إيقاظ الجار لصلاة الفجر
السؤال يقول: لي جار أوقظه لصلاة الفجر، ولكن يقابلني بقوله: إنك أزعجتني وأزعجت أهلي فلا توقظني أبداً؟
الجواب
على أية حال يا أخي! الواجب عليك أنك لا تمل في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، والذي أراه لك في البداية أن تنصحه نصيحة بينك وبينه، وألا تمل النصيحة، قد يكون الرجل يصلي في بيته ولا نظن بمسلم أنه يترك الصلاة بالكلية، لا شك أن ترك الصلاة في المسجد لا يجوز، لكن ليس السبيل أن تذهب وتتركه، ولا شك أنه ينزعج، ولا تضرب الباب في هذا الوقت، وليس هذا من أجل راحته، ولكن من أجل أن تصل إلى قلبه في لحظة قبول واقتناع واستجابة، فعند ذلك سيصبح يصلي بنفسه بدون أن تطرق عليه الباب، أو قد يطلب منك في المستقبل، يقول: أعني على نفسي واطرق علي الباب لكي أشهد الصلاة مع الجماعة، فهذا أمر مطلوب.(106/27)
علاج داء الغرور لدى المسئولين
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: لدينا مسئولون عندهم داء الغرور، فمال الحل لإقناعهم أن لديهم داء؟
الجواب
أسمعوهم هذه المحاضرة لعل الله أن ينفع، ونسأل الله جل وعلا أن ينفع بجهودنا وجهودكم هذا شيء.
الشيء الثاني يا إخوان: أن الغرور داء دفين في النفس، والأمراض الخفية تكون في خبايا النفس خاصة في الجوانب السلوكية، وداء الغرور يكتشف من سلوك الإنسان؛ من دخوله وخروجه وقدومه وانصرافه ومقابلته للناس ومعاملته مع الناس، فعلى أية حال هذا الذي عنده داء الغرور أكثر له من الأشرطة التي فيها بيانٌ لأصل هذا الإنسان وأصل خلقته تكوينه، وأنه ضعيف، ومناقشة الغرور لا ينتهي أبداً، يا أخي بأي شيء تغتر؟! {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء:50 - 51] أي: لو كنتم حجارة أو حديداً أو خلقاً أكبر من هذا فسيأتي بكم الله ويعذبكم ويحاسبكم، فالمسألة ليست بحديد فولاذي لا تبلى ولا تفنى، بل بالعكس فأنت بشر ضعيف، الواحد لو أصابه جرح في إصبعه، فمن نعمة الله أن توجد مادة في الدم تسبب التجلط حتى يقف الجرح ويعود بناء الأنسجة من جديد، وإلا فإن هذا الجرح ربما ينزف قطرة قطرة لمدة يومين أو ثلاثة أيام حتى ينتهي، فهذا الإنسان الذي شق الأنفاق وركب البحر والغواصات والطائرات والصحاري له جهوده في مجالات عديدة، لكن أيضاً هو ضعيف جداً.
الكلى: أسأل الله أن يعافي الذين ابتلوا بمرض الفشل الكلوي، وأن يمن عليهم بالشفاء والعافية، انظروا هذه الكلية حجمها بنصف حجم القلم وبشكل قريب من نصف الدائرة، من الذي يعوضها؟ الإنسان ضعيف جداً وانظر إلى هذه الناحية من أمرين: الأمر الأول: دقة وعظيم خلق الله لعبده.
والأمر الثاني: لا يعوضك أحد إذا تخلى عنك الله سبحانه وتعالى، وإذا زالت عنك عافية الله جل وعلا فلن تستطيع أن تعوضها بشيء.
الذين أصيبوا بالفشل الكلوي مستعدون لأن يبذلوا ملايين من أجل أن تعود الكلية كما كانت، وذلك لا يكون إلا إذا أذن الله جل وعلا لأحدهم بأن توجد له زراعة كلية من إنسان آخر أو من متبرع وتكللت عمليته بالنجاح، فالإنسان ضعيف.
وآخر فقرة في العمود الفقري لو سقطت عليها لأصبت بشلل نصفي، نقطة بسيطة في الدماغ إن تتحرك عن مكانها يحصل شلل كامل، وقد تتعطل حاستين أو ثلاث.
فالخلاصة: أنك ضعيف جداً جداً، وأدنى شيء يؤثر في حياتك، ويجعلك تتألم وتتعذب، لكن من كان في العافية فهو لا يعرف قيمتها، ولا يعرف قيمة العافية إلا من ذاق المرض:
لكل ما يؤذي وإن قل ألم ما أطول الليل على من لم ينم
لو أن الإنسان تقلب على فراشه ساعتين من وجع سن، قال: أقلعوا حنكي كله وليس ضرسي فقط، دعوني أرتاح، لأنه يتألم ألماً شديداً.
إذاً هذا الإنسان أكثر له من الأشرطة والرسائل والمحاضرات، وأيضاً إذا وجدت الجلسة المناسبة معه لكي تبين له أن الإنسان ضعيف ومسكين، ولا بقاء ولا قدرة ولا ثبات له إلا إذا منَّ الله عليه بالشفاء والعافية، إذاً فهو محتاج لأن يرتبط بالله حتى يتمتع بهذه العافية، إنسان يملك ملياراً، لكنه محروم من السكريات والنشويات، ومحروم من أن يمشي كثيراً، ومحروم من تناول الملح لأن عنده ظغطاً في الدم؛ ما هذه الحياة! حقيقة يا إخوان! هل الدنيا مال؟ لا، الدنيا بعد طاعة الله عافية، ولذلك ينبغي للعبد أن يسأل الله سبحانه وتعالى؛ اللهم إني أسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، العافية نعمة عظيمة من أكبر النعم، فإذا أكثرت على هذا المسئول من هذه الجوانب وهذه النقاط، فلا بد أن يعود ويئوب إلى الله يوماً من الأيام.(106/28)
الرد على من يقول: المحاضرات ليس مكانها النادي
السؤال
فضيلة الشيخ: أعيانا الرد على بعض الإخوة الذين يجادلون بأن المحاضرات الإسلامية ليس هذا مكانها فما تقولون لهم؟
الجواب
فهل مكان المحاضرات المساجد فقط؟ لا.
نحن لا يوجد عندنا فصل الدين عن الدولة، الدين في المسجد فقط وما سوى ذلك فلا علاقة له بالدين أبداً! الدولة من أكبر جهاز فيها إلى أصغر جهاز فيها هي محل بالدين، وما هي إلا مطبقة للدين وحاكمة للدين ومأمورة بأمر الدين، لا يمكن أن نتصور هذا الأمر، والذي يقول: هذه الأندية ليست للمحاضرات، نقول: فماذا تكون؟ تكون لتربية الأجسام فقط؟ تربية عجول؟ لا، هذه الأندية لتربية العقول وتربية الأبدان على مستوى متوازن متمازج وإلا ما قيمة بدن قوي نشيط لكن ما عنده عقل.
أذكر في يوم من الأيام في الشارع الثلاثين في العلية بعد مباراة من المباريات كان هناك مجموعة شباب واقفون في سيارة (جيمس) يلبسون فنايل (نصف كُم) وقد سدوا الطريق بالسيارة في ممر بجوار شارع الثلاثين فلا تمر منه سيارة، هل هذه الأندية تقر هذه الأعمال؟ لا، هو الآن يشجع نادياً أو يشجع نخبة من مجموعة أندية، فهل تأثر بهذه الأندية إلى هذا الحد؟! ليست الأندية التي فرضت عليه هذا الفعل، سلوكه وخطؤه ينسب إليه ولا ينسب إلى الأندية، لكن ما دام أحب الأندية، فلا بد أن يسمع كلمة في النادي حتى يصلح من الخطأ في سلوكه.
ثم يا إخوان لا بد للدعاة أن يدخلوا كل مكان، شاب لا يدخل المسجد لكنه يدخل النادي؛ أليست فرصة أن تقابله فيه وتوصل إليه كلمة الحق؟ بلى والله، بل إن من الدعاة من دخل أماكن لهو لم يجلس فيها لاهياً وإنما اقتنص صيده واحداً تلو الآخر لكي يهديهم إلى الله جل وعلا، وحصل أن اهتدت طوائف بهذه الطريقة.
الداعية الذي يهمه أن يهتدي الناس، والذي يشفق على الآخرين من عذاب الله، الداعية المحب لإخوانه لا بد أن يدخل إليهم في كل محل، ما هي العداوة بيني وبين أبناء النادي حتى لا أدخل إليهم؟ وما هي العداوة بينهم وبيني حتى لا يسمعوا مني في النادي؟ هم إخواني وأنا أخوهم، يصلون معي الجمعة وآتي إليهم في ناديهم، ويزورونني وأزورهم، ويأتون إلي في المكان وآتي إليهم في المكان، لماذا نحاول أن نجعل المجتمع طبقات، طبقة أندية لا يمكن أن تهتدي، وطبقة مطاوعة شغلها في المساجد، وطبقة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر (صلوا صلوا).
لا.
المجتمع كله بوظيفة ومهمة واحدة في حفظ الأمة، حفظ شباب الأمة، حفظ كيان الأمة، هذا ليس مسئولاً عنه النادي وحده، كل دائرة من دوائر الدولة بجميع وزاراتها ومؤسساتها وأجهزتها مسئولة عن حفظ كيان الأمة وأمن الأمة وشباب الأمة جميعاً.(106/29)
استمرار المحاضرات في الأندية
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: أخبرك أني أحبك في الله، ثم أخبرك أننا معشر الشباب في أشد الحاجة إلى مثل هذه المحاضرة المباركة، وأتمنى أن تتكرر وتكون في مكان أكبر من هذا لأن الذين رجعوا إلى منازلهم أكثر من الذين وجدوا مكاناً لهم؟
الجواب
على أية حال نسأل الله للذين رجعوا أن ينفعهم بما سمعوا، وأن يجعل بقاءهم معنا المدة التي جلسوا فيها في موازين أعمالهم، وأن يثيب الجميع، وأن يثيب من بقي معنا، وفي الجميع البركة إن شاء الله، على أية حال ليس هذا هو اللقاء الأول، هذا فيما نرجوه لإخواننا في نادي النصر الرياضي، وأيضاً نرجو من جميع المسئولين عن الأندية أن يجعلوا من الأندية منابر نور وإشعاع للمجتمع، ما ظنكم أن نادي النصر الرياضي يتبنى كل شهر ولا نقول نصف شهر مناسبة ثقافية، أمسية شعرية، حفلاً مسرحياً، محاضرة، مسابقة، قصيدة، كلمة، المهم أن نرفع من مستوى أبناء المنطقة؛ منطقة الدخل المحدود ما شاء الله مكتظة بالسكان، هذه الكثافة السكانية بحاجة إلى الوعظ والإرشاد والتوجيه والإفادة، وخير من يقوم بهذا التوجيه هي الأندية الرياضية، فليس دور الأندية الرياضية فقط أن تربي أجيالاً تلعب الكرة جيداً، وتحسن أن تسدد الأهداف جيداً في الشباك، لا، أيضاً من مهامها أن تنفع المجتمع، وكل نادٍ رياضي يفتح لائحة تأسيسية فيقال: نادي رياضي اجتماعي ثقافي ينفع المجتمع، المهم أن مهمة الأندية نفع رياضي مع الثقافي والاجتماعي وتوجيه وإيصال هذا الخير إلى أكبر أفراد المجتمع، فلماذا تخلف الجانب الثقافي والاجتماعي في النادي؟! هذه مسئولية المسئولين في النادي، ولا أدري هل في الحضور أحد من العلاقات العامة، وكنا نطمح أن يحضر عدد أكبر من إدارة النادي نفسه، ما يكفي واحد أو اثنين أو ثلاثة، نطمع أن يكون في مثل هذه المناسبات مستوى أكبر من إدارة النادي أن يكونوا موجودين لكي يثبتوا لكم معاشر الإخوة أن إدارة النادي حريصة على هذا الأمر، وليس جهد واحد أو اثنين أو ثلاثة فقط في هذا النادي.(106/30)
ستر العورة أثناء لعب الكرة
السؤال
فضيلة الشيخ حفظه الله: نحن اللاعبين الموجودين في الأندية، نحب أن نلبس سراويل تستر العورة، ولكن من يفعل ذلك يتهم بالتعصب، مع أن اللاعبين في الدول الغربية يلبسون (هيلاهب) كامل ولا أحد يتهمهم بتعصب وتزمت فما قولك في ذلك؟
الجواب
على أية حال عليك أن تعرف الصواب وتعمله، ثم بعد ذلك لا يضرك من خالف:
إذا الكلب لم يؤذك إلا بنبحه فدعه إلى يوم القيامة ينبح
نعم.
ما دام أنك تعرف أن هذا هو الحق، وأنه لا ينبغي لرجل أن يلعب وفخذه مكشوفة، فافعل ذلك ثم العب، ثم ماذا إذا لبس سواء تحت الركبة بقليل أو لبس الترنك الطويل هل هذا يؤثر على أداء اللاعب رياضياً؟ بالعكس أظن أنه يضفي إليه شعوراً بالطمأنينة والارتياح بأنه يمارس رياضة مباحة، ولم يفعل في ممارسته أمراً حراماً، عند ذلك يضفي عليه قناعة وارتياحاً وحسن أداء.(106/31)
حكم رد السلام على النساء ومخاطبتهن لغير المحارم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: هل يجوز رد السلام على النساء وإفشاء السلام عليهن، ومخاطبتهن لحاجة وهن ليس من محارمي، والله الموفق؟
الجواب
يجوز رد السلام على المرأة، ويجوز إفشاء السلام عليها ما لم تكن صغيرة يخشى الفتنة من صوتها، ولا تجوز مصافحتها ولا الخلوة بها إذا كان ليست بمحرم لك.(106/32)
حب المدح والثناء من الناس
السؤال
أنا عندما اختلط بناس لا أعرفهم، أحاول أن أجمل أخلاقي وأحسنها، وأحاول ألا أحد يتكلم بشيء ينزل بقيمتي، وعندما أختلي بنفسي أحاسبها على ذلك، ويعجبني إذا كان أحد يمدحني وأنا أسمعه، وأتراءى له كأني لم أسمعه، فكيف أتخلص من تلك الظاهرة السيئة جزاكم الله خيرا؟
الجواب
على أية حال -يا أخي- فالنفس مولعة بحب العاجل، كثير من الناس يحب الثناء والمديح، لكن إذا كان الإنسان يفعل أعماله من أجل أن يثنى عليه، فهذا رياء ومحبط للعمل، لأنه لا يفعل الشيء ابتغاء وجه الله، بل ينتظر من الناس أن يمدحوه وأن يثنوا عليه، وإذا جاء وقت لا تمدحه الناس ولا تثني عليه سيحزن، ولن يفعل شيئاً، وهذا لا يصلح، فينبغي للإنسان أن يحاسب نفسه.
ثم يا أخي! أي عمل من الأعمال أنت تبذله فسوف يكون هناك مشقة وارتباط، فجهدك ومشقتك وارتباطك بدلاً من أن يضيع هباءً منثوراً، احتسب واخلص نيتك لله سبحانه وتعالى.
ثم يا أخي! هب أن كل من في القاعة مدحوك، هل قدموك إلى الآخرة درجة؟! وهب أن من في القاعة ذموك هل ردوك عن الجنة؟ إذاً لا تنتظر الثناء والمديح من أحد، والذي يغرق في حب الثناء والمديح فهو في خطره شديد، وقد يقع في الرياء ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن إذا فعلت أمراً محموداً، ثم أثني عليك بعد ذلك فلا حرج عليك، ولو أعجبك ذلك كما ورد في الحديث لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يفعل الخير، فيحمده الناس على ذلك فيعجبه، فقال صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن) هو أساساً ما فعل هذا الفعل لكي يمدحوه، هو عمل عمله ابتغاء مرضات الله، فأثنى الخلق على عمله، فتلك عاجل بشرى المؤمن بالرضا والقبول، فلا حرج في ذلك، أما أن تشتهي هذا وتحب أن يمدحك الناس وأن تكون دائماً في الطليعة: (رحم الله امرءاً إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة، وإن كان في الميسرة كان في الميسرة).
يا أخي! إن كنت داعية إلى الله بحق خالصاً مخلصاً لا يهمك أين تكون على الخشبة، أو وراء الباب، أو خلف الستارة، أو خلف البوابة، المهم أن يكون عملك لله، وأن يمضي لك عمل بينك وبين الله سبحانه وتعالى، إذا بلغت هذه الدرجة؛ فأنت على مرتبة من الإخلاص، أما إذا كان لا يحلو لك الحديث إلا تحت الأضواء، فهذا خطر عظيم فراجع نفسك وحاسبها.(106/33)
ظاهرة انتشار المقاهي ومحلات الفيديو
السؤال
فضيلة الشيخ: في الآونة الأخيرة انتشرت المقاهي ومحلات الفيديو، ونرجو من فضيلتكم التعليق على هذا الوباء الخطير؟
الجواب
كلها من مظاهر الفراغ، ومن مظاهر ابتذال الوقت المفضي إلى احتقار الذات، تعال انظر إلى مقهى من المقاهي وعد كم سيارة واقفة عنده وادخل على هؤلاء الشباب، ثم ماذا؟ مضيعة وقت.
هل يحلون قضية الشرق الأوسط؟ لا.
أعندهم مشاريع نافعة؟ لا.
بل مضيعة وقت، وإفساد أخلاق، وإتلاف أبدان، وخسارة أموال، كل هذه مجتمعة، فلا غرابة أن تجد الذي يخرج من هذا المقهى بعد ما أخذ له عشرة رءوس أو اثني عشر رأساً؛ أن تجده مسكيناً هزيلاً ضعيفاً، عندما تخاطبه يجد من نفسه ذلة وإهانة، هو بنفسه يحتقر نفسه لفعلها، والحاصل أنها دلالة على الخطر العظيم.
منذ مدة قدم لي أحد الشباب ورقة فيها مقالة: أين المتنفس؟ يقول: أين يتنفس الناس إذا أردنا أن تكون المقاهي خارج المدينة؟ وهذه كلمة حق أريد بها باطل، وكاتب يقول: لماذا يحرصون على إبعاد المقاهي من داخل البلد، ونحن نقول هذا ونكرر: هذه المقاهي يشربون فيها الشيشة، وتجد الطفل الصغير يأتي ويضع رجلاً على رجل، ويقول: أعطني رأساً، أعطني رأسين، والعامل مستعد أن يعطيه عشرة رءوس ما دام يدفع على الرأس كذا مبلغ، مستعد يعطيه إلى أن ينفجر رأسه، لكن القضية وما فيها في كيفية تأثيرها على الشباب، يخرج الولد من المدرسة إليها فيأخذ له رأساً أو رأسين حتى يُدمن، ويأتي الولد البريء النزيه ويقولون له: اجلس اشرب معنا شاي، ثم يجلس يشرب الشاي، ويقول: أعطني رأساً، ثم ثبت بما لا يتطرق إليه الشك أن نسبة من هذه المقاهي خاصة التي يتناول فيها ما يسمى بالشيشة تستخدم لتهريب وتوزيع المخدرات: (الكمية المطلوبة اثنا عشر حبة، الموعد قهوة كذا في المحل الفلاني، سلم واستلم، الكمية المطلوبة خمسين حبة، من أي نوع؟ من النوع الفلاني كبتاجون، هروين، كوكائين، الموعد المحل الفلاني) وهم أذكياء يبدلون المحطات، وفي فترة من الفترات انتشرت على خط الحجاز محلات تغيير زيوت انتشاراً رهيباً وبشكل غريب جداً، وما بين هذه المحطة والتي بجانبها إلا عشرين متراً أو خمسين متراً، أيعقل هذا؟! فينبغي للشاب الذكي أن يقف عند أي ظاهرة معينة ويحلل، وأخيراً قال: هؤلاء كلهم ما وجدوا إلا الزيوت، ربما يكفي واحد، لكن لماذا يوجد خمسة ستة متجاورين؟ فتبين بعد مدة أن فيها ما فيها من المخدرات.
إذاً المسألة يا إخوان لا يوجد من وراء محلات الفيديو والمقاهي داخل البلاد إلا الشر المستطير، وحينما تجد شاباً عمره أربع عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة ولديه مجموعة أشرطة داخل محل الفيديو يبدل ويغير، فيمكن أن يأتي يوم يطمع صاحب المحل في هذا الشاب ويعطيه شريط خلاعة، ومن يقول: إن هذه المحلات ليس فيها أشرطة خليعة؟ أتصدقون هذا الكلام؟ هل نحن بلداء إلى هذه الدرجة؟! لا شك أن الأنظمة تمنع وجود الأشرطة حتى التي فيها القبلة أو الفخذ العارية، لكن هل التزم أصحاب المحلات بهذا؟! والذي يتورع من أن يبيع خناً وفساداً وخلاعة ورقصاً ودفاً ومزماراً، هل فعل مثلما فعلت تسجيلات الهداية؟! للأسف محل واحد هو مركز الهداية للصوتيات، وأنا من هذا المنبر أدعوكم لزيارته والتعامل مع مركز الهداية للصوتيات في شارع الأمير عبد الله في الرياض محل واحد وعندنا الكثير من محلات الفيديو، من منكم يبدأ بخطوة جبارة ويفتح محل فيديو إسلامي، أول ما فتح هذا المحل وقف ضده بعض الصالحين هداهم الله يقول: لا يجوز، يا أخي هذا نقطة نور في بحر الظلام، الآن تستطيع أن تؤثر على مجموعة عندما تكلم الناس عن وضع الجهاد بدون صورة؛ لكن خذ شريطاً من أفلام الجهاد الأفغاني واعرضه على الناس وانظر كيف الوضع.
وبالمناسبة أدعو إدارة النادي والأخ مسئول العلاقات موجود أن يدعو مجموعة في يوم من الأيام وأن يعرضوا فيلم عن الجهاد في أفغانستان كما فعل نادي الشباب حيث وضع يوماً ثقافياً أو معرضاً عن هذا لـ أفغانستان، فلابد أن تكون هذه الوسائل نافعة لا أن تكون ضارة.
ففي الحقيقة وجود المقاهي ووجود أفلام الفيديو فيه ضرر بالغ على الأمة، كم عندنا من محل فيديو؟ لا يخطر على بالك لو ذكرت لك الرقم الموجود، ولن أعطيك إياه، أريدك أن تبحث وتسأل.
مقابل محل واحد فقط لا غير؛ هل جاء أحد يطلب منه تصريحاً أو رفضه؟ انظر أنت إلى التسجيلات الإسلامية كيف انتشرت وكيف فشت في المجتمع، وكثير من الشباب قلبوا محل الفيديو والأغاني إلى محل فيديو إسلامي، فهل توجد خطوة جديدة لمحلات الفيديو؟ نسأل الله ذلك.(106/34)
التردد بين مجالس الذكر والدراسة المتوسطة
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فضيلة الشيخ! أفيدكم بأنني من الشباب الذين هداهم الله ومنذ فترة وأنا ألازم مجالس الذكر وأجد فيها زاد نفسي ومتعة روحي، ولكنني سجلت في المدارس المتوسطة في الليل وهذا أدى إلى انقطاعي عن مجالس الذكر، وأنا الآن في حيرة من أمري هل أواصل دراستي أم أحرص على مجالس الذكر، علماً أنني أستفيد من مجالس الذكر أكثر من استفادتي في المدرسة، فبماذا توصيني جزاك الله خيراً؟
الجواب
والله يا أخي هذه قضية شخصية، فإذا وجدت أنك تستفيد من دراستك الليلية شيئاً يعود عليك بالعلم النافع الذي يعود عليك في الدين والدنيا، فنقول: هذا خير لك، وأما إن كنت تجد من نفسك قدرة وقوة على ملازمة حلقات ومجالس الذكر، فابحث عما يقربك إلى الله، وابحث عما يزيد نفسك زاداً إلى الآخرة، فأيهما وجدت فيه زاد نفسك، فتقدم إليه ولا تتردد أبداً.(106/35)
الخشوع في العبادة وحكم تقصير اللحية
السؤال
كيف يكون الإنسان خاشعاً في عبادته وخاصة في الصلاة، وتكون أعماله خالصة لوجه الله.
ثانياً: روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يمسك لحيته بيده وما زاد عن ذلك يقصه، فهل يجوز تقصير اللحية أو يجب أن يتركها ولا يمسها أبداً؟
الجواب
بالنسبة للسؤال الأول: الخشوع في الصلاة هو العبادة المفقودة في هذا الزمان، وفي آخر الزمان لا ترى فيها خاشعاً أبداً، ونسأل الله لنا ولكم التوبة والمعافاة، ومسألة الخشوع الجميع مقصرون فيها تقصيراً عظيماً، لا من حيث التلاوة ولا من حيث الركوع ولا من حيث السجود، لكن {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] نجاهد أنفسنا لعل الله جل وعلا أن يرزقنا الخشوع ولذة المناجاة بين يديه سبحانه، ومن الأمور المعينة على الخشوع: أن تدخل إلى الصلاة وأنت متفرغ من المشاغل بالكلية.
أن تبكر إلى الصلاة، وأن تسبقها براتبة أو بتحية المسجد، وأن تقرأ ما يسر الله لك.
كذلك متابعتك لقراءة الإمام وتدبرك للمعاني.
كذلك أن يكون بصرك إلى موضع سجودك، لا أن تطلق البصر يميناً ويسار.
أما بالنسبة لما قلت إنه عن عمر فلم يثبت عن عمر، وإنما روي عن ابن عمر؛ أنه كان يقبض لحيته وما زاد على القبضة قصه، ولا يظن أن هذا دليل على جواز الأخذ أو التقصير، لأن الأحاديث والنصوص بإكرام وتوفير وإعفاء اللحى ما استثنت شيئاً من ذلك أبداً، فيبقى الأمر على إطلاقه ما لم يرد مخصصاً أو صارفاً صريحاً.(106/36)
التمارين من وقت صلاة المغرب إلى العشاء
السؤال
فضيلة الشيخ! أنا لاعب من لاعبي النادي، وأتمرن في وقت صلاة المغرب وأحضر قبل هذا الموعد كما يأمرني المدرب ولا أصلي صلاة المغرب، وينتهي التدريب بعد صلاة العشاء، فما رأيك بهذا الأمر؟
الجواب
آمرك أن تأمر مدربك أن يصلي أولاً، وأن تذهب أنت وإياه سوياً إلى الصلاة، وإذا كان وقت التدريب يتعارض مع وقت الصلاة اتصل بإدارة النادي، ولا أظن أن إدارة النادي تمانع في أن تعدل برنامج التدريب، ما نظن بأي حال من الأحوال، ولو ظننا لاتصلنا بهم شخصياً، المسألة وما فيها ينبغي أن تعدل البرنامج، إذا كان وقت التدريب مع وقت الصلاة {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] احترام المسلم لعبادته هذا فيه عزة وفيه كرامة وفيه قمة له لا يتصورها أحد.
طبيب سعودي ذهب يمثل المملكة في مؤتمر طبي في الولايات المتحدة، ولما أقلعت الطائرة حان وقت الأذان فأراد أن يؤذن، فذهب إلى كابتن الطائرة الأمريكي وقال له: لو سمحت أريد أن أؤذن؟ قال: لا يمكن أن تؤذن، قال: يا ألله! أفرجها من عندك، الرحلة إلى واشنطن أو إلى نيويورك ست عشرة ساعة، وكل ثمان ساعات يتغير الطاقم، المهم تغير الطاقم في اللحظات القريبة من كلامه، جاء إلى الكابتن السعودي، قال له: لو سمحت أؤذن؟ قال: أنا الذي أؤذن عنك، وما هي إلا لحظات إلا وهو يصدع بالأذان بين السماء والأرض، ثم صلى، ولما نزل إلى المطار استقل طائرة صغيرة من نيويورك إلى الولاية التي يعقد فيها المؤتمر، يقول: حضرت صلاة أخرى وأردت الأذان، قلت: يا ليتني جمعت الصلاة حتى ما أحرج معك، أخيراً استعنت بالله أن أؤذن، فرجعت إلى مؤخرة الطائرة ورفعت الآذان قليلاً وإذا برئيس الأمن والمضيفة أو لعلها مساعدة الطيار جاءا فوراً، أرادا أن يتقدما، أشرت عليهما قفوا مكانكما وهو يكمل أذانه، فلما انتهى، قالوا: خيراً ماذا بك؟ هم متوقعون في الطيران الأجنبي أنه سكران، ثم يبدأ ينهق ويصيح، فيأتوا يمسكوا رقبته، لكنه طبيب على مستوى عالي من العلم والأخلاق والفقه والالتزام والاستقامة، ولما انتهى؛ قالوا: ما بك؟ قال: أنا معي موعد دقيق ومهم لا أستطيع أن أؤخره، قالوا: مع من؟ قال: مع الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] والله يأمرني أن أقيم الصلاة في وقتها {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فأنا لا يمكن أن أتردد في هذا الموعد، فشد انتباه المرأة شداً عجيباً، من هذا الذي يلتزم بمواعيده مع الله حتى في الطائرة؟!! قالت: أريد أن أتحدث معك، قال: دعيني أصلي، ثم صلى وجلس في محاورة معها انتهت بإسلامها، ولما حضر المؤتمر -والقصة شيقة جداً أكملها للفائدة- لمدة ثلاثة أياماً كان المؤتمر يبحث قضية دور الكالسيوم في جسم الإنسان، في الجلسة الأخيرة قال رئيس المؤتمر: نعطي الصوت لفلان لكي يحدثنا، يريدون أن يسمعوا منه شيئاً، فتقدم للمنصة وحمد الله وأثنى عليه، وتحدث مثنياً على المؤتمر والأبحاث التي قدمت في هذا المؤتمر، ثم قال: أنتم تبحثون منذ ثلاثة أيام عن دور الكالسيوم في جسم الإنسان، وأنا أطرح بحثاً ما هو دور الإنسان في الحياة؟ شد انتباههم إلى أمر، ثم أخذ يحدثهم عن هذا الإنسان كيف خلق وبأي تركيب.
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] الأطباء وكما يقال: الطب مجرى الإيمان، الأطباء أقرب الناس لمعرفة هذا الإعجاز الدقيق في خلق الإنسان، انتهت كلمته، كان الحضور ثلاثمائة، انفضوا جميعاً إلا ستة وأربعين، أسلم من الستة والأربعين ستة رجال وامرأتان في تلك الجلسة.
المسلم الذي يعتز بإسلامه محبوب وله كرامة، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، حتى لو عاندت المدرب وذهبت وصليت؛ سيرضى عنك المدرب رغماً عن أنفه، لكن لو جاملته من أجل أن ترضيه، والله ليسخطن الله عليك وليسخطن عليك المدرب، لأنك أردت سخط الله برضى الناس، فهذا لا يجوز أبداً ولا ينبغي، وإذا كان وقت التدريب يتعارض مع وقت الصلاة فالمرجو من الإخوة المعنيين بأمر النادي تعديل هذه النقطة والتنسيق مع الإدارة فيها.(106/37)
حكم إحضار مدربين كفار
السؤال
بعض الأندية تحضر مدربين كفار هل يجوز ذلك؟
الجواب
الله أعلم.(106/38)
حكم حلق اللحية واستماع الأغاني
السؤال
فضيلة الشيخ: هل حلق اللحية حرام أم مكروه، ما حكم استماع الأغاني؟
الجواب
لا شك أن حلق اللحى لا يجوز، والأحاديث الآمرة بإعفائها صريحة ومتواترة وثابتة، فالذي يخالفها معاند، ولكن نسأل الله له الهداية، نعرف الكثير ممن يقعون في هذا وهم يعتقدون ويشعرون بالذنب وما يجحدون النصوص النبوية؛ لأن من جحد الشيء كفر، هم يقولون: نحن نعتقد أن توفير اللحية يجوز، لكن نحن نتساهل، نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية، وينبغي ألا يسوفوا في هذا الأمر أبداً.
وكذلك فيما يتعلق بالملاهي والمعازف وغيرها، فحكمها واضح ولا أظن أحداً يجهله، والناس في هذا الزمان يعلمون الأحكام، لكن نريد منهم الالتزام بالأحكام.(106/39)
حكم التصوير بالفيديو
السؤال
فضيلة الشيخ ما حكم التصوير بالفيديو في مثل هذه المحاضرة؟
الجواب
لا حرج إن شاء الله.(106/40)
حكم رؤية المسلسلات
السؤال
هل المسلسلات حرام؟
الجواب
ما هذه المسلسلات؟ مسلسل حب وغرام، وتعرفت عليه في التليفون، وقابلته في العمل، وتواعدت معه في الشاطئ، وصارت لا ترقد الليل، وصار لا يرقد الليل ولا عاد له يرغب في الأكل، وكلام فارغ، ذبحنا من هذه الأفلام والمسلسلات والكلام الفارع، والله ما أضيع نصف ساعة على مسلسل لا يستحق، ما هذا الكلام؟ إذا كان هناك إنتاج إسلامي على مستوى فأهلاً وسهلاً، إذا كان هناك إنتاج على مستوى عمر المختار هذا إنتاج إعلامي فعلاً فيه مكسب وإن كان فيه شيء من الملاحظات، لكنه إنتاج يستحق أن تجلس له ويأخذ من وقتك، لكن أن أجلس لمسلسل فيه ذهب وذهبت، ومات وماتت، وأحبها ثم اكتشفت أنه تزوج عليها وأصابتها سكتة قلبية، هذا كلام فيه احتقار للنفس.
والله يا جماعة إن الوقت أثمن من هذا، يا أخي! ضع في رأسك سماعة واسمع لك محاضرة، اسمع لك آيات من كتاب الله، خذ كتاباً، اقرأ نوراً ومعارف، والله لو تأتي بهذه الآلة التي تنسج ثم تجلس لتنسج لولدك الصغير جورباً لكان أشرف من أن تضيع وقتك في فيلم ساقط، ما الفائدة من هذا يا إخوان؟ الأمة بحاجة إلى ما ينفعها، أما أفلام ليست نافعة، ولابد أن نبث أربعاً وعشرين ساعة فلا، دعنا نتوسط، أنتم تعلمون أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الرابحة من كل هذا البث، تنتج سنوياً ثلاثمائة ألف ساعة برامجية (إنتاجها الإعلامي) سبعين ألف ساعة لمصالح الولايات المتحدة الخاصة، ومائتين وسبعين ألف ساعة لمصالح اليهود سواء كانت مصالح مباشرة أو تتضمن مصالح اليهود، يعني: هذا السيل من الأفلام والمسلسلات والغزو، لا تظنوه حباً في ترفيهنا.
الذي ينام مبكراً يجد لذة النوم في الليل ويجد لذة الاستيقاظ في الفجر، ويشم أفضل هواء طلق في الصباح الباكر، لكن شأن هذه المسلسلات سهر إلى آخر الليل، وترك لصلاة الفجر، ويقوم متأخراً، هذه حياة كثير من الناس مع الأفلام والمسلسلات، وأنا أعرف شاباً ما تقدر تقول أنه ملتزم وهو بنفسه يحكم، ويقول: هذه أفلام ساقطة.
فإما أن ترى شيئاً يستحق لأنه يفيدك وينفعك وإلا فنم، وبالمناسبة أنا أدعو الشباب أن يتابعوا أفلام الجهاد الأفغاني، هذا الفيلم يصنع في قلبك حياة، فترى فيه وجهاً مشوهاً؟ والذي شوهه هم هؤلاء المجرمين الروس لأنهم قالوا لا إله إلا الله، طفلة جميلة صغيرة مقطوعة اليد، رجل منقطعة رجله، لغم، صاروخ، قنبلة، تعيش مآسي الأمة، تعيش حياة الجهاد، عندما تشرب ماء بارداً تتذكر هل هم يشربون مثلي أم لا، تأكل لقمة فتقول: هل هم يأكلونها كما آكل، تركب سيارة مريحة فتفكر كيف يركبون، وماذا وبأي طريقة ينتقلون، تعيش قضايا الأمة، تصبح همتك أعلى، وليس همك الدنيا، فبالمناسبة أقول: البديل الآن موجود، الأفلام كثيرة عن الجهاد في أفغانستان، وأفلام محاضرات وغيرها، وأيضاً لا أقول: أغلق التلفاز بالكلية أو على طريقة البعض يأتي بالفأس ويكسره، توجد برامج مفيدة في التلفاز بإمكانك أن تستفيد منها، المهم أن الشيء الذي تعرف أنه ساقط وغير نافع عليك تجنبه وتركه، الأفلام المصرية مع تقديري واحترامي لـ مصر هل هي تعالج مشاكلنا الخاصة؟ هل هي تبحث في مجتمعنا يا إخوان؟! هم مجتمع قائم مستقل له عاداته وتقاليده وطبيعته وأموره الخاصة، ونحن مجتمع مستقل مرتبط بحكومة وتشريع معين، إذاً لماذا أضيع وقتي هنا؟ استفد وتوجه لما ينفعك يا أخي الكريم.(106/41)
قول العصاة: الدين يسر
السؤال
فضيلة الشيخ! حفظك الله نحن إذا نصحنا الشباب الذين يسمعون إلى الملاهي ومنها الأغاني وما شابهها، فيقولون: لماذا تتعصبون في الدين وتتعقدون والدين يسر وليس بعسر، ما تعليق فضيلتكم على هذا الرد؟
الجواب
أنا أقول: هم صادقين في أن الدين يسر وليس عسراً، وهذا لا شك فيه، لكن يا إخواني! إذا دعوت أحداً إلى الله فاقبل منه من الخير ما تيسر، شاب لا يصلي، وثوبه مسبَل، وهو حليق، ويسمع أغاني، وعنده أسفار وسهرات، إذا وافق معك على الصلاة مع الجماعة فهذا خير عظيم وكثَّر الله خيره، فإنه لا يمكن أن يصلي الجميع، ويترك الملاهي والمعازف، ويرفع ثوبه ويوفر لحيته في يوم وليلة، فنقل الجبال أسهل من نقل الطباع، لا سيما الشباب تجد فيهم العناد والصلابة، فإذا جاء الشاب معك إلى المسجد وصلى وأصبح يحافظ على الصلاة فكثر الله خيره، وماذا بعد الصلاة؟ أشد الأمور تحريماً في الأمور الباقية ناقشه فيها قليلاً قليلا ً، وينبغي أن تعطيه فرصة، ربما هو بنفسه يعدل من ذاته، فابدأ بالأهم، ثم بعد ذلك هو سيلتفت إلى المهم ويتغير من ذات نفسه، أما أنك لا تقبل شاباً إلا إذا فعل هذه الأمور جميعاً فلا، ولماذا التحجر على الناس؟ نعم مطلوب منا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: ادخلوا في الإسلام جميعاً، لكن مقام الدعوة مقام فقه، ومقام عناية وترتيب أولويات، فابدأه بالصلاة مع الجماعة، ثم رويداً رويداً فيما يتعلق بما تبقى من المنكرات التي هو مرتكبها والرجل سيهتدي، المهم أعطه خفض الجناح ولين الجانب، ولا تحدثه من منطق الغرور، كثير من الشباب -نكررها ونقول:- إذا جاء يأمر أحداً يأمره بصيغة الآمر للمأمور، بصيغة السيد لعبده، بصيغة العلو إلى الدنو، فنقول: لا.
انزل معه إلى مستواه واجعله يحبك، قدم له هدية إذا كنت تريد أن يهديه الله، وكنت داعية بصدق، والنفوس لا تقبل إلا ممن تحب، لو كنت تبغض إنساناً فلن تقبل منه خيراً، بل بالعكس، فلو جاء بالخير فإنك سترده عليه ولا حول ولا قوة إلا بالله، لكن إذا شعر منك بالمحبة فتهديه شريطاً ممتازاً، شريط فيديو مناسب طيب تهديه إياه، زجاجة عطر، قلم باركر، قطعة قماش، ومع هذا كله رسالة، فهنا ستفتح الطريق إلى قلبه، لكن تريد مباشرة أن تحقق ما أردت بدون أن تفتح الطريق إليه، فلن تستطيع أن تفعل شيئاً، لأن الناس عندهم استقلالية من هو فلان بن فلان، يأتي يأمرني ثم أنا أنقاد له؟! المسألة ليست سهلة، مراعاة مشاعر الناس وأوضاعهم ومنازلهم أمر مطلوب.(106/42)
ظاهرة الإعجاب بلاعبي الكرة العالميين
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ظهرت ظاهرة خطيرة منذ مدة، وهي الإعجاب بلاعبي الكرة العالميين المشهورين مثل مارادونا وأمثاله من الكفرة، والتي تتجاوز إلى تعليق صورهم، وتقديرهم التقدير الذي لا يليق بالمسلمين، نرجو منك التنبيه لذلك؟
الجواب
نقول والله يا إخوان:
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان
مايكل جاكسون هذا الذي أزعج العالم، فذهب الشباب بالمئات والآلاف للأسف في الإعجاب به وتشجيعه، آخر تصريح له يقول: لو أعلم أن العرب يسمعون الأغاني التي غنيتها ما غنيت، إنسان تأخذه على كتفك وتطبل له وتعلق صورته، ومع ذلك هو غير راضٍ بالاعتراف بك أساساً.
ولو اعترف بك ماذا حقق لك؟ فالمسلم عزيز، في نادي الهلال أذكر جرى سؤال: هل يجوز حمل المدرب بعد فوز المنتخب أو فوز الفريق إذا كان كافراً؟ أأحمل كافراً! أين الولاء والبراء؟ أين حب التوحيد وأهل التوحيد؟ رجل يكفر بالله أحمله على كتفي! شلت هذه الكتف إن حملت كافراً، لو كان المسلم في قلبه ولاء وبراء لما سأل عن هذا، لكن ذهبت قضية العقيدة أمام الغزو الفكري، فأصبح الإنسان يجري وراء البالون المنفوخ بالهواء (الكرة) وفي سبيل ذلك مستعد لأن يحمل كافراً ويقبل رأس كافر، هذا لا يجوز، فالرياضة كما قلنا حينما تعطيها قدرها ووزنها ستتعامل مع الرياضة والرياضيين بحدود، ونحن لا زلنا نرجو ونأمل أن تكون هذه البلاد بأنديتها إذا تميزت نموذجاً للرياضة في الدول الإسلامية، لا أن تكون كما هي الحال مجمع شباب وضياع وفراغ ولهو إلى آخر ذلك، وهذا التميز ملحوظ ولله الحمد، فإلى المزيد من هذا التميز مع بقاء الرياضة على أصولها، نحن لا نقول: اجعلوا الأندية مجالس وعظ وذكر وصياح وحلقات، لا، تبقى جميع الأنشطة كما هي ولا يمنع من هذا، ولكن بشكل لا يتعارض مع العبادات والصلوات والأحكام والأخلاق الإسلامية، فعند ذلك يوفق المسلم بين التزامه بدينه وبين ممارسة نشاطه ورغبته.(106/43)
حكم قول: الله لنا يا أخي
السؤال
حكم هذه العبارة عندما يرى واحد متكبراً، يقول: الله لنا يا أخي؟
الجواب
قصده بهذا أن الله سبحانه وتعالى لا ينسانا ولا يضيعنا ولا يتركنا، على آية حال من العبارات ما لا يقصد بها الإنسان معناها، وبعض العبارات ليس فيها محذور واضح، نعم لك الله سبحانه وتعالى يحفظك ويبقيك ويغنيك ويوفقك، والأمر فيه سعة إن شاء الله.(106/44)
السروال وقانون اللعبة
السؤال
ما هو الحل في لبس السروال القصير إذا كان قانون اللعبة يجبرك على لبسه جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأولى بالإنسان أن يخرج من هذا الإشكال سواءً بلبس الترنك أو اللباس الآخر، وأظن أن الذي يكون في موقع حساس وجيد في ناديه أو في منتخبه لن يفرط النادي فيه من أجل لبس سروال.
والشيء الثاني: أنه ينبغي علينا إذا كان هذا الشيء موجوداً أن نقنع الإدارة الموجودة، ثم إذا لعبنا بترنك أو لعبنا بما دون الركبة بقليل فما الذي يمنع منه؟ فمحاولة إثبات وغرس هذه الفكرة لدى إدارة الأندية هذا أمر ينبغي أن يقوم به شباب الأندية، وأنا أعرف ولله الحمد والمنة في نادي النصر وفي نادي الهلال والشباب والشعلة، وأندية كثيرة من اللاعبين الممتازين شباباً على مستوى الاستقامة والصلاح والالتزام، وكذلك على المستوى المشرف من حيث الأداء الرياضي ونقول لهم: اثبتوا مكانكم، بعض الشباب إذا فتح الله على قلبه، قال: مباراة اعتزال وسلام عليكم، فنقول: قد هداك الله سبحانه وتعالى فاثبت في فريقك واثبت في ناديك، وحقق الخير لنفسك وللآخرين.(106/45)
كلمة قصيرة عن الآخرة
السؤال
نرجو تذكيرنا بكلمة قصيرة عن الآخرة وجزاك الله خيراً؟
الجواب
في الحقيقة لعلي أحوجكم إلى التذكير والله، لكن لا بأس أن يداوي الطبيب وإن كان مريضاً.
إخواني! نحن أمام ثلاثة أمور: الرصيد، والخاتمة، والمستقبل، أما الرصيد فأعني به الحسنات والسيئات، فالمسلم لا يضيع عليه شيء، جلوسكم في هذا النادي مكتوب لكم عند الله جل وعلا، وسوف تفتح السجلات والصحف يوم القيامة وكلٌ سيرى أعماله، فمن قدم خيراً فسيجده مكتوباً، ومن قدم غير ذلك فسيجده مكتوباً ولا يضيع عند الله شيء: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] اللمز والغمز، وإماطة الأذى عن الطريق، والبشاشة والمصافحة والكلمة الطيبة، وكل دقيق وجليل سوف تجده مكتوباً: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7 - 8] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].
فيا إخوان! الرصيد دائن ومدين، له وعليه، فينبغي أن تجتهدوا في ملء الرصيد ما دام أن هناك حركة وقدرة على العبادة والدعوة وإمكانية التزام، لكن إذا وضع الإنسان في قبره: {قَال رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
المسألة ليست بالأمر الهين، فالذي يهمه رصيده في الدنيا، فليفكر في رصيده في الآخرة، والذي يدخلك الجنة بعد رحمة الله سبحانه وتعالى هو العمل، فالميزان سوف يوضع لك، وتوزن الحسنات والسيئات، نعم الكثير منا يعمل حسنات كثيرة، لكن رجل عنده مليونان، والمطلوب منه ثلاثة ملايين، هذا لا شك أنه خاسر، فلا يغرك يا أخي! إذا صليت الفجر مع الجماعة، وكذلك الظهر والعصر والمغرب فكثر الله خيرك، لكن فلنقدر أن ذلك اليوم رصيدك من الحسنات كان ألف حسنة وجلست ذلك المجلس، فأخذتم فلان بن فلان، وأخذتم تغتابون عرضه، وهكذا غيبة وراء غيبه حتى استلم من حسناتكم خمسمائة حسنة، وقلتم: خذ يا فلان هذه حسناتنا مجاناً، فأنتم بفعلكم هذا توزعون الحسنات التي اكتسبتموها على الناس، بقي لكم خمسمائة حسنة مثلاً فقلتم: هاتوا لنا شريطاً وشغِّلوه وفيه صورة امرأة، ومقطع أغاني، ومعزف وذهبت ثلاثمائة حسنة وإلى آخره، ما باقي لك من عملك إلا مائتي حسنة، وفي المقابل قد يكون عندك سيئات تفوق هذا كله، إذاً مسألة الرصيد انتبهوا لها جيداً وحساب الادخار والتوفير مهم جداً، اسأل نفسك كم بلغ رصيدك في الحسنات والسيئات تلق الطوام والمصائب.
سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! الذي لا دينار له ولا درهم، قال: لا، المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال وصلاة وصيام كالجبال، فيأتي وقد ظلم هذا، ولطم هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته؛ أخذ من سيئاتهم فطرح على سيئاته، ثم طرح في النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيا إخوان لا تقدموا على الله مفلسين، وحاسبوا أنفسكم، وقدموا لأنفسكم خيراً، ومن ثم ننتقل من قضية الرصيد إلى قضية الخاتمة: متى نموت؟ لا ندري، هل نضمن أن هؤلاء الموجودين كلهم يعيشون إلى الغد؟ ربما أن واحداً منهم يموت الليلة ونسأل الله طول العمر للجميع، لكن:
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
ينبغي للإنسان أن يستعد، لو قيل لك: ملك الموت عند الباب، فهل أنت مستعد جاهز؟ فتقول: لا والله، هذه الحاجة الفلانية لم أتب منها، والوديعة الفلانية ما أرجعتها، والمظلمة الفلانية ما تحللت منها، والإنسان في الختام تبرز أمامه ذنوبه في الأفق، فليحرص الإنسان أن يقدم على الله خفيفاً من الذنوب، مثقلاً بالحسنات والأعمال الصالحة، فالخاتمة يا إخوان أمر ينبغي أن يشغلنا، وكفى بالموت واعظاً.
لماذا قست القلوب وماتت؟ يسهر الواحد من بعد المغرب إلى آخر الليل ما ذكر الله قط، ثم يأتي ويرمي نفسه كالجيفة مضيعاً لصلاة الفجر، ويقوم الصباح وفمه ذو رائحة نتنة، ويأتي وينظر إلى الناس بعيون جاحظة من السهر، ثم هو متأخر عن أعماله ووظيفته، ثم يعود إلى البيت بصياح أعدوا الطعام إلى آخره، ثم ينام إلى العصر ويستيقظ، هذه حال كثير من الناس المساكين؛ سهرات في الليل وتأخر عن العمل، وسوء علاقة مع أهله، إنها حياة مملة، حياة الموت أريح منها والله، لا يذكر الله أبداً، من حين يركب إلى حين ينزل وهو في موسيقى ودندنة ما هذه الحياة! أخي المسلم! أعط نفسك حظاً كاملاً من الراحة والنوم، يصلي الفجر: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، ثم يجلس في مكانه يستغفر قليلاً، ثم يشم هواء الصباح الذي ما خبثته ذنوب بني آدم بعد، ثم ينطلق قوياً نشيطاً، ثم بعد ذلك يعود إلى بيته أنساً بأهله وأولاده ويفتح بابه لإخوانه، حياة الطاعة والاستقامة والالتزام بأمر الله ومجالسة الصالحين والأبرار؛ حياة كلها لذة.
قبل أيام يقول لي شاب في مسجد: والله كانت حياتنا أفلام سكس، وخلاعة وسهرات، وقلة أدب وسفرات، يقول: كنا نعيش عيشة نكد، يقول: ونحن نعطي كل ما تريده النفس، نعطيها سفرة لـ بانكوك أو كازبلانكا، نشرب ونشرب، نفعل ونفعل، شريط وشريط، كل ما تشتهيه النفس، يقول: والله ما وجدنا راحة، وأنظر إليه وأتأمل في وجهه، وإذا في وجهه نور، وهذه اللحية الموفرة، ثم ماذا يا أخي؟ قال: والله ما وجدت الراحة إلا في التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، ومجالسة الأبرار والصالحين، والالتزام بأمر الله، لقد اطمأننت اطمئناناً عجيباً حتى لو جاء الموت فأنا مستعد.
الأمر الآخر: أمر المستقبل: كثير من الشباب يهمه أمر المستقبل، أقول: يا أخي أطمئن نفسي وأطمئنك أن إذا كنت حريصاً على المستقبل فالزم طاعة الله، وفي الحديث: (من أصبح وهمه الدنيا، جعل الله فقره بين عينيه، ووكله إلى نفسه، وشتت الله عليه ضيعته، ومن أصبح وهمه الآخرة، تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته).
إذاً يا إخوان إذا كان يهمك مستقبلك خاصةً المستقبل المادي والمستقبل الوظيفي فالعمر بيد الله، إذا كتبت لك حياة، فالزم طاعة الله وسيأتيك من الخيرات: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] هات إيمان وتقوى وخذ حظوظاً من المال والنعم والخيرات من الله، بل قد يكون حظك من الدنيا ملايين، لكن أنت تفنيها وتذيبها بالمعاصي كما في الحديث: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) تصبح ذاك اليوم وقد كتب الله لك مكسباً خمسين ألفاً أو ستين ألفاً في صفقة ما خطرت على بالك، لكن تصبح على معصية -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فتحرم الرزق بالذنب، ثم بدلاً من أن تكون الخمسين الألف لك صارت لعبد من عباد الله الصالحين؛ لأنها كانت مقسومة لك، فدفعت ما قسم لك بمعصية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والله لا يزيد العباد إلا بالطاعة: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فلا بد يا أخي أن تطمئن إلى أن أمر المستقبل بيد الله، فألح بسؤال الله دائماً:
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
بقدر سؤالك وإلحاحك إلى الله؛ فالله يعطيك: (ما من عبد يسأل ربه مسألة إلا دفع عنه من البلاء بقدرها أو ادخرها له في الآخرة أو آتاه إياها) اسأل الله كل شيء، ارتبط بالله، تفتح لك خيرات الدنيا، وإذا التزمت بأمر الله وكتابه، فلك نعيم الآخرة.
أسأل الله أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يغفر لنا ولكم، وأن يجعل اجتماعنا هذا مبروراً وذنبنا مغفوراً، وألا يجعل من بيننا شقياً ولا محروماً، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(106/46)
الشهود
لم يخلق الله الإنسان إلا لعبادته وحده لا شريك له، ولأجل ذلك استشهد عليهم سبعة من الشهود، وجعله نفسه سبحانه.
ثم الملائكة، والرسول صلى الله عليه وسلم، والنفس، والأعمال، والعباد، والأرض.
هذا ما وضحه الشيخ في هذه المادة، ولعل من طالعها راقب الله وأطاعه، فطالعها تتعظ وتتذكر.(107/1)
الشهود السبعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: لا يخفاكم ولا يجهل أي واحد منكم أن الله ما خلقكم عبثا، ولن يترككم سدى، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، وآتاكم الأبصار والأسماع والأفئدة، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
معاشر المؤمنين: إن كثيراً من المسلمين انطلقوا في هذه الدنيا غير ملتفتين للغاية التي من أجلها خلقوا، ولا مبالين لهذه الشريعة التي بها أمروا، فانطلقوا يتفننن في ألوان الملذات، والمعاصي والشهوات، متجاهلين أو جاهلين أن الله رقيب حسيب عليهم.(107/2)
شهادة الله على عباده
أيها الأحبة في الله: من استقرأ كتاب الله جل وعلا أدرك شيئاً على حسب فهمه وقدراته وإدراكه، أدرك علماً على حسب ما آتاه الله جل وعلا من الفهم، ومن ذلك يدرك أن هناك سبعة من الشهود على بني آدم، هناك شهود عليكم -يا معاشر المؤمنين! - وأعظم وأجل وأكبر شهادة هي شهادة الله جل وعلا على عباده، فهو الذي خلقهم من العدم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً، وهداهم إلى الإسلام، ووفقهم وآتاهم النعم التي لا تحصى، فالله شهيد على عباده، ومن أجل هذا جاءت الآيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} [النساء:33] فالله شهيد على أعمالكم، وشهيد على كل صغير وكبير من الأعمال التي تفعلها جوارحكم، ويقول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98] مطلع على أعمالكم: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سبأ:3]، ويقول الله جل وعلا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، ويقول جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] علم الله عمل العبد سابقاً لابتدائه واستئنافاً لفعله، علم الله لأعمالنا سابقاً لها، فهو عالم بأعمالنا وما نجترحه، وهو يعلم ما توسوس به نفوسنا، وما تحدث به قلوبنا قبل أن يصل الأمر إلى حركة الشفاه أو أفعال الجوارح، فهذه شهادة عظيمة جليلة من الله عليكم يا معاشر المؤمنين، فمن تيقن هذا وراقب الله سبحانه وتعالى وأدرك أن الله شاهد شهيد مطلع رقيب حسيب عليه لم يجترئ على معصية من المعاصي، ولم يجترئ على أن يقابل نعم الله بالجحود والكفران.(107/3)
شهادة الملائكة
أما الشاهد الثاني: فهم الملائكة -يا عباد الله! - إن الله جل وعلا جعل عليكم ملائكة حافظين، كراماً كاتبين، يكتبون كل أعمالكم وكل تصرفاتكم وحركاتكم، وسنجد هذا يوم العرض الأكبر على الله، يوم لا تخفى من العباد خافية، كل صغيرة وكبيرة مسطورة في الكتاب، كل دقيق وجليل مقيد في هذه الصحائف والسجلات: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، ويقول جل وعلا: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فالملائكة شهود عليكم يا عباد الله! يقول الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]، ويقول جل وعلا: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:17 - 18] ليس الأمر عند حد الفعال، ليس الأمر عند حد الحركات والتصرفات، بل الأقوال محسوبة مكتوبة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ويقول جل وعلا: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61] فهل بعد علم عبد من عباد الله أن الله شهيد شاهد مطلع على أعماله، وأن الملائكة كاتبة للدقيق والجليل من أفعاله، يتجاهل أمر ربه؟! أم ينسى زواجر خالقه؟! أم يتغافل عما أوجب الله عليه؟! حاشا وكلا يا عباد الله، ولكن المعصية تأتي إلى العباد في حين غفلة عن مراقبة هؤلاء الشهود.(107/4)
شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم
معاشر المؤمنين: واعلموا أن رسولكم صلى الله عليه وسلم شهيد عليكم، يقول الله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: قال لي الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم: (يا بن أم عبد! أو يا بن مسعود! اقرأ عليّ القرآن، قال: أأقرأه عليك وعليك أُنزل يا رسول الله؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فافتتح قول الله جل وعلا من أول سورة النساء: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) [النساء:1] حتى وصل قول الله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال: حسبك، حسبك، فالتفت إليه ونظرت فإذا عيناه تذرفان) فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان بالدموع من قوله جل وعلا: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو العالم بكلام ربه جل وعلا: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: يا ربي! أمتي أمتي؟ فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا شهادة نبيكم صلى الله عليه وسلم عليكم، يقول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] أنتم يا أمة محمد! جعلكم الله أمة وسطاً عدولاً لتكونوا شهداء على الناس، وعليكم شهيد من الله وملائكته وكتبه ورسله، ويكون الرسول عليكم شهيداً، ويقول الله جل وعلا: {َيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل:89] فهل بعد هذه الشهادة؛ شهادة الله على خلقه، وكتابه، والملائكة على أفعالهم، وشهادة الأنبياء على أممهم، هل بعد هذا يا عباد الله! نغرق في الذنوب والمعاصي؟! أو ننسى واقعنا وما نحن فيه من اللهو والغفلة عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟!!(107/5)
شهادة النفس
وإليكم شهيد رابع من أنفسكم يا عباد الله: تلكم هي شهادة أنفسكم على أنفسكم، شهادة جوارحكم على أنفسكم، إن أول شهادة منكم على أنفسكم: أنكم شهدتم وأقررتم بأن الله خلقكم، أنتم شهدتم بأن الله واحد خلقكم: {وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] قد أخرجكم الله من أصلاب الرجال، أخرج الله ذرية آدم من أصلاب الرجال كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بأن الله ربهم فشهدوا على أنفسهم، ومع ذلك فالله جل وعلا يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وفطرتكم ناطقة حية بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فأنتم شهود على أنفسكم، وجوارحكم شهود عليكم، يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]، ويقول جل وعلا: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:20 - 21] كل مجرم، كل عاص، كل رجل يحاسب نفسه يوم القيامة إلا من نجاه الله وكتب له الفوز والسعادة، يقول لجوارحه: لم شهدت يا يدي عليَّ؟ لم شهدت يا سمعي عليَّ؟ لم شهدت يا لساني عليَّ؟ {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:21 - 22] ومن ذا يستتر عن علم الله وملائكته والله لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ومن ذا الذي لا يستتر عن ملائكة الله وهم على يمينه وشماله لا يلفظ أو يفعل أو يكتب أو يقول إلا وهم شهود على فعله، فتنبهوا لهذه الشهادة من أنفسكم على أنفسكم يا عباد الله! وليحاسب كل واحد منا نفسه، وليتذكر أنه سيقف خصيماً لجلده، خصيماً لجارحته, خصيماً لسمعه، خصيماً لبصره، وقد نسي أن الله جل وعلا ينطق هذه الجوارح وينطق الجلود والأجسام فهي شهادة رابعة عليكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(107/6)
شهادة الأعمال
الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والمثيل، والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتجنبوا سخط ربكم فإن أجسامكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين: إن عليكم شهادة عظيمة من خالقكم، وملائكة ربكم، ومن أنفسكم، ومن الرسول الذي بعث في أمتكم، فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوا أنفسكم في أفعالكم وأعمالكم وأقوالكم، واعلموا يا عباد الله! أن أعمالكم شاهدة عليكم، اعلموا أن العمل شاهد على صاحبه، وأن الأعمال هي من أعظم الشهادات على صاحبها، وشهادة العمل هي: شهادة المآل والمنقلب والنتيجة، فمن كان مآله ومنقلبه وخاتمة أمره إلى السعادة، والخلود في الجنة والرضوان والنعيم المقيم فعمله شاهد له بهذا، ونال فضل الله ونعيمه برحمة الله ثم بعمله، ومن كان من أهل الشقاوة والعذاب المقيم، والخلود في الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، فإن عمله شاهد عليه بحكم المنقلب والمآل بأفعاله وأعماله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] ما الذي جعل المجرمين في سقر؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43 - 47].
إذاً يا عباد الله! أعمالهم سبب وشاهدة على مآلهم ومنقلبهم، فاتقوا الله في أعمالكم وأفعالكم.(107/7)
شهادة العباد
عباد الله: واعلموا أن عباد الله شهود عليكم أجمعين: (يقول النبي صلى الله عليه وسلم وكان جالساً ذات يوم مع صحابته وقد مرت جنازة فأثنى الصحابة عليها خيراً فقال: وجبت، ثم مرت جنازة فأثنى الصحابة رضوان الله عليهم شراً، فقال: وجبت، قالوا: يا رسول الله! مرت الأولى فقلت: وجبت، ومرت الثانية فقلت: وجبت؟ قال: أما الأولى فأثنيتم عليها خيراً فوجبت لها الجنة، وأما الثانية فذكرتم عنها شراً فوجبت لها النار، أنتم شهود الله في أرضه، أنتم شهود الله في أرضه، أنتم شهود الله في أرضه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً يا عباد الله! ففوزوا بشهادة إخوانكم المؤمنين، عليكم بالصلاح والاستقامة، وإن الناس ليشهدون في هذا الزمان وفي كل زمان ومكان لأهل الخير بالخير، ولأهل الفساد بالفساد، ولأهل الباطل بالباطل، ولأهل المعاصي بالمعاصي.
إذاً يا عباد الله! اغتنموا الأعمال الصالحة تنالوا رضا ربكم، وشهادة الملائكة عليكم، وكتابة الحسنات لكم، ومضاعفة الثواب والأجور لكم يوم القيامة، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لكم، وتفوزوا بأن تكونوا في زمرته يوم القيامة، وشهادة الأعمال لكم، وشهادة أنفسكم وجوارحكم لكم، وشهادة إخوانكم المسلمين أجمعين لكم.(107/8)
شهادة الأرض
واعلموا يا عباد الله! أن الأرض التي نمشي عليها هي والله أيضاً شاهدة بأعمالنا وأفعالنا، إن الأرض إذا زال الرجل الصالح منها بكت عليه وافتقدته، وإذا مشى الرجل المجرم فيها تمنت أن تنفتح فجاجها لتبتلعه إلى أسفل سافلين.
إذاً يا عباد الله! فكونوا من الذين تشهد لهم السماوات والأرضون بأفعالهم، يقول الله جل وعلا: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29] إذاً فالسماء تبكي والأرض تبكي؛ تبكي على فراق الصالحين المحسنين، على فراق الأتقياء المخبتين، على فراق الخاشعين الساجدين، أما المجرمون، أما الفاسقون، والظالمون، والمعاندون فإن السماء والأرض لا تبكي عليهم: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29].
إذاً يا عباد الله! اغتنموا هذه الشهادة في الأعمال الصالحة، وراقبوا أنفسكم، فاليوم عمل ولا جزاء، وغداً جزاء ولا عمل، وحقيقة الأمر يا عباد الله! أن الناس يجزون على أعمالهم في الدنيا والآخرة، ولكن قد يؤخر الجزاء ليكون أغلظ وأشد عقوبة على صاحبه، اعلموا أن كل من حولكم يشهد لكم حتى الجمادات، حتى النباتات، إنها لتشهد للصالحين بالصلاح، ولتشهد على الفاسقين بالإجرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا كنت في راعيتك أو في غنمك فحضرت الصلاة فارتفع صوتك بالأذان أو أذنت -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فإنه ما من شجر ولا حجر ولا مدر إلا شهد للمؤذن يوم القيامة) الأشجار نباتات، والأحجار والمدر جمادات، كلها تشهد لكم معاشر المؤمنين! فاغتنموا شهادة الشهود السبعة، واغتنموا أعظم وأجل وأكرم شهادة شهادة الله عليكم، والله شهيد عليكم: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9].
اللهم اجعلنا ممن شهدت لهم بالعمل الصالح، والسعادة والفوز والنجاة، اللهم اجعلنا ممن شهدت لهم ملائكتك وأنبياؤك ورسلك، والخلق أجمعون بالصلاح والسعادة والأعمال التي ترضيك يا رب العالمين.
اللهم لا تجعلنا من المشهود عليهم بالفسق والإجرام، والمعصية والعناد، والمكابرة والإصرار، اللهم وفقنا إلى أسباب مرضاتك، وجنبنا سبل سخطك.
اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم ما سألناك فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الحي القيوم، اللهم إن كثرت ذنوبنا فإن فضلك أكثر وأعظم، وإن عظمت معاصينا فإن رحمتك أكبر وأعم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، اللهم ومن أراد بولاة أمورنا فتنة، اللهم ومن أراد بعلمائنا مكيدة، اللهم ومن أراد بشبابنا وفتياتنا اختلاطاً في التعليم والوظائف اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوأ من ذلك يا جبار السماوات والأرض! فإنهم لا يعجزونك.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم ارفع إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وأعوانه وإخوانه على كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تفرح عليهم حاسداً، ولا تشمت بنا ولا بهم عدواً، وسخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً ومنّاً وغفراناً، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فاجعل اللهم الرحمة على قبره، وأفسح له في قبره مد بصره، وافتح له أبواباً إلى النعيم والجنان، وآنس وحشته وغربته برحمتك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماَ، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك! اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم لك الحمد على ما أغثتنا به، اللهم اجعله صيباً نافعاً، وانفع به اللهم عموم المسلمين، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا فلا غنى لنا عن فضلك ومنك ورحمتك يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(107/9)
الصبر عند الابتلاء
إن هذه الدنيا قد جبلها الله وطبعها على الابتلاء، وعلى الفتن والكدر حتى لا يطمئن العباد إليها، فإذا نغصت صحتهم بسقم اشتاقوا إلى جنة لا أمراض فيها، وإذا كدر اجتماعهم بفراق اشتاقوا إلى جنة لا فراق فيها، وإذا تكدر عيشهم بخوف أو فزع اشتاقوا إلى دار لا وجل ولا فزع فيها، وهم فيها خالدون.
وفي هذه المادة تطلع على أنواع الابتلاءات ومرارتها في الدنيا، وحلاوة عاقبة الصابر المحتسب(108/1)
الدنيا دار البلاء
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله وتوبوا إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
يا نفس توبي قبل ألا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
اتقوا الله حق تقاته قبل أن يخطفكم الأجل أو يفجعكم الوجل.
عباد الله: يقول الله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
معاشر المؤمنين: إن هذه الدنيا قد جبلها الله وخلقها وطبعها على البلايا، وعلى الفتن والكدر، حتى لا يطمئن العباد إليها، فإذا نغصت صحتهم بسقم اشتاقوا إلى جنةٍ لا أمراض فيها، وإذا كدر اجتماعهم بفراق اشتاقوا إلى جنةٍ لا فراق فيها، وإذا تكدر عيشهم بخوف أو فزع اشتاقوا إلى دارٍ لا وجل ولا فزع فيها، وإذا كدر عزهم بذل أو غناهم بفقر اشتاقوا إلى دارٍ لا يمسهم فيها نصب ولا هم فيها يحزنون.
أيها المؤمنون: إن من أراد السعادة الكاملة في الدنيا، طلب المستحيل بأصنافه وأنواعه، وكيف تراد السعادة من دارٍ جعلها الله سجن المؤمنين وجنة الكافرين؟ كما في الحديث الصحيح: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
مرَّ أحد السلف رضوان الله عليهم بيهودي حداد فاعترض اليهودي طريق ذاك العالم، فقال: نبيكم يقول: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) فكيف تكون الدنيا سجناً لك، وأنت على هذا الخيل وتلبس هذه الحلة والناس من حولك؟ وكيف تكون جنة لي وأنا حداد بين الكير والنفخ والنار؟! قال: نعم.
هي سجن لنا لأننا ينتظرنا من النعيم أضعاف أضعاف ما نحن فيه، وهي جنة لكم؛ لأن من مات كافراً ينتظره من الشقاء والعذاب أضعاف أضعاف ما هو فيه.
وبالجملة فليس في الدنيا نعيم لا ينقطع.
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار
فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوارِ
أيها الأحبة: قد جعل الله في هذه الدنيا ألواناً وأنواعاً من البلاء، وما من بلاء قل أو كثر صغر أو كبر إلا وهو بقضاء الله وقدره {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] فهذا مبتلى بزوجة نغصت عليه حياته، وهذا مبتلى بأولاد يعقونه، وهذا مبتلى بأقارب يصلهم فيقطعونه، ويبذل لهم فيحسدونه، ويعطيهم فلا يشكرونه، وذاك مبتلى بعلة في بدنه علة في الرأس أو في القلب أو في الجوف أو في الأطراف، أو في أي موضع من بدنه، وذاك مبتلى بعلة في ماله، ترددت تجارته بين كساد وخسارة أو جائحة وحريق، وآخر مبتلى بفقد الأبناء، كلما ولد له مولود وعاش أياماً ودب على الأرض يخطو، وعاش كأنما تمشي فراشة على وردة قلبه إذ به يموت بين عينيه، وآخر مبتلى بالحل والترحال والتشريد والطرد، وآخر وآخر وآخر كل هذه أنواع من البلاء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ} [البقرة:155] ولم يبتل العباد بالخوف كله، أو بالجوع كله، أو بنقص المال كله، أو بنقص الأنفس كلها، أو بنقص الثمرات كلها؛ لأن العباد لا يطيقون البلاء كله، وإنما يبتلون بشيء {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر:8] لو نزل الضر كله، لهلك العبد ولم يطق، ولكن يناله شيء، يناله مس يسير من هذا.(108/2)
أنواع البلايا وأعظمها
هي حكمة بالغة فما تغن النذر هي حكمة بالغة؛ لأن الله جل وعلا حكيم عليم، يُبتلى العباد بهذا وبأشكاله وأضربه وأنواعه، وكل هذا يهون إلا أن تكون البلية في الدين.
إذا كانت بلية المرء في دينه ومعتقده، وإذا كانت بلية المرء في إقباله على الله وفي صلاته وعبادته فذاك الخطر كل الخطر، والمصيبة كل المصيبة؛ لأن المصائب بأنواعها ربما تهون إلا مصيبة الدين.
وكل كسرٍ فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
من كل شيء إذا ضيعته عوضٌ وما من الله إن ضيعته عوض
أيها الأحبة: إذا تقرر هذا فلنعلم أن الدنيا بلاء بأنواعها.
إنما الدنيا بلاء ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
كل من فيها لعمري عن قريب سيموت
إن ما يكفيك فيها أيها الراغب قوت
فقد يكون الابتلاء حتى بظاهر ما يسر العبد به من زيادة النعم، وقد يكون استدراجاً ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم:17] ابتلوا بنعمة ونعيم، وقد يكون الابتلاء باليسر والعسر، والمنشط والمكره، والحبيب والبغيض، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] وقد يبتلون بما يؤمرون به فهل يعملونه ويقيمونه ويبتلون بما ينهون عنه؟ هل يرعوون وينزجرون عن فعله؟ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] قال ابن كثير في التفسير: "أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي".
