطفلة الصغيرة.
عندما انتهى الحريق إذ بهم يجدون الحريق لم يلتهم من زوجته ولا شعرة واحدة!! حافظةً لكتاب الله، إن الذي خلقها هو الذي خلق النار فأمرت النار أن تأكل ما أكلت، وأمرت النار أن تحفظ جسداً وقلباً حوى كلام الله وكتاب الله، ووجدوا بالقرب منها أو حولها بقعة ماء تحتها، كانت سبباً في حفظها بإرادة الله ومشيئته.(181/12)
الجهاد يعلم الصبر
والحاصل أن هذه الحادثة انتهت بوفاة زوجته وطفلته، وزرته في المستشفى -مستشفى الحمادي- الدور الأول غرفة (1136) فلما دخلت عليه وكنت أقطع أصابعي ماذا أقول له؟ وبماذا أعزيه؟ فلما دخلت عليه إذ به يبتسم، فسلمت عليه وقبلت جبينه وعانقته وقلت له: الحمد لله على ما قضى وقسم، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب.
فماذا كان جوابه؟ قال: يا أخي! إن الله جل وعلا قد اختصني بخير وأرجو أن يأجرني عليه، فعجبت من شأنه، ولما تذكرت أنه من المجاهدين عرفت كيف علمه الجهاد الصبر.
يا إخواني: لو وقعت هذه المصيبة لآخر لأخذ يسب القدر والمقدر، وأخذ يسخط ويدعو ويزمجر بالويل والثبور على هذه الدنيا وعلى هذا الحادث، لكني عجبت من صبره ومن ثباته ومن شأنه هذا كله، فقلت له: يا أخي! والله إنما رأيت منك من الصبر والثبات لدليل على قوة العقيدة؛ لأن المسلم يعتقد أن المقادير بأمر الله، ونعلم أن القضاء واقع وأن الأمور بأسبابها، والمسلم يعتقد أن الله ما قدر قضاءً إلا كان رحمة بعبده، فأنت -يا أخي- وليد رأيت في قدر الله عليك في حريق قدميك وموت طفلتك وموت زوجتك أن ذلك عين الرحمة من الله بك وبهما، فرأيت فيك هذه الابتسامة، ابتسامة الرضا بقدر الله جل وعلا.
فيا أحبتي في الله: هكذا وجدت هذه الصورة وهذه القصة المؤثرة المعبرة في هذا الشاب، فأردت أن أحدثكم بها لما اختار الإخوة موضوع محاضرتنا أن يكون قصصاً وعبراً.
وهذا اليوم العصر جرى اتصال هاتفي بـ الرياض مع أحد الأصدقاء فسألته، قلت: كيف الأخ وليد؟ قال: أبشرك أن رجله كأنها تعود من جديد، مع أن القدم احترقت يقول: والله كأنما تنبت من جديد! ويقول: بمشيئة الله حالما تشفى سأذهب إلى الجهاد مرة أخرى ولا حاجة لي في هذه الدنيا.
فاعلموا -أيها الأحبة- أن الله اختص لمعالي الأمور رجالاً، قد يقول البعض: وما أكثر من هذا؟ هذا جاهد وماتت زوجته وماتت طفلته، وحصل له ما حصل، ماذا يريد أكثر؟ لكن اعلموا -أيها الأحبة- أن معالي الأمور لا ينالها إلا طائفة قليلة من البشر، القمم، الذرى، ولذلك كان الجهاد ذروة سنام الإسلام لا يناله إلا من انتصر على شهواته، وانتصر على الضعف والجبن والخوف والخور، وتوكل على ربه حق التوكل، وعرف أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.
يقول وهو يعد نفسه ليعود إلى الجهاد: فقلت: ادعه إلى أن يتريث حتى يتماثل للشفاء، وإلا فاعلم أننا إن قلنا له: اقعد عن الجهاد فإن ذلك لن يطيل في عمر، وإن قلنا له: اذهب إلى وجه المعركة ومنطقة الالتحام والمواجهة فإن ذلك لا يقرب أجله
تأخرت أستبق الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
الموت لا يتقدم ولا يتأخر، وكما يقول ذلك الشاعر:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم عن الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
والله إني لأظن وأغلب الظن أن أخي وليداً هذا سيموت شهيداً في سبيل الله على هذه المعنويات، وعلى هذا الصبر، وعلى هذا الاحتساب، برحمة الله قبل كل شيء، وبسالف جهاده، وبصبره على هذا الحريق الذي ماتت فيه زوجته الحافظة التقية -أسأل الله أن يجمعنا بها في الجنة وإياكم أجمعين- وبموت طفلته، والله إن الله يريد به خيراً، أسأل الله أن يثبته وأن يثيبه وأن يحفظه، وأرجو أن يكون الله قد اختار له منازل الشهداء والأنبياء، تلكم منازل لا ينالها إلا قلة وندرة من الناس، وإني لأعجب ممن يتمنون مقابلة البشر الضعفاء ولا يشتاقون إلى مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشتاقون لمجالسة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، والصحابة والسلف الصالح والتابعين وابن تيمية وخيرة عباد الله الصادقين الذين شهد لهم الأولون والآخرون بالصلاح والاستقامة.(181/13)
وقفة مع الجهاد والمجاهدين
كنت ذات يوم في جلسة مع رجل دبلوماسي في دولة خارج المملكة فقال: سمعت عن هذا المجنون حكمتيار؟ قلت: ماذا هناك؟ قال: رونالد ريجان يطالب أن يراه ويتقابل معه ويرفض هذا المجنون أن يقابله؟ من يحصل أن يقابل ريجان، يدعى مرتين يرفض الأولى ويرفض الثانية، ريجان يرسل ابنته فيرفض أن يقابلها! قلت: يا مسكين! لكني أعرف شباباً لا تعرفهم أنت وربما يمرون وأحدهم أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره؛ يقابل أفضل الخلق ألا وهم شباب الجهاد الذين يستشهدون في سبيل الله فيكونون في مقعد صدق عند مليك مقتدر مع رسول الله، مع النبيين والصديقين والشهداء، إذاً: أي مجلس أفضل: مجلس ريجان أو مجلس الأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين؟ فسبحان الله! حينما تنتكس وتنعكس الفطر وتتقلب الأمور يصبح أسخف الأمور أعلاها، ويصبح أعلاها أسفلها، ويصدق فيها ما قال القاضي عبد الوهاب المالكي:
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثن الأصاغر عن مراد إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوماً على الرفعاء من أقسى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا
فما بالكم وقد ارتفعت الأسافل وهبطت الأعالي، عند ذلك تطيب منادمة المنايا، ويحلو الموت في سبيل الله، ولكن هي مكانة لا يبلغها كل واحد.
يقول: إذا كان الناس في الدنيا يقولون: هذه درجة عامة، وهذه درجة خاصة، وهذه أولى، وهذه درجة فوق الأولى، اعلموا أن المجاهد وإن كان من أفقر عباد الله وأقلهم في هذه الدنيا شأناً ينال أعلى الدرجات في دين الله جل وعلا، نسأل الله أن يخلص النيات لوجهه سبحانه وتعالى.