أيها الأحبة: إن العبد يبتلى يوم أن يسمع "حي على الصلاة" "حي على الفلاح" فيسقط كثير من الناس في معركة الفراش والوسادة أمام داعي التوحيد، ويبتلى العبد أمام دريهمات من المال فترمي به نفسه في أحضان الحرام، ويستعجل أرزاقاً كانت قد كتبت له بالحلال، يستعجلها بالحرام، ويبتلى العبد في أحوال كثيرة بصورة أو فلم أو ملهاة أو عزف أو طرب، فربما فشل في هذا الامتحان اليسير.
إن العباد يبتلون بالأوامر والنواهي {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] من هو أحسنكم في فعل الواجب والقيام به؟ ومن هو أصبركم على ترك المعصية؟ ومن هو أقدركم على تركها والتجافي والبعد عنها؟ إن العبد يبتلى في كل شيء، في كل أمر بطاعة يبتلى، وفي كل زجر عن معصية يبتلى.(108/3)
الابتلاء يكون على قدر الإيمان
ابتلاؤنا على قدر إيماننا، وكان الأوائل يبتلون بأنواع البلاء كالجبال لصلابة دينهم، وقدم سابقتهم، وثبوت خطاهم في الدين، كلما كان الرجل صلباً في دينه كانت درجة الابتلاء والامتحان عليه أعظم، فابتلاء كثير منا بصوت أو صورة أو حالة أو موقف يسير يسير جداً، فسرعان ما ينهزم، هذا يبتلى بأولاده يصارعونه: نريد طبقاً يستقبل البث، نريد ما يسمى بالدش، نريد ونريد ونريد فيسقط أمامهم، ويهزم في معركتهم فيقدم لهم ما يشتهون في معصية الله.
وذاك يبتلى من أماني وأهواء أهله -زوجه- فيقرهم على ما يسخط الله، وذاك يبتلى بقليل وكثير وصغير وكبير ومع ذلك لا يصمد أمام الابتلاء إلا يسيراً أو قليلاً، ثم يكون كجبل من الشمع أو جبل من الثلج يذوب عند أدنى حرارة من الابتلاء.
وكان الأوائل يبتلون بالأمور العظيمة والكبيرة.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ابتلي الشيخ/ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المحدث العالم الأصولي الفقيه النحرير البارع المعروف، حفيد إمام الدعوة، وليس أول من ابتلي وإنما نضرب الأمثلة من التاريخ القريب حتى لا يقول أحد: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:134] فيستدل خطأً بهذه الآية على أن أخلاق الأوائل تنعدم في الأواخر.
ابتلي أمام الأتراك -أمام العثمانيين- قالوا له: أنت تكفر من يدعو الأضرحة أو يستغيث بالقبر أو يتوسل بهذا القبر ليدفع بصاحبه بلاءً حل أو يرجو به نعمة فقدت؟ قال: نعم.
من دعا غير الله كفر، ومن طلب النصرة من غير الله كفر، ومن توكل على غير الله في نصرة كفر، فما كان منهم إلا أن امتحنوه فأوثقوه وما رجع، وعذبوه وما رجع، ثم وضعوه في فوهة المنجنيق وأطلقوا قذائف المنجنيق حتى تطاير لحمه وعظمه وأشلاؤه ودماؤه وهو يموت من أجل لا إله إلا الله، من أجل كلمة التوحيد، ابتلاء على قدر جبال الإيمان.
ثم ابتلي أبوه مرة أخرى، فجاء الباشا، وقال: يا شيخ! قتلنا ولدك، فقال الشيخ/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: لو لم تقتلوه لمات في ساعته في مكانه، فثبت أمام هذا النوع العظيم من الابتلاء بفقد الولد الصالح العالم.
وآخرون يبتلون بأمور عظيمة، يبتلون فيصبرون، ويمتحنون فيثبتون، بل إن بعضهم قدم نفسه حتى يرفع شيئاً من البلاء عن الناس، من يقرأ التاريخ يعلم أن الدولة السعودية الأولى قام زعيمها وإمامها لما حاصره الأتراك وضربوه ضرباً شديداً في الدرعية، ولم يبق معه من القوة على القدرة بالمقاومة شيئاً يستطيعه، خرج إليهم فقال: ما تريدون؟ قالوا: نريدك أنت، قال: نعم.
أسلمكم نفسي بشرط: ألا تغتصبوا امرأة من أهل الدرعية، وألا تعترضوا لشرفها أو عفتها، وألا تنتهكوا الناس في دورهم، وألا تأخذوا من قوتهم وأرزاقهم، فلما قبلوا العرض سلم نفسه صابراً على هذا الابتلاء، فذهب به إلى مصر ثم إلى الأستانة فقتل هناك رحمه الله.
ابتلاء عظيم يقدم فيه الرجال، يرون الموت {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:143] يقدمون على الموت طائعين مختارين راضين غير مكرهين.
خرجنا إلى الموت شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف ونأت المنية من بابها
ونعلم أن القضا واقع وأن الأمور بأسبابها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نلق حتفاً فيا حبذا المنايا تجيء لخطابها
وكم حيةٍ تنطوي حولنا فننسل من بين أنيابها
أيها الأحبة: يبتلى أهل القلوب الكبيرة والعقول الكبيرة بدرجة إيمانهم، وكلما كان الرجل صامداً صلباً في دينه كان بلاؤه أعظم، وعلى كل حال فالابتلاء لكل العباد، لا تغبطنَّ ملكاً في ملكه، ولا أميراً في إمارته، ولا وزيراً في وزارته، ولا رئيساً في رئاسته، ولا غنياً في غناه، ولا ذا ولد فيما أوتي، ولا بعيد أو قريب في حال، فإن جميع العباد في كدر {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
من ذا الذي قد نال راحة عمره فيما مضى من عسره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره
ولقد حسست الطير في أوكارها فرأيت منها ما يصاد بوكره
أو ما ترى الملك العظيم بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فتراه يمشي والهاً في نفسه همٌ تضيق به جوانب صدره
ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلام فهام بأمره
والوحش يأتي حتفه في بره والحوت يأتي موته في بحره
كيف التخلص يا أخي مما نرى صبراً على حلو القضاء ومره
فالواقع أن الناس جميعاً في بلاء، فمستقل ومستكثر ولو رأيت ذا نعمة، فهو في بلاء.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
أيها الأحبة في الله: إن واقع المؤمنين يعلمون أن الله لم يقدر قدراً وإن كان في ظاهره مصيبة إلا وهذا القدر مشتمل على تمام العدل؛ لأن الله لا يظلم، ومشتمل على تمام الحكمة؛ لأن الله لا يقدر عبثاً، ومشتمل على تمام الرحمة؛ لأن رحمة الله وسعت كل شيء؛ ولأن رحمته سبقت غضبه، ففي كل حال ليس في الدنيا لذة إلا وهي مشوبة بالكدر، فما تظنه في الدنيا شراب فهو سراب، وعمارة الدنيا وإن حسنت صورتها خراب، وما جمعت فيها فهو للذهاب، ومن خاض الغمر -الغمر هو: الماء الكثير- لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين لم يخل من وجل، فالعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع؟! وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضر النفع!(108/4)
مرارة الدنيا حلاوة في الآخرة لمن رضي واحتسب
مرارة الدنيا على ما ينال العبد فيها إذا صبر واحتسب ورضي، فهي حلاوة في الآخرة، وليعلم المسلم أن مرارة الدنيا بعينها قد تكون حلاوة في الآخرة، ولأن ينتقل المرء من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة فذاك خير ولا شك؛ دل على ذلك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا بن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال: يا بن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس ولا رأيت شيئاً قط).
إذاً: فما ينال العبد في هذه الدنيا من مرارة المصائب هو بإذن الله معوضٌ في الآخرة بخير عوض إن كان من الصابرين المحتسبين.
ثم إن العباد مساكين يطغون عند الغنى {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] فلو مرت حياته من غير منغصات لأصابه من الكبر والعجب وقسوة القلب ما قد يكون سبباً لهلاكه، ولكن الله يبتليه إذا رأى منه بعداً لكي يرجع، وإذا رأى منه ذنباً كي يستغفر، وإذا رأى منه ضلالاً كي يئوب ويتوب، ولكي يسمع تضرعه وأنينه وشكواه ولجوءه إلى ربه ومولاه، فسبحان من جعل الرحمة في كل شيء حتى في المصيبة والبلاء، فمقام المحنة تتفاوت عقول الناس فيه، فمنهم من يرى بثاقب البصر والبصيرة، وبصادق العقل واللب يرى أن في المحنة منحة، ويرى أن في البلاء هدية فيصبر ويحتسب؛ وحينئذٍ يتفاوت الرجال في عقولهم وتقديرهم لما يمر بهم، تتفاوت حقائق الرجال، فمنهم من لا يصبر ويؤثر حلاوة فانية على لذة باقية، يؤثر حلاوة منقطعة على لذة دائمة، ولكن منهم من يتلذذ بشيء من المر أو من الصبر على المصيبة حتى يلقى الله موفور الأجر قد أجزل له الثواب.
قال ابن الجوزي رحمه الله: رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض أو غيره من المصائب اشتغلوا تارة بالجزع، وتارة بالشكوى، وتارة بالتداوي، إلى أن يشتد عليهم فيشغلهم اشتداد المصيبة عن الالتفات إلى المصالح الواجبة من الوصية قبل حلول الموت، أو فعل الخير أو التأهب فكم ممن له ذنوب لا يتوب منها! وكم ممن عنده ودائع لا يردها! وكم ممن عليه دين أو حلت زكاة في ذمته أو في ذمته مظلمة لا يخطر له دفعها وبذلها وتداركها.
قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟ وهل ينتظر الكبير إلا الهرم؟ وهل ينتظر للموجود سوى العدم؟
على ذا مضى الناس اجتماعٌ وفرقةٌ وميتٌ ومولودٌ وبشرٌ وأحزان
ولكن حقيقة الأمر تنكشف يوم ينكشف الغطاء، فإذا وقف الناس يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الترمذي بسند حسن عن جابر رضي الله عنه قال: (يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب يودون لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض) مما يرون من كرامة الله لأهل الابتلاء، فمن كان مبتلى، فليحمد الله، وليرجع الأمر إلى الله مردداً {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
قال بعض السلف: ثلاثة تمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة، والولاية.
وقال عوف بن عبد الله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية، والصبر مع المصيبة.
وقال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره إذ لم تكن أعظم مما هي، وأن رزقني الصبر عليها، ووفقني إلى الاسترجاع عندها، ولم يجعل مصيبتي في ديني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(108/5)
ثواب وفضل الصبر على البلاء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة في الدين ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: نداء نوجهه إلى كل سقيم على فراش السقم، وإلى كل مريض على مرقد المرض، وإلى كل مبتلى ببلية في بدنه أو في غير ذلك، نقول له: اسمع ما بشرت به وما ينتظرك من الفضل والثواب إن كنت صابراً محتسباً! فأول ذلك: أن البلاء قد يكون من دلائل صلابة العبد في دينه، وأن الله ربما أحبه فابتلاه في الدنيا لتكفر ذنوبه وخطاياه فيقدم على ربه طاهراً مطهراً، فعن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) رواه البخاري.
فلا تجزع يوم أن ترى قريباً من أقاربك أو ذوي رحمك أو عصبتك أو من جيرانك أو المسلمين مريضاً وإن طالت به أشهر المرض وسنينه، فإن الله جل وعلا يكفر من ذنوبه بكل لحظة يرقد فيها على علته وسقمه.
وعن فاطمة رضي الله عنها قالت: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده في نسائه، فإذا سقاء- يعني: قربة- معلق نحوه صلى الله عليه وسلم، يقطر ماء السقاء على النبي صلى الله عليه وسلم من شدة ما يجد من حرِّ الحمى، قلنا: يا رسول الله! لو دعوت الله لشفاك؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن من أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
وتقول عائشة رضي الله عنها: [كان صلى الله عليه وسلم رجلاً مسقاماً] أي: كثيراً ما يطرقه السقم وكثيراً ما ينزل به المرض، وربما وصف له الدواء فتداوى.
ثم إن هذه المصائب هي بقدر الله وقدر الله خير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألونني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول الله! وممَّ تضحك؟ قال: أضحك عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه الإمام أحمد.
والمرض يكفر الذنوب كما في حديث أم العلاء يوم أن كانت مريضة فزارها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أم العلاء! أبشري فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة) رواه أبو داود بسند صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله به من سيئاته) رواه مسلم والوصب: هو المرض، والنصب: التعب، والهم: من أمر المستقبل، والحزن: على أمرٍ قد مضى.
سبحان الله! حتى الهموم التي تحل بذهن العبد وخاطره يكفر الله بها من ذنوبه وسيئاته، لك الحمد يا ربنا على هذا الدين العظيم الذي ما ترك لنا شيئاً في سراء أو ضراء إلا وفتح فيه باباً إلى الرضا والمثوبة والجنة، حتى الهم لو اشتغلت بأمر سكنى أولادك أو نفقة زوجتك أو أهمك أمر بناتك، أو أهمك أمر من الأمور الدنيوية المباحة، فإن هذا الهم تكون مأجوراً عليه، فما بالك بمن أهمه حال المسلمين في البوسنة، أو حال المسلمين في كشمير، أو حالهم في الفليبين، أو حالهم في فلسطين، أو حالهم في أي بقعة من البقاع؟ الهم لمصلحة الشخص فيه تكفير للسيئات، فما بالك بالهم الذي هو لأجل الدين وأبناء الدين؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تنزل المعونة من السماء على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر المصيبة) رواه البزار والحديث صحيح، والمئونة: القوت، ومن نعم الله أن الله يوطئ للمصيبة في قلب العبد شيئاً من الرضا وشيئاً من الاحتساب وشيئاً من الصبر، حتى إذا نزلت المصيبة، نزلت هينة على العبد، فلا يفوته حظه فيها من الاسترجاع والفوز والأجر العظيم عند صبره عليها لكي يصبر في أول وهلة تطرقه المصيبة (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).(108/6)
الحذر من التسخط والسخرية
ليحذر المسلم كل الحذر أن يتكلم عند المصيبة بشيء يحبط به أجره أو يسخط به ربه مما يشبه التظلم والشكوى والجزع، فإن الله عدل لا يجور، وأفعاله كلها حكمة وعلى مقتضى المصالح {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] وهو الفعال لما يريد، فالحذر الحذر أن تأتي وساوس الشيطان على العبد، فربما تذكر أحوالاً، أو سخط بكلام، أو جزع بدعاء لا يليق، ثم يكون حاله كحال من كره لقاء ربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء ربه كره الله لقاءه، فالواجب على العبد ألا يقول عند المصيبة إلا ما يرضي ربه، وربما كان سخطه هذا سبباً إلى جزع أبنائه وبناته وذويه من حوله، فيقولون ما لا يليق، والملائكة تؤمن على حاله، وتؤمن على حال من حوله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن من الأسباب التي يدفع بها البلاء أن يحرص العبد إذا رأى مبتلى أن يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
فمن قالها لم يصبه ذلك البلاء كما في الحديث الحسن عند الترمذي.
وإن من آداب قول هذا إذا زرت مريضاً مبتلى ألا تشخص ببنانك إليه وتقف عن وجهه، فتقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وإنما تقولها يوم أن تخرج من عنده، أو تسرها في نفسك حتى لا يعتقد المريض أنها شماتة، وحتى لا يصيبه شيء من الإحباط أو عدم الفأل والأمل في شفاء حاله.
وكذلك الحذر الحذر من الشماتة، فإن الشماتة بالناس سبب في الوقوع فيما وقعوا فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن شمت بأخيه، فربما عافاه الله وابتلاه، وقال القائل:
إذا ما الدهر جر على أناسٍ حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
وكم رأينا أناساً من رجال ونساء، نساء شمتن بنساء فحل بهن ما حل بالمشموت بهن، ورجال شمتوا بآخرين فحل بهم ما حل بالمشموت بهم، فالعبد لا يشمت، ولا يفرح على مصيبة أخيه، بل واجبه الدعاء له، وواجبه إخلاص النصيحة، ووصيته بالصبر عند هذا، واعلموا أن الدعاء بإذن الله ينفع مما نزل وما لم ينزل من البلاء كما في حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء فيعتلجان إلى يوم القيامة) هذا إذا حرص العبد على توفر شروط الدعاء وبذل أسباب قبوله بإذن الله.
فعلى كل حال:
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
أوما ترى أن المصائب جمةٌ وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبةٍ هذا سبيل لست فيه بأوحد
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد
إن من حلت به مصيبة فتذكر مصيبة المسلمين في فاجعتهم بموت نبيهم صلى الله عليه وسلم كان ذلك مهوناً عليه ما يرى، فإذا تذكرت حال الأمة وقد مات نبيها وحصل لها ما حصل بعد موته؛ علمت أن كل مصيبة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تهون كما في الحديث (من عظمت مصيبته عليه فليتذكر مصيبة المسلمين فيَّ) فإن المسلمين لم يصابوا بمصيبة- كما تعلمون أيها الأحبة- كقدر مصابهم بموت المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والواجب على العبد أن يسترجع في كل حال حتى لو انكسر في يده كأس، أو انكفأ قدر، أو انشق ثوب، أو زلت به قدم أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، حتى يصبر عند الصدمة الأولى، فإنما الصبر الذي عليه الأجر عند الصدمة الأولى، والذي يصبر عند الصدمة الأولى فلا محالة سيصبر في اليوم الخامس أو العاشر أو الأسبوع الأول أو الثاني.
من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم
وإني لأعرف رجلاً من أهل هذه المدينة قد ابتلي ببلية ذات يوم: كان متجهاً يريد المغسلة أو دورة المياه، فلم يبصر بعد ذلك شيئاً، وأظلمت الدنيا من حوله، والناس في نهار وضياء، وأصبح لم ير شيئاً، ابتلي فجأة بأن أخذ الله بصره هكذا، فما كان منه إلا أن أكثر من" إنا لله وإنا إليه راجعون" " لا حول ولا قوة إلا بالله" وانزعج الناس من حوله، نذهب بك إلى أسبانيا، نذهب بك إلى بلد كذا، لم يكن حينها في هذه البلاد مستشفيات أو أطباء على درجة في تخصص العيون، فقال: بل ربي يرد علي ما أخذ مني، فلم يمكث أياماً لم تتجاوز السبعة عشر يوماً إلا وهو يرى ما كان حوله كما كان قبل أن يؤخذ بصره.
إذاً: فاسترجاع العبد وصبره على المصيبة من أسباب دفع البلاء عنه، ومن دلائل نجاحه في امتحان الابتلاء الذي مر به، وعلى المسلم أن يخفف على الناس مصابهم يوم أن يراهم في مصيبة (من قال: هلك الناس، فهو أهلكُهم، وفي رواية: أهلَكهم) وهذا في كل حال، فإذا رأيت في الناس مصيبة من غلاء، فهوِّن على الناس ما يرون، وإذا رأيت الناس في مصيبة خوف، فهوِّن على الناس ما يرون، وإذا رأيت الناس في مصيبة كرب، فخفف عليهم ما هم فيه حتى ينبعث الأمل من جديد ويشق التفاؤل طريقه إلى قلوبهم فيمضون أقوياء ذوي عزيمة بإذن الله.
اللهم ادفع عنا أصناف البلاء والوباء والزنا والزلازل والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تقدر لنا كل خير وأن تصرف عنا كل شر.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف الإيمان ووسوسة الشيطان، وقرناء السوء، وشحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، وقلوباً قاسية، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم ثبتنا على دينك إلى أن نلقاك، اللهم اغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فجازه اللهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم متع به على طاعتك واجمع شمله وإخوانه وأعوانه، وقرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته.
اللهم إنا نسألك ونستعين بك على كل من أراد بولاة أمرنا فتنة، وأراد باجتماعنا فرقة، وأراد بشبابنا ضلالة، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم أبعده عنا، اللهم اجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم انصر المسلمين في طاجكستان، اللهم انصر المجاهدين في طاجكستان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين وأرومو وعفر والفليبين وفي مورو وكشمير وفلسطين وسائر البلاد يا رب العالمين.
اللهم اجمع شمل المسلمين في أفغانستان، اللهم أعنهم على إقامة التوحيد، اللهم أعنهم على هدم القبور والأضرحة، اللهم أعنهم على تحقيق التوحيد يا رب العالمين، اللهم مكن لهم بقربهم واجتهادهم في العناية بالتوحيد يا رب العالمين.
اللهم آمنا في ديارنا ولا تفرح علينا عدونا، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا أسيراً إلا فككته بمنك وكرمك يا أرحم الرحمين.
اللهم صل على محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.(108/7)
الصبر عند المصيبة [1]
لا يخلو مسلم من المصائب والابتلاء في هذه الدنيا، ولله في ذلك حكمة، والله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء كما له عليه عبودية في السراء.
والصبر: حبس النفس عن التسخط في المقدور، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله تسخطاً، وحبس الجوارح عن المعصية، والصابرون لهم ثلاث خصال من الله وهي: التبشير، والصلاة من الله، والرحمة.
هذا ما سيتضح لك -إن شاء الله- أيها القارئ الكريم خلال ثنايا هذه المادة.(109/1)
الصبر على ثلاثة أوجه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فهي وصية الله لكم، ولمن سلف قبلكم من الأمم يقول تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: اعلموا أنه لا يخلو عبد مسلم من المصائب والابتلاء في هذه الدنيا، ولله في ذلك حكمة حيث يقول سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله سبحانه وتعالى لم يبتل عبده ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضراء، كما له عليه عبودية في السراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عليه عبودية فيما يحب، والصبر: حبس النفس عن التسخط في المقدور، وحبس اللسان عن الشكوى لغير الله، وحبس الجوارح عن المعصية، واعلموا -يا عباد الله- أن الصبر ليس مقصوراًَ على المصائب والآلام فقط، بل هو وارد في غيرها من الأمور.
روي عن ابن عباس رضي الله أنه قال: [الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه: صبرٌ على أداء فرائض الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ على المصيبة عند الصدمة الأولى] ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] فمن ابتلي ببلية في نفسه أو ماله أو فقد حبيباً له ولداً كان أو قريباً، فلا دواء له إلا الصبر على ما أصابه، فإذا صبر المبتلى واسترجع في مصيبته ممتثلاً أمر الله في ذلك: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] فقد هانت عليه البلوى وضاع أثرها، واستراح من همها وعذابها في الدنيا، وفاز بأحسن الجزاء عليه في الآخرة، وعزى نفسه وسلاها باليسر بعد العسر، والفرج بعد الشدة، متذكراً قول الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6].(109/2)
الشكوى لا تكون إلا لله
واعلموا -يا عباد الله- أن إظهار البلوى والمصيبة سواء كانت مرضاً أو فقراً أو غير ذلك، إما أن يكون شكوى إلى الله تعالى، كما قال أيوب عليه السلام: (أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وكما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فهذا النوع من إظهار البلوى لا ينافي الصبر، بل قد يكون مقصوداً من الابتلاء والامتحان؛ لأن الله جل وعلا قد يبتلي عبده بالمصيبة والمحنة ليسمع أنينه متضرعاً إلى ربه، ولينظر خشوعه وإخباته ومناجاة العبد له، وإما إظهار البلوى لغير الله، فإن كان لحاجة كبيان مظلمة لمن يقدر على رفعها، أو شرح العلة لطبيب يداويها، فإن ذلك لا ينافي الصبر ما دام العبد راضياً بقضاء الله وقدره، غير متبرم أو متضجر مما نزل به من البلاء، وأما إن كانت شكواه لغير الله إلى من لا حاجة ولا فائدة في ذكرها له، وبثها المبتلى متبرماً متضجراً ساخطاً معترضاً، فهذا لا يستفيد من المصيبة شيء سوى العذاب في الدنيا، وقد يحاسب على سخطه وتضجره في الآخرة، سيما إن كان ذلك السخط مصحوباً بما يوحي الاعتراض، وعدم الرضا بقضاء الله وقدره.
وقد يظهر العبد بلواه وقد يبوح العبد بمصيبته إلى حبيب يواسيه أو صديقٍ يسليه في مصيبته بما يثبته ويعينه على الاسترجاع فيها، واحتساب ثواب الله عليها، فهذا مما لا بأس به -أيضاً- وفي هذا يقول القائل:
وأبثث عمراً بعض ما في جوانحي وجرعته من مر ما أتجرع
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسليك أو يتوجع
واعجبوا إن شئتم -يا عباد الله- ممن إذا حلت به البلية ونزلت به المصيبة، دعا بالويل والثبور على نفسه وضج بالشكوى ساخطاً، متبرماً لغير الله، إلى من لا يملك لنفسه دفعاً ولا نفعاً ولا ضراً، فضلاً أن يدفع عن غيره سوءاً أو يجر إليه مغنماً أو خيراً، وكأن لم يبتل في هذه الدنيا سواه، ولم يصب من الخلق إلا إياه، وترون مثل هذا النوع من الناس يزداد بالتشكي يأساً وجزعاً وقنوطاً وهلعاً وهو كما قال القائل:
تلذ له الشكوى وإن لم يجد بها صلاحاً كما يلتذ بالحك أجرب
فمثل هذا الجاهل في مصيبته وشكواه، كمن يشكو الله إلى الناس، وهذا في غاية الضلال عن الهدى، رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال: يا هذا! والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك، والعارف إنما يشكو إلى الله وحده، ولنتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم (من عظمت عليه مصيبته فليتذكر مصيبة المسلمين فيَّ) إذ لا مصيبة على الأمة في سالف زمنها وآخره أشد من مصيبتها في فراق نبيها صلى الله عليه وسلم.
إذاً فالذي ينبغي لكل مسلم حلت به المصيبة أو نزلت به البلية أن يصبر، ويحتسب امتثالاً لأمر الله عز وجل عباده بالصبر حيث قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة:153] وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] وامتدح الله عباده الصابرين وأثنى عليهم بقوله جل شأنه: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، وأخبر الله سبحانه وتعالى بمعيته مع الصابرين بقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وحسبكم في ثواب الصبر أن الله يجزي أهله الصابرين أجرهم بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(109/3)
بيان أنواع الصبر
الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر لله على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل، وعن الند وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، كل ذلك تعظيم لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن جسومكم على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.(109/4)
الصبر على الطاعة
عباد الله: مر معنا أن الصبر أنواع أهمها: الصبر على طاعة الله، وذلك بالمحافظة والمداومة عليها، ومراعاة الإخلاص فيها، ومن تأمل ما يناله العبد المسلم، في مجاهدة نفسه وشيطانه وهواه؛ لأجل طاعة ربه ومولاه في فعل الأوامر واجتناب المناهي، وجد أن هذه المجاهدة مستلزمة لصبرٍ ومصابرة ومرابطة على ذكر الله، واستحضار رجاء جميل ثوابه، والخوف من أليم عقابه، وحسبكم بهذا الصبر عبادة، حسبكم بها عبادة توضع في ميزان العبد، ويرجو ثوابها عند الله.(109/5)
الصبر عن المعصية
ومن أنواع الصبر أيضاً: الصبر عن معصية الله خوفاً من الله وهيبةً منه أن يستعين العبد بنعمه على معصيته، ولا بد للعبد من الصبر عن معصية الله؛ لأن المعاصي تظهر للعبد غالباً في ثوب الشهوة، وقالب اللذة، فإن دفع نفسه بالصبر عن الوقوع فيها فقد نجا وسلم من الوقوع في معصية الله، وأسباب سخطه وعقابه، والصبر عن المعصية -يا عباد الله- صبر اختيار، صبر رضاً ومحاربة للنفس، لا سيما مع وجود الأسباب الدافعة إلى المعصية.
ومن أروع أمثلة الصبر عن معصية الله: صبر يوسف عليه السلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه الأمور جرت عليه بغير اختيار، ولا كسب له فيها، وليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عليه السلام عن المعصية، فصبر اختيار ورضا ومحاربة للنفس مع وجود الأسباب الداعية إلى المعصية، فقد كان عليه السلام شاباً عازباً غريباً مملوكاً، والمرأة جميلة ذات منصب وجمال وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي التي دعته إلى نفسها، وحرصت على ذلك أشد الحرص وتوعدته بالسجن والصغار إن لم يفعل ما راودته عليه ومع ذلك كله صبر مختاراً مؤثراً ما عند الله متحملاً ذلك الأذى وتلك العقوبة، حيث قال عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33].(109/6)
الصبر على المصائب وجزاؤه
قال الإمام أحمد رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى ذكر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً، وقال بعض السلف وقد عزي على مصيبة نالته فقال: ما لي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر بثلاث خصال، كل خصلة منها خيرٌ من الدنيا وما عليها، وهي التي ذكرها الله في كتابه الكريم بقوله: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] وعلى أية حال العاقل يلزم الصبر في المصائب والمحن، ويدرك أن الرضا بقضاء الله فيها، والصبر عليها يخفف عنه شدة وقعها ويخلف عليه ما هو خير منها في الدنيا والأجر والثواب في الآخرة، وأن السخط والجزع، والتشكي والهلع، فلا يدفع من قدر الله شيئاً، ولا يزيد العبد إلا إثماً وبلاءً، فمن رضي بالمقدور وصبر عليه فله الرضا، ومن سخط فعليه السخط.
معاشر المؤمنين: إننا لنعجب من الذين نراهم في زماننا هذا، وقد خسر الواحد منهم جزءاً يسيراً من أمواله وتراه لا يحمد الله على مصيبته ولا يسترجع في ما حل به وإذا قيل له: احمد الله على ما حل بك، قال: كيف أحمد وقد نزل بي كذا وكذا؟ وقد خسرت في تجارتي كذا وكذا؟ فذلك في غاية الاعتراض والدفع وعدم الرضا بقضاء الله وقدره عياذاً بالله! من الاعتراض على قدره، ومن السخط بقضائه.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من الذين هم في البأساء من الصابرين، وفي الضراء من المسترجعين وفي النعماء من الشاكرين، وأن يجعلنا من عباده المحسنين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، وأراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضالة، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً واختلاطاً، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أدر عليه دائرة السوء يا جبار السماوات والأرض! اللهم اختم بالشهادة والسعادة آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا ولا تجعل اللهم إلى النار منقلبنا ولا فيها مثوانا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مديناً إلا قضيت دينه، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحة وهبته، ولا غائباً إلا رددته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها، وأعنتنا على قضائها يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك التوبة والاستدراك قبل الوفاة والاستعداد قبل الممات برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا، اللهم أصلح إمامنا، اللهم وفق إمامنا لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح بطانته وقرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته وباعد بينه وبين من علمت فيهم شراً له ولأمته، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لموتانا وجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم منزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين!.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(109/7)
الصبر عند المصيبة [2]
لقد جاءت الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على فضل الصبر وجزاء الصابرين على ما أصابهم من أنواع البلاء والمحن، ومنها: أن أي مصيبة تصيب المؤمن فهي كفارة له حتى الشوكة يشاكها، وهذا من عظيم فضل الله علينا، فمع هذه الفضائل للصابرين نبقى مع الشيخ في هذه المادة(110/1)
أحاديث في فضل الصبر والصابرين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: كلنا يعلم أن الصبر دواء ناجع، وعلاج نافع في تخفيف آثار كل بلية أو مصيبة تقع بالعبد، في نفسه أو أهله أو ماله، وليس للعبد إلا أن يصبر لا محالة، فمن لم يصبر في أول المصيبة رضا واختيارا، فمرده على الصبر عليها قهراً واضطراراً، قال الشاعر:
أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب فيكف إذا ما لم يكن عنه مذهب
وقال الآخر:
اصبر ففي الصبر خير لو علمت به لكنت باركت شكراً صاحب النعم
واعلم بأنك إن لم تصطبر كرماً صبرت قهراً على ما خط في القلم
ولقد مر معنا ذكر طرف من الآيات في فضل الصبر ومدح الصابرين، ولنتأمل اليوم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك حيث يقول: (عجباً لأمر المؤمن كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، فما أعطي أحد عطاءً خيراً من الصبر) متفق عليه.
فمن ذلك نعلم أن الخير كل الخير للعبد: أن يصبر في جميع أموره؛ لأن المسلم يعلم أن البلاء مهما عظم أمره، أو صغر قدره فإن الله قد جعله سبباً لتكفير ذنوبه، فعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المؤمن من نصبٍ، ولا وصبٍ ولاهمٍ، ولا حزنٍ ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه) متفق عليه.(110/2)
عِظَم الجزاء لمن رضي بالبلاء
فإذا تيقن المسلم هذا، انفتح له باب الرضا بالقضاء، والتلذذ بالصبر حين البلية، لماذا؟ لأنه علم من كلام نبيه صلى الله عليه وسلم، أن أصغر بلية حتى الشوكة، فإنها تكفر عنه الذنوب والخطايا، فإذا تأمل العبد وعلم قول نبيه صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه، حتى يوافى به يوم القيامة) إذاً فلا خسارة في الصبر، بل الخير والسعة فيه صغرت المصيبة أو كبرت، قال صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وجاء في حديث آخر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فما يبرح البلاء في العبد، حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، فمن ذا الذي يسخط ويجزع ولا يصبر، وهو يوقن بهذه النعم الجزيلة في رفعة الدرجات وتكفير السيئات، حينما تنزل به البلية، أو تحل به المصيبة.
جاء في الحديث عن أبي سعيد: (أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك على قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة، فقال: ما أشد حماك يا رسول الله! قال: إنا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر، ثم قال: يا رسول الله! من أشد الناس بلاءً؟ قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال: العلماء، قال: ثم من؟ قال: الصالحون، كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء من أحدكم بالعطاء) رواه ابن ماجة وابن أبي الدنيا واللفظ له، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره، حتى يبلغه إياها) وفي رواية أخرى: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة، فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده، أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل) رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط.
فمن كان مؤمناً حق الإيمان بربه ولطف رحمة خالقه، ومن كان مؤمناً حق الإيمان بنبوة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهل يجزع أو يتضجر من مصيبة حلت به؟! وقد علم أن الخير كل الخير فيها، لا والله، بل موقف المؤمنين الرضا بتدبير الله واختياره لهم، والقناعة بقسمة الله فيما قدر وقسم، ولا يدفع المؤمن ما حل به إلى البعد عن طاعة الله، بل يحدوه ويدفعه إلى مزيد الطاعة والعبادة والمحافظة على ما فرض الله، وتجنب ما يسخطه.(110/3)
المصائب والمحن تدفع إلى محاسبة النفس
أيها الإخوة: إن المصائب والمحن مدارس تفتح للعبد مع نفسه كتاب المحاسبة والمناقشة، إذ لو تأملنا في كثير من أحوالنا، وما يحل بنا من المصائب والآلام، لوجدناه بسبب أنفسنا وبما جرحته أيدينا، ومع ذلك يثيبنا الله على الصبر والرضا به، يقول الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فمن حلت به المصيبة وحاسب نفسه، لا بد أنه سيجد تفريطاً وتقصيراً في جنب الله، قد يستوجب مصيبة أو بلية توقظ من الغفلة في سبات المعصية، وتكون سبباً في التوبة والرجوع، والقصد والإنابة إلى الله جل وعلا، وما أكثر الغافلين السادرين في لهوهم وغفلتهم، يسمعون الوعظ والخطب والآيات والأحاديث، فلا تحدث في قلوبهم أي شعور بالندم، أو أي عزم على التوبة، ولكنهم تابوا وأنابوا واستيقظوا بمصيبة قدرها الله على الواحد منهم، فكانت كالهزة العنيفة الموقظة لسكير الغفلة والشهوة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(110/4)
فوائد الصبر على المصائب
الحمد لله الواحد الأحد على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واتقوا سخط ربكم فإن الأقدام والجسوم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: من نزلت به مصيبة أو عظمت في نفسه فليصبر، وليتذكر هذه الأمور واحداً بعد الآخر، وسيجد بعد ذلك أن المحنة منحة له من الله جل وعلا، وسيدرك أن الله وحده لا شريك له، هو المحمود في السراء والضراء، وهو أرحم الراحمين: الأول: أن المصيبة تدفعه إلى محاسبة نفسه، لأنها بما كسبت يداه والله يعفو عن كثير.
الثاني: أن الله يجازيه بها تكفيراً لذنوبه، وتطهيراً له من السيئات، ولنعلم أن عظم الجزاء مع عظيم البلاء.
الثالث: أن العبد إذا صبر فاز بوعد الله للصابرين، وهو أن يجزيهم الله أجرهم بغير حساب.
الرابع: أن يعلم العبد أن الجزع والضجر، لا يرد من قدر الله شيئاً، وأن يعلم أن الرضا والحمد لله يخفف أثر المصيبة الواقعة، ويدفع عنه الدعاء غيرها من المصائب وما هو أعظم منها.
الخامس: أن الرضا والصبر على المصائب يدفع عن المسلم شماتة الحساد.
كل المصائب قد تمر على الفتى وتهون غير شماتة الحساد
السادس: أن يتذكر المسلم عند حلول المصيبة، أن هذه الدنيا ليست بدار نعيم يطمئن لها، ويعلم عند ذلك أن الراحة والسعادة التامة في دار النعيم، دار الخلود الأبدي في الجنة، التي أعدها الله لعباده المتقين، فيدفعهم ذلك إلى مزيد من البذل والمجاهدة لنفسه حتى يصل بها إلى مرضاة الله في جنانه، في تلك الدار التي لا يكدر صفوها غصص المصائب والآلام، فلا تجزع من المصيبة في دار المصائب والآلام وهي الدنيا، يقول عنها القائل:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
السابع: أنه لو سلم أحد من المصيبة والبلية، لسلم من ذلك صفوة خلق الله في أرضه، الأنبياء والمرسلون، ولك في نبيك أسوة حسنة، فيما لقي من العذاب والابتلاء، من قومه وعشيرته، وسائر الجاحدين المعاندين له، فإذا علمت ذلك فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، وليكن لك في صبر نبيك أسوة حسنة.
الثامن: تذكر مصيبة من هو أعظم منك فيما ابتلوا به، فإن كنت مصاباً بشيء يسير فإن غيرك قد أصيب بمصيبة أعظم، وإن كنت مصاباً في جارحة معينة، فإن غيرك قد أصيب ببلية عظيمة في نفسه أو في ولده، وإن كنت مصاباً بخسارة في مالك، فإن غيرك قد أصيب في ماله وولده ونفسه، إذاً فالمصائب يخفف بعضها بعضاً، وإذا تأملت مصيبة غيرك هانت عليك مصيبتك.
التاسع: وهو أولها: أن تحمد الله في هذه المصيبة أنها لم تكن في الدين؛ لأن مصيبة الدين عظيمة:
وكل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
العاشر: أن هذه المصيبة لم تكن أعظم، فثق -أيها المسلم- بوعد الله وجزائه ولا تيئس ولا تقنط، فالفرج بعد الشدة وبعد العسر يسر، بإذن الله ورحمته، فاحمد الله على كل حال:
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت وأرست في مكامنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمن به اللطيف المستجيب
فكل الحادثات وإن تناهت فموصول بها فرج قريب
ويقول الآخر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
فمن ذا الذي يجزع ويضجر، ويسخط لقضاء الله وقدره عند حلول المصيبة، لا والله إن المؤمن إذا وقعت به المصيبة، يتذكر قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
والصبر على المصائب كما علمتم -أيها الإخوة- أعظم وأنفع علاج في هذه الدنيا، التي هي بطبيعتها دار لا تصفو لأحد، فمن صفا له الأمر لا بد أن يتكدر عليه في ولده، أو في ماله، أو فراق أحبابه، أو سقمٍ في بدنه، أو مصيبة في أي جانب ممن حوله، فليجتهد في دارٍ لا مصائب فيها، وليجتهد للعمل في دار يجتمع أحبابها ولا يفترقون، ويدوم نعيمها ولا ينقطع، وتصفو لذتها ولا تتكدر بشيء من موت أو هرم أو سقم.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل تلك الدار، التي رضي عن أهلها وجزاهم بمرضاته أوفر الجزاء.
اللهم اجعلنا من عبادك الصابرين، اللهم اجعلنا في السراء من الشاكرين، وفي الضراء من الصابرين، ولا تجعلنا من القانطين اليائسين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداءك أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أصلح إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته وقرب له من علمت فيه خيراً له، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله بمن أحببته، واجمع شمله بإخوانه، ووحد صفهم واجمع شملهم ووحد كلمتهم، ولا تفرح علينا وعليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مكسوراً إلا جبرته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اختم بالشهادة آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النيران منقلبنا ومثوانا، لا إله إلا أنت الحليم العظيم رب العرش العظيم، رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم، أنت أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، فتلطف بنا فيم حل بنا، وأعنا ولا تعن علينا، وأكرمنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وارفعنا ولا تخذلنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وراض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم وسع على أهل القبور قبورهم، ونور على أهل اللحود لحودهم، وافتح لهم أبواباً إلى الجنان، وأعنا على ما أعنتهم عليه بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(110/5)
الصبر عند المصيبة [3]
كلنا نعلم أنه ما من راحة تامة، أو سعادة دائمة، إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأما هذه الدنيا فدار الابتلاء والكبد والشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش المؤمن فيها مشقة، ولولا ما فيها من عبادة الله، واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة.(111/1)
ذم الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل وعن الند والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم من الأمم، يقول تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الأحبة في الله: مر معنا في جُمع ماضية الحديث عن الصبر، وأنه أنجع وأطيب علاج أمام المصائب والمحن والآلام, وتتمة الحديث في هذا الموضوع، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: روي من طريق أبي مورود سمعت الحسن قرأ هذه الآية فقال: [يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الآخرة، وفي رواية: يكابد مضائق الدنيا، وشدائد الآخرة] واختار ابن جرير أن المراد بالآية: مكابدة الأمور ومشاقها.
أيها الأحبة في الله: كلكم يعلم أنه ما من راحة تامة، أو سعادة دائمة، إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأما هذه الدنيا، فدار الابتلاء والكبد والشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش الإنسان فيها في مشقة، ولولا ما فيها من عبادة الله، واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره، لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت الدنيا لأهلها من الأكدار والمصائب لركنوا إليها واطمأنوا بها، ولما اجتهدوا في الأعمال الموصلة إلى دار النعيم والخلود المقيم، قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: يا أبتِ متى الراحة؟ فقال: يا بني! الراحة عند أول قدم نضعها في الجنة! عباد الله: تأملوا هذه الدنيا وما فيها من خلق الإنسان من كبد، وهي برمتها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك لما سقى منها كافراً شربة ماء، فالاجتماع فيها مآله إلى الفراق، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فنهاية الحياة موت، وغاية الاجتماع فراق.
أما اللذات في الدنيا، من المآكل والمشارب والمناكح، فتزينها الصحة والعافية، وأكثر أرباب الدنيا وأصحاب الأموال فيها، يعانون أنواع البلاء والأمراض والأسقام، فيرون نعيماً ولذات لا يقدرون التمتع بها، وأعمار الخلائق في الدنيا محصورة محدودة الأجل، رب معمر شقي بعمره، سيما إذا كان مفرطاً فيما مضى من عمره، قيل للأعشى ميمون بن قيس، وقد بلغ من الكبر عتياً: كيف وجدت الحياة؟ فقال:
المرء يرغب في الحياة وطول عيش قد يضره تفنى بشاشته وبعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره كم شامت بي إذ هلكت وقائل لله دره
فلا أنس ولا لذة في الدنيا إلا بطاعة الله وذكره وعبادته، وذلك يوم أن حضرت معاذ بن جبل الوفاة، بكى فقيل له: [ما يبكيك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أما والله إني لا أبكي على ملذات الدنيا وشهواتها ولكني أبكي على صيام أيام الهواجر، وقيام ليالي الشتاء، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله] ذلكم والله، هو ما يحقق السعادة ويربطها بالحياة ربطاً وثيقاً، فاجتهدوا -يا عباد الله- في طاعة ربكم ومرضاته، وتنافسوا في الأعمال الصالحة، والتجارة الرابحة، ولا تغبطوا أحداً كائناً من كان، لا تغبطوا أحداً إلا في طاعة الله، وحفظ كتابه ومرضاته، وما سوى ذلك فحطام غير حقيق بالحسد والغبطة، واعلموا أن كل من ترون في هذه الدنيا، مهما علا منصبه أو سفلت مرتبته، شقي لا محالة، شقي بنفسه أو ماله أو ولده، أو سلطانه أو فقره أو غناه، أو عزه أو ذله، إلا من شد وثاق النفس عن المعاصي والآثام، وأحكم السير وجد في المسير وأمسك بالزمام:
كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟(111/2)
تقلب الدنيا
عباد الله: إن بعض المسلمين هداهم الله، قد انشغلوا باللهو عن ذكر الله، وغرهم إقبال الدنيا عليهم، وخدعهم تردد خلان الغنى والرخاء إليهم، وما تأملوا حقيقة دنياهم ونعيمها، وأن الأيام فيها دولة يداولها الله بين الناس، وكأن بعضهم ما سمعوا وما عرفوا أحوال الأمم السالفة فيما مضى والحاضرة في هذا الزمان، كيف هوت وسقطت من عز إلى ذل، ومن قوة إلى ضعف، ومن غنى إلى فقر، ومن شمل مجتمع إلى شتات وتفرق وتشرد، قالت هند بنت الملك النعمان بن المنذر: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكاً، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس، وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، قالت: أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا، وقال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يوماً فقلت: كيف رأيت؟ كيف الأمر بكم يا بنت النعمان؟ فأنشدت قائلة:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقة متنصف
فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب ساراتٍ بنا ونصرف
قال صلى الله عليه وسلم: (حقاً على الله ما رفع شيئاً إلا وضعه) فلا تغتروا بالدنيا -يا عباد الله- ولا تجزعوا على المصائب فيها، فإذا كانت النفوس التي تملك الأشياء، تذهب فكيف نبكي على ما ذهب من مال أو متاع أو ولد؟! قال الشاعر:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة فكيف أبكي على شيء إذا ذهب
فكونوا من دنياكم على حذر، واتخذوها معبراً ولا تجعلوها مقراً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب وتوبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى، ويمطر السماء عليكم مدراراً.(111/3)
الدنيا دار البلاء والمصائب
الحمد لله الواحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثه بدعة؛ وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ؛ شذ في النار.
عباد الله: هاأنتم ترون حال الناس في الدنيا، وتقلبهم بين أنواع المصائب والبلاء والمحن فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت هذه الدنيا لأحد، لصفت لنبينا صلى الله عليه وسلم خير من وطأت قدمه الثرى، لو صفت هذه الدنيا لأحد لصفت للأنبياء، صفوة الله من خلقه أجمعين، إذاً: فلا غرابة أن يصاب الإنسان فيها، ولا غرابة أن يعترضه وأن يعتمره شيء من آلامها، والبلاء والمحن فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، نبيكم صلى الله عليه وسلم قد عذب وأوذي وطرد من بلاده حتى تركها، وألقي سلى الجزور على ظهره ومع ذلك صبر واحتسب، هذه من أقدار الله جل وعلا، من أقداره والأقدار الكونية كثيرة يقدرها الله على العباد أجمعين، فإذا تأملتم وقلبتم النظر، لم تجدوا أحداً يسعد في هذه الدنيا، سليماً معافى من الأكدار والمصائب والآلام، إلا من رضي بقضاء الله وقدره، وصبر واحتسب فعند ذلك تكون المصيبة منحة له وإن كانت في ظاهرها محنة، يقول القائل:
من ذا الذي قد نال راحة فكره في يسره من غمره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قله ويظل هذا تاعباً في كثره
عم البلاء ولكل شمل فرقة يرمى بها في يومه أو شهره
أو ما ترى الملك العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فيسره خبر وفي أعقابه هم يضيق به جوانب قصره
وأخو التجارة حائر متفكرٌ مما يلاقي من خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينة في صدره
ولرب طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى غصص الفطام تروعه في صغره
ولقد حسدت الطير في أوكارها فوجدت منها ما يصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في بره والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأت السباع لميت فاستخرجته من قرارة قبره
تالله لو عاش الفتى في أهله ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذة متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله مما يفي بنزول أول ليلة في قبره
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره
فالحياة وحدها شقاء وبلاء، ولا سعادة فيها إلا بطاعة الله، وملازمة أمره واجتناب نهيه، وملازمة ذكره سبحانه، فتلك بإذن الله سعادة في الدنيا وموصلة إلى دار السعادة الأبدية، فاستعدوا استعدوا للرحيل وتزودوا قبل أن تردوا مفازة لا موارد للزاد فيها، وكن -أيها المسلم- كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، ألا وإن الضعيف المحروم الذي سكن إلى الدنيا واطمأن إليها، وغفل عن دار البقاء والخلود، واشترى الدنيا بالآخرة، وباع الغالي بالخسيس، عياذاً بالله من تجارة كاسدة.
اللهم إنا نعوذ بك من حلول نقمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً وبعلمائنا فتنة وبولاة أمرنا مكيدة، وبشبابنا ضلالة، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم اختم بالشهادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النار مثوانا ومنقلبنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها، اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا، واصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله ووحد صفه، وثبت قدمه وارزقه بطانة صالحة، وقرب إليه من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا ولإخواننا ولوالدينا وموتى المسلمين أجمعين، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(111/4)
الصبر
منزلة الصبر في الإسلام عظيمة، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وهذه الدنيا لا تستقيم لإنسان على حال سعادة وشقاء، بل شأن العباد فيها تقلب وتبدل وتغير، ولا علاج أنجع لذلك من الصبر، مع ما له من فضل في الدنيا والآخرة.(112/1)
عظم فضل الصبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ذاته، واحد في أسمائه وصفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا ربكم: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71].
معاشر المؤمنين! اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله جل وعلا خلق الخلق والخلائق، وقدر مبدأهم ومعاشهم ومعادهم، وكل صغير وكبير من الأفراح والمصائب في حياتهم، إما ابتلاءً وتمحيصاً أو تكفيراً وتطهيراً، أو لحكمة يعلمها سبحانه جل وعلا، وما أوتينا من العلم إلا قليلاً.
ولعل من الأمور المدركة بمنتهى الوضوح والبيان لنا وبين أيدينا، هي أن الدنيا لا تستقيم لسعيد مسرور على حال، ولا تبقى لشقي مكسور على حال، بل شأن العباد فيها تقلب وتغيير وتبدل وتغير وانتقال:
هي الحياة كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وبالجملة فما حي من البشر على هذه المعمورة، إلا وأصابه في دهره من المصائب والأقدار المحزنة ما يكفيه للعبرة والتدبر والاعتبار.
وكل ذلك صغيره وكبيره بقدر الله جل وعلا، فمن رضي؛ فله الرضا، ومن سخط؛ فعليه السخط، والله سبحانه وتعالى حينما أراد أن يبتلي عباده فيما قدر عليهم -وهو أحكم الحاكمين- أرشد أولياءه إلى ما تنطفئ به نار المصائب، وما يبرد على القلوب حرارة الفاجعة.
وذلك بأمور شرعها في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
وفي مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في هذا الحديث: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصائب، وأنفع شيء في العاجل والآجل، فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته: أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعل عند العبد عارية، فإذا أخذه منه؛ فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد للعبد من أن يُخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، بل بلا ثوب، حافياً عارياً لكن بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد، وما خوله ونهايته؛ فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكرة العبد في مبدئه ومعاده من أعظم علاج المصائب والمحن.
وإن من المسلمين -هداهم الله- من إذا أصابته مصيبة في نفسه أو ماله، أو موت حبيب قريب له، ملأ الدنيا صراخاً ونواحاً وبكاءً منكراً ونحيباً، ودعا بالويل والثبور، وقد يقع بعضهم -والعياذ بالله- في الشرك، بدعاء الميت نفسه بالتدارك، مثلاً أن يموت أبوه، فيقول: يا أبتي أدركني! يا أبتي الحقني! يا أبتي افعل بي! وهو يندب ويدعو ميتاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا حياةً ولا نشوراً، وما ذلك إلا من ضعف الصبر على المصيبة، وضعف الإيمان أمام الأقدار، وكأن المصائب في الدنيا لم تقع إلا على ذلك الذي حلت به تلك المصيبة، ولم تقع على أحد قبله ولن تحل بآدمي بعده.
وهذا يا عباد الله! من الأمور المنكرة التي لا تنبغي، إذ أقرب ما يكون فيها السخط والاعتراض على قدر الله، إن لم يصل الأمر والعياذ بالله إلى حد الشرك في ندبة الأموات ودعائهم، فأين أين أولئك الجزعة الساخطون من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من عظمت مصيبته فليذكر مصيبة المسلمين فيّ) وهل مر على المسلمين منذ فجر الرسالة والنبوة مصيبة أكبر على المسلمين والإسلام من مفارقة النبي صلى الله عليه وسلم عن الدنيا؟! لا والله، فكل مصيبة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم تهون، إذاً فعلام الجزع والخوف والهلع؟! ولو تأمل العبد ونظر إلى ما أصيب به، لوجد أن ربه أبقى عليه مثله وأفضل منه، وادخر له إن صبر ورضي، ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة.
وأن الله لو شاء لجعل مصيبته أعظم مما هي، فليتق الله العبد وليصبر، ولو تدبر العبد حال مصيبته في أحوال أهل المصائب يمنةً، فهل يرى إلا محناً؟! ثم يلتفت يسرةً فهل يرى إلا حسرة؟! وأنه لو فتش العالم كله؛ لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب أو بحصول مكروه.(112/2)
الدنيا فرح وترح
والدنيا إن أضحكت قليلاً، فبكاء الناس فيها كثير، وإن سُر الناس بها يوماً استاءوا بها دهراً، وإن تمتعوا قليلاً، امتنعوا طويلاً، وما مُلئت دار خيرة إلا ملئت عبرة، ولا سرت بيوم سروراً إلا أخبأت لأهلها يوم شروراً.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [لكل فرحة ترحة، وما مُلئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً] وقال ابن سيرين: [ما كان ضحك قط إلا كان من بعده بكاء] وقالت هند بنت النعمان بن المنذر: [لقد رأيتنا ونحن أعز الناس وأشدهم ملكاً، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس، وأنه حق على الله ألا يملأ داراً خيرة إلا ملأها عبرة] وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت: [أصبحنا ذات صباح، وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا] فهذه حال الدنيا وما فيها من المصائب المختلفة في الأرواح والأبدان والأموال، بل إن المتأمل فيها يريك أنها دار المصائب، إذ إن هذه النعم لو دامت لمن قبلنا لما انتقلت ولما وصلت إلينا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(112/3)
وقفات مع الصبر
الحمد لله منشئ السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، سبحانه وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه على آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.(112/4)
عاقبة الجزع عند المصائب
معاشر المؤمنين! إن المصائب لا يردها الجزع، بل يضاعفها، ولو علم العبد أنه بجزعه على المصيبة يفوت على نفسه ثواب الصبر والتسليم، من الصلاة والرحمة الهداية، التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع، لأدرك أن ذلك أعظم من المصيبة في الحقيقة.
ثم إن الجزع على المصائب يا عباد الله يُشمت الأعداء، ويسوء الأصدقاء، ويُغضب الرب ويسر الشيطان، ويحبط الأجر ويُضعف النفس، فإذا صبر واحتسب على ما قدر الله عليه؛ أقصى شيطانه ودحره خاسئاً، وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، والصبر الأجل عند أقدار الله، لا كما يفعل الجهال من لطم الخدود وشق الجيوب، أو الدعاء بالويل والثبور والسخط على المقدور.
ثم إذا علم العبد أن ما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما كان يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي له، ويكفي العبد الصابر في صبره على مصيبته بيت الحمد، الذي يبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه، فلينظر أي المصيبتين أعظم؟ مصيبة العاجلة أم مصيبة فوات بيت الحمد في جنة الخلد؟ روى الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا، لما يرون من ثواب أهل البلاء يوم القيامة) وقال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مفاليس.
ثم إن العبد المؤمن إذا حلت به المصيبة وصبر عليها واحتسب؛ فإنه يُروح قلبه رجاء الخلف من الله.
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
لكل مصيبة من المصائب حظ يلحق بصاحبها، بحسب حاله وموقفه منها، فإن رضي فله الرضا، وإن سخط فله السخط، فاختر إما خير الحظوظ أو شرها، فإن أحدثت لك سخطاً وكفراً؛ كُتبت في ديوان الهالكين، وأن أحدثت مصيبتك جزعاً وتفريطاً في ترك واجب أو فعل محرم، كُتبت في ديوان المفرطين، وإن أحدثت لك شكاية وعدم صبر؛ كتبت في ديوان المغبونين، وإن أحدثت لك اعتراضاً على الله وقدحاً في حكمته وقدره؛ فقد قرعت باب الزندقة إن لم تلجه، وإن أحدثت لك صبراً وثباتاً ورضا؛ كُتبت في ديوان الصابرين الراضين، وإن أحدثت لك حمداً وشكراً؛ كتبت في ديوان الشاكرين، وكنت تحت لواء الحمد مع الحمّادين، وإن أحدثت لك محبة واشتياقاً، كتبت في ديوان المحبين المخلصين.
فيا عباد الله! لا ألذ ولا أنجع في المصائب من الصبر عليها، والحمد والرضا بقضاء الله وقدره فيها، يقول بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الصبر عند الصدمة الأولى).(112/5)
حكمة الابتلاء بالمصائب
المصائب يا عباد الله! إنما قدرها وابتلى العباد بها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وهو سبحانه لم يُرسل إليهم البلاء ليُهلكهم، ولا ليُعذبهم ولا ليجتاحهم، وإنما ابتلى عباده ليمتحن صبرهم ورضاهم عنه، وإيمانهم به، وليسمع تضرعهم وابتهالهم، وليرى العبد منهم طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً قصص الشكوى إليه، ولو لم يُصب العبد بهذه المحن والمصائب، لأصابه من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً.
فمن رحمة الله أرحم الراحمين، أن يتفقد عباده بأنواع ومن المصائب بين حين وآخر، تكون حماية لهم من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديتهم.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
ويا عباد الله! إنما يبتلى الناس على قدر دينهم، فأشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون فالأمثل ثم الأمثل، كل يبتلى على قدر دينه، وإن الذين يقعون في جزعٍ وهلعٍ وخوفٍ، فإنما هم يفوتون على أنفسهم أعظم الأجر بفعلهم هذا، وإلا فإن من المصائب ما يكون بعدها خير ونصر وظفر.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
يقول الله جل وعلا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ويقول جل وعلا: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فهل بعد هذا نجزع أو نعترض أو نولول أو ندعو بالمصيبة والهلكة أمام شيء من المصائب؟ لا والله ما يفعله إلا غافل أو جاهل.
وكما سمعنا آنفاً: من لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم عند البلاء من الصابرين، وعند النعماء من الشاكرين، وأن يجعلنا يوم القيامة من الآمنين، وأن يُدخلنا الجنة أول الداخلين، وأن يثبت أقدامنا على الصراط يوم تزل أقدام العابرين، وأن يؤتينا صحفنا باليمين، وإن يجعلنا مع الصديقين والنبيين والشهداء والصالحين.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم اختم بها آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب منه من علمت فيه خيراً له وللمسلمين خيراً، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له وللمسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تُفّرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، ولا تهتك لنا ستراً، ولا تفضح لنا عورة، اللهم اغفر لموتانا ولنا أجمعين، الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، صاحب نبيك على التحقيق أمير المؤمنين أبي بكر الصديق، وارض اللهم عن الإمام الأواب شهيد المحراب، الذي وافق حكمه حكم الكتاب عمر بن الخطاب، وعن مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان، وعن فتى الفتيان ليث بني غالب علي بن أبي طالب، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(112/6)
الصداقة والشباب
شباب الأمة الإسلامية اليوم -إلا من رحم الله- إما في الأسواق بين التفحيط والمعاكسة، أو في المنزل أمام الدش ما بين أغنية ماجنة أو صورة فاضحة، وإما في الشوارع والحارات مع قرناء السوء بين دخان ومخدرات، أو فواحش ومنكرات، ما سبب ذلك؟ إن السبب بعد عدم مراقبة الله، هو: قرين السوء الذي يزين القبيح ويقبح الحسن، قرين السوء خطره عظيم، وشبابنا اليوم في أعمار الزهور يدمرون مستقبلهم الدنيوي والأخروي بسبب مصاحبة شلل الفساد الذين لا همَّ لهم إلا شهوة البطن والفرج.
فاختيار الجليس الصالح الذي يدل على الخير أمر تُعنى به الشريعة الإسلامية.(113/1)
الصراع دائم بين الحق والباطل
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من دواعي الغبطة والسرور أن يأذن الله عز وجل ويكرمنا بلقاء أحبابنا وإخواننا وزملائنا وأبنائنا جميعاً في لقاء المحبة والأخوة والنصيحة، وفي لقاء التواصي بالصبر على كل عملٍ نافعٍ رشيدٍ وقولٍ سديد.
أيها الأحبة في الله: قبل أن أتبوأ مكاني هذا؛ أكرمني فضيلة الشيخ سعد جزاه الله خيراً بزيارةٍ وكان معنا أحد الأخوة الأفاضل من رجال الأمن الشامل، واطلعنا على ما تميزت به ثانويتكم المباركة؛ من سبقٍ نافعٍ في إيجاد هذا المعرض الذي يحذر الشباب من مغبة معصية الله عز وجل؛ إن الكلمة الجامعة لكل ما رأيناه في زوايا وفي ثنايا هذا المعرض النافع المفيد، ينطق صارخاً ليقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] فالحياة الضنك والمعيشة النكد، والحشر السيئ في الآخرة لا شك أنه ثمرةٌ لمعصية الله عز وجل والإعراض عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أحبابي: يدور بنفسي الآن كلمة؛ بين القنوات الفضائية والأغاني الماجنة والمجلات الخليعة والأفلام المفسدة وجلساء السوء ودعاة الضلال ومروجي المخدرات الذين يصدون عن صراط الله المستقيم، من جهة، ومن جهةٍ أخرى الكلمة التي ربما تأتي تارةً ضعيفة، وتارةً قوية، وتارةً توأد في مهدها وفي بدايتها، وتارةً تشق طريقها ثم تقف عند عمدٍ معين، ولكن تبقى الكلمة هي السلاح الذي نفهم به كل ما ينفعنا ونحذر به كل ما يضرنا، ذلكم أننا في عصر الصراع؛ صراعٌ بين الصوت والصورة والكلمة المفسدة الماجنة من جهة، وصراعٌ من طرفٍ آخر تقوم به وتجاهد به الكلمة الناصحة الصادقة، الكلمة الطيبة كشجرةٍ طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها.
إن الباطل صورٌ شتى، وألوانٌ عديدة، وأشكالٌ لا تنتهي، وهيئاتٌ تتجدد، وأما الكلمة الصالحة، الكلمة الطيبة، تبقى هي الكلمة ولا يزيدها مضي الزمان إلا تعمقاً في جذور الأرض، وإشراقاً وثمراً وينعاً ونفعاً لعباد الله عز وجل أجمعين.
أيها الشباب: كأني بقائلٍ يقول: ماذا يفعل أستاذ المواد الدينية؟! ماذا يقول هذا الشيخ الذي يخطب يوم الجمعة؟! ماذا يقول هذا الأستاذ الذي يزورنا اليوم ليلقي محاضرة؟! ماذا يقول هذا الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟! ماذا يقول رجل مكافحة المخدرات؟! ماذا يقول رجل الأمن؟! لا يملكون إلا كلمة، وأمام الباطل بصوره وفساده وأفلامه وقنواته ومجلاته بالغناء الخليع بالمغنية التي تبرز مفاتنها وتغري بحركاتها وتقتل بلحظاتها، ماذا يفعل هؤلاء أمام هؤلاء؟!.
أقول: أيها الشباب! إن هذه الكلمة إذا كانت في مستقبل صدرٍ رحبٍ حيٍ نشطٍ، فإنها تتفاعل بإذن الله عز وجل معه، وإذا صدرت -بإذن الله- من مخلصٍ ناصحٍ صادقٍ محبٍ مشفق، يكون لها أثر بإذن الله عز وجل، ولا يضيركم ولا يخيفكم ولا يزعجكم هذا الصراع القوي بين الباطل بأشكاله وصوره وألوانه وهيئاته وقنواته مع كلمة الحق الداعية الناصحة المعلمة المرشدة، لأن الله عز وجل قال: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].(113/2)
الضياع والهلاك يبدأ من معصية صغيرة
ربما نجد شاباً من الشباب، يقع في فترةٍ من الفترات، وفي وقتٍ من الأوقات ضحية جلساء السوء، أو بداية المخدرات، أو فعل أمور لا تليق، أو ارتكاب شيءٍ من الفاحشة، أو الوقوع في أمرٍ من الخنا، ولكن بهذه الكلمة، بإذن الله عز وجل التي تنفذ إلى سويداء قلبه، وببقية الإيمان الباقية التي تنتعش وتتحرك، لتقول له: أفق وانطلق وقم وانفض غبار النوم، فقد مضى ما مضى من اللهو والغفلة، وقد آن لك أن تستقبل حياةً جادةً مشرقة.
أيها الشباب: إنه لا يوجد شابٌ على وجه الأرض نام في ليلةٍ من الليالي صالحاً ثم أصبح فاسقاً فاجراً، لا يوجد شاب بات ذات ليلة بريئاً أمينا ثم أصبح غادرا ًخائناً، لا يوجد شاب بات في ليلة من الليالي على طهرٍ وعفافٍ وصلاحٍ واستقامة ثم فجأةً أصبح خبيثاً سيئاً مجرماً ضالاً مضلا، لا يوجد أحدٌ ينحرف فجأة، ولكن الانحراف والمصائب والجرائم التي رأينا صورها ورأينا في هذا المعرض ما يدل عليها، إنما جاءت درجات، وجاءت خطوات، كما قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
الحلال فيه غنيةٌ عن الحرام، والحلال من كل شيء، الحلال من القول يغني عن الحرام من القول، والحلال من الطعام، يغني عن الحرام من الطعام، والحلال من المرئي والمسموع والمقروء يغني عن الحرام من المرئي والمسموع والمقروء وغيره.
إذاً أيها الشباب: نريد أن ننتبه أن الواحد على خطر، ومبدأ الخطر إشارةٌ يسيرة قد لا يتلفت لها بعض الشباب، ثم هي التي تقوده إلى ذلك، لو أننا مثلاً ذهبنا إلى سجون المخدرات، وزرنا شاباً في زنزانة، وقلنا له: ما الذي جعلك الآن خلف القضبان وغيرك من الشباب يستمتعون بالحرية؟ ما الذي جعلك لا تتحرك إلا في هذه المساحة الضيقة وغيرك ينطلقون كالطيور يغدون ويروحون؟ ما الذي جعلك في هذه الحال من المذلة والهوان وغيرك يعيش العز والكرامة؟ ما الذي جعلك في هذه الحال من سوء السمعة، وكلٌ يتجنبك ولا يرضى أن يصاحبك، بل لو خطبت ما زوجوك، ولو أردت أن تتعامل ما عاملوك؟ لماذا؟! الجواب شيءٌ واحد: أنه استهان ببدايةٍ خطيرة وهي المعصية، ثم لا زال مصراً عليها، ولا زال متكئاً عليها، ولا زال يصبح ويبيت ويظن أنها ذكاء، وأنها فطنة أن يكون أمام الناس كالحمل الوديع البريء الذي لا يرتكب شيئاً، ثم إذا خلا بنفسه، ارتكب ألوان الذنوب، وفنون المعاصي وأشكال المخالفات الشرعية، إذا خلا بنفسه أو مع أقرانه، أو مع أترابه، أو بعض من زملائه من جلساء السوء، لا تظن أن شيئاً يظل خفياً أبداً.
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالها تخفى على الناس تعلمِ
أيها الشباب: ينبغي أن تعلموا أنه إن لم تستعينوا بالله عز وجل وتحافظوا على أنفسكم، فإنه لا يوجد في الصيدليات ولا في باندا ولا في العثيم ولا في سوق الخضرة، لا يوجد طعام أو شراب أو دواء إذا أكلته أصبحت محصناً من الشر، وبمأمنٍ من الجريمة، وفي أمانٍ من الفساد والانحراف أبداً!! لا يمكن أن تحافظ على نفسك بعد فضل الله ورحمته وعونه، لا يمكن أن تحافظ على نفسك إلا بمجاهدة هذه النفس:
والنفسُ كالطفلِ إن تهمله شب على حب الرضاعِ وإن تفطمه ينفطمِ
النفس لابد أن تجاهدها مجاهدة، الشاب الذي وقع في التدخين كيف يقلع عن التدخين؟ هل يوجد شراب يشربه ثم يصبح يكره التدخين؟!! مساكين هؤلاء الذين يظنون أنه بوسعه بمجرد أن يأكل حبوباً أو كبسولات، أو شراباً أو يأخذ إبرة من الطبيب أنه بهذا سوف يقلع عن التدخين مرةً واحدة، أبداً هذا مستحيل، ولا يمكن أن يقلع، إلا إذا تاب إلى الله عز وجل وعلم أن فعله حرام، ورافق ذلك نية صالحة صادقة، ومجاهدة وعزيمة لمجاهدة النفس للإقلاع: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
لا تتصور أن شاباً وقع في الفاحشة الخلقية التي نستحي أن نتكلم عن اسمها أو تفاصيلها، لا تتصور أن شاباً وقع في ذلك بأنه يمكن أن يقلع عن ذلك، لأنه أراد أن يشرب شراباً أو يطعم طعاماً ثم ينتهي من ذلك، أبداً، هذا مستحيل، لا يقلع أحد عن ذنبٍ أو معصية إلا إذا جاهد نفسه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(113/3)
إهمال تحديد المستقبل عند الشاب
أيها الشباب: ينبغي أن تعلموا جيداً أن هذه الحياة وهذه المرحلة بالذات التي تعيشونها الآن في وقتكم الحالي هي التي ترسم مستقبلكم، فالشاب الذي تراه عاكفاً على دروسه، مجتهداً في دراسته، منتفعاً بالعلم، حريصاً على أن يطبق ما تعلم، مجتهداً في طاعة ربه قبل ذلك، متجنباً جلساء السوء، همته عالية، هذا الشاب بإذن الله عز وجل سوف يرقى إلى أسمى الدرجات، والمستقبل خيرُ شاهدٍ على ذلك يبشره بخيرٍ عظيمٍ بإذن الله عز وجل.
وأما الشاب الذي همته لا تتجاوز حذاءه، بعض الشباب همته وأمنياته وطموحاته لا تتجاوز الحذاء، لو تسأل بعض الشباب: ماهي أمنيتك؟ لقال: أتمنى سيارة (ديتسن) أفحط بها، هذه هي الأمنية! ما هي أمنيتك؟ قال: أتمنى أني آخذ شارع التخصصي ذهاباً وإياباً من أجل أن أشخص مثل الناس المشخصين هناك ما هي أمنيتك؟ قال: والله أمنيتي أن يكون عندي مرواس أو عود أو دمبك أو طبل ما هي أمنيتك فتجد أماني حقيرة ساقطة ذليلة، أماني تحت النعال وتحت التراب، وأمثال هؤلاء أيها الشباب! لا يمكن أن يكون لهم شأن في الحياة وفي المستقبل أبداً، بل من الآن تبشرهم بمستقبلٍ منذرٍ بالشؤم والفقر والكد والنكد وخذوا مثالاً على ذلك:(113/4)
العلم يحدد مستقبلك
منذُ أيام في إحدى المستشفيات رئيس أحد الأقسام في المستشفى رجل من الهند؛ هندي وراتبه يتجاوز أربعين ألف ريال، ومن نفس مدينته وبلده أو قريته عامل لا يتجاوز راتبه ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال، هذا من الهند وهذا من الهند، وهذا يتكلم نفس اللغة وهذا يتكلم نفس اللغة، وهذا راتبه أربعون ألفاً، وهذا راتبه ثلاثمائة ريال!! يأكل بمائة وعشرين ويرسل إلى أهله مائة وثمانين ريالاً، ما الفرق بين هذا وهذا؟!!.
الفرق هو العلم! هذا أقبل على العلم منذُ صغره، ووجد أبوين يعينانه على العلم منذُ صغره، وتحملوا شظف العيش في سبيل تعليم ولدهم في طفولته ونشأته حتى نشأ وشبّ وترعرع متعلماً، فأصبح عالماً فأصبح أستاذاً ورئيساً، وهذا نشأ لم يلتفت إلى العلم، ولم يتلفت أبواه إلى تعليمه، فلم يكن عنده من قدرةٍ ولا خبرةٍ ولا صنعةٍ ولا مهنةٍ ولا وظيفةٍ ولا إمكانيةٍ ولا موهبةٍ أبداً.
فأصبح هذا في الحضيض وذاك في مستوى الوظائف في أعلى الدرجات، نعم.
إن أكرم الناس عند الله أتقاهم، لكن الآن لو خيرتك أن تسكن خيمة أو بيت بلك، تقول: لا.
بيت بلك أفضل، ولو خيرت أن تسكن بيت بلك أو فلة من دورين جميلة مشطبة ممتازة مؤثثة مفروشة، قلت: والله أطمع أن أسكن فلة، ولو خيرت بين فلة وبين قصر جميل وواسع وحدائق وأنهار، قلت: أريد قصراً.
فبطبيعة الإنسان في مصلحة نفسه وملذاته وشهواته وأمنياته يعرف ما هو الوضيع وما هو المنحط، ويعرف ما هو العالي وما هو الرفيع، فكذلك في حياتك وتعليمك، وسلوكك، ومستقبلك، في دراستك أنت تستطيع أن تكون وضيعاً وتستطيع أن تكون رفيعاً، تستطيع أن تكون حقيراً ذليلاً وتستطيع أن تكون إماماً خطيراً، تستطيع أن تكون شخصاً مهماً، وتستطيع أن تكون شخصاً تافهاً.
الأمر بيديك والإرادة بين يديك، والقدرة -بإذن الله- بين يديك، لكن تحتاج منك: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
من جاهد وصبر أعطى من نفسه، أعطى من وقته من ماله من فكره من جهده من صبره، وعمل، فإنه -بإذن الله- ينال الحسنى؛ حسن الدنيا وحسن الآخرة، أما من بخل واستغنى وقال: لا حاجة للعلم، لا حاجة إلى العمل يصبح فقيراً يمد يده إلى الناس، إن أعطوه أو منعوه ولا حول ولاقوة إلا بالله!(113/5)
اختيار الجليس
أيها الشباب: من الأمور الخطيرة ألا يفكر الشاب في مستقبله، وألا ينظر إلى مستقبل حياته، لو أن أحداً سافر إلى بلدٍ من البلدان، لا شك أنه يعلم كم سيمكث في هذا البلد، وأين سيسكن في هذا البلد، وما هي ترتيباته وأموره وأعماله في هذا البلد ومتى سوف يعود من هذا البلد!! لكن كثيراً من الشباب وهم الآن في سفر الدنيا:
فاقضوا مآربكم عجال إنما أعماركم سفرٌ من الأسفارِ
نحن في سفر الدنيا، فكثيرٌ من الشباب لا يبالي ماذا يعمل في هذه الرحلة! ماذا يتعلم! ماذا يقدم! ماذا ينتج! ما الذي يقربه من الله! ما الذي يباعده من ربه! ما الذي يسبب له سخط الله عليه! كل ذلك لا يبالي به، ولا يهتم بأي حالٍ من الأحوال، لماذا هذا الأمر؟ تجد الشاب لو قلت له: اشتر شماغاً، قال: لا.
أنا أذهب إلى شارع ثميري؛ لأني أعرف أن هناك شماغات جديدة من نوع بسام، أو من نوع ملكي عجلان ألجنت خطين كلاسيكي جميل، لا يمكن أن أختار غير هذا النوع، يا أخي! هذا الشماغ قال: لا هذه شماغ بخمسة عشر ريالاً أو بعشرين، فتجده ينتقي الشماغ الجيد، الطاقية كذلك لابد أن ينتقيها، لا يمكن أن يلبس (جوطي أو علبة أو غبارة) لا.
يريد أن يلبس طاقية ممتازة من نسجٍ جميل، ومريحة على رأسه، وكذلك الثوب، فيذهب ويدخل محل فلان وعلان، ومحل فلان، ويختار القماش المناسب، لا يقول للخياط: يا أخي! انظر ثوباً على مزاجك وأعطني إياه، لا.
بل أرني هذا القماش، أرني هذا القماش، حتى الحذاء تجده ينظر إلى الحذاء هل يناسب قدمه، أهو واسع أم ضيق، كبير أم صغير، مريح وثمين؟ يعرف حتى حذاءه كيف ينتقيه.
لكنه لا ينتقي جليسه، لا ينتقي صديقه، لا ينتقي الشخص الذي يؤثر عليه ويتأثر به ومنه، أبداً هذا -للأسف- غير موجود عند كثير من الشباب، ينتقي الحذاء، ويختار الشماغ، ويختار الثوب، لكنه لا يختار الصديق؛ أي صديق من الشارع، يكفيه صديق عنده سيارة ديتسن غمارتين، يضرب له بوق السيارة عند الباب بعد صلاة المغرب مع أصحابه فيدعوه إلى أين؟ اركب يا رجل! تفحيط وضجة ولفات ويمين وشمال، يا أخي! يقول المؤذن: الله أكبر، ادخل نصلي، يا شيخ! يوقفك على الصلاة!! يأخذه ويجعله معه في السيارة، والله يا شباب! أنا أعجب حينما أقف عند إشارة مرورية، ثم ألقى هذا الولد قاعداً يلعب، يا رب! ما الذي فيه، عسى أنه يكون من فرقة القرود خرجت من الحديقة، سوف أبلغ الدوريات الآن، ثم أجد أنهم قرود بشرية وللأسف! شباب أشكال غريبة، تقليد للغرب، موسيقى مزعجة إلى أعلى الدرجات، وحالة سيئة، ووجوهٌ كالحة، لم يصلوا، لم يركعوا، لم يسجدوا، لم يسمعوا نصيحة، لم يحضروا محاضرة، لم ينصتوا لخطبة الجمعة، بل قد لا يحضرون لصلاة الجمعة، لا يسمعون درساً، ولا ينتفعون بمقولة، أبداً.
حياتهم أغنية آخر شريط آخر مطرب آخر حفلة آخر مجلة، وهناك أشياء تُدس سراً بالسر، الكيس الفلانية ترى فيها من لوازمك الفلاني لا أحد يراها، والكيس الفلاني فيه حاجتك الفلانية لا يراها أحد، ما عليك المهم الذي تريده موجود عندي، إذا رجعنا الليلة البيت أصرف الشلة وأعطيك الذي تريد.(113/6)
جليسك الصالح من يدلك على الخير
للأسف أصبح الشباب يذبح بعضهم بعضاً، وينحر بعضهم بعضاً، وأشدهم ذبحاً لصاحبه أشدهم صداقة له، انظروا المقاييس المختلفة الذي ينصحه ويدعوه ويحذره من الشر، ويتمنى له الخير ويرجو له مستقبلاً مشرقاً، هذا نذل متشدد وقح مزعج متزمت لا يطاق ولا يقبل، لأنه لا يكلمه إلا بما ينفعه، لكن الآخر هو صديقه، لماذا؟ لأنه هو الذي يملأ عقله بالأغاني والملاهي!! وهو صديقه لأنه الذي يملأ عقله بالأفلام والمسلسلات!! وهو صديقه لأنه الذي يزين له السهر بعيداً عن البيت أمام القنوات والأفلام الماجنة!! صديقه لأنه هو الذي يبعده بعيداً، يهربه بعيداً عن أمه وأبيه!! هو صديقه لماذا؟ لأنه هو الذي يشجعه على قطيعة رحمه، وعقوق والديه، لأنه صديقه الذي معه فأسٌ ومعول يضرب على وجهه وعقله وصدره ليدمر حياته ومستقبله.
كم عدد الشباب الآن الذين يتسكعون في الصباح وهم من أبناء وطلاب المدارس؟ ما الذي أخرجهم من المدرسة؟ ما الذي جعل الواحد يصبر على الدوران وألم الرأس والوجع واللف يمين يسار في الحارات وفي المقاهي ويمين شمال إلا جلساؤهم الذين زينوا لهم، وأغروهم ودعوهم إلى ذلك بحجة: تعال هنا اللذة وهنا الراحة وهنا الطمأنينة، نعم، جليسه هذا ربما استطاع أن يبعده عن المدرسة أسبوعاً وأسبوعين وشهراً وشهرين، لكنه جعله ذليلاً فقيراً حقيراً سنين طويلة لأنه أبعده عن العلم ومكانه.(113/7)
الصبر عند طلب العلم
يا شباب: العلم يحتاج إلى صبر؛ فالطيارون الذين يقودون الطائرات، والأطباء الذين يعالجون الناس، ويجرون العمليات الجراحية لإنقاذ حياتهم، وطلبة العلم والعلماء الذين يدرسون في الجامعات، ويتبوءون التوجيه والإرشاد، هل حصلوا ذلك بالتجوال والدوران واللفلفة يميناً وشمالاً؟ لا.
إنما أخذوه بطول نفس.
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاءٌ وحرصٌ واجتهادٌ وبلغةٌ وصحبة أستاذٍ وطول زمان
ستة أمور حتى يصل الإنسان إلى ما يصل إليه، الآن إذا رأيت ضابطاً معلقاً نجمة، تراه أخذ سنوات ثلاث عجاف شديدة قاسية، من الأمر والنهي والعسكرية والانضباط والجد حتى علَّق نجمةً واحدة!! ثم دورات حتى يعلق الثانية، ثم هكذا وهلمَّ جرا حتى يصل إلى مكانةٍ ما، فهؤلاء الذين يريدون الحياة شربة ماء، بدون أي بذل، بدون أي جهد ومشقة مساكين.
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجي أولا
تريد أن تزحف على بطنك وتكون الأول في السباق، لا.
إذا أردت أن تكون الأول في السباق لابد أن تعد نفسك باللياقة والتدريب وأن تأخذ نفسك بالجهد ويتصبب عرقك حتى تكون أنت الأول في هذا المضمار وفي هذا الميدان.
بعض الشباب عنده حكمة يقول: من نام على الدرب وصل، ليس من سار، لا.
بل من نام على الدرب وصل، إن جاء أحد من هنا أو من هنا يقوده من هنا أو يجره من هنا، فبعض الشباب لولا لطف الله عز وجل، بل كلهم بلطف الله عز وجل وجدوا الهداية والاستقامة، لكن بعضهم قد يكون من الأسباب المعينة، أن نفعه الله عز وجل بمركز النشاط في الثانوية، أو أستاذ من الأساتذة الصالحين؛ مدرس رياضيات أو علوم شرعية أو لغة إنجليزية، صار يعظه وينصحه كل ما دخل الدرس أعطى درساً في الآداب في الأخلاق والسلوك، والتواضع، والحذر من معصية الله، والحذر من الجريمة، والخطيئة ومغبة المعاصي ومن شؤم المخالفات الشرعية، وعلى مدى اللقاء كل يوم استطاع أن يؤثر فيه، لكن بعض الشباب أيضاً قلبه أغلف أو لم يهيأ له ذلك المدرس الذي ينصحه، أو لم يكن له ذلك الأخ الشقيق في بيته، أو لم يكن له ذلك الأب الحنون المنتبه الواعي الفطن لمغريات الحياة، الآن وقوف الشاب مع والديه نادراً وقليلاً، أصبح أغلب وقتٍ يمكثه الشباب في المدرسة، ثم أمام القنوات التلفازية فضائيةً وغير فضائية.
ولا يمكن والله لو تأخذ- أجلكم الله- حماراً وتقابله كل يوم وتأخذه على نمط معين وعلى وتيرة معينة وعلى تصرفات معينة بمقدار ما يدرسه الشباب في المدارس وأمام الشاشات، لكان أكثر وتغير ولأصبح له طبعٌ غريبٌ وعجيب، بل البهائم الفيلة والحمير والأسود والبغال تساق لمدة زمنية معينة فتعرف المسألة تماماً، تعرف القضية تماماً، مثل ما وقفت على السواني بئر معلقه بها الدلاء وأطراف الحبال مربوطة- أجلكم الله- في الحمير والبغال، تعودها الحمار ففهمها، يمشي في المنحاة الذي هو الطريق الممر المخصص له حتى تنزل القربة في الماء، فإذا أحس بأن القربة امتلأت بشعور الثقل الذي يعلق به، تحرك من جديد إلى آخر المنحاة ثم القرب تصب الماء في الحوض، ويتصرف الحوض إلى المزرعة أو إلى غيره، ثم يرجع من جديد، إذاً لا أحد يقول: أنا لا أتأثر!!(113/8)
شؤم المعصية وذلها
بعض الشباب يقول: صحيح، الكلام هذا أنا أعرفه تماماً، المخدرات التي رأيناها نحن نحذرها ونخشى منها، نقول: نعم تحذرها وتخشى منها ولابد أن تفعل الأسباب التي تجعلك بعيداً عنها، ليس فقط والله عرفناها بل عرفناها، فكثيرون من الذين وقعوا في المخدرات يعرفون أنها مخدرات، ويعرفون أنها حرام، ويعرفون أنها ضياع وهلاك ودمار، ولكن لما زين لهم جلساء السوء هذه الأمور، وفعل بهم كما فعل الشيطان {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22].
يا أخي! جرب هذه السيجارة، لا تصير مطوعاً، لا تصير متشدداً، لا تصير متزمتاً، مرة واحدة ويتوب الله علينا وعليك، مرة واحدة يغفر الله لنا ولك، أنت ما الذي يمنعك؟ هناك أناس يقولون ليس بحرام، هناك أحد يقول: مكروه، ولا يزال به رويداً رويداً، حتى يقول: طيب ما المانع لو جربت في سيجارة؟ ما الإشكال؟ ثم تتحول بعد الإقناع إلى شيء من حب الظهور والشخصية والرجولة.
مجموعة شباب يجلسون كل واحد يضع الباكت، يضع الولاعة، ويظهر أحدهم كأنه كريم، فك الباكت ولع سيجارة، تشرب؟ تشرب؟ وذاك المسكين يستحي من بينهم ويأخذ سيجارة معهم، ثم يجاريهم ولا يزال بهذه الطريقة، حتى يتحول إلى الإدمان والعادة ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذا كان بعض الشباب قد دخل الكلية ولا زال من شدة أسر السيجارة له، يخرج من المحاضرة، ويدخل دورة المياة ويولع سيجارة سيجارتين ويرجع إلى القاعة!! ماذا تقولون في شابٍ يفعل هذا؟ السبب أن هذه السيجارة أذلته وأخرجته من مجلس العلم، ومجلس الذكر، ومجلسٍ يقال فيه: قال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأخرجته لكي يجلس في دورة المياة خمس دقائق لكي يقف مع الحشرات والصراصير ليدخن.
إنه أسر عظيم جداً ولو أن أحداً من الأساتذة أو المدير أو الوكيل أو العميد أو المساعد جاء إلى الفصل قال: فلان! ادخل في الحمام واجلس فيه خمس دقائق، لماذا؟! ما هذه الإهانة؟! تخرجني من بين الطلاب وتهينني وتجعلني من مقام الدرس أذهب إلى دورة المياة من بين هؤلاء، أمام النجاسات وعند القاذورات والفضلات؟!! أي ذلةٍ تذلني بها؟!! أنا لا أرضى!! سأكتب إلى وزير المعارف سأكتب للتعليم!! سأنشر في الصحافة!! سأقول ما أقول!! لا.
لا توجد حاجة إلى أن الوكيل أو العميد يخرج هذا الطالب، السيجارة هي التي تخرجه وتذله وتجره رغماً عن أنفه وتدخله دورة المياة أمام الفضلات، أمام القاذورات، وتجعله يمزها أو يرتشفها الخمس والعشر دقائق، ثم يخرج وقد تلوثت رائحته برائحة الفضلات والتدخين، ثم يعود أسيراً ذليلاً لهذه السيجارة.
أي ذلةٍ أوقعك هذا الحرام فيها؟!! ثم ماذا بعد ذلك؟ لو أن أخياراً جلسوا، وقال أحدهم: تعال اجلس معنا يا فلان، ربما في قلبه: والله لماذا لا أجلس معهم، يمكن أسمع شيئاً ينفعني؟ هل أنا لست كفؤاً بهذه المجالس؟ فتهم نفسه، يوشك أن يحضر ويجلس معهم، فيأتيه الشيطان؛ الشيطان نفسه، يقول: اقلب وجهك، أنت لست لهذه المجالس، اذهب وانظر لك أناساً يدخنون ويشيشون على الرصيف فاجلس معهم، أولئك هم أشكالك، أما الناس الطيبون أهل عطر، أهل طهر، أهل صفاء، ونقاء، لست حرياً ولا حقيقاً ولا جديراً أن تجلس معهم.(113/9)
المعصية تحرمك مجالسة الصالحين
أيضاً هذا من أذية وإذلال السيجارة لصاحبها، في مجلسٍ آخر: تعال والله الشيخ الفلاني موجود، والشيخ الفلاني موجود، يقول: لا والله أخاف أن يشموا رائحتي، لا أقدر؛ فيحرم من مجالس أهل الخير، يحرم من مقابلة العلماء وأهل العلم، يحرم من الانتفاع، ويذل ويبقى في حالة من النفاق، تارةً يظهر أمام الناس بشيء، وتارةً يخفي شيئاً، تارةً يبرز شيئاً، وتارةً يكتم شيئاً، ويعيش متذبذباً؛ والذي يعيش في حياته منافقاً تجده متقلباً وتجده ضعيفاً، ولا يستطيع أن يكون له قوة شخصية، ولا قوة إرادة، ولا قوة ثبات في طريقه وفي حياته.
لأجل هذا أيها الشباب! ليست الرجولة في سيجارة.
إن أحد الشباب من مدة، وهو من طلاب الكلية للأسف، وجدت معه سيجارةً ومعه مذكراته وكتبه، فناديته في حرم الكلية إلى هذه الدرجة! يعني: بلغ به الذلة والهوان للسيجارة أنه لم يستطع أن يصبر، بمجرد الخروج من القاعة ولع سيجارته يدخن، قلت له: تعال؛ اسمك؟ فلان الفلاني، قلت له: يا أخي! أنا أرى عليك سمات الشاب الرجل الممتلئ رجولةً ما أرى فيك نقصاً تكمله بسيجارة! هل ترى نفسك ناقصاً حتى تكمل نفسك بسيجارة؟ قال: لا.
توجد مشكلة داخلية في النفس، اسمها عقدة النقص، عقدة النقص، فبعضهم يكملها بالسيجارة، وبعضهم يكملها بالتفحيط، وبعضهم يكملها بالظهور أمام الناس والمباهاة بسيارته وما عنده، وبعضهم يكملها بتصرفاتٍ عجيبةٍ وغريبة، وما ذاك إلا لهذه العقد الموجودة الكامنة في هذه النفس، إن الرجل رجل، ولا يحتاج إلى مثل هذه وأسخط من ذلك بعض الشباب تلقاه لم يدخن حتى سيجارتين أو ثلاث سجائر! ومخرج رجله وليست يده من زجاج السيارة! يعني: انظروا أنا أصبحت رجلاً أدخن، ولو تلتفت تقول له: يا أخي الشاب! يا أخي الحبيب! إن شاء الله أنت شكلك فيك خير، ولا يليق بك التدخين؛ قال: لا أقدر أن أقلع عنه، هل له خمسون سنة خبرة تدخين؟! له يومان لقي سيجارة تحت جدار، وبدأ بحبتين أو ثلاث أو أربع أو لم يدخن باكتاً ثم باكتين، ثم يدعي أنه رجل؛ والله لا أقدر أن أقلع عنه، هذه رجولة أنك ذليل أسير! هذه رجولة أنك لا تستطيع أن تجعل في جوفك إلا الخبيث! كذلك الملاهي وأشكالها وأصنافها وألوانها تأتي لبعض الشباب.
يا شاب! عقلك كالزجاجة الصافية البيضاء البلورية الألماسية، لماذا تملأ عقلك بالأوساخ والزبالات والخرافات والأمور التي لا تليق؟! فيكم -بإذن الله- من الفطنة والفهم والإدراك ما يغني عن مزيدٍ من التفصيل، لكنها نصيحة، لأننا رأينا شباباً لما زرنا سجون الأحداث، وزرنا بعض زنازين السجون، وبعض عنابر السجون، وجدنا شباباً في أعماركم، في مقتبل العمر، قد تفتحت ورود وزهور شبابهم، ولكنها تفتحت على جليسٍ سيء، فقادهم إلى السجن، أنت تستطيع أن تحدد المستقبل من هذه اللحظة، ومن هذه البداية بقرارٍ صامد، بقرارٍ جزل قوي، وعهد صادق، ألا تنكث مع الله توبة، وإن زلت بك القدم، فعد وتب إلى الله عز وجل، وإذا أذنبت فلا تقل: خربت، دعني أخرب الباقي! افرض أن بعض الشباب وقع في ذنب -دخن مثلاً- يقول: ما دام دخنت ألحق بعدها الفاحشة، وألحق بعدها المخدرات، لا.
إذا وقعت في ذنب، فتب إلى الله عز وجل وجاهد نفسك بالإقلاع عن الذنب، حتى لو وقعت فيه مرةً ثانية، جاهد نفسك بالإقلاع ولا تجعل هذا مبرراً للمزيد من الذنوب والمعاصي، وأقم الصلاة كما قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد.(113/10)
الأسئلة(113/11)
شباب يهزءون بالصلاة
السؤال
بأن هناك مجموعة من الشباب، إذا أرادوا الصلاة فإنهم يصلون ويركعون ويسجدون وهم على غير وضوء! وعلى غير طهارة! بل هناك منهم من يتكلم في الركوع والسجود، بل من يغني وهو ساجد عياذاً بالله، فقد وردت هناك أسئلة حول هذا، ويذكر بعض الطلبة أنهم قد يسمعون مثل هذا، فنرجو بياناً وتوضيحاً من فضيلة الشيخ؟
الجواب
هذه التصرفات هي من الاستهزاء بهذه الفريضة العظيمة التي هي ركنٌ من أركان الدين، وكلنا يعلم أن من استهزأ بشيءٍ من كلام الله أو كلام رسوله أو شرعه، فإنه يمرق من الإسلام ويخرج من الملة ويكون كافراً والعياذ بالله، ومن فعل ذلك فعليه التوبة، ولا أظن أن شاباً من إخواننا الحضور ولله الحمد والمنة وأعيذهم بالله أن يكون فيهم من يفعل ذلك، لكن لنعلم أن حكم هذا هو الكفر والعياذ بالله؛ لأنه من السخرية ومن الاستهزاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66].
وهذا الفعل أقبح من الزنا، وأقبح من الخمر، وأقبح من المخدرات، وأقبح من عقوق الوالدين، وأقبح من كل القبائح، أن يتعمد شابٌ ويدخل الصلاة استهزاءً ويركع ويسجد على غير طهارة، ويغني أو يتضاحك مع من حوله بصلاته، هذا أمرٌ لا يجوز أبداً.
أما من فعل ذلك جاهلاً، فنقول: عليه التوبة، ويستغفر الله من هذا الفعل الشنيع العظيم، وينبغي للشباب إذا علموا أو عرفوا أن أحداً من إخوانهم يقع في هذا الأمر، ألا يسكتوا عليه، ليس من باب ما يسمونه اللقافة، لا.
لكنه من باب النصيحة، أنت لو رأيت أن أحد طلاب المدرسة في حقيبته إبرة هروين يريد أن يدخل دورة المياة ليحقن جسمه بها، أليس من الشفقة والرحمة أن تبلغه ليحذر، أن تبلغ عنه لكي يمنعوه ويحولوا دون وقوعه، وكذلك من الشفقة والرحمة به أن تبلغ عنه حتى يناصح بالحكمة واللين والموعظة الحسنة.(113/12)
طريقة لإخراج الدش من البيت
السؤال
لدينا دش في البيت، فما هي الطريقة لإخراجه؟
الجواب
أحضر حبلاً وعلقه في شكمان السيارة واسحبه، هذا الإخراج العملي، أما الإخراج الفكري والعقلي فبالإقناع، فهذا يحتاج إلى الآتي: أولاً: أن تقنع والدك ووالدتك إقناعاً فعلياً، قبل الإقناع القولي، أن يروا منك الصدق والنصيحة والجد في دراستك والإخلاص في أعمالهم وقضاء حاجاتهم والسمع والطاعة لهم، يرون أنك الابن البار المحبب الذي لا يستغنى عنه في البيت، ليس بذلك الابن الذي لا هم له إلا الأوامر والنواهي! لا.
أنت الذي تصلح السباكة إذا فسدت، والكهرباء إذا انطفأت، والمقاضي إذا انتهت أنت الذي تأتي بحاجات البيت أنت الذي تذهب بوالدتك أنت الذي تصل رحمك أنت الذي تقوم بحاجات والدك، يكون لك مكانة من المحبة، ومنزلة من الاستجابة في نفوسهم، بعد ذلك، أو أثناء ذلك تقول للوالد يا أبتي: هذا الدش أو هذه القنوات الفضائية تعرض أشياءً لا تليق بنا، ولا بديننا ولا بمجتمعنا ولا بأمتنا، يا والدي انظر في هذا الدش الرجال يحتضنون النساء ويقبلون النساء، الأطفال الصغار الذين ينظرون إلى هذا، هل يقرءون أو يعرفون أن هذا حرام، وأن هذا إفسادٌ للتربية؟
الجواب
لا.
الصغار المراهقون الذين في البيت، ما شأنهم إذا اشتعلت الغريزة عندهم وهم يرون النساء العاريات الكاسيات، بل ويرون تعليم المعاكسات، والمغازلات، والخروج من البيت سراً، وتعليم خيانة الأهل، وتعليم الخيانات الزوجية، لا أحد يرضى أن يكون أولاده وبناته وزوجته ممن يقع في هذه الفواحش، بالإقناع، فإن ذلك بإذن الله حريٌ وحقيقٌ بأن يؤثر عليهم لإخراج هذا الطبق الذي لا يستقبل إلا السموم، ثم قل لأبيك: يا أبتي! هذا الطبق لو أنك تقاعدت من وظيفتك، هل سيعطيك راتباً إضافياً؟ هذا الطبق لو أن أحد إخواني فصل من دراسته لضعف مستواه العلمي هل سينفعه تعليمياً؟ هذا الطبق لو أننا جعنا هل يطعمنا؟ لو ظمئنا هل يسقينا؟ لو بردنا هل يكسونا؟ لو لو لو، هل ينفعنا؟ أبداً.
بالإقناع تستطيع أن تقنع والدك، فإن لم يقتنع والدك فعليك بكثرة الدعاء له، وأرسل له من يقنعه، كما أوصي بسماع شريط بعنوان الغزو الفضائي، بحمد الله هذا الشريط أعلم علم اليقين أن عدداً سمعوهُ فأخرجوا الدش والقنوات الفضائية من بيوتهم، أخرجوا آلات استقبال القنوات الفضائية من بيوتهم، فهذه نصيحتي.(113/13)
نصيحة لمن يتعاطى المخدرات
السؤال
أنا شابٌ أتعاطى المخدرات، فبماذا تنصحونني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا أرى لك إلا أن تبادر بالتوبة إلى الله عز وجل بادئ ذي بدء، ثم بالاستعانة بالجهات التي تعينك على الإقلاع عن هذا، ولن يجعلك تقلع كما قلت إلا التوبة، ومجاهدة النفس؛ لأن المخدرات إذا اختلطت بالدم والجسم أصبح من الصعب الإقلاع عنها، إلا لمن صبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، وصبر ابتغاء مرضاة الله، وصبر خوفاً من عذاب الله، فإن صبره هذا سوف يجعله -بإذن الله- يقلع.
الأمر الآخر: لابد أن تبوح بسرك، بعض الشباب وقع في المخدرات، وهو أسيرٌ في نفسه حبيسٌ لسره، لا يستطيع أن يتجاوزه، تخبر الشيخ، أو تخبر مدير المدرسة، تقول له: والله أنا وقعت في الحبوب، في كذا في كذا أعينوني واستروني، وأنا أضمن ضمانة مستشفى الأمل، إذا جاءه إنسان عاقل يريد أن يعينوه على الإقلاع عن المخدرات، فإنهم يعينونه ويسترونه، بل لو شاء ألا يكتب اسمه ولا يرون بطاقته، فإنهم يسجلون اسماً رمزياً أو رقماً معيناً، ويتعاملون معه، معاملة هدفها الستر عليه وعدم فضيحته، هذه واحدة.
الثانية: أن تجتهد في الصحبة الصالحة التي تعينك على إشغال وقتك عن مجالس المخدرات، الصحبة التي تعينك، فأحد الذين يتعاطون المخدرات بنفسه قال لي: وهو يصارع نفسه.
يقول: والله إنني إذا قربت وخالطت أهل الخير، أو جلست في محاضرات وندوات واعتنيت بالصلاة مع الجماعة إني أجد نفسي أتركها أياماً، ولكن ليلة من الليالي يأتي فلان بن فلان ويطلع بنا في استراحة أو في مكانٍ ما أو مخيم أو يمين أو يسار، قليلاً وقد وقعنا في المخدرات وتعاطيناها وبعضنا ينظر إلى بعضٍ ويضحك، فإذاً مجالس أهل الخير؛ مجالس الصلاح والتقى هي التي تجنبك -بإذن الله- هذا الفساد.(113/14)
واجبك نحو أصدقائك الذين لا يصلون
السؤال
ما واجبي تجاه بعض أصدقائي المتهاونين في الصلاة؟
الجواب
واجبك نصيحتهم؛ انصحهم بالقول بالكتاب النافع بالشريط النافع، إذا علمت منهم هذا التهاون، تبلغ أيضاً من يؤثر عليهم لينصحهم، وأنا أقول لكل ناصح: إياك وفضيحة الناس، لا يكون هدفك الفضيحة، ولتكن النصيحة سراً كما روي عن الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه(113/15)
شراء السيجارة للأب
السؤال
والدي يدخن، وفي بعض الأحيان يقوم بإرسالي إلى البقالة لأشتري له الدخان، فهل أطيعه في ذلك أم لا؟
الجواب
أسأل الله عز وجل أن يشفي والدك من هذا البلاء، وما دمت تعلم أن التدخين محرمٌ بالنصوص، ولما يفضي إليه من الأذى والفساد والضرر، فينبغي أن تتجنب إحضار هذا لوالدك، وأن تقول له: يا والدي! لو أمرتني أن أمشي على يديّ إلى أعلى الجبال لفعلت، ليس على رجلي، أما أن أحضر لك، أنت كمن تقول: يا ولدي! اذهب فائتني بسكين أطعن بها نفسي، أنا لا أرضى، فحبي لك يا أبي لا يجعلني أرضى أن أتسبب في أن أقرب لك شيئاً يقتلك ويؤذي صحتك، ولو أحضرت لك هذه السجائر أو الباكت الذي تريده، لكنتُ ممن يشارك في طعنك وقتلك، يعني: لا تأتي تقول له: لا.
لن آتي لك بهذا، تب إلى الله عز وجل، سوف أعلم عليك الهيئات، أو سأجعل أمي تخرجك من البيت، لا يصلح هذا الأسلوب تقول: يا أبي! من حبي لك ومن شفقتي عليك ومن نصحي لك لا تسمح نفسي أن آتي بشيءٍ يؤذيك ويضرك، لو تأمرني أن أنقل الجبال لنقلتها، لكن أنقل لك شيئاً يؤذيك ويضرك ويقتلك، هذا دليل على أني لا أحبك، وأنا لا يمكن أن أخفي حبي لك وشعوري تجاهك.(113/16)
تكرار الوقوع في الذنب بعد التوبة
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك من إخواننا من يتأثرون بالمواعظ والتوجيهات، فيتوبون إلى الله عز وجل، ثم يعودون مرةً أخرى، ثم يتوبون ويعودون، فما توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
نصيحتنا لهؤلاء أن يعرفوا ويسألوا أنفسهم، متى يتركون الالتزام والاستقامة ثم يقعون في المعصية؟ الجواب واضح: إذا أبتعدوا عن الطيبين واستمرءوا المعاصي والمنكرات بهذا البعد، وأصبحت أوقاتهم وخلواتهم بأنفسهم طويلة من دون جلساء صالحين، وتساهلوا بمجالسة السيئين، وقعوا في ذلك، فالعكس هو الجواب، أن يعودوا إلى زملائهم الصالحين، أن يحذروا من مجالسة الأشرار، ومجالسة السيئين، فليس بشرط أن الشرير إنسان صورته مثل الشيطان الذي في الكرتون الشكل العجيب وغريب، لا.
قد يأتيك الشرير ومعه سيارة شبح، وقد يأتيك ومعه سيارة ممتازة، وقد يأتيك ويلبس شماغاً من أحسن ما يكون وثوباً من أحسن ما يكون، وليس بالضروري أن الشرير إنسان شكله يروع أو يخوف أو يفترس، لا.
يأتيك وهو يضحك ويبتسم:
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
تعال، وسع صدرك، انبسط، الدنيا خلها على ما قال: شربة ماء، قدامك عمر طويل، الشباب ما زال أمامك.
لا يا أخي الحبيب! ما ظنك لو أن الله قبض روحك وأنت مع هذا الشرير ترتكبان أو تفعلان المعصية؟! وما أكثر الذين قبضت أرواحهم وفارقوا الدنيا وهم سكارى، أو زناة، أو عصاة، وهم يفعلون المعاصي والمنكرات، هل يسرك أن تموت على أسوأ حالة، وتلقى الله على شر حالة، وتكون يوم القيامة من الخزي والهوان؟!
الجواب
لا.(113/17)
كيف أترك التدخين
السؤال
أنا طالب أدخن، فكيف الطريقة التي من أجلها أترك التدخين، علماً بأنني أدخن منذ ثلاث سنوات؟
الجواب
ثلاث سنوات! هذه مدة سهلة، وتستطيع أن تقلع -بإذن الله عز وجل- بسهولة، لكن تحتاج إلى إرادةٍ صادقة، إرادةٍ عازمةٍ جازمة، وللعلم التدخين عادة وإدمان.
الإدمان: يقع فيه بعض الشباب بالاستمرار والتتابع في الفعل، لكن بعضهم مجرد عادة، يعني: لم يحسّ بالشعور بالحاجة إلى السيجارة، لكن تعودوا وأشعلوا كذا إلى آخره، فاجعل في يدك عادة غير السيجارة، خذ سبحة، خذ المسواك، تعود دائماً التسبيح، سبحان الله! سبحان الله! عود لسانك بذكر الله دائماً، مع كثرة ذكر الله عز وجل يصبح التسبيح عندك عادة تتعبد الله بها عز وجل، ثم أيضاً إذا أردت أن تدخن، تقول: سبحان الله! سبحان الله وأنا أدخن! فتبعد عن السيجارة، فتكون شيئاً يذكرك الإقلاع والبعد عن هذه المعصية.(113/18)
كيف أتخلص من معاكسة الفتيات
السؤال
أنا شاب ممن ابتلي بمعاكسة الفتيات عبر الهاتف، أرجو إرشادي كيف أتخلص من هذا البلاء وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: تأكد أن أهلها ما عندهم كشف الرقم بعد ذلك يكسرون رأسك بالفئوس.
يا أخي الحبيب! قبل كشف الأرقام، وإن كانت ظاهرة المعاكسات خفت بدرجة كبيرة، بعد وجود جهاز كشف الرقم المتصل الذين يعاكسون ويؤذون بعضهم، لا شك أننا وجدنا فرقاً ملحوظاً في قلة المعاكسات، ولكن قبل كشف الأرقام أين خوفك من الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء؟! يعني: أنت تخاف من الخط ومن السلك؛ لأنه يكشف الرقم، لكن الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ألا تخشاه؟ ألا تخافه؟ هذه مسألة.
المسألة الأخرى: ماذا تريد بهذه الفتاة التي تتصل بها؟ تريد أن تتزوج؛ اطرق الباب، السلام عليكم أنا فلان بن فلان، أدرس في ثانوية البيروني، أدرس في كلية كذا، أعمل في كذا، وأريد أن أخطب ابنتكم فلانة بنت فلان، وهذه شهادة من إمام المسجد أنني من المحافظين على الصلاة مع الجماعة، وأنا شابٌ مقتدرٌ وأستطيع بإذن الله عز وجل أما أن تأتي البيوت من المجاري، وتأتي البيوت من الخلل والتجسس وتتبع العورات، هذا لا يجوز أبداً، ثم تخيل أن أختك اتصل رجل أو شاب وقال: لو سمحت أعطني أختك فلانة، تقول له: عجيب عيني عينك فلانة! فيرد عليك: أي نعم أعطني أختك فلانة، ألست تغازل بنات الناس، دعنا نغازل مثلك، فكيف ترضاه على الناس وتأباه على نفسك؟! كما أنك تغار على محارمك، الناس يغارون على حرماتهم ومحارمهم، كما أن للناس أصلاً ولهم عرض، فلغيرك أصولٌ وأعراض، فينبغي أن تنتبه لذلك، ثم اعلم أن هذا طريقٌ نهايته الزنا {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32].
نعم.
الزنا خطير، وشره مستطير والعياذ بالله، وما أكثر الذين تهاونوا به لذة دقائق معدودة، هذه المعاكسة، تجد الشاب قد وقع في المعاكسات، افرض أنك وقعت في بيت أناس عندهم كشف رقم، وقعدت تعاكس أو التي تعاكسها تعرفك وأنت تعرفها، ثم ماذا؟ والله أني أعرف شاباً أسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنا وعنه ويغفر لنا وله، اتصلت بي فتاة قالت: هذا الرجل منذُ ست سنوات وهو يعاكسني، ويغازل ويعدني ويمنيني بالزواج، وما زلت معه، فقلت: أسأل الله ألا تكوني قد خرجت معه، قالت: لا.
مع أنه ما ترك شيئاً من الوعود والإغراء والتهديد من أجل أن أخرج معه إلا أنني لم أخرج، قلت: والآن أنتِ اتصلت لماذا؟ قالت: تزوج وغدرني، غدّار، قلت: وهل تنتظرين الوفاء من رجلٍ يخون الأمانة ويخون دينه، ويخون أعراض المسلمين؟!! يعني: هل كنتِ تظنين أن هذا صادق؟! هل هذا الشاب الذي يزعم أنه سيتزوجك سيكون صادقاً؟! أو على القصة والطرفة التي تقال: هناك شخص كان يعاكس واحدة وصوتها جميل إلى آخره، وبعد ذلك أخيراً أقنعها أن تطلع وركبت معه، اكشفي وجهك، يا بنت الناس، فعندما رأى وجهها، وإذا هي ليست على المستوى الذي ظنها، نتع بالسيارة، قال: السيارة طفأت، أخاف يأتي أحد، حاولي ادفعي لو سمحتي، فذهب وتركها، فما يمكن أن تجد للمعاكسين وفاء ولا عهداً ولا ذمة، ولا يمكن أن يوجد هذا منهم بأي حالٍ من الأحوال.
فالشاب الذي يعاكس، أقول له:
إن الزنا دينٌ فإن استقرضته كان الوفاء من أهل بيتكَ فاعلمِ
من قد زنى يوماً بألفي درهمٍ في بيته يزنى بغير الدرهمِ
الزنا خطير، ولا ينبغي لأحدٍ أن يقع فيه أو في مقدماته من معاكسات، أو تسكع في الأسواق، أو مغازلات أو رمي الأرقام وقلة حياء، تجد بعض الشباب يخرج لوحة من السيارة، إذا مرت السيارة بين بنات أخرج لوحة أنا قلت: يمكن أن يكون سباكاً أو نجاراً لا بل كاتب رقم أربعة خمسة ستة إلخ.
من أجل أن تلقط البنت الرقم وتكلمه، هذه عيشة؟! هذه حياة؟! من أين تعلمنا هذا؟ من مزبلة الأفلام والقنوات، من أين عرفنا هذا؟ من مزبلة الثقافات التي صدرت عبر هذا الغزو الفضائي، والمجتمع يراد به الشر، ولا يمكن أن يفسد المجتمع إلا بهذه الطريقة، إن أعداء الإسلام لا يمكن أن يأتوكم -يا شباب- ويقولون: باسم الله اهدموا المسجد الأول، اهدموا المسجد الثاني، اهدموا المسجد الثالث، اهدموا المسجد الرابع، ابنوا الكنيسة، ابنوا المعبد اليهودي، نبني الكاثلوكية والبروتستانتية، لا، لا يفعلون هذا، ولو أن أحداً هدم بلكة من المسجد، كلكم قمتم ضده، لكن يرسل أفلاماً أغاني مسلسلات يعلمك كيف تعاكس وتغازل؟ كيف تخرج البنت؟ كيف تكذب؟ كيف تواري؟ كيف كيف إلى آخره، بهذا يصلون إلى إفساد المجتمع وأهله.(113/19)
الطريقة السليمة للتخلص من الغناء
السؤال
إني أكثر من سماع الأغاني وأريد الطريقة السليمة للتخلص من هذا الوباء، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
املأ قلبك بذكر الله عز وجل، تمتلئ شوقاً وحباً بكلام الله، ثم أيضاً في ذاك الوقت، ستمتلئ بغضاً وكراهيةً لمزمور الشيطان.
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
تأكد أنك إذا امتلأ قلبك بحب كلام الله عز وجل، لن تجد ألذ منه، اجعل مسجلك في السيارة، وفي بيتك، بالقرب منه كل الأشرطة النافعة، أفضل مقرئ تلذذ لتلاوته وتخشع لها ائت بأشرطته محاضرات أناشيد إسلامية أشياء نافعة، كل هذه الأمور ستجد أنها تصرفك عن الأغاني، أما هذه الأغاني كما قلت يا أحبابي! إنها وجع رأس، ولن تنفعك عند الله يوم القيامة، يعني: يوم القيامة لك أن تقول: يا ربِ! سمعتُ جزءاً كاملاً من كلامك، وبكيت وخشعت، وربما تكون سبباً أن تكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، ذكرت الله خالياً ففاضت عيناك، وربما تكون ممن يكرمهم الله فلا تمسهم النار؛ عينٌ بكت من خشية الله، سمعتَ تلاوة فدمعت عينك، فبكيت من خشية الله عز وجل، لكن هل تقول: يا ربِ! عندي ألف شريط أغاني، عندي خمسمائة، عندي كذا في الفيديو عندي عندي؟ أسألك بالله هل هذه تقربك من الله أم تباعد عنك الموت، أم تخفف عنك السكرات، أم تزيدك في الدنيا وتنفعك في الآخرة؟!
الجواب
لا.
فلماذا الإصرار على قتل أنفسنا؟ لماذا نصر على ملء عقولنا بالتافه؟ الآن لو يأتي أحد قال: تعال يا فلان، تعال معي لك شيء، أعطني جيبك، يوم أن فتح له جيبه، وضع فيه تراباً، تضع في جيبي تراباً؟! تضع في جيبي زبالة؟! تراني أنا سيارة بلدية؟! ما هذا الكلام أو تضع في جيبي تراباً؟ هاأنت تفتح عقلك ليوضع فيه زبالات الأغاني والمجلات والكلام الفارع والأفلام الساقطة! لو أن أحداً سكب تراباً، يعني: لو ما وجدت الماء، فضربت على التراب ضربةً واحدة ومسحت به يديك ووجهك، كانت طهارةً لك، وكان هذا تيمماً، هذا التراب لو وضع في جيبك ما قبلته، لكن أن يوضع في ذهنك مزابل وأغاني وأفلام ما عندك مانع، هات المزيد، هات المزيد، حتى إذا جاء يوم وحضرت المنية، يقولون لك: قل: لا إله إلا الله، تذهل فلا تعرف أن تقول: لا إله إلا الله، لماذا؟ لأن عقلك وقلبك وروحك وفكرك ونفسك وهجيراك ودأبك وصوتك دائماً:
ومُتنا على سُنة المصطفى وماتوا على تنتنا تنتنا(113/20)
الحبوب المنشطة حرام
السؤال
هل الحبوب المنشطة محرمة؟
الجواب
نعم.
لأن لها آثاراً ضارة ما لم تكن حبوباً نافعة مثل الفيتامينات التي يحصل منها النشاط، وليس لها ردود فعل عكسية، أما الحبوب المنشطة المصنفة ضمن قوائم المخدرات، أو المواد المخدرة، فإنها لاشك أنها ضارةٌ حرامٌ وكل ضارٍ فهو حرام.(113/21)
لا يجوز إفطار رمضان بسبب الاختبارات
السؤال
سمعتُ من بعض الشباب أنهم يريدون أن يفطروا في رمضان في وقت الاختبارات بحجة المشقة والتعب، ما حكم ذلك؟ وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يجوز، واستعينوا بالله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ومن يتصبر يُصبِّره الله عز وجل، وكل الذي عليك أنك تستيقظ قبل أذان الفجر وتتسحر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا فإن في السحور بركة) وهو الطعام المبارك، السحور مهم، بعض الشباب تلقاه يتعشى الساعة الثانية عشرة في الليل، أو واحدة وينوم، ولا يتسحر، ثم يقول: أنا جائع، أنا عندي اختبارات أنا لازم أفطر، لا يجوز هذا، واعلم أن هذا من أكبر الكبائر، ومن أعظم العظائم أن تتجرأ على الفطر في نهار رمضان وأنت شاب قد بلغت التكليف ولزمك الصيام، هذا من الكبائر التي لا تجوز، لكن عليك بالسحور واستعن بالله، وبعد ذلك تجنب في السحور أشياء قد يأكلها الإنسان تسبب له العطش، فبعض الشباب يتسحر على فول وموز وطحينية، ثم قد يأتي الضحى وهو يلهث، لأن الفول يريد ماءً، والطحينية تريد ماءً، وكذلك الموز، ولكن اجعل سحورك من الأشياء التي فيها كميات من المياه، اجعل آخر السحور أشياء تمنحك الماء الكافي في البدن، وفي هذا خير، اجعل في السحور فواكه، أمسك على الماء، فهذا شيء طيب، وإياك والأشياء التي تسبب العطش أو تحتاج إلى كثرة مياه.(113/22)
الهروب من المدرسة إلى المقاهي
السؤال
إن هناك من زملائي من يتركون الدراسة في بعض الأيام ويذهبون إلى المقاهي وذلك لشرب الشاهي وغيره، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
نصيحتي لهؤلاء إن لم يقلعوا عن هذا، فسوف يتعودون حتى يكرهوا المدرسة، ثم ينسحبوا أو يفصلوا، ثم يصبحون من المتسكعين بالطرقات، انظر الشرف العظيم الذي يناله الواحد منكم، أين ذاهب؟ ذاهب للثانوية، فعندما تنظر إلى شاب متعلم تحترمه، له مكانة ومنزلة، من أين أتيت؟ من الثانوية، ماذا عندك؟ عندي واجبات الثانوية، عندي اختبارات المرحلة الثانوية، استعد للجامعة، تنظر إلى رجل فتحترمه، لكن يقابلك واحد فتسأله من أين أتيت؟ والله أتيت من الطريق، عرابجة ذاهبين آيبين لا نفع ولا فهم، ولا علم!! ماذا عندك؟ الغترة منسفة، وثوبه المثقوب من السجاير، ويوم في الملهى الفلاني، ويوم في المقهى الفلاني، ويوم في المكان الفلاني، وعالةٌ على الناس، لو يمشي عليه موتر، ويصيبه نزيف، هيا هيا، تعالوا تعالوا نتبرع له بالدم، عنده نزيف، عنده نزيف، ليته مات وارتحنا منه، لماذا؟ لأنه لو أسعفناه وداويناه ورجع سليماً ما نفع المسلمين، ولا نفع البلد ولا نفع المجتمع، ولا نفع العلم ولا التعليم:
وأنت امرؤٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ وموتك فاجعُ
فلو أن واحداً من الشباب الصائعين الضائعين الذين يتسكعون ويتركون المدارس، لو يصيبه حادث، ويأتي الآن واحد من الهلال الأحمر: يا شباب! نريد تبرعاً بالدم حالة خطرة لشاب عنده نزيف، يمكن نصفكم بل كلكم تذهبون تتبرعون، رجال وعندكم كرم وأريحية، تتبرعون ولو بالدم، لكن هذا الذي تبرعنا له، وفتحت عيونه ورأى العافية، وأفاق من المرض، أين ذهب؟ هل رجع للمدرسة! هل رجع للجامعة؟! هل رجع يتعلم؟! هل نفع المجتمع؟! لا.
رجع من جديد يتسكع كما كان في عهده السابق، ما الفائدة من مثل هذا وأشكاله؟!!(113/23)
من هو الجليس الصالح؟
السؤال
عرفنا الاستقامة وعن فضلها، فكيف نختار الجليس الصالح؟
الجواب
يا أخي الحبيب! قد قلتُ في المحاضرة أو في كلمة علامات الجليس الذي ينهاك عن ما حرم الله، ويأمرك بطاعة الله، ويأمرك بالصلاة مع الجماعة وبر والديك، وصلة رحمك، والانتباه لدروسك والعناية بتعليمك، والاستفادة من وقتك، فهذا جليسٌ صالح، أما الذي يعينك على عقوق والديك، وترك الصلاة مع الجماعة، لا يهديك إلا غناءً، ولا يهديك إلا فلماً، ولا يحذرك إلا من الخير، ولا يقربك إلا إلى الشر، تراه يقربك إلى التدخين، والسهر، واللهو، ومجالس السوء، هذا هو جليسٌ سيئ، وإن أغراك أو أعطاك شيئاً من المال، أو الهدايا، فبعض الشباب يقول لك: إنه صديقي، لماذا؟ والله أهداني ساعة بثلاثمائة ريال، ماذا وراء الساعة يا مسكين؟! ماذا وراء الساعة؟! وبعض الشباب يجر لا يعرف أين هو ذاهب، ويذهب ويعود ولا يفهم ولا يعرف ما يراد به ويخبط عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(113/24)
فهد بن سعيد ترك الغناء أم لا؟
السؤال
سمعتُ محاضرةً بعنوان أيها الشاب حاول وأنت الحكم، وذكرت أن فهد بن سعيد رجع وترك الغناء، وسمعنا أنه رجع إلى الغناء مرةً أخرى؟
الجواب
يا أخي الحبيب! أخونا فهد أسأل الله لنا وله الثبات كسائر الشباب، أو كسائر الناس: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] هذه واحدة.
الشيء الثاني: ليس بصحيحٍ أنه رجع إلى الأغاني.
الشيء الثالث: أن جلساء السوء عرضوا عليه الأموال من أجل أن يحيي سهرات ورفض، والرجل حالته المادية ميسورة، يعني: يحتاج إلى المساعدة، فجاء جلساء السوء، يقولون: تعال، هذه خمسة آلاف ريال، تعال في الليلة الفلانية اسهر معنا، انظر الذين يريدون أن يردوه من جديد إلى مستنقع الرذيلة والفساد، قد يترك الإنسان الفن، لكن هل إذا تركت الفن صرت عالماً؟ ممثل من الممثلين ترك التمثيل، هل يصبح عالماً؟ هل يكون خطيب جمعة، أو عالماً في الناس؟
الجواب
لا.
كل ما هنالك أنه تاب من الفن، لكن لا يعني أنه يصبح عالماً وإماماً وداعية، فكذلك أخوكم ترك الفن، ولا يزال في صراع مع جلساء السوء، يريدون أن يردوه إلى الفن من جديد لأمرين: الأمر الأول: من أجل أن يرضوا أنفسهم التي عز عليها أن يستقيم هو وهم باقون على انحرافهم.
الثانية: من أجل أن يقولوا: إن الدعوة فاشلة وخاسرة وخائبة، ولم تستطع أن تحقق شيئاً مع هذا الرجل، ونحن نقول: ما عندنا أموال ولا مناصب ولا جاه، نقول: من تاب، من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها.
افرض ابن فلان ترك الفن، ومن غدٍ قعد يضرب عشرة أوتار أو عشرة أعواد، أيحاسبنا الله عنه؟ إن الذي علينا أن ننصح وندعو، إنما عليك البلاغ والله بصيرٌ بالعباد.
لعلنا نكتفي بهذا القدر، وأشكر لكم حرصكم على الاستزادة والسماع، وأسأل الله أن ينفعكم، وأن ينفع بكم، وأن يثبتكم، وأن يهديكم، وأوصيكم بالاستقامة، والتوبة، والرجوع إلى الله، أوصيكم بالجد في الدراسة، أوصيكم ببر الوالدين، ومجالسة الطيبين، والحذر من الأشرار والفاسقين، وعدم ضياع الوقت في الرياضة والملاهي والأغاني والأمور التي لا تنفع، فإننا ما عرفنا أحداً أصبح مرموقاً لأجل أنه من أهل الغناء واللهو والفن والطرب، إنما عرفنا كل خيرٍ وكل نافعٍ للمجتمع بصبره وجده على علمه وعبادته.(113/25)
الطريق إلى الجنة
إن الجنة غاية الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ومنتهى ما يتمنونه، ولذلك سارعوا وبادروا إليها بالسير في الطريق الموصلة إليها، ومن أجل ذلك جاءت هذه المادة مدافعة عما يشاع عن هؤلاء الدعاة إلى الله تعالى من إرادتهم مقاصد دنيوية أو غير ذلك من الاتهامات الباطلة مبينة كيفية الوصول إلى الجنة، بطرق يسلكها الدعاة ويتفانون فيها.(114/1)
الجنة غاية الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله جل وعلا كما اجتمعنا واحتشدنا في هذا المكان المبارك أن يجمعنا بكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أسأل الله جل وعلا أن يغفر الذنب، وأن يستر العيب، وأن يمحو الخطيئة، وأن يسترنا وإياكم بستره.
أيها الأحبة في الله: لكم الفضل بعد الله علي أن دعيتم، ومن دعيُ فليجب، ومن لم يجب فقد عصى أبا القاسم، ولكم الفضل بعد الله جل وعلا أن حضرتم، وحضوركم هذا ضمانٌ وعزيمة ومضاءٌ يجعلنا نشعر بواجبنا تجاهكم، ويجعلنا نشعر بالمحبة نحوكم، لا عدمناكم، ولا حرمنا محبتكم، ولا حُرمنا ذاك العلم وتلك المحبة التي نراها في وجوهكم.
أيها الأحبة في الله:
الفجر يطلع لا محالة والقلب يخفق كالغزاله
إني أحن إلى البكور من لم يحن فلا أبا له
قالوا تعسفت الهوى وطلبت ربحاً أو إقاله
من كان يهوى صادقاً قبل المبيع بكل حاله
المجد يطلب قائداً قد زانت التقوى فعاله
والعز يهتف بالشباب المعرضين عن الضلاله
والقمة الشماء حظ الشامخين عن الجهاله
هم فتية الكون الكرام أبناء أشراف السلالة
فيهم مصابيح الهدى ولكل مصباحٍ دلاله
فيهم دعاةٌ للهدى ولكل داعية جلاله
فيهم سميٌّ للجهاد تهاب في الهيجا نزاله
يا إخوة الإسلام هبوا فالأذى جاد المقاله
أنمل من عرض الوساد وغيرنا ينعى عياله
أنموت من ألم الطعام وغيرنا يرجو النخاله
نجتر ألوان الخلاف والكفر جمع كل ماله
كلمات وليس شعراً، ولست بشاعر، لكنها في الطريق بين يدي القدوم إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يجعل قولنا وكلامنا وعملنا خالصاً لوجهه الكريم.
اللهم إنك تعلم أن فينا من العيوب والذنوب ما لا يعلمه إلا أنت، ولا يستره إلا أنت.
إلهنا! جملتنا بسترك، ولو كشفت سترك عنا ما أحبنا عبدٌ من عبادك.
إلهنا! زينتنا بمغفرتك، ولو كشفت عنا سترك لما قبلنا عبدٌ من عبادك.
إلهنا! لو كان للذنوب رائحة لما أطاق أحدٌ من الحاضرين مجلسنا.
إلهنا! لو كانت الذنوب أحجاراً في المنازل لما وجدنا مكاناً نسكن فيه أو نطمئن إليه.
إلهنا! جملتنا بالستر فيما مضى، فاسترنا وأعنا على الثبات فيما بقي يا رب العالمين.
اللهم اجعل لهذه الوجوه من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشةٍ أمنا، ومن كل فتنةٍ عصمة.
اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً من ذكرٍ أو أنثى إلا زوجته وأسعدته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أيها الأحبة في الله: قد يقول قائل: في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن وأنواع البلاء التي تعرض على المسلمين صباحاً ومساءً، غدواً وعشياً: هل من اللائق أن يكون حديثك اليوم معنا: الطريق إلى الجنة؟ كنا نظن أن يكون الحديث عن فتنة البوسنة والهرسك، أو أن يكون الحديث عن مآسي المسلمين في كشمير، أو أن يكون الحديث عن آخر تطورات القضية الأفغانية، أو أن يكون الحديث عن أحوال المسلمين وأحوال الدعاة بالأغلال والزنازين.
أقول أيها الأحبة: إن الحديث عن الجنة هو منتهى المطاف في كل قضية لمن دخل واحدة منها وكان مريداً وجه الله جل وعلا.
أيها الأحبة: الحديث عن الجنة حديثٌ عن هدف الدعوة، وحديثٌ عن غاية الدعاة، وحديث عَمَّا يعد به الدعاة، وما يتمنونه، وما يرجونه لأنفسهم ولأتباعهم، ولأعوانهم ولأحبابهم، ولطلابهم وتلامذتهم، ما عرفنا داعيةً وعد ضالاً بعد الهداية بمنصب، وما عرفنا داعيةً وعد منحرفاً بعد الاستقامة بعطية، وما عرفنا داعيةً وعد جاهلاً بعد العلم بحظية، وإنما وعدنا وما نرجوه لأنفسنا وما نعد به كل من سلك الطريق هو الجنة، فمن أبى فعلى نفسه، ومن قبل فليلزم الطريق، وليعرف المبيع، وليأخذ الأهبة، وليعمل وليقم بالاستعداد.
أيها الأحبة في الله: الحديث عن الجنة كلامٌ عن غاية الدعاة، لا كما يظن الظانون، أو يرجف المرجفون أن الدعاة يريدون مالاً، أو يريدون جاهاً، أو يريدون سلطاناً، وذاك أمرٌ ليس بغريبٍ ولا عجيب، لقد ظنت قريش يوم أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ونبأهم بما أمره الله جل وعلا أن يبلغه، أن الرجل يريد مالاً، أو يريد جمالاً، أو يريد جاهاً، أو يريد سلطاناً، أو به رئيٌ من الجن، أو به أذىً من السقم، فقالوا: يا بن أخينا! لقد أغريت بنا سفهاءنا، وتجرأ علينا صبياننا، فإن كان بك رئيٌ من الجن عالجناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك، وإن كنت تريد جمالاً زوجناك، وإن كنت تريد جاهاً سودناك، فإنهم أخطئوا الطريق يوم أن ظنوا أن هذه بغية وطلبة النبي صلى الله عليه وسلم، وما كانت طلبته إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إلهي وإله المستضعفين قبلي! إلهي وإله المستضعفين! هل تكلني إلى بشرٍ ملَّكْته أمري؟ أم إلى عدوٍ يتجهمني؟ إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، لك العقبى حتى ترضى) والله ما كانت غاية النبي إلا أن يرضى الله جل وعلا، وإن رضي الله فلا تسل بعد ذلك عن حال العبد، وإذا تقبل الله فاعلم أنها النجاة والسعادة، والفوز والطمأنينة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
أيها الأحبة في الله: الغاية الجنة، ولسنا بصدد الحديث عن ذكر أو عدد أو تعداد الأعمال التي من فعلها دخل الجنة، فلكم فيها باعٌ واسع، وعندكم منها حظٌ وافر، ولكن الحديث عن الجنة حتى يُقطع الطريق عن كل مساوم وعلى كل مزايد يرمي الدعاة بما ليس في جعبهم، ويمقت الطيبين الصالحين بسوء ظنه بهم.(114/2)
هدف الدعاة مرضاة الله وليس ما يقوله المرجفون
أيها الأحبة: طالما حضرنا مجالس، وسمعنا أقاويل، وعلمنا أموراً مدارها وديدنها وحديث أصحابها: إن هؤلاء الذين يظهرون الدين، إن هؤلاء الذين يتنسكون في ظاهر أمرهم يريدون أموراً، ويخططون لأمور، ويرتبون أشياء، ووالله ما هذه غاية الدعاة فضلاً عن أن يعدوا لها، أو يخططوا لها، أو يجعلوها غايةً في ذاتها.
قال ذلك السلطان للإمام ابن تيمية لما دخل عليه: إنك تريد ما عندي، فغضب ابن تيمية ورفع صوته على ذلك السلطان، وقال: أنا أريد مالك أو أريد جاهك أو أريد حبوتك؟ والله إن ما عندك لا يساوي خيطاً من هذا القميص.
ولا غرابة فإن شيخ الإسلام وغيره من الأئمة والدعاة كانوا يطلبون الجنة؛ الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي هي من الآخرة، ليست تنسب إلى الدنيا بشيء، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يُدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) ومن الذي يرغب بقطرة عن بحارٍ متلاطمة من الخير.
نقولها وبكل صراحة: إن الجنة هي غاية كل داعية، وهي غاية كل متبوع تابع على منهاج أهل السنة والجماعة.
أما الدنيا، وأما الجاه، والمناصب، والرياسات، والأموال، فاللهم لا تجعلها في قلوبنا، ولا تجعلها أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.
وإني والله أعجب من أولئك الذين يقبلون مثل هذه الأقاويل ويصدقون بمثل تلك الأكاذيب، ويقول قائلهم: عند الدعاة كذا وكذا، ويريد الدعاة كذا وكذا، ويطمح الدعاة إلى كذا وكذا، وهل رأيت دليلاً عند أحدهم يصدق ما تظنه أو تقوله؟ والله إنه لأمرٌ عجيب، وقلتها ذات مرة في لقاء من اللقاءات السابقة يوم أن كان أهل تلك المنطقة فيهم خوفٌ من كل داعية إلى الله جل وعلا أنه يريد كذا وكذا مما تخافه نفوسهم، وتضطرب منه أفئدتهم، فقلت لبعض الأحباب: يا إخواني! هؤلاء الذين تظنون أنهم يريدون ويدبرون ويطمحون هل فتحت مطبخ واحد منهم فوجدت طائرة دفاعية أو مقاتلة؟ وهل دخلت حظيرة واحدٍ منهم فرأيت طائرةً مضادةً للدبابات؟ وهل دخلت مخزن واحدٍ منهم فرأيت ذخيرةً من الأسلحة؟ والله لو دخلت بيوت الدعاة بيتاً بيتاً؛ ما وجدت عند بعضهم ما يصطاد به الحمامة، ولو تأملت ما عندهم؛ لوجدت عندهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، والسنن، والمسانيد، والشروح، وكتب العلماء، ذاك سلاحهم، وذاك زادهم، وتلك عدتهم، وذاك طريقهم حتى يبلغوا بذلك وجه الله والدار الآخرة راضين مرضيين، فمن ظن غير ذلك فلينظر إلى برهان قلبه، وليتأمل بعين بصيرته حتى لا يُحذر نفسه من وهمٍ جعل الأغلال في يديه والقيد في رجليه، فقعد به عن شرف الدعوة والدعاة، لقد عرفنا كثيرين فيهم خيرٌ كثير، وفيهم صلاحٌ كبير، وفيهم استقامة، وفيهم جبنٌ وخوفٌ كثير، وذلة عجيبة، والأمر سوء الظن، وتصديق الأكاذيب واتباع الأقاويل، ولو أن أحدهم سمع شريطاً أهدي إليه، أو قرأ كتاباً بذل له؛ لعرف أن غاية الدعاة وأن ما عندهم هو الجنة، لا يريدون غير الجنة، لا يريدون إلا مرضاة الله جل وعلا، وذاك أمرٌ أي كرامة، وأي عزة، وأي منقبة أن يرضى الله عنك في عباده! والله أيها الأحبة! إن جندياً من الجنود يوم أن يُقال له: إن قائد الكتيبة راضٍ عنك، معجبٌ بك، مؤيدٌ لك؛ تجد ذلك الجندي يكاد يطير فوق الأرض من شدة ما ناله من السعادة والإعجاب والطمأنينة؛ لأن قائد الكتيبة قد رضي عنه، وواحدٌ من الموظفين لو قيل له: إن أمير المنطقة قد رضي عنك، وأعجب بك، وأثنى عليك في المجالس خيراً، لجعل يطلب ترداد وإعادة الكلام، لماذا؟ لأن بشراً قد رضي عنه، فما بالك أن يرضى عنك ملك الملوك، جبار السماوات والأرض، ما بالك يوم أن يرضى عنك الذي خلق الأولين والآخرين، والجن والإنس، الذي الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.
فتلك غاية الدعاة وهي الجنة، وذلك مطلب الدعاة، وهو رضا الله سبحانه وتعالى، مطلبٌ على منهج الأنبياء والرسل، لا على منهج المنحرفين، والضُلال والمبتدعين، الذين قال بعضهم: عبدنا الله خوفاً من عذابه فقط، أو على منهج الضُلال الذين قال قائلهم: عبدنا الله طمعاً في ثوابه فقط، أو على منهج المتصوفة الذين قال قائلهم: والله ما عبدنا الله طمعاً في ثوابه ولا خوفاً من عذابه، وإنما عبدنا الله حباً في ذاته، فذاك أيضاً منهج الضلالة، ومنهج الغواية، أما منهج الصواب والصراط المستقيم في هذه الغاية فهو صراط الأنبياء الذين قال الله جل وعلا عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة: {وَرَهَباً} [الأنبياء:90] خوفاً من الله ومن عذابه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
فالدعوة عبادة، والعبادة ذلة وانقيادٌ وخضوعٌ مع المحبة والتعظيم للمعبود، قال ابن القيم:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان(114/3)
البدار البدار إلى الجنة
أيها الأحبة: أي نعيمٍ يوم أن يكون هدفنا وغايتنا وسعينا، وصمتنا ونطقنا، وكل ما نملكه وكل ما ندخله ونخرجه يصب في أمرٍ نريده ألا وهو الجنة التي يقال فيها لمن دخلها: يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت.
أيها الأحبة في الله: يوم أن يدخل سجينٌ من السجناء زنزانة من الزنازين في جريمة من الجرائم، ثم يقال له: هذا سجنٌ إلى أبد الحياة، هذا سجنٌ مؤبد لا تخرج منه إلا يوم أن تخرج روحك من بدنك، حينئذٍ تخرج من هذه البوابة، أليست مصيبة؟ أليست بلية؟ أليست حسرةً وعذاباً؟ إذاً فالخوف من سجن جهنم والطمع في نعيم الجنة هو أولى أن يكون شغلاً شاغلاً وأمنيةً وغايةً يرددها السالك في طريقه إلى الله جل وعلا حتى ينال هذا الرضا: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ 9 وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:106 - 108].
أيها الأحبة: (ألا إن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) إن هذه السلعة الغالية لا تنال بالأماني، ولا تنال بالأقوال، ولا تنال بالتحلي ولا بالتمني، وإنما تنال بالصدق، ولذلك كان الشهداء أقرب الناس إلى بلوغ الجنة؛ لأنهم أثبتوا أمنيتهم بأغلى ما يملكون، وبرهنوا أمانيهم بأغلى ما يجدون، ألا وهي دماؤهم وأرواحهم التي بذلوها رخيصةً لوجه الله، سهلةً ميسورةً في سبيل الله جل وعلا، ويقول قائلهم: إن رضي الله فليس بكثيرٍ ما ذهب وما ولى وما رحل.
أيها الأحبة: يا من تريدون الجنة! أيها الأخ الحبيب: يا من تضيق ذرعاً بشدة الحر يوم حلوله! وتضيق ذرعاً لشدة البرد يوم نزوله! وتضيق ذرعاً بامتلاء البطون من الطعام يوم أن تتخم! وتضيق ذرعاً بالجوع وآلامه وأسقامه! إن كنا نريد حياةً أبدية، حياةً لا تنقطع، جليسنا فيها من لا نكرهه ومن لا نبغضه، ومن لا يحقد علينا، ومن لا يحمل في نفسه علينا، جليسنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جليسنا فيها أبو بكر الصديق صاحب النبي على التحقيق، جليسنا فيها شهيد المحراب الإمام الأواب عمر بن الخطاب، جليسنا فيها مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان، جليسنا فيها فتى الفتيان ليث بني غالب علي بن أبي طالب، والصحابة الكرام، جليسنا فيها التابعون ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، جليسنا فيها الصالحون والدعاة، والعلماء البررة، والدعاة الأخيار، هذه هي كل الأمور التي يعد بها الدعاة ويتمنونها ويرجونها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] إنها لأعظم آيةٍ فيها عجب، المعطي هو الله، ثم يعود يشتري منا ما أعطانا، والمتفضل هو الله، ثم ينعم علينا بالجنة: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ} [التوبة:111].
أيها الأحبة: نداءاتٌ ودعاءٌ لكل مسلم أن يسارع إلى الجنة ليعلم أن هذه الدنيا ليست لحرٍ سكناً، يقول ربنا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
أيها الأحبة: هل بعد هذا الثواب من ثواب؟ هل بعد هذا النعيم من نعيم؟ هل بعد هذه الكرامة من كرامة؟
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضتِ بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن لستِ رخيصةً بل أنتِ غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خُطَّاب عنكِ وهم ذوو إيمان
أيها الأحبة في الله: إن هذه الجنة التي انشغل عن طلبها كثيرٌ من الناس بما تكفل الله لهم به، إننا نعجب من رجلٍ يشتغل ليل نهار بأمر الدنيا، ووالله لو سعى سعي الوحوش لن ينال أكثر مما قُدر له، أمرٌ قد تكفل الله به، نجد كثيراً من البشر اشتغلوا به ليل نهار، وأمرٌ دعانا الله أن نعمل له وأن نجتهد فيه وجدنا إعراضاً وبعداً عن الاشتغال به، فأي انقلابٍ للموازين هذا؟ وأي سوء في المفاهيم هذا؟(114/4)
كيفية الوصول إلى الجنة
أيها الأحبة: بعد هذا بقي أن نقول: إذا كانت الجنة هي غاية الدعاة، وهي أمنية الدعاة، وهي موعود الدعاة، وهي وعد الدعاة، وهي ما يعد به الدعاة لكل طالبٍ وتابعٍ، ومحبٍ ومخلصٍ، بقي أيها الأحبة في الله! أن نقول: كيف الوصول إليها؟ قد وصفت فدل على طريق يبلغ.
أيها الأحبة: كلٌ يعرف أن الوصول والبلوغ إلى شيءٍ يعني سلوك الطريق الموصل إليه، ومن السهل أن تقول: إن طريق القصيم السريع هو الذي يوصل إلى مكة، لكن من المهم إن كنت جاداً تريد أن تبلغني إلى مكة، فهلا أسعفتني بدابة؟ هلا حملتني معك؟ هلا قربتني بجوارك؟ هلا أخذتني بيدك؟ من السهل أن تقول: إن هذا الطريق ينتهي إلى الدمام لكن هل تستطيع أن تجعل لي معك مركباً؟(114/5)
معرفة هوان النفس في جنب الله سبحانه وتعالى
هذه البداية أيها الأحبة! إن كنا صادقين في الرغبة بالجنة، والرغبة في رضا الله، أن يرضى ربنا عنا، فلا يسخط علينا أبدا، ً إن كنا صادقين مع الله، إن كنا صادقين في هذه الدعوة بقي أن نقول: هناك ثلاث مسائل: أولها: اعرف أنك مهين ذليل حقير في ذات الله وفي جنب الله جل وعلا، فمن أراد سلوك الطريق وهو يشمخ بأنفه في كبرٍ وتصعرٍ وتسلطٍ على العباد، فليعلم أنه أهون عند الله من الجعلان والجنادب، وفي الحديث: (يحشر الله المتكبرين يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم) فأنت وهذا وذاك في يوم الموقف، في المشهد العظيم ربما أنت تمشي فتطأ بقدميك عشرة أو عشرين من الطغاة، أو عشرين من المتكبرين، أو ثلاثين من الظلمة، وأنت لا تراهم، كيف دست عليهم بقدمك! كيف وطأتهم برجلك! كيف لم تلتفت لهم! إنهم كانوا في الدنيا متكبرين متغطرسين متجبرين، لم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخضعوا لله، ولم ينقادوا لأمر الله، فكان جزاؤهم يوم الموقف هواناً بين العباد، يطؤهم الصغير والكبير، والعبد والحر والغني والفقير، كلٌّ يطؤهم بأقدامه وهو لا يشعر بهم، فمن أراد طريقاً موصلاً إلى الجنة فليبدأ أن يعرف هوان نفسه، وليدرك ذلة نفسه، وليدرك وضاعة نفسه في جنب الله جل وعلا.