هذه هي القصة الثانية التي أسوقها شحذاً للهمم للجهاد في سبيل الله، وأسوقها لأقول: إن الجهاد علم الرجال الصبر، ولماذا يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ليس الحسنة بعشرة أمثالها أو إلى سبعمائة ضعف فقط، بل بغير حساب؛ لأن الصبر يرتبط بقوة العقيدة، ومنطق العقيدة هنا أن يعلم ذلك المجاهد الصابر المحتسب أن قضاء الله وقدره وإن كان في ظاهر الأمر لنا عذاباً أو ألماً أو جرحاً فإنه في حقيقته عين الرحمة وعين الحكمة واللطف؛ لأن الله أرحم بعبده من تلك بولدها كما أسلفنا في القصة.(181/14)
أب وابن يلتقيان في أرض الجهاد
هذه قصة لشاب من الإمارات كنيته: أبو سليمان، كان شاباً مدللاً، عطراً ناعماً، مترفاً، وسيماً، من أسرة غنية وثرية أراد أن يذهب إلى الجهاد، وكان الأب يضمر في قلبه، حب الجهاد لكن يخشى على الولد، فلم يجد إلا أن يختار للولد دراسة لإكمال دراسته خارج الإمارات فأعد ذلك الشاب، أعدت ملابسه الحريرية الناعمة، وأصناف وأشكال عطوراته لكي يذهب إلى بريطانيا لإكمال دراسته.
الحاصل -أيها الإخوة- أن الشاب تأثر من إمام المسجد بكلمة عن الجهاد فأضمر في نفسه أن يجاهد، وطلب من أهله أن يجاهد، فخافوا عليه ورفضوا، وكانت أسرته بها نوع من التساهل واللامبالاة في بعض الأمور الشرعية، فما كان منه إلا أن وافق على مرأى منهم ومسمع أن يسافر لـ بريطانيا، فسافر إلى بريطانيا ومن مطار لندن حجز ليعود إلى إسلام أباد.
وفعلاً عاد وليس عنده عن الجهاد معلومات إلا رقم هاتف مجلة البنيان المرصوص، فاتصل على مكتب المجلة ورد عليه شاب سعودي " عبد الله أبو يزيد " أعرفه، قال: أنا فلان من المكان الفلاني.
قال: لماذا تكلمني بصوت منخفض؟ قال: سمعت أنهم يختطفون -شاب صغير، خريج ثانوية- وأنا أخشى على نفسي، أريد أن تستقبلني، أريد أن تأخذني.
قال: فجئت وأخذته إلى مقر مجلة البنيان المرصوص، فلما وجدته إذا بالشاب عليه (كرفته) و (ياقة) و (قميص) وعطر، يقول: والله الصالة تفوح من رائحة عطره، ولما ذهبنا به إلى بيت الأنصار نسلم الأمانات التي عنده، التليفر شكس، دفاتر شيكاته سياحية، وعطوره وملابسه، وأشياؤه عجيبة جداً، قال: فجعلناها في صندوق الأمانات ثم ألبسناه لباس المجاهدين.
ولما لبس لامته ذهبوا به إلى معسكر صدى، ثم انتقلوا من صدى إلى منطقة خلدن، فلما أقبل إذا برجل يجاوز الخمسين أو يقارب الستين من عمره يهندس في سيارة كانت واقفة، فلما التفت ذلك الذي يصلح السيارة إذا به يصرخ صرخة الفرح والولد مثله، ثم يحضن بعضهم بعضاً، أتعلمون من الولد ومن الآخر؟ هذا أبوه سليمان وهذا الولد خالد، خالد يكنى بـ أبي سليمان والأب يكنى بأبي خالد، فإذا بهما يلتقيان ويتعانقان ويبكيان مدة، والولد قد أرسل لأهله رسالة أنه عاد من لندن إلى الجهاد، وأخذ يتابع أخبار أهله.
يقول لي أبو يزيد: والله كنت أسمع منه حديثاً مع والده: كيف والدتك؟ كيف أخواتك؟ وهو يطمئن والده يقول: أبشرك أنهم بخير، أرسلت لهم رسائل وأخبرتهم أنني ذاهب للجهاد عسى الله أن يقبلني شهيداً وأشفع لهم إلى آخر ذلك.
فيا أحبتي في الله: اعلموا أن الدنيا التي تمكنت في قلوبنا، وأن مظاهر الرفاهية والحياة والتحضر والتمدن التي عشنا فيها الآن لم تقطع طائفة قليلة من عباد الله أن ينالوا معالي الأمور، آباءً وأبناءً ورجالاً وشباباً وشيباً، فأسأل الله جل وعلا أن يجعل في قلوبنا حباً لدينه، وحباً للبذل والتضحية والتفاني والشهادة في سبيله سبحانه وتعالى.
فيا معاشر المؤمنين: هذا ما اخترتموه من الحديث معكم وإن كان في خاطري أن أحدثكم بغيره، لكن فيها والله عبر، في الأولى عبر، وفي الثانية عبر، وفي الثالثة عبر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].(181/15)
حث على دعم المجاهدين
أحبتي في الله: وأسألكم بالله الذي خلقكم من العدم، ورزقكم وكنتم فقراء، وأعزكم بعزته وأغناكم بفضله ألا تبخلوا على هذا الجهاد بشيء، فوالله إن الأمة الإسلامية إذا سارت على طريق الجهاد الذي نحن نعيشه اليوم سنوات أو عقوداً من الزمن قليلة والله ليتغيرن وجه هذا الكون، وحسبكم أن الجهاد في أفغانستان قد غير الكثير من مخططات اليهود والاستعمار، وجعل القوى التي يسمونها عظمى تختلف وتخطط وتعيد حساباتها مع البشر، وإن استمر الجهاد لينصرن الله من ينصره، ابذلوا بقدر ما تستطيعون ولا تبخلوا على دينكم وعلى جهادكم شيئاً، واعلموا وإن كان الناس الآن يشكون من شح التبرعات للجهاد كانت خمسمائة ألف تكفي لعمليتين الآن يجعل الله في قذيفة ما يكفي لعملية تدمير كاملة.
حادثتان أحدهما قبل أسابيع: محطة الكهرباء في جلال أباد تتفجر بقذيفة هاون، بكذا وثلاثين ربية -يعني: فيما يعادل ثمانية أو تسعة ريالات- وإذا انفجرت المحطة احتاج الشيوعيون أن يستخدموا المولدات التي تقوم على الوقود ونقل الوقود بالطرق البرية مهددين تحت مدافع ورصاص المجاهدين، فيضطرون إلى إنزال الوقود (بالبراميل) فإذا نزلت لم تسلم من نار قذائف المجاهدين، وقد حصلت ذات مرة أن الشيوعيين ينزلون الوقود في إحدى المناطق المحاصرة (بالبراميل) فجعل المجاهدون يعدون البراميل واحداً واحداً، فلما جاء البرميل قبل الأخير إذ بهم يضربونه بالرصاص الحارق الخارق فيشتعل البرميل في السماء وينزل على موقع الوقود ويحرق المكان بأكمله.