ولا كرامة لهذه النفس إلا بالسجود لله، ولا كرامة لهذا الأنف إلا أن يمرغ بين يدي الله، ولا كرامة لهذه اليد إلا أن ترتفع مكبرة لله، ولا كرامة لهذه القدم إلا أن تثبت في القنوت والقيام لله جل وعلا، اعرف أنك بدون هذا الخضوع لله، وبدون هذه الذلة لوجه الله، وبدون ذلك الاحتقار والهوان من نفسك في جنب الله جل وعلا أنك لن تبلغ شيئاً.
قال الله جل وعلا: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44]، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف:179]، وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4 - 5] ولكن الله قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] فكيف تجتمع الكرامة ويجتمع الهوان لهذا الإنسان؟ ليس ضدان في القرآن، ولكن الكرامة لمن أذعن وخضع واستجاب، وخشع وأخبت وأناب إلى الله جل وعلا، والهوان لمن استعصى ومن ارتفع وشمخ بأنفه، أو ارتفع بنفسه عن الذلة والعبودية والانقياد لله سبحانه وتعالى.
أرني متكبراً متجبراً هل يحمل في جوفه غير الخراءة والعذرة؟ أرني متغطرساً هل يحمل في عينه غير القذى؟ أرني متكبراً هل يحمل في أنفه إلا المخاط؟ أرني متغطرساً هل يرى في فمه إلا البخر ونتن الرائحة؟ أرني متجبراً هل يحمل في جوفه إلا البول والنجاسة؟ لماذا يفتخر بعض البشر على بعض؟! وبماذا يعلو بعض العباد على بعض؟! إن كانت مقاييس مادية، أو مقاييس الطينية، أو مقاييس التراب، فوالله ثم والله!! إن الإنسان لأنجس مخلوق بعيداً عن الذلة لله والعبودية له سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
وأما بالانقياد لوجه الله والاتباع لأوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم: (فلأن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من قطرة دم مسلم تراق بغير حق) هذه عزة المسلم، يوم أن يكون مسلماً قطرةٌ من دمه أعظم حرمة وأعظم شأناً من زوال السماوات والأرض، ولكن إذا ضل الإنسان عن هذا المنهج وابتعد عن مرضاة الله فحظه جنهم وساءت مصيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(114/6)
معرفة عظمة الخالق سبحانه وتعالى
أيها الأحبة: المهم في الطريق إلى الجنة، بعد أن عرفت هوان نفسك: أن تعرف عظمة خالقك، أن تعرف أن كل جبارٍ فوقه جبارٌ أعظم منه، أن تعلم أن كل ظالمٍ فوقه يدٌ أقوى منه، وما من يدٍ إلا يد الله فوقها، ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم، أن تعلم أن كل غني فوقه من هو أغنى منه، بل خزائنه لا تنفد، ويده سحاء الليل والنهار، أن تعلم أن من ملك شيئاً من الجنود أن فوقه جنود السماوات والأرض لا يعلمها إلا هو، أن تعلم أن من ملك قدرة يحتاج ساعاتٍ إلى تحريكها فإن فوقه من إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن، فيكون، أن تعلم أن من تعب زمناً طويلاً ليخترع أو يصنع أن فوقه من يقبض الأرواح ولا يبالي، ومن يحيي الأجداث ولا يبالي، بل إن البشر كلهم -والله- ما عظم شأنهم على الله جل وعلا.
يقول أحد المفسرين: إن خلق الناس ليس أمراً جليلاً على الله جل وعلا، بل هو عليه هين؛ لأن البشر منذ آدم إلى يومنا هذا خلقوا بكلمة كن، فالناس يتوالدون ويتناسلون وتنتشر البشرية طولاً وعرضاً على هذه الأرض بكلمة من الله: (كن) أن يكون من كل نواةٍ تلتقي بحيوانٍ منوي أن يوجد منها المخلوق الذي قدره الله ذكراً كان أم أنثى، من أي لونٍ من ألوان المخلوقات: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] بل وأعجب من هذا الأمر العجيب أن من خلق هؤلاء الخلق على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لم يعجز عن رزقهم ساعة واحدة، من استكثر أمواله فليرزق أهل بلدته ساعة، ومن استكثر قوته فليحرك جبلاً من مكانه، ومن استعصم نفسه فليتسلط ولو بدقيقة بدون أمرٍ أودعه الله فيه من قوةٍ خلقها له.
أيها الأحبة في الله: إن من ضرورات الوصول إلى الجنة بعد أن تعرف هوان نفسك، أن تعرف عظمة الخالق، الذي بأمره تكون البحار نيراناً: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6]، الذي بأمره تتفطر السماء: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1]، الذي بأمره تتكدر النجوم: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:2]، الذي بأمره تحيا النفوس بعد موتها، اعرف عظمة هذا الخالق، ليس الدين قضية قصر ثياب أو طول لحية، ليس الدين قضية كذا أو كذا، الدين قبل كل شيء إدراك وشعورٌ بعظمة الخالق، يوم أن تسجد تسجد لعظيم، انظر إلى أولئك الذين عبدوا البشر في دنياهم، من الطواغيت من لا يدخل عليه أحد إلا بعد أن يسجد ويقبل الأرض بين يديه، وتجد بعض المنافقين، بل الكفرة الذين يسجدون للطواغيت من دون الله، يوم أن يقبل بلاط سيده ومولاه يشعر بكل عظمة أن يقبل التراب والبلاط بين يدي عبدٍ حقيرٍ ذليل، فما بالك وأنت تحني الجبهة إعظاماً لله جل وعلا؟! فما بالك وأنت ترمي هذه الهامة من طولها على الأرض لوجه الله جل وعلا، وتقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى، وتحني جسمك وجذعك وتقول: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم؟! أيها الأحبة: حتى ندرك ما نحن بصدده ينبغي أن نعرف: نبذل الصلاة لمن؟ ونسجد لمن؟ وندعو من؟ ونرجو من؟ ونخاف من؟ ونهاب من؟(114/7)
معرفة حقارة الدنيا
وبعد ذلك من المهمات التي تعين في الطريق إلى الجنة أن ندرك حقارة الدنيا، فهذه الدنيا حقيرة، وأكبر دليلٍ على هوانها أن كل صحيحٍ لا تدوم صحته، بل يتكدر بالمرض، وكل عزيزٍ لا يدوم عزه، بل مخوفٌ بالذلة، وكل قوي لا تدوم قوته، بل مخطور بالضعف، وكل مجتمعٍ لا يدوم اجتماعه، بل يكدره الفراق، وكلٌ لا يستقيم له من أمره شيءٌ على حال، إذاً إذا عرفت حقارة هذه الدنيا، وعرفت حقارة ملذاتك فيها علمت أن دنياك حقيرة.
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفرٌ من الأسفار
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار
أيها الأحبة: هذه الدنيا من تفكر في مآلها وما فيها وجد أمراً عجباً.
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل.
إذا كان الشراب يحتبس بولاً نجساً تتضايق منه، تشرب ما تشتاق إليه وتتجرع ما تريده، ثم تريد التخلص منه فتراه نجساً يخرج من جوفك، وتتلذذ بالطعام ثواني، فمدة اللذة ثوانٍ معدودة على اللسان، ثم بعد ذلك لو احتبست في الجوف هيجت كل عرقٍ ساكن، وسكنت كل عرقٍ متحرك.
أيها الأحبة: اعرف أن دنياك حقيرة، واعرف أن دنياك مهينة، ولو كانت تعدل شيئاً لما سقى الله منها كافراً شربة ماء، ولن يعرف الطريق إلى الجنة من اغتر بنفسه، أو جهل عظمة خالقه، أو اغتر بدنياه واشتغل بها عن آخرته، هل يطمع بالجنة من قدم فلةً صغيرة على دارٍ عرضها السماوات والأرض؟! هل يطمع في الجنة من اختار إضاءةً تنطفئ واشتغل بها عن قناديل في العرش معلقة؟! هل يطمع في الجنة من اشتغل بحفنةٍ من المال عن خيرات عند الله لا تنفد: (إن آخر أهل الجنة دخولاً للجنة من يساوي ملكه مثل ملك أعظم ملكٍ في الدنيا عشر مرات)؟ هذا آخر رجل يدخل الجنة ملكه يساوي مُلْكَ مَلِك من أهل الدنيا عشر مرات، فالذي يقدم داراً صغيرة أو يقدم عرضاً حقيراً تافهاً من الدنيا على مرضاة الله، أتراه يشتاق إلى الجنة شوقاً يبلغه إليها؟ والله إنه لأمرٌ عجيب!(114/8)
الأخذ من الدنيا للبرزخ والآخرة
ولن يعرف الطريق إلى الجنة من لم يأخذ من دنياه لبرزخه ثم لآخرته، أنت الآن في هذه الإضاءة، فأين الإضاءة في القبر؟ وأنت الآن في النور، فأين النور في اللحد؟ وأنت الآن في السعة، فأين السعة في المقبرة؟ وأنت الآن تحت المروحة والمكيف، فهل تجد مروحةً أو مكيفاً في القبر؟ وأنت الآن تأنس بمن حولك، فهل ستجد أربعة أو خمسة يحدثونك في قبرك؟ والله لا ينفعك إلا عملك الصالح، والله لا يسرك إلا عملك الصالح، دع عنك أولئك الذين زينوا وزخرفوا، وقربوا وقلبوا وغيروا لك الأمور، دع عنك أولئك فوالله ما منهم أحدٌ يسر، ولو كان أحدٌ في الدنيا يسر صاحبه لنفع الابن أمه، والرجل زوجته، والولد أباه، ولكن: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
أيها الأحبة: من أدرك ذلك فليهيئ للسفر مركب التوبة، وليبدأ بدايةً صادقة، لو أن الحاضرين في هذا المسجد الآن كلٌ منهم عاهد الله بتوبةٍ صادقة؛ إن كان مقصراً أن يتمم، وإن كان مخطئاً أن يقلع، وإن كان مسرفاً أن يتوب، لو أن كل واحدٍ من الحاضرين بدأ وقطع العزم على نفسه أن يهيئ مركب السير في الطريق إلى الله جل وعلا، لانتشر الخير في كل بقعة من بقاع الأرض، كم عدد الحضور؟ سمِّ ما شئت من العدد، كل واحد منهم تاب إلى الله توبةً نصوحاً، وكانت ثمار التوبة أن لو كل واحد دعا اثنين ممن يعرف، وكل اثنين دعوا اثنين ممن يعرفون لانتشر الخير، لا أقول في عشيةٍ وضحاها، ولكن في فترة يسيرة من الزمن.
ولكن أيها الأحبة: ما أكثر ما نسمع قلوباً تعرف، وألسنةً تصف، وأفعالاً تخالف، الران قد علا قلوبنا، الصغائر قد تساهلنا بها: هذه صغيرة، هذه كلمة لكن لا نقول: غيبة، هذه نظرة لكن لا نقول: ليست لغضٍ للبصر، هذا موقفٌ أو تساهل لكن لا نسميها باسم المعصية، بل نسميها باسم آخر، ولو حاسبنا أنفسنا محاسبة الشريك لشريكه لوجدنا أننا قد أكثرنا على أنفسنا من السيئات، ولأجل ذلك خربنا مركب السير.
لو أن سيارة سليمة في قارعة الطريق، ولكن أبوابها مفتوحة، فجاء طفلٌ وعبث بسلك، وآخر عبث بالمقود، والثالث عبث بالإشارة، والرابع عبث بكذا وكذا، فعلى مدى الأيام وجدت هذه السيارة السريعة المطيعة خربة لا تنفع ولا تصلح أن تكون دابة تمشي بك ولو كيلو متر واحد لماذا؟ لأنك فتحت أبوابها لكل راكب، وجعلتها عرضةً لكل مخرب، فكذلك من فتح أبواب نفسه لكل جليس، ولكل صديق ورفيق وصاحب طريق، إنه يجلب على نفسه خراب دابته إن عاجلاً أو آجلاً.
نعم.
تساهلنا بالصغائر ونخشى أن نكون ممن طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم.(114/9)
التوبة مركبة الطريق إلى الجنة
أيها الأحبة: أي دليلٍ أعظم من ضعف شوقنا إلى الجنة وعظم غفلتنا عما ينتظرنا، أن الواحد يقف بين يدي الله جل وعلا فتراه يذكر كل شغلٍ فائتٍ ولا يذكر عظمة ربه الذي هو واقفٌ بين يديه جل وعلا، تذكر كل شغلٍ ماضٍ، ولكن قلَّ أن تذكر ما أنت بصدده مما يقابلك من حسابٍ، أو ثوابٍ أو عقابٍ، أو حشرٍ أو كتابٍ تأخذه بيمينك أو بشمالك!! أيها الأحبة: ينبغي أن نستعد لهذه الغاية التي نتمناها؛ لأن المسافر لابد أن يهيئ دابته، ولابد بعد ذلك أن يحسن الظن بهذه الدابة، بعد أن يهيئها أن يحسن بها الظن، لا أن ينقطع ويتكل ويركن إليها، أقول: لابد أن يهيئها ويحسن الظن بعد ذلك؛ لأن الله جل وعلا يعد من ظن به خيراً: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملئه).
أيها الأحبة: وهذه التوبة التي هي مركبة الطريق إلى الجنة بشروطها التي تعلمونها، نريدها توبة المريد، لا توبة العادي، نريدها توبة الاختيار، لا توبة الاضطرار؛ توبة الذين غرغرت أرواحهم وبلغت الحلقوم، أو توبة الذين قد رأوا الشمس قد خرجت من مغربها، لا.
نريدها توبة القدرة، أن ترى الفلم أمام عينيك، ميسرٌ بين يديك فتعرض عنه لتقرأ كلام الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه توبة وإعراض عن المعصية إلى الطاعة بالاختيار، أما أولئك الذين أرادوا الحرام فعجزوا عنه، ولما عجزوا عنه قالوا: نتوب إلى الله.
قد تكون توبة، لكنها ليست توبة المريد، وليست توبة المختار، وليست توبة الذي عرف العظمة وأدرك ذلة نفسه فاختار ما عند الله جل وعلا، أو أنها توبة الخائف على سمعته، أو توبة الخائف على منصبه، أو توبة الخائف على أمرٍ يتعلق بأسرته ونحو ذلك، أو توبة من خاف على نفسه، لا نريد من ترك الفاحشة أو المعصية؛ الخمر أو غيره لأنه يخشى من المرض على نفسه، بل نريد توبة الاختيار، نريد توبة أن تكون قوياً صحيحاً شحيحاً ترجو الغنى وتخشى الفقر، حينما توجد هذه التوبة فإنها تخرج جيلاً ينفعون الأمة، وينشرون الدعوة، ويقمعون البدعة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أما قول بعضهم: نشبع من المعاصي، ثم نعود إلى التوبة بعد ذلك، أو على حد قول قائلهم:
وكثر ما استطعت من المعاصي إذا كان القدوم على كريم
لا والله.
بل لابد أن تكون تارك المنكر مع القدرة والإرادة التامة، هذا أعظم امتحان لصدق كل عبدٍ قد أراد الله والدار الآخرة.
إن هذا الكلام لا يعني أن يذهب شابٌ إلى حانة خمر، أو مكان للزنا فيقول: الآن أختبر نفسي إن كنت صادقاً بالتوبة أم لا، (لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية) لا تتمنوا الفتنة، وإذا بليتم فاصبروا، لكن نقول لكل شابٍ الآن ربما هو يعلم من نفسه ما عنده من الأشرطة، وما عنده من المجلات، وما عنده من الأفلام، وما عنده من الجلساء، وما يقضي ليله فيه من المكالمات والاتصالات، نقولها لكل شاب: أقلع ما دمت قادراً.
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإمكان إنسان
أنت اليوم مستطيع، لكنك غداً لا تستطيع، أنت اليوم تستطيع أن تصلي واقفاً على قدميك، ولكن بعد مدة قد تعجز أن تصلي وأنت جالس، أنت الآن قادرٌ على الصيام، وبعد مدة قد تعجز عن ذلك، أنت الآن قادرٌ أن تذهب برجليك إلى المسجد، وبعد مدة قد تكون عاجزاً عن ذلك، أنت الآن قادرٌ أن تخرج المال الذي جمعته من حرام بإرادتك واختيارك، ولكن بعد مدة لو قيل لورثتك: اجعلوا هذا المال بعيداً أو ردوه إلى أهله أو تصدقوا به، أو أخرجوه من تركة والدكم لقالوا: لا.
هو الذي جمعه، وهو المسئول عنه ويحاسب عليه، إذاً انفع نفسك، ومن لم ينفع نفسه فلا يلم الناس إذا لم ينفعوه.(114/10)
الجنة تريد عملاً
بقي أيها الأحبة في الله أن نقول ما تعلمون، وأن نذكر ما تعرفون: أن الجنة تريد عملاً، والعمل لا يشترط بعد المفروضات والواجبات أن يكون منصباً في جانبٍ معين، فإن ترك المحرمات، وحسن معاملة الناس من أعظم الأعمال، ولذلك لما سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: (تقوى الله، وحسن الخلق) والتقوى: الخشية من الله في السر، فليس عجيباً أن تكون مؤدباً بين الناس، لكن إذا أغلقت الحجرة على نفسك، هل بينك وبين الله أدب؟ ليس عجيباً أن تكون خلوقاً طيباً لبقاً بين الناس، لكن إذا أرخيت الستر وأغلقت النور على نفسك هل يكون هذا الأمر موجوداً؟ التقوى: مراقبة الله في السر، خشية الله في السر، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك من مقامات الإحسان.
أيها الأحبة: من الأعمال: الكف عن المعاصي، وبكل صراحة احفظوا هذه القاعدة: (نحن في هذا الزمان لا نشكو من قلة الحسنات، ولكن نشكو من كثرة السيئات) رُب بعض الناس يعمل أعمالاً ما فعلها بعض التابعين، قد تجد رجلاً يبني مسجداً، وينفق، ويعطي أشياء كثيرة، هذه الأمور بعض التابعين وبعض علماء المسلمين ما قدروا عليها، ولكن مع كونه بنى مسجداً، وأنفق وكفل أيتاماً، ما أكثر ما ترى من ذنوبه وسيئاته! وما أكثر ما ترى من زلاته وهفواته! فإذا كانت النتيجة النهائية ومحصلة الرصيد وجدت أن مجموع السيئات أكثر من رصيد الحسنات، إذاً العمليات الهامشية في الحساب في الدائن والمدين ليست مشكلة، المشكلة في الرصيد النهائي، لا تعجب أن تخسر مائة ريال لكنك في النهاية تجد في الرصيد أرباحاً كثيرة، المشكلة أن تغتر برصيدك الدائن وتنسى نصيبك في المدين، أن تنسى الخسائر، أن تنسى الذنوب التي تعصي الله بها ليل نهار، وإن كثيراً من الناس عنده عدد من الذنوب يومياً يرتكبها ويفعلها، وله جانبٌ من الحسنات.
نسأل الله جل وعلا أن يعينه على ترك الذنوب وأن يبارك له بالقبول بحسناته.
أقول أيها الأحبة: ليست المشكلة قلة حسنات، فقد جاء أعرابي قال: يا رسول الله! ما عندي غير الصلاة والصيام وحج البيت وأمور الأركان الخمسة، والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا، لم يقل: أريد صيام اثنين وخميس، ولم يقل: سوف أجاهد، ذكر فقط الواجبات الخمسة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق) وفي رواية: (من سره أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا) لكن التزامٌ بالواجبات مع عدم وقوع وولوغ في المحرمات والمعاصي، لكن الآن تجد عندنا تقصيراً أو تفريطاً في بعض الواجبات، توجد عدد من الحسنات، لكن تجد كثرة وإسرافاً في السيئات، فيظن الإنسان أن عنده خيراً كثيراً، ويجهل أنه في خسارة كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً القاعدة: (ليست المشكلة قلة الحسنات، لكن المشكلة كثرة السيئات) إذا حصَّل الواجبات فكثر الله ألفَ ألفٍ خيره، لكن المصيبة كثرة السيئات وعدم المبالاة بها، تجد رجلاً يجلس ويبحلق بعينه في صورة امرأة لا يحل له النظر إليها، ولو قيل له عن رجلٍ يفتح النافذة وينظر إلى بنت الجيران، لقال: هذا خسيس، هذا نذل، هذا لا يستحي على وجهه، وأنت خلفه أما تستحي على وجهك؟! فعلاً القضية أن الإنسان عنده حسنات، لكن عنده سيئات كثيرة، فالمصيبة ليست قلة الحسنات فقط، ولكن المصيبة كثرة السيئات ولا حول ولا قوة إلا بالله.(114/11)
الموت في سبيل الله
أخيراً أيها الأحبة: إن أقرب الطرق إلى الجنة الموت، من أراد أن يختصر المسافة من الدنيا إلى الجنة فالقضية قضية التماس كهربائي، قضية اهتزاز لمدة ثوان معدودة وهي فترة خروج الروح، وبعد ذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، هذه الفترة الثواني؛ ثواني الاهتزاز، ثواني الكهرباء، ثواني التردد التي يحصل فيها هزة في لحظات بسيطة، من أصابته هذه الهزة أو هذا التردد أو هذه الموجة الممغنطة في عروقه وهي لحظة الشهادة في سبيل الله، لحظة الموت في سبيل الله التي لن يجد فيها إلا كألم القرصة، من أقرب الطرق الموصلة الموت في سبيل الله، وإن أعجب فعجبٌ ذات ليلةٍ ليست بعيدة طرق عليَّ الباب شابٌ، فقلت له: من أنت؟ قال: لن أخبرك عن اسمي، قلت له: أنا ما طرقت بابكم، أنت الذي أتيت تطرق بابي، أي خدمة يا أخي الكريم؟ قال: والله عندي حاجة، قلت: ما هي حاجتك؟ قال: والله -والرجل عليه سمة الصدق- أني أدعو الله وأرجوك أن تدعو لي، قلت: وما أنا بمجاب الدعوة أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم، قال: اسأل الله أن يقطع جسمي إرباً في سبيله، قلت: أسأل الله لك الشهادة، قال: لا.
اسأل الله أن يقطع جسمي قطعة قطعة في سبيله، قلت: الآن جاءت المسألة، إذا يوجد عندنا في الأمة شباب كهؤلاء الواحد مستعد أن يقطع الأصبع الواحد من يده إلى خمس أنامل، واليد الواحدة إلى عشر قطع، والرأس إلى مئات الجرامات، والقدم إلى عشرات القطع، إذا يوجد شباب بهذه الصفة فالجنة قريبة، ولا نقول: إن الجنة لا توجد إلا بهذا الطريق، لكن نقول هذا أقرب الطرق إلى الجنة.
كان ابن رواحة كثيراً ما ينشد ويقول:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
وطعنةً بيدي حران مجهزة بحربة تنفث الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
وقول الآخر:
ألا موتٌ يباع فاشتريه وهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍ تصدق بالوفاة على أخيه
الأمة تحتاج إلى أناس يشربون الموت كما يشربون الماء البارد، الأمة بحاجة إلى رجال كما قال خالد بن الوليد لـ رستم: [فإن أبيت الإسلام والجزية فقد جئناك بقوم يشتهون الموت -يحبون الموت، يتعطشون للموت، يبحثون عن الموت- كما تحبون الحياة].
إن مصيبة الأمة: حب الدنيا وكراهية الموت كما بينه صلى الله عليه وسلم في داء الوهن الذي ترى فيه كثرة كغثاء السيل، ويتسلط، ويتداعى، ويتكالب الأعداء عليها من كل جانب.
أيها الأحبة: أقرب الطرق إلى الجنة الموت في سبيل الله، وهنيئاً لأولئك الذين سالت دماؤهم على أرض أفغانستان، ويا فوز أولئك الذين بذلوا أرواحهم للجهاد في سبيل الله، وأولئك الذين جاهدوا فكتب الله لهم الحياة كما كتب لإخوانهم الشهادة، هنيئاً لهم ما بقي الإخلاص والثبات في قلوبهم.
أيها الأحبة: كنت في الجبيل من مدة فدخل شابٌ أسود اللون، ولكن في وجهه نورٌ يتلألأ، فأحببته منذ أن دخل ذلك المجلس، وما كنت أعرفه من قبل، فدنوت له، وكنت في صدر المجلس ودعوته أن يجلس بجواري، فالتفت إليه وقال لي أحد الإخوة: هذا فلان أبو الزبير من خيرة شباب جلال آباد، فقلت: ليس عجباً أن أميل إليه، وأن أحبه، وأن تميل نفسي ويهفو قلبي إليه، وأن أرى هذا النور يتلألأ في وجهه، وودعت ذلك المجلس ومن بينهم هذا الشاب ونفسي ما زالت تتذكره على كثرة من أقابل وأجالس، وبعد أيام قالوا لي: إن ذلك الشاب الأسود اللون البراق الوجه قد استشهد في سبيل الله، قلت: إذاً لا غرابة أن أحبه بلا خيار، وأن أميل إليه بلا إرادة، وأن أتعلق به بلا سابق معرفة.
أيها الأحبة: يبقى أمرٌ واحد، هل نموت في سبيل الله؟ هل عندنا استعداد أن نقدم الأرواح في سبيل الله؟ إذا وجدت أمة تلعب بالموت كلعب الورق بكل استعداد، أول ورقة في النزال الموت، ولست أدعو بهذا إلى الانتحارية، فيا صاحب الفيديو! تب إلى الله يقول: لا ما أنا بتائب، فأقوم باسم الله الموت، أدخل عليه بحزام ناسف وانتهي أنا وإياه، لا.
ليس المقصود هذا، لكن المقصود أن يوجد في النفس المفاوضة على آخر قطرة دم، بمعنى أن الإنسان بآخر قطرة دم مستعد أن يجعلها أول سعر في المساومة، إذا وجد هذا النوع من الشباب والله إن الأعداء يذلون ويهابون ويخافون، فقد قال الله جل وعلا في الكفار: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] الكافر وصاحب البدعة ومن ليس على صراطٍ مستقيم كل أولئك يخافون الموت، لكن المسلم يقول:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر؟
يوم لا يقدر لا أرهبه وعن المقدور لا ينجي الحذر
إذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جبانا.
إذا كان الموت ساعة لا تتقدم ولا تتأخر، فجميلٌ جداً أن نموت ميتة الأُسُود، لا ميتة النعاج والخراف، والجبناء والضعاف.
أيها الأحبة: الموت في سبيل الله من أقرب الطرق إلى الجنة، وقضية الموت قضية ينبغي أن نبسطها بكل وضوح وبكل سهولة، من الناس من يخاف الموت خوفاً عجيباً، وأعجب من البعض، الجمعة الماضية خرجت من المسجد فإذ بي أجد شاباً، قلت له: أعطني يدك، قال: إلى أين؟ قلت: إلى المقبرة، أحد جيراننا فلان هو من أهل الإحساء ومن جيراننا في الرياض توفي، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة ونعم الجار، ما علمت عنه إلا خيراً، فأصابه حادث سيارة توفي إثره، قلت: نصلي الجمعة ونذهب نشهد جنازته إن أدركناها وإلا نصلي على قبره ثم نعود أهله فنعزيهم فيه، فقال: والله يا أخي! أنا أخشى من المقبرة، أخشى من الموت، قلت له: فقط هذا الدور وتعال اركب، فذهبنا أنا وإياه، قلت له: تخاف من الموت؟ قال: نعم، قلت له: أي شيء من الموت تخاف؟ أي: ما هي المشكلة في الموت؟ تخاف من الموت يأخذك هنا مع الرقبة، وإلا مع الرجل، وإلا مع الظهر، ما هي المشكلة في الموت؟ الموت ظاهرة طبيعية، كما تخرج الفرخة أو الصوصة من البيضة، الموت خروجٌ من بيضة الدنيا إلى عالم البرزخ، الموت ظاهرة طبيعية جداً جداً، فهذه الدجاجة حينما تبيض بيضة، الصوص الموجود في البيضة يفرخ، يخرج من البيضة، سواء كان في محضن أو في فقاسة حرارية، أو كان في غرفة نوم أو في عش، أو كان في نافذة، سوف تنكسر جدران هذه البيضة الكلسية، ويخرج منها هذا المخلوق، فأنت سوف تنكسر عنك بيضة الدنيا وتنتقل إلى عالم جديد، فما هي المشكلة في الموت؟ المشكلة ليست في الموت، المشكلة مشكلة ما بعد الموت، المشكلة مشكلة الانتقال من الضوء إلى الظلام، الانتقال من السعة إلى الضيق، الانتقال من الأنس إلى الوحشة، الانتقال من الري إلى الظمأ، من الشبع إلى الجوع، هذه المشكلة، فمن كان جاداً في خوفه من الموت، فليقدم على الموت حتى تكفر ذنوبه، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويلبس تاج الوقار، ويرى مجلسه من الجنة، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، هكذا من خاف من تلك المصائب بعد الموت، فليقبل على الموت، واحرص على الموت توهب لك الحياة، وإلا لم نجد تفسيراً بدون الرغبة في الموت، لا نجد تفسيراً لتصرفات الصحابة، أحد الصحابة طعنه مشركٌ اسمه جبار بن سلمة، طعنه طعنةً تفجر الدم من جوفه، فأخذ الصحابي يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فارتعد الكافر، جبار بن سلمة ووقف مشدوهاً: رجلٌ أطعنه طعنة من ظهره بالسيف ثم يصرخ ويقول: [فزت ورب الكعبة] فكانت سبباً في إسلام جبار بن سلمة، دعاةٌ حتى آخر قطرة دم، دعاةٌ إلى الله حتى في النفس الأخير، وآخر من الصحابة يطعن وتبقر بطنه، فيغرف الدم من جوفه ثم يصبه على رأسه، ويمسح به وجهه ويقول: [اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى] هذه فلسفة الموت، فلسفة الموت عملية طبيعية، ربما الإنسان يجد في عملية زائدة، أو في أي عملية جراحية آلاماً أشد من آلام الموت، لكن المصيبة مصيبة الذين يموتون على المعاصي، تشدد عليهم آلام الموت وسكراته، وأما الذين يموتون مقبلين في سبيل الله فأولئك لا يجدون من آلام الموت إلا كما يجد أحدنا من ألم القرصة.(114/12)
الصبر على طول الطريق
وأخيراً أيها الأحبة! من أراد الجنة فليصبر على طول الطريق، وليوطن نفسه إذا انغلق عليه بابٌ في الطاعة والدعوة فليفتح باباً آخر، إن من الناس من تجده قد عود نفسه في الدعوة والعبادة على خطٍ معين، فربما انغلق عليه الطريق ذات يومٍ بسببٍ من الأسباب، نقول: إذا أُغلق الطريق فافتح طريقاً آخر، وإذا أُغلق هذا الطريق فافتح طريقاً ثالثاً، وهكذا إلى أن تلقى الله جل وعلا وهو راضٍ عنك غير غضبان، بمنه ورحمته، نريد طول النفس، لقد صنع في إحدى دول أوروبا نوع من اللمبات إضاءة هذه اللمبة يقال: تمكث عشر سنوات لا تنفد.
أنتم تلاحظون الآن الواحد كل أسبوع اللمبة عنده محترقة، فيذهب ويأتي بلمبة جديدة، نحن لا نريد المسلم الذي تاريخ فعاليته قصير؛ عشرة أيام ويحترق، أو سنة ويحترق، أو ثلاث سنوات ويحترق، نريد مسلماً ليس من النوع الأوروبي هذا في اللمبة، بل طويل المدى، نريده مستمراً لا يخفت أبداً، مسلم من نوع: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، مسلم من نوع: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فإن من أراد الجنة صبر على طول الطريق، ومن ضعف أو تقاعس أو تكاسل، أو مل أو اضمحل؛ فربما كانت خاتمته خاتمة المفرطين أو المنهزمين، أو الضائعين أو المنحرفين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعلى كل مسلمٍ أن يجعل الطريق نصب عينيه، وكما قال علي بن أبي طالب: [اللهم أشكو إليك طول الطريق وقلة الزاد] ولكن نستعين على هذا بما أرشد الله نبيه إليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1 - 4] لماذا القيام؟ لماذا الترتيل؟ لماذا القراءة؟ لماذا الذكر؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:5 - 6] فمن أراد أن يأنس بما يعينه وأن يتزود بما يثبته في طريقه إلى الجنة، فليجعل التسبيح والقيام، والعبادة والتهجد، والاستغفار والإنابة زاداً له، فإنها نعم الطريق بمن الله، وهنيئاً لكل مؤمنٍ عبد ربه على بصيرة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] يعملون ويشقون وينصبون {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4].
فهنيئاً لكل مسلم عبد الله على بصيرة، وسلك متبعاً منهج نبيه صلى الله عليه وسلم، أولئك في الغرفات آمنون، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وهذا الكلام ليس للرجال وحدهم فحسب، بل هو للرجال والنساء، فإن خطاب القرآن يوم أن ينادي المؤمنين لا يخص الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال، بل الخطاب عامٌ إلا ما استثنيُ فيه ببينة أو خص فيه النساء بقرينة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(114/13)
الأسئلة(114/14)
ثمرة الالتزام الدعوة إلى الله في مختلف مراحل الحياة
السؤال
أنا شابٌ فقير إلى الله حيث كنت من الشباب الذين يغارون على الدين، وكان لديَّ نشاطٌ قوي قبل فترة، وبعد الزواج أصبحت أتقاعس عن الطاعة، وكذلك عندي أحد الإخوة يدعوني إلى أمور الدنيا ويزينها لي، أرجو نصحي وتوجيهي إلى الطريق الصحيح، علماً أن أهلي يعينوني على الطاعة؟
الجواب
الحمد لله وبعد: أما بالنسبة لقولك أنك بعد الزواج قد ضعفت وتكاسلت عن الطاعة فليس بغريب، ومن المنعطفات الخطرة في حياة كثير من الشباب المسلم ما يصيبهم بعد زواجهم من انشغالٍ بأمور حياتهم الخاصة عما أكرمهم الله به من الدعوة إليه جل وعلا، وطالما سمعنا من الزوجات أن زوجها يقصر في حقها، التقصير شيء، لكن أن يصرف الإنسان جل وقته لزوجته، والله لو كان صرف هذا الوقت ينجي من النار ويقرب من الله جل وعلا لكان في هذا خير، والقضية حقيقة تحتاج إلى ضبط ومقياس، فكثير من الإخوة حينما يتناقش مع أهله، تجد زوجته تقول له: كان صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) (كلُّ لهو لا يثاب الرجل عليه، إلا حديث الرجل مع امرأته أو ملاعبته أهله) إلى آخر ذلك، لكن هل سنستمر في الليل والنهار في سواليف مع النساء وملاعبة للأهل؟ المنتظر من زوجة الشاب المسلم، كما أن الشاب له دورٌ في الدعوة أن يكون لها هي أيضاً دورٌ في الدعوة، أما أن تريد شاباً ملتزماً لكي تقفل عليه الأبواب الأربعة لا يخرج إلا للصلاة وتسأله بعد الصلاة: تعال، ولماذا تسهر؟ ولماذا جلست؟ نعم.
لابد أن يعطيها حقها، لابد أن يخصص حديثاً معها، لكن أن يكون الظُّهر معها، والعصر معها، والمغرب معها، والعشاء معها، أظن هذه تربية أنوثة وليست رجولة ولا زواجاً.
فالحقيقة ربما أو لعل صاحبنا ممن فهم نصوص الحض والحث على العناية بالأهل والزوجات فهماً أسرف فيه وأبعد النجعة، فأشغله ذلك عن إخوانه، والمرء ضعيفٌ بنفسه قويٌ بإخوانه.
الأمر الآخر: النفس دائماً ميالةٌ إلى الترف، ميالةٌ إلى الدعة، ميالةٌ إلى السكون.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما ما حظاك النصح فافتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكما فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
النفس حينما تعودها الدعة والراحة، والسكون والخمول، بل إن طول الجلوس مع المرأة ربما يورث مللاً، وهذا أمرٌ ليس بعجيب؛ لأجل ذلك نقول: أعط أهلك حقهم، ولكن لا يكون هناك إسراف يشغلك عن حضور مجالس الذكر، وحلق العلم، ومجالسة العلماء، وطلبة العلم، وقراءتك واشتغالك بالدعوة إلى الله جل وعلا، والمصيبة التي طالما نرددها كثيراً: أن الشباب الطيب في هذا المسجد كثير، لكن كم عدد العاملين في الدعوة؟ نحن شركة استقدمنا ألف عامل، فجعلنا كل عاملٍ يلبس لباس الشركة، ثم وقفنا عند هذا الحد، آلاف الشباب ما شاء الله ملتزمون محافظون على الصلاة وكفى، عمال مدربون مهرة ممتازون وكفى، فهذا لا يقبله إنسان يستقدم ألف عامل مدربين ممتازين على فنون الصناعة والتقنية والإنتاج ومجرد أن يلبسهم بدلة الشركة أو شعار الشركة يقول: إلى هنا وانتهى العمل، بالضبط هذا مثلنا الآن في هذه الصحوة على اختلافٍ في التسمية أو في وجهات النظر في هذه التسمية، الصحوة الآن آلاف مؤلفة من الشباب لكن:
وأنت امرؤٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ وموتك فاجع
ما أكثر الطيبين! نفجع بموت أحدهم، أو بمصيبة أحدهم، وما أقل من ينفع منهم، والله لو أن كل شاب ملتزم وكل شاب فيه خير يعمل؛ يدعو إلى الله؛ إلى شريط أو كتاب، إلى زيارة، أو ندوة، أو حلقة ذكر، دعوة جار، أي عمل من أعمال الدعوة إلى الله، والله لتجدن الخير يتدفق طولاً وعرضاً، وشرقاً وغرباً.
لكن في الشركة لبس عمالها الزي ووقفوا عند هذا الحد، إن أبا بكر لم يقبل الإسلام ووقف عنده فحسب، بل لما أسلم وبدون أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ذهب وأتى بـ أبي عبيدة، وبـ عبد الرحمن بن عوف، وبغيرهم من الصحابة، إن الثمرة الطبيعية للإسلام والالتزام: الدعوة إلى الله، هل هي موجودة أم لا؟(114/15)
التوبة المؤثرة
السؤال
أنا شاب قد أسرف على نفسه وحاول التوبة كثيراً، ولكني أفشل في كل مرة فأعود إلى الذنوب، فماذا أفعل؟
الجواب
يا أخي الحبيب! يسمونها توبة الثعالب، لكن لا حرج، نقول: تب إلى الله ثانية وثالثة، ورابعة وخامسة وعاشرة، وسأقول لك أين الخلل.
الخلل: أنك لما عزمت التوبة لم تصدق في تجريد القصد، ولم تكن جاداً في تطبيق بنود هذه التوبة.
البند الأول من التوبة: الإقلاع عن الذنب، الإقلاع، ما معنى إقلاع الطائرة؟ ما بقي منها جزءٌ على الأرض، فإقلاعك عن الذنب ألا يبقى عندك قطعة مرتبطة بالذنب موجودة في البيت، لكن بعض الشباب -كما قلنا ونردده- يقلع عن الذنوب؛ عن كل الأفلام إلا فيلمين جعلهما تحت السرير، وأحرق المجلات إلا مجلةً فوق الدولاب، ومزق الأشرطة إلا شريطاً في الجيب الأيسر للسيارة، وهنا يظهر الخداع والتحيل على النفس، ما صارت توبة، بل مجرد تبديل أشرطة في وقت معين، أما نية العودة إلى المعصية موجودة وأكبر دليل عدم التخلص من البقايا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: في الإسلام كافة، لابد أن يوجد هذا القصد وهذا الهدف، فإذا كنت جاداً ابذل هذا الأمر.
الأمر الآخر: ألا وهو -أخي الحبيب! - تغيير البيئة، رُب كثير من الناس يعصي الله بسبب الوسط الذي هو فيه، فإذا ترك هؤلاء الجلساء في وسطهم وبيئتهم التي لا يسمع فيها إلا غيبة ونميمة، ولهواً وصوراً محرمة، وغناء خليعاً ونحو ذلك، إذا تركهم وخالط أقواماً يذكرون الله ويتلون كتابه، ويتعاونون على العبادة ويهتمون بأمور أهلهم وصلات رحمهم وحاجات والديهم يستقيم ويستمر، فقضية الانتقال مهمة، والحديث الذي تعرفونه وطالما رددناه، والذكرى تنفع: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً، فندم وأراد التوبة -الله لا يهينه بعد تسعة وتسعين نفساً يندم- فجاء إلى راهب، قال: إني قتلت تسعة وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ قال الراهب: لا.
ما لك من توبة، فقام وغرس الخنجر في صدره فأكمل به المائة، ثم ذهب إلى عالم -المرة الأولى ذهب إلى راهب، فمجرد العبادة، ومجرد طقوس العبادة، أو مجرد إنسان يتعبد بدون علم هذه مسألة ضعف، فلابد مع العبادة العلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، لابد أن تكون العبادة بعلم، والمتعبد بلا علم قد يضل- المرة الأولى ذهب إلى راهب فأخبره، فقال: ليس لك توبة، فذهب إلى عالم في المرة الثانية، قال: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ -وكأني بذاك الرجل يقول: إذا قال: لا، أكمل المائة وواحد، نعم.
كما يقال عن رجل كان يدور على حفرة ويقول: تسعة عشر تسعة عشر تسعة عشر، فجاء رجل قال: أيش تسعة عشر؟ قال له: تعال، ولما طل دفعه في الحفرة وقال: عشرين عشرين عشرين، فالمسألة مسألة تكميل عدد- ذهب ذلك الرجل إلى العالم قال: قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: ومن ذا يمنعك التوبة؟ إن باب التوبة مفتوح، ما لم تغرر أو تطلع الشمس من مغربها، ارحل إلى قوم بني فلان، أو اذهب إلى قرية بني فلان، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم الحديث فالمسألة الأولى بداية العمل، وبداية الأمل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] ونقولها لكل شاب، مهما بلغت ذنوبه، أياً كان، بعض الشباب يظن أن التوبة على قليل أغاني، وقليل أفلام، أما اللواط والزنا، والسرقة والشعوذة، والسحر والكهانة، هذه أمور لا يمكن أن يتوب الله على من فعلها، لا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] حتى من وقع في الكفر فجدد الإسلام ودخل الإسلام على نيةٍ صالحة صادقة، وعلى بصيرة، وعلى توحيدٍ صحيح، فإن ذلك يجب ما قبله (أسلمت على ما أسلفت والتوبة تجب ما قبلها) فتخلص من بقايا المعصية، والحق بشبابٍ أو بصحبٍ أو بقومٍ يعينونك على الطاعة، ويذكرونك إذا غفلت، ويعينوك إذا ذكرت.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(114/16)
العدل في المعاشرة
هذه رسالة نتحدث فيها عن مشهد من المشاهد الاجتماعية المؤلمة، وهي مشكلة قائمة في الواقع وليست ضرباً من الخيال، ألا وهي إعراض المعددين في الزوجات عن زوجاتهم الأولى وأمهات أولادهم، تتعرفون في هذه المادة على أسباب هذه الظاهرة ودوافعها، وأنه لا اعتراض على تعدد الزوجات ولكن يجب المعاشرة بالمعروف.(115/1)
ظاهرة إعراض الزوج عن زوجته الاولى لأجل الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: الحديث اليوم عن واحدٍ من المشاهد الاجتماعية المؤلمة، وهي مشكلةٌ قائمة ليست ضرباً من الخيال أو الافتراض.
عباد الله: ما هو ذلك المشهد؟ وما أسبابه ودوافعه؟ وقبل أن نخوض في هذا، سنقف لنعرض عليكم هذا المشهد الاجتماعي الأليم، الذي يحدث وكثيراً ما يحدث ويتكرر في كثيرٍ من بيوتنا.
أيها الإخوة: كثيراً ما نسمع ونعرف وينقل إلينا أن بعض المسلمين حينما يصلُ إلى سن الأربعين أو الخمسين وما حولها، يحلو له أن يتزوج امرأةً ثانية، لأسبابٍ عديدة، ولعل من أهمها: أن المرأة مع زوجها في هذا السن، قد تكون قاربت نهاية الشباب في أنوثتها وقوامها، لا سيما بعد أن قدمت أكبر وأجل واجباتها ممثلاً في إنجاب الأولاد، والقيام عليهم بحسن الرعاية والتربية، وإلى هذا الحد من هذا المشهد، فلا غبار ولا اعتراض على ما يحدث، لأن شباب الرجال أطول عمراً من شباب النساء، لكن المشكلة والمصيبة والمأساة، هي إعراض بعض المتزوجين عن زوجاتهم الأُول، وأعني بالإعراض عدم المبالاة والتقدير والمراعاة لشعور الزوجة أم الأولاد، فترى الواحد من أولئك ينقلب وحشاً فظاً غليظ القلب، لا يطيق أن يسمع من زوجته الأولى شكوى، ولا يجد فراغاً ليقضي لها حاجة، وكثيراً ما يتذرع بقلة ذات اليد؛ أو عدم أهمية حاجتها، وحينما تسأله زوجته الأولى شيئاً من المال لقضاء حوائجها ومتطلباتها، يدخل الواحد من أولئك عابساً أو مقطباً، ويخرج كذلك، ويغضب لأتفه سببٍ عند زوجته الأولى، ويقيم الدنيا ولا يقعدها، ويحمل الأمّ المسكينة مسئولية أي خطأٍ أو تقصيرٍ يقع من أولاده، والويل ثم الويل لها إن فقد شيئاً من حاجياته، وإن كانت زوجته الثانية -الجديدة- تسكن معه في نفس البيت، فالويل للأولى إن شكت الثانية منها، أو أبدت على الزوج تغيراً بسببٍ مزعومٍ ينسبُ إلى الزوجة الأولى، وفي جوٍ مدلهمٍ بالمشاكل والخلافات، يصل الأمر إلى غايته ونهايته، فتقف الزوجة الأولى أم الأولاد، لتفصح عن مكنون سترها، ولتكشف عن خفي سترها، فماذا تكون الإجابة من ذلك الزوج؟ وماذا تتوقعون أن يقول مجيباً؟! إن الإجابة المريرة المؤلمة والتي سمعنا بها في كثيرٍ من هذه الحالات هي قول الكثير منهم: إن أعجبك هذا الوضع على ما فيه ورضيت به فأهلاً وسهلاً، وإن لم يعجبك فالطلاق الطلاق ليس عندي لك شيءٌ سواه.
وهنا تنكسر كبرياء الأمومة، وتضيع سنون العشرة، ويقابل المعروف بالأذى، والإحسان بالإساءة، ثم يحصل الطلاق في لحظةٍ من غضبٍ وجدال، أو تبقى الزوجة الأولى معذبة بين نارين مشتعلتين: الأولى: نار الطلاق والفراق.
الثانية: نارُ الآلام والعيش المليء بالسخط والتبرم وسوء المعاملة وتحطيم المشاعر.
أيها الإخوة: أليست صورة واقعة؟! ألم تسمعوا بها؟! ألم تعرفوا عنها؟! ألم تقرءوا في رسائل المعذبات إلى الصحف والمجلات؟! نعم، كل هذا واقعٌ وحاصل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(115/2)
الفهم الخاطئ لهذه الظاهرة
أيها الإخوة في الله: وفي خضم هذه المشاهد الاجتماعية المؤلمة، يقف من يقف من المخدوعين، أو الجاهلين، ليقول: هذه ثمرات تعدد الزوجات، وهذه نهاية الذين يجرءون على التعدد، ويغيرون على أنفسهم، إلى غير ذلك من عبارات الإرجاف والتشكيك والوسوسة الشيطانية، ليقف من أراد الزواج محتاراً خائفاً غير واثق، وحينها قد يفضل بعضهم السفر أو الالتفات يميناً أو شمالاً ليقضي مآربه وأوطاره في سبيلٍ حرام وبطريقٍ خفيٍ، ليسلم من سبة ما سمعه زوراً واختلاقاً عن مشاكل تعدد الزوجات.(115/3)
لا اعتراض على تعدد الزوجات ولكن عاشروهن بالمعروف
أيها الإخوة: وأمام هذه الصورة المأساوية نقف قليلاً موضحين لما سبق أنه لا اعتراض لأحدٍ على تعدد الزوجات، وأنه أمرٌ شرعيٌ لا شك في سنيته وترغيب الشريعة فيه، ولكن هنا ألف اعتراض واعتراض على تعدد الزوجات لمن سيعامل زوجته الأولى بذلك الأسلوب، وهنا ألف اعتراض واعتراض على تعدد الزوجات لمن سيعامل زوجته الأولى بتلك الطريقة؛ لأن العدلَ شرطٌ في التعدد، ومن كانت تلك سجيته، وذاك سلوكه في معاملة زوجته الأولى، فهو في وادٍ والعدل في وادٍ آخر، فليتق الله، ولا يحمل نفسه من الإثم والعذاب ما لا يطيق، وذلك بالجور والجنف والميل المتعمد في المعاملة والمعاشرة.
فإلى الذين يقعون في تلك المشاهد السيئة من المعاملة والمعاشرة لأزواجهم، وأمهات أولادهم، وينسون المعروف والجميل، لسبب زوجةٍ عارضةٍ جديدة، وفتاةٍ صغيرة.
إلى أولئك الذين نسوا حق الزوجة الكبيرة التي صبرت على آلام الفقر، ورضيت بالعيشة قانعةً بزوجها على أقل القليل من الطعام والشراب، راضيةً بالضيق من السكن والمكان.
إلى أولئك الذين تزوجوا بنات الأمس، وأمهات اليوم، ولم يشترطن عليهم بالزواج خادماتٍ أو سائقين.
إلى أولئك الذين لم تثقل كواهلهم بالمهور الغالية والصداق الباهظ.
إلى أولئك الأزواج جميعاً نقول: اتقوا الله، اتقوا الله، اتقوا الله! أهذا جزاء الإحسان؟! أهذا جزاء الصبر والمصابرة على أيام عيشٍ مضت بين الفقر والضيق والضراء؟! أهذا هو الوفاء بالمعروف؟! أهذا هو رد الجميل أن تجعل ضرتها في وجهها وتسكن معها وهي كارهةٌ غير راضيةٍ بمساكنتها؟! أمن حسن العشرة أن تجعل الزوجة الثانية الصغيرة أمام الزوجة الأولى الكبيرة لتجرح قلبها وفؤادها؟! حينما يضاحك الزوج هذه الزوجة الصغيرة، وحينما ترى الزوجة الكبيرة ضرتها الصغيرة، وهي في شباب أنوثتها وصغر سنها، وهي ترى زوجها يميل إليها بنظراته، ويضاحكها بعباراته، ويسارقها الحركات والألفاظ والعبارات.
إن هذا لأكبر جرحٍ لشعور أمٍ مسكينة، إن هذا لأكبر ظلمٍ لمشاعر وفية صادقة، إن هذا لأسوء جزاءٍ يجزى به المعروف والإحسان.
أيها الإخوة: نعود فنقول: إن هذه ليست دعوة إلى ترك التعدد وعدم الزواج، بل إنما هو دعوة إلى حسن المعاشرة، خاصةً مع ذلك الجيل الوفي الصادق من النساء الذي يندر أن نجد مثله في هذه الأيام، ذلك الجيل اللاتي قدمن أفضل التضحيات وأجملها في سبيل الحفاظ على رباط الزوجية الكريم، وتربية النشء الصالح، مهما كدرته شوائب الفقر والمرض، وضيق المسكن وقلة ذات اليد.
إلى أولئك الذين وقعوا في هذا المشهد الاجتماعي الأليم، ننصحهم ألا يجمع المرأة بجارتها أو ضرتها إلا برضىً منهما، وإلا فليقسم الدار قسمين، وليكن قريباً منهما، وهما منفصلتان عن بعضهما، أو فليجعل داراً مستقلةً أخرى إن قدر على ذلك.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين امرأتين تحت سقفٍ واحد، فلكم في رسول الله أسوةٌ حسنة، ننصح أولئك ألا يتحدث الواحد منهم بجمال زوجته الصغيرة أمام الأخرى، وخواص أمورها، من لباسٍ أو فراشٍ أو غيره، لأن ذلك يشعل الغيرة، ويؤجج نيرانها، وربما أدى ذلك إلى الانتقام بما لا تحمد عقباه، والعياذ بالله.
ننصح أولئك بحسن الخلق ولطف المعاشرة للجميع، وليتذكر الجميع قول الله سبحانه وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فأين المعروف في هذا التصرف؟! وأين الإحسان في هذا السلوك؟! أمن المعروف أن تجعل الفتاة الصغيرة، تتباهى بجمالها وإظهار مفاتنها أمام زوجتك الأولى الكبيرة، لتجرح كبرياء الأم، وتكسر مشاعرها التي قدمت وتقدم كثيراً مما لا يتسع المجال لذكره.
أمن حق هذه الأم التي صبرت معك على الفقر والآلام، وعلى الضراء والسراء، وعلى الحل والترحال، أمن معاشرتها بالمعروف أن تبادل ضرتها الصغيرة بنظراتٍ وعباراتٍ لتجعل في ذلك خنجراً يطعن قلبها، ولتجعلها لا تجد شكوى إلا إلى ربها؟ فتنطلق مسكينةً مهرولة؛ هذا ما سمعته، وهذا ما نقل إلي، وليس افتراضاً كما قلته لكم، بل هو واقعٌ ويتكرر ويكثر وقوعه في مجتمعنا.(115/4)
خيركم خيركم لأهله
إلى أولئك نقول لهم: تذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم).
نذكرهم بهذا الحديث، فلتنصت له الآذان، ألا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائل) حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد وغيره، وليس الميل هنا في الأمور الغريزية الفطرية، إذ أن شهوة الرجل تغلب على نفسه، لكن الميل الذي ينهى عنه إنما هو في النفقة، وفي السكنى والعطاء، ومن أشد الظلم ومن أشد الميل جرح كبرياء الزوجة الأولى وكسر مشاعرها أمام ضرتها الصغيرة، هذا أعظم وأخطر من الميل، وأشد إثماً وعقوبة، ما يريد أولئك؟ ما الذي يدفع بعض الأزواج لكي يتلذذوا بإثارة غيرة أمٍ مسكينة قد بدأ الشيب في شعرها؟ ألا يحترم سنها؟! ألا يقدر عشرتها؟! ألا يقدر الحمل والولادة وإنجابها له عدداً من الأولاد والبنات؟! إن الذي يقع في ذلك ويصر عليه لمن اللؤم بمكان، وفي سوء العشرة بدرجةٍ عظيمة.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ؛ إنه هو الغفور الرحيم.(115/5)
حكم التشاؤم من شهر صفر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، الحمد لله وحده لا شريك له أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: منذ يومين أهل علينا هلال شهر صفر جعله الله باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام لنا ولولاة أمورنا وسائر إخواننا المسلمين، ولكن البعض هداهم الله يتشاءمون من شهر صفر، ومن بعض الأيام في السنة.
أيها الإخوة: هذا من التشاؤم المنهي عنه في الشريعة الإسلامية، وهو من جنس الطيرة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من أمر الجاهلية، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر) والتشاؤم بشهر صفر من الطيرة المذمومة التي وقع فيها بعض الناس، فلا تراهم يتزوجون فيه ولا يسافرون، ولا يذهبون أو ينزلون أو ينتقلون، وهو شيءٌ يجدونه في أنفسهم لا أصل له، إذ أن شهر صفر كسائر الشهور يقع فيه الخير والشر، وقد يفضي هذا التشاؤم إلى شيءٍ من الشرك والعياذ بالله، والعياذ بالله لمن غالى في تطيره وتشاؤمه، فظن أن للأيام فعلاً بذاتها من دون تدبير الله وقضائه وقدره.
عن عروة بن عامر رضي الله عنه قال: (ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحسنها الفأل، ولا تردوا مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
أيها الإخوة: اعلموا ذلك علم اليقين، ومن رأيتموه يتشاءم أو يتشكك أو يتردد في هذا الشهر فانصحوه بالمضي والتوكل على الله جل وعلا في هذا الشهر وفي غيره من سائر الشهور والأيام؛ لأن الإنسان إذا بالغ في تشاؤمه من يومٍ معين، أو من شهرٍ معين، فكأنما يظن أن لهذه الأيام فعلاً وتدبيراً في إحداث بعض المقادير والأقدار، وإنما الأمور بيد الله سبحانه وتعالى، لا يأتي بأحسنها إلا هو، ولا يدفع السيئ منها إلا هو، فلا حول ولا قوة إلا بالله في كل حال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد ولاة أمورنا بفتنة، اللهم من أراد شبابنا بضلالة، اللهم من أراد نساءنا بتبرجٍ وسفور، اللهم من أراد شبابنا بفسقٍ وضلال، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم أدر عليه دائرة السوء، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، ربنا لا تحجب دعاءنا، واستجب لنا فيما دعونا.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم سدد رصاصهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد صفهم، اللهم أبعد الفرقة والنزاع بينهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم اجزهم خير الجزاء، اللهم ضاعف لهم الحسنات، وكفر عنهم السيئات، اللهم وفق الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر في زمان غربة الدين، وفي زمانٍ أصبح المنكر معروفاً فيه أمام كثير من الناس، وأصبح المعروف منكراً فيه أمام كثيرٍ من الناس، اللهم وفق الآمرين بالمعروف، اللهم ارزقهم الفقه والعمل الصالح، والعلم النافع برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عجل زوال الفرس، اللهم عليك بالإيرانيين، اللهم عليك بالفجرة الظلمة الفَسقه منهم، اللهم عجل بزوالهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود، اللهم أرنا فيهم الكارثة، اللهم احصهم عدداً وأقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم اجعلهم غنيمةً للمسلمين، اللهم أشعل الفتنة بينهم، اللهم أشعل الفرقة بينهم، اللهم أوقد الاختلاف بينهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم اجعل تدبيرهم في نحورهم، اللهم اضرب الظالمين بالظالمين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين والكافرين بالكافرين والفاسقين بالفاسقين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم عليك بهم، اللهم فعجل زوالهم، اللهم إنهم لا يؤمنون بكتابك ويقولون: هذا كتابٌ ناقص، إذاً فإنهم يقولون: إن الله لم يحفظ القرآن، وأنت يا رب العزة والجلال تقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
فالله يحفظ كتابه، وهم يقولون: إن القرآن لا يحفظ، اللهم إنهم يسبون صحابة نبيك، اللهم عليك بهم، اللهم فعجل زوالهم، اللهم عجل زوالهم وفناءهم، اللهم لا تحجب دعاء المسلمين فيهم، اللهم قد نما زرع باطلهم وترعرع، اللهم هيئ له يداً من الحق حاصدة تحصد زروعهم، وتستأصل شرورهم بقدرتك وجبروتك يا رب السماوات والأرض.
اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وآتنا صحفنا باليمين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين، وأدخلنا الجنة، وأدخلنا الجنة، وأدخلنا الجنة بسلامٍ آمنين أول الداخلين.
اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك، وزوال نعمتك، وتحول عافيتك، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تعذبنا بما اجترح السفهاء منا، اللهم ارحمنا فأنت بنا راحم، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً وهبته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم انصر إمام المسلمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، وجنبه بطانة السوء، اللهم أصلح ووفق إخوانه وأعوانه، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، اللهم وحد صفهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم لا تقرب لهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، ولا تفرح عليهم كائداً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجز والدينا عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم افسح على أهل القبور قبورهم، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم إنا نسألك توبة قبل الموت، وراحةً عند الموت، ونعيماً بعد الموت.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلملوا تسليماً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(115/6)
العناية بشئون المساجد
إن الله جل وعلا قد عظم شأن المساجد ورفع منزلتها وقدرها، وعظم منزلة المشائين إليها، ولما كان اهتمام جل المسلمين بعمارة المسجد حسياً كان لابد من بيان أهمية عمارتها المعنوية، وهو ما بينه الشيخ في هذه المادة، واذكراً آداب المساجد وضرورة العناية بها.(116/1)
فضل المساجد
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
معاشر المؤمنين: لا يخفاكم أن الله جلَّ وعلا قد عظَّم شأن المساجد، ورفع منزلتها ودرجتها، وعظم منزلة المشَّائين إليها، فقال جل وعلا مضيفاً هذه المساجد إلى نفسه إضافة تشريف ورفعة، جل من قائلٍ عليما: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
وقال جل وعلا في بيان أولئك الذين يعتنون بالمساجد ويقيمونها إقامةً حسيةً ومعنوية: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
فيا عباد الله: هذه بيوت الله جل وعلا، قد رفع منزلتها وجعلها مهابط رحمته ومتنزل ملائكته، بل تكفل الله جل وعلا على لسان نبيه برفعة الدرجات وتكفير الخطايا والسيئات بالمشي إلى المساجد، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً: (بشر المشَّائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة).
لم هذا كله يا عباد الله؟! لأن المشي إلى المساجد، ولأن إقامة الصلاة في المساجد، ولأن عمارة المساجد بالصلاة مع الجماعة فيها ركنٌ عظيم من أركان الإسلام، ولذا فلا عجب ولا غرو أن تكون هذه المنزلة العظيمة لمن قام بحق هذه المساجد، وعرف قدرها بمعرفته قدر الله جل وعلا بتعظيمها ورفعة منزلتها.(116/2)
عمارة المساجد وأنواعها
أيها الأحبة: لسنا بحاجةٍ إلى بيان مزيدٍ من الأحكام المتعلقة بالمساجد؛ كأن لا يمكث فيها الجنب، وألا تمكث فيها الحائض وإن كان يجوز لها المرور بها، وألا يدخلها ويقربها من أكل ثوماً أو بصلاً لئلا يؤذي المسلمين إلى غير ذلك من الأحكام.
لكن يهمنا أيها الإخوة! حكم من أهم أحكامها ألا وهو عمارتها؛ عمارتها الحسية، وعمارتها المعنوية.(116/3)
عمارة المساجد الحسية
فأما عمارتها الحسية، فإن الله جل وعلا قد أذن برفع هذه المساجد وتشييدها وبنائها، يقول سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاةٍ بنى الله له به بيتاً في الجنة) وكلكم لا يخفاه هذا القدر، من البناء الحسي للمساجد وتشييدها، ولكن الأمر المهم أيضاً هو أن نهتم بالبناء المعنوي لهذه المساجد.(116/4)
عمارة المساجد المعنوية
ونعني بها اهتمام المجتمعات الإسلامية بمساجدهم، إن طوائف كثيرة من المسلمين يظنون أن المسجد فقط للأذان، ثم للإقامة، ثم للصلاة، ثم تغلق أبواب المساجد بعد ذلك، لا والله! ما شيدت المساجد لكي يستفاد منها أربع ساعات أو خمس ساعات في اليوم والليلة فقط، بل شيدت لتكون مساراً للذاكرين والتالين والقارئين وطالبي العلم والمتعلمين والمتفقهين والدارسين، إن هذه المساجد شيدت لكي يفزع ويضرع إلى الجلوس فيها لمناجاة الله جل وعلا من هَمَّ بمحاسبة نفسه؛ لكي يخلو فيها مع نفسه خلوة تدبرٍِ واستغفارٍ ومحاسبةٍ وتذكر، فلو أن كل المساجد لا تفتح إلا في ساعاتٍ معينة من اليوم والليلة فقد حصرت مكانة المسجد في الأذان والإقامة والصلاة، إنما مكانة المساجد أن تكون خلية نحلٍ يرد الناس إليها ويصدرون عنها، مليئة عقولهم وأفئدتهم بالذكر وبالعلم النافع والمواعظ الحسنة.
فيا عباد الله: انتبهوا لهذا الأمر المهم انتبهوا لهذا الدور العظيم للمسجد، إن كثيراً من مساجدنا لا نرى لها دوراً إلا الصلاة والنداء والإقامة فقط، فلو فتشت في جنبات المسجد فلن ترى فيه مكتبةً تضم أهم الكتب النافعة، وأمهات كتب مذاهب الإسلام العظيمة، وكتب الحديث والتفسير، والفقه والعقيدة، لوجدتها خلواً من هذا العلم العظيم، ولو تأملت هل يوجد فيها من الأشرطة السمعية النافعة فيما حوته من كلام العلماء الثقات الأجلاء لوجدتها خلواً من هذا كله.
إن هذين الأمرين لمن أهم الأمور التي ينبغي أن نعتني بها، وأن نقررها ونثبتها في مساجدنا، لكي تكون المساجد خليةً يرد إليها كل منهوم لعلم، ويصدر عنها ريان النفس والفكر، عبقاً بالمواعظ والنفع والفوائد والأحكام.
فانتبهوا لذلك -يا عباد الله- وتفقدوا مساجدكم، فأي مسجدٍ ترونه خلواً من هذا فاعتنوا بعون الله جل وعلا على إنشاء المكتبة النافعة، سواء كانت داخل المسجد أو في جنبة من جنباته، أو خارج المسجد أو قربه، المهم ألا يخلو المسجد من مكتبةٍ إسلاميةٍ نافعة، مكتبة مقروءة، ومكتبة مسموعة.
كذلك أيها الأحبة في الله: ينبغي ألا تخلو المساجد من حلقات الذكر، وحلق تعليم القرآن الكريم، وفي هذا المقام نشكر الله جل وعلا، ثم نشكر الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن، التي كان لها دور عظيم منذ سنين عديدة، كان لها الأثر السباق، وكان لها الفضل الأجل بعد الله جل وعلا في تأسيس كثيرٍ من هذه المدارس الخيرية، فجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
أيها الأحبة في الله: إن كثيراً من المسلمين يعتنون ببناء المساجد، ولكن المؤسف حقاً أن ترى ملايين طائلة قد بذلت وأنفقت وصرفت في بناء مسجد واحد، وما زالت مناطق أخرى يصلي الناس فيها تحت البناء البدائي من الحجر والسقف المخشب ونحو ذلك، فلو أن من قام ببناء مسجدٍ أنفق عليه هذه الملايين الطائلة قسم هذه المبالغ لكي يبني بها عدداً أكبر من المساجد لنال بذلك خيراً عظيماً، واعلموا أن أهم ما تحتاج إليه المساجد، إن كان من الجوامع أن يكون في مكانٍ محاطٍ بالفسحة والرحبات الواسعة من جوانبه، لكي يتمكن الناس أن يجتمعوا فيه، ولكي يكون أهلاً أن يجمع فيه، أما ما نراه اليوم من كثرة مساجد الجمع فهذا فيه مخالفةٌ للسنة، وإن كان الأمر قد اضطر القائمون إليه اضطراراً لعدم التقدير الدقيق، وهذا ليس راجعاً إليهم، لأن المناطق لا تعلم سلفاً من سيجتمع فيها ومن سيفترق عنها، إلا أن من الواجب أن تقلل الجوامع، وأن تكون مركزيةً، ففي كل جهةٍ وفي كل منطقة، عددٌ محدودٌ من الجوامع والمساجد حتى نعتني بتطبيق السنة في أمر الجمعة، أما ما نراه في كثيرٍ من الناس، ومطالبتهم وإصرارهم وإلحاحهم على كثيرٍ من المسئولين بأن تكون مساجدهم مساجد جمعة، فهذا ليس بسبيل، وليس هذا في طريقٍ مشروع، فالواجب أن نعتني بالسنة، وأن نجتهد في معرفة الجوامع معرفةً دقيقة، وأحكامها، وما ينبغي لها، ومواقعها، ولو كان ذلك على حساب التجميع في مساجدنا التي نعلو بها، أو التي نعتني بها، فنسأل الله أن يمن على القائمين بهذا الأمر، وأن يلتفتوا إليه التفاتاً مهماً.
أيها الأحبة في الله: إننا ينبغي أن ندرك أن عمارة المسجد بإقامة الصلاة فيها من أهم الأمور، إن كثيراً من الناس قد يعمرون مساجد لا يشهدونها، ويقيمون بيوتاً لا يصلون فيها، إن أهم عمارة للمساجد أن يجتمع الناس للصلاة فيها، وإن المساجد في هذا الزمان لتشكو إلى ربها هجر المصلين، لتشكو إلى ربها ضعف المسلمين من العناية بعمارتها، والصلاة مع الجماعة فيها، وليسأل كل واحدٍ منكم نفسه، فَسِّروا واشرحوا وعللوا؛ لماذا لا ترون صفاً مكتملاً أو صفين مكتملين في صلاة الفجر؟! أين أولئك الذين يملئون المساجد؟ هل عرج بهم إلى السماء أم خسف بهم باطن الأرض؟ أم خطفت أرواحهم في ليلةٍ واحدة؟! إنه لأمرٌ عجيب غريب والله يا عباد الله!! وما الجواب في ذلك إلا ضعف العناية بعمارة المساجد، وضوى الجهل بالفضيلة الجليلة العظيمة بالمشي إلى المساجد، حتى ولو كانت بعيدة، فإن كل خطوة إلى المسجد يخطوها العبد لترفع له بها درجة ولتحط عنه بها خطيئة.
جاء بنو سلمة يريدون أن يقتربوا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن دُورَهُم بعيدة شيئاً ما عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) والتقدير: الزموا دياركم وابقوا في أماكنكم، ولا تُقرِّبوا مساكنكم؛ لأن الآثار والخطا لتشهد لمن قام بها عند الله جل وعلا يوم القيامة.
إن الأزقة والطرقات لتشهد عند الله جل وعلا: لفلان بن فلان يوم كان يعبرها متجهاً في طريقه إلى المسجد، والملائكة تشرح له جنبات الطريق، فلم هجر المساجد؟! ولم هذه الجفوة عن صلاة الفجر خاصةً في المساجد؟! اسألوا وتواصوا وتناصحوا ومروا بعضكم بالمعروف وتناهوا عن المنكر، واعمروا بيوت الله بأجَلِّ فريضةٍ من فرائض الله ألا وهي الصلاة بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(116/5)
وجوب التزين للمساجد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
يقول الله جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
أيها الأحبة في الله: إن كثيراً من الناس لا يعتنون بأمر الزينة عند المساجد، ولا يعتنون بالهيئة والملبس والشخصية والصفة عند المساجد، وهذا أمرٌ ينبغي ألا يتفق وألا يقع عند المسلمين، ينبغي أن نعرف للمساجد قدرها ومكانتها، لو أن واحداً أراد أن يتابع أمراً من أموره في دائرةٍ عليا من الدوائر، لتراه تطيب بأحسن طيبٍ، ولبس أحسن حلة، فالله جل وعلا أحق من تزين له، كما قال ذلك ابن عباس، فينبغي أن نتزين لمقابلة الله، وللقاء الله سبحانه وتعالى.
ألا وإن من الأمور التي وقع فيها كثيرٌ من الناس، أن تجدهم يشهدون صلاة الفجر بثياب باليةٍ، أو بثياب خلقةٍ، أو بثيابٍ كلها من الروائح التي تؤذي المصلين والمسلمين، فهذا مما لا ينبغي، فصلاة الفجر كغيرها من سائر الصلوات ينبغي أن نستعد لها بالزينة المناسبة، وأن يجعل الإنسان ثوب الصلاة أبهى حلة، وهو ثوب مقابلة أجل حبيبٍ يحبه، لا أن يكون بيت الله أهون الأماكن في المقابلة بالنسبة له، ولا أن يكون الله هو أهون الناظرين إليه، فينبغي له أن يعتني بذلك، وأن يلبس الحلل الجميلة البهية الزاهية، لكي يشهد بها الصلاة في المسجد.
أرأيتم لو أن كل واحدٍ اعتنى بتطييب نفسه، ولبس أبهى حلةٍ من حلله يوم أن يتوجه إلى المسجد، أتجدون رائحةً خبيثة؟ أترون زيَّاً خَلِقاً؟ لا والله يا عباد الله! ثم ما الأمر إذا اجتمعت هذه الروائح العبقة العطرة الطيبة في بيتٍ من بيوت الله، ترى المصلي يتمنى أن يمكث في هذا البيت في جوٍ تملؤه الملائكة، والروائح العطرة الطيبة عبقةٌ في جنباته، أما من دخل المسجد وقد شم الروائح الكريهة والخبيثة من الدخان والعرق والأوساخ وغيرها، فكيف يحلو له أن يبقى في هذا المسجد؟ وكيف يطمئن للمكث أو الاعتكاف أو البقاء فيه؟ فينبغي أن نعتني بذلك.
ألا وإن مما تركه الناس في هذا الزمان، ترك التزين لصلاة الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم) وقال صلى الله عليه وسلم: (من غسّل واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ومس ما تيسر من طيبه، وجلس وأنصت ولم يَلْغُ، غفر له ما كان في جمعته السابقة، أو ما كان منه) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فيا عباد الله: ينبغي أن نعتني لصلاة الجمعة بمزيدٍ من النظافة، ومزيدٍ من الحلل، كان الناس في العصر القديم، بل في العصر القريب أيضاً، لا يخرجون إلى صلاة الجمعة إلا وما يسمى بالمشالح أو البشوت كلٌ يرتديها، ومن خرج إلى الجمعة ولم يرتدِ عباءته أو مشلحه نظر الناس إليه نظرة قصورٍ أو نظرة انتقاد، لأنها فريضةٌ ينبغي أن يتزيّ الناس وأن يتزينوا لها، فالتفتوا لذلك -يا عباد الله! - واعتنوا بذلك، والبسوا مشالحكم، وبشوتكم، وأبهى حللكم للحضور لصلاة الجمعة، لكي نبرز هذا اليوم الذي هو عيد الأسبوع، ولكي يرى الناس ويرى الوافدون، ويرى القادمون، ونري ربنا قبل ذلك تعظيماً منا لهذه الشعيرة العظيمة، فالتفتوا لذلك ولا تتغافلوا عنه، ولا تظنوا أن هذا الزي -وأعني به: العباءة- أو المشلح هو قصرٌ على العلماء، أو الأمراء، أو على المشايخ، بل هو زينةٌ ينبغي لكل مسلمٍ أن يتزين بها، وأن يلبسها، وأن يحضر بها ما تيسر له من المناسبات، لأنه زينة القوم في هذا الزمان، والله جل وعلا يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] فالحاصل أن هذا من الأمور التي غفل عنها كثيرٌ من الناس.
وفي القديم -القريب ليس البعيد- كان النادر من لا ترى عليه عباءة، والآن تجول ببصرك في الجوامع والمساجد، لا ترى في أربعة من الصفوف أو خمسة إلا واحداً أو اثنين قد لبسوا عباءاتهم، فلم هذا البخل على هذه الفريضة الجليلة؟ وإن كل واحدٍ بحمد الله ومنّه، لا يعجزه أن يوجد في بيته هذا الزي الجميل، فالتفتوا لذلك واعتنوا به عباد الله.(116/6)
الاهتمام بالمساجد مسئولية الجميع
أيها الأحبة: إن من النعم العظيمة على هذه الأمة، أن المساجد لها هيئة، ووزارةٌ، وجهةٌ مسئولة تقوم بخدماتها وحاجتها وصيانتها وتأمين كل ما يلزمها، فهذه من النعم التي تفردت بها هذه البلاد دون غيرها من كثيرٍ من الدول، فالحمد لله الذي فضلنا على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ويبقى أن يتحد الناس ويجتمعوا لمعرفة مصالح مساجدهم، فإن كان المسجد يحتاج إلى شيءٍ من التكييف طالبوا وذهبوا وراجعوا واتصلوا من أجل إثبات ذلك، لا أن يقول جماعة: هذه مسئولية الإمام، أو هذه مسئولية المؤذن، لا وألف لا.
كمسجد الحي، كل واحدٍ من أفراد الحي مسئولٌ عن نظافته وزينته، وعن مرافقه وخدماته، فينبغي أن نعتني بذلك عنايةً عظيمة.
وإن من نعم الله على هذه الدولة أنك لا ترى أضرحةً ولا قبوراً ولا مزارات قرب المساجد، فهذه نعمةٌ من نعم الله جل وعلا، خلافاً لما عليه الأمر في كثيرٍ من دول العالم، حيث يندر في بعضها أن ترى مسجداً إلا وفي قبلته ضريح، أو في جنباته قبرٌ أو قبورٌ عديدة، فإنها نعمةٌ عظيمةٌ قد من الله على هذه الأمة بها، والفضل لله أولاً، ثم للشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، حيث قاموا بدعوة التوحيد التي طهرت أرجاء الجزيرة من أدران الشرك والوثنية.
أسأل الله أن يديم علينا النعمة والأمن والطمأنينة في هذه البلاد، وأن يجعل مساجدنا حيةً عطرة بحلقات الذكر ومجالس تعليم القرآن، والندوات والمحاضرات والتذكير، والنفع العام لعموم المسلمين أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر عبادك الموحدين، اللهم انصر عبادك الصالحين المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وانصر اللهم المجاهدين في فلسطين، وارحم اللهم المستضعفين، اللهم ارفع الكربة عنهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم اجمع شملهم، ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم، وسدد رصاصهم في نحور أعدائهم يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلى شفيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مريضاً إلا شفيته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً طبقاً، مجللاً غير ضار، اللهم أسق العباد والبهائم والبلاد بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا فضلك، ولا تمنع عنا بمعاصينا رحمتك، اللهم إن عظمت منا الذنوب فإن الرحمة منك أعظم وأكبر يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(116/7)
العولمة والتحديات المعاصرة [1]
العولمة خطر يداهم ديار المسلمين، بهدف غزوهم فكرياً وإعلامياً وثقافياً، ولابد للأمة الإسلامية أن تعرف ما يحاك لها من المؤامرات، فالعولمة إنما هي نقل لمعتقدات الغرب وممارساته الشاذة إلى بلاد المسلمين، إنها نقل للإباحية إلى بلاد العفة.(117/1)
الدين الإسلامي صمود وشموخ
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: على مشارف القرن الواحد والعشرين وقبل بزوغ فجره بسنواتٍ، يحسن أن نقف على حقيقةٍ مهمةٍ وقضيةٍ خطيرة، وهي أنه يمضي على ظهور هذا الدين أكثر من أربعة عشر قرناً هجرياً لم يضعف ولم ينحرف ولم يضل الطريق، بل يزداد قوةً ومضياً وعطاءً وكثرة أتباع، دينٌ لا يمكن أن يقضي عليه خصومه، أو يوقفون حركته كما يظنون أو يتوهمون؛ تلك أمانيهم وما يضمرون، فبئست من أمانٍ وخسأت من منون.
أربعة عشر قرناً وأمة هذا الدين تجابه التحديات الخطيرة، فتستجيب لها وتخرج منها ظافرةً مرفوعة الرأس، عالية الراية، قامتها فوق الهامات وأهدافها فوق الأهداف، إن هذا الدين، قد واجه أصنافاً وألواناً من العداء والعدوان، مشركي الوثنية بقيادة الملأ من قريش اليهود المنافقين المرتدين أدعياء النبوة الزعامات الكاذبة رءوس الطواغيت في بلاد كسرى وقيصر الصليبيين المغول المستعمرين القدماء والمستعمرين الجدد، موجات إثر موجات يتكسر عنقها الشرس اللجوج على صخرة هذا الدين فترتد زبداً وغثاء، ولا يبقى إلا عطاء هذا الدين الذي ينفع الناس: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
أربعة عشر قرناً وهم يقاتلون هذا الدين، في محاولةٍ مديدةٍ متواصلة، لرد أبنائه عنه، لا يرضون له، أن يمضي إلى غايته التي رسمها له الله، ولا لأبنائه أن يختاروا طريقاً شرعه الله، أربعة عشر قرناً ونداءات القرآن تحذر وتنذر فما من لحظةٍ سيلقى فيها السلاح، أو يكف الخصم فيها عن البغي والكيد: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
فلتقر أعينكم، ولتقرَّ أعين أتباع هذا الدين في أنحاء الدنيا، ولترغم أنوف خصومه؛ فإن النصر لن يكون إلا لهذا الدين: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] تلك حقيقةٌ واضحة، وذلك أمرٌ ينطق به الوحي: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].(117/2)
النصر للإسلام
حقيقةٌ يؤكدها التاريخ، ويشهد لها أربعة عشر من قرناً من الصراع الذي لا يرحم، والنتيجة الواحدة التي لا تتغير أو تتبدل مهما عظمت التضحيات أو غلا الثمن، فالنصر للإسلام والانتشاء لنوره، هل ثمة من دين أو مذهب اجتاز رحلةً طولها أربعة عشر قرناً؟ أو حتى قرناً واحداً أو اثنين دون أن تتشعب به المسالك، أو تنحرف به الطرق، أو تضل به الأهداف.
عشرات الأجيال والمذاهب، قطعت خطواتٍ لكنها قصيرة، قصيرةً في الزمان والمكان، فما لبثت أن تعرضت لأكثر من محنة، فلم تصمد لها، بل ذابت شموعها أمام حرارة أعدائها، فتمزقت وتشتت وانحرفت عن الطريق وتفرق أتباعها شيعاً وأحزاباً.
لقد أكمل الله هذا الدين على يد رسوله الكريم ليكون دين البشرية الأخير، ومعنى هذا أنه دينٌ أُريد له أن يظل باقياً ما تنفس إنسانٌ على وجه البسيطة، دائماً ما طلعت الشمس من مشرقها، خالداً ما دامت السماوات والأرض، ولن يخشى عليه: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت حجر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الشرك وأهله).
طيلة هذه القرون التالية وإسلامنا وديننا وعقيدتنا وأمتنا تتعرض لتحدياتٍ أقوى ما جابهت في كثيرٍ من الأحيان، تواجه أعداءً يفوقونها عدداً وعدداً لكن هذا الدين دائماً هو المتصدي لتحدياتها لكن ديننا هو المتقدم بصدره لمجابهتها، المنتصر عليها في نهاية الأمر، وليس ثمة من لا يعرف ما فعله هذا الدين وأتباعه إزاء هجمات الصليبيين وغزوات المغول، رد أولاها على أعقابها، واحتوى الثانية فإذا بالغالب القاهر يتقبل ويقبل الانتماء للدين، الذي يتصور أنه غلبه ثم يخضع له ويطيع.
اسألوا المغول والتتار، جاءوا يريدون أن يبيدوا الإسلام وأهله، فانقلبوا جنوداً له يدينون به، يعتقدون عقيدته، نعم هي تجربةٌ تكاد أن تكون نادرة بين سائر التجارب في التاريخ، أن يخضع غازٍ لمغزو! أن يخضع غالبٌ لمغلوب! لكنها في حقيقة الأمر غلبةٌ لغير الغازي، وانتصارٌ لمن هجم عليه، والسر يكمن في عظمة هذا الدين.(117/3)
تحديات عظام تواجه الإسلام
واليوم وديننا يقترب من عقده الثالث من القرن الخامس عشر الهجري، وهو على عتبة القرن الحادي والعشرين الميلادي، يجد نفسه محاصراً بألف تحدٍ وتحد:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالث
هذا الدين وأمة هذا الدين تجد نفسها محاصرة، إن الاستعمار الجديد والمادية الملحدة يضيقان الخناق شيئاً فشيئاً بالغزو الفكري والتخريب الأخلاقي، والتدمير الاجتماعي، وتجويع الشعوب، والاستنزاف الاقتصادي، والصهيونية التي أقامت أشد العنصريات في التاريخ سلفاً ووحشيةً وأنانيةً وغروراً، تضع كافة إمكانياتها جنباً إلى جنب، تضع كافة ما أوتيت مع أتباعها وبعضهم لبعضٍ ظهير؛ لسحق هذا الدين وإبادة أتباعه، وإضعافهم أو شلهم على الأقل، وغير هؤلاء وهؤلاء عشراتٌ بل مئات من الضغوط والتحديات، تظن أنها ستهدم هذا الدين، أو ستخرج بنيانه أو تهد أركانه، والسؤال الذي ربما سأله بعض أبناء المسلمين: هل سيقدر هذا الدين هذه المرة أن يخرج من المعركة الطاحنة ظافراً ومنصوراً وأعداؤه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، ومن تحته أعداءٌ آخرون لا تعلمونهم والله يعلمهم:
وسوى الروم خلف جسمك روم فعلى أي جانبيك تميل
نعم.
إنه لمن البديهيات في عمر هذا الدين بالأربعة عشر قرناً وزيادة أن يخرج ظافراً منصوراً حيثما وجد نفسه في وضع المتحدي طال الزمان أم قصر، فالعبرة كما هو معروفٌ بنتائج الأمور وأخرياتها لا ببدايتها، والعبرة ليست بنقص البداية، لكن بكمال النهاية
والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كل عجيبة
هناك ضروبٌ وضروبٌ من التحديات القادمة، ليست جديدةً عن هذا القرن في مضمونها أو جوهرها وحقيقتها، لكنها ربما ظهرت بلونٍ جديد، وشكلٍ غريب، واسمٍ براق، وقال: ابن مضرم: يظن البعض أنها تحديات لا تقهر، لا تبارى ولا تجارى ولا تغلب، وقد نسوا أن الله قد أهلك أمماً هي أقوى من أمم الغرب التي صنعت عابرات القارات، والتي صنعت الغواصة والقنبلة، واكتشفت الحاسب، وبحثت عن أدق العجائب في هذا الكون، إن الله من قبل قد أهلك أمماً أشد منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم:9].
اسمعوا قول الله أيضاً: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13] {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6].
أو بعد هذا يبقى في نفس مسلمٍ شكٌ أو ريبٌ في أن الغلبة لهذا الدين؟ أو بعد هذا يبقى في نفس مسلمٍ شك أو ريبٌ أن ما بلغه الأعداء من تقنيتهم ومكتشفاتهم وحضارتهم، سيكون السلاح الذي به يقتلون، والمال الذي يفتك بهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
نعم.
ينفقون أموالاً طائلة على الطابور السادس، وأموالاً طائلة على شراء العقول، وأموالاً طائلة على إفساد الانتماء، وأموالاً طائلة على حربٍ لم تأت بدبابات زاحفة، ولا بطائراتٍ راجمة، ولا بقنابل منفجرة، وإنما هي حرب الفضاء، حرب الإعلام، حرب الصورة والكلمة، ينفقون أموالاً طائلة: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].(117/4)
العولمة وحقيقتها
أيها الأحبة! طالعتنا منذُ أيامٍ ليست بالقليلة، وما هي علينا بغريبة:
إذا بنيَّ ضرجوني بالدمِ
من يلق آساد الرجال يُكلمِ
شنشنةٌ نعرفها من أخزم
جاءونا بمصطلحٍ جديد اسمه العولمة! فما هي هذه العولمة؟ مصطلحٌ لا تزال كثيرٌ من القنوات، وكثيرٌ من وسائل الإعلام تردده وكثيرٌ من مؤسسات صنع العقول تطرحه وتسوقه إلى المثقفين خاصة، وغيرهم عامة، ما هو مضمون هذه العولمة؟ كلمة جميلة خفيفة على اللسان؛ لكنها تحوي من السم ما يفتك بكل إنسان.
ما هو مضمون هذه العولمة؟ اسمعوا وعوا يا عباد الله! حتى لا تُخدعوا بما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان: (يأتي في آخر الزمان أناسٌ يشربون الخمرة، يسمونها بغير اسمها) وسيأتي قومٌ ينطقون بالعولمة ويتلذذون بها، ويدعون إلى تسويقها، وفتح الأذرعة لاحتضانها، وفتح القلوب لاختزالها، وفتح العقول لتخزينها، وفتح كل شيءٍ يملكونه من أجل ما يظنونه مكسباً حينما يتعاملون معها وبها ولها.
مضمون هذه العولمة: أن يتحول العالم كل العالم إلى قرية كونية واحدة صغيرة، وهذا النمط المطلوب المقصود هو النمط الغربي بنموذجه المادي، تحول العالم إلى قريةٍ واحدة على نمطٍ واحد، في نمطٍ غربيٍ في نموذجه المادي المغرق بحب السيطرة، ومعنى هذا أنه من حق الأمة المسيطرة أن تسعى لفرض ثقافتها وسلوكها ومعتقدها ومصالحها، لماذا؟ ليروج بين حينٍ وآخر أن هذه العولمة ليست شراً محضاً، ففيها مصالح شتى، وفيها فوائد كثيرة، انتقال المعلومات، ونقل التقنية، وتزحلق رءوس الأموال اللازمة، لتنمية البلدان الفقيرة والنامية والأقل نمواً.
هذا ظاهر العولمة، ولكن ما هي شروط العضوية فيها؟! بل ما هي رسوم الاشتراك للدخول إلى مسرحها؟ التي يريد الغرب من أمة الإسلام أن يكونوا مطنطنين مطبلين مقلدين لكل ما فيها!! العولمة أيها الإخوة: لا تعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والمعلومة والشركة والسلوك والثقافة، لا تعني انتقال هذه الأمور منفردةً مستقلةً واحدةً تلو الأخرى لتختار منها ما تشاء! وترفض ما لا ينبغي! وما لا يجوز! وتطرد ما يضر ويهلك، لا.
العولمة جملةٌ متسقة متناغمة مرتبطٌ بعضها ببعض، تطبيعٌ في العقول وفي القلوب، وفي الاقتصاد، وفي الإعلام، بل وخلط للعقائد مع المبادئ مع الأخلاق مع العادات مع المذاهب، مع الآراء، مع النظريات.
كما قال الساقط قريبا في مبدئه المسمى: بـ الشتيلا ( Balshtella) اخلطوا عقائد الأديان الخمس، واجعلوها مزيجاً واحداً، لا تجد صراعاً على وجه الأرض: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] ولا يمكن أن تتلوث عقيدة نقية بوحيٍ معصوم مع عقائد محرفة أو أفكارٍ من زبالة أذهان البشرية.
إن العولمة تعني أن يقدم هذا الطعم كله جملةً واحدة، لا خيار لا خيار لا إرادة لا خيار في الانتقاء فيه، إن العولمة تعني أن تقبل الحاسب مع الموضة، وأن تقبل التقنية مع الثقافة، وأن تقبل النظرية الفيزيائية والكيميائية مع الذوبان الاجتماعي، والانصهار الأسري، والانحطاط الأخلاقي، والتردي فيه مستنقعات الرذيلة، إنها قضيةٌ لا تحتاج إلى ذكاءٍ شديدٍ لنعرف حقيقتها، بل ذكاءٌ فطريٌ يسير، يكفي لتعرف أن العولمة هي الثقافة الغربية النصرانية المادية الكافرة في نموذجها الأشد فجاجةً، والأشد غطرسةً وتعالياً.
العولمة: كلمةٌ رقيقة، لكن أنيابها مفترسة، ومخالبها جارحة، دمرت الاقتصاد في دول شرق آسيا، ونظمت مؤامرات المرأة والسكان، والبقية قادمة.
العولمة: هي التي جعلت النمور الأسيوية تعيش مرحلةً في هزة اقتصادية غريبة وعجيبة، ونسأل الله أن يجعل العاقبة خيراً للإسلام والمسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(117/5)
حاجة الأمة الإسلامية إلى إدراك ما يحاك لها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ في الدين بدعة، وكل بدعةٍ في دين الله ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها المسلمون إننا بحاجةٍ إلى مسلمٍ ذكيٍ واعٍ منتبهٍ يقظ ملتفت لما يحاك حوله من مؤامرات، ولما ينصب حوله من فخاخ وشباك، إننا بحاجةٍ إلى مسلمٍ يعتز بدينه، ويدرك حجم المؤامرة على بيته ونفسه وأولاده ومجتمعه، وولاة أمره وأمته، إننا بحاجة إلى مسلمٍ يمارس دوره الذي أكرمه الله به، وشرعه الله له، أما ما تراه من غثاءٍ أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلةٍ نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن وينزع الله المهابة من صدور أعدائكم منكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
أيها الأحبة: الحديث عن العولمة وعن خطرها له بقيةٌ في جمعةٍ قادمة، أسأل الله أن يبصرنا لنرى الأمور بعين البصائر والأبصار، لنرى الحق حقاً ونسأله أن يرزقنا اتباعه، ولنرى الباطل باطلاً ونسأله أن يرزقنا اجتنابه، وألا يجعله مشتبهاً علينا فنظل ونخزى، ولا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم آمنا بدورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أهد إمامنا وولي عهده وأصلح حالهم واجمع شملهم، ولا تفرق كلمتهم، وأعنهم وأصلح حالهم مع إخوانهم، ربنا لا تفرح علينا ولا عليهم عدوا، ً ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك بطاعتك وإعلاء كلمتك يا رب العالمين،.
اللهم توفنا على أحسن حالٍ يرضيك عنا، اللهم عاملنا بعفوك، وجازنا بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم اغفر لنا زللنا وهزلنا وجدنا وعمدنا وخطأنا وما أنت أعلم به منا، وما قدمنا وما أخرنا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم اجعل هذه الأيام القادمة، وهذا الفجر الجديد على المسلمين في إندونيسيا، فجراً يشهد لهم بمزيد تمسكٍ بالإسلام، واجعله اللهم فجراً قادماً يرفع الظلم عن المظلوم، واجعله اللهم فجراً مؤذناً بنصرٍ يجعلهم أمتةً واحدة، يواجهون الكنيسة والنصرانية والتبشير، اللهم أصلح حالهم، واجعل اللهم قوتهم خدمةً للإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وآله وصحبه.(117/6)
العولمة والتحديات المعاصرة [2]
العولمة فرض لكل ما يريده الغرب في بلاد الإسلام، فهي هدف للغرب، لذلك كان لابد لأصحاب هذا الهدف من وسائل تعينهم على تحقيق هدفهم، ومن أهم وسائل العولمة: القنوات الفضائية الإنترنت المؤتمرات المنعقدة في شتى البلدان تحت مسمى العولمة، فإذاً: واجب على شباب الإسلام ودعاته وعلمائه أن يقفوا يداً واحدة أمام هذا التحدي المسمى اليوم بالعولمة.(118/1)
العولمة فرض لإرادة الغرب على العالم
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: مر بنا في جمعةٍ ماضية الحديث عن تحدياتٍ معاصرة وقادمةً لا زال الغرب يحيكها، ويتربص بالمؤمنين، الدوائر كي يوقعهم في حبائلها وفخاخها، ولئن تغيرت أساليب الحرب، واختلفت ألوان العداوة، وتغيرت أنماط التحدي في هذا العصر، إلا أن الحقيقة هي الحقيقة، ما تغيرت ولا تبدلت: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
آيات القرآن تترى محكمةٌ ثابتة تؤكد هذه المبادئ التي هي من صميم الحرب الدائمة الباقية بين الإسلام والشرك بين التوحيد وبين الهدى والجاهلية، وإن تصافحت الأيادي وظهرت الابتسامات على الشفاه أو تنوعت الكلمات والتصريحات:
قد ينبت المرعى على دمر الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
من أواخر الصيحات والصرخات التي أطلقها الغرب مدويةً فاستقرت في قلوب بعض أذنابهم من المسلمين وغيرهم من المغرورين المخدوعين بأقوالهم وشعاراتهم، كلمة العولمة وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن هذا الضرب الجديد من التحدي.
ولا تزال وسائل الإعلام الفضائية، ومؤسسات صنع العقول، تطرحه وتسوقه إلى المثقفين خاصة، ومضمون هذه العولمة: تحول العالم إلى قريةٍ كونيةٍ أو عالمٍ واحد، لكن هذا التحول في مقاصده وأنماطه يصب في النمط الغربي بنموذج المادي المغرق في حب السيطرة، ومعنى هذا أنه من حق الأمة المسيطرة أن تسعى لفرض ثقافتها وسلوكها ومعتقدها ومصالحها على غيرها من الأمم.
العولمة أيها الإخوة: لا تعني انتقال البضائع والخدمات والنقد والتقنية والمعلومات والشركات والسلوك والثقافة، لا تعني انتقال هذا منفرداً عن الآخر لنختار منه ما ينفعنا، ولننبذ ما لا ينفعنا أو لنرفض مالا يجوز، كلا.
إنها تعني أن يقدم لك ذلك كله، فاقبله جملةًَ أو عش في ضمير التاريخ وذاكرته متخلفاً مع القرون الرجعية البائدة الحجرية، هكذا يرددون ويقولون.
أيها الأحبة: اتجاه العولمة استمرارٌ لاتجاهات السيطرة الغربية على بقية العالم، بل والعالم الإسلامي والعربي خاصة، ولئن كانت هذه الكلمة كلمةً جديدة، لكن مضمونها قديمٌ ومعانيها معلومة، لكن الجديد فيها: أنها كلمةٌ بعبارات ملطفة، تقلل الأثر البشع لها.(118/2)
بدء حركة العولمة
أيها الأحبة في الله: إن العولمة ما هي إلا استمرارٌ لتحركات الغرب لإخضاع الآخرين، هي هي تلك التحركات التي بدأت بغزوات الإسكندر المقدوني، أو تحركات الصليبين الغزاة، مروراً بكل حربٍ خاضها الإسلام مع الشرك والجاهلية، وانتهاءً إلى معركتنا الكبرى اليوم مع الإمبريالية الحديثة، وما تخلل ذلك من التحركات والمطلوب أيها الأحبة: ألا يستسلم أبناء المسلمين، وألا تستسلم أمة الإسلام، وألا تخدع بهذا الشعار الذي خفيت حقيقته، وزورت هويته، وجاء عبر الصوت والصورة والكلمة، وقد كان من قبل يأتي عبر الجندي والدبابة والطائرة والقنبلة، هذه الحرب الجديدة بشعارها المستحدث الجميل، يعني أو يزعم أو يصور أن العالم سيغدو متحداً يحمل ملامح متشابهة، ويحكمه نمطٌ اقتصاديٌ واحد، هو نمط اقتصاد السوق الرأسمالي الغربي، وتقوم مناهج التربية والتعليم فيه على أساسٍ واحد هو أساسٌ غربي صرف، بمعنى فصل الدين عن الحياة والتربية، وما ظنكم لو أن شعباً أو أمةً أو دولةً أرادت أن تستقل أو تنفصل أو تسير بركاب أمتها وشعبها في مساره، بعيداً عن هذه العولمة، وبعيداً عن هذا التحدي، فالويل لها إن صراحة أو ضمناً، إن تلميحاً أو تلويحاً، إن تصريحاً أو كناية، إذا جاهد شعبٌ بإعلان انتمائه واتباعه لأنماط سلوكٍ اقتصاديٍ أو تربويٍ أو تشريعيٍ أو إعلاميٍ يخالف ما أراده الغرب في ظل هذه العولمة المعاصرة، شنوا عليه النكير، شن عليه الغرب بدوله الثمان أو العشر أو الأكثر أو الأقل، شنوا عليه النكير، بدعوى مخالفة بقية القطيع البشري، والشذوذ عن الأعراف الدولية، وما يسمى بحقوق الإنسان، ألا تعلمون أنكم في هذه البلاد ومنذُ زمنٍ ليس بالقليل محل الرفض، ومحل عدم الرضا، ومحلُ عدم القناعة، من أجل ماذا؟ من أجل سارقٍ تقطع يده، أو مجرمٍ قاتلٍ سفاكٍ يقطع رأسه، أو لأجل حدٍ من حدود الله يقام، لا تزالون إلى هذه الساعة صورةً مرفوضةً أمام الغرب، ولقد رأيتُ بأم عيني مجلةً ألمانية اسمها مجلة سبيجل على غلافها صورة ميدان الصفاء بجوار الجامع الكبير، وصورة الصياح الذي قطع رأس مجرمٍ قد تدحرج رأسه قريباً من جثته، والدماء سائلةٌ من جثة ذلك المجرم، وقد عبروا بكلماتهم الغربية وعباراتهم الحاقدة، كيف يجوز هذا في عصر العلم والحضارة؟!(118/3)
وسائل محاربة الإسلام بالعولمة
أيها المسلمون! إن أمة الإسلام على اختلاف درجات تمسكها بدينها تواجه حرباً، ولن يرضى الغرب أو الأعداء بقليلٍ أو كثيرٍ أو نوعٍ من التساهل والمجاملة، لكنهم لا يرضون إلا بالتبعية لا يرضون إلا بالذنبية لا يرضون إلا بمبدأ القردة والببغاوات التقليد والترديد، وما سوى ذلك فمرفوض، قال الله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
أيها الأحبة: وتشن هذه الحرب الشرسة، بالعبارة الحريرية الناعمة، عبارة العولمة تحت شعار حقوق الإنسان، تحت عبارة الشذوذ والمخالفة للأعراف الدولية، والويل كل الويل، الويل جملةً أو الويل تفصيلاً أو الويل تدريجاً أو الويل مجزأً أو متفرقاً، من جانبٍ واحدٍ أو من جوانبٍ شتى، الويل لأمةٍ تخالف ما أراده الغرب، وتخالف ما سنته وشرعته من قوانينها، نعم -أيها الأحبة- من خالف ذلك -في زعمهم- فهو أصوليٌ إرهابيٌ متطرفٌ لا يمكن أن يعيش في هذا العصر، ولا ينبغي أن تبقى له بقيةٌ أو تقوم له قائمة.
يا أيها المسلمون: إن معركة العولمة قائمةٌ ولا يزال شرها يسري ويجري، وما مؤتمرات السكان التي عقدت في القاهرة وفي بكين إلا مؤتمراتٌ تحضيرية، وجسُ نبضٍ لإعداد قوانين رادعةٍ في المستقبل، تسلط على كل سلوك مخالف، وتردع كل من يخالف شريعة الغرب في إباحية السلوك الجنسي قبل الزواج، وإباحية الإجهاض والتحديد القسري للنسل، بل وإكرام وتدليل الشاذين جنسياً، ومنع أي لونٍ من ألوان التمييز منهم أو الإنكار لسلوكهم، بل وكل من تحدثه نفسه لمعارضة هؤلاء الشاذين، عوقب وجرى إقصاؤه عن بقية القطيع البشري تماماً تماماً كما جرى لدعاة الفضيلة الأوائل، وذكر القرآن شأنهم في خبر قوم لوط: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
أصحاب قرية العولمة، يقولون لكل طاهر، ولكل عفيف، ولكل مسلم، ولكل متمسكٍ بالشرع، ولكل مقيمٍ للحج، ولكل من يصر على فصل الرجال عن النساء، يقولون له المقالة الأولى: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56] أخرجوهم من عالم العصر والحضارة والمدنية والتقنية، واجعلوهم هنوداً حمر أو متخلفين في ذاكرة التاريخ وعصوره الحجرية، هل تدركون هذه الحرب؟ هل يعلم شبابنا بهذه القضية؟ شبابنا الذين أهلكوا أوقاتهم أمام قنواتٍ فضائية وقنوات غنائية، وقصص غرامية، ومغامرات ومطاردات ومصارعات غريبة وعجيبة، هل يدرك شبابنا حجم هذا التحدي وحجم هذه المعركة المعاصرة؟ إن القليل من القليل يدركون ذلك:
وقد كانوا إذا عدو قليلاً فقد صاروا أقل من القليل(118/4)
عقد مؤتمرات تحت مسمى العولمة
أيها الأحبة: المؤتمرات الدولية والمؤامرات هي التي جعلت النمور الأسيوية ترزح تحت وطأة اضطرابٍ في سياساتها النقدية، وفي أوضاعها الاقتصادية؛ لأن ثمة دول أرادت أن تحذو حذو اليابان في مواجهة المعركة المعاصرة، لتخرج بالمعركة من الدبابة والقنبلة إلى الآلة والمصنع وعوامل الإنتاج، فالتفت الغرب لذلك مبكراً، وأرادوا أن يلقنوها درساً لا تنساه هي، بل لا ينساه كل من أراد أن يخرج من دور الحلقات المفرغة في إطار التبعية والبقاء في حاجة إلى الغرب، وكل مجموعةٍ إسلامية أرادت أن تنهض وأن تظهر، وأن تكبر في ظل استثماراتٍ إسلاميةٍ نظيفةٍ طاهرةٍ نقية فالويل لها من الغرب أيضاً، وسرعان ما توجه لها أنواع التهم مباشرةً أو بواسطة العملاء، ليقال إنها شبكات لتمويل الإرهاب، لماذا؟ لا يريد الغرب أن ينقطع الربا عن الأرض، لا يريد الغرب أن يستمتع الناس باستثمارٍ حلال ولقمةٍ حلال وتجارةٍ حلال، وتصنيعٍ وإنتاجٍ حلال، لا يريدون ذلك أبداً، والمقام يضيق عن ذكر الشواهد.(118/5)
العولمة ووسيلة الإنترنت
أيها الأحبة: إن من وسائل العولمة، ما ضج به كثير ممن لا يعلمون أبعاده فرحاً به، ألا وهو مسألة شبكة الإنترنت، وهي فرعٌ عن قضية العولمة، بل وسيلةٌ من وسائلها، إنها تبدو بحجمٍ ضخمٍ في ذاتها، وكأن هذه الشبكة خطرٌ مستقل، والحقيقة أنها من أكبر أدوات العولمة، ومنها ينهال على العالم شرها الوبيل، في مواد ضارة على رأسها وأعلى قائمتها: الصور الجنسية الإباحية، التي تتيح للطالب وهو بجوار سريرة، أو على مقعده الدراسي في غرفته، أن يفتح نافذةٍ إلى الحانات والبارات والأفلام الخليعة والصور الجنسية، ليجعل من بيته في بلدٍ وإن كانت موحدةً تضج المآذن فيها بالتكبير، ليجعل من شاشته هذه في بيته المجاور للمسجد، حلقة ًونافذةً للعيش مع الغرب في حاناتهم وباراتهم ودور بغائهم.
نعم أيها الأحبة: إن من أخطر ما في هذه الشبكة هذه الصور الجنسية الإباحية التي ضج منها ليس علماء الإسلام وحدهم، بل سبقهم وشكى من ذلك علماء الغرب وقساوسة الكنيسة، وبعض رجالات التربية الذين يقولون: هذا خطرٌ مدمر:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وأن المنايا قد غدون أمانيا
إن هذه الشبكة تنقل كل ما يريد البعض بثه، وعنها تغيب الرقابة أو السيطرة، إن هذه الشبكة جد مغرية؛ لأنها وسيطٌ إعلامي، ودليلٌ تعليمي حديث جداً، يتزايد الإقبال على هذه الشبكة في أوساط الشباب حتى أصبحت وكأنها صرعةٌ أو موضة، بل أداةٌ لتحديد حداثة الإنسان وتقدميته، بل وربما تصبح غداً أداة لتحديد من يعيش في هذا العصر أو لا، وهي في كثيرٍ من الدول توجد حتى في صفوف وفصول المدارس الابتدائية، فينشأ عليها الطفل من سنوات حياته الأولى، وتصبح جزءاً من حياته، وهاجساً له، ومصدراً دائماً يتلقى منه العلم وأنماط وقواعد التوجيه ولسهولة التعامل مع هذه الشبكة، ربما اتخذها الطالب أو الشاب وسيلةً ومصدراً للمعلومات والمعارف بل وبدون شعورٍ منه، تصبح هذه الشبكة مصدره في السلوك والتصرف.
ألا تعلمون أن من أراد أن يطلع على شيءٍ وهو يملك خطاً مباشراً إلى هذه الشبكة، فلا عليه إلا أن يعطي هذه الشبكة أو أن يعطي هذا الجهاز الحاسب أمراً للاتصال بالشبكة، ويقول له: ابحث لي عن كذا، ثم لا تلبث هذه الشبكة، أن تمده عبر جهازه بملايين المعلومات بل والصور والكلمات، ومن هنا اختل مصدر التلقي، فما بالكم بمن يأخذ الإسلام عن هذه الشبكة؟ وما بالكم بمن يأخذ الحلال والحرام عن هذه الشبكة؟ وما بالكم بمن يرى أن الحسن والقبيح هو ما رآه حسناً أو قبيحاً في هذه الشبكة؟ إن الأمر ليس بخطير فقط، بل إن بعض المسلمين اليوم أصبحوا لا يعرفون أين المعركة، ولا أين أبوابها، ولا أين مسرحها، ولا أين ميدانها، وذلك وايم الله في غاية الخطورة ولا حول ولا قوة إلا بالله! نحن لا ننكر أيها الأحبة! أن شبكة الإنترنت وإن كان فيها ما فيها من الشر، فهي أيضاً لا تخلو من فوائد نافعة ومن أساليب منتجة، ولكن لا يتعامل مع السلاح إلا من هو خبيرٌ به، أما إذا تعامل مع سلاح المعلومات هذه، فجاهلٌ لا يفقه أو لا يحسن التعامل والتمييز بين الغث والسمين، فإن ذلك من أخطر الأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله!(118/6)
القنوات الفضائية وسيلة للعولمة
أيها الأحبة: والوسيلة الثالثة بعد الوسيلتين الأوليين من وسائل العولمة المؤتمرات الدولية، وشبكة الإنترنت: هي وسيلة القنوات الفضائية، ولن أطيل في التعليق على هذا، فأنتم خير من يعلم أنها أداةٌ تمنح الشعوب انتماءً لأعدائها، وتجعلها طائعةً مذعنةً لقاتل أبنائها، وتجعلها محبةً لمشردي إخوانها، وتجعلها قردةً مقلدة لعادات من أراد أن يفتك بها.
إنها قنواتٌ تجعل الأبرياء يفتحون صدورهم لخناجر الغزاة، بل ويلبسون أثواب الغزاة، ويحبونهم في الوقت الذي تتمكن طعنات المجرمين من قلوبهم وصدورهم، وما أكثر الذين يرضون بهذه المعركة، ما أكثر الذين الآن يرون أبناءهم صرعى وقتلى في هذه الحرب الفضائية المدمرة، عبر الشاشة وعبر الطبق الفضائي وهم مع ذلك لا يرضون بل لا يتحملون انقطاع التيار، أما أن ينقطع البث فأمرٌ لا يتحملونه، قد يتحملون غيبة الماء البارد شيئاً، لكن لو انقطع البث اشترى بدل الطبق اثنين وبدل الجهاز جهازين، عجباً لهؤلاء الذين أصبحوا لا يفتئون في تعاطي هذه الحقن المخدرة والمدمرة.(118/7)
ماذا قدم لنا الغرب
والسؤال أيها المسلمون: ماذا قدمه الغرب؟ ماذا قدمه النمط الغربي في ظل العولمة للعالم؟ لقد قدم نموذجاً واحداً هو النموذج المصلحي، لقد قالت: مارجريت تاتشر إبان أزمة الخليج وصرحت بذلك لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ليعرف حقيقة العداوة، قالت: نحن ليس لنا أعداءٌ على وجه الدواء، وليس لنا أصدقاءٌ على وجه الدواء، نحن لنا مصالح دائمة، فمن يحقق مصالحنا فهو الذي نحافظ على علاقتنا معه، أو نحرص على مصالحنا معه، وما سوى ذلك فليهلك في أي وادٍ ولن نسأل عنه، وهذا واضح
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
قلبوا الخريطة الجغرافية وضعوا أناملكم على دولٍ معينة، أين هي، وأين أنظمتها؟ وأين ما كانت تفعله من ولاءٍ وانتحارٍ من أجل طاعة الغرب؟ أين هي؟ وهل نفعها الغرب بقليلٍ أو بكثير؟
الجواب
لا.
لأن المصلحة انتهت، ولا نستطيع أن نكون على مستوى مواجهة هذه المعركة إلا من خلالكم أنتم وأبنائكم وأبناء المسلمين وإخوانهم، أن نكون جميعاً على مستوى قوي جداً، وعلى درجة مرهفة الحساسية في إدراك هذه المعركة والشعور، لو أن أمة الإسلام تعيش يقظة لاستطاعت بأيسر الوسائل وأسهلها أن تملي الكثير، ونحن نحمد الله عز وجل على ما منَّ به من توازنٍ وعنايةٍ ويقظة نشهدها في بلادنا هذه، من ولاة أمرٍ ومن علماء، ومن رجالات التعليم فينا، ولكن نريد أن ننقل هذا الوعي إلى عامة المسلمين رجالاً ونساءً وذكوراً وإناثاً.
أيها المسلمون: ماذا قدم الغرب؟ لا ثقافة أصيلة، ولا حضارة إنسانية حقيقة، لم يقدم إلا أفلام الجنس والعنف والجنز والأغاني والرقص، هذا ما يسمى اليوم بالثقافة السائلة الدارجة المستهلكة، وإن تعجب فاعجب من بعض أقوامنا أو بعض أُناسٍ منا، حينما يستقبلون هذه العولمة بحرارةٍ، ويظنون أن من أوجب واجباتهم أن يسوغوا أن يسوقوا هذا المصطلح وما يتضمنه، وتلك -والله- من أشد المصائب والبلايا وعندها إذا بلغ الأمر بأبناء الأمة أو بعض أبناء الأمة أن يردد بعضهم متحمساً على جهله بما يريده الأعداء، فلا تعجب أن تجمع مثل هذه التصريحات التي صرح بها قادة الغرب، حيث قال أحد حكامهم: إن الله لم يهيئ الشعوب الناطقة بالإنجليزية لكي تتأمل نفسها بكسل أو دون طائل، لقد جعل الله منا أساتذة العالم كي نتمكن من نشر النظام حيث تكون الفوضى، وجعلنا جديرين بالحكم لكي نتمكن من إدارة الشعوب البربرية الهرمة، وبدون هذه القوة ستعم العالم مرةً أخرى البربرية والظلام، وقد اختار الله -يقوله افتراءً على الله- يقول: وقد اختار الله هذا الشعب دون سائر الأجناس، كشعب مختار يقود العالم أخيراً إلى تجديد ذاته.
خلالك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
يا لك من قنبرةٍ بمأمن مثل هذه العنجهية.
يقول: مسئولٌ آخر في دراسةٍ نشرتها مجلةٌ غربية عام (1995م) يقول في كلامه: إن هذا هو قدرنا أن نقود العالم، وأن ننشر ما وصلنا إليه، لكي نحدد به اتجاهات البشرية، هكذا يظنون أن العالم كله كرةٌ في أيديهم، ونسوا وإن كانوا يعلمون، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم أن الأمر لله وأن الحكم لله: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام:62] لكنهم لم يحسبوا لأمة الإسلام أي حساب.(118/8)
واجب العلماء والمثقفين أمام العولمة
أيها الأحبة: إن العولمة تحتاج إلى تحدٍ من علماء الأمة ومثقفيها، وعلمائها ومفكريها رصداً وتصدياً وتأملاً من منظورٍ إسلامي، هذه القضية الشائكة تحتاج إلى تفهمٍ لكي نستفيد مما يمكن الاستفادة منه، بوضع الضوابط ونصب المحاذير، ورفض كل ما يضر هذه الأمة وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في دين الله ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إننا نستطيع أن نواجه هذه الحرب مهما بلغت ومهما كبرت، ومهما تنوعت، بالاستعانة بالله، والتوكل على الله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
إننا حينما نذكر بهذه الحروب وهذه التحديات، ليس ذلك من باب تعظيم الخصم وتفخيمه وتكبيره، وإنما لبيان الخطر، ولبيان الشر، يقول حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني).
علمت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
أيها الأحبة: لقضية العولمة بقية باقية، أجعلها في الخطبة القادمة إن شاء الله، ليكن ختام الحديث بهذا الأمر.
وإني أسأل الله بأسمائه وصفاته أن يصرف عنا وعنكم كيد الكائدين، أسال الله أن يصرف عنا وعنكم مكر الماكرين، اللهم من أراد بولاة أمرنا وعلمائنا وشبابنا، ونسائنا ورجالنا، والمسلمين شراً، اللهم عجل فضيحته، وافتك سريرته، وأرنا فيه اللهم عجائب قدرتك.
اللهم يا حي يا قيوم، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم أرنا فيمن أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.
اللهم انصر المسلمين على الوثنيين، اللهم انصر المسلمين في باكستان وسدد قنبلتهم النووية على الوثنيين في الهند يا رب العالمين، اللهم اجعل هذه القنبلة تفجيراً وتدميراً لقلوب الغرب وما أراد من الفتك والكيد والدمار للمسلمين، اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويهدى فيه أهل معصيتك، اللهم ثبتنا على مرضاتك، واستعملنا اللهم في أحسن عملٍ يرضيك يا رب العالمين.
اللهم صلّ وسلم على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا! صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ وعلى آله وصحبه.(118/9)
العولمة والتحديات المعاصرة [3]
لقد أصيبت الأمة اليوم بهزيمة نفسية، وأصيب شبابها بالإحباط إزاء التقدم العلمي والتقني في بلاد الغرب، فرضخت الأمة الإسلامية وكادت تستسلم للعولمة، فأصبحت دول الإسلام مستوردة لا مصدرة مستهلكة لا منتجة آكلة لا زارعة، وما سبب ذلك إلا الانشغال بسفاسف الأمور دون معاليها.
وستجد في هذه الخطبة حثاً للأمة على شحذ الهمم، وكيف غير شاب ياباني من تاريخ اليابان.(119/1)
إصابة كثير من المسلمين بالإحباط والخذلان
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: مر بنا الحديث في جمعتين ماضيتين عن تحديات العصر والقرن القادم، وما أعده ويعده أعداء الإسلام على اختلاف ألوانهم ومللهم ونحلهم ولغاتهم، ما أعدوه ويعدونه لأجل حرب الإسلام، في صورة الحرب الجديدة، حرب الصوت والصورة والكلمة، وإن كانوا لا يألونكم خبالا ما أمكنتهم الفرص إلى ذلك سبيلا لإجهاض أي قوة، أو ضرب أي قوة يجدها المسلمون أو يستطيعونها، وإتماماً للحديث؛ فإن من التحديات الخطيرة التي لا زال الغرب يكرسها مصطلح العولمة الذي طبل له من طبل، وردد له طائفة أو كثيرٌ ممن لا يدركون أبعاده.
هذا الأمر الخطير العجيب -يا عباد الله- يتضمن تحدياً قادماً وقائما، وهو تحدي المسلمين في استمرار عجزهم عن نقل أسرار التقنية، واكتشاف أسرار الصناعة في مجالات شتى حربية وعسكرية، طبية وكيميائية وفيزيائية وغيرها، حتى لقد أصبح لدى بعض شبابنا عقدة اليقين بالعجز والقطع بالمستحيل أنه لا يمكن أن نواكب الغرب فضلاً عن أن نتحداه في مخترعاته وابتكاراته، وربما سمعت من شبابنا من يردد مقولة الغربي المشهورة: إذا دخل العرب عالم الحضارة والذرة نكون قد بلغنا عالم ما فوق الذرة.
أيها الأحبة في الله: وإن من دلائل هذا التحدي، ومن دلائل الإخفاق الذي يواجهه لدى كثير من أبناء المسلمين وشبابهم أن ترى الواحد منهم يغفر فاه، ويندهش من كل جديد ولا يفكر أن يوجد جديدا؛ لأنه قد استقر في قلبه ولبه وجوهره أنه لا يمكن أن يجاري الغرب، ولا يمكن أن يتحداهم، ولا يمكن أن يصنع ما صنعوه، فضلاً عن أن يسبقهم إلى مجالٍ لم يكتشفوه، وإنهم بهذا وكأنهم يقولون في حرب الصوت والصورة والكلمة، وحرب التحدي العلمي، وحرب الاحتكار لنقل أسرار التقنية والاختراع، كأنهم يقولون: أتظنون أن خطبكم أو ندواتكم أو أشرطتكم أو محاضراتكم أو دروسكم الدينية، أتظنون أنها سوف تواجه هذا المحيط المتلاطم في أمواجه، الذي يعصف بالدول والقارات والأمم، تريدون أن تتحدوا الغرب بخطبة على منبر؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بمحاضرة لا يحضرها إلا صفان أو ثلاثة؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بقرآن قد وضع على الرفوف؟ تريدون أن تتحدوا الغرب بأحاديث ترددونها في مجالسكم؟ هذا وجه خفي باطنٌ لوجه العولمة، الذي تريد من كل واحد أن يسلم خاضعاً مذعناً مستسلماً أن القيادة والقوة والسيطرة قد أصبحت بيد الغرب، وما سوى ذلك من أمور الدين والقرآن والسنة، ومن أمور الشريعة والعقائد والقيم والمبادئ، إنما هي محض أمور شخصية، ومحض قضايا شخصية بحتة، لا يمكن أن تعمم في العالم، ولا يمكن أن تتحكم في سلوك البشر إلا في إطار الأمور الشخصية الضيقة البحتة، من طلاق أو زواج أو تغسيل ميت، أو دفن ميت، أو شيء أقل أو أكثر من ذلك، وما سوى فإن العولمة تفرض ما تريده في القضايا السياسية، والجوانب الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، وتفرض ما تريده في المادة والطرح الإعلامي، وتفرض ما تريده فيما شاءت، يريدون أن يسلم الناس وأن يذعنوا للنظام الجديد المتوحد المتفرد بزعمهم، ويأبى الله ذلك إذ أن الله وحده لا شريك له هو المتفرد بالحكم، لا شريك له هو المتفرد بالأمر لا شريك له، هو المتفرد بالتدبير وما شاء كان وما سواه فخلق قد جعل الله لهم من أقوياء وضعفاء أنداداً وأمثالاً يصارعونهم ويغالبونهم ويدالون عليهم دولة وينهزمون أخرى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لا تظنوا أن أحداً يمكن أن يتفرد بالعالم قيادة وتحكماً وسيطرة في أي جانب من جوانبه عسكرية كانت أو اقتصادية أو إعلامية أو تعليمية
ولكل شيء آفة من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد(119/2)
العولمة تعارض الإسلام وأحكامه
لا تظنوا -يا عباد الله- أن العولمة التي لا يزال الغرب، ولا يزال كثيرٌ ممن يطرحها، ولا يطرحها بكامل أبعادها، نعم هناك من يطرحها في جوانب مشرقة، أو في زوايا مضيئة، أو في أمور فيها منفعة لقد قال الله في الخمر: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] فالخمر المسكرة (أم الخبائث) ربما وُجِد فيها ذرات أو شيء من النفع، فكذلك العولمة لن تكون أمام الناس وأمام من يتناولها شراً محضاً، لكن وإن وجد فيها خير قليل فشرها وفسادها وتدميرها أغلب وأعظم وأطغى، فحري بنا -أيها المسلمون- أن نلتفت لهذه القضية وألا نسلم تحت دعوى العناوين البراقة، والكلمات المضيئة أن العولمة هي أقرب سبيل لنقل التقنية، والعولمة هي أحسن طريقٍ لتدفق رءوس الأموال، وانفتاح التجارة الحرة بين الدول، قولوا كما تقولون في العولمة هذا، قولوا أيضاً: وهي السبيل الذي لا يسمح لأمة مسلمة أن تقول: إن القرآن هو التشريع، وهو السبيل، العولمة التي لا تسمح لأمة مسلمة أن تقول: إن القاتل يقتل، والسارق يقطع، والزاني المحصن يرجم، إن العولمة ترفض هذا كله، فهل يعي المسلمون هذه القضايا؟ هل يعي المسلمون هذه الحقائق؟ إن أكبر تحدٍ في العولمة السياسية ما ضجت به وسائل الغرب وقامت قائمتها وقيامتها، ولم تقعد إلى الآن لا لشيء إلا لأن قنبلة إسلامية نووية قد أثبتت قدرتها، وأثبتت جدواها في تفجير مفاعل نووي وقالت للعالم: كما تملكون قنبلة فنملك أمثالها، وللمجرمين أمثالها.
عجباً للغرب والعولمة! إذا فجر عباد البقر والهندوس قنبلة نووية فذلك أمر لا يحتاج إلى سوى تصريحاتٍ يسيرة قليلة بدعوى تذكير الدول والأمم بعدم التورط في التعمق في أبحاث التسلح النووي، وتذكير الدول والأمم باتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، واليهود الذين يقولون: يد الله مغلولة، والذين يقولون: إن الله فقير؛ غلت أيديهم، والله غنيٌ عنهم وعمن سواهم، واليهود قتلة الأنبياء المستهزئون بالرسل، واليهود الذين لا يألون المسلمين خبالاً منذ وجدوا إلى يومنا هذا، اليهود يحق لهم ويسمح لهم، ولأنهم البنت المدللة والولد اليتيم والضعيف العاجز الذي يقبع ويسكن في سوار أو إطار من الدول التي تخالفه، يحق لذلك المسكين أن يمتلك مئات القنابل النووية، والعشرات من المفاعلات.
أما إذا قامت دولة يقول شعبها: لا إله إلا الله، وامتلكت قنبلة نووية فتلك قضية لا بد أن تبحث، وانتظروا وتذكروا ألوان الضغوط الغربية على هذه البلاد يوم أن قالت: لا.
وفجرت مفاعلها، انتظروا كيف ستعامل بمختلف أنواع الحصار الإعلامي والاقتصادي والفكري بكل أنواعه وسبله ومجالاته وميادينه.
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن ندرك تماماً أن الحرب الجديدة ليست كما قلت في الجمع الماضية، ليست حرباً تقودها الدبابة الزاحفة، ولا الطائرة القاذفة، ولا القنبلة المتفجرة، إنما هي حرب الصورة والصوت والكلمة عبر المؤتمر الدولي، وإرغام الكثير من الدول للخضوع في سياسات غربية بحتة، وعبر شبكة الإنترنت، وعبر القنوات الفضائية، وعبر تصوير كثير من المصطلحات حتى لا يبقى لأحد مقولة لكي يرفض ما يريده الغرب، ونحن بكل ثقة وعلى أتم يقين أنه لن يكون للغرب تفرد بقيادة هذا العالم، حتى وإن ملكوا ما ملكوا، وإن وجدوا ما وجدوا، فإن ربك لبالمرصاد، وأموالهم التي يجمعونها وينفقونها لحرب الإسلام: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].(119/3)
لماذا لا ننقل أسرار التقنية إلى بلادنا
أيها الأحبة في الله: أعود إلى التحدي الخطير الذي يصدره الغرب للمسلمين وأبنائهم، وهو تحدي نقل أسرار التقنية، نقل أسرار الاكتشافات والمخترعات، يريدون من دول الإسلام أن تبقى مستهلكة لا منتجة، أن تبقى آكلة لا زارعة، أن تبقى مستوردة لا مصدرة، إن صدرت شيئاً سيحاصرونها، وإذا لم يجدوا سبيلا من الحاجة إلى منتجاتها فالويل لهذه الأمم إلا من رحم الله، فالويل لها، سيؤخذ إنتاجها بأبخس الأثمان في ظل معادلات تسويقية ومعادلات اقتصادية تحكمها القوى السياسية، حتى تستورد المواد الخام من بلاد المسلمين بأرخص الأثمان، وتعاد مصدرة إليهم بأغلى الأثمان وأبهضها، ولكن إن التحدي حقيقة هو في القلوب وليس على الأرض، إن التحدي هو في العقول وليس على الأرض، إذا كنت تواجه رجلاً أو تواجه عدواً قد امتلأت استخفافاً به، وقد امتلأت ثقة بحقارته وهوانه، وإنه وإن قتلك فذريتك تقتله، وإن أهانك فذريتك تنتصر عليه، فذلك أمر مهم، أما إذا طغى في النفوس وعلا الران على القلوب بأن هذا العدو لا يقهر لا يبارى لا يجارى لا يتحدى، فتلك هزيمة قبل بداية المعركة، وذلك اختناق قبل أن يخلق الغاز.
أيها الأحبة في الله! هذا التحدي يعيشه كثيرٌ من شبابنا، ولا يزال الكثير يقف أمام نفسه وأمام ما يرى من مكتشفات حائراً يظن أنه لا يمكن أن يقدم شيئاً.
أضرب لكم مثالاً بسيطا: ألستم تروا من أبناء بلادنا الموحدين المصلين الصالحين المصلحين -بإذن الله- من فاق في الطب والجراحة وأدق أمور الصحة كثيراً من الغربيين، حتى إنهم ليتمنون أن يقبل عروضهم المغرية ليهجر هذه البلاد ليعمل في بلدانهم، نعم يسلمون بأن في البلاد في جانب الطب وفي مجالات الصحة، وفي الأبحاث الطبية من يفوقهم وإن كان لديهم الكثير من أمثال هؤلاء، فكذلك بالإمكان أن يتحول الكثير من شبابنا إلى عقول منتجة قادرة على استيعاب الحضارة والآلة المعاصرة، ونقل أسرارها ومن ثم القدرة على تصنيعها.
أيها المسلمون: إنه ليس أخطر على حاضر أمة أو مستقبلها من شيء عليها أن تخرج أجيالاً تقتصر آمالها العاجزة على التلهي بمنتجات حضارة غيرها بل عدوها، بل والتقوت منها بالضرورات من مطعم أو ملبس أو دواء أو سلاح دون مشاركة بالإضافة للإحساس بالقهر والدونية والعجز إزاءها وفي مقابلتها.(119/4)
تاريخ اليابان يتغير بسبب شاب واحد
يا شباب الإسلام: ألا تعجبون من أمم وثنية ليس لها دين صحيح، وليس لها وحي معصوم منزل، هذه الأمم الوثنية استطاعت أن تتحدى الغرب، واستطاعت أن تجعله راكعاً أمام عقلها وإنتاجها وقدرتها، استطاعت أن تهزأ وتسخر بالخرافة القائلة إن الغرب لا يُتحدى ولا يبارى.
واسمعوا إن شئتم قصة طالب يابانيٍ لتعلموا أن الهزيمة ليست في العناصر والمواد، لكنها -والله- في العقول والقلوب، إن المهزوم قلبه لا يستطيع أن يطلق طلقة واحدة في وجه عدوه، ولو كان السلاح في يده: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] طالب ياباني اسمه أوساهير بعثته حكومة اليابان للدراسة في ألمانيا، في بداية محاولتها للنهوض والخروج من ضربة عسكرية قاتلة مميتة في هيروشيما ونجزاكي، هذا الطالب يقول: لما بعثت إلى ألمانيا لو أنني اتبعت نصائح أساتذتي الألمان الذين ذهبت لأدرس عليهم في جامعة هاربرج لما وصلت إلى شيء، كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيك العلمية، وكنت أحلم كيف أصنع محركاً صغيرا، وبدلاً من أن تأخذني الأساتذة إلى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت وقرأت حتى عرفت نظريات المكانيك كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك أياً كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع وكان ذلك أول الشهر، وكان معي راتب وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين، ثمنه يعادل كامل مرتبي، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جدا، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه كأني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة الغرب، هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان، انظروا إلى هذه الهمة وإلى هذه النفس التي هاجرت من اليابان إلى ألمانيا تريد أن تغير تاريخ اليابان! من دولة مهزومة إلى دولة غازية منتصرة! ومن دولة مستهلكة متخلفة إلى دولة منتجة متحدية! يقول أوساهير: وطاف في ذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى: مغناطيس، أسلاك، أذرعة، عجلات، دوافع، ولو أنني استطعت أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها، ثم شغلته فاشتغل، أكون قد خطوت خطوة نحو سر الصناعة الأوروبية، وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق وأدوات العمل، ومضيت أعمل، رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمي أجزاء المحرك، ثم جعلت أفككه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً، وشيئاً فشيئاً فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته من جديد فاشتغل، فكاد قلبي أن يقف من الفرح.
يقول: استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل، وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت الآن لا بد أن تختبر، سنأتيك بمحرك متعطل وعليك أن تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل، وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاثاً من القطع البالية متآكله صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد، يقول عن نفسه: مع أنني بوذي على مذهب رن ومذهبي هذا يقدس العمل ويعتبره عبادة، ثم قال رئيس البعثة: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك ثم تركبها محركاً، ولكنني أستطيع أن أفعل ذلك إذا التحقت بمصانع صهر الحديد، وصهر النحاس والألومنيوم، وبدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراة على الورق كما أراد مني أساتذتي الألمان تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء، وأقف صاغراً أمام أو بجانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيدٌ عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل مع أنني -يقول عن نفسه- من أسرة ساموراي العريقة التي تُخدَم ولا تخدم، ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء.
يقول: قضيت هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، بعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة، وعلم الحاكم الياباني الميكادو بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب، واشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فوضعت راتبي وكلما ادخرته وعندما وصلت إلى نجزاكي قيل لي: إن الميكادو الحاكم يريد أن يراني، قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن ننشئ مصنع محركات كامل، واستغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت على ساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى قصر الميكادو، ووضعناها في قاعدة خاصة، وأدرنا المحركات، ودخل الميكادو يقول: وانحنينا تحية له، وابتسم وقال لما رأى هذه المحركات: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة، هكذا ملكنا الموديل وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، نقلنا اليابان إلى الغرب وبعد ذلك نمت عشر ساعات لأول مرة في حياتي منذ خمس عشرة سنة.
أيها الأحبة: ألا تعجبون؟ أيها الشباب! وأنتم على أبواب الامتحانات وفي مرحلة من مراحل التحدي: ألا تعجبون من هذه الحادثة التي هي من جنس سر التحدي الياباني الغربي اليوم؟.
بهذا أصبحت اليابان المدمرة عسكرياً في نجزاكي وهيروشيما المحظور عليها الدخول في الصناعات الحربية والعسكرية، أصبحت قوة اقتصادية تحسب لها الصين ذات المليار ونصف المليار نسمة، وتحسب لها الغرب ألف حساب، ألا يستحق ديننا تضحية وبذلاً وسهراً لأجل الجهاد والتحدي في مجالات الجهاد المعاصر جهاد الاقتصاد، وجهاد الكلمة، وجهاد الصوت، وجهاد الدعوة، وجهاد نزع الذل الذي خيم في قلوب كثير من الشباب، حتى أصبحوا لا يستطيعون إلا أن يقودوا سيارة قد صدرها الأعداء إليهم، وأصبحوا لا يظنون سوى أنهم قادرون على الاستهلاك، أما الإنتاج فهم سيظلون عالة على غيرهم؟ بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(119/5)
كلمة موجهة إلى الطلاب قبل الامتحانات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة في دين الله ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها المسلمون: تحت سعير المونديال ولهيب بدعايته وسياطه المغرية المشغلة للطلبة عن الامتحانات والاستعداد لها، يوشك أو يستقبل أبناؤنا غداً موسماً حافلاً من الاختبارات والامتحانات، وهو مرحلة من مراحل التحدي لكل جيل وفي كل مرحلة وفي كل مجال، والذي نريده من شبابنا وأبنائنا أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحتسبوا دراستهم ومذاكرتهم وطلبهم للعلم، وأن يتذكروا قول الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتى لعاصي
يا شباب الإسلام: عليكم بطاعة الله، عليكم بتقوى الله تفوزوا بعلم الدنيا والآخرة، تجنبوا المعصية فإنها من أسباب حرمان الرزق والعلم، وأحسنوا النية واجتهدوا وجدوا في الطلب، واصبروا وصابروا في كل مجال تدرسونه، في الطب أو الشريعة أو الاقتصاد أو السياسة أو الأنظمة، أو في أي مجال، احتسبوا ذلك عند الله عز وجل، ولا تجعلوا مقاصدكم محدودة في شهادة أو وظيفة، والأمة بأمس الحاجة إلى كثير مما تعلمون وما لا تعلمون، وإلى كثير مما تتعلمون وما لا تتعلمون، ولكن أملنا في الله عز وجل الذي ما خاب من أمله أن يجعل فيكم البركة، وأن يسدد على طريق الخير خطاكم، وأن يعلمكم ما جهلتم، وأن يذكركم ما نسيتم، حتى نتجاوز مرحلة التحدي، ونقول للغرب: إننا أمة مسلمة منذ أربعة عشر قرناً والإسلام هو الإسلام، والقرآن هو القرآن، والسنة هي السنة، وما بقي إلا الرجال فهم في سبيل الجد والطلب والمثابرة والاجتهاد
رحم الله فتىً قد هذب الدين شبابه
ومضى يزجي إلى العلياء في عزمٍ ركابه
مخبتاً لله صير الزاد كتابه
وارداً من منهل الهادي ومن نبع الصحابه
إن طلبت الجود منه فهو دوماً كالسحابه
أو نشدت العزم فيه فهو ضرغام بغابه
جاذبته النفس للشر فلم يبد استجابه
متقٍ لله تعلو من يلاقيه المهابه
رق منه القلب لكن زاد في الدين صلابه
بلسمٌ للأرض يمحو عن محياها الكآبه
ثابت الخطو فلم تطفِ الأعاصير شهابه
جربته صولة الدهر فألفت ذا نجابه
إن يقم يوماً خطيباً يسمع الصم خطابه
أو يسر في الدرب يوماً أبصر الأعمى جنابه
مسلم يكفيه فخراً أن للدين انتسابه
نريدكم هكذا يا شباب الإسلام، واحتسبوا الأمر وأنتم تذاكرون وتستعدون لهذه الامتحانات، ونريدكم أيضاً -يا شباب الإسلام- أن ترتفعوا بأنفسكم إلى مستوى المرحلة، لا أن تقنعوا من المليار بالهلل، لا تقنعوا بعرضٍ حقيرٍ وحطام يسير لتعرضوا به عن جنة عرضها السماوات والأرض، نريد منكم الشهيد والمخترع، والمبتكر، والداعي، والمعلم، والذي ينفع الناس بعد أن ينفع نفسه وأهله وأمته.
نريد من شبابنا أن يرتفعوا بأنفسهم إلى مستوى العلياء الذي يريده الإسلام منهم، وإنا لنحزن حينما نرى شاباً جل همه انتظار مكالمة من صديقته، أو جل همه انتظار موعد مقابلة مع حبيبته، أو جل همه أن يفوز بحطام يسير لا لينفقه في سبيل الله بل لينفقه على شهوته وملذته، إنا لله وإنا إليه راجعون! عظم الله أجرنا وأجركم في شباب هذا همهم وذلك ديدنهم! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم اهد شبابنا، اللهم اهد أبناءنا وبناتنا، اللهم وفقهم في امتحاناتهم، اللهم يسر لهم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم يسر أمورهم، واشرح صدورهم، واحلل عقداً من ألسنتهم، اللهم يا حي يا قيوم اجعلهم هداة مهتدين نافعين للدين والمسلمين يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع اللهم شملنا وشمل حكامنا وعلمائنا ودعاتنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسدا، اللهم صل على محمد وآله وسلم.(119/6)
الغزو الفضائي [1]
إن أعداء الله من اليهود والنصارى قد غزونا إلى عقر دارنا، وداخل بيوتنا ومجتمعاتنا، وأدخلوا السم الزعاف من إلحاد وفسق وفجور وتمييع للمجتمعات وغير ذلك عبر الأطباق (الدشوش)، ولكن الأسى والحزن على بني قومنا الذين ظل بعضهم يدافع عن مثل هذه الأطباق، ويدعي أنه يريد معرفة الواقع، وآخر يقلد الغرب في كل شيء من أخلاق وصفات، ومأكل ومشرب، وملبس وهيئة، وآخر يعترف بجرمها وفسادها لكنه يدعي أنه لا مفر لأحد منها إذ لا بديل من ذلك!! ولكن لابد من الرجعة، وتصحيح الدين، وهجر هذه الأطباق والقنوات حتى نحافظ على أخلاقنا ومجتمعاتنا، وأسرنا المسلمة.(120/1)
فساد الأخلاق والانخلاع من الدين
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا شبيه، ولا مثيل ولا نظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، فلا نجاة ولا سعادة، ولا فوز ولا فلاح إلا بها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
أيها الأحبة في الله! كثيراً ما يشكو بعضُنا إلى بعض في المجالس والمناسبات المتعددة ما نشكو مصائب مفجعة، وحوادث مؤلمة في مجتمعاتنا، ونتفق بلا خلاف أننا في خطر، ولا نتنازع في وجوب الاهتمام والعناية؛ ولكن يبقى شيء واحد قل ما نتطرق له، ألا وهو الحديث بدقة وجُرأة وصراحة عن الأسباب بوضوح والعلاج: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
ولو أردنا أن نتحدث بصراحة عن سبب من أسباب الدمار في المجتمعات المعاصرة اليوم، لقلنا: إن مجتمعاتنا الصغيرة، ومجتمعاتنا الكبيرة التي غزتها رياح التغريب والانحلال، وتعاودها أعاصير الإباحية، وزلازل التخريب والفساد، فتُحدث بين الفينة والأخرى، براكين مسعورة تقذف بحممها على بعض الأسر والبيوت.
كل ذلك من نافذة لا نستطيع إغلاقها، ومن سقف لا نستطيع له سداً، إنها الحرب القادمة من الفضاء، حرب القنوات الفضائية التي هي أشد تنكيلاً، وأشد تخريباً، وأشد إفساداً من حرب الدبابات والطائرات.
إنها الحرب التي تمنح طوائف ممن تقبلوها قبولاً حسناً، تمنحهم جنسية أعدائهم، وهوية من يودون عنَتهم، ولا يألونهم خبالاً، تصيرهم عبيداً لغير خالقهم، وأتباعاً لغير قادتهم، ومنتمين لغير مناهجهم وأفكارهم وأوطانهم، الكل ينادي ويصيح: الفضاء مملوء بالصور والكلمات، والعالم أصبح قرية صغيرة، وانتقال الأفكار والسلوك والعادات والمناهج أصبح أسرع من الريح، ويقابل كل ذلك الشر الوافد من تلك القنوات تهافت عند طائفة من الذين يتسابقون أيهم يجعل من عقله وذاكرته، ويجعل من عقول أبنائه وبناته وذاكرتهم، أيهم يجعل من هذه العقول مسرحاً ومرتعاً لذلك الإعلام الوافد، والخراب القادم.
فترى بعضهم يباهي ويفاخر بعدد القنوات التي يستقبلها ذلك الجهاز والطبق دون تأمل وتبصر فيما تجنيه تلك القنوات على نفسه وزوجه وأولاده أولاً، وعلى المجتمع من حوله ثانياً من دمار وبلاء.
إن السكوت على ضرر هذه الأطباق، أو ما تُسمى بالدشوش، وإن السكوت عن نصيحة المسلمين في شرها وخطرها، ربما عُد من الخيانة، والله -عزَّ وجلَّ- يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
أيها الأحبة! قد نستثني طائفة ممن تعنيهم وتهمهم بعض أمور تبثها بعض تلك القنوات؛ لاعتبارات أعمالهم ومهماتهم، وهم نزر يسير، ومع ذلك فهم محاسَبون عما يسمعون ويشاهدون في حدود ما تتطلبه مسئولياتهم؛ ولكن هل نرى كل من حولنا، من هؤلاء الذين ركَّبوا هذه الأطباق التي تفتح أحضانها لغزو الشهوات والشبهات القادم من الفضاء، هل كلهم من أصحاب تلك الاهتمامات، وتلك المواقع؟ الجواب الذي لا ينازع فيه منازع: أن لا، بل السواد الأعظم ممن ركَّبوا هذه الأطباق من الذين يقول فيهم القائل:
ويقضى الأمر حين تغيب تَيْمٌ ولا يُستشهدون وهم شهودُ
أيها الأحبة! ليس الموضوع هجوماً سافراً، أو تنديداً فاضحاً بالذين ركَّبوا هذه الأطباق أو المستقبلات، إنما هو حديث: (الدين النصيحة) وإنما هو حديث من القلب إلى القلب: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46].
تعالوا إلى كلمة سواء، مستحضرين كافة قوى العقل والتدبر والاعتبار، مستبعدين كل الأهواء، ودوافع الشهوات؛ لنتساءل، ولنتواصى، ولينصح بعضنا بعضاً، فإن الدين النصيحة، وليأمر بعضُنا بعضاً بالمعروف، وينهى بعضُنا بعضاً عن المنكر، فتلك صفات المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71].(120/2)
شبهة والرد عليها
يا قومنا! يا أصحاب الأطباق! إما أن تقولوا أو نكون أول من يسأل: لماذا ركَّبتم هذه الأطباق؟ سيجيب طائفة كبيرة منهم قائلين: جعلناها في بيوتنا لمعرفة الأخبار لا غير.
وتلك حجة داحضة، دخل الشيطان بها على كثير ممن وضعوا هذه الأجهزة في بيوتهم، فما وجدوا من أوقاتهم لتلك الأخبار إلا قليلاً، أما بقية ما يُعرض في هذه القنوات من أفلام ماجنة، ومسلسلات خليعة، وأغانٍ تعلم الشباب التخلف، وتعلم النساء الترجل والرذيلة، بقية العرض من تلك الأفلام أصبح من نصيب الزوجة والأولاد.