قذيفة هاون بثمانية ريالات أو بتسعة ريالات يكون لها أثر عظيم، وأحدهم في الأسبوع الماضي قبل أن آتي إلى هذه المنطقة جاء لتوه من خوست قال: أبشرك طائرة كانت وشيكة النزول في مطار خوست تريد أن تقف أو تهبط قرب مستودع ذخيرة فضربت بالبي إم، فالطائرة هذه محملة بالأسلحة فانفجرت فتفجر بها مستودع الذخيرة الموجود في المطار، وتفجر معها بحركة عشوائية للطائرة ثمان طائرات كانت رابضة في مطار خوست.
فيا أحبتي في الله: هذه قذيفة بي إم، لو قلنا: أننا نحتاج مليون ريال لضرب ثمان طائرات، الطائرة الواحدة بملايين الدولارات، لو قلنا: إننا بمليون ريال نريد أن نضرب كذا طائرة، ونفجر كذا مستودع أسلحة، قلنا: هذا ضرب من الخيال والعبث، لكن نحن أمرنا بالجهاد، سنجاهد ويستمر الجهاد في سبيل الله بطائفة منَّ الله عليهم وفضلهم وكرمهم وأعزهم بذروة سنام هذا الدين، وكل يختار لنفسه موقعاً، فمن أراد الذروة ومن أراد الحضيض ومن أراد الوسط، وكل يكرم نفسه حيثما وقع.(181/16)
من كهربائي إلى مساعد قائد جهادي
جاء إلي في الرياض شاب سمعت به وزارني -من أهل اليمن (الإيمان يمان والحكمة يمانية) أبو عتيق اليمني - كيف حالك يا أبا عتيق؟ ماذا كنت تعمل؟ قال: كنت كهربائياً.
يقف على السلم وصاحب الفلة: (يا بو يمن) ما أكملت الشغل، جننتنا، عطلت الأمور.
قال: فلما سمعت عن الجهاد ذهبت، فانتقل إلى منطقة بغمان وكان مساعداً للحاج شير علم.
الحاج شير علم هذا من قادة الجهاد الذين يهددون نجيباً، لما نزل إدوارد شيفر في فندق الإنتر كونتينتل أمطروه بالصواريخ سكر بيش وسكرشل، فخرج نجيب في التلفاز، يقول: هكذا يعامل المجاهدون ضيوفهم، ثم أرسل رسالات متعددة، رسائل متعددة إلى الحاج شير علم يرجوه أن يستحي ظناً منه أن هذا هو الحياء، وأن يقف عن ضرب المنطقة حتى يسافر الضيف، فرد عليه ذلك الأعرابي الأفغاني برسالة قال فيها: يا نجيب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:38] وكتب له الآية، يا نجيب أسلم تسلم وإلا فانتظرني بالذبح.
رسالة قصيرة تروعه وتقض مضجعه.
يمني كهربائي يطلق صواريخ سكربيش وسكرشل، صقر عشرين وصقر ثلاثين حتى يخرج نجيب ويقول: لقد أمطرت كابول بطوفان من الصواريخ.
ولو علم نجيب أن الذي يهدده ليس رئيس حلف الناتو، وليس رئيس حلف الأطلسي أو حلف وارسو أو المناورات العسكرية الأجنبية الغربية أو الشرقية لا.
إن الذي يهدده أبو عتيق اليمني، أقصركم أطول منه، وأنحفكم أسمن منه، والله إني أعجب من ذلك الرجل.
وآخر كان (يليس) الجدران، انتقل إلى شكردرة فمن الله عليه وفتح على قلبه بالجهاد حتى أصبح يلقب بعدو الطواغيت يخافه الشيوعيون، إذا قيل للشيوعيين المنافقين الذين يتسللون لأخبار المجاهدين يقولون: عدو الطواغيت وصل منطقة يخشاه الشيوعيون خشية عظيمة، يماني (مليس).(181/17)
فضل الجهاد والمجاهدين
يا إخوان! الجهاد يشعل العزة ويرفع العزيمة، ويجعل من لا شأن له ولا مكانه يحمل على الرءوس وعلى الأذقان، فمن أراد لنفسه عزة فعليه بالجهاد، الجهاد لا يحتاج إلى دكتوراه ولا يحتاج إلى دورة لغة، يحتاج إلى نفس تؤمن بالله وتفنى حباً في سبيل الله، وتضحية لإعلاء كلمة الله، وماذا بعد ذلك؟ إن قدرت له الحياة سيعيش عزيزاً مكرماً، وإن مات تبادرته الحور العين، ست خصال: يغفر له عند أول دفعة من دمه، والذي يموت على فراشه ينازع ويعالج وتسحب منه الروح سحباً في سكرات الموت، أما ذلك الشهيد فيغفر له عند أول قطرة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، وتبتدره اثنتان وسبعون حورية إلى آخر الخصال التي ينالها.
واعلموا -يا إخوان- أنني أقول: إن الجهاد يكون من كل واحد بحسبه، فإذا كان جهاد أحدنا في جمعه للتبرعات، أو إيضاح قضية الجهاد، أو في أمر ينفع المجاهدين حتى وإن لم يكن في ساحة الجهاد فهو في عين الجهاد، لكن أقول لشاب ليس له دور أو عمل أو مكانة أو أسرة يقوم عليها أو أمر ينفع المجاهدين: ما الذي يقعدك؟ أليس الجهاد خيراً لك؟ ولذلك -يا إخوان- الأمر بالنسبة للشباب في الجهاد كل بحسبه، فإذا كان خدمتك للجهاد في الجبهة فخير الجهاد أن تكون في الجبهة، وإن كانت خدمتك للجهاد في موقعك فخير الجهاد أن تبقى في موقعك، وإن كانت خدمتك للجهاد في الطب والجراحة فخير الجهاد أن تكون في الطب والجراحة، وإن كانت خدمتك للجهاد في كفالة الأيتام فخير الجهاد أن تمضي في هذا العمل، المهم أن تعلم أن الجهاد أن تخدم الجهاد في أجل صورة وفي أجمل موقف سواءً كنت في الجبهة أم لا.
اعلموا -أيها الأحبة- أن الجهاد لا شك في مقابلة الصفوف والأعداء، والرباط هو أفضل الأحوال جميعاً؛ كفى بصليل السيوف فتنة، لماذا لا يفتن الشهيد في قبره؟ قيل: كفى بصليل السيوف فتنة، كفى بأزيز الطائرات ولهيب النار فتنة.
فيا أحبابي: أدعوكم أن نكون مجاهدين، جهادنا كل بحسبه، جهادنا أن ندعم هذا الجهاد كل في موقعه، وكل في مكانته، وكل بحسب قدرته وافهموا هذا الكلام فهماً جيداً.
أقول -أيها الإخوة-: إننا لم نعرف كيف نعمل للإسلام، نحن إذا جاء أحد وألقى المحاضرة وقال: تبرعوا، تبرعنا، لكن لم نعرف كيف نجعل العمل للإسلام كالفطور والغداء والعشاء كما يفعل النصارى، العمل للتنصير عمل يومي، يعني: إلى جانب كونه طبيباً لكنه منصر أو مهندساً لكنه منصر في نفس الوقت، أياً كان عمله، لكن نحن عندنا ازدواجية أو انفصام، لا نستطيع أن نجمع بين كوننا أساتذة ومجاهدين أو أطباء ومجاهدين أو مهندسين، ومجاهدين ينبغي أن نعرف كيف نتعلم لنجعل الجهاد عملاً يومياً في الصباح والمساء كما نجعل الغداء والفطور والعشاء وجبة يومية.
أقول لكم -أيها الإخوة-: سنة حسنة من استمر بها يلقى الله بأجر عظيم، كل واحد منكم لا يخلو في الأسبوع من مناسبة أو وليمة، أسبوعياً الواحد يدعى إلى ثلاث ولائم أو أربع ولائم، ونجتمع ونتحدث قليلاً ثم نتفرق ما فعلنا شيئاً لماذا لا نخدم هذا الجهاد؟ نشبع والناس جياع، نضحك والناس يبكون، لماذا لا نتعود من الآن أن كل مجلس نجلس فيه وفيه أكل وشرب، أنا أسامحكم من جلسات الشاي؛ لكن الجلسات الضخمة والعشاء الدسم لا بد أن يكون بعدها الحساب كيف؟ إذا جلس عندك إخوانك وتحدثوا وشبعوا وأكلوا وريقة: لا تنسوا إخوانكم المجاهدين.
على الأقل إذا اجتمع عشرة وكل واحد دفع خمسة ريالات تحصل خمسون ريالاً أظنها تكفل يتيماً لمدة شهر واحد أو أقل من شهر.
المهم أن نجعل العمل للجهاد والعمل للإسلام عملاً يومياً، ما ظنكم أن كل واحد منا كانت عنده مناسبة يجمع فيها مائة ريال، ثمانين ريالاً، مائة وعشرين ريالاً على مستوى المنطقة، كم نجمع للمجاهدين؟ ثم نسلمها إلى يد موثوقة توصلها إلى المجاهدين حسب الهيئة التي نتعامل معها أو الجهة التي نحن نثق بها.
فيا أحبابي: العمل للإسلام نريد أن يكون يومياً لا أن يكون مناسبياً، مناسبة محاضرة: الجهاد الجهاد.
والعشاء ليس فيه جهاد؟ والغداء ليس فيه جهاد؟ والعقيقة ليس فيها جهاد؟ والنزالة وقصر الأفراح لا نجمع فيها للجهاد؟ ولا نثقل كاهلنا بالكثير، ريال أو خمسة ريالات، بالكثير عشرة ريالات وكثر الله خير من فعل ذلك، كل واحد منكم مسئول عن هذا العمل.
عندنا شاب أسأل الله أن يوفقه بالدخل المحدود، شاب زهراني عندنا في الرياض الله يبارك فيه، بين فترة وفترة: يا أخ سعد تفضل هذه مائة وستة عشر هذه مائة وعشرون، هذه ثمانون، هذه تسعون.
ما هذا؟ كنا في مناسبة، ومستمر على هذا العمل، قلت: يا أخي! هنيئاً لك، وذكرت له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه الله إلى عمل صالح ثم يتوفاه عليه) فأسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يثبتني وإياكم على مرضاته، أسأل الله أن يتوفانا راكعين ساجدين شهداء مسلمين موحدين، وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من الهداة المهتدين، ونسأله ألا يتوفانا وألا يقبضنا على خزي أو فاحشة أو منكر أو معصية.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(181/18)
الأسئلة(181/19)
توبة كثير من اللاعبين في الرياض
السؤال
سمعنا توبة كثير من مشاهير اللاعبين من مدينة الرياض وعودتهم إلى الله تعالى، فما مدى صحة هذه العبارة؟
الجواب
الحمد لله، هذا صحيح، ولله الحمد والمنة، وأقول: إن الكثير من اللاعبين -ولله الحمد- على حد طيب من الاستقامة وحسن السيرة، ولكن الله من عليهم بمزيد من الصلاح والحب للإسلام والعمل له، فما تسمعونه خير وأولئك مثل وقدوة لأمثالهم من محبي الرياضة، أو للشباب الرياضيين الذي يظنون أن الشهرة تنتهي بكل واحد أو تشغله عن كل شيء، فلله الحمد والمنة من نجوم المنتخب ومن مشاهير اللاعبين لهم حظ طيب في الاستقامة والصلاح والدعوة إلى الله جل وعلا، ونحن نسأل الله أن يثبتهم وألا يكلهم إلى أنفسهم.
وليس هذا -يا إخوان- بغريب منهم، هل اللاعب في غنىً عن الجنة أو في أمان من النار، أو في ضمان برحمة الله جل وعلا؟ كلنا محتاج لذلك، لكن مثل هؤلاء إذا كان العدد من الشباب يتطلعون وينظرون إليهم فمن باب أولى إذا رأوا من يحبونه ويعشقون لعبه ويتابعون أخباره وأهدافه ومواقفه وفرصه؛ يعلمون أن هذا من خيرة الصالحين، من الشباب الطيبين ممن لا يترك الصلاة على أي حال حتى وإن كان في الداخل أو في الخارج، في المعسكر أو في أي مكان، على أنه مهما كان في أي موقف لا يلتفت إلى النساء، لا يقع في المعاصي، لا يقع في الزنا، لا يتساهل في مخالطة الفساق، فعند ذلك يكون قدوة وداعية رغم أنه في مكان -وليس بالضرورة- قد يجد فيه منفذاً إلى أن يفعل شيئاً من المخالفات، ومع ذلك ومع إمكانية ذلك فإنه يذكر رقابة الله عليه، وعلم الله بأحواله جميعاً فلا يفعل من ذلك شيئاً، بل يجتهد في حفظ نفسه وإخوانه.(181/20)
وسيلة مبتكرة في الدعوة إلى الله
السؤال
هناك أحد الإخوان يسأل بالله، ومن سألكم بالله فأجيبوه: يطرح فكرة، يقول: أجتمع أنا ومجموعة من أحبابي وعددهم ما يقارب خمسة وعشرين من الإخوة ندفع في كل شهر خمسة وعشرين ريالاً فما فوق، وهو مبلغ ندفعه إلى صندوق عند أحدنا، ونشتري بهذا المبلغ كل شهر مجموعة أشرطة ورسائل لفئة معينة من الناس، مثلاً نجتمع في آخر الشهر ونشتري رسائل وأشرطة ومحاضرات فننصح المرضى ونذهب إلى أحد المستشفيات ونوزعها على غرف المرضى، ونهدي لهم تلك الرسائل والأشرطة، ونسأل الله أن ينفع بهذه الفكرة؟
الجواب
يعني هذا الأخ جزاه الله خيراً ينشر فكرة ويسن سنة حسنة لعله أن يفوز بأجرها عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
يا إخواني: هذا الدين عظيم وليس محدوداً بجانب معين، جميع جوانب الحياة للدين فيها أمر ونهي، وللدين فيها علاقة وصلة، فكل سنة ومشروع نافع حسن تفعله في هذه الأمور فأنت تؤجر به، وثق أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.(181/21)
حكم السكوت عن جماعة يفعلون الفاحشة بعد نصيحتهم
السؤال
أنا شاب ملتزم، وأسكن في عمارة وفيها شباب، وأرى كل يوم هؤلاء الشباب ومعهم فتيات وساقطات ومن يتبعن الرذيلة مثل هؤلاء، وأنا أعرفهم ونصحتهم ولكن لا فائدة، فهل أنا آثم على السكوت في ذلك، أم أن مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (من ستر على مسلمٍ ستره الله عليه يوم القيامة) يشملني؟
الجواب
لا يا أخي، هذا رضى بالشر ورضى بالمعصية وبالفسق ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولا يدخل هذا في الستر، الستر مثاله كأن تجد مثلاً سكراناً أو أن تقبض على اثنين في حالة معينة في أول وهلة مثلاً ثم تنصحهما ويلتزمان بالتوبة ويبذلان لك الرجاء أن تستر عليهما، ويعدانك بالتوبة إلى الله جل وعلا، فهنا حسن لو سترت عليهما، لكن هؤلاء الذين تنصحهم مراراً ومع ذلك هم مصرون فهذا لا يصدق عليه الستر، بل فيه المداهنة والرضا ولا حول ولا قوة إلا بالله! بل من واجبك أن تعد المخطط، وأن تنصب الكمين لكشفهم والقبض عليهم، طالما أنك نصحتهم مراراً فلم ينتصحوا، ونهيتهم فلم ينتهوا، وزجرتهم فلم يزدجروا، فلا بد أن ترتب المكان والخطة والكمين المناسب للقبض عليهم.