فيا عارف الأخبار! فيا مهتماً بالأخبار! هل أغنت تلك الأخبار عنك من شيء؟ وهل أغنيت عن أحوال أهل تلك الأخبار من شيء؟ وهب أنك تابعت كل خبر، وكل شاردة وواردة، فهل استطعت أن تقدم أو تؤخر شيئاً؟ وحينما استطعت، هل فعلت شيئاً؟ أيها الأحبة! إن كثيراً ممن وضعوا هذه الصحون المستقبلة للبث ما كان حجتهم يوم أن وضعوها سوى قضية الأخبار، مع العزم والإصرار على حجب الأولاد والأسرة عن مشاهدة تلك القنوات، ولكن ما لبث الأمر أن تفلت من يد صاحبه، فما عاد صاحب الطبق الذي أدخل بيته يجد وقتاً للأخبار، وربما أصبح يبحث عن غير الأخبار، ولن أسمي قنوات جديدة فاضحة ضجت منها البيوت، وشكت منها النساء إلى الله خراب أزواجهن، وفساد أبنائهم، ومصيبة بناتهم فيها، انتقلت العدوى إلى البنين والبنات، خاصة المراهقين والمراهقات، فتسللوا لواذاً، واسترقوا النظرات، وتأججت غريزة حب الاستطلاع على هذا الجهاز الذي أسره والدهم في مجلسه أو حجرته إلى أن طغى الماء على الجارية، وتدفق الشر إلى أهل البيت؛ لأن بعض الذين أدخلوا هذه الأطباق إلى بيوتهم يقول أحدهم: إنما الجهاز في حجرتي، أو إنما الجهاز في مجلس معين، ولا يوجد في بقية المجالس، وحاله مع حال أولاده، وهو يدافعهم عن هذا الجهاز الذي أدخله، كقول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ
يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته).
فيا أيها المسلم الكريم! إني على يقين مع وجود هذا الطبق وجهاز الاستقبال في بيتك، إني على يقين أنك لا تزال غيوراً على محارمك، محباً لخالقك، ونبيك، ودينك، ولا يسرك أن ترى أولادك أو بناتك يقلدون ما يرون في هذه القنوات، أو يتفرجون على مشاهد مخزية، أو صور خليعة؛ ولكن تبقى الشهوات والغفلة تقلبك بين التساهل بالأمر والتسويف في التخلص منه.
لماذا لا تتخلص من هذا الجهاز، وأنت أدرى بحقيقة حاجتك إليه: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
والله إن هذا الجهاز ليس بشراب تشربه حتى تهلك من الظمأ إن عُدم من بيتك، وليس بطعام تأكله حتى تموت من الجوع لو أُزيل من بيتك، وليس بدواء فيه الشفاء حتى تموت من المرض لو أُخرج من بيتك.(120/3)
نجاح التغريب
أيها الأخ المحب! لعلك ترى وتلحظ كثيراً من المراهقين في مجتمعنا أصبحوا في سلوكهم، وتصرفاتهم، بل وفي زيهم برهاناً ودليلاً قاطعاً على نجاح التغريب، أتدرون ما هو التغريب؟ أن تتعلق النفوس والقلوب والأفكار بالغرب وما فيه، وبما أنتجه، وبما صدَّره، وبكل رذيلة وفاسدة، مع بقاء هذه الأجسام حتى لو لبست زيها، أو تقلدت سمتها، إن هذا لأكبر دليل على نجاح التغريب عبر القنوات الفضائية، وإلا فبِمَ تفسرون ظاهرة تقليد الكثير من المراهقين وغيرهم لغالب ما يرون من الشاشة؟ فكم رأيتم وعُدوا وأحصوا في تجوالكم وفي أيامكم، في ذهابكم وإيابكم، في تجوالكم وتطوافكم، كم رأيتم من شاب من المراهقين خرج على غير عادة أهله، وسمت مجتمعه في سروال إلى ركبته، وقد لبس قميصه، يحمل من الشعارات والعبارات ما يفقه وما لا يفقه، ولا تنسَ تلك القبعة المضحكة، التي أصبحت اليوم تقليداً لبسه أغلب المراهقين، ولو لُبست بالأمس قبل أن يراها المراهقون على تلك الشاشات والقنوات لضحكوا على من لبسها، لكنها الآن لا تجد طفلاً صغيراً أو مراهقاً أو شاباً بالغاً إلا وقد لبسها إلا القليل، فيا سبحان الله! كيف يُصبح أولياء المهزوم والمذبوح والقتيل مغرمين بتقليد السفاح والمتسلط في هيئته، ولبسه وزيه؟ لو أن أحداً قتل قريباً من أقاربه، أو آذى ولداً من أبنائه، أو آذى أحداً من أقاربه لكرهت زيه وهيئته وما كان من خصوصياته، لو أن شخصاً بينك وبينه عداوة، لوجدت أن أبغض ما لديك أن تقلده أو تحاكيه فيما هو من خصائص شخصيته، فَلِمَ يقلد بعض شبابنا اليوم أعداءهم الذين يحتقرونهم ويبغضونهم، ولا يكفون عن تدبير المؤامرات لسلب ثرواتهم، وإضعاف شوكتهم؟! إن إيقاظ جذوة العداء النفسي عند المسلمين تجاه أعدائهم، من الأمور التي تحفظ على الأبناء تميزهم، واستقلال شخصياتهم.
إن تبسيط مفاهيم الولاء والبراء لدى هؤلاء الناشئة، في المدارس وعبر الإعلام وغير ذلك، وغرسها في قلوبهم من أهم ما يحفظ على الأمة استقلال شخصيات أبنائها.
إن إيحاء وتصريح المعلمين إلى الطلاب في تلك المراحل بأن أعداء الإسلام وإن ضحكوا أو هادنوا إلا أن الأحقاد الكامنة تبدو في فلتات الألسنة، وتقلبات المواقف.
قد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هِيَ
نحن لا نريد أن نضخم أعداءنا فنعطيهم أكبر وأكثر مما يستحقون من واقعهم وقدرهم؛ ولكن لا يجوز أن يُنسينا لين ملامس الأفعى عما في جوفها من السم الزعاف.
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطبُ(120/4)
أسر ومجتمعات دمرتها الأطباق
هذا واحد من أخطار الغزو القادم عبر السماء في قوالب الصور والكلمات، ومن أخطاره المدمرة: إفساده للأسرة، فكم تلقينا، وكم قرأنا، وكم سمعنا، عديداً وعدداً من الشكاوى التي تحكي أسرة كانت آمنة مطمئنة، فلما دخل المشئوم عليها جعل عاليها سافلها، وبدل شكر نعمة الله فيها كفراً، وأحل أهلها الشقاق والطلاق؟! هذه امرأة غيور تبكي وتستنجد، من ينقذ زوجها من هذه العزلة التي اختارها لنفسه، أو اختارها مع شلته أمام ما يُسمى بـ (الدش) حتى الهزيع الأخير من الليل، والزوجة الحرَّى تطاول ليلها، واحلولك ظلامه، وزوجها مشغول عنها وعن أطفالها الذين قد ناموا، مشغول بتلك القنوات الجديدة، وبتلك القنوات القديمة، وعبر ما يُسمى بـ (الريموت كنترول) يتنقل من قناة إلى قناة، ومن وجه إلى وجه, ومن صدر إلى صدر، ومن ساق إلى ساق، ومن صورة ماجنة إلى حالة عارية، فما المخرج والبديل لتلك المرأة الحرَّى، التي تطاول ليلها، واحلولك ظلامه؟! إن كانت صالحة: جاهدت نفسها بذكر الله وطاعته، والتهجد، وقراءة القرآن، تدعو الله عزَّ وجلَّ في ليلها الذي غفل فيه زوجها، تدعو الله أن يرد زوجها إليها رداً جميلاً.
وإن كانت امرأة غير صالحة: أشغلت نفسها بمثل ما أشغل به زوجُها نفسه، وربما بما هو أسوأ من ذلك "ودقة بدقة، وإن زدت زاد السقا" "وكما تدين تُدان" فهل ترون في حياة كهذه سعادة أو حبوراً؟! لا أشك لو أن بين أيدينا إحصائيات دقيقة لرأينا تزايد نسب الطلاق، والفشل في الدراسة، والإخفاق في الوظيفة، وتوالي الأحداث، وأنواع الجرائم من السرقات والخطف والسطو، قد تزيد طرداً مع تزايد انتشار تلك الأطباق المستقبِلة للبث.
نعم لا يخلو مجتمع من جريمة قلَّت أو كثرت؛ لكن الخط البياني للجريمة يرتفع ويعكس زيادة الجرائم كماً ونوعاً وكيفاً، بازدياد انتشار قنوات البث، وأجهزة استقبالها، فهل يبقى نزاع أو شك في أن تلك الأجهزة التي تستقبل البث قد جلبت إلى المجتمع أخطاراً متعددة؟ وهل يليق بعاقل أن يقبل ما يُفرزه وجود تلك الأجهزة من أخطار وأضرار أمام مصلحة أو فائدة يسيرة اسمها: أخبار، أو أسعار العملات والأسهم؟ وهل عُدمت أسباب الاطلاع على تلك الأمور أو الأخبار أو أسعار الأسهم والعملات إلا بطريق تخرب معها البيوت، وتُهدم الأسر، وذلك بهذه الأطباق؟! أيها الأحبة! ليس غريباً ولا عجيباً من رجل ولو في بيته جهاز الاستقبال وآلته أن يغضب وأن ينزعج، ولا يرضى حينما يرى غريباً يكلم أولاده وبناته حتى لو كان ظاهره الصلاح، حتى يعلم ولي البيت الذي في بيته الطبق ماذا يقول هذا الغريب لأولاده، وما نوع الحديث الذي يدور؟ وما مداه؟ وإلى أي قضية يتطرق؟ لكن العجيب المدهش أن ترى هذا الغيور على أهله وبيته يسمح للداخلين بغير استئذان، وهم ضيوف الشاشة من ممثلين ومطربين، وعارضات وراقصات، يسمح لهم بالخلوة مع أولاده الساعات الطوال، بل وفي كل عُصَير ومساء، فهلا تحركت تلك الغيرة لتطرد هؤلاء اللصوص بإبعاد هذا الطبق، أو هذا الدش عن البيوت؟! لقد نادى بعض الغربيين الذين لا يتمسكون بدين صحيح بإبعاد هذا الجهاز، وكتبوا، وحاضروا، وناظروا، مثبتين خطر تلك المستقبلات على عقول الناشئة، ومن ثم على الأسر والمجتمعات.
لقد صرَّحت منظمة اليونسكو، وهي منظمة غربية بأن البث المباشر أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية كرَّسها الزمن، ولا يريدون أن يقولوا بصريح العبارة: إن البث المباشر قد أفسد على المسلمين دينهم وعبادتهم.(120/5)
مفكرون يصفون خطر الأطباق
يقول أحد المفكرين: لقد خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام: (1956م) لكنه عاد إليها عام (1989م) إن هذا الاستعمار الفرنسي الجديد لم يرجع إلى الأسواق فقط، بل رجع ليشارك الناسَ في بيوتهم، وأسرة نومهم، ورجع ليقضي على الدين والأخلاق.
كان المستعمر يقيم بين أهل تونس بغيضاً مكروهاً؛ لكنه رجع ليُستقبل بالحب والترحاب، كانوا ينظرون إلى المستعمر يمشي في شوارعهم، فيمقتونه، أما الآن فيتلذذون بمشاهدته وبالجلوس معه، إنه الاستعمار الجديد، استعمار القلوب، وليس استعمار الأرض، إنه يهدد الأجيال الحاضرة والقادمة، والبنين والصغار.
ويقول الدكتور العبدان، أمين المجلس الأعلى للإعلام في هذه البلاد المباركة حماها الله وحرسها: إن البرامج الموجهة للصغار هي أكثر البرامج خطورة؛ لأن الطفل أكثر تعلقاً، وأسرع تأثراً، وأقل تمييزاً لِمَا يُقَدَّم من خلالها؛ لأن تأثيراتها السلبية قد يؤثر على سلامة العقيدة والسلوك.
ويقول الدكتور حمود البدر عضو مجلس الشورى: إن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفاز خمسة عشر ألف ساعة، بينما لم يقضِ في حجرات الدراسة أكثر من عشرة آلاف وثمانمائة ساعة على أقصى تقدير، إذا لم يتغيب درساً أو حصة واحدة.
أيها الأحبة! ولو ذهبنا نسرد وننقل لكم ما قاله الغيورون، وما قاله المفكرون، وماذا قاله أهل الاختصاص عن خطر هذه الأطباق لطال بنا المقام؛ ولكن تبقى كلمة واحدة: من يستجيب، ومن يبلغه النداء إلى قلبه، فيبادر بجوارحه لإخراج هذا الطبق.
أيها الأخ الحبيب! لا تتستر عن جيرانك برفع السور، أو وضع الطبق أقصى السطوح فإن الله يراك، وما يضرك وما عليك إذا رضي الله وسخط جيرانك؟ وما ينفعك لو رضي جيرانك وسخطَ الله؟(120/6)
نصيحة وتوجيه
يا أيها الأخ الحبيب! لا تتوار عن القوم، وأنت تعلم أنك تدخل سماً زُعافاً إلى بيتك وإلى أولادك وأهلك، ولا تخادع نفسك.
يا أيها الأخ الحبيب! بادِر بإخراجه قبل أن يكون تركةً تورَث بعدك، فيقال: مات فلان، وخلف دُشَّين أو طبقين.
إن من المضحكات المبكيات، وما سمعناه، وما تأكدنا منه: أن رجلاً قد ملأ بيته بسبعة دشوش، بسبعة أطباق، كل واحد منها يجلب ألواناً وأنواعاً من هذه القنوات، فلما ضاقت السطوح بهذه الدشوش، طلب من جيرانه أن يسعفوه، بأن يُسْلِفوه سطحهم أو يؤجروه، لماذا؟ لكي يضع فيه مزيداً من الأطباق.
يا خيبة هذه العقول! ويا خسارة عقول هؤلاء الذين لا يجدون فيها مجالاً أو مسرحاً أو ميداناً، إلا وترتع فيه هذه القنوات بسُمِّها، وفسادها، وخرابها، ومن ثم ينتقل إلى أولادهم.
إننا لتدمى قلوبنا، وتتقرح أكبادنا حينما نسمع أن فلاناً بن فلان مات، وترك في بيته ثلاثة أطباق أو أربعة أطباق، هلك هالك عن زوجة وأولاد، وماذا ترك لهم؟ ترك دُشَّين أو ثلاثة، وترك مستقبِلات، وترك أسهماً وأموالاً، ذلك أمر مخزٍ أن تموت وقد تركتَ هذا.
وخير لك أن تموت، وقد حجبت هذا الطبق عن بيتك ليُقال: هلك فلان عن ولد صالح، وصدقة جارية، وعلم يُنتفع به، هذا خير ما تموت عنه.
أيها الأحبة! وثمة أخطار! وثمة أضرار بهذه المستقبِلات! وهذه الأطباق في الجوانب الأمنية، وفي الجوانب الاجتماعية، وفي الجوانب التربوية، وفي الجوانب التعليمية، تكون موضوعاً لخطبة الجمعة القادمة.
أسأل الله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه أن يهدي من وضعها لإخراجها عاجلاًَ غير آجل.
اللهم اهدِ من وضعها، واشرح قلوبهم، وافتح على أفئدتهم بأن يتبصروا عِظَم الخطر الذي يوجد في منازلهم ليخرجوها عاجلاً غير آجل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! انظروا أنفسكم وناصحوا جيرانكم وأقاربكم، وبينوا لهم خطر هذا الأمر، خطره في الدين، وخطره في الدنيا، خطره على الزوجات، وخطره على الأولاد والبنات، خطره في كل جانب، وفي كل مجال وميدان، وما ضر الناس إذا غابت هذه الأجهزة عن بيوتهم؟! بل كثير من الناس لا يوجد في بيوتهم تلفاز أيضاً، ومع ذلك يأكلون ويمشون في الأسواق، وأولادهم يدرسون ويتخرجون وينافسون وينالون أعلى الأوسمة والدرجات والشهادات، لا كما يظنه البعض أن بيتاً لا يوجد فيه طبق فإن أهله يبقون متخلفين، تلك كلمة أو مصيبة أصبح البعض ينهزم أمامها لما يقوله بعض من ينتسبون إلى الثقافة، فيقول: إن بيتاً ليس فيه آلة، أو ليس فيه جهاز يطلع أهل البيت على واقع العالم من حوله يبقى بيتاً متخلفاً، وتبقى شخصيات أهله ناقصة.
وهل هذا البيت سيحكم العالم؟ وهل هذا البيت سيربط العلاقات الخارجية والسياسات الدولية؟ وهل هذا البيت سوف يعقد اتفاقيات الجات؟ وهل هذا البيت سوف يعقد صفقات عالمية؟ أو يدخل في ترسيم حدود حتى يضطر إلى مثل هذه الأجهزة؟ لا والله؛ لكنها دعاوى؛ لكنها مداخل يدخل فيها الشيطان على كثير من الناس، حتى يتزين بها في بعض المجالس، فيقول: رأيتُ في القناة الفلانية ذلك البرنامج الذي قيل فيه، ورأيتُ البرنامج الفلاني في القناة الفلانية ذلك البرنامج الذي يقال فيه، وخير لك أن تقول: غضضتُ بصري عن كل شر، وحميت سمعي عن كل لفظ، وأسلمتُ قلبي لله رب العالمين، لا شريك له.(120/7)
الغزو الفضائي [2]
إن أعظم خطر يداهم الأمة في عصرها الحاضر، ويؤثر على أخلاقها وجيلها هو خطر هذه الدشوش التي نشرت السم الزعاف بين أبناء المسلمين؛ فأثرت على المجتمع في الملبس والمأكل والمشرب، والأخلاق والتربية وغير ذلك، ولكن ثمة مخرج وهو: إخراجها من البيوت وتكسيرها، وغرس المفاهيم الصحيحة بدلاً عنها، والتناصح بين أفراد المجتمع، وغير ذلك من الأمور.(121/1)
آثار الغزو الفكري على الفرد والمجتمع
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين! مر بنا الحديث في جمعة ماضية عن خطر يقع فيه بعض إخواننا باختيارهم، ومرض يحل في أبدانهم بمحض إرادتهم، ذلكم هو خطر غزو الإعلام القادم الذي يتقبله بعض المسلمين بقبول حسن، وربما ترى وتسمع من بين هؤلاء من ينتقص أو يتهم الناصحين والمحذرين من شؤم هذه السموم الوافدة، يتهمهم بالرجعية أو التخلف، أو عدم مواكبة العصر والقدرة على فهم متطلبات الحياة المعاصرة، وحيث وعدنا بالحديث عن آثار هذا الغزو الفكري الإعلامي على جوانب عديدة في حياة الأفراد والمجتمعات فهاك ذلك.(121/2)
خطره على العقيدة
فأولها خطره على العقيدة: (الخطر العقائدي): ذلك أن الحقائق المستقرة في نفوس الناشئين خاصة وغيرهم عامة، ذلك أن الحقائق المستقرة في نفوسهم عن ربهم، وعن الغيب، وعن النبوات، وعن الأديان، وعن الملل تتعرض للزعزعة، وتدخلها الشكوك والرِّيَب، بسبب ما يُعرض في تلك القنوات من مضامين متعددة، في قوالب الأفلام والمسلسلات والحوارات والندوات.
ولقد علمتم وربما بعضُكم رأى أن حوارات تدور حول مُسَلَّمات العقيدة وتُطرح قضايا العقيدة، التي لا يجوز الشك والريب فيها للجدال والنقاش؛ لتصبح فرضيات ونظريات تقبل الرد أو القبول أو التطوير، مع كونها مُسَلَّمات لا يجوز أن ترد محل الخيار في القبول أو الرد، فأي خطر أعظم من هذا؟ في قناة فضائية عربية، عُرض فيلم هندي مترجم، ومن مشاهده الأليمة أن طفلاً لما رأى أخته الجميلة قد لدغها الثعبان، هرع مسرعاً إلى صنم، وأخذ يدعوه وينحني له، ويرجوه ويتوسل إليه أن يشفي أخته اللديغة، وإن لم يفعل هذا الصنم فالطفل يقول له -والعبارات بالعربية مكتوبة-: وإن لم تفعل فلن تُعبَد بعد اليوم، ثم عاد هذا الطفل إلى أخته ليجدها قد أفاقت وسلمت من شر الثعبان، وليستنتج الطفل المشاهد أن الصنم قد أجاب الدعاء، وكشف كربة أخته، ودفع المرض والسم عنها، فعاد الطفل إلى الصنم مرة أخرى، وقال له: سأظل أصلي لك شكراًَ على ما فعلت لأختي.
أيها الأحبة! تأملوا ما في هذا المشهد من المصائب الخطيرة: أولها: الكفر بالله عزَّ وجلَّ.
ثانيها: دعاء لغير الله، واعتقاد أن المخلوق يقايظ أو يهدد الخالق إن لم تفعل لم أفعل، وإن فعلتَ فعلت.
أي خطأ أعظم من هذا؟ أن تتعرض حقائق الربوبية الربوبية التي آمن بها كفار قريش، وهؤلاء يعرضونها في طفل يعبد صنماً، ويهدده إن لم تفعل لم أفعل، وإن فعلتَ فعلت، إن لم تشف أخته لم يعبد، وإن شفيت أخته عبد!! أي ضلال أعظم وأخطر من هذا؟! هذا غيض من فيض المشاهد التي تدعو صراحة إلى عبادة غير الله، واللجوء إلى غير الله، وعدم الثقة بالخالق، واتخاذ الوسطاء مع الله، فهل من غيور يخاف على ذريته الشرك، فيبادر بإخراج هذا الجهاز وذاك الطبق؟! لقد تصور كثير من الأطفال تصورات غريبة عن الرب والإله المستحق للعبادة وحده لا شريك له، من خلال تَجسيم تلك الأفلام، وتشبيهها، وتقريبها صورة الخالق بصفات المخلوق، أو تصوير المغيبات التي لا يعلم حقيقتها إلا الله، بصور تفسد مقاصد الرهبة منها، أو الترغيب فيها، ناهيك عن نسج العجائب والقصص عن الأنبياء، أما تعويد نفوس الناشئة على صور الصلبان، ومشاهد الكنائس والطقوس الشركية، فذلك أمر بات معهوداً في جل ما تعرضه تلك القنوات، ولا تسل عن تحبيب الكفار والمجتمع الكافر والأسرة الكافرة إلى نفوس ناشئتنا عبر تلك المشاهد والمواقف التي تحكي السعادة المزيفة، والأنس والحيوية الوهمية من قبل أبطال تلك الأفلام والبرامج، وربما قارن المشاهدون حياة الكفار بحياتهم فوجدوا بَوناً شاسعاً بين التمثيل وما هم فيه من بعض المشكلات، فلا يلبث أحدهم أن يتمنى أن يعيش بين الكفار، ثم يحتقر من حوله من المسلمين؛ لأوهام ما رأى، أليس هذا هدماً للولاء والبراء.
أين البراءة من الكافرين؟ وأين الولاء للمسلمين، والله عزَّ وجلَّ يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71]؟! والله عزَّ وجلَّ يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:73] إلا تفعلوا ولاءً أعظم من هذا، إلا تحققوا ولاءً بينكم، كما يحقق الكفار ولاءً بينهم: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
فهل يدرك هذا الخطر إخوانُنا وأحبابنا الغيورون على دينهم وعقيدة أبنائهم، فيبادروا بإبعاد هذا الجهاز وإزالة هذا الصحن؟!(121/3)
تقليد الكفار في اللبس وغيره
قلتُ في خطبة ماضية: إن من المشاهد المؤلمة التي أصبحت ظاهرة في كثير من الطرقات والأسواق، مشاهد بعض الشباب الذين قلدوا الكفار في لبس قبعة، وذلك اللباس الذي تقسم أنك رأيت مثله يرتديه أبناء الغرب وشبابهم في بلدانهم، ولا أقول: إن لبس القبعة حرام؛ لكن لبسها على وجه مشابهة الكافر، وتقليد الكافر هو الحرام، فقد أُمرنا وسُن لنا وشُرع في ديننا أن نخالف الكفار.
إليك تعدو قلقاً وضِيْنُها
معترضاً في بطنها جنينُها
مخالفاً دينَ النصارى دينُها
أيها الأحبة في الله: يا من يضعون هذه الأطباق في بيوتهم، ويستقبلون ما يعرضه الغرب عبر تلك القنوات! هل رأيتم الغربيين يقلدونكم في لبس ثيابكم، وغُتَركم، وعباءاتكم، أو أي أمر من طبيعة مجتمعكم؟!
الجواب
لا.
بل إن الغرب يجعلون زيكم شعار الجريمة، ويجعلون سمتكم عنوان التخلف في أفلامهم ومسلسلاتهم، فتراهم كثيراً ما يعرضون الزي العربي وزي المسلم، يعرضونه على حال رجل مشغوف بالجواري والنساء، يعبث بالأموال ويسرف بها، يعبث يميناً ويساراً بالمخدرات، متسلط بالسطو والجريمة.
فاسأل نفسك: من المهزوم ومن المنتصر؟ من الذي يقلد الآخر منهما؟ لو قدر لك أن تخالط أحد المنهزمين لأي سبب من الأسباب، لوجدت تقليداً أعمى في كثير من الأمور، لا لشيء سوى أن الغربي يفعل ذلك.
كثير من الفتيان والفتيات اليوم يرقصون ويسمعون ويسهرون ويلبسون ويخرجون ويتحدثون ويتصرفون، بل ويتخذون الكلاب، ويؤيدون الغرب في سلوك حياتهم المرفوضة ديناً وعقلاً، ويفعلون ما يفعله الغربيون، لا لنسب ولا لسبب، سوى الهزيمة أمام هذا الغزو القائم القادم.
أما الأثر الثقافي الذي أحدثته تلك القنوات الفضائية: فحسبك أن تعلم أن نسباً كبيرة من الطلاب قد انحدروا في مستوياتهم التعليمية إلى حد يعجز الكثير منهم عن المواصلة في المجالات النافعة المثمرة والبناءة.
ولا غرابة في ذلك فقد أثبتت الإحصائيات أن كثيراً من الطلاب اليوم يجلسون أمام الشاشة في متابعة القنوات أكثر من جلوسهم في مقاعد الدراسة.
لقد أصبح حتى الكفار يشكو بعضهم من غزو بعض؛ لما رأوا من تأثر شبابهم بما يُعرض في تلك القنوات، على الرغم من تقاربهم في شتى المجالات، ومع ذلك باتوا يشكون هذا الأمر، والخطر على الثقافة والتعليم؛ أفترون أننا بمنأىً عن ذلك الشر؟ لقد وقف رئيس فرنسا وزعيمها يشكو إلى الجماهير من خطر الأفلام الأمريكية، وتسلط المسلسلات الأمريكية على الشباب الفرنسي، ويصيح غاضباً: لماذا استولى الفكر والثقافة الأمريكية على التقاليد الفرنسية؟ بات الكفار يشكو بعضهم من بعض.
إننا لفي أشد خطراً، وأولى بالحذر مما يقع.
لقد أنتجت هذه القنوات جيلاً غريباً، صاغت القنوات الإعلامية فكره، وحددت مساره وثقافته، غالبهم حصرته في الفن والرياضة والأفلام والتمثيل، لقد أنتجت تلك القنوات جيلاً ليس له جلد على البحث والقراءة، أو التطبيق والتجربة أو المشاهدة والاستنتاج.
فيا أيها الغيور! هل ترى ذمتك بريئة في وضعك لهذا الدش وأنت ترى فيه ضياع مستقبل أولادك العلمي والثقافي، في وقت أصبح الحصول على مقاعد الدراسة بالجامعات من صور النجاح التي لا تُنال إلا بالدرجات والمستويات العالية؟! فهل ترى هذا الجهاز يقرب فرص النجاح والقبول لأولادك أم لا؟(121/4)
آثار الغزو في جانب التربية
أما آثار هذا الجهاز من جهة التربية: فثق أن من يتابع هذه القنوات من أهل بيتك إما صالح تفسده، وإما فاسد تزيده، وإما بريء تعلمه، وكلها شرور وظلمات بعضها فوق بعض.
فهل يسرك أن تجعل طبيعة وسلوك وسمت أبنائك وأسرتك يتكيف بما يرون ويشاهدون في هذه القنوات؟ من أين تعلم الأطفال والشباب الجريمة في بيت ليس فيه مجرم؟ لقد علمهم الدش.
من أين تعلمت الفتاة الجرأة على هتك الحياء والاستهتار بالعفاف؟ لقد علمها الدش.
تشكو أمٌّ من الأمهات فاجعتها في بُنَيَّتها الصغيرة التي تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، لما اكتشفت الأم أن الطفلة الصغيرة تعاكس بالهاتف رجلاً كبيراً.
فمن علم هذه الطفلة؟ إنه الدش.
من علم المرأة الإعراض والتكبر والنشوز على زوجها، والإمعان في هذا الإعراض، ومناقرته نقار الند للند، بعد أن كانت مطيعة قاصرة الطرف؟ إنه الدش.
وما الذي جعلها تهمل أولادها وبناتها لتشتغل بما رأت، أو بآثار ما رأت في ذهاب وإياب لا طائل وراءه ولا نتيجة بعده؟ بل ما الذي علم بعض النساء والرجال أساليب الخيانة الزوجية، وسبل إخفاء الجريمة؟ إنه البث المباشر الذي قاد بكثيرين إلى الزنا، الذي قاد بالكثيرين إلى الخنا، الذي قاد بالكثيرين إلى الفاحشة: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] والدش اليوم من الأساليب التي تقرب إلى الزنا.(121/5)
تطور أساليب الجريمة
إن من آثار هذا الغزو القائم والقادم: تطوُّر أساليب الجريمة، وانتشار مجالاتها.
لقد كانت الجريمة بدائية بسيطة سرعان ما تنكشف للأدلة الواضحة التي يخلفها المجرم وراءه.
أما الآن فقد تعلم كثير من المجرمين أساليب جديدة، منها ما يعتمد على التفكير المسبق، والتخطيط الدقيق، ومنها ما يعتمد على الفن والتقنية؛ لذا شاع وانتشر عند بعض المجرمين أساليب جديدة في السطو على المنازل، وسرقة السيارات، وترويج المخدرات، هذا مع إدراكنا وعلمنا أن بلادنا هذه ولله الحمد أقل البلدان على وجه الأرض من حيث وجود الجريمة ونوعها؛ لكن هذا لا يمنع من خطر الغزو القادم في هذا المجال، والتأثر به، ولو لم يكن من خطر هذا البث سوى تصدير أنواع الأفلام التي لا تمر على الرقابة الإعلامية، ومن ثم بيعها وترويجها، لكان كافياً في إفساد أمن المجتمعات وأخلاقها.
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
إنما الأمم الأخلاق ما بقِيَتْ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لقد أشارت إحصائيات أُجريت في أسبانيا إلى أن (39%) من الأحداث المنحرفين قد اكتسبوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والبرامج العدوانية.
وذكر بحث عن السلبيات في التلفاز العربي أن (41%) ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفاز يؤدي إلى انتشار الجريمة و (47%) يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال.
لقد تعلق بعض الشباب بالسفر إلى الخارج لما رأوا من مشاهد وصور خدعتهم بزيفها وبريق باطلها.
فظن بعضهم أن السعادة والأنس في تلك البلاد التي رآها عبر تلك القنوات، سيما وقد رأى صور النساء الفاتنات في الدعاية، يدعونه ويُغرونه، ويغمزون ويضحكون له في الشاشة؛ للسفر إلى تلك البلاد.
فلا تعجب يوم أن ترى بعض الشباب يعمل مدة، ثم لا يجد بعدها شيئاً يدخره أو يجمعه، لقد أنفق كل ما ادخره بلا اختيار، تحت سياط الدعاية الملحَّة؛ لإخراجه من بلاده الآمنة المطمئنة، إلى بلاد يجد فيها الخنا والفساد والخمور؛ حيث لا رقيب ولا حسيب.(121/6)
صور مما تجني المجتمعات من الدشوش
ثم حدث ولا حرج -أيها الأخ الغيور- عما يعود به المهزوم الذي سافر إلى تلك البلدان بقصد الخنا والفساد، تحت وطأة تلك الدعايات المفسدة للأخلاق والحياء والعفة! فكر بما يعود به ذلك المهزوم المنحرف الذي قضى وقتاً طويلاً في تلك البلاد، بين جنبات الغانيات, وبين صور الخنا، وبين صور الفساد! يقول المفكر الأمريكي بلومر، في بيان خطورة التلفاز الأمريكي على الأمريكيين، يقول: إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات، يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام.
وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب والمغازلة والإثارة الجنسية والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما والتلفاز.
وقام الدكتور ريتشارد الأمريكي، بدراسة مجموعة من الأفلام التي تُعرض على الأطفال عالمياً فوجد أن (29%) تتناول موضوعات جنسية و (27%) تتناول الجرائم و (15%) تدور حول الحب الفاسد.
وأنا أقول للذين يضعون الجهاز وطبق الاستقبال: اسألوا أنفسكم: كم نسبة مئوية من مسلسلات أو برامج تربوية، أو هادفة أو بناءة تعرضها تلك القنوات؟ أيها الأحبة! لِمَ نصر ونكابر ونعمد بإصرار على إهلاك أولادنا وبناتنا؟! لِمَ نتعمد طعن قلوب أبنائنا؟ لِمَ نتعمد هتك حياء وعفاف بناتنا؟ لِمَ نصر على بقاء هذه الأجهزة في بيوتنا؟! ألسنا نكد ونكدح من أجلهم، ونجمع المال لننفق عليهم، ونسهر إذا أصابهم مس أو ألم أو مرض؟ لماذا نعارض أنفسنا؟ لماذا نناقض أنفسنا بعد هذا كله؟! ثم بعد أن نعتني بلباسهم وعافيتهم وصحتهم وتعليمهم ندخل مجرماً يطعنهم في وجوههم، ومن خلف أظهرهم.
أيها الأحبة! بِمَ تفسرون تعلق بعض الشباب والشابات -والمراهقين خاصة- بشخصيات أقل ما تستحق عند اللقاء الركل والبُصاق، وأقل ما تستحق عند السماع الاشمئزاز والإعراض من أولئك الذين يسمَّون بالنجوم؟! لا شك أن البث المباشر هو الذي صنع لهم هذه القمم الشمعية التي تذوب عند أدنى حرارة في مواجهة بين الحق والباطل.
إننا أمة لنا تاريخ مجيد، فيه صفحات مشرقة، مملوءة بمواقف حقيقية، وليست كرتونية، وليست مواقف في خدع سينمائية، بل هي مواقف حقيقية؛ فجدير بشبابنا أن يتشبهوا بالقمم السابقة في الحق والجهاد، والبطولة والإباء.
ولكن يا للأسف! لقد استطاع هذا البث أن يرضيهم بالبديل عنها، جعله في الثرى مكان الثريا، والقبر مكان الصدر، والتبعية محل القيادة.
ومن خلال النقل المباشر يتعرف أولئك الشباب على الشخصيات العالمية التي تسمى بارزة في مختلف الأنشطة أو النجومية، ويتأثروا بها غاية التأثير، ويتعلق قلبه بها، ويحاكيها في سلوكياته المنحرفة، فكم تأثر من شباب بالشاذ الذي يسمى: (مارادونا) وكم تأثرت فتاة وفتى بالذي يُسمى: (مايكل جاكسون) في شذوذهم وفي تعاطيهم للمخدرات، وفي رقصهم، وفي عبثهم؟! أليس في القوم رجل رشيد؟! لقد أفسد هذا البث على الأسرة والمجتمع روابطه وأواصره التي كانت متينة في كثير من المجتمعات، فهل ترضى أن يظل هذا البث عندنا أو في بيوتنا حتى يصيبنا ما أصابهم من التمزق والتفكك؟ إن ضعف العلاقات الأسرية، وتضييع حقوق الوالدين والأرحام والجيران، وبروز الأخلاقيات الفردية السيئة من الأنانية وضعف الروح الجماعية، وضعف التعاون والتكافل الاجتماعي، وظهور المشكلات الزوجية، والتأخر في الزواج، وتفشي العزوبة والعنوسة، وتفشي الطلاق، ومحاربة تعدد الزوجات، والتعارف والصداقة، صداقة الفتى بالفتاة قبل الزواج، والتشجيع على ذلك، وتأثر المرأة المسلمة بتقاليد المرأة الغربية من الاهتمام بالأزياء العالمية، والحرص على صرخات وصرعات الموضة، وأنماط حياة الغرب، والإعجاب بعاداتهم، لَمِنَ الأمور التي أفرزها وجود هذه الأجهزة، ووجود هذه المستقبلات، وكل ذلك قد تزايد بنسب عالية بالتزامن مع قدوم الغزو المباشر، عبر تلك القنوات الفضائية.
أيها الأحبة! لقد أصبح مشاهَداً ملحوظاً على كثير أو على بعض المنهزمين ممن يتابعون قنوات البث المباشر أن البث والإعلام القادم قد اختص بنصيب الأسد من ساعات المشاهد، ولا شك أنه يعرض أنماطاً وعقائدَ وقيماً وسلوكاً وتعاملاً وأخلاقاً لا تمت إلى دينه أو مجتمعه أو قيمه بأدنى صلة؛ اللهم إلا العداوة والبغضاء.
لقد أصبح هؤلاء يرون كل بث وإعلام قادم بعين الإعجاب والمتابعة، وأما النافع من إعلام بلادهم والجيد منه فلا يرون له اعتباراً أو قيمة.
نسأل الله أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً.
نسأل الله أن يوقظ في قلوبهم جذوة الغيرة، وجذوة الفهم، وجذوة الإدراك لخطر هذه الأجهزة الموجودة في البيوت، وأن يدفع عنا وعنهم العناد والإصرار على المعصية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(121/7)
شبهة والرد عليها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! قد يقول كثير من الناس، وقد يقول بعض المثقفين، وقد يقول كثير من المتعلمين: ليس كلامك هذا وصراخك ونواحك حلاً جذرياً لمشكلة البث المباشر والقنوات الفضائية، أن تقول للناس: أخرجوه من بيوتكم، بل لا بد من التحدي والمواجهة، وهذا كلام فيه تخليط وتقريب بين الخطأ والباطل، وذلك أن مواجهة الشر لا تكون بقبول الشر، وإنما تكون أولاً برفضه وإبعاده، وتكون بأخذ الوقاية منه والتحذير من شره؛ حتى لا يقع الناس فيه وهم يشعرون أو لا يشعرون، وبعد ذلك التصدي له بجهد نعده ونصدره، لا أن نجعله في بيوتنا، ونجعل أولادنا وبناتنا وزوجاتنا وأطفالنا يتفرجون عليه، ثم نقول: إن مواجهة البث المباشر لا تكون بإخراجه من البيوت.
نعم إن سلامة أبنائنا وزوجاتنا وبناتنا من خطره تكون بإخراج هذه الأجهزة من البيوت أولاً، ثم نتصدى للبث المباشر بإعلام آخر، وبفكر آخر: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].
كثيراً ما سمعتُ هذه الكلمة في حوارات ومناقشات وفي جلسات يقول أحدهم لناصح أو لغيور: كلامك هذا فيه عاطفة إسلامية، وفيه غيرة جياشة؛ ولكن لا تظنن -يا أخي- أن الوقاية من خطر البث المباشر تكون بإخراجه من البيت، ثق أولاً، واعلم قبل كل شيء أنك مسئول عن نفسك، ثم من ولاك الله أمره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
فأول ما نريد منك أن تسلم من خطر البث المباشر في نفسك، وأن تدفع عن أولادك خطره وأن تسلمهم من شره بإذن الله، لا أن تجعله في بيتك، ثم تقول في الأندية والمقالات والمناسبات: لا تكون السلامة من الخطر إلا بفكر آخر، أو بطريق آخر، وهو موجود في بيتك! أبعده أولاً، أخرجه من بيتك أولاً، ثم بعد ذلك نفكر كيف نغزو هذا الإعلام في ذاته.
إن مُكِّن لنا ساعات من البث المباشر نُلقي فيها من المحاضرات والدروس والندوات؛ حتى ولو كانت المحاضرة بين فيلمين ومسلسلين ومشهدين، لا يمتنع أن يكون الخير في وسط يحارب فيه الشر، ولو كان الشر محيطاً به من كل جانب، لا يمنع أن نستأجر ساعات من تلك القنوات لنبث فيها فكراً إسلامياً، ولنفند فيها أباطيل وشبهات، لا يمنع أن تكون عندنا قناة إسلامية لنجعل بثها من أوله إلى آخره لتفنيد ذلك الشر الوافد، والأفكار المسمومة.
أما أن نجعله في بيوتنا، وأن نوزعه في المجالس وغرف النوم على أولادنا وبناتنا، ثم نقول: إن مواجهة الخطر المباشر أو البث المباشر لا تكون بالسب والشتم وإخراجه من المجالس، لا، إخراجه من المجالس يجعلنا في مأمن على أولادنا وفي طمأنينة على بناتنا وزوجاتنا، ثم محاربتُه ولو كانت هذه المحاربة في ذات قنواته، وأنتم تعلمون أن المجتمع الغربي خاصة، وكثيراً من هذه القنوات العربية أيضاً هي تجارية محضة، فلو دفع لها من المال ما يغريها لقبلت أن توجد من بين بثها ومن بين برامجها برامج ربما كانت داحضة ومبطلة لما يبثه أصحاب تلك القنوات، وأصحاب تلك البرامج.
إذاً أيها الأحبة! هذه الحيلة لا تنطلي علينا، فقول البعض: ليس الحل إخراجه من البيت خطأ، بل السلامة والعافية والصحة والنجاة بإذن الله بإخراجه من البيت، هذا فيما يتعلق بشخصك وأبنائك.
وأما فيما يتعلق بعموم الأمة، فذلك بأن نغزو، وأن نجاهد هذا الإعلام، إما بقنوات نصدِّرها ونبث منها، وإما بأن نستأجر من تلك المحطات، أو نشارك فيها بقدر ما استطعنا، فكلمة حق تقذف بالباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].(121/8)
كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته
أيها الأحبة في الله! إن من أهم الأمور التي ندفع بها هذا الخطر: أن نعود إلى الله عودة صادقة، وأن نتذكر: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8] إن الرجعى إلى الله، وإن المآل إلى الله، وإن المنتهى إلى الله، فماذا نفعل أو نقول، أو نُبدي حجة أو عذراً حينما يسألنا الله عزَّ وجلَّ: ماذا فعلتم بهذه النعم التي بين أيديكم؟ اجعلوا الله عزَّ وجلَّ بين أعينكم، وراقبوه في أفعالكم وتصرفاتكم.
ثم إن من الأمور التي ندفع بها هذا الشر: أن يهتم كل واحد منا ببيته، وأن يحذر على أولاده وأسرته: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته).
إن غاية الاهتمام والعناية بالولد لا تقف عند كونك تربيه أو تعالجه، بل إن كنت تريد أن تستفيد منه فاجعله ولداً صالحاً يدعو لك: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها: ولد صالح يدعو له) أتخلف ولداً صالحاً يدعو لك وأنت قد جعلت الأفلام والقنوات بين ناظريه منذ طفولته؟! أتخلف ولداً صالحاً يدعو لك وأنت قد أسلمت له الزمام والقيادة فذهب كيفما شاء، وارتحل كيفما اتفق؟! إنها لمن أعظم المصائب! وإن التفكير الجاد، وإنها دعوة لأولي العقول والمخترعين والمكتشفين والنابغين من المسلمين، أن يفكروا بكل جدية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أن يفكروا في إيجاد أجهزة أو اختراعات تشوش على هذا البث، وتمنع من شره وخطره.
إن هذا داء (وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه, وجهله من جهله) وإنا نقول بإذن الله: ما عقمت عقول أبنائنا الشباب الذين برزوا في الطب، والهندسة، والذرة، والهندسة النووية، وفي شتى المجالات، ما عقمت ولن تعجز بإذن الله عن اكتشاف ما يشوش على هذا بإذن الله ومنه، خاصة إذا استحضروا التقوى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
ثم إن المناصحة، والمكاتبة، والمراسلة، والزيارة لأولئك الذين تهاونوا بهذه الأطباق، وجعلوا هذه الأجهزة في بيوتهم، ومناصحتهم غاية النصيحة لمن أهم الأمور.
إننا لنفزع ونتحرك ونبادر حينما نرى رجلاً أهمل زوجته، أو نبادر حينما نرى آخر في ذمته دين وهو يقدر على سداده فيماطل، ونبادر حينما نرى خطراًَ على أحد لنناصحه، فلماذا لا نناصح أصحاب هذه الأجهزة في بيوتهم؟! لِمَ لا نزورهم فرادى وجماعات؟ {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] ادخلوا عليهم، واسألوهم وقولوا لهم، وردوا وأجيبوا بالحسنى والحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
يقول سماحة العلامة الشيخ: محمد بن صالح بن عثيمين في خطبة له ألقاها في يوم الجمعة: (25/ 3/1417هـ) قال فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرجل راعٍ في أهله، ومسئول عن رعيته) وعلى هذا فمن مات وقد خلف في بيته شيئاً من صحون الاستقبال -الدشوش- فإنه قد مات وهو غاش لرعيته.
ولهذا نقول: إن أي معصية تترتب على هذا الدش الذي ركبه الإنسان قبل موته فإن عليه وزرها بعد موته، وإن طال الزمن وكثرت المعاصي.
فاحذر أخي المسلم أن تخلف بعدك ما يكون إثماً عليك في قبرك، وما كان عندك من هذه الدشوش فإن الواجب عليك أن تكسره؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا في وجه محرم غالباً، لا يمكن بيعه؛ لأنك إذا بعته سلطت المشتري على استعماله في معصية الله، وحينئذ تكون ممن أعان على الإثم والعدوان، وكذلك إن وهبته، فأنت معين على الإثم والعدوان، ولا طريقة للتوبة من ذلك قبل الموت إلا بتكسير هذه الآلة (الدش) التي حصل فيها من الشر والبلاء ما هو معلوم اليوم للعام والخاص.
ثم يمضي فضيلته قائلاً: احذر يا أخي أن يفاجئك الموت وفي بيتك هذه الآلة الخبيثة، احذر احذر احذر فإن إثمها ستبوء به، وسوف يجري عليك الإثم بعد موتك.
نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الأحبة! إذا علمنا أن هذا خطره، وقلنا وبيَّنا فيما مضى أن الذين تلزمهم طبيعة أعمالهم أو مهماتهم أو درجاتهم ومناصبهم الأمنية والسياسية أن يتابعوا ما يلزمهم متابعته، أو يفترض عليهم متابعته، فإن ذلك ليس بعذر لبقية الناس، ولبقية بعض الذين وضعوه لا لشيء إلا للشهوات، أو النظر إلى الشبهات، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم اعلموا -عباد الله- أننا ننتظر من الله الفرج في إنزال الغيث من السماء؛ ولكننا نغفل أن من بيننا من يستقبل هذا البث وأن فينا من يتعاطى الكبائر، وأن فينا من غصب الحقوق ولم يرد المظالم.
فالله الله بالتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإن كثيراً من المسلمين يستقبلون تلك المصائب والمنكرات برضىً وطيب نفس، كأنهم أمنوا مكر الله عزَّ وجلَّ, ونسوا لقاءه وحسابه، إن الله يمهل ولا يعاجل العقوبة بعباده.
فاحذروا يا عباد الله سخط الله وعذابه، وتأملوا حال السلف وحذرهم من المعصية، حتى أن بعضهم قال: [إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات] أي: من المهلكات.
اللهم وفق واهد وأصلح أولئك الذين وضعوا هذه الأطباق في بيوتهم إلى إخراجها.
اللهم أصلح ذرياتهم، واهدهم واهدنا جميعاً، وأعنا وإياهم على الحق بإخراجها، والبراءة من المنكر في إبعادها وتحطيمها.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم لا تمنع عنا الغيث بالربا، أو المنكرات، أو المعاصي، اللهم إن عَظُمت ذنوبنا فإن فضلك أعظم, وإن كثرت معاصينا فإن فضلك أكثر وأكبر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا غنى لنا عن رحمتك، ولا غنى لنا عن فضلك ومنك وجودك وكرمك، يا من رحمتك وسعت كل شيء.
اللهم اسقنا غيثاً هنيئاً مريئاً مغيثاً سحاً طبقاًَ مجللاًَ نافعاً غير ضار.
اللهم اسق العباد، والبهائم، والبلاد، واجعله اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، يا رب العالمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع اللهم شملنا وعلماءنا وحكامنا، واهد اللهم ولي أمرنا، ومتعه بالصحة والعافية على طاعتك، واجمع شمله وإخوانه وأعوانه، وسخر له ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك في عز دينك وإعلاء كلمتك.
اللهم ثبتنا على طاعتك إلى أن نلقاك، وتوفنا على أحسن حال يرضيك عنا.
اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً إليك غير مخز ولا فاضح، يا رب العالمين! اللهم صلِّ على محمد وآله وأزواجه وصحبه.(121/9)
الغفلة في حياة الناس
الغفلة داء معنوي يصاب به الناس، فلا يروق لهم سماع الموعظة، ولا التفكر في الموت أو الآخرة، والمشكل في هذا الداء أن المصابين به لا يشعرون به، بل ويظنون أنهم في حال حسنة.
وفي هذه المادة بيان لمظاهر الغفلة، وبعض أسبابها، والمواطن التي ينتبه فيها الإنسان من غفلته.
كما وردت في ختام هذه المادة بعض الأمور التي تعتبر علاجاً للغفلة، وبعض الأمور التي تحتاج إلى التفكر فيها.(122/1)
غفلة الناس عن المواعظ
الحمد لله القائل عن أهل الغفلة: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! الحديث عن الغفلة وواقعنا في الغفلة، وحينما نتحدث عن الغفلة لا نخاطب أقواماً خارج المساجد فقط، أو بعيدين عن حلق الذكر ورياض الجنة، بل نخاطب أنفسنا الغافلة، وعقولنا التي تشتت بها أمور الدنيا وذهبت بها كل مذهب، لعلنا أن نعالج أنفسنا قبل أن نعالج غيرنا، ولعلنا أن نعظ أنفسنا قبل أن نعظ غيرنا، فحاجة القلوب إلى المواعظ والزواجر كحاجة النبات إلى الماء إذا انقطع عنه الماء مات.
أيها الأحبة! إن طائفة من إخواننا المسلمين لا يجعلون لتعهد إيمانهم ومراقبة حياة قلوبهم وقفات أو جلسات كما يجعلون الأوقات الطوال لأمور معيشتهم ودنياهم، وكثير منهم يحبون الحديث عن الرجاء والرحمة والمغفرة والجنة فقط، أما الحديث عن الغفلة والخوف والنار وسوء الخاتمة وعاقبة الذنوب والموت والقيامة وأهوال الحشر فلا ترى الكثيرين يحبون الحديث عن ذلك.
بل لقد سمعنا هذا مراراً من أقوام إذا ذكروا بالله عز وجل وخوفوا بعذابه وعقابه، وخوطبوا بالتذكر والتدبر لآيات الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي فيه الاستعداد قبل الممات، والاستدراك قبل الفوات قالوا: هذا شيخ متشائم! وهذا شيخ عباراته قاتمة! وليس عنده عبارة فيها بشارة أو تفاؤل! لا يحدثنا إلا عن الموت، عن الصراط، عن القبر وعذابه، عن الحشر وأهواله، عن سوء الخاتمة، عن خطر الحرام ماذا تشتهون من المواعظ؟ يقولون: حدثنا عن الرحمة الواسعة، حدثنا عن المغفرة الشاملة، حدثنا عن الجنة، حدثنا عن الوعد ولا تحدثنا عن الوعيد.
وذلك أمر خطير إذ الحق والشرع والدين أن يتحدث عن ذاك وذاك، عن الخوف والرجاء، والمغفرة والعقوبة، وعن الجنة والنار.(122/2)
الإعراض عن معرفة الآخرة والاهتمام بمعرفة الدنيا
فيا أحبابنا! ينبغي أن نقف وقفات تلو وقفات، فإن تكلمنا عن نعيم الجنة فلنتحدث عن عذاب النار، وإن تكلمنا عن البشائر والتفاؤل فلنتحدث عن الخطر والتغافل، إن حرصنا على الدنيا ومعرفتنا بها بلغ حداً لا يوصف، أما شأن الآخرة فكثير منا قد جمع فيه بين الجهل والغفلة، يقول الحسن البصري: [والله لبلغ من أحدهم بدنياه أن يقلب الدرهم والدينار على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي].
معاذ الله، وعياذاً بالله، ونلوذ بالله ونلتجئ به أن نكون ممن قال الله فيهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا: يعلمون أمر معاشهم كيف يكتسبون، وكيف يتجرون، ومتى يغرسون ويزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يعيشون ويبلون، أما شأن الآخرة فهم عنها ساهون وبها جاهلون، لا يتفكرون فيها ولا لأجلها يعملون.(122/3)
إنكار الناس لغفلتهم
نرى كثيراً من إخواننا هداهم الله ينزعج من الكلام عن قضية الغفلة، ولا يحب طرح هذا الموضوع، بل ربما بادرك برده قائلاً عاجلاً: ألست ترانا نصوم ونصلي فعن أي غفلة تتحدث؟ لا إله إلا الله! ويا سبحان الله! لقد عظمت هذه الغفلة حتى حجبت الكثير عن التفكر والتدبير، نحن في غفلة عن الآخرة، والحساب قريب: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
أهل الدنيا في غفلة، ونحن نعيش غفلة بالغة في دنيانا، ويردنا ويبعدنا ويوقظنا من سبات الغفلة أمثال هذه المجالس، حلق الذكر ورياض الجنة التي بإذن الله يجد الذين ضلت قلوبهم منها بغيتهم، والذين فقدوا رقة وشفافية أفئدتهم يجدونها في هذه الأماكن، حيث تغشى السكينة، وتحف الملائكة، وتتنزل الرحمة، ويذكر الله هذا الملأ فيمن عنده بمنه وكرمه ومشيئته.
أيها الأحبة في الله! نحن في غفلة عظيمة، وأهل الدنيا عموماً في غفلة، قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] فأهل الدنيا في غفلة، روى أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل النار النار، وأدخل أهل الجنة الجنة يجاء بالموت كأنه كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟! قال: فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت.
ثم ينادي مناد: يا أهل النار أتعرفون هذا؟! فيشرئبون وينظرون، وكلهم قد رأوه، فيقولون: نعم، هذا الموت.
فيؤخذ ويذبح، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود ولا موت!، ويا أهل النار خلود ولا موت! فذلك قول الله تعالى: ((وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ)) [مريم:39] قال: أهل الدنيا في غفلة) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت مدامع عينيك الدموع السواجم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم
وتشغل في ما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم(122/4)
الدنيا أهم أسباب الغفلة
نحن في غفلة عظيمة، غفلة في الدنيا عن الآخرة، وذلك -وايم الله- جماع المصائب وبؤرة الحرمان، وقال صلى الله عليه وسلم في هذا: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) رواه ابن ماجة وابن حبان والإمام أحمد رحمهم الله.
الذين يتشاغلون وهم في غفلة لأجل ماذا هذه الغفلة؟ ولأي غاية هذه الغفلة؟ تجد جواب الحال إن لم يجيبوا بلسان المقال، تجد جواب الحال: أن غفلتهم من أجل دنياهم.
وما علموا أن اشتغالهم بأمر الدنيا يشتت عليهم أمورهم، ويجعل الفقر بين أعينهم، ولا يزيد لهم في قسمة الله التي قسمها لهم من أرزاقهم، ولو أنهم جعلوا الهم والغاية والمنى والقصد في مرضاة الله عز وجل لجمع لهم كل ما تشتت، وجعلت الدنيا تتبعهم رافضة ذليلة تلحقهم، وتكفل بشئونهم وأمورهم، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به هموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك) رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [ما انتفعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منفعتي بشيء كالذي كتب به إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ قال: أما بعد: فإن المرء يسره درك ما لم يدركه فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فات منها، وليكن همك لما بعد الموت].(122/5)
أهم الأمور التي نغفل عنها
أيها الأحبة! نحن في غفلة عن يوم القيامة وما ينتظرنا فيه، ونحن في غفلة عن القيامة أو عن أول أحوال القيامة ألا وهي سكرات الموت وأهواله ومطلعه، يقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:19 - 22] والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا اليوم، كنت في الدنيا في غفلة عن ذلك اليوم فكشفنا عنك غطاءك: ذلك الران، وذلك الغطاء الذي كان على قلبك وسمعك وبصرك، فبصرك اليوم حديد: أي نافذ تبصر ما كنت تنكره في الدنيا.(122/6)
الغفلة عن الآيات الشرعية والكونية
ونحن في غفلة -يا عباد الله- عن آيات الله عز وجل، وكما يقول ربنا سبحانه: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس:92] الآيات الكونية والآيات الشرعية التي توجب الاعتبار والتدبر والادكار والتفكر، التي توقظ من سنة الغفلة، ونحن عنها غافلون إلا من رحم الله وقليل ما هم ذلك، ونحن في غفلة عن آيات الله عز وجل، ومعاذ الله أن تبلغ بنا الغفلة إلى أن تكون غفلة كاملة مستحكمة تامة كما غفل الكافرون عن آيات الله سبحانه وتعالى، فجمعوا بعداً وقنوطاً من الآخرة، ورضىً بالدنيا وطمأنينة بها، وهم بعد ذلك وقبله في غفلة عن آيات الله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8](122/7)
غفلة الإنسان عن نفسه وذنوبه
الغافل عن نفسه، والغافل عن ذنوبه، والغافل عن أعماله يجمع المصائب تلو المصائب، وبلايا مع البلايا، وفتناً مع الفتن، وعظائم مع العظائم، وهو لا يدري ما تجمع عليه وما تحصل له من سوء عاقبة ما اجترحت يداه، ونطق به لسانه، ومشت إليه قدماه أو نظرت إليه عينه، أو سمعته أذنه، لا يبالي أأصبح مطيعاً أم عاصياً، أمضى ومشى إلى طاعة الله أم إلى معصيته، إلى حلقة ذكر أم إلى جلسة لهو، إلى مجلس عبادة أم إلى مجلس فسق وباطل، إلى مجلس حلال أم إلى مجلس حرام، أولئك الذين غفلوا عن أعمالهم فلا يحاسب الواحد نفسه قبل أن يخرج: إلى أين؟ ولأجل من؟ وما هي العاقبة؟ وما الخاتمة؟ وما النتيجة؟ أولئك هم الغافلون.
الذين يتذكرون، الذين هم أصحاب القلوب الحية والسليمة يسائلون أنفسهم في كل حركة وخطوة وكلمة وصمت وذهاب وإياب وغدو ورواح: ماذا أرادوا بهذا؟ ولأجل من؟ وما الغاية؟ وما الطريق؟ وما النتيجة؟ وكيف العاقبة؟ وهل يباعد من الله أم يقرب منه؟ أما الغافل والجاهل وأما المنافق فهو لا يبالي بذلك أبداً، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به: هكذا] رواه البخاري ومسلم موقوفاً عن ابن مسعود.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاًُ يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) رواه البخاري ومسلم.
فيا سبحان الله! ممن تراهم يكابرون ويصرون ويعاندون وينكرون أنهم في غفلة، تقول لهم وتحذرهم وتخوف نفسك وإياهم من الغفلة فيقولون: وأي غفلة تتحدث عنها؟! وأي غفلة تخوف الناس منها؟! وأي غفلة تصيح بها في كل ناد وفي كل واد؟! وتقول للناس: أنتم في غفلة.
الناس في خير، والناس على كل خير، والناس إلى خير، فأي غفلة تتحدث عنها؟ عن أشباح في الظلام، أم عن شياطين وهمية؟ ما هي هذه الغفلة التي تتحدث عنها؟ وذلك من أعظم المصيبة: ألا يعلم الغافل أنه في غفلة كما قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] إنهم في نسيان وينسون أنهم في نسيان، وذلك هو العذاب المضاعف، وذلك هو البلاء المركب.
أو ما ترون -يا عباد الله- البث المباشر يعرض ألوان الفساد في البيوت وينكر الكثيرون أنهم في غفلة، الغناء واللهو ينعق في دور كثير من المسلمين ليل نهار وينكرون أنهم في غفلة، أولادهم في حالة يرثى لها من سوء التربية وسوء الأخلاق وينكرون أنهم في غفلة، نساء وبنات غاديات رائحات متبرجات متعطرات في الأسواق وينكرن أنهن في غفلة، ويعاندون ويكابرون أنهم في غفلة! إن لم تكن هذه هي الغفلة، وإن لم تكن المعصية هي الغفلة فبم نسمي هذه الغفلة؟ نسميها القربات؟ نسميها الدرجات؟ نسميها المسابقة إلى الخيرات؟ نسميها المنافسة إلى الصالحات؟ لا إله إلا الله ما أشد جدلنا! وما أعظم إعراض المعرضين والغافلين! ولا حول ولا قوة إلا بالله! {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].(122/8)
ضرورة المبادرة باليقظة من الغفلة
نعم -أيها الأحبة- الذين هم في غفلة وينكرون أنهم في غفلة متى يستفيقون؟ ومتى يستيقظون؟ ومتى ينتبهون؟ ينتبهون إذا حلت المصائب بدورهم، وتربعت بين أظهرهم، ونزل الخوف وتسربلت به أيديهم وأقدامهم وأرجلهم، وفصل على أبدانهم، إذا ذاقوا لباس الخوف والجوع بما كانوا يصنعون، إذا رأوا عاقبة ما كانوا يفعلون أدركوا بعد غفلتهم أنهم كانوا في غفلة، وقد كانوا يجادلون ويكابرون وينكرون أنهم في غفلة، ولا يحبون الناصحين، ولا يحبون من يقول لهم: إنكم في غفلة.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) رواه الإمام أحمد وغيره.(122/9)
غفلة الناس عن ذكر الله
الغفلة عظيمة، وحسبنا الغفلة عن ذكر الله، إن كثيراً منا وإن عد نفسه من الأخيار والصالحين لا يذكر الله عز وجل في غالب أحيانه، وإنما نصيب الذكر من أوقاته، ونصيب الذكر من حالاته نصيب قليل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9] الخاسر: الذي يغفل عن ذكر الله، المغبون: الذي تضيع أيامه وتضيع لياليه وسنواته وأشهره وساعاته وأوقاته، قد شغل بكل قيل وقال وكل غاد ورائح، وقد شغل بما لا يعنيه إلا ما كان من ذكر الله عز وجل، الذي يهمه وينفعه في الدنيا والآخرة فتراه مشغولاً عنه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهل يعجز أحد عن ذكر الله؟ تلكم العبادة التي جعل الله فيها أجوراً كثيرة في جارحة صغيرة بحركة يسيرة، تلكم العبادة العظيمة الجليلة، لا تعجز عن ذكر الله، ولا تعجز المسلمة عن ذكر الله في كل أحوالها، لا يعجز الجميع عن ذكر الله غادين أو رائحين، قائمين أو قاعدين، مضطجعين أو يتحركون، مصبحين أو ممسين، في كل أحوالهم، والله لو كان الذكر بحركات الأيدي لخلعت الأيدي، ولو كان الذكر بحركات الأقدام لكلت عن المشي، لكن الذكر بحركة اللسان، بأصغر جارحة، وبأيسر جارحة، وبأهون حركة في أيسر جارحة، أن تحرك لسانك قائلاً: لا إله إلا الله، سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر، أستغفر الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تستغفر ربك وتدعوه وتناجيه فيكتب لك ذلك.
وفيه من الأجر العظيم ما الله به عليم، تمحى به السيئات، وترفع به الدرجات، وتحيا به القلوب، ويكون حرزاً لك من الشيطان، لا يصيبك مس، لا يصيبك سحر، لا تصيبك عين، ولا أذى: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة كان كمن أعتق عشرة من ولد إسماعيل، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة خطيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان سائر يومه ذلك) بنقل جبال؟ بنقل بحار؟ بمشي أميال؟ بصدقة أوزان الجبال من الأموال؟ لا، حركة يسيرة على جارحة صغيرة، بهذا اللسان الذي لو جعلنا آلة تحصي حركاته وتحصي كلماته وتحصي حروفه لوجدنا أننا تكلمنا ملايين الكلمات أو مليارات الكلمات، ولو أحصينا ما نطقنا به من ذكر الله وطاعة الله وتسبيح الله وتهليله وتحميده وتكبيره لوجدنا أقل القليل من ذلك ما كان في ذكر الله عز وجل.
يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب: الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداة الله ورأسها، فإن العبد لا يزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه الله فيواليه، ولا يزال العبد في غفلة عن ربه حتى يبغضه الله فيعاديه.
فيا حسرة الغافلين عن ذكر الله! يا حسرة الغافلين بالملاهي! ويا حسرة الغافلين بالأغاني! ويا حسرة الغافلين بالأفلام! ويا حسرة الغافلين والغافلات بالمسلسلات في القنوات الفضائية عبر الدشوش وغيرها! إن بعض المسلمين -هداهم الله- منذ أن يصبحوا إلى أن يمسوا وهم في غفلة، وهم في لهو عن ذكر الله عز وجل، البيت مملوء باللهو، والسيارة مشغولة باللهو، والمجالس مشغولة باللهو، فأخبروني بالله عليكم متى يتذكر أولئك؟ إذا بلغت الروح الحلقوم متى يتذكر ذلك؟ إذا حلت المنية متى يتذكر أولئك؟ إذا عجز عن الذكر وأصبح مقهوراً عاجزاً حاسراً بعد أن كان قادراً،
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان(122/10)
غفلة الناس في مجالسهم
لقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغفلة عامة، وحذرنا عن الغفلة بالمجالس، واعلموا أن كل مجلس لم يذكروا الله فيه إلا عدوا من الغافلين، وكان مجلسهم شاهداً عليهم في الغفلة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلسهم لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة) رواه أبو داود والحاكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا لله فيه، ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم) أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما، ومعنى: (إلا كان عليهم ترة): أي تبعةً وحسرةً وندامةً يوم القيامة.
فيا أيها الأحباب! إذا علمنا أن المجالس، أن العلاقات، أن الجلسات، أن اللقاءات ستكون حسرات وندامات ما لم يكن ذلك في طاعة الله ومرضاته، ما لم نطرد الشياطين ونعطر القلوب والأسماع والحاضرين بذكر الله سبحانه وتعالى وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهل يضيرنا أي اجتماع اجتمعناه، وأي لقاء التقينا فيه، هل يضيرنا قبل أن نبدأه -أياً كان- أن نستفتحه بآيات من كلام الله، وأن نعلق عليه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجتمع لنا خير المجلس، وخير الكلام، وطيب الدعاء، ثم بعد ذلك نفيض فيما نشاء أن نفيض فيه من أمور دنيانا، أيضيرنا ذلك؟ أيعجزنا ذلك؟ لا والله، لكنك تعجب يوم أن يكون الذكر ثقيلاً على الأنفس، فإذا استفتح جالس من الجالسين مجلسة وقال: أيها الحضور أيها الأحباب أيها المجتمعون حتى لا يكون المجلس ترة، حتى لا يكون حسرة، حتى لا يكون ندامة دقائق نستفتح بها هذا المجلس بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، رأيت كثيراً أو رأيت بعض الجالسين يشمئزون ويزورُّون وتدور أعينهم كما تدور أعين الذي يغشى عليه من الموت يا سبحان الله! ولو كان الحديث أوله وآخره وأوسطه وقلبه وقالبه وباطنه وظاهره في سخافات وفي هراء، وفي ما لا تحمد عاقبته لقهقهوا وضحكوا، وطال المجلس إلى ساعات طويلة حتى يرتفع النهار أو ينتصف الليل، ولا يبالون ولا يعدون ذلك شيئاً، ولا يعدونه أمراً ثقيلاً، لكن إذا قام قائم أو ابتدأ متكلم وقال: يا معاشر الأحباب! يا معاشر الحاضرين! في هذا الزواج، في هذه المناسبة، في هذه العقيرة، في هذه الوكيرة، في هذا اللقاء، قبل أن نفيض في شأن دنيانا وعلاقاتنا نبدأه بذكر الله عز وجل، وجدت منا من تدور عينه، ووجدت منا من يزوَّر بوجهه، ووجدت منا من يتأفف مم تتأفف؟ أما تخشى أن تكون من الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]؟ أي غفلة استحكمت في المجالس اليوم؟ أي غفلة استحكمت في اللقاءات اليوم؟ حتى بلغ الأمر إلى درجة أنهم لا يذكرون الله فيها؟ بل يعترضون ويتأففون ممن يدعوهم إلى ذكر الله عز وجل.(122/11)
الغفلة خسارة عظيمة
أين نحن ممن أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم وحذرهم من الغفلة كما أخبر صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما أخذ الحبيب بمنكبه فقال له: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] لقد غبنا، إننا نخسر خسراناً مبيناً ونخسر خسراناً عظيماً، والله لو أن الواحد إذا جاء يستلم راتبه أو يستلم أجرته أو يستلم ما يتقاضاه من أجر على عمل أنقص له من أجره وراتبه شيء لجحظت عيناه، وشخص بصره، واشرأب عنقه، واشتد حنقه، وانتفخت أوداجه، واحمر وجهه غضباً على ما نقص من حطام الدنيا من أجر أو متاع قليل، ولكننا نخسر خسارة عظيمة، صفقات خطيرة تضيع منا ونخرج متضاحكين، ونخرج ساهين، ونخرج لاهين، لقد استحكمت فينا الغفلة حتى إننا لنغبن غبناً واضحاً ثم لا ندري ما الذي حل بنا.
أي غبن وأي صفقات نخسرها من الصحة والعافية ومن الفراغ؟ يضيع منا الكثير منه في غير طاعة الله عز وجل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) رواه البخاري.
أرأيتم صحيحاً سخر عافيته وجلده وقوته ونشاطه لطاعة الله سبحانه وتعالى أيعد مغبوناً؟ لا وايم الله، ولكن الكثيرين من الأقوياء يسهرون ويتعبون، ويجعلون أوقاتاً مخصصة محددة بكل دقة لتخفيف الوزن ولرفع الأثقال، ولكمال الأجسام، ولبلوغ الأرقام القياسية في تنمية عضلات الزند وعضلات الفخذ وتقوس الظهر وعضلات البطن وعضلات الصدر، وينفقون على ذلك أموالاً وأوقاتاً ولا يذكرون الله فيها، ومع ذلك لا يرى أنه ضيع شيئاً، هذه العافية بدلاً من أن تكون في طول القيام وطول القنوت وطول الخشوع وطول التذلل والانكسار لله عز وجل، الجلد، الحيوية، القوة، الشباب ما صرفت في صيام النهار، وما صرفت في قيام الليل، وما صرفت في قضاء الحوائج، ولا في شفاعة للمسلمين، ولا في إغاثة للملهوفين، ولا إعانة للمحتاجين، ولا كفالة للأيتام، ولا إعالة للأرامل، ولا قيام على المساكين في ماذا؟ كثير من الشباب جعلها في العدو والركض والسباق، وكمال الأجسام وحمل الأثقال والسير على الجهاز والعدو على الدراجة الواقفة وغير ذلك.
إننا لا نحرم أن تنمي بدنك، وأن تعتني بصحتك، وأن تتعاهد قوتك، ولكن انظر الفرق العظيم والبون الشاسع بين ما تجعله لبدنك، وما تجعله لطاعة ربك:
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته ضيعت عمرك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن كانت النفس والقلب وإن كان الفؤاد والعقل يحمل هماً في طاعة الله ومرضاته، والاشتغال بعبادته والخوف من عذابه فتلك والله نفس إنسان، وإن كانت نفساً لا هم لها إلا الأكل والشرب والنكاح والنوم فتلك نفس بهيمة إذ البهائم تشاركه في هذا.(122/12)
موقفان يتنبه فيهما الغافلون
لقد استحكمت فينا الغفلة حتى فاتتنا غنائم كثيرة فلم نسخر هذه الغنائم في طاعة الله ونيل مرضاته، بهذه الغفلة -أيها الأحبة- فاتتنا غنائم الحياة فلم ننتبه إلا عند الموت، وفاتتنا غنيمة الصحة فلم ننتبه إلا عند المرض، وفاتتنا غنيمة الفراغ فلم ننتبه إلا عند الانشغال، وفاتتنا غنيمة الشباب فلم ننتبه إلا عند الهرم، وفاتتنا غنيمة الغنى فلم نفق إلا حال الفقر.
قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان.