ولعلمك هناك حالات لا بد فيها من القوة
ووضع الندى في موضع السيف بالفتى مضر كوضع السيف في موضع الندى
ويقول الآخر في بعض ألوان الشر:
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسر
فلا بد أن تستخدم شيئاً من القوة حتى تقهر هذا الباطل، ولماذا شرع الجهاد؟ لأنه قمع للعناد والعصيان الذي يقف أمام انتشار الحق وإقامة شرع الله جل وعلا، فالقوة مطلوبة في بعض المواقف.(181/22)
كتاب الداء والدواء لابن القيم
السؤال
نرجو أن تذكر الكتاب الذي ذكرته في بداية الحديث عن أن الشيخ ابن القيم رحمه الله قد أورد أربعاً وسبعين قصة.
الجواب
نحن قلنا أنه قال: ومن عقوبات الذنوب، ومن عقوباتها، أورد أربعة وسبعين أثراً من آثار الذنوب أورد في بعضها شيئاً من القصص ولم أقل أربعة وسبعين قصة، هذا الكتاب اسمه الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، هذا كتاب قرأته ثلاث مرات لا أمل قراءته، وأنصح كل واحد منكم أن يكثر من قراءته، والعجيب حينما تقرأ فيه كأنك تقرأ لأحد علماء النفس والأطباء النفسيين في هذا الزمان، مع أنه في القرن السابع! من شدة جمال ومعالجة وخطاب هذا الكتاب لمكنونات النفس!(181/23)
لكي تجعل بيتك خالياً من المعاصي
السؤال
كيف أستطيع أن أجعل من منزلنا أو بيتنا بيتاً إسلامياً ليس فيه معصية، وبذلك أقي نفسي وأهلي من وقود النار؟
الجواب
اعلم -يا أخي الكريم- أنها أمنية كل واحد، وكل واحد يجب أن يجعل من بيته أسرة مسلمة في مجتمع مسلم، وعلى أية حال -بالمناسبة- هذه البلاد الطيبة المترامية الأطراف، الشاسعة الأنحاء، ليس غريباً عليها أن تكون مشعلاً وقدوة ونبراساً وإماماً لدول العالم أجمع، والعالم الإسلامي خاصة؛ لأن أهلها أهل عقيدة، وأرضها أرض رسالة وتجديد عقيدة، بل الغريب أن نجد البعد عن الالتزام.
من واجبك -يا أخي الكريم- أن تسعى إلى بذل الحب والندى واللطف والمودة لأهلك وأهل بيتك، حينما أريد أن أنصح من يكرهني فاعلموا أنه لن يسمع مني؛ لأن من يبغضني لن يسمع مني صرفاً ولا عدلاً، لكن إذا أحبني سمع مني، فأول خطوة أفعلها: أن أتودد وأن أتحبب إلى أهل منزلي: أبي وأمي وإخوتي وأخواتي، هذا بالهدية، وهذا بالتواضع والخدمة وكف الأذى والإيثار والبشاشة وعدم رفع الصوت وخفة النفس معهم، لا أن أكون ثقيل المنام، ثقيل الفراش، كثير الأوامر والمطالب، طويل اللسان، متعدد الأوامر، ثم آتيهم: اتقوا الله، النار حارة، النار باردة ولا يسمعون شيئاً، لا فائدة من الكلام هذا؛ لأنهم يرون رجلاً ثقيل النفس.
لكن حينما يجدون قبل كل شيء الذي يأمرهم حبيباً لطيفاً خفيف الظل ليس ثقيلاً عليهم دائماً يقدم لهم الهدية يخدمهم لا يكون أنانياً همه نفسه يحبهم يتدلل أو يتفنن في أساليب مرضاة والديه، عند ذلك -أيها الإخوة- تجدهم يحبونه، فإذا أحبوه حينما يقول لهم يسمعون، وحينما ينصحهم ينتصحون، وحينما ينهاهم ينتهون.
أذكر أحد الشباب -الله يذكره بالخير- هو الآن إمام مسجد في الرياض، كنا إذا زرنا، نقول: أين أبو فلان؟ يقول: الطبراني ما بعد جاء.
يضحك عليه يسميه الطبراني، أين هو؟ والله الطبراني ذهب المعرض ذاك.
ومع ذلك كان كثير المزاح مع والده، خفيف الظل، خفيف النكتة والمرح مع والده، ليس أنانياً، واستطاع بفضل الله أن يجعل من والده الحليق لحية طيبة مباركة، ومن ذلك البيت المنفلت أسرة صالحة، ومن ذلك المجلس الذي يجلسه والده مع أصدقائه وشلته مجلس قراءة في كتاب الله أو في التفسير بماذا؟ بحسن الخلق.
يا إخوان قبل أن نقول للناس: هذا حلال وهذا حرام، ينبغي لا ينبغي، يجوز لا يجوز، ينبغي أن نعرف أولاً هل هم يحبوننا أم لا؟ هل رأوا فينا القدوة الصالحة أم لا؟ هل وجدوا فينا مسابقة ومسارعة إلى تطبيق ما نأمر أم لا؟ فحينما يجدون هذه الصفات التي تكسر حواجز العلاقات، بل تفتح سبل المودة وتمهد الطرق للمحبة عند ذلك يسمعون منا ويتأثرون بنا.