ولذا يتفطن الغافلون إلى هذه الغفلات ولكن متى ينتبهون أنهم كانوا في غفلات، وكانوا في أمر مريج، وفي أمر عجيب في غفلتهم، في تضييع هذه الأمور مجتمعة؟ ينتبهون في موقفين: الموقف الأول: في ساعة الاحتضار يعلم الغافل أنه كان غافلاً، الغافل الذي ضيع وقته وشبابه وعافيته وفراغه وصحته متى يعلم أنه غافل؟ الغافل الذي كان يكابر ويعاند في هذه الغفلة متى ينتبه؟ عند ساعة الاحتضار، عند هجوم المنية، إذا بلغت المنية منه مبلغها: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] في هذه اللحظة يعلم أنه غافل ويستفيق ويصرخ: (رَبِّ ارْجِعُونِ) أريد العودة، أريد الرجعة (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) فيرد بكل زجر وتوبيخ (كَلَّا) لا مرد ولا رجعة، ما بعد هذا إلا حياة برزخية، مضى وفات وانقضى زمن العمل وأنت في زمن البرزخ، إما أن تكون في حسرة فتقول: رب لا تقم الساعة، وإما أن تكون فرحاً جذلان مما ترى من كرامات الله وفضله ومنه، وروح من الله وريحان فتقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
ينتبه الغافلون في ساعة الاحتضار فيقول أحدهم: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] ولم لم تتصدق يوم كنت تدعى إلى الصدقة وكنت غنياً؟ ولم لم تتصدق وأنت تدعى إلى أداء الزكاة والأموال تملأ حسابات البنوك بأرصدتها؟ ولم لم تتصدق وأموالك تئط أطيط الرحل من كثرة الأرصدة؟ ولم لم تتصدق وكنت قادراً على الصدقة من قليل أو من كثير؟ أما إذا جاء الموت: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10]
و
الجواب
{ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11] هذا هو الموقف الأول يتذكر فيه الغافلون أنهم في غفلة، في ساعة الاحتضار.
والموقف الثاني الذي يتذكر الغافلون أنهم في غفلة: هو موقف الآخرة: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] الصيف ضيعت اللبن! إنا موقنون الآن! موقنون الآن بعد أن قامت القيامة! موقنون الآن بعد أن تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم! موقنون الآن بعد أن جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة! لا ينفع اليقين حينئذٍ، كان اليقين نافعاً في حياة الدنيا، يوم أن كنتم تؤمرون وتنهون وأمامكم فرصة للعمل وفرصة للكسب والسعي في طاعة الله عز وجل، لذلك يتذكر الغافلون فيقولون: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] هيهات هيهات انتهى زمن العمل وفات.
يقول أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة الله لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! كيف من يستقبل ما مضى من عمره من الغفلة يستقبل بقية العمر بمثل الغفلة السابقة؟!(122/13)
نفور الناس من ذكر الموت
فيا أحبابنا سؤال يسأله كل واحد منا نفسه: لماذا هذه الغفلة؟ وكيف حلت بنا هذه الغفلة؟ وما السبيل إلى العلاج من هذه الغفلة؟ لقد حلت الغفلة واستحكمت لما نسينا الموت ونسينا أو تناسينا أو تشاغلنا أن كل نفس ذائقة الموت، الموت بشديد أهواله وأهوال كربه وما فيه من كربات وسكرات وغصص نسيه كثير من المسلمين وتناساه، بل وكما قلت: كثير منا لا يحب أن يتحدث في مجالسه عن الموت، بعض المجالس إذا استفتحت الآية وأردت أن تذكر فيه بقول الله عز وجل {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42] قالوا: أف يا شيخ ما هذا الكلام؟!! ما تستفتح إلا بالموت! ما تتكلم إلا عن الموت! ما كأن أمامنا إلا الموت! والله أمامك الموت، الموت أمامك والموت ينتظرك، لقد أخذ ملوكاً قبلك ورؤساء وأنبياء، وأعزة ونبلاء وأجلاء، وأغنياء وفقراء، فلم تنزعج من ذكر الموت؟
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
لا بد أن تركب هذه الآلة الحدباء، ولا بد أن تغسل، ولا بد أن تكفن، ولا بد أن تدفن، ولا بد أن تترك، ولا بد أن تودع في هذه الحفرة الضيقة وفي هذا اللحد المظلم، تكره أن نحدثك عن مصيرك؟ أولست تحب من يكون صادقاً معك في تجارتك؟ ألست تحب الطبيب الذي يكون صادقاً ماهراً حاذقاً في تشخيص دائك ومرضك؟ فلماذا تكره الواعظ، أو تكره الداعي، أو تكره المذكر، أو تكره أخاك الذي يذكرك بحقيقة ما أنت مقدم عليه؟! نعم، الموت يكدر عليك أغنيتك، والموت يكدر عليك فيلمك، والموت يكدر عليك مسلسلك، والموت يكدر عليك ما يعرض في هذه القنوات الفضائية، والموت يكدر عليك ما تقبض من الحرام، والموت يكدر عليك سهرك في المعصية، والموت يكدر عليك فسادك حينما تسافر للخارج، والموت يكدر عليك كل معصية فتكره ما يكدر! والعاقل من يحب هذا الكدر من أجل أن يستفيق من تلك الغفلة، من يحب هذا الكدر في ظاهره وإن كان في حقيقته موعظة وذكرى ولكن لمن؟ لأولي الألباب، لمن ألقى السمع وهو شهيد.
أيها الأحبة! أوليس الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2] قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري ينشده شعراً، فكان مما قال:
فكم من صحيح بات للموت آمناً أتته المنايا بغتة بعدما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتةً فراراً ولا منه بحيلة امتنع
ولا يترك الموت الغني لماله ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
لا تكره أن تذكَّر بالموت وإن كرهت سماع اسمه، لا تكره أن تذكر بالخاتمة، لا تكره أن تذكر بالعاقبة، لا تكره أن تذكر بالنار وأنت تذكر بالوعيد، وأنت تذكر بالتخويف من الزقوم والغسلين وكل ما أعده الله لمن عصاه، لا تكره هذه الذكرى، إن الذين يبتعدون عن الأجواء الإيمانية إذا قيل لأحدهم: تعال يا رجل الأعمال، تعال يا تاجر، تعال يا غني، تعال يا كبير، تعال يا مسئول، تعال يا حبيب، تعال يا قريب بعضهم يقول: لا يا أخي، هذه مجالس، أنا أريد أن أتمتع بدنياي لا أريد أن يكدرها علي شيء.
فيبتعد عن مجالس الإيمان وأجواء الإيمان فتستحكم الغفلة مع ترك للجمع والجماعات، وتستحكم الغفلة مع إعراض عن العبادات والطاعات ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم ما الذي يحصل؟ تقع منه غفلة كالظلمات التي بعضها فوق بعض.(122/14)
أهمية حضور المجالس الإيمانية والتأثر بها
ما أكثر الذين نرى حضورهم في كل المناسبات الاجتماعية واللقاءات الدورية وغيرها، لكن بعضهم حضوره لمجتمع الإيمان وطاعة الرحمن وحلق الذكر لا يكون إلا قليلاً أو نادراً، وبعضهم لا يحضر مثل هذه المجالس البتة، ولذلك بعض العصاة الذين من الله عليهم بالتوبة، الذين أشرقت قلوبهم بنور الهداية يقول أحدهم: والله كانت الهداية وكانت الاستجابة وكان الرجوع وكانت الإنابة في أول مجلس حضرته من مجالس الذكر ورياض الجنة وحلق الذكر.
كان في غفلة وفي بعد عن مجالس الإيمان.
ولذلك -أيها الأحبة- نحن في حاجة أن نستمع إلى هذه المواعظ، وأن نستمع إلى هذه الدروس، وأن نستمع إلى هذه الكلمات منا أو من غيرنا، إني لأعجب من علماء أجلاء والله لا يشق لهم غبار في قيام الليل، وفي الصدقة، وفي الجهاد، وفي الدعوة، وفي التعليم، فإذا جلس أحدهم يسمع موعظة من طفل صغير أو من واحد من طلاب طلابه وجدته يهز رأسه، وجدته يتأثر وربما سمعت له نشيجاً وبكاءً، إنه يعلم مهما بلغ علمه ومهما ارتفعت في مراتب الدين درجته وسمت؛ فإنه يعلم أن لا غنى له عن الذكرى، إن بعض الشباب يقول: هل من قضية فكرية؟ هل من قضية سياسية؟ هل من قضية اجتماعية؟ هل من قضية إعلامية؟ أما المواعظ والكلام عن الغفلة، عن الجنة، عن النار، عن الموت، عن الصراط، عن الأهوال فاصرفوها لغيرنا، تحدثوا بها مع غيرنا، نحن شباب لا نريد أن نسمع إلا عن الأطروحات السياسية، المستقبل العالمي، القضايا المعاصرة، أل أل الخ، نحن ما حرمنا وما أنكرنا عليك هذا الاهتمام ولكن ثق أن انشغالك بهذه القضايا وابتعادك عن مجالس التذكير والمحاسبة والمعاتبة والمصارحة ليقف كل واحد منا موقفاً صريحاً مع نفسه، ولينظر حقيقة ما قدمه بين يديه يوم أن يلقى الله عز وجل، إذا لقيت الله سبحانه وتعالى وأنت سياسي حاذق وإعلامي متفنن واجتماعي متمكن، لكن لست من أهل عناية بالطاعة، ولا اهتمام بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وحرص على السنة، أينفعك ذلك؟ إن الناس ينفعهم أن يردوا إلى طاعة الله، وأن يخوفوا بالله، وأن يذكروا بعذاب الله وعقابه، وأن يشوقوا إلى جنته، وأن يرغبوا في رحمته، ولا بأس أن يأتي ما يأتي بعد ذلك تباعاً من الوعي السياسي والاقتصادي والإعلامي والتربوي وغير ذلك، أما أن نظن أن الناس لا حاجة لهم إلا في هذه القضايا، وما الفائدة من وعي سياسي مع صاحب سيجارة ثم بعد ذلك تنتهي السيجارة ويضطجع على جنبه، وإن أعجب بهذا الطرح لكنه لم يتحرك من مكانه إلى المسجد، لكنه لم يقلع عن الربا، لكنه لم يقلع عن الدعوة إلى الاختلاط، لكنه لم يقلع عن أفكار خبيثة رديئة.
إن الفلاح والنجاح في رد الناس إلى طاعة الله ومرضاته، في تعبيد الناس لله، في أن يكون في قلوب الناس لله وقار: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] أول وأعظم وأجل وأكبر نجاح في أمر الدعوة أن تتحول القلوب القاسية، الصماء، إلى قلوب لينة تخشع وتهتز وتضطرب حينما تسمع كلام الله، تذكر الله خالياً فتفيض الأعين بالدمع، تسابق إلى الجماعات، تنافس في الطاعات: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
فيا أحبابنا! لم لا ننتبه إلى حقيقة مهمة ينبغي لنا أن نعتني بها غاية العناية؟ أقول: ما أكثر الذين نراهم يحضرون مناسبات عديدة، لكن مناسبات كهذه، ورياض جنان كهذه، وحلق ذكر كهذه، ودروس علمية تراهم لا يحضرونها ولا يشهدونها، ذاك لا يصلي مع الجماعة، ولا يأتي الجمعة إلا دباراً، وهذا لا يحب الدروس العلمية، وذاك لا يفضل حلق الذكر، وآخر لا يلتفت إلى محاضرات أو ندوات لا حضوراً ولا استماعاً، لكنهم يجلسون مجالس القيل والقال، والبيع والشراء، ارتفعت الأسهم، انخفضت الأسهم، زادت البرصة، انخفض الين، ارتفع المارك، سقط الدولار، هلك الجنيه هكذا كلامهم، وهذه مجالسهم، ولو سألتهم عن ذكر الله! لا حرج أن تبيعوا وتشتروا، لا حرج أن تتاجروا فيما أباح الله، ولكن أكل المجالس هكذا؟ أكل الأوقات هكذا؟ أكل الساعات هكذا؟ لا يوجد ذكر لله؟ لا ترطب الألسنة والقلوب بذكر الله عز وجل؟ لا، مجالس الإيمان، حلق الذكر لا يحضرونها البتة.
ثم بعد ذلك إذا قلت له: لا تكن من الغافلين.
قال: أنا من الغافلين؟! سبحان الله العظيم! لا يشهدون الجمعة ولا الجماعة ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يأتون الجمعة إلا دباراً، وفي غفلة عظيمة ومع ذلك ينكر أحدهم أن يكون من الغافلين!! {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].(122/15)
أهم أسباب الغفلة
لقد اتفقت وصايا الأنبياء وأتباع الأنبياء على أن المؤمن ينبغي له أن يكون في الدنيا كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل، قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، ما أنا فيها إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها) رواه أحمد والترمذي وغيرهم.(122/16)
طول الأمل من أسباب الغفلة
إن من أسباب الغفلة -أيها الأحبة- طول الأمل، هذا الذي ينزعج حينما تعظه وتخوفه من الغفلة التي هو واقع فيها، لو كان يعلم أن المنية ربما تأتيه، تصبحه أو تمسيه لاستعد لها، ولكنه في أمل طويل، لا بأس أن توقع لمشروع لعشرين سنة قادمة، لكن لا يعني أن تغفل مدة عشرين سنة، لا بأس أن تؤجر عمارتك عشر سنوات قادمة لكن لا يعني أن تكون في غفلة وفي جهل خلال عشر سنوات قادمة، وهل يلزم أن تعيش هذه الفترة كلها؟ نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم -أي الساعة- حتى يغرسها فليغرسها فإن له بذلك أجراً).
لا بأس أن تؤجر -كما قلت- عشرين سنة، عقد ثلاثين سنة، خطة خمسية، عشرية، ربع قرن، ليس هناك إشكال، خطط لخمسين سنة قادمة لا إشكال، خطط للدعوة -أيضاً- خمسين سنة قادمة، ليس التخطيط فقط للهاتف أو للمواصلات أو للنفط أو لأمر آخر لا، خطط للدعوة -أيضاً- لمدة خمسين سنة قادمة، ما يمنع ذلك، لكن لا يعني أننا سنعيش خمسين سنة، لا يعني أننا سنعيش عشرين سنة إذا وقعنا عقد إيجار مدته عشرين سنة، فمشكلة كثير من الناس طول الأمل الذي أهلكهم وضيعهم، وكما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته في شهوات الدنيا؛ فندم على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه مع سكرات الموت حسرات الفوت.
وقد حذر الله في كتابه عباده من ذلك ليستعدوا للموت قبل نزوله بالتوبة والعمل الصالح فقال سبحانه: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:54 - 56] أحد الذين حضرتهم المنية وبلغت به الروح الحلقوم، أخذ يلطم وجهه ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهب بأيامي.
وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
ما دمنا في هبوب ريح العافية وإقبال ريح الشباب، ما دمنا في قوة، ما دمنا في منعة رجالاً ونساءً، فماذا علينا لو أننا رجعنا إلى الله رجوعاً صادقاً وعدنا إلى الله عوداً حميداً فيجعل الله سيئاتنا حسنات؟ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] يا معاشر الإخوة! ويا معاشر الأخوات! بادروا بادروا فوالله ما ندري متى نفارق، بادروا بادروا فالذنوب كثيرة والعمل قليل ولا ندري من المقبول، بادروا بادروا فجنود الشيطان وأعوانه قد جرت في الدماء ووسوست في الصدور، وزخرفت المعاصي، وقربت الخطيئات، وجعلت الهوى مطاعاً، والشح متبعاً، بادروا بادروا اليوم بل الآن قبل أن نعجز عن الاستدراك.(122/17)
الركون إلى الدنيا سبب للغفلة
أيها الأحبة! إن هذه الغفلة التي استحكمت ببعض إخواننا وفينا ما فينا من الغفلة -أيضاً- {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53] من أسبابها: الركون إلى الدنيا والتعلق بها، إذ الدنيا لها بريق لامع تأسر صاحبها وتشده إليها فيسعى جاهداً في تحصيلها، ويزداد بها تعلقاً حتى يصبح لها عبداً تأمره فيطيع، وتزجره فينزجر، فيهون عليه فعل الحرام بتحصيلها، ويفرط في الواجبات ليستكثر منها، وبذا تستحكم الغفلة، قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين.
لذا كان واجباً على كل عاقل أن يجعل من دنياه، أن يجعل من ماله، أن يجعل من قوته، أن يجعل من جاهه، أن يجعل من موقعه، أن يجعل من دنياه أبواباً وسبلاً تعينه على طاعة الله.
فيا أخي الحبيب! هل جعلت من دنياك على سبيل الاستمرار لا على سبيل المرة الواحدة فقط؟ هل جعلت منها في نشر العلم؟ هل جعلت منها في تحفيظ القرآن، وطباعة الكتب، وكفالة الدعاة، وسقيا الماء، وكفالة الأيتام، وكفالة المجاهدين، وإعانة المحتاجين؟ إذا كنت ذا دنيا فاجعل الدنيا مما يعينك على الآخرة، واستخدم الدنيا ولا تخدمها، واستعبدها ولا تكن عبداً لها.
إن أناساً -والله رأيناهم بأعيننا وعرفناهم- أصبحوا عبيداً للدنيا، أذلتهم، كسرت رقابهم، خضعت برءوسهم إلى الأرض، ولو أنهم استخدموها لوجدوا في تسخيرها لطاعة الله عزاً وكرامةً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم) رواه البخاري.
فالذي لم يجعل من دنياه وأمواله جسوراً وأبواباً إلى مرضاة الله ونيل ثوابه واتقاء عقابه، فإنه عبد للدنيا تعيس، وعبد للدرهم تعيس، ذليل، خدم الدنيا وما خدمته، وصار عبداً لها وما رفعته وإن ملك ما ملك وسكن ما سكن، وتقلب فيما تقلب.
لقد حذر صلى الله عليه وسلم من الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه الإمام أحمد ومسلم.
وما أكثر الذين غفلوا عن الذكرى ولجَّوا في الغفلة لجوجاً بيّناً، وأمعنوا فيها إمعاناً واضحاً بسبب شهوات النساء وفتنتهن، تجد أحدهم متزوجاً يعاكس هذه ويخادن هذه ويخالل هذه، فلا ينتهي من علاقة إلا وقد توسط في أخرى وبدأ في علاقة أخرى، ولا ينتهي من علاقة إلا وقد تورط في أخرى ووقع في علاقة أخرى ولا حول ولا قوة إلا بالله! وربما يقول: سأقلع فيما بعد: أقلع.
ولكن متى يقلع؟ إذا كانت نهاية كل علاقة هي بداية لعلاقة جديدة، وعلى حد قول الشاعر:
وحلفت ألا أبتديك مودعاً حتى أهيئ موعداً للقائي
بل إن بعضهم من شدة لجاجته في الغفلة واستحكام أمر الغفلة في شأنه في أمر النساء لا يدع امرأة إلا إذا رتب علاقة مع امرأة أخرى، ولذلك لا عجب أن يتقلب وأن يتدحرج وأن يسحب على وجهه في هذه الغفلات.(122/18)
فتنة النساء سبب للغفلة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: أيها الأحبة! إن كثيراً من الذين لجَّوا في الغفلة لجاجة واضحة كما قلت كان داؤهم ومرضهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما غفلوا بسبب الدنيا أو بسبب فتنة النساء، وفتنة النساء اليوم أصبحت أمراً خطيراً وتلونت، فليست فتنة المرأة في شيطانة تتسلط على رجل لتغريه، بل -أيضاً- في شياطين يتسلطون على النساء، ومنظمات عالمية لا يتسلطون على فرد أو على مجتمع بل يتسلطون على شعوب بأكملها لإفسادهم وتخريبهم عبر هذه القنوات، وإن فتنة النساء اليوم قد استحكمت في هذه القنوات أو ما يسمى بالدش فتنة عظيمة، وأصبحت القنوات الفضائية تنافس أيها أكثر خلاعة وأيها أكثر مجوناً، وأيها أكثر سخافة وإسفافاً، وكسراً للحياء، وهدماً للفضيلة حتى تنال من المشاهدين والمتابعين أكبر حظ ورصيد، فأصبحت فتنة المرأة فتنة عظيمة.
وخير للرجال والنساء العفة وغض الأبصار، لكن مكر الأعداء عظيم: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} [نوح:22] في أمر النساء والفتنة بالنساء، بداية بعضهم معاكسات، عبث بالهاتف، ثم لا تلبث أن تتطور إلى علاقات، ثم لا تلبث أن تتحكم في القلوب عشق الصور والمشاهد فلا يبالي أحدهم ولا يبالي كثير منهم أن يعمق ويسفي شهوة الصور بهذه القنوات وما يعرض فيها، فتعلق في القلوب صور وأشكال لغفلة أصحابها لا يجدون لها دواءً إلا الداء ذاته،
وداوني بالتي كانت هي الداء
لا يجدون لها دواءً إلا أن يذهبوا إلى ما رأوا، وأن يركعوا ويخضعوا عند من وجدوا وعشقوا، ثم والعياذ بالله تستحكم فيهم هذه الغفلات، وبعضهم بهذا الشر يتسلط على بنات مجتمعه فيترصد لهن ليسقطهن وليغريهن وليقتنصهن في حبائل وشرك مغازلاته ومعاكساته، فكم من عفيفة انقلبت فاجرة! وكم من طيبة انقلبت فاسدة! وكم من صالحة تحولت أحوالها وبكت بعد الدمع وقبله دماً؛ بسبب هذه الفتنة العظيمة التي أورثت فتنةً لا أول لها ولا آخر، ولا سبيل إلى النجاة منها إلا عود صادق ورجوع وإياب بقوة إرادة وجلد وعزيمة وإصرار، تقول لكل معصية: الطلاق الطلاق الطلاق، ثلاثاً بتاتاً، بينونةً كبرى لا رجعة فيها أبداً؛ طاعةً لله، خوفاً من عذابه، رغبة في ثوابه.
هو أحق أن يخشى، هو أحق أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، فمن عظم أمر الله في قلبه شفي بإذن الله من داء الغفلة.
يقول سلمان الفارسي رضي الله عنه: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل لا يغفل عنه، وضاحك ملء فيه لا يدري أمسخط ربه أم مرضيه، وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.
فيا أيها الأحبة! هل نعود؟ وهل نرجع؟ وهل نئوب من هذه الغفلة أم نخلط ونلفق ونرقع؟
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فطوبى لعبد آثر الله ربه وجاد بدنياه لما يتوقع(122/19)
الوسط المحيط سبب للغفلة
أيها الأحباب! إن أردنا أن نستيقظ من هذه الغفلة فلننظر هذا الوسط والمحيط والمجتمع الذي نخالط أصحابه ونتقلب فيه، فإن كان في خير خرجنا من الغفلة إلى خير، وإن كان في شر فنحن كمن رام تغسيل الدم النجس بالدم، من غفلة إلى غفلة، ومن معصية إلى معصية، كيف تريد السلامة من البلل وأنت ترمي بنفسك ذات اليمين وذات الشمال في المياه؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
من تعود في منزله المعصية، ومع جلسائه المعصية، وفي سيارته المعصية، وفي عمله المعصية، وفي علاقاته المعصية، وفي سمته وسلوكه المعصية كيف يريد أن يسلم من الغفلة؟ إذا أردت أن تسلم من الغفلة فاخرج عن هذا الوسط، أقلع، ابتعد، ابحث عن قومٍ تخالطهم، ومجتمع تخالطهم، وعلاقات تجددها في غير معصية الله، تعينك على طاعة الله، تذكرك إذا نسيت، تعينك إذا ذكرت، أما الذين تعودوا سهر المعصية ومجالس المعصية، ومهما تغيرت الأسماء: البشكة، الشلة، المجموعة التي فيها ما فيها، لا تخادع نفسك، أسأل: هل هم أهل غفلة فيجعلونك غافلاً معهم أم أهل ذكرى فيجعلونك من الذاكرين معهم؟ لا تزين هذا الفساد الذي تراه في شلتك وتسميهم: الشلة، الحبايب، الأصحاب، الفرندز لا، اجعل قولك ونطقك بهم صحيحاً: هم أهل غفلة أم أهل طاعة، أم أهل عودة إلى الله سبحانه وتعالى؟(122/20)
نتيجة الغفلة وثمرة الطاعة
أيها الأحبة! لقد قست القلوب من فضول النظر، ومن فضول الكلام والمخالطة، وقست القلوب واستحكمت الغفلة مع هذا بإفراط في الشهوات، وإفراط في الملذات والمباحات، فماذا حصل بعد ذلك؟ حصلت قسوة القلب فأورثت اكتئاباً وقلقاً وشروداً وأمراضاً نفسية، يقول لي طبيب استشاري من أطباء الأمراض النفسية يقول: يأتي إلي شباب قد بلغ بهم مرض الاكتئاب -يسمونه ديبرسيشن- قد بلغ الاكتئاب بهم إلى درجة أن بعضهم مرات ومرات حاول أن ينتحر غفلة لم تجد طريقاً أو لم يفتح عليها من الوعظ والإرشاد والإصلاح والتوجيه طريق، غفلة مسورة بأسوار الشهوات والمعاصي وجلساء السوء، ولا يزال يمضي ويمضي حتى إذا خلا بنفسه تمنى أن ينتحر.
لكن انظر إلى أصحاب الطاعة: الدنيا زاوية من زوايا قلوبهم، تجد الدنيا كلها يدخلها في زاوية من قلبه، لا أعني أنه يتعلق بها بل الدنيا صغيرة في قلبه، لكن أصحاب المعاصي والإصرار عليها والعناد والمكابرة؛ أتفه قضية تجعل الدنيا علامة إكس في وجهه ينتحر من أجلها، يحاول أن يتخلص من نفسه عند أدنى مشكلة، لكن انظر إلى أهل الإيمان وطاعة الرحمن:
ترددت في الأهوال حتى تركتها تقول أمات الموت أم ذعر الذعر
مصيبة تلو المصائب، تكسر النصال على النصال، ومع ذلك لا يزال رابط الجأش، ثابت الجنان، أشم كالجبل، كالطود العظيم من شدة ثقته بالله عز وجل، ما هذه الدنيا بالنسبة لما يرى؟ أما أهل المعاصي الذين يعودون ويئوبون ويتوبون ويرجعون فحيهلا على باب التوبة، وحي على الإنابة والرجوع، أما أهل المعاصي المصرون على هذه المعاصي، المعرضون عن ذكر الله وطاعته فيا ويح عيشهم! وما أبأس حالهم! {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] لما استحكمت الغفلة شاع ما شاع وانتشر ما انتشر في كثير من الناس: أنواع القلق والاضطراب والاكتئاب، وضيق النفس، والأمراض النفسية، ولو تأملوا وعرفوا أن مرضهم وعلتهم وداءهم هو الغفلة، وعالجوه بذكر الله واليقظة والرجوع لوجدوا أنساً بالله، ولذة وسعادة بذكر الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(122/21)
كيفية معرفة الغافل
أيها الأحبة إن كثيراً من الغافلين لا يعلمون أنهم في غفلة، وإذا أردت أن تعلم هل أنت من الغافلين أم لا، فانظر كما قال ابن مسعود: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي].
إن كنت تمر عليك الأيام والليالي لا تتحسر على فواتها لأنها مضت في غير طاعة أو لم تتزود منها كما ينبغي فاعلم أنك غافل، إذا أردت أن تعلم هل أنت من الغافلين أم لا فانظر اهتمامك بوقتك، فانظر عنايتك بالوقت إن كنت تقتله سدى، تضيعه هباءً، لا تبالي بما أدبر وأقبل منه فأنت غافل مسكين، وإن كنت كما يقول القائل:
ينافس أمسي في يومي تحرقاً وتحسد أسحاري علي الأصائل
إن كنت كذلك فأنت بإذن الله من أهل الذكرى إذا كنت تجعل ذلك في مرضاة الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله! إن من المصيبة -كما قلت- أن ترى من الناس من لا يعلم أنه في غفلة فلا تراه يتألم على فوات الجماعة أو قيام الليل، أو فوات العبادة أو انقضاء مواسم مضاعفة الأجر دون أن يستفيد منها، كل ذلك لا يهمه، بل لا يتحسر لِمَ لم يزرع في موسم الزراعة؟ لِمَ لم يقترض يوم أن كان البنك متاحاً؟ لِمَ لم يتوظف يوم أن كانت الوظيفة والفرصة سانحة؟ لِمَ لِمَ لِمَ؟ كل حسراته على فوات دنياه، والدنيا لا يسوفها أبداً ويبادر ويكابد من أجل الحصول عليها، ويتحسر على ما فات منها، وأما الآخرة فسيان عنده إن أقبلت أو أدبرت في أمرها، أو حصَّل أو فرط أو ضيع في شأنها.(122/22)
ظاهرة عدم مبالاة الغافل بذنوبه
أيها الأحبة! أيضاً من دلائل استحكام الغفلة في القلوب أن يرى الواحد منا نفسه يقع في الصغيرة تلو الصغيرة ولا يبالي بما ارتكب من الذنوب، يجمع محقرات الذنوب ولا يهتم بها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره فقال: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وذا بعود حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه) يقول كعب: إن العبد ليذنب الذنب الصغير ولا يندم عليه ولا يستغفر منه فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود -يعني: الجبل- ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفر منه فيصغر عند الله عز وجل حتى يغفر له:
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوع
أيها الأحبة! ما أعظم غفلتنا وإن عدنا الناس ملتزمين أو قالوا متكلمين، كيف لا نقر بالغفلة ونحن نرى التقصير الفاضح البين في قيام الليل وفي نوافل العبادات والتسابق إلى الخيرات؟(122/23)
طريق الشفاء من الغفلة
يا أيها الأحبة! ليست الغفلة ضربة لازب أو مرضاً لا يوجد له دواء لا، الغفلة داء وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء؛ علمه من علمه وجهله من جهله، يمكننا أن نتخلص من هذه الغفلة بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) رواه البزار والنسائي والحاكم.(122/24)
التقوى والدعاء علاج للغفلة
إذا أردنا أن نعالج أنفسنا من الغفلة فلنتعلق بالله ولنقل: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لنتعرف بأننا غافلون، ولنتعلق بالله لينجينا ولينقذنا من هذه الغفلة تعلق الغريق، وننادي نداء المكروب: اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت.
يا أيها الأحبة! حطموا قسوة القلوب بتمريغ الأنوف والجباه سجوداً لله، واشكو إلى الله قسوة قلوبكم وشدة غفلتكم وطول طريقكم وقلة زادكم، عسى أن تنجلي تلك الغشاوة من الغفلة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء) إذاً فهذه الغفلة سحابة على القلب يمكن أن تنجلي بإذن الله عز وجل، لكن سحابة الغفلات لا تنجلي بالأماني ولا تنجلي بالكلام وإنما تنجلي بالتطبيق، وتنجلي بالمجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(122/25)
تذكر الخاتمة علاج للغفلة
أيها الأحبة: تزول الغفلة بتذكر الخاتمة، عش ما شئت فإنك ميت، يقول أبو الدرداء لما حضرته الوفاة: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لساعتي هذه؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ ثم تلا قول الله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] مر ابن الجوزي مرة بقصر من قصور الأثرياء فقال وهو يخاطب صاحب القصر الذي كان جالساً في شرفة من شرفات القصر، فقال ابن الجوزي له:
ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك
وتترك ما غنيت به زماناً وتنقل من غناك إلى افتقارك
فدود القبر في عينيك ترعى وترعى عين غيرك في ديارك
إذا أردنا أن تنجلي هذه الغفلة فلنتذكر أننا راحلون، كم جنازة صلينا عليها تذكر أنك يوماً من الأيام واحدة من الجنائز التي يصلى عليها، زر المقابر وتأمل أحوال هذه المقابر:
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه وأين الغني إذا ما افتقر
أين الملوك ذوي التيجان من إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
زر قبر الرئيس وقبر الزعيم، وقبر الأمير وقبر الوزير، وقبر الملك، وقبر الثري وقبر الفقير؛ كلها بجوار بعضها، أين الحجاب، وأين البواب، وأين الاستئذان، وأين البرتوكول، وأين المواعيد؟ انتهى الأمر: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] هذا هو المرد وهذه هي النهاية، فمن تذكر ذلك حتى وإن ركب ما ركب وسكن ما سكن وجمع ما جمع فإنه بإذن الله عز وجل يعود منكسراً إلى الله: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8] لذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور لأنها تذكر الآخرة، بل (لما جيء بجنازة وجلس صلى الله عليه وسلم على شفير القبر بكى حتى بل الثرى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا) رواه ابن ماجة وغيره.
فليتفكر العبد في هذا، وليعلم أنه لا يعالجه من هذه الغفلة إلا أن يكسر ويحطم قسوة قلبه بأن يرى الأموات يغسلون، ويرى الأموات يكفنون، ويقف عند المقابر، ويزور المرضى، وينظر أحوال أصحاب العاهات الذين سلبت منهم العافية بين لحظة ولحظة ليعرف حاله وأن ما أصابهم ليس ببعيد أن يصيبه.
هكذا -أيها الأحبة- ينبغي أن ننتبه وأن نحذر من هذه الغفلة، ومن لازم ذكر الله عز وجل فهو في خير وعلى خير بإذن الله سبحانه وتعالى.(122/26)
مجالس الذكر علاج للغفلة
فيا أيها الشاب! ويا أيتها الفتاة! من شكا قسوة فؤاده، ومن شكا هذه الغفلة فعليه برياض الجنة، وعليه بمجاهدة النفس، وعليه بمجالس الذكر عسى أن يجد قلبه هناك، وليعلم أن هذه الدنيا برق خلب وفيء زائل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45]، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24] انظروا إلى الذي غرس غرساً فما أكل ثمره، وبنى قصراً فما سكنه، وهيأ داراً فما انتقل إليها، وأعد وظيفة فما وصلها، ورتب شيئاً فما أدركه، وكان الموت سابقاً له قبل ذلك، ثم افترض وهب لو أنك عشت فيما شئت من شهوات ولذات أوليس الموت نهايتك؟ وهب أنك عشت منذ أن ولدت في مفارش الحرير إلى أن مت أوليست غمسة في النار تنسي هذا كله؟ كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب.
ويؤتى بأشد الناس بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله يا ربي ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط).(122/27)
أمور نحتاج إلى التفكر فيها
فيا معاشر المؤمنين! الصبر الصبر فإنما هي أيام وكل يعرف مكانه، وكل يعرف مرتبته، وكل يرى منزلته، وكل يرى عاقبة عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} [آل عمران:196] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه جالساً ذات يوم على عرش الخلافة يقرأ القرآن فلما بلغ هذه الآية {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] نزل من عرش الخلافة وكرسيها، وأخذ بلحيته يهزها ويقول: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:207].
فليست هذه الدنيا بشيء تسوؤك حقبةً وتسر وقتا
وغايتها إذا فكرت فيها كفيئك أو كحلمك إذ حلمتا
سجنت بها وأنت لها محب فكيف تحب ما فيه سجنتا
وتطعمك الطعام وعن قريب ستطعم منك ما فيها طعمتا
وتشهد كل يوم دفن خل كأنك لا تراد لما شهدتا
ولم تخلق لتعمرها ولكن لتعبرها فجئت لما خلقتا
وإن هدمت فزدها أنت هدماً وحصن أمر دينك ما استطعتا
ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا
فليس بنافع ما نلت منها من الفاني إذ الباقي حرمتا
وتذكر مواقف يشيب لها الولدان، تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، الشمس تكور، النجوم تنكدر، السماء تنفطر، البحار تسجر، الجبال تتطاير كالعهن المنفوش، يجعلها الله قاعاً صفصفاً كل ذلك من الأهوال التي بين أيدينا سنراها ونعتقدها ونؤمن بها حق اليقين، أفلا يليق بواحد منا تأمل ذلك أن يقلع عن غفلته وأن يتدبر لنهايته؟ فيا أيها الأحبة! حري بنا أن نعد أنفسنا لما نحن قادمون عليه، يقول إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس! أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً.
قلت: فأنت في الأمنية فاعملي، فأنت في الأمنية فاعملي.
وخف من سوء الخاتمة، وأعد لهذا الأمر عدته، لقد بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفاً من الذنوب؟ فأخذ جفنة من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذا وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة.
قال ابن القيم: وهو من أعظم الفقه؛ أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة.
أفي دار الخراب تظل تبني وتعمر ما لعمران خلقتا
وما تركت لك الأيام عذراً لقد وعظتك لكن ما اتعظتا
تنادى للرحيل بكل حين وتعلن إنما المقصود أنتا
وتسمعك النداء وأنت لاه عن الداعي كأنك ما سمعتا
وتعلم أنه سفر بعيد وعن إعداد زاد قد غفلتا
تنام وطالب الأيام ساع وراءك لا ينام فكيف نمتا
معائب هذه الدنيا كثير وأنت على محبتها طبعتا
يضيع العمر في لعب ولهو ولو أعطيت عقلاً ما لعبتا
فما بعد الممات سوى جحيم لعاص أو نعيم إن أطعتا
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يوقظنا وإياكم من هذه الغفلة، وألا يجعلنا من الغافلين، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً إليك غير مخز ولا فاضح.
اللهم استعملنا في طاعتك، وتوفنا على مرضاتك، إلهي وربي وخالقي لا تدع لنا جميعاً في هذا المقام وفي هذا المسجد؛ ذكوراً وإناثاً، رجالاً ونساءً ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته.(122/28)
الغنيمة الضائعة
إن هناك غنائم تضيع على كثير من الناس إلا من رحم الله، ومن تلك الغنائم: الشباب، الصحة، الفراغ، الحياة، الغنى.
وفي هذه المحاضرة يحث الشيخ على اغتنام هذه الخمس ذاكراً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، كما تكلم عن أهمية اغتنام الصحة والفراغ؛ لأن الكثير من الناس إلا من رحم الله مغبونون في هاتين النعمتين.(123/1)
وقفات مع كلمة (اغتنم)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرضين ومن فيهن، ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت يا رب من شيءٍ بعد، أشهد أن لا إله إلا الله حده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرةً أخرى، وأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم السداد في القول والإخلاص في العمل، وقبل أن ندخل في موضوعنا أود أن أنبه إلى مسألة مهمة: وهي أنه ليس من منهج أهل السنة والجماعة أن يمدح الإنسان على الملأ، ولا يجوز هذا ولا ينبغي، وكلٌ أدرى بعيوب نفسه، والله جل وعلا يقول: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فالناس لو مدحوك آناء الليل وأطراف النهار فأنت أدرى بعيوبك وذنوبك، ولو نالوا من عرضك واغتابوك وذموك فأنت أدرى بما ترجوه من ربك.
وابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر يقول: [يا ضعيف العقل! اعلم أن الناس إذا أعجبوا بك فإنما أعجبوا بجميل ستر الله عليك] ويقول أبو العتاهية:
قد أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
على أني أذكر أخي المقدم جزاه الله خيراً، ولا بأس بالشعر وإن كان أعوج مكسورا، وعلى أية حال فهذا جهد المقل: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
أيها الأحبة: الحديث أو المحاضرة بعنوان: "الغنيمة الضائعة" وإن كان أهل هذا الحي معظمهم من البادية أو من أهل الغنم والوبر والإبل والرعي والماشية، فقد يظن البعض أن العنوان "الغُنيمة الضائعة" وليس هذا بصحيح بل العنوان: "الغَنيمة الضائعة" فمن جاء يبحث عن غنمةٍ ضائعةٍ فليست ضالته هنا، ليبحث عن معرفٍ لها لعله أن يجدها، فمن فاته شيء نسأل الله أن يخلف علينا وعليه ما فات.
أيها الأحبة: قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) هذا الحديث أخرجه البيهقي والحاكم عن ابن عباس بسندٍ صحيح، وأخرجه الإمام أحمد في المسند، وذكره الألباني حفظه الله في صحيح الجامع، وفي معناه الحديث الذي قال به النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر؟!) رواه الترمذي وقال حديثٌ حسن، وفي سنده محرر بن هارون، قال الحافظ في التقريب: متروك.
أيها الأحبة: العبرة في الحديث الأول الصحيح وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) ونحن نذكرها واحدةً واحدة.(123/2)
في كلمة (اغتنم) إشارة إلى السرعة والمبادرة
في قول النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اغتنم) إشارةٌ إلى أهمية وضرورة المبادرة بالإسراع فلا يقال لأمرٍ غير ذي بال، ولا يقال لأمرٍ ليس ذي شأن، ولا يقال لأمرٍ حقيرٍ أو تافه اغتنم، وإنما يقال اغتنم لأمرٍ مهم، ولخطبٍ جلل، ولحدثٍ ذي بال، ولمسألة تركها يفوت، وإهمالها يضيع فرصةً عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم) من الغنيمة والمسارعة والمبادرة وإدراك الشيء قبل فواته، والمسارعة إليه قبل أن تتقضى فرصته أو يتقاسمه الناس والمقبلون عليه ما وجدنا رجلاً يقول لصاحبه وهو عند الخباز مثلاً والخبز قد ملأ هذه الطاولة يميناً ويساراً وليس في المخبز إلا هو واثنين أو ثلاثة ويقول: اغتنم اغتنم هذا الخبز لا يفوتك، لأنه شيءٌ كثير، والزبائن قليل، وليس بأمر يخشى فواته، فلا يقال لصاحبه أو من يدعى إليه اغتنم، وإنما يقال (اغتنم) لأمر ثمينٍ خطيرٍ مهمٍ جللٍ ذي بالٍ لو فوته الإنسان اعتبر مضيعاً لفرصةٍ ثمينة.(123/3)
غنيمة الله غالية
أيها الأحبة: الغنيمة فيها إشارة إلى أن الأمر لا يدرك إلا بالجهاد، وهذه مسائل خمس قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فغنيمة الحياة قبل الموت، وغنيمة الصحة قبل السقم، وغنيمة الفراغ قبل المشاغل، وغنيمة الشباب قبل الهرم، وغنيمة الغنى قبل الفقر، مسألة لا تنال بالنوم والكسل والدعة والتعليل والتسويف، وإنما تكون غنيمة وتنال بالمجاهدة، وتنال بدفع الإنسان مشاغل كثيرة للحصول على ما هو أجل وأهم، لأن الواحد ربما عرضت له مكاسب عديدة، ولكن قد يفوت الإنسان مكاسب عدة من أجل تحصيل مكاسب أعظم ومكاسب أكبر وأجل، فإذا أدرك العاقل ذلك علمنا -أيها الأحبة- أنا وإياكم والله في هذه الدنيا قد دعينا إلى دارٍ عظيمة؛ إلى دار البقاء، وإلى دار الخلود، وإلى دار النعيم، وإلى دار الرضوان، وإلى دارٍ الحياة فيها أبدية لا موت يكدرها، والصحة فيها أبديةٌ لا سقمٌ يفسدها، وشباب دائمٌ متجدد، وغنىً مما أعطى الله وأنعم الله به على عباده قال جل وعلا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].
أيها الأحبة في الله! إننا ندعى ونعد ونبشر ونقرب وكل واحدٍ منا ينادى إلى دارٍ
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
إلى أن قال:
ترابها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها
أيها الأحبة: أنا أسألكم سؤالاً: هل رأيتم واحداً دخل المحكمة وقيل له: ما الذي جاء بك إلى دار القضاء؟ ما الذي جاء بك إلى هذه المحكمة؟ فقلت أو قال الداخل: إني أنازع فلاناً مبلغاً عظيماً وقدره مثلاً مليون ريال، ثم لما دخل هذا الرجل في ردهات المحكمة التفت إلى ما فيها من الأساس وانشغل بوجوه الداخلين والذاهبين من حوله، فلما جلس وعرضت دعواه وتأمل ما عنده إذ به يقنع بريالين أو ثلاثة، رجلٌ يطالب بمليون أتظنونه يقنع بثلاثة ريالات أو ريالين، هذا ضربٌ من الخبل أو ضربٌ من الجنون، إذا كان يطالب بحقٍ ولم يكن عفوه أو إعراضه عن التسامح بفضل ماله ولم يكن عفوه لأجل مرحمةٍ أو ثوابٍ أو مغفرةٍ يرجوها، نحن وإياكم في هذه الدنيا نشبه من دخل تلك الدار يطالب بشيءٍ عظيم فرضي بمتاعٍ حقير ويسير.(123/4)
الجنة تنال بالمجاهدة
نحن خلقنا لعبادة الله، ووعدنا بجنات الله، وبشرنا برضوان الله، ودعينا إلى خلودٍ في دارٍ أعدها الله، فلما بقينا على ظهر هذه الدنيا واستوينا واستتمت لنا العقول، واكتملت لنا الأفئدة، وأصبحنا نبصر بالبصيرة وندرك بالتجربة؛ اشتغل الكثير منا بمتاع الدنيا وحطامها الفاني، فاشتغلنا بحفنةٍ من الرمال عن جنةٍ عرضها السماوات والأرض، واشتغلنا بلذةٍ زائلة، واشتغلنا بأمرٍ يزول وينتهي وتعقبه الندامة والحسرة عن نعيم لا ينقطع أبداً، لأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم) والغنائم لا تكون إلا بعد الجهاد ولا تكون إلا بعد الصبر والمصابرة، ولا تكون إلا بعد الرباط، وبعد التواصي، فمن حصل ذلك نال -بإذن الله- هذه الغنائم على أوفر حظٍ يطلبه، ومن اشتغل عنها بسواها من حطام الدنيا وقليلها الفاني فقد ضيع الغنيمة ونالها رجالها وأبطالها:
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سعلة الرحمن سوقك كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن كيف تصبرالـ ـخطاب عنك وهم ذوو إيمان
أيها الأحبة في الله: من لم يجاهد فلن ينال غنيمة نريد الغنيمة بالنوم على الفرش؟!! نريد الغنيمة بالاشتغال بالدنيا على الآخرة، نريد الغنيمة بتقديم شهوات أنفسنا على ما رضيه الله لنا وما طلبه منا، وما شرعه نبيه صلى الله عليه وسلم لنا؟! الغنيمة لا تنال إلا بالصبر، ولا تنال إلا بالمجاهدة، أما الذي يعلل النفس أو يتعلل بسوف ولعل وربما وليس ولو أنه فلا يستطيع أن ينال شيئاً، وكما قال القائل:
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
الواقع أن التمني هو رأس أموال المفاليس، أما الأثرياء بالحسنات، والتجار بالصالحات، والمتنافسون بالطاعات، فأولئك جعلوا مهرهم أن أعرضوا عما يسخط الله، وأقبلوا على ما يرضي الله جل وعلا، وأنتم -معاشر الأخوة السامعين- فيكم خيرٌ كثير ولكن اسألوا أنفسكم: هل تريدون الغنائم أم تعرضون عنها؟.
ثم أيضاً: الخطاب من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اغتنم) فإنه خطابٌ للسامع، والشارع يخاطبنا إلى يوم القيامة؛ فالمرأة مدعوةٌ للغنيمة، والرجل مدعو إليها، والذكر مدعو للغنيمة، والأنثى مدعوةٌ إليها، والشاب مدعو للغنيمة والفتاة أيضاً، فلا يظن سامعٌ أن هذه دعوةٌ أن يغتنم الرجال هذا الخير دون النساء، أو أن يغتنم الذكور دون الإناث، أو يغتنم الشباب دون الشابات، فهي غنيمة وربما كان حظ كثيرٍ من النساء أطيب وأكثر وأبلغ من حظ كثيرٍ من الرجال
ولو كان النساء كمثل هذه لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخرٌ للهلال
إذاً: فهي دعوةٌ أن يغتنم الرجال والنساء هذه الخيرات على حدٍ سواء.(123/5)
اغتنام الحياة قبل الممات
الأولى: (اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك).
الحياة -أيها الأحبة- قصيرة فإن عاش الواحد في ملذة واجتماع شملٍ، وإن عاش في نعمةٍ، وإن عاش في مال، ربما مرت عليه الأيام والليالي سريعة، ومن عاش في زنزانة، أو في سجن، أو عاش في نكد وفي قلق، وفي ضيق عيشٍ وتنغيص من حاله، فربما مرت عليه الحياة بطيئة، والحقيقة أن اليوم والليلة أربعٌ وعشرون ساعة، تمر على الملوك كما تمر على الصعاليك، وتمر على الأثرياء كما تمر على الفقراء، ولكن بطبيعة الحال تمر أيام اللذة سريعة، وتمر أيام البلاء بطيئة، وقديماً قال الشاعر:
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأننا وكأنهم أحلام
أيها الأحبة: الحياة سريعة الزوال، واسأل من عاش مائة عام، أو ستين عاماً، ومن بلغ الستين فقد أعذر كما روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره) من بلغ الستين فلا عذر له في التقصير ولا عذر له في التواني وليس هذا بحجة أن يضيع الواحد العمل ويقول: لم أبلغ الستين، فإن الواحد محاسبٌ بالتكليف فإذا بلغ العبد أصبح مكلفاً مخاطباً بالشريعة، وما يدري الواحد متى يموت:
فكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
أيها الأحبة: الواجب أن الواحد ينتبه لهذه الحياة فهي تمر سريعة، وروي أن نوحاً عليه السلام قيل له: يا أطول الأنبياء عمراً! كيف وجدت الدنيا؟ وتعلمون أنه لبث في قومه: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] فقال: كداخلٍ من باب وخارجٍ من آخر، الدنيا مهما طالت فإنها قصيرة لأننا إذا نسبنا الدنيا إلى الآخرة وجدنا الدنيا متاعاً يسيراً قليلاً بالنسبة للآخرة، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] فكل متاعٍ في الدنيا؛ سواءً كان صحةً أو غنى، أو شباباً، أو ثراء أو مالاً، أو عافية أو جناناً، أو زوجاتٍ حسان، أو ضيعاتٍ ومزارع، فهي ليست بشيء بالنسبة لما في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة كمثل ما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) تخيل -أخي الكريم- أنك وقفت على ساحل المحيط ثم جعلت أصبعاً من أصابعك في البحر، ثم أخرجتها من البحر مرةً أخرى إن القطرة التي تعلق بأنملك هي الدنيا، وأما الآخرة فهي البحر المتلاطم العظيم الكبير بكنوزه وأسراره، فمن ذا يبيع قطرةً بمحيط؟ من ذا يبيع يسيراً بشيءٍ كثير؟ سبحان الله العلي العظيم!! إن عقول كثيرٍ من العباد في غفلة، وإننا والله في غفلة، ولو كانت قلوبنا في تمام الحياة لما وجدتنا نصر على المعصية، نصبحها ونمسيها، ونقارفها ونرضى بها، ونداوم عليها، وربما جاملنا فيها.
أيها الأحبة: من عرف الآخرة عشقها وطلبها وأحيا ليله وأظمأ نهاره وجاهد نفسه وعصى هواه وعارض شيطانه، حتى تبلغ به المنية، وكما قال عبد الله بن الإمام أحمد وقد رأى ما فعل بأبيه، وقد رأى ما ثبت عليه أبوه من المجاهدة في الثبات على السنة قال: "يا أبت متى الراحة؟ فقال أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه: يا بني! الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة" فمن تأمل هذه المسألة أدرك أن الحياة غنيمة، كم عاش قبلنا من الملوك ومن الأثرياء ومن العظماء ومن الفقراء ومن الوضعاء والرفعاء، عاشوا وسكنوا القصور، ثم دفنوا في القبور، وتنوروا بأنواع الإنارة ثم انتهوا إلى ظلمة اللحود، وجلسوا على ألوان الحرير ثم نازعهم الدود أكفانهم، وعبث بنواعم أبدانهم.(123/6)
اغتنام الشباب قبل الهرم
أيها الأحبة: لو نظرنا إلى شأن الدنيا لوجدناها برقٌ خلب، سحائب طيفٍ عن قريبٍ تقشع، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم شبابك قبل هرمك) فالشباب أيضاً سريع التحول وسريع الزوال:
شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار
إن غنيمة الشباب فيها مصلحةٌ عظيمة، ذاك لأن في الشباب مقدرةٌ على فعل الطاعات، ومجاهدة النفس عليها، نعم في الشباب قدرةٌ، من الشباب من يقدر على أن يتهجد واقفاً على قدميه، أما الكهل الكبير المسن فربما تهجد قاعداً لا يستطيع الوقوف، الشاب ربما صام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وصام الإثنين والخميس وصام فرضه وصام نوافله، أما الكبير فربما كان عاجزاً عن أن يقوم بهذا، في الشباب طاقات وقدرات لا يجدها كبار السن، في الشباب قدرةٌ على الإقلاع عن الذنوب، يوم أن تخاطب شاباً مدخناً أو سامعاً للملاهي والأغاني، أو شاباً قد وقع في شيءٍ من المعاصي والمسكرات، فإن عنده من القوة والطاقة والحيوية والمقدرة ما يستطيع معه أن يصارع شهواته، فينتصر عليها في شبابه، أما إذا شاب على المعصية فإنا لله وإنا إليه راجعون! والشيء بالشيء يذكر.
حدثني أحد طلابي في الكلية ووقفت في نفسي على نفس صاحب المحل، وقال عن ذلك الرجل: إنه كان يبيع الأسطوانات من زمنٍ قديم ثم يبيع الأشرطة (المكرات) ثم أخذ يبيع ألوان الأشرطة الكافرد والكاسيت وغيرها، قال فقلنا له: يا عم! كم عمرك؟ قال: فوق الستين أو عند السبعين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك) يقول: قلنا يا عم: أنت في هذا السن وتبيع أسطوانات الأغاني، وتبيع الأشرطة، وتبيع الملاهي في هذا الدكان بجوار أهل الشيشة، وأهل هذه الأمور المحرمة النجسة والروائح النتنة؟ قال: يا (وليدي) أنا من عهد محمد بن إبراهيم إلى يومك هذا وأنا على هذه الحال، إنا لله وإنا إليه راجعون! أهذه مفخرة أن يستمر الواحد على معصية من حياة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى يومنا هذا! وأقبح من هذا أن قال: إن الشيخ سبق أن نصحني ولكني ما تركت، يعني في معنى: أنني عاجزٌ عن أن أقلع أو أغير، والله ما عجز ولكن على الران القلوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] لأن من نشأ في معصية، وترعرع في معصية، وشب في معصية، وشاب في معصية، وبات شيخاً على معصية، فإن الشيخوخة في هذه الحال تعني: إدماناً وبقاءً على المعاصي وربما رأى الإنسان ألواناً من المواعظ والمذكرات والمغيرات ومع ذلك لا يتغير إلا يوم أن يأتيه الموت، فإذا أدركه الموت قال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ} [يونس:90 - 91] الآن تتوب لما وصل الموت فحينئذ: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] إن الواحد ينبغي له أن يغتنم حياته -أيها الأحبة- وأن يستغلها في طاعة الله سبحانه وتعالى.
أنا أسألكم سؤالاً: نحن خلقنا لأجل عبادة الله جل وعلا، وأما نكاحنا زواجنا بيعنا شراؤنا سكنانا دوابنا سياراتنا هذه حاجات على الطريق، أما الغاية هي أن نعبد الله وأن نرضي الله حتى ندخل جنة الله، فتخيلوا معي الآن هذا المثال: رجلٌ سافر إلى مكة أو يريد السفر إلى مكة، وفي الطريق مر على محطةٍ وجد فيها دكاناً أو حانوتاً يبيع ألوان الخبز والمرطبات والمشروبات والمكسرات، ماذا تقولون لرجلٍ وقف عند هذا الحانوت أو هذا الدكان وقال: هنا وصلنا مكة، لا.
الحانوت الذي على الطريق تأخذ منه حاجتك وليس غايتك أن تأخذ الشراب أو الطعام أو الملبس، غايتك أن تتجه إلى مكة أما وقوفك عند الحانوت لأجل أن تغير ثوباً أو تغير قطعةً أو تشتري دابةً أو تحصل حاجة، فحالنا حال الذي أراد السفر إلى مكة فظن أنه وصل إلى مكة بمجرد وقوفه عند محطةٍ من المحطات، أي: جعل ما يتزود به إلى الطريق غاية ونسي الغاية العظمى، فنحن غايتنا الآخرة خلقنا لعبادة الله، لكن كثيراً منا وقف عند حوانيت الدنيا، كثيرٌ منا جعل غايته عند زوجةٍ نالها، غايته عند بيتٍ سكنه، غايته عند سيارةٍ ملكها، غايته عند أرضٍ يبنيها، غايته عند أموالٍ يستثمرها، هذا المال والزوجة والسيارة والدابة هي مثل الكيك والكعك والمرطبات والمكسرات التي تجدها على جنبات الطريق؛ لكن لا يعقل أن واحداً يرضى بهذه المكسرات ويقول: هذه الغاية، بل ربما أكل منها شيئاً في الطريق ثم رماها من نافذة سيارته وحث السير بخطىً جادة حتى بلغ مكة أو بلغ غايته.
إذا علمنا هذا -أيها الأحبة- فلا نخلط بين الغاية وبين المتاع الذي في الطريق قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] لا بأس أن تقف عند أي حانوتٍ وتأخذ منه حاجتك من لباسٍ أو طعامٍ أو شراب، لكن الغاية أن تبتغي بما أوتيته من سمع أو بصرٍ أو مالٍ أو جاهٍ أو قوةٍ أو وجاهةٍ أو قدرةٍ أن تبتغي بها وجه الله سبحانه وتعالى، ففي الشباب قدرةٌ على الإقلاع عن الذنوب، وفي الشباب قدرةٌ على طلب العلم، وفي الشباب قدرةٌ على مجاهدة النفس:
ومن لم يذق ذل التعلم ساعةً تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته
أيها الأحبة في الله: الحياة قصيرة: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55].
{قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:112 - 115] والله عشتم سنين!! عشتم منكم من بلغ العشرين سنة، ومنكم من بلغ الثلاثين، ومنكم من بلغ الأربعين، ومنكم من بلغ الخمسين وجاوزها، والسبعين وتعداها، ماذا فعلتم بها؟ ظننتم أنكم لن تحاسبوا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36].
يا أخوان: لو أن رجلاً استقدم مائة عامل ثم تركهم هكذا لقلنا: هذا مجنون يستقدم مائة عامل ويتركهم هملاً في الأرض!!، أو استورد مائة جهاز ثم يقفل عليها في الخزينة ويتركها!! فما بالك بأحكم الحاكمين أتظنونه خلقنا عبثاً؟! هل خلقت هذه الأبدان لنلبس عليها أفخر المشالح والثياب وألوانها وأنواعها، أم خلقت الأعين لنقلبها في أفلام الفيديو والمجلات الخليعة؟! أم خلقت الآذان لنسمع بها إلى الأغاني والأهازيج والموسيقى والطرب؟! لا والله ما خلقت لهذا وإنما خلقت لطاعة الله.
إذاً خلق الإنسان كله لغاية وهي عبادة الله، لا يعقل أن يكون جزء منه لغير عبادة الله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] كلك يا بن آدم من أخمص قدمك إلى مفرق رأسك مخلوق لعبادة الله، أتظن أن الجسم كله خلق لعبادة الله والعين خلقت لكي تنظر إلى فلانةٍ وعلانة؟: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31].
أيها الأحبة في الله: الواقع يشهد أننا ضيعنا كثيراً من الفرص وفاتتنا كثيرٌ من الغنائم، فيا ترى هل نعود لاستدراك ما فات؟ هل نستعد قبل الممات؟ هل نجتمع ونعقد العزم على تكفير السيئات وتجاوز الزلات والخطيئات؟(123/7)
اغتنام الصحة قبل السقم
اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها: (صحتك قبلك سقمك) أنت الآن معافى وأنت الآن قادر.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإحسان إمكان
ليس كل مرةٍ أنت قادرٌ على أن تفعل الخير، فما دمت اليوم قادراً على فعل الخير فافعله وبادر وأسرع واغتنم فربما غداً لا تستطيع، ما دمت اليوم قادراً على أن تبذل الفضل في مرضاة الله فعجل فربما تكون غداً عاجزاً عن ذلك، اليوم الناس يحتاجون إليك، وغداً أنت تحتاج إلى الناس، اليوم أنت تخدم غيرك وغداً قد تسقط صحتك وتقف قواك فتبحث عمن يعينك.
ولقد رأينا وزرنا وجالسنا أناساً كم كان لهم في الحياة من صولات وجولات، وكان لهم مواقف شهدت لهم الأرض وشهدت عليهم، ولو نطقت جوارحهم لتكلمت بما فعلوا، كانوا بالأمس يبطشون، وبألسنتهم يتكلمون، وبأقدامهم يمشون، وربما إلى حرامٍ أو مشبوهٍ يسعون، فنالهم من أمر الله ما نالهم، كان الواحد منهم يقضي حاجته بنفسه والآن على سرير المرض إن لم تأت ممرضة ثم تعطيه في دبره ما يخرج الغائط من جوفه وإلا ما استطاع، كان بالأمس يقضي حاجته بنفسه واليوم تُقضى حاجته ويُعان على قضاء حاجته، كان بالأمس يحتاج الناس إليه واليوم احتاج إلى الناس، كان بالأمس يتحرك حيثما أراد واليوم لا يتحرك إلا بمن يدفعه بعربيته إلى المكان الذي يريد، كان بالأمس يقرأ ما يشاء واليوم يُقرأ عليه فقد فَقَدَ بصره، كان بالأمس يسمع كل كلام واليوم احتاج إلى الإشارة لأن نعمة السمع فاتته في أمرٍ من الأمور.
إذاً الصحة عارية وربما تذهب الصحة بمرضٍ أو بسقمٍ أو بموتٍ أو ببلاء، ولأجل ذلك فإن من نعمة الله عليكم -يا معاشر أمة محمد- أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح قال: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) هذه بركة الطاعة، وهذه بركة المجاهدة، وهذه بركة مجاهدة الله في الشباب؛ إذا كنت في شبابك مطيعاً فقعد بك الهرم والشيخوخة عن النوافل وأنت على فراش مرضك كتبت لك حسناتك وصيامك وقيامك، إذا كنت في إقامتك وحلك مجتهداً في الطاعة، فإنه يكتب لك في سفرك ما كنت تفعله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً).
العمر جميلٌ بطاعة الله وفي غير طاعة الله نقمةٌ على صاحبه، العمر لذيذ في مرضاة الله، ومن كان معمراً على معصية، أو معمراً على فساد أو فاحشة، فمثل ذلك حياته وبال عليه ولو مات لكان خيراً له: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:4].
قيل للأعشى ميمون بن قيس وقد جاوز مائة سنة: يا أعشى! كيف وجدت الحياة؟ فقال:
المرء يرغب في الحياة وطول عيشٍ قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوءه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائلٍ لله دره
أيها الحبيب: إذا علمت هذا فاسأل الله ربك أن يجعل حياتك في طاعته، وفي الحديث: (إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً استعمله!! قيل: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه إلى عملٍ صالح ثم يتوفاه عليه) هكذا يستعمل الإنسان في طاعة الله، وكم سمعت مراراً من سماحة المربي العالم المفتي سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز وهو يدعو ويردد ويقول: اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك.
فيا أيها الأحبة: العاقل يسأل الله أن يكون عمره في طاعة الله، إن كنت بلغت العشرين فقل: اللهم اجعل ما مضى خالصاً لوجهك في طاعتك، وأسألك أن تعينني وأن تثبتني على ما بقي؛ لأنك -أيها المسكين- لا تدري فأنت في زمن الفتن، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، فعمرك نعمة، وما أسعد حال أولئك الذين شابت لحاهم في الإسلام! ولأجل ذلك في الحديث: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم) رجل كبير طاعن في السن لحيته بيضاء قد اشتعل الرأس منه شيباً، إن إكرامك له وإجلالك له من تعظيم الله سبحانه، لماذا؟ لأنه مكث ستين عاماً على التوحيد، أو سبعين عاماً على التوحيد، أو ثمانين عاماً على التوحيد، وأنت يا مسكين يا شاباً قد أعجبتك خطابتك أو محاضراتك، أو يا شاباً قيل لك: أنت ملتزم، أو أشير إليك بالبنان، أو قيل من الصالحين ما تدري ماذا يختم لك به، وكم من أناسٍ كانوا شباباً على الطاعة فتهاونوا أو غيروا أو تساهلوا فانقلبت طاعاتهم إلى معاصٍ، وختم لهم بسوء الخاتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لأجل ذلك فإن الحياة على طاعة الله نعمةٌ عظيمة، أما الحياة على المعصية؛ أو على أحوالٍ يبعد فيها المرء عن مرضاة الله، ذلك بابٌ من الحرمان والخذلان.(123/8)
قصة رجل تجاوز السبعين يحرص على الربا
شابٌ يعمل في أحد البنوك قال: جاء إلي رجلٌ عمره فوق الستين عاماً حول السبعين، قال: وكان له وديعة ربا قدرها ستين مليون دولار قال: جاء إلي ذلك الرجل الكبير ومعه عصاه وقال: يا ولدي! كم بلغت الفوائد الآن؟ فقلت: يا أبي يا عم يا رجل يا طيب يا كريم، أنت الآن عمرك ستون، قال: بس خل عنك كلامك كم بلغت الوديعة؟ قال: فأخبرته، ثم بلغني أنه أصابه مرضٌ في قلبه واحتاج إلى صمام أو شريان أو شيئاً من هذا قال: فقلت: لا أظن أن هذا الرجل الكبير يعود إلى الربا، بل ربما وهو في المستشفى يتصدق بجميع أمواله كي ينجو، قال: فما لبثت أشهراً إلا وجاءني ذلك الرجل ومعه عكازته دخل به رجلٌ معه علي وقال: يا ولدي! كم بلغت الفائدة؟ كم بلغت الوديعة؟ قال: فقلت: يا عم! أنت الآن في قلبك ما فيه، وفي صحتك ما فيها، وأنت الآن جاوزت الستين وقاربت السبعين، قال: أنت حاطينك البنك هنا مطوع وواعظ تعظ الناس، قال: فعلمت قول الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ستين مليون دولار وديعة فضلاً عن فوائدها صاحبها مصابٌ بشريان أو بجلطةٍ أو بصمام يرى الأموال والملايين، هل يستطيع أن يتزوج فتاة؟ لا هل يستطيع أن يأكل ما يشاء؟ لا.
هل يستطيع أن يسافر حيثما شاء؟ لا.
هل يستطيع أن يمارس أي رياضةٍ شاء؟ لا.
ومع ذلك يسأل عن ستين مليون، هذا هو المحق بعينه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} [البقرة:276] قد يكون صاحب الربا يرى مليارات بين يديه ويرى أموالاً طائلة لكن بمعصيته وبعمره في معصية تمحق منه بركة المال، ينتظره الورثة متى يموت، ويتمنى العصبة والورثة فراقه ودفنه وإيداعه في اللحد حتى يتلذذوا كما يشتهون بأمواله التي جمعها، إن كان حراماً فعذاب، وإن كان حلالاً فحساب.(123/9)
العصاة يدعون الوسطية
أيها الأحبة: إن هذه الحياة وهذه الصحة إذا لم تستغل في طاعة الله فلا شك أنها ماضيةٌ في معصية الله، وإن كثيراً من الناس قد وسوس له الشيطان بقوله: لا تكن فاجراً زانياً خبيثاً مروجاً للمخدرات، ولا تكن مطوعاً متشدداً معقداً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وإنما كن وسطاً؛ بمعنى: صل كما يصلي الناس ولا تتشدد على أولادك، وإن فاتتك الفجر فلا بأس، وإن جعلت المنبه قبل الدوام بنصف ساعة فلا بأس، وإن سمعت أغنية فلا بأس، وإن دعيت لتكتتب في أسهم بنك من البنوك فغاية الأمر سهمان أو ثلاثة فلا بأس، وإن دعيت إلى كذا فلا بأس؛ المهم ألا تكون مطوعاً معقداً متشدداً كما يريد هؤلاء الدعاة، ولا تكن متساهلاً مروجاً للمخدرات مسافراً لتلك البلدان التي يفعل بها الزنا، اجعل نفسك وسطاً.
وإني أعجب وأقول: إذا كان هذا يعد نفسه وسطاً فما هي وسطية النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان هذا الذي يتساهل ويضيع ويسمع ويداهن ويترك الأمر بالمعروف، ويرى المنكر ويسكت، ويرى أهله أو إخوانه أو أهل بيته على معصية ويقول: أنا لست متشدداً، إذا وصلت المسألة الزنا تكلمت، أما مادام لم تصل الزنا فأنا ساكت، لا تكن متشدداً اجعل نفسك وسطاً، إذا كنت وسطاً فماذا يكون أبو بكر الصديق؟ ماذا يكون عمر بن الخطاب؟ ماذا يكون عبد الرحمن بن عوف وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان؟ ماذا يكون المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: (أتعجبون من غيرة سعد؟! إني لأغير من سعد، وإن الله لأغير مني، وإن غيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه) وفتاةٌ أخرى تقول: لا أريد أن أكون متشددة معقدةً مطوعةً متخلفةً، إذا خرجت لبست القفاز ولبست عباءةً صفيقةً غير شفافة، ولبست ثياباً واسعة لا تحجم بدني ولا تصف جسمي، ولا أتكلم مع الباعة أو أكاسرهم أو أماكسهم وإذا أردت أن أخرج لا أتطيب، أنا لا أريد أن أكون متشددةً هكذا، ولا أريد أن أكون منحرفةً زانيةً أو مضيفةً لكن لا بأس أن أخرج إلى الشارع ويداي ظاهرتان، وشيءٌ من الساق قد بدا بما شق من الثوب من أسفله، ولو ظهر شيءٌ من النحر فلا حرج، وإن كان الغطاء خفيفاً فلن أبصر الطريق كما ينبغي، ولو تكلم رجلٌ في الهاتف تحدثت معه حديثاً لا بأس به، وأخذت وأعطيت ولو من باب التعرف، أو من باب قضاء الوقت؛ أنا لا أريد أن أكون زانيةً أو مضيفةً على الطائرة، ولا أريد أن أكون متشددةً متحجبةً ملتزمة، أريد أن أكون وسطا.
يا أمة الله! يا بنت المسلمين! إذا كنت تدعين الوسطية بهذا فماذا تكون فاطمة رضي الله عنها، وماذا تكون عائشة رضي الله عنها، أصبح العصاة يدعون الوسطية، فإذاً ماذا يسمى أهل الطاعة، وأهل العبادة؟ هذا أمرٌ عجيبٌ جدا!(123/10)
الصحة والفراغ
أيها الأحبة: في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحة والفراغ) وهذا الحديث الصحيح فيه من معنى الحديث الذي هو موضوع المحاضرة: (صحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك).
إذاً الصحة والفراغ نعمتان عظيمتان وإن كنا كثيراً ما نسمع على ألسنة الشباب قولهم: هيا بنا نحل مشكلة الفراغ، ونقضي على مشكلة الفراغ، ونتأمل مشكلة الفراغ، النبي يقول: الفراغ نعمة وليس بمشكلة كما يقول القائلون، ولاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصحة والفراغ نعمتان عظيمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس) كثير جداً يغبنون في هذه النعمة، فدل ذلك على أن القليل من الناس هم الذين لا يغبنون في الصحة بمعنى: يسخرونها في طاعة الله، قليلٌ من الناس هم الذين لا يغبنون في الفراغ فيسخرون فراغهم لطاعة الله، نعم الفراغ هو إناء الأعمال، الوقت هو زمن العمل أو هو وعاء العمل، فهذه ساعةٌ أنتم جلستم الآن في هذه المحاضرة تسمعون الكلام تذكرون الله تسبحونه تنزهونه تكبرونه وتصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الساعة بالضبط الآن فيها شابٌ يبيع في محل الفيديو، وفيها شاب يتعاطى المخدرات، وهذه الساعة فيها رجلٌ الآن يبيع في البنك ويشتري بالودائع والفائدة، وهذه الساعة هناك من يبيع ويشتري أسهم البنوك الربوية، وهذه الساعة فيها من يمشي إلى معصية، وهذه الساعة فيها من يراود على معصية، وهذه الساعة فيها من يجاهد نفسه عن معصية الله، وهذه الساعة فيها معتكفٌ في بيتٍ من بيوت الله، وهذه الساعة فيها طائع لله جل وعلا، إذاً فالزمن هو وعاء العمل، ساعةٌ فيها من يعصي الله وفيها من يطيع الله، لكن من عصى مغبون؛ لأن الساعة ولت، هل يستطيع الآن واحد منكم أن يمسك دقيقة حتى لا تفلت؟ هل يستطيع إنسان أن يمسك ثانية من الوقت؟ أبداً
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا
الواحد منا يفرح أن ينتهي الشهر يقول: الحمد لله اليوم ثلاثين يصرفوا له الراتب، نعم إنهم صرفوا الراتب ولكن صرف من عمرك شهر، اذهب إلى صندوق الدفع وهو القبر لترى ماذا صرفت هذا الشهر فيه، أنت تفرح أن مضت خمس سنوات حتى يخرج اسمك في صندوق التنمية العقاري، نعم اسمك أنت في الدفعة التي ستخرج الآن، أنت في الدفعة التي سيؤخذ ما عندها من القمح أو البر، ولكن أنت في الدفعة التي دنا أجلها وستموت في ذلك اليوم الذي قدر لها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً] أي: فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.