وأقول لك: لا تقصر أو تبخل عليهم بكل جديد من الأشرطة والرسائل الطيبة، وأيضاً الأمور النافعة، يعني: تجد بعض الشباب يومياً شريط، يومياً رسالة، لكن ما يوم من الأيام أعطاهم مثلاً وجبة أو ساندويتشات أو عطور أو أقمشة أو أشياء جميلة، دائماً كتاب أو رسالة، يوماً رسالة، ويوماً ساندويتش، ويوماً كذا، فجدد عليهم يقبلون هداياك، وبين الفينة والأخرى ساعة وساعة.
أسأل الله أن يبارك فيك، وأن يصلح بيتك وسائر بيوتنا أجمعين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(181/24)
كيف تدعو فرداً؟
الدعوة إلى الله هي دعوة للخروج من ظلمة المعاصي إلى نور الهداية، ومن سراديب الجهل إلى ساحات العلم والمعرفة بالله ورسله وشرعه.
وكما أن الدعوة الجماعية لها تأثير فكذلك الدعوة الفردية هي أصل التأثير وأنفع الدعوات؛ باستقراء حال كثير من المهتدين، وإذا كان نفع الشخص في الدعوة الجماعية عميقاً فهو أعمق في الدعوة الفردية.(182/1)
الدعوة إلى الله: مفهومها وأهميتها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى، فهي سبيل النجاة لأولى القلوب السليمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! لا يخافكم أن دعوة عباد الله إلى طاعة الله من أجَلِّ الأعمال وأفضل القربات، كيف لا وهي وظيفة الأنبياء، ومهمة الرسل، وديدن العلماء، وميراث ورثه الدعاة، دعوة عباد الله إلى طاعة الله، ذلكم الجواب الذي تحدث به الصحابي الجليل حينما قابل قائد الفرس، وقال ذلك القائد: ألم تكونوا جياعاً، فكنا نعطيكم كل عام ميرة أصواعاً من بر أو شعير فتكفيكم، فما الذي جاء بكم؟ فقال الصحابي الجليل: [جئنا إليكم لنخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها].
أيها الأحبة! الدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى النور وهجر للظلمة.
الدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى العلم وقطيعة للجهالة.
الدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى الاجتماع وتحذير من الفرقة.
الدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى العمل وتطليق للبطالة.
الدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى التعاون وهجر للأثرة والأنانية.
كيف لا وهي تدور في محورها على عبادة الله جل وعلا، وعبادة الله سبحانه وتعالى محققة لكل خير طاردة لكل شر.
أيها الأحبة! يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ففي هذا خطاب يوجه الطاقات إلى أن توظف في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويرسم لها طريق الدعوة وسبيلها ووسائلها، ويبين فضلها، وجليل منزلتها {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] وبدأ بالحكمة قبل الموعظة، والموعظة مشتملة على العلم والبصيرة، لأن الاختيار والتوقيت، ومعرفة السبيل، وكيفية التطبيق والأداء أمر مهم جداً، الحكمة: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، الحكمة: وضع الأمر في نصابه وفي موضعه، وعلى السبيل والطريقة التي تضمن بإذن الله نجاحه.
فاختيار الوسيلة أمر مهم لا يغني عن وجود العلم، ووجود العلم لا يغني عن الحكمة والوسيلة، وكل أمر من الأمور لا بد فيه من صحة الوسيلة وصحة النية كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: كل أمر من الأمور لا بد فيه من صحة المقاصد، وصحة الوسائل، وإن صحة الوسائل لا تعفي ولا تغني عن صلاح المقاصد، وإن صلاح المقاصد، لا يغني ولا يعفي من صحة الوسائل.
وهذا أمر جلي واضح حتى في أبسط الأمور وأيسرها، فمن أراد ونوى وقصد السفر، فإن قصده السفر لا يغنيه عن تحديد وسيلته المناسبة، ومن اختار وسيلة مناسبة في السفر دون تحديد للوجهة والمقصد، فهو ضائع هائم على وجهه.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ويقول صلى الله عليه وسلم لـ علي، والخطاب لعموم الأمة: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمُرِ النعم).
أيها الأحبة! لن نطيل في بيان فضل الدعوة، وأهميتها، ومكانتها، ومنزلتها، فهي أمر واجب وجوباً عينياً لا تبرأ ذمة الحاكم والمحكوم إلا بالقيام به، لا تبرأ ذمة الراعي والرعية إلا بأدائه، لا تبرأ ذمة الرئيس والمرؤوس إلا بالعمل له والدعوة إليه، وتيسير سبله، وفتح أبوابه، وتنويع مجالاته، الدعوة إلى الله أمر مهم وخطير وجليل وكبير ينبغي أن يلج كل مجال، وأن يدخل كل مضمار، وأن يحل في كل مساحة {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] وواجب الدعوة واجبان: واجب يتعلق بولي الأمر ومن عينه ولي الأمر مسئولاً محاسباً متابعاً منظماً معداً لأمر الدعوة إلى الله.
وجانب آخر من الدعوة يتعلق بكل فرد، يتعلق بالذكر والأنثى، والفتى والفتاة، والرجل والمرأة، قال ربنا جل وعلا: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
فهذا دليل صريح على أن شقاً وجزءًا وجانباً عظيماً من الدعوة يتحكم في الحاكم وأجهزته وكل دواوينه المتعلقة بهذه المهمة، يتحملون فيها عبء وشرف التكليف في هذا السبيل، ويقول تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فهذا دليل أيضاً على أن واجب الدعوة لا يقتصر في وجوبه ومسئوليته والمحاسبة عنه على الحاكم وأجهزته، بل يتعدى الوجوب إلى سائر الأمة، فكل مؤمن وكل مؤمنة مسئول عن الدعوة سبحانه وتعالى.
وهذان الدليلان على سبيل المثال لا الحصر، لأن الأدلة من القرآن والسنة متواترة متضافرة مشتهرة على توزيع هذه المسئولية.
ألا وهي مسئولية الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.(182/2)
الأسلوب الناجح في الدعوة إلى الله
أيها الأحبة! ولنا وقفة بعد هذا لنتكلم في واحد من أساليب الدعوة إلى الله، لقد ظن أو علم كثيرٌ من الناس بما رأوا من المحاضرات، والندوات، والكلمات، واللقاءات، وطباعة الكتب، وتوزيع الأشرطة أن هذه من أساليب الدعوة إلى الله، وهذا أمرٌ صحيحٌ، ولكنهم ظنوا أن وسائل الدعوة تقف عند هذه الوسيلة الجماعية، أن الدعوة في وسيلتها وطريقتها مخاطبة للجماهير، مخاطبة للجموع، حديث مع الفئام، ومن ظن أن الدعوة اقتصرت على هذه الوسيلة فقد أخطأ وأساء فهماً.(182/3)
أهمية أسلوب الدعوة الفردية
أيها الأحبة! هناك وسيلة مهمة من وسائل الدعوة إلى الله أوصيكم ونفسي بها، وأُحملكم ونفسي مسئوليتها، والدعوة إليها، ونشرها، والعناية بها ألا وهي: الدعوة الفردية، فإن كثيراً من الناس لا يعلم عن هذا شيئاً، وبعض الناس يظن أن الدعوة بالوسيلة الفردية استعمال لوسيلة ضعيفة غير مؤثرة، وليس هذا بصحيح، بل إن الرجال الأشاوس الأفذاذ الذين نفعوا الأمة لو رجعت إلى تاريخهم لوجدت أصل تربيتهم دعوة فردية تلقوها من عالم في حلقة علمه، وإمام ترسموا خطاه في منهج سلوكه في حياتهم.
إذاً: الدعوة إلى الله بالوسيلة الفردية لا تغني عنها الوسائل الجماعية في الدعوة، من الممكن والميسر أن توزع مئات أو آلاف الأشرطة، ومئات أو آلاف الكتب، وتخاطب المئات أو الآلاف من الناس في محاضرة أو ندوة، ولكن ثق وتيقن واعلم أن عدداً كبيراً من هؤلاء لم تنفذ رسالة الدعوة إلى قلوبهم، ولم تبلغ صميم أفئدتهم؛ الأمر الذي يشكك في أثر هذه المواعظ على جوارحهم وحواسِّهم.
أما التربية الفردية، أما الدعوة الفردية، فلها- بإذن الله- منزلة ومنفعة عظيمة، ولست بهذا أقلل من شأن الدعوة إلى الله بالوسائل العامة، أو بطبع الكتب وتوزيعها، ونسخ الأشرطة وتوزيعها، أو مخاطبة الجموع عبر الخطب والمحاضرات والندوات، ولكن ينبغي أن يكون لكل داعية ولكل فرد منكم جهد واضح، ومعالم بينة في الدعوة إلى الله بالوسيلة الفردية.
أتدري ما هي الدعوة الفردية؟ اتصال فردي بواحد أو اثنين، فإن ذلك أدعى- بإذن الله- إلى التأثر، وإن ذلك- بإذن الله- أدعى إلى التربية الحقيقية، والاستقامة النافعة، ولها أثرٌ بالغٌ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] الدعوة إلى الله بالوسيلة الفردية دعوة إلى مخاطبة العاطفة والفكر، دعوة إلى مخاطبة القلب والعقل، وتأثيرٌ على السلوك، واقتداءٌ في المعاملة، ولأجل ذلك كان الاقتداء من أجلِّ طرق التأثر والتأثير في الدعوة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] ويقول الله تعالى لنبيه، والخطاب للنبي بالأصالة، ولعموم الأمة بالتبع: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].(182/4)
الدعوة الفردية: صورة من صور تطبيقها
ترى شاباً منحرفاً وفي علمك أن من نفسك القدرة-بإذن الله- على التأثير عليه دون التأثر به، أو ترى شاباً فيه علامات خير، ولم توجه طاقتك بالكامل إليه، فتبدأ بالتعرف عليه أولاً، وكسب محبته ثانياً؛ لأنك لن تؤثر على أحد ما دام يبغضك، ولن تؤثر على أحد ما دام يكرهك، ولن تؤثر على أحد ما لم تكسر حواجز تمنع رسالتك من نصيحةٍ أو كلمةٍ إلى قلبه، فلا بد من كسب محبته بهدية، برسالة، بدعوة، بمناسبة، بأي وسيلة من الوسائل المشروعة التي تمكن لك في قلبه موقعاً ومكاناً، ثم بعد ذلك اعقد العزم على أن يكون ذاك الشاب، أو ذلك الرجل، أو ذلك الذي قصدت دعوته، اعقد العزم على أن يكون رفيقاً لك لمدة سنة كاملة، بمعنى الرفقة والملازمة والمتابعة، فتأخذه معك في محاضرة عامة، وتزوره ويزورك، وتتفقد المكتبات التجارية لترى ما فيها من الكتب، ولو شئت لزرت غيرها من المكتبات الخيرية، تذهب وإياه إلى درس، أو اثنين، أو ثلاثة من الدروس العلمية الشرعية في الفقه، أو العقيدة، أو النحو، أو غيرها، فيكون تلميذاً ملازماً، لهذا تجعل بينك وبينه وترسم معه منهجاً تحفظ فيه معه أجزاء من القرآن، وأحاديث من السنة، ونصوص من المتون، بمعنى اجعل هذا الرجل أو اجعل هذين الرجلين قضيتك هذا العام.
إننا أيها الأحبة لو سلكنا هذا الطريق، لنمى الخير بطريقة الأعداد المضاعفة المركبة، فلو اجتهد عشرة من الشباب على عشرة مثلهم، لكانت حصيلة هذا الجهد- بإذن الله- عشرين من المهتدين، ثم إذا اجتهد العشرون، كانت حصيلة سعيهم أربعين، فثمانين، فمائة وستين، وهكذا يتضاعف الخير بهذه الوسيلة المهمة.
نعم، لك أن تقول: شتان شتان بين أن أفرغ جهدي ووقتي لدعوة واحدة أو اثنين، وبين أن أقف خطيباً، أو محاضراً، أو متحدثاً أمام ثلاثة آلاف، أو أربعة آلاف، لا شك أن الأرقام هنا بينها بونٌ شاسعٌ، وفرقٌ واسعٌ، ولكن ثق أن الجماهير- في الغالب- عاطفتها وقتية، في الغالب من تأثر منها فإنما يتأثر في لحظة سماع الموعظة أو الخطبة أو النصيحة، وليس هذا تقليل لشأن الخطبة أو المواعظ، ولكن ذلك -كما قلت- يوجه، ولا يغني عن الدعوة إلى الله بالوسيلة الفردية.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(182/5)
أثر الدعوة الفردية على المدعوين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
أيها الأحبة في الله! إن الشريط والكتاب له أثرٌ بالغ، ولكن الشريط يخاطب حاسة السمع، والكتاب يخاطب العقل بواسطة البصر، وأما الدعوة الفردية فهي دعوة تخاطب السمع والبصر كل صفة قابلة للتوجيه والتأثر في المدعو، لذا كان لزاماً أن يتحمل كل واحدٍ منا، وكل من ينسب نفسه إلى هذه الأمة المباركة، إلى هذه الدعوة السامية وإلى هذه الأمة الوسط أن يتحمل كل واحدٍ منا مهمةً ودوراً عظيماً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لا تكتفي برسالة ترمي بها لصاحبك، أو بشريط يوزع في مناسبة، أو كتاب تسلمه في يده، بل إنا نسألكم، ونسأل من يعدون أنفسهم مستقيمين، أو يعنون بأمر الدعوة، ويهتمون بأمر الإسلام والمسلمين، نقول: إلى جانب كل جهودكم أين جهودكم في الدعوة الفردية؟ العلم ميراث، بل حتى أمور الدنيا ميراث، تجد أنواعاً من الصناعات والحرف يتوارثها حفيدٌ عن أب، وأبٌ عن جد، وجدٌ عن أجداده، فالدعوة تلزم من كل واحد قادر أن يجعل له تلاميذ أن يكون له أصحاب يتعاهدهم كما يتعاهد الزارع زراعته، يهتم بهم كما يهتم التاجر بثروته، يتفقدهم كما يتفقد المستثمر أمواله، تحج بهم ومعهم، تعتمر بهم ومعهم، لا تنقطع عنهم في الأسبوع المرتين والثلاث، تحضر معهم ويحضرون معك دروس العلماء وطلبة العلم، تذهب وإياهم إلى المحاضرات والحفلات والمهرجانات النافعة حتى لو اقتضى الأمر أن يكون حظك في تسوق بعض حاجاتك وبعض حاجاتهم على وجه من الذهاب سوياً وجميعاً ففي هذا خير.