الأصل أن المسلم لا يعيش فارغاً، فإما يكون في عبادة، وإما أن يكون في مباحٍ يفضي إلى عبادة، أو يقوي على عبادة، فالذي يجلس في المغرب في حلقة تحفيظ القرآن، أو في المحاضرة، أو في ندوة، أو في كلمةٍ نافعة، فهذا يؤجر بإذن الله، والذي يبيع ويشتري في دكانه ثم يجني أرباحه آخر النهار، فيكفل يتيماً، أو يجهز غازياً، أو يحفر بئراً، أو يتصدق، أو يغيث ملهوفاً، أو يفرج كربة، فهو أيضاً في مباحٍ جمع به مالاً قاده إلى عبادة، لكن الذي ليس في عبادة وليس في مباحٍ يعين على عبادة ماذا يفعل أيها الأحبة؟ ثم اعلموا أنه ربما حصل للإنسان صحة ولم يحصل له فراغ، وربما وجد فراغاً لا صحة فيه، فأنت ترى المرضى الذي لهم في المستشفى ست سنوات وثلاث سنوات وسبع سنوات لا شغل عندهم، ولكن فراغهم هذا بسبب زوال صحتهم، فهل فكرت يوماً ما أنك الآن في نعمةٍ عظيمة بإمكانك أن تستغل الدقائق والثواني والساعات والأيام قبل أن يهدمك الموت، وينقلك إلى دارٍ قريبةٍ، وما أكثر من تراهم كل يومٍ يحملون على الأكتاف
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربٌ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخرب
وقال الآخر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
إذاً الآن اجتمع لكم الصحة الفراغ فاغتنموها يا عباد الله.
إن الذين يرقدون على الأسرة البيضاء في المستشفيات فارغون لا شغل لهم، ولكن فراغهم لزوال صحتهم وعافيتهم، يتمنى الواحد أن يقوم من الشلل أو من الفشل، أو من البلاء أو من السقم والمرض ويعبد الله ليل نهار ولكن هيهات، إن ابن آدم ظلومٌ كفار قال تعالى في شأنه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
خذ هذا المثال: شابٌ قوي البنية مفتول والعضلات، طويل عريض ضخماً أصابه ذات يوم مرض الزائدة -قطعةٌ صغيرةٌ في أسفل بطنه- فأخذ يتلوى ولا يستطيع أن يقف، كان سابقاً يقف نافخاً صدره مصعراً خده ينظر إلى الناس بنصف عين من شدة ما في نفسه من القوة والعافية وربما بطرته العافية، فلما أصابه أمرٌ من أمر الله ومسه الألم ما استطاع أن يقف، وأنتم تعرفون أن صاحب الزائدة لا يستطيع أن يقف هكذا بل يتلوى ويمسك أو يضع يده على أيسر بطنه ثم يتلوى ويصيح أو ينوح يريد الوصول إلى المستشفى، يريد أن يشق بطنه، يريد أن يقبض على هذه الزائدة وسط لحمه ودمه ثم تقطع وتجرح بالمشرط ثم يخيط بطنه كما يخاط السقاء والوعاء.
هكذا شأن الإنسان إذا أصابه البلاء: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:12] لما شفي وعوفي وزال عنه المرض وولى البلاء: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] بعد ذلك إذا جاءت الممرضة حاول أن يلمس يدها، حاول أن ينظر إليها، حاول أن يضاحكها، حاول أن يكون له معها شأن، سبحان الله! لما جيء بك على السرير وأنت داخلٌ المستشفى تقول: يا ألله آه يا رب عالجوني اقطعوا هذه الزائدة شقوا بطني شرحوني افعلوا بي ما تشاءون، ولما عادت العافية: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] لماذا أيها الحبيب؟ لماذا أيها الأخ؟ لماذا هذا شأنك؟ ألا تعرف ربك إلا في الشدة؟ (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) تعلق بالله في الرخاء ينفعك في كل حينٍ وفي حال شدتك أيضاً.(123/11)
لا فائدة من صحة دون فراغ
ثم تأملوا -أيها الأخوان- أن الصحة قد تكون موجودةً لكن لا يكون معها الفراغ، خذ مثالاً على ذلك: هل رأيتم عمالاً يحملون أكياس الرمل على ظهورهم؟ خذوا مثالاً على ذلك: العمال الذي يحمل الواحد منهم (الطوبتين) والثلاث (البلك) يحملها على ظهره من طلوع الشمس إلى مغيبها، ثم ترى الآخر يحمل أكياس الرمل على ظهره من الدور الأرضي إلى الدور الثالث والرابع، عنده صحة وعافية، لكن عنده فقر فذهب للبحث عن لقمة العيش، فإذا جاء المساء وحان المغيب وجدته لا يستطيع أن يتمالك نفسه واقفاً من شدة الإعياء والتعب، ثم إذا وضع رأسه على فراشه غط في نومٍ عميق يداوي بنوم الليل تعب النهار، لكن أنتم في عافية وفي فراغ وفي نعمة، لو كان الواحد فقيراً ما كان عنده وقت أن ينظر إلى الفيديو أو ينظر إلى معصية أو أن يضيع أوقاته في منكرٍ أو فاحشة.
يوم أن كنا في الحدود الصومالية في منطقة منديرا وما حولها والحدود الأثيوبية أيضاً في المجاعة التي لا يخفاكم شأنها، الناس هياكل عظمية من الجوع، والأقوياء من القوم يحفرون القبور ويدفنون الموتى، هذه حياة المخيمات، فكان بجواري أحد الأخوة فقلت له: هل ترى هؤلاء النساء الواحدة منهن تفكر في مشغل نسائي؟ هل ترى واحدةً تفكر ماذا تلبس من فساتين في المناسبة الفلانية أو الزواج الفلاني؟ هل ترى هؤلاء الرجال يفكر أحدهم أين يقضي سهرة الليلة في حديقة كذا أو على رصيف كذا؟ هل يخرج إلى قوم معهم شيشة على الطريق الدائري؟ هل يخرج إلى قومٍ عندهم طربٌ وسمر بالمكان الفلاني؟ لا.
يا أخي! القوم جياع، القوم لا يفكرون إلا بشبع بطونهم فقط، إذاً: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] لما حصل له الغنى ظهر منه الطغيان، ولو كان مريضا ً ما ذهب يبحث عن قومٍ يعصي الله معهم، ولو كان مشغولاً بلقمة العيش والسعي والكد لما وجدته يضيع وقته، هل وجدت عاملا ً من العمال طول النهار يشتغل فلما جاء الليل قلت له: تعال معنا في مجلس للشباب عندهم بلوت، وعندهم شيشة، وعندهم أغاني، وعندهم لهو وطرب، تعال وسع صدرك معنا، يقول العامل: لا يا أخي، أنا مسكين أولادي ينتظرونني، أنا أعمل عندك بستمائة ريال بألف ريال أكد عافية النهار وأداوي بالنوم في الليل تعب النهار، وهكذا تتوالى الأيام حتى أجمع لأولادي مالاً أعالج فيه مريضهم، وأستر فيه عاريهم وأبني لهم بيتاً أو كوخاً صغيراً يؤويهم.(123/12)
نعم الله علينا تترى
أيها الأحبة: والله لقد اجتمعت لنا نعم ما اجتمعت لغيرنا، نحن الآن على قيد الحياة، هل في المسجد أحد ينازع سكرات الموت لا يدري هل ينطق الشهادة أو لا؟ نحن الآن نتقلب في نعمة الحياة، هل فينا مريضٌ مرضا ًيقعد به على فراشٍ لا يستطيع أن يقضي حاجته بنفسه؟ من الناس من يكون عنده مرض بسيط (ربو أو سكر خفيف) أو أي مرض من الأمراض، لكن فرق بين من يمشي بعلته وبين من أقعدته علته على فراشه، شتان بين هذا وهذا، من الناس من يقول: والله أنت تتكلم عن الصحة وأنا مريض ما أمشي إلا ومعي ما يفتح التنفس، أو لا أمشي إلا ومعي حبوب السكر والضغط، أو لا أمشي إلا ومعي، يا أخي الكريم! حتى ولو كانت ما يدريك أن الله جل وعلا ابتلاك بهذا السكر أو بهذا الربو أو بهذا الأمر الذي تعاني منه من أجل أن يستمر تكفير سيئاتك، من أجل أن تنتهي هذه السيئات قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا نصب ولا وصبٍ؛ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بذلك من خطاياه).
إذاً: أنت في صحة؛ لكن السقيم الذي تراه الآن في المستشفى؛ جهاز البول يمتد إلى أنبوب لا يستطيع أن يتحكم فيه، ومثله الغائط ومثله التنفس، وبعضهم يفتح له في رقبته فتحة حتى يصل الطعام إلى المريء، لأنه لا يستطيع أن يبلع ذلك؛ فأنت الآن في عافية وأنت في فراغ؛ عندك فراغ يا أخي؛ نعم عندك دوام من الصباح من الساعة السابعة إلى الساعة واحدة أو اثنتين، لكن ما هو شغلك؟ تحمل طوباً، أو تحمل أكياس رمل، أو تحت السيارات، أو ترفع أثقالاً؟ أبداً؛ على كرسي دوار وعلى مكتب، أو تشرح لطلاب وفي مكان مكيف، أو في حانوت وآمن ومطمئن ولست تخشى شيئاً أو تخاف شيئاً.
(وشبابك قبل هرمك) أنت الآن قادر تستطيع أن تذهب إلى المحاضرة، وتمشي إلى المسجد، وتستمع الخطبة وتنصت إلى كلام الله وتناقش بعقلك، هل أنت على حقٍ أم على باطل؟ هل أنت في رضى الله أو في معصيته وأنت في غنى؟ لست فقيراً تخاف أن تموت جوعاً، من الناس وللأسف من فقره في قلبه ويده.
منذ مدةٍ جاءني في المسجد رجل وعليه علامات النعمة، يعني: لا بأس به، فقال: أريدك أن تساعدني، قلت: والله يا أخي الكريم أنت تعلم أننا نساعد المحتاجين نتكلم في جماعة المسجد ونقول: يا إخواني! جزاكم الله خيراً ساعدوا محتاجين منكوبين في البوسنة والهرسك، ساعدوا الذين يموتون جوعاً في الصومال، ساعدوا المعوقين والأرامل في أفغانستان، ساعدوا المجاهدين في الفليبين، ساعدوا رجلاً معوقاً في مستشفى النقاهة هو الذي يصرف على أولاده أصابته إعاقةٌ وشلل دائم يعني: اجمعوا له مالاً واصرفوه على أولاده.
لكن -يا أخي الكريم- أنت والله ليس وراءك نصراني يلحقك يذبحك كما يفعل الصرب بالمسلمين في البوسنة والهرسك، ولست الآن تموت جوعاً، قال: والله إني بعض الأيام لا أجد ما آكل، قلت: لو تقف عند زبالة شبعت؛ لو تقف عند زبالة من زبائل المطاعم شبعت، ما تستحي؟ أنت في نعمة وفي عافية وفي خير، ثيابك جميلة، وصحتك جميلة، وفي غنى، وفي نعمة، وفي أمن، وراءك صربي أو نصراني يلقي عليك النار بالرشاش؟ قال: لا.
قلت: أتموت جوعاً أو واحد من عيالك الآن هيكل عظمي يموت جوعاً؟ قال: لا.
قلت: عريان ما عليك ما يكسوك؟ قال: لا.
قلت: ما تتقي الله عندما تقول: أنا أحوج من هؤلاء؟ ما تخشى الله جل وعلا عندما تقول: أنا أحوج من الذين في البوسنة والهرسك، وأنا أحوج من الذين في الصومال؟ أين غنى القلب؟ (من يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله جل وعلا).
فالحاصل أننا -أيها الأخوة- في نعم، ولا يغرك بعض الناس ويقول لك: انظر إلى فلان وانظر إلى علان، وأنت المسكين ليس عندك شيء، لا.
أنت في نعمةٍ عظيمة، من قال: أنا فقير ليقف الآن أمامي وأقول له: تبيعني عينك بمليون؟ تبيعنا أذنك بمليون؟ تبيعنا لسانك بمليون؟ تبيعنا واحدة من الكلى بمليون؟ تبيع قلبك بمليون؟ أنت تملك ما يقارب ملايين!! كل جارحة من جوارحك لو قيل لك نشتريها بالملايين رفضت وأبيت، فتقول أنا فقير وأنت تملك هذا كله.
أقول أيها الأحبة: إن الواحد منا يملك الشيء الكثير، ولكن الشيطان يغرر بالإنسان ويوسوس له، ويضعف قدرات نفسه أمامه، حتى يجعله عبداً لشهواته، وعبداً لوسوسة قرينه من شياطين الإنس، وقرينه من شياطين الجن الذين: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
والآن أيها الأحبة: أما آن لنا أن نغتنم؟ أما آن لنا أن نستفيد مما نحن فيه مادمنا على القدرة؟ فلنبادر قبل أن نكون عاجزين، ولعل من الناس من يقول: لا بأس ولكن أمامنا شبابٌ لا بد أن نتلذذ به، وأمامنا فرصةٌ من الحياة لا بد أن نتمتع بها، فبماذا تتمتع؟ تتمتع بمعصية الله أو تقول: ليس هذا أوان الطلب، وليس هذا زمان الاجتهاد، أو تسوف فيما بعد، وتؤجل إلى ما بعد، فما يدريك أن الموت يفاجئك؟
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى(123/13)
إياك والتسويف فالقبر أمامك
اغتنم هذا كله وإياك أن تسوف؛ فإن الدنيا دول والدهر قلب: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] تلك الأيام يداولها الله جل وعلا بين أمم وأمم.
ذكر أن واحداً من البرامكة دخلت عليه ابنته وقالت: يا أبت! ما الذي حول حالنا إلى ما نحن فيه اليوم، بتنا في عزٍ وأصبحنا في ذل، بتنا في غنىً وأصبحنا في فقر؟! فقال: يا بنيه
رب قومٍ أمنوا في نعمةٍ زمناً والدهر ريان غدق
سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم حين نطق
أيها الأحبة: العاقل يغتنم كل شيءٍ حوله، ثم أسوق لكم أبياتاً جميلةٍ أريد من كل واحدٍ أن يحاسب أو يسائل نفسه بها:
خل ادكار الأربع والمعهد المرتبع
والضاعن المودع وعدِ عنه ودع
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفا على القبيح الشنع
كم ليلةٍ أو دعتها مآثماً أبدعتها
لشهوةٍ أطعتها في مرقد ومضجع
وكم خطىً حثثتها في خزيةٍ أحدثتها
وتوبةٍ نكثتها لملعبٍ ومرتع
وكم تجرأت على رب السماوات العلا
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
وكم غمضت بره وكم أمنت مكره
وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقَّع
وكم ركضت في اللعب وفهت عمداً بالكذب
ولم تراعِ ما يجب في عهده المتبع
فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم
قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع
واخضع خضوع المعترف ولذ ملاذ المقترف
واعصِ هواك وانحرف عنه انحراف المقلع
إلى متى تسهو تني ومعظم العمر فني
فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع
أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط
ومن ينح وقت الشمط بفوزه فقد نعي
ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص
وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى
واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى
وأن مثواك غدا في قعر لحدٍ بلقع
آهٍ له بيت البلى والمنزل القفر الخلا
ومورد السفر الألى واللاحق المتَّبع
بيت يرى من أودعه قد ضمه واستودعه
بعد الفضاء والسعة قيد ثلاث أذرع
لا فرق أن يحله داهية أو أبله
أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبع
هذه النهاية إن نهاية الذين اغتنموا حياتهم أن ينتقلوا إلى المقبرة، ولكنهم يبشرون بروحٍ وريحان وجنة نعيم، ويفتح لهم أبوابٌ إلى الجنان فيروا ما أعد الله لهم فيقول قائلهم: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، وأما الذين ضيعوا أوقاتهم وأصروا على المعصية، وسمعوا الموعظة ثم دخلت من هاهنا وخرجت من هاهنا، وسوفوا ثم جاءهم داعي الموت وخطفتهم سهام المنون ونقلتهم إلى بيت الدود وضيق اللحود يقول أحدهم: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة، لأنه يرى شيئاً يستوحش منه فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ.(123/14)
حث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الأحبة في الله: أيها الأخوة في الله عامةً! ويا أهل هذا الحي خاصةً! عليكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعليكم بالمبادرة والتوبة إلى الله، وعليكم بأن تجتهدوا في إصلاح أحوالكم ظاهراً وباطناً وداخلاً وخارجاً، ليكن كل واحدٍ منكم عضواً ورجلاً من رجال الحسبة، إذا رأيت متبرجةً فقل: يا أمة الله! أيتها الكريمة! يا بنت الطيبين! تستري وتعففي لا تدعي البرقع هكذا يكشف وجهك ولا تخرجي يدك، ولا تخرجي متعطرة ولا تخضعي بالقول مع الرجال {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وإن رأيتم من يتردد على السحرة أو الكهنة أو المشعوذين أو العرافين فقولوا له: يا مسكين! إن قدر الله ماضٍ لا يرده كيد كائد ولا يدفعه حرص حريص، فعليك بطاعة الله، وما عند الله لا ينال إلا بمرضاة الله، فاجتهد في ذلك تنل من الله مغفرةً ورضواناً.
وتناصحوا شباب هذا الحي وتعاونوا على نشر الخير، ودعوة الضال، وتعليم الجاهل، لأن من كان جاهلاً قد يعذر بجهله، لكن كلكم الآن يا من تجتمعون في هذا المسجد ليس فيكم أحد إلا وقد سمع شريطاً أو محاضرةً أو خطبةً، وقرأ كتاباً وعرف أحكاماً وعلم علوماً، فأسألك بالله ماذا عملت بعلمك، هل نصحت جيرانك؟ هل أصلحت بيتك؟ هل دعوت زملاءك؟ هل سترت على من حولك؟ واجبكم أن تتناصحوا وما دمتم بفضل الله على فطرة ودينٍ وتآلفٍ وتعاونٍ فيما بينكم فضعوا أيديكم في أيدي بعض، وتعاونوا على مرضاة الله وإظهار كل خير، ومقاومةٍ كل منكر فإنه أمرٌ يدفع عن المسلمين الهلاك قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] وقال في الآية التي قبلها: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117] نبشركم بالنجاة من الهلاك إذا تعاونا على إصلاح نسائنا وبناتنا وزوجاتنا وأولادنا وشبابنا وصغارنا وكبارنا.
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يجعل اجتماعكم هذا في موازين أعمالكم، وأن يجعل اجتماعكم في صحائف حسناتكم، اللهم لا تدع لهذه الوجوه التي حضرت هذه المحاضرة ولإخواننا المسلمين ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا ميتاً إلا رحمته.
اللهم خذ بأيدينا إلى طاعتك، واصرفنا عن معصيتك، اللهم إنك تعلم تسلط الهوى، وتحكم الشهوة، ووسوسة الشيطان، وجليس السوء، وقلة المعين، اللهم فأعنا على طاعتك، واصرفنا عن معصيتك، وخذ بأيدينا إلى ما يرضيك، وتوفنا على أحسن حالٍ تقربنا إليك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله على محمد.(123/15)
الأسئلة(123/16)
أعظم الغنائم
السؤال
هذا سائل يقول: فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أخبرك بأني أحبك في الله وسؤالي: ما هي أكبر الغنائم التي ضيعت في هذا الزمان؟
الجواب
أعظم غنيمةً يحصلها العبد هو أنه مؤمنٌ بالله ولد بين المسلمين وعاش في مجتمع مسلم، إذ أن كثيراً كما قال الله جل وعلا عنهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] فأعظم نعمة هي نعمة الإسلام ونعمة الإيمان، فمن تساهل بهذه النعمة ولم ينمها، ولم يرفع درجة إيمانه ويترقى في مدارج السالكين وطرق السائرين في منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، أعني: الواحد لا ينبغي أن يكون هكذا، تجد شاباً يتساهل في الصلاة، ويسمع الغناء، ويرتكب بعض المعاصي ويستمر عشرين خمسة وعشرين ثلاثين خمسة وثلاثين وهو هكذا لم يتغير، الأصل أن المسلم إذ زل الزلة فهي حال استغناء أما الأصل فهو استقامته على طاعة الله، وإن زل تاب من الزلة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود:114] ثم بعد ذلك يترقى في الإسلام والإيمان والإحسان واليقين ودرجاتٍ تقربه إلى رب العالمين.
أما أعظم نعمةٍ أرى كثيراً من الناس ضيعها فهي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، ولن يكون أفصح وأبلغ منه، فانظر إلى حال هذه المسائل الخمس: الحياة قبل الموت، الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والشباب قبل الهرم، والغنى قبل الفقر.
أكثر الناس قد ضيع حياته ولم يأخذ منها ولم يستعد لموته، وكثيرٌ ضيع صحته وصرفها فيما لا ينفعه، انظروا مثالاً على ذلك: بعض الشباب الذين يتدربون في الصالة الرياضية، ويتدرب في كمال الأجسام ويتدرب في كذا تعد هذا الجسم لماذا؟ هل تدرب رجلك على طول التهجد والقيام في الليل؟ هل تدرب نفسك على حمل السلاح في الجهاد سبيل الله؟ هل تدرب نفسك على أمرٍ ينفعك؟ من الشباب من تدرب فرفع مائتين كيلو وزن أثقال، ثم نزل مائتين كيلو ورفع مائتين كيلو وصفق له الحاضرون وخرج من الملعب وماذا بعد ذلك؟ صحةٌ لم تستغل في طاعة الله، وحياةٌ ما نفعت صاحبها؛ لأن الواحد يندم يوم أن يكون بينه ويبن الموت شعرة، فيندم على ما مضى ويندم على ما فات ويندم إذا حل به المرض ويقول: آه يا ليتني أطعت الله! يا ليتني تخلصت مما عندي! بل إن بعض الشباب نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم وأن يتجاوز عنا وعنهم ربما مات ووراءه من المعاصي ما وراءه.
شابٌ أعرفه جيداً جاءني ذات ليلة ووجهه متغير، وخاطره متكدر قلت له: يا سليمان! ما الذي بك؟ ما شأنك؟ قال: فلان ابن فلان من أقاربي لتوه جاء من مكان كذا وأعطي بيتاً في كذا حصل له حريقٌ فمات على إثره، ولما دخلنا لنقلب تركته وجدنا كذا شريط فيديو، وكذا شريط أغاني، وكذا مجلة.
يا أحبابنا! لو مات الواحد منا هذه الليلة؛ أشهد أن هذا اليوم صلاة الظهر صلينا في مسجد سارة على امرأةٍ هي قريبةٌ؛ لي أسأل الله أن يعفو عنا وعنها وأن يتجاوز عنا وعنها سألت ولدها: متى ماتت؟ قال: ماتت الصباح، كيف حدث ذلك؟ قال: كانت عندها جارةٌ من جاراتنا وهي تشرب الشاي هكذا ثم أصابها أمر أقل من التشنج ثم تقيأت قليلاً وجاءت ابنتها وأسندتها على صدرها، وجاء الطبيب قال: هذه ماتت، مع أنها مصبحة مع الناس ما فيها شيء، تقول هذا يقودها إلى الموت، فالموت قريب {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85].
ولا تشعرون.
يا أحباب: الواحد يستعد، فلو أن ملك الموت استأذن في هذا المسجد ليقبض روح واحد من الحاضرين، أو ليقبض عدداً منهم: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] هل فينا من يستعد للقاء الله؟ والله لو قيل لأحد الشباب: إن ساعة موتك قد حانت الآن قال: هاه طلعوا الأفلام الذي تحت الدولاب، والمجلات التي فوق الماسة أبعدوها أحرقوها أتلفوها وصل الموت وأحاسب عليها، وأعذب بها، لا يراها أحد بعدي، ثم آخذ وزره، فتوقع أن يأتيك الموت في أي لحظة وبماذا تستعد، ولذلك أحد السلف من صلاحه وورعه يقال عنه: لو قيل له إن ملك الموت سيأتيك الآن لما زاد في عمله شيئاً.
هكذا يستعد المسلم لطاعة الله سبحانه وتعالى، اجعل بيتك خالياً من آلات اللهو والمعاصي والأفلام والأشرطة، الطرب واللهو، لا تجعل السيئات تتراكم عليك بتساهلك بالصلاة مع الجماعة، لا تجعل صحائفك تسود بالذنوب والمعاصي بمجالس اللهو والغيبة والنميمة وفلان وعلان، لا تجعل أقدامك ويدك تشهد عليك بما اقترفت وبطشت من المحرمات، هذا هو استعدادك في طاعة الله، ثم امض حيث شئت في تجارة وزراعة وصناعة المهم ما دمت لم ترتكب محرماً في طريق.(123/17)
علاج قسوة القلب
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو علاج القلب القاسي؟
الجواب
الله جل وعلا قال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقسوة القلوب إنما تكون بكثرة المعاصي والرضا بها، نحن لا نتصور أن بشراً لا يعصي أبداً، قد تحصل المعصية؛ ولكن إياك أن تجعل المعصية تتراكم وتتضاعف، يعني: حصلت اليوم معصية أتبعها بصدقة، أتبعها بمائة تسبيحة وتكبيرة وتهليلة، اجلس في المسجد ساعة وساعتين، اجعل رأسك بين رجليك وأطرق برأسك واستغفر واندم وتفكر، واسأل الله أن يسلمك من شؤم هذا الذنب، وأن لا يؤاخذك به، وأكثر من التوبة والاستغفار.
ولكن هنا مسألة تعينك على علاج قسوة القلب: فأولها: مجاهدة النفس، بمعنى: قد يكون الإنسان قلبه أقسى من الحجر، لكن إذا كنت تريد أن تلين قلبك فجاهد نفسك على الجلوس في حلق الذكر؛ لأن حلق الذكر تزول عنها الشياطين، لماذا يبقى قلبك قاسياً؟ لقرب الشيطان منك، فلا بد أن توجد في بيئة ومحضن ليس فيه شيطان، المساجد لا تدخلها الشياطين، ذكر الله والاستغفار والتسبيح والتهليل يجعل الشيطان بعيداً عنك، فأكثر من حلق الذكر وجلوسها، وأكثر من زيارة المرضى وعيادتهم.
وإن تيسر لك أن تشهد رجلاً يعاني سكرات الموت فقف عند رأسه وانظر كيف تبرد أطرافه، وتجذب الروح من ساقيه، ثم تنتفض ركبتاه، ثم يهتز فخذه، ثم تقرقر الروح في جوفه، ثم تسمع لها حشرجة في صدره، ثم تخرج من نحره، وترى بصره يتبع روحه حيث خرجت.
هذه مشاهد تؤثر على الإنسان، إذا أراد أن يمشي إلى معصية وتذكر صورة ذلك الذي يحتضر ويموت وتذكر حاله ونفسه.
أيضاً تغسيل الموتى فيه عبرة وفيه عظة، تجد الرجل الذي كان طويل اللسان قد عض على لسانه من شدة آلام الموت وسكراته، تجد الرجل الذي كان يبطش بيده تترك يده هكذا فتسقط، وتترك يده الأخرى هكذا فتسقط، تجد الرجل التي مشت وسارت الأميال والفيافي والقفار هامدة لا حراك بها، تجد الذي له صولة وجولة الآن يقلبه الغاسل يمنة ويسرة لكي يجعل الحنوط في مغابنه ونحوها.
ثم أيضاً عليك بزيارة المقابر، وشارك في دفن الموتى، وكن مع الذين يضعون الميت في لحده، لترى كيف أنت تحمل رأس الميت ثم يسقط رأسه من يدك في الحفرة، حينما أنت تضع يدك تحت رأس الميت لتدفنه، ثم آخر الوداع أن تسحب يدك من عند رأسه ويبرد رأسه، ويرتطم قليلاً في الأرض ولا يئن ولا يصيح والشاش على وجهه، ثم تحل الأربطة منه، ثم تأتي باللبن وتصفها واحدة واحدة، حينئذٍ تتذكر، عجيب! هذا فلان بن فلان الذي ما كنا ندخل عليه إلا باستئذان، ولا نقابله إلى بحجز مواعيد، ولا ندخل عليه إلا بسكرتير وطريقة سكرتير، الآن يوضع في القبر، ويوضع التراب عليه، ثم توضع اللبن والتراب عليه، ثم نخرج من المقبرة ونتركه لوحده، كان يمشي وعنده خدامه وحشمه وموظفوه، وعنده من عنده، الآن يترك لحاله في المقبرة؟ ثم ماذا بعد ذلك؟ قد تأتي ذات يوم إلى قبره تعوده فيهولك المنظر أن ترى كلباً من كلاب المقبرة قد ربض على قبر فلان بن فلان.
الله أكبر! فلان الذي لا يستطيع أحد أن يجلس عنده إلا باستئذان ومقدمات وحجز، تجد كلباً من الكلاب يربض على قبره؟! هذه نهاية الدنيا، هذه نهاية الدنيا يا إخوان، الذي يتعلق بها يتعلق بسراب بلقع، لا نتيجة لهذه الدنيا، العصير والماء الذي نشربه يخرج بولاً نجساً يضايقنا لو بقي في أجوافنا، الطعام الجميل الذي نأكله يخرج من بطوننا عذرة وغائطاً لو احتبس في بطوننا لذهبنا إلى المستشفى ونقول: شقوا بطوننا وأخرجوا الطعام الذي أكلناه.
أي ضعفٍ في دنياك وفي حالك يا مسكين أنَّ ما تشتهيه تفارقه؟ الذي تشتهيه على أطيب حال يخرج منك على أخبث حال وأنجس حال، وجعلت مفاتن الدنيا في مناتنها، ولأجل ذلك ملذات الدنيا رخيصة أما الملذات العظيمة هي طاعة الله ولذلك قال أحد السلف: في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، يعني: مع الداخلين الأول، أي: جنة العبادة وجنة الخضوع، وجنة التوبة، وجنة مواجهة النفس بالصراحة.
افرض أنك الآن ضابط تحقق، أو تحقق مع خادم من عمالك، أو مع واحد من أولادك، تقول: لا تلف ولا تدور، أنا أعطيك الحقيقة اعترف، أنا أريدك -يا أخي- أن تقف أمام المرآة وتقول لنفسك، وتؤشر بيدك إلى يدك، وتضع عينك في عينك، ووجهك أمام وجهك وتقول: يا فلان! لا تلف ولا تدور، هل أنت على حالٍ ترضي الله أم لا؟ هل لو مت الآن تموت على حالٍ تسرك أم لا؟ هل أنت راضٍ عما تفعل؟ هل نهايتك هذه لو مت عليها نهاية سعيدة أم سيئة؟ يا أخي الحبيب: صارح نفسك، إلى متى العبث؟ إلى متى الخداع؟ الواحد منا لو يصب بنزيناً ثم يخدعه موظف محطة البنزين، صب بواحد وعشرين ريالاً وقال: هات خمسة وعشرين، تلتفت إليه وتقول: ماذا يا مجرم؟ أنت تخدعني؟ لك واحد وعشرين وتطلب خمسة وعشرين؟ نعم.
لا نرضى أن يخدعنا أحد في ريال أو ربع ريال، لكنا نخدع أنفسنا، الواحد منا معاصيه أدرى بها وأعلم بها، لو كل واحد يسأل عن ذنوبه، وأنا أسأل الآن وكل يجاوب نفسه في نفسه، ما هي ذنوبك؟ تقول: والله إني أعرف ذنوبي، ولأجل ذلك ليس من منهج أهل السنة والجماعة أن يمدح الإنسان بين الناس؛ لأنك أدرى بضعفك ونقصك وتقصيرك، ما هي ذنوبنا يا إخوان؟ كل واحد يعرف الذنب كما يرى هذه النجفة وهذه الثريا أو هذا الكرستال، أنت تعرف ذنبك جيداً، وإن مدحك الناس فأنت أدرى بأحوالك.
صارح نفسك، ولماذا لا تتوب؟ هل أنت ليست بكفء للتوبة؟ قد تاب من هو أفجر منك، فحفظ القرآن وأصبح إماماً ومؤذنا، قد تاب من هو شر منك فجاهد في سبيل الله ومات شهيداً بإذن الله، قد تاب من هو أسوأ منك فطلب العلم وأصبح معلماً وأستاذاً، لماذا لا تتوب؟ هل أنت بهيمة من البهائم عجماء لا تفقه الخطاب، ولا تدرك الخطأ من الصواب؟ حاشاك أخي الكريم، إذاً لماذا لا تتوب؟ هل كتب للناس أن ينالوا منازل الشرف والرفعة وكتب لك أن تكون مع العصاة في منازل الهوان والذلة؟ لماذا لا تتوب؟ لماذا لا تراجع نفسك؟ اسأل نفسك، وتب من هذه اليللة وارجع إلى الله، وكن مسلماً، إذا كنت موجوداً ظهر نفعك بالعبادة والدعوة، وإذا غبت ذكرت بصلاح عملك.(123/18)
الكفالة والضمانة
دعت الشريعة إلى الكفالة والضمانة رفقاً بالمسلمين ورحمة بهم، ولكن يقترن مع ذلك -حتى لا يتحمل الكافل أو الضامن عواقب شهامته- التأكد من المضمون عنه، ومقدار المبلغ المضمون، وهو ما بينه وأكد عليه الشيخ في هذه المادة، والتي بين فيها معنى الضمان والكفالة، والفرق بينهما وبعض أحكامهما.(124/1)
الضمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فالتقوى وصية الله لكم ولسائر الأمم قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، وقد رتب جل وعلا على التقوى أجوراً عظيمةً وثواباً جزيلاً، يقول جل من قائلٍ عليماً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: لقد جاءت شريعة الإسلام شاملةً كاملةً عامةً لجميع شئون الحياة، وجاءت فيما يتعلق بالعبادات والمعاملات والجنايات والعلاقات على مختلف أنواعها، وفيما يتعلق بالمعاملات جاءت الشريعة بما يضمن الحقوق، وما يضمن سلامتها لأصحابها، ألا وإن من ذلك: الكفالة والضمان.
إن الضمان والكفالة لمن أهم الأمور التي جاءت بها الشريعة إرفاقاً بالمسلمين، ورحمةً بهم، وتوسيعاً لهم في مجال المعاملات والمداينات، وسائر أنواع العقود بينهم، ولكن كثيراً من الناس يخطئون في فَهْمِ هذين النوعين ويذهبون فيهما مذاهب خاطئة، وبعد ذلك يقعون في الزلل والحسرة.(124/2)
تعريف الضمان
أما الضمان: فهو في اللغة: مشتق من الضم؛ وهو ضم ذمةٍ إلى أخرى، أي: ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون، فيثبت الحق المضمون به في ذمتهما جميعاً.
ويقول الفقهاء: الضمان: التزام رجلٍ ما وجب على غيرٍ وما قد يجب.
والأصل فيه قول الله جل وعلا: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72]، وللترمذي مرفوعاً: (الزعيم غارم).
أيها الأحباب: الحميل أو القبيل أو الزعيم أو الضمين، كل هذه العبارات يتم بها الضمان عن الحق المضمون به، وكل هذه العبارات التي جاءت لتُثبت ضم ذمة الضامن إلى المضمون عنه في الحق المضمون به، ولتؤكد أن الضمان أمر ليس بالهين ولا باليسير.(124/3)
التحذير من الضمان دون تحرٍ
كثير من الناس حينما يقع صديقٌ له في عُسرٍ، أو في بليةٍ من جراء مالٍ لم يستطع سداده، أو من جراء عملٍ لم يستطع إنتاجه أو تقديمه، جاء شهماً مبادراً ليضمن عنه أو ليكفله من دون أي تحديد لقدر هذا الضمان أو لمدته، أو من دون معرفةٍ دقيقةٍ للمضمون عنه، ألا وإن ذلك يصدق عليه قول القائل: (الضمان والكفالة أولها شهامة، وأوسطها ندامة، وآخرها غرامة) نقول ذلك -أيها الأحبة- لأننا نرى كثيراً ممن يسارعون ويبادرون من غير تثبتٍ أو تحققٍ في كفالة أو ضمان أحدٍ من الناس، وهم لم يتأكدوا عن مقدار الدين الذي في ذمته، ولم يعرفوا مقدار صلاحه واستقامته؛ ليعلموا بذلك أنهم حينما يسدون إليه جميلاً، ويقدمون إليه معروفاً أنه يعرف ذلك لهم، ويقابل إحسانهم بالإحسان؛ فيرد ما ضمنوه عنه، أو يلتزم بالحضور في الوقت الذي كفلوه بأجله، إن بعض الناس لَيَقْدُم على الضمان والكفالة من غير تحديدٍ أو تقديرٍ لهذه الأمور.
لذا ينبغي للإنسان ألا يضمن إلا فيما يقدر عليه، وألا يكفل إلا من يثق به، ولكن الملاحظ والذي نراه الآن أن كثيرا ًمن الناس حينما يهب منجدا ًومسرعاً لصديقٍ أو رفيقٍ أو قريب يضمنه بمالٍ في ذمته، أو يكفله بالحضور إلى أمدٍ معين، أو في مدةٍ محدودة، فإذا حل الأجل وجرت المطالبة بين صاحب الحق، وتوجهت على المكفول أو المضمون عنه، ثم لم يجدوه توجهوا إلى الضامن فأخذ يدعو بالويل والثبور، ويسب تلك الساعة التي عرف فلاناً فيها، أو ضمنه في حقٍ بها، أو التزم شيئاً من أجله، ألا وإن الإنسان هو الذي يخطئ على نفسه.
ولا يبلغ الأعداء من جاهلٍ ما يبلغ الجاهل من نفسه
لذا يا معاشر المؤمنين: إذا احتاج الإنسان إلى ضمان قريبٍ أو صديقٍ يعرفه بالثقة والاستقامة والخوف من الله والمحافظة على حقوق الله أولاً وأخيراً، لأن من حافظ على حقوق الله فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيع حقوق الله فهو لما سواها أضيع، ينبغي لمن هَبَّ لكفالة أو ضمان قريبٍ أو رفيق أن يضمنه في مالٍ يستطيع تقديمه عند عجز المضمون عن أدائه، أما فعل كثيرٍ من الناس، فتراه يسأل: من فلان بن فلان!! أنا أضمنه في كل ما تريدون، وما يدري أنه يضمنه في مالٍ لا يستطيع هو ولا أسرته ولا قبيلته سداده، وبعد ذلك يعيش أسير الهم والحزن والبلاء من جراء ما اكتسبت نفسه عليه من دون توثقٍ أو تأكد.(124/4)
بيان من تتوجه إليه المطالبة وتعدد الضمناء
ونلاحظ أن كثيراً من الناس حينما يكون ضامناً أو كفيلاً وتتوجه المطالبة عليه ابتداء يضجر ويجزع ويشتكي، ويقول: لم لا تطالبون من ضمنته أولاً، ثم إذا عجز عدتم إليّ!! ألا وإن المقرر والمعمول به في المذهب، والمعمول به هنا أن لصاحب الحق مطالبة من شاء منهما؛ (الضامن والمضمون) وإن هذا الحق ليثبت في ذمة الضامن في حياته، ويثبت في تركته بعد مماته، من قوة وشدة الضمان.
إذن: ينبغي لكل مسلمٍ أن ينتبه لهذا الأمر، وألا يزج بنفسه فيما لا طاقة لها به، فالله جل وعلا يقول: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة:286] فالله جل وعلا قد علمنا هذا الدعاء وينبغي أن نمتثله، وهو جل وعلا القائل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
فينبغي للإنسان ألا يتحمل شيئاً يجر البلاء عليه، وقد يجر البلاء على نفسه فتُباع داره التي يسكن فيها، وقد يؤخذ ماله من بين يديه وهو يرى، من جراء هذا الضمان الذي لم يقدر له قدره، أو يحسب له حسابه، وإن الضامن لا يبرأ أبداً إلا إذا برئت ذمة المضمون عنه؛ إما بإبراء صاحب الحق له، أو بقضاء المضمون عنه لذلك الدين، أو لتحويل الدين حوالةً تبرأ بها الذمة، وأما غير ذلك فلتعلموا أن الضامن ملزوم ملتزم بالحق في حياته ومماته إذا لم يكن الإبراء.
وإذا تعدد الضمناء لم يبرأ أحدهما ببراءة الآخر، ألا وإن ذلك معناه: أن إنساناً ما قد يكون مطلوباً في دينٍ معين، فيتقدم اثنان أو ثلاثة لضمان ما عليه من الحق، فإذا جاء صاحب الحق وأبرأ أحدهما فإن الاثنين الباقيين لا تبرأ ذمتهما إلا بإبرائه لهما، أو بأدائهما ذلك الحق، وليس لأحد الضامنين أن يقول: مادام فلان قد برئ فأنا أبرأ بالتبع، إن ذلك لا يمكن أبداً فالتفتوا لهذا الأمر.(124/5)
تعريف الكفالة والفرق بينها وبين الضمان
أما الكفالة: فهي التزام رشيدٍ إحضار من عليه حقٌ ماليٌ لربه؛ أن يلتزم إنسانٌ بإحضار إنسانٍ آخر عليه حق ٌ من الحقوق، والكفالة تنعقد بما ينعقد به الضمان، والناس في هذا مما يشيع على ألسنتهم بقولهم: كفيل غرم وأداء، أو كفيلٌ غارم، ألا وهو الضمان، أما الكفيل الحضوري فهو الذي يصدق عليه أمر الكفالة، والكفالة أهون قليلاً من الضمان؛ لأن المكفول إذا مات برئ الكفيل؛ ولأن العين إذا تلفت بفعل الله جل وعلا برئ الكفيل؛ ولأن المكفول إذا سلم نفسه برئ الكفيل.
أما الضمان فإن المضمون عنه لو مات لم يبرأ الضامن، ولو أن من عليه الدين سلم نفسه فإن للمضمون له الحق في أن يُطالب هذا الضامن ولو سلم ذلك نفسه، فينبغي أن ننتبه لهذا الأمر أشد الانتباه، وكم سمعتم وعلمتم بكثيرٍ من الناس بدءوا أمر الكفالة والضمان بالشهامة والنخوة والنجدة، وبعد ذلك عضوا أصابع الندم حينما رأوا من كفلوهم أو ضمنوهم يتهربون ويجعلونهم أمام المطالبة والمطاردة والإلزام بالدفع أو التقييد بالسجن ونحوه.
ألا وإن ذلك من ثبات الحقوق وضمانها في الشريعة الإسلامية، ولكن ينبغي للإنسان ألا يتسرع في ضمان أو كفالة شيءٍ حتى يتأكد منه، وحتى يعرف قدرته على أدائه وسداده عند عجز المضمون عنه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(124/6)
الشريعة تدعو إلى الضمان والكفالة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا لله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالةٍ، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الأحباب: لا يظن مسلمٌ أننا بهذا الحديث المتقدم آنفا ً نحذر الإنسان أن يكفل أو يضمن! لا.
لأن الشريعة قد جاءت بهذا الأمر فلا ينبغي ولا يجوز أن يُحذر عن أمرٍ جاءت الشريعة به، ولكن الذي نُحذر فيه أن يضمن الإنسان في شيءٍ لا يعلم مقداره أو حدوده أو قدره، وهو الملاحظ من كثيرٍ من الناس، فإذا حُجز أحد أصحابه أو أقاربه جاء مقدماً هذا الضمان أو الكفالة وهو لا يدري ما مقدار الدين الذي في ذمته، ولا يدري ما مقدار جريمته، ولا يدري ما مقدار الحق الذي ثبت في ذمته، ومع ذلك تجده يبادر من غير سؤال، ألا وإن ذلك غفلةٌ وبلاهة وليس شهامة!! لأن الإنسان حينما يزج بنفسه فيما لا طاقة له به فإنه قد يكون من الجهل أقرب من العقل والتؤدة والتأني.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يعرف أولاً نوع هذا الضمان، وما هو مقدار المال الذي سيضمن فيه، ثم ليجعل في حسبانه أنه لا بد مسلمٌ ومقدمٌ هذا المال الذي يضمن عنه، وليجعل في ذهنه أسوأ الاحتمالات وأشدها ضيقاً، ألا وهو عجز من ضمنه عن الأداء، وعند ذلك يُحاسب الإنسان نفسه في هذه اللحظة، هل يتقدم وهل يجترئ على هذا الضمان أم لا؟ وبعد ذلك ينبغي أن يعرف مقدار الدين، فقد يكون شيئاً يسيراً هيناً، لا يصعب عليه أن يقدمه عند عجز المضمون عنه، فبذلك يكون مأموراً ومندوباً ويُحث على أن يتقدم بالضمان عن ذلك إذا كان في مالٍ يسيرٍ يستطيع تقديمه، خاصة إذا كان الذي توجه عليه الحق معسراً ممن له عائلة وأسرةٌ يعولها، وأطفالٌ ينتظرونه، وزوجة لا تعرف كيف تُنفق على أولاده، فينبغي للإنسان أن يبادر إلى هذا النوع من الضمان فيما يستطيع به وفي معرفته حاجة المضمون عنه.
ثم بعد ذلك ينبغي أيضاً أن يعرف أن حقه ثابت ٌ في ذمة المضمون عنه، فإذا طالب صاحب الحق الضامن، ثم قدم هذا الضامن الدين الذي في ذمة الأول، فإن له بعد ذلك أن يعود إلى مطالبة من ضمنه بحقه الذي قدمه وسلمه، أما أن يضمن الإنسان فيما لا يستطيع فأكرر وأقول: إن هذا قد يكون من الجهل والبلاهة.
وكذلك الكفالة في الأمور التي تحتاج إلى إحضار إنسان معين في دائرةٍ معينةٍ أو في مكانٍ معينٍ، فينبغي للإنسان ألا يستعجل بكفالة هذا النوع قبل أن يعرف من هو هذا الذي يكفله، أهو من الذين يقدّرون المعروف، أهو من الذين يعرفون حق الله، فمن باب أولى ألا يضيع حق العباد.(124/7)
قصة وعبرة
كم من إنسان قد ضمن من هرب وتركه أسير المطاردة والملاحقة من جراء جرأته في الضمان وفي بدايته من غير تقديرٍ لعواقبه، وكم من إنسانٍ قد كفل آخر وهو لا يدري أين يسكن؟ أو أين مكانه؟ أو أي جهةٍ تعرفه أو تُعرف به؟ وبعد ذلك في وقت الحاجة إلى حضوره يراه مفقوداً، وأذكر لكم قصةً أعرف صاحبها تمام المعرفة: كان سجيناً في يومٍ من الأيام مع آخر في حقٍ من الحقوق، فقال الأول الذي دخل السجن أولاً للآخر: اكفلني حضوراً وأنا أقضي ما عليك من الدين، فظن ذلك المسكين أو الجاهل أو الغافل أن هذا أمرٌ من الإرفاق أو النفع أو تقديم العون، فقال: إذن كيف أخرج أنا؟ قال: أنا أدفع عنك ما تريده من المال، وكان مرهوناً بمالٍ يسير، فقدم السجين الأول ذلك المال ليخرج الآخر، فلما خرج عاد ثانيةً ليُخرج الأول، فلما خرج هرب ولم يعلم أن الدين الذي عليه يقدر بخمسة ملايين من الريالات التي لا يستطيع هو ولا أسرته ولا قبيلته ولا من معه أداء هذا الدين.
وبعد ذلك عاد أسيراً مرهوناً بسبب هذه الكفالة التي اجترأ عليها ووقع أسيراً بها، وإن بعض الناس قد يجعلون الكفالة والضمان سبباً للاستدرار المالي، وسبباً لتحصيل المال، ألا وإن ذلك مما لا ينبغي، إن بعض الناس قد يكفل آخر مقابل شيءٍ من المال، فإذا خرج بعد ذلك تركه يبقى قبيلاً وحميلاً ضامناً أمام خصمائه وغرمائه، وأخذ يقلب ويدعو بالويل والثبور على ذلك المال اليسير الذي أوقعه في هذه المصيبة العظمى.
أكرر وأقول: أيها الأحباب! إن الشريعة لا تنهى عن الضمان والكفالة، بل جاءت من الإرفاق والرحمة والحاجة إليها بين المسلمين، ولكن ينبغي أن نعرف حدودها ومقدارها ومن نكفلهم أو نضمنهم فيها، ونوع الحق الذي نقدمه فيها، وبعد ذلك يكون الإنسان على بينةٍ وحذر.
أسأل الله العلي العظيم رب العرش الكريم أن يجنبنا وإياكم مواقع الزلل، وأسأله جل وعلا ألا يميتنا بحق مسلمٍ في ذممنا؛ لا بمالٍ ولا دينٍ، ولا مظلمةٍ ولا عينٍ، ولا شتيمةٍ ولا عرضٍ أو نحو ذلك.
اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا وأكرم بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله، اللهم ثبت قدمه، اللهم لا تفرح عليه وعلى من حوله حاسداً، ولا تفرح أو تشمت بهم عدواً برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تجعل لنا في هذا المقام ذنباً إلى غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً راغباً في النكاح إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره برحمتك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وارض الله عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا وجميع موتى المسلمين، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(124/8)
الكنوز الضائعة
إن الله جل وعلا قد أعطى هذه الأمة كنوزاً كثيرة، تحصنهم من الشيطان، وتلين القلوب، وتنشط الجوارح، وتطرد الهموم، وتهدي إلى الصراط المستقيم، وتصل العبد بربه حتى تجعله لا يتعلق بأحد سواه، ومن مارس عرف، وفي هذه المادة ذكر طرف من ذلك.(125/1)
المسارعة في الخيرات
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء أن يجعل قولنا واستماعنا وسعينا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجنبنا النفاق والرياء والسمعة، وألا يجعل للشيطان في أعمالنا حظاً ولا نصيباً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! الحديث عن الكنوز الضائعة حديثٌ يطول ولا يسعه مقامٌ قصير كهذا، ولكن حسبنا أن نشير إلى أن ثمة كنوزٍ نضيعها بأيدينا ونسعى في تلفها، ويا ليت ما ضاع منها يتدارك، لكن ما مضى منه مضى بظرفه وزمانه، ومن كان له حظٌ في الاستدراك قبل الفوات والاستعداد قبل الممات، فإنه إن أعين على ذلك بنية وعزمٍ صادق فلعل الله عز وجل أن ينيله خيراً فيما بقى من حياته.
إن الله سبحانه وتعالى وصف خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] فالمسارعة والمسابقة والمبادرة والاغتنام من الأمور التي لا تكون إلا على شيء يضيع أو يفوت، إن شيئاً قد توفر وتجمع بكمياتٍ هائلة لا أظنك تقول لأخيك: اذهب فاغتنم حظك من هذا؛ لأنك تعلم أن الكثير الكثير من أجناسه وأنواعه باقية لا تنفذ، لكن ما فات وما يزول وما يتخطفه الناس فإنك تقول لصاحبك: بادر واغتنم وأسرع ولا تدع الفرصة تفوتك وانتهز ذلك، إنها غنيمة، والمحروم من حرم والخاسر من خسر في أمرٍ إذا مضى ربما كان فوته لا يستدرك أبداً، فما بالك بأعمال تضيع في أوقاتٍ لا يمكن أن نتداركها، بل لو اجتمع الإنس والجن وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً على أن يعيدوا لنا ساعة مضت قبل غروب شمس هذا اليوم لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فما بالك بما مضى من الأيام والسنين والأعوام وما فيها من خزائن، الله يعلم كم من حسرة سوف يبثها العباد إذا فتحوا خزائنهم يوم القيامة ليروا أنه قد مضى عليهم أوقاتٌ كثيرة وودعت خزائنها خالية فارغة ليس فيها من العمل الصالح شيء، قال الله سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقال عز شأنه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
فيا عجباً كيف يدعونا ربنا إلى المسارعة؛ نسارع إلى المغفرة ونسارع إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولماذا ندعى بخطاب المسارعة والمبادرة؟ الجواب واضح: لأن الآجال لا تدع أحداً ربما يحقق أو يطبق ما سوف أو وعد بفعله في المستقبل
صادفن منها غرة فأصبنها إن المنايا لا تطيش سهامها
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا(125/2)
فضل ذكر الله جل وعلا
قال ربنا جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] والخيرات كثيرة، ولكن حسبنا أن نركز جل وقتنا هذا على عبادة جليلة، بجارحة صغيرة لتحقيق وتحصيل حسناتٍ كثيرة، ألا وهي: ذكر الله، قال عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].
والذكر شأنه عظيم، وإني أسألكم الآن: هل يستطيع أحدكم أن يحرك يديه ورجليه بقدر ما يحرك لسانه؟! إنك لا تستطيع، بل لا يمكن أن تحرك جفن عينك على خفت وزنه وقربه فضلاً عن تحريك يدك أو قدمك بقدر ما تحرك لسانك، فهذا اللسان يمكن تحريكه بأيسر وسيلة وطريقة لتحصيل عبادة جليلة ثوابها كثير وخيرها وفيرٌ بإذن الله، ولكن من الناس من لديه استعداد أن يهجر ويلغو ويثرثر ويتكلم ويهرف بما لا يعرف، ويهذي بما لا يدري ليقول ما يضر ولا ينفع، الليل والنهار، وإذا قيل له: قل لا إله إلا الله {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] فيا عجباً كيف يطيب لهذه الألسنة أن تتكلم الساعات الطوال في الغيبة والنميمة، وفي القيل والقال، والغادين والرائحين، والذين أعطوا والذين حرموا، والذين أخذوا والذين منعوا، ثم يكل عليها أن تتكلم بذكر الله الذي هو شفاء الأبدان ودواء القلوب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أيها الأحبة السلامى هي المفاصل، فهذه الأنملة كل مفصلٍ فيها يسمى سلامى، فكم في بدنك منها؟ إنها كثيرةٌ جداً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن علينا لله في كل سلامى من أبداننا صدقة) حيث قال في الحديث الذي يرويه أبو ذر: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى).
أولاً: هذا الحديث رواه الإمام مسلم فهو حديث صحيح، ومفاده: أن علينا لنعم الله علينا واجب الشكر وأداء النعم وإن كنا لا نستطيع حصرها ولا شكرها،
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الآماد واتصل الدهر
إذا عم بالسراء أعقب مثلها وإن عم بالضراء أعقبها الأجر
إذا كان مجرد هذا المفصل الذي يتحرك في الأنامل لله عليك فيه صدقة؛ بتسبيحة، أو بتهليلة، أو بتكبيرة، أو بأمر بالمعروف، أو بنهيٍ عن المنكر، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة محتاج، أو ابتسامة في وجه مسلم، أو ما شئت من وجوه الصدقات، فما بالك بما لله علينا من الصدقات الواجبات في أبصارنا؟! ماذا أحدثك عن عينك، ماذا أحدثك عن هذه الماسحات التي كلما علق الغبار على هذه الزجاجة أو هذا الغشاء الرقيق تحركت حركة أنت لا تدركها برطوبة لكي تغسل العين، وماذا أحدثك عن القَرَنِية وعن الشبكية وعن عصب العين؟! وماذا أحدثك عن جارحة الشم أو جارحة السمع أو جارحة الهضم أو جارحة التنفس أو جوارح كثيرة؟ إذا كانت السلامى -المفصل- لله عليك فيه صدقة، فكم من صدقة لله عليك في سمعك، وكم لله عليك من صدقة في بصرك، وكم لله عليك من صدقة في يدك وفي قدمك وفي جوفك وفي الكلى.
خذ على سبيل المثال واسألوا إخواننا الذين يرقد الواحد منهم في كل أسبوعٍ أربع مرات على السرير أو في غرفة الغسيل الكلوي لكي يغسل الدم، إن جلوس هذا المريض في وحدة الكلى ست ساعات كاملة من أجل تنقية الدم إن هذه العملية ليست كما قرر الحذاق من الأطباء إلا عشرة في المائة من الوظائف التي تؤديها الكلية، فما بالك بتسعين في المائة من الوظائف؟ أليس لهذه الكلى من حقوق الله علينا في شكرها الشيء الكثير؟ فحدث ولا حرج عن كل عرقٍ ساكن لو تحرك لما وجدت للحياة طعماً ولا لذة، وحدث ولا حرج عن كل عرقٍ متحركٍ لو سكن لما وجدت للحياة طعماً ولا لذة، ناهيك عن هذه الجوارح وهذه الحواس العظيمة.
ثم إنا لنعجب أيضاً من هذا الحديث، وفيه دلالة على أن هذا الدين لم يجعل طريق الخير واحداً لا يحسنه إلا فئة أو شريحة أو طبقة من الناس، فإن الله عز وجل لما أوجب علينا الصدقات في شكر هذه النعم التي لا نحصيها فضلاً عن القيام بشكرها وحق الله علينا فيها، إن الله عز وجل لم يجعل كل الخير في بابٍ واحد، بل جعل الخير في أبوابٍ شتى، بل جعل الخير في مذاهب شتى حتى يستطيع كل عبدٍ أن يذهب كل مذهب وأن يأتي بكل خير في وسعه وقدرته واستطاعته ليحقق لله شكراً في نعم الله عليه، فتسبيح صدقة، وتحميد صدقة، وتهليل صدقة، وتكبيرٌ صدقة، واحتسابٌ صدقة، ودعوة صدقة، وإماطة الأذى صدقة، وإعانة المسكين صدقة، وحمل متاع الرجل معه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، والابتسامة صدقة، بل وحتى إتيان العبد شهوته في حلالٍ صدقة، قال الصحابة لما قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة! قالوا: يا رسول الله! يأتي أحدنا شهوته ثم يكون له بذلك أجر؟ قال: أرأيتم إن وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم.
قال: فكذلك لما وضعها في حلالٍ كان له بها أجر).
إذاً -أيها الأحبة! - لم يعجز أحدٌ أن يأتي بخير، لا أظن أن أحداً يعجز عن ابتسامة، أو عن كلمة طيبة، أو عن إفشاء السلام، أو إطعام الطعام، أو التسبيح والتهليل والذكر.(125/3)
تلاوة كتاب الله كنز ضائع على الكثير
أيها الأحبة: من أجل الأذكار تلاوة كتاب الله عز وجل، والقرآن شأنه عظيم، ففي الحديث الذي يرويه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألفٌ حرف، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
سبحان الله العلي العظيم، أن تجلس قبيل أو بعيد الصلاة أو في سيارتك أو في متجرك أو في مكانك فتفتح المصحف فتقرأ حروفاً وكلماتٍ وجملاً من كتاب الله عز وجل، فإذا بك تؤجر أجراً عظيماً وتثاب ثواباً عظيماً، هل تعبت؟ هل تنفست الصعداء؟ هل حملت أثقالاً؟ هل مشيت خطواتٍ؟ هل أخرجت مالاً؟ هل تعبت في ذلك؟ مجرد أن تفتح المصحف وتقرأ لك بكل حرفٍ حسنة والحسنة بعشر أمثالها، لنسأل أنفسنا يا من ننظر إلى من حولنا نظرة الرحمة والإشفاق بأنهم يضيعون أوقاتنا، كم نحن نضيع من الأوقات الكثير الكثير لا نقرأ فيها من كتاب الله.
ينبغي ويجب علينا أن نجعل في كل يوم علينا فيه ورد وحق واجب، ولكن -أيها الأحبة- إنها كنوز القرآن الضائعة، ولو أن الإنسان بنية إذا شئت -يا أخي الكريم- حتى تفرح بعاجل بشرى المؤمن خذ معك ورقة وقلماً وعد عدد الأحرف في صفحة من صفحات المصحف، ستجد مئات الأحرف بمئات الحسنات مضروبة في عشر أمثالها، كم مر عليك من يوم لم تفتح المصحف فيه؟ كم مضى عليك من أسبوع لم تقرأ فيه من كلام الله عز وجل؟ فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا كما قال الشاطبي رحمه الله:
وإن كلام الله أوثق شافعٍ وأغنى غَناءٍ واهباً متفضلا
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمرٍ فتنجو من البلاء
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا(125/4)
من فضل قراءة القرآن
إن قراءة شيء من القرآن يعدل شيئاً كثيراً، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عقبة بن عامر: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين -يعني: بناقتين سمينتين- في غير إثم ولا قطيعة رحم، فقلنا: يا رسول الله! كلنا نحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خيرٌ له من ناقتين، وثلاث خيرٌ له من ثلاث، وأربع خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) رواه الإمام مسلم.
فهذا فضل آيتين من كلام الله يعدل الكثير الكثير من ناقتين وثلاث وأربع وأعدادهن من الإبل، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة، فإن من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] في ليلة فقد قرأ ليلته ثلث القرآن) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] الله الذي اختار هذا الكلام، وهو من هذه الأحرف التي نتحدث بها، ولكن الله اختار هذا الكلام ليكون أطيب الكلام وأجمله وأحكمه وأصدقه، واختار من هذا الكلام آيات وسوراً جعل الله فضلها عظيماً عميماً ومن ذلك: قل هو الله أحد.
عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال: (خرجنا في ليلة مطرٍ وظلمةٍ شديدة نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركناه فقال: قل، قلت: ما أقول؟ قال: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تصبح وحين تمسي ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي.(125/5)
القرآن شفاء لما في الصدور
أين الذين يذهبون للعيادات النفسية ويشكون القلق والانفصام والاكتئاب؟ أين الذين يذهبون لعلاج ما يسمى بضيق الصدر؟ أين الذين يخسرون أموالاً بل ويرتكبون شركاً في الذهاب إلى المشعوذين والكهنة والعرافين ليعلق عليه من التمائم وليعطيه من الرقى والطلاسم، وليلبسه من التول ومن أشياء كثيرة كلها لا ترضي الله بل تجرح وتقدح في التوحيد إن لم تنافي التوحيد كله؟ والعلاج سهلٌ بين يديه أن يقرأ عند صباحه ومسائه: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، اسألوا الذين يترددون على العيادات النفسية، فقد بذل بعضهم مئات الآلاف من الأموال، أنا أعرف رجلاً، قال: إن ما خسرته على العيادات النفسية متردداً عليها والأدوية أكثر من أربعمائة ألف ريال، يعني: أقل من نصف مليون، فوالله إن هذا لقليل يعني: قد خسر أكثر، قلت: وهل وجدت نتيجة؟ قال: لا.
قلت: إذاً كيف تعالج نفسك؟ قال: والله ما وجدت علاجي إلا في جزءٍ من القرآن آخر الليل، إن قرأت تلك الليلة جزءاً من القرآن في تلك الليلة أو قبل النوم أو في آخر الليل فإني أصبح نشيطاً سوياً سليماً معافى، وإن تركت القرآن أصبحت مريضاً قلقاً مكتئبا، فانظروا كم لله من النعم والفضل حينما يبتلي عبداً من العباد بلاءً يجعل دواءه في ذكره ليؤجر في دواء بلوى أصابته، أو في شفاء سقمٍ قد ألم به، نعمة عظيمة لكن ما أكثر الذين يترددون على المشعوذين، ويحيطون أنفسهم بالسرية وبالكتمان، وأنا أعرف لك واحداً موجوداً وراء الجبل وتحت الوادي وخلف المكان وفي آخر الطريق ولا تخبر به أحداً، ثم يأتي إلى بيتٍ نتن الرائحة خسيس المنظر والشكل؛ في حالة مزعجة وفي هيئة مريبة، ثم لا يلبث أن يعطيه من الطلاسم ومن البخور ومن التمائم ومن أمور الشعوذة ما الله به عليم، ثم يظن أنه بهذا قد سلك سبيلاً للشفاء والدواء، ووالله ما سلك إلا سبيلاً لزيادة البلوى والأذى، فهل يفهم هذا إخواننا؟ هل يفهم هذا أخواتنا؟ هل يفهم هذا الرجال والنساء الذين حينما يبتلى أحدهم ببلية في نفسه أو في ولده لا يتردد أن يذهب إلى فلانة التي تكشف، أو فلان الذي يشعوذ، أو علان الذي يعقد ويفك ويحل ويربط إلى غير ذلك؟ {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] ولا يدبرون ولا يقدمون ولا يؤخرون شيئاً قد قدره الله سبحانه وتعالى.
من العجائب: يقول لي أحد الإخوة الذين يتبرعون في الرقية يقول: جاء رجل ومعه امرأة تشكو آلاماً وأمراضاً من أجل الرقية عليها، قال: فكنت أرقيها ولا تجد أي أثرٍ أبداً، قال: فسألته: هل هذه المرأة تلبس شيئاً من الحروز؟ هل تلبس شيئاً من التمائم؟ هل تعلق شيئاً؟ هل أعطيت شيئاً؟ قال: إن شئت الحق فإنها سبق أن ذهبت إلى رجلٍ وأعطاها حرزاً تعلقه على جسدها ولا تستطيع أن تفكه لأنها إذا فكته أصابها البلاء، قال: فطلبته منه وبعد إصرار وإلحاح شديد أخرجه لي، قال: فلما فككناه وجدنا فيه نداء لشياطين الجن ومردة الشياطين: يا عبدوس يا شيطون يا حبوس يا كذا يا كذا، زد على ذلك قال برائحة نتنة قال: والذي استظهرته أنه مكتوبٌ أجلكم الله والملائكة وبيته والسامعين أنه مكتوبٌ بدم حيض -والعياذ بالله- انظروا كيف يبتلى هؤلاء؟! بل وبعضهم يشرك وهو لا يدري {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] بسبب الوقوع في هذه الأمور وعندهم الكنز الثمين وعندهم المورد العظيم كلام الله عز وجل، لو تداووا به واهتدوا به وتذكروه وجعلوه ذكراً لكان حرزاً ودواءاً وشفاءً وكفاءً ولكن:
ومن العجائب والعجائب جمة قرب الحبيب وما إليه سبيل
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول(125/6)
التسبيح كنز ضائع
من الكنوز الضائعة في ساعاتٍ تمر علينا فلا نغتنمها: ذكر الله في التسبيح، والتسبيح هو أن تقول: سبحان الله، تصوروا يا إخوان أنك حينما تسبح مائة تسبيحة فلك بها من الأجر ألف حسنة، وأنا الآن أريد أن أجري معكم اختباراً بالدقائق، قال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنة؛ يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب الله له بها ألف حسنة، ويحط عنه بها ألف خطيئة) رواه الإمام مسلم والإمام أحمد والنسائي، حديث صحيح.
نختبر أنفسنا دقائق، أريد أن نسبح مائة، اختبار وعبادة وذكر، كلٌ يسبح مائة بينه وبين نفسه لننظر كم تستغرق مائة تسبيحة من الوقت، ابدءوا من الآن.
أظن أكثر إنسان استغرق في مائة تسبيحة دقيقتين، ثم عدل ما بين دقيقة ونصف إلى دقيقتين إلا ربع، يعني: يا إخوان! ألف حسنة أليست كنزاً يضيع، في دقيقتين تحصل ألف حسنة، بإطراق بإخبات بخشوع بتذكر بتدبر أيضيرك هذا؟ كم يضيع من التسبيح أدبار الصلوات؟ كم يضيع من التسبيح وقت السحر؟ كم يضيع من التسبيح الأوقات المشروعة لهذه الأذكار؟ وذكر الله مشروع للإنسان في كل وقتٍ أيضاً.
فيا أيها الأحبة: يفوتنا والله من الخير الكثير، وتلك أيضاً كنوزٌ ضائعة، قال صلى الله عليه وسلم: (خير العمل أن تفارق الدنيا ولسانك رطبٌ من ذكر الله) رواه أبو نعيم في الحلية.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الكلام أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) رواه الإمام أحمد وابن حبان.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حسر عليها يوم القيامة) أخرجه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.
فكم ساعة سوف نتحسر عليها؟: (وما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا كان عليهم ترة وندامة) يعني: حسرة وندامة يوم القيامة، فيا أحبابنا! فعلاً تضيع منا كنوزٌ لا نحصيها.(125/7)
أذكار غائبة عن كثير من المسلمين
وهنا كنزٌ عظيم ينبغي لكل واحد من الشباب والشيب، والرجال والنساء، والكبار والصغار ألا يضيعه أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يومٍ مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ عمل عملاً أكثر من ذلك) وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
حرز وعتق رقاب وكفارة مائة سيئة وكسبٌ لمائة حسنة، وعمل عظيم تنافس به خلق كثير بمجرد أن تقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، والله لو استطعنا أن نركب على هذه الألسنة والأفواه عدادات لتعد كم كلمة قلناها في غير ذكر الله وكم كلمة قلناها في ذكر الله لنعلم أن حظ القيل والقال، وفضول السؤال والتدخل فيما لا يعنينا، والسؤال عما لا يهمنا، والانشغال بالغيبة وبالنميمة وبالكلام الذي لا يليق أو لا يجوز، لوجدنا الذكر شيئاً قليلاً بالنسبة إلى ما نقول من لهو القول أو رديء الكلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إنها أذكار باللسان، تحريك اللسان كما قلت شيء يسير وخفيف جداً لا يكلفك بشيء، وتستطيع أن تحرك لسانك وأنت قائم وقاعد ومضطجع وعلى جنب، ومستلقٍ وعلى فراشك، وأنت ذاهب وآيب، وراكب وماشٍ، ومسافر وفي حل وفي ترحال وأنت قادرٌ على هذا الذكر، أما والله إنها لكنوزٌ ضائعة، أما والله إننا في غفلة وضياعٍ في أعمارنا ولا حول ولا قوة إلا بالله!(125/8)
أذكار بعد الآذان
قال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً وبمحمدٍ رسولاً وبالإسلام ديناً، غفر الله له ما تقدم من ذنبه) رواه الإمام مسلم وغيره.
ثم -يا شباب! - ليس عيباً إذا جلسنا مجلساً ثم كثر لغطنا وكثر قيلنا وقولنا ينبغي أن يقول أحدنا ليكن أوسطنا وأقومنا وأعدلنا: يا إخوان! جلسنا ونقوم ما ذكرنا الله، اجلسوا والله لا تقوموا من بيتي وما تخرجوا من مجلسي حتى تذكروا الله عز وجل، كلٌ يذكر ربه في نفسه، لا تقوموا من هذا المجلس الذي يشهد علي وعليكم بأننا جلسنا وأكلنا وشربنا فلم نسمِّ ولم نحمد ولم نشكر ولم نذكر، ثم نقوم هكذا، لا يمكن هذا، لا بد أن نؤجر في هذا المجلس أقلها دقيقتين نقول: سبحان الله مائة مرة، أقلها خمس دقائق نقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، نقولها مائة مرة، ممكن مجاملات وابتسامات وزيارات ولقاءات يا فلان! أزورك تزورني، لكن لا يوجد تواصٍ، نعم.
يوجد تمادح؛ أنت ما مثلك، وأنت أحسن من ذاك، وذاك أحسن منك بقليل، وأنت أوشكت أن تتعدى ذاك، وكثير من الشباب قد ضر بعضهم بعضاً بهذا التمادح وهذا الثناء في الوجوه، أما النصيحة والتناصح، أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر والتعاون على الخير فما أقل أن نجد ذلك في مجالسنا! ماذا يمنع أنه عندما أزورك أو تزورني أو يزور بعضنا بعضاً أمسك بتلابيبه وقل له: تعال -يا أخي- أكلنا وشربنا وما ذكرنا الله عز وجل في هذا المجلس، اجلس نذكر الله عز وجل (ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة وندامة) أي: حسرة وندامة يوم القيامة.(125/9)
سيد الاستغفار
إذاً نحن نحقق خيراً كثيراً بعبادة يسيرة في وقتٍ قصيرٍ جداً، ولكن كما قلت: التمادح والتشاغل أمرٌ عجيبٌ جداً.
في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم: (من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة) كلنا نحفظ هذا الدعاء ومن لم يحفظه فليحفظه، فهو سيد الاستغفار، إقرارٌ بالربوبية وإقرارٌ من العبد بعبوديته لله، واعترافٌ بالذنب واعترافٌ بالنعم لله عز وجل ووعد على الثبات والتوبة، أمرٌ يسير وسهل فلا ينبغي لأحدٍ أن يضيع حظه من هذا الدعاء في صباحه ومسائه.(125/10)
سبحان الله العظيم وبحمده غرس الجنة
قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة) قل فقط: سبحان الله وبحمده غرست في الجنة