أيها الأحبة! إن التربية الحقيقية هي ثمرة من ثمار الدعوة الفردية، الكلمات العامة في المناسبات العامة تخاطب خطاباً عاماً وخطاباً خاصاً، ولكنها لا تحيط بحياة المدعو، فلهذا الذي يسمع كلامك الآن يتأثر بك قليلاً، فلما يعود إلى شاشته يجلس متكئاً واضعاً رجلاً على رجل ليسمع ويرى نقيض وخلاف كل ما خطبت عنه، أو تكلمت فيه، وربما ارتكب شيئاً من الأفعال التي حذرت منها، أما الدعوة الفردية إلى جانب هذه الوسائل المباركة، فإنها تأثير على الوجدان، تأثيرٌ على الفكر الذي يتحكم بالحواس والجوارح، تأثيرٌ على القلب، تأثيرٌ على المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
إننا لا نريد النتائج بالعشرات، أو بالمئات، وإنما نسأل كل شاب من الشباب -والخطاب للشباب وللشابات، والرجال والنساء، والكبار والصغار- ونخصهم بهذا الخطاب؛ لأنهم أحرى وأدرى وأقوى على اختيار هذه الوسيلة وتطبيقها: هل جعلتم في برنامجكم، وأنتم في بداية هذا العام الهجري (1414هـ) وتستقبلون إجازة عظيمة، هل جعل كل واحد منكم في ذهنه أن يجعل محصلة عمله، وثمرة جهده في هذه الإجازة واحداً، أو اثنين من الشباب يرافقهم ويلازمهم، ويعتني بهم، ويحل مشاكلهم، ويجتهد في فهم أمورهم، وتأثيره على سلوكهم؟ ثقوا أيها الأحبة أننا وأنكم ستجدون أثراً مضاعفاً مركباً في هذا المجتمع، فكل سنة تجدون صوراً، ومزيداً من الصور المشرقة في صلاح الأمة، وهذا لا يغني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى أنه لا يغني عن وظيفة الحسبة، وهذا لا يقلل أو يغني من الدعوة بالأساليب الجماعية كالخطب والمحاضرات، والندوات، واللقاءات، وتوزيع الكتب والأشرطة، ولا يغني عن غيره من الوسائل، ولكن الوسائل مجتمعة بدون استخدام هذه الوسيلة -أي: الدعوة الفردية- تبرز وتبين أن النتيجة ربما كانت ناقصةً، أو ليست في حجم ما نطمح إليه ونرغب فيه.
لذا أيها الأحبة أعيد وأكرر، وأزيد وأبين، وأخص الشباب بهذا ألا يكون نصيبكم من الالتزام فقط التزامكم الشخصي، وذهاب الواحد بنفسه إلى حلقة العلم منفرداً وعودته منفرداً، ذهابه إلى المكتبة منفرداً وعودته منفرداً، ذهابه إلى المعهد العملي أو المركز الصيفي منفرداً وعودته منفرداً، ذهابه إلى العمرة منفرداً وعودته منفرداً، بل لا بد أن يجعل معه واحداً أو اثنين يذهب بهم إلى حلقة العلم والمحاضرة والمعهد، والمركز، والحج والعمرة، والسفر، وزيارة العلماء وطلاب العلم.
وهنيئاً لك يوم القيامة يوم أن تقف بين يدي الله جل وعلا في وقت ذهلت فيه كل مرضعة عما أرضعت، ووضعت كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى من شدة عذاب الله وهول ما يرون، في وقت كل يفر من صاحبه، الأم تفر من ابنها، والزوج من زوجته، والأخ من أخيه، في ذلك الوقت ستجد صيامك وصيام هذا الذي أثرت عليه في موازينك، ستجد تهجدك وصلاتك، وتهجد اثنين ممن أثرت عليهم، ستجد علمك وعلم اثنين أو ثلاثة ممن أثرت عليهم، ولو صدقت النية لكان لك في نهاية كل سنة ميزانية ثرية، وميزاناً يخبرك أنك رابح حيث كانت نتيجة سعيك، ومحصلة عملك أن اهتدى على يديك في هذا العام اثنين، واهتدى على يديهم عشرين، وعلى يد العشرين آخرين، فيكون الجميع في ميزان أعمالك يوم القيامة.
أرأيتم كيف تكون الدعوة من أجَلِّ الأعمال، وأربح البضاعات، وأجّلِّ القربات، أرأيتم كيف أن الحسنات في الدعوة إلى الله تضاعف مضاعفةً مركبةً لا حصر لأرقامها إلا بعلم الله جل وعلا إذا صدقت النوايا، وصحت الوسائل.
فيا شبابنا، ويا رجالنا، ويا أبناء أمتنا، ويا معاشر المؤمنين والمؤمنات الدعوة الفردية، وهذا الخطاب يصح أن يوجه للمرأة، وللنساء، فللمرأة أن تؤثر على صاحبتها بزيارتها، واستضافتها، وحضور المحاضرات معها، إني أعجب يوم أن تجد منتقداً ينتقد فتاةً تحضر محاضرة، أو ينتقد امرأةً قد سجلت اسمها في مدرسة تحفيظ القرآن، أو في مركز صيفي يعنى بتحفيظ القرآن الكريم، لكنه ما انتقد تلك التي حظ السوق منها خمسة أيام من الأسبوع، وحظ حديقة الحيوانات يومين من الأسبوع، وحظ الملاهي اثنين أو ثلاثة، وحظ المناسبات والزيجات في الفنادق وقصور الأفراح أياماً متعددةً، تجد عجباً! لا تجد من ينكر على تلك المرأة التي ضاع ليلها ونهارها بين الحدائق والمناسبات والأسواق، ولكن يقول بعضهم: ما سمعنا بالتزام امرأة تحضر محاضرة، أوليس خيراً لها أن تسمع إذاعة القرآن الكريم فقط؟ ما سمعنا بامرأة تخرج إلى ندوة نسائية، أولا يكفيها أن تسمع الشريط بعد تسجيله؟ ما سمعنا بامرأة كذا وكذا، لكنه يعلم علم اليقين حال تلك التي خرجت لتفتن الرجال وتفتن نفسها، وأن شر البقاع عند الله أسواقها، وأن شر فتنة أنزلت على هذه الأمة المال والنساء، فلا ينكر من هذا قليل ولا كثير، لكنه ينكر على الفتاة الصالحة، وعلى المرأة المسلمة المتدينة، ينكر عليها اهتمامها بالدعوة الفردية أيضاً، فالخطاب للجميع أن يتبنى كل واحد في كل عام رجلاً أو رجلين، والفتاة تتبنى صديقةً أو صديقتين، امرأةً أو امرأتين، فتعتني ويعتني الكل بصاحبه عنايةً فائقةً، وإن النتيجة-بإذن الله- نافعة.(182/6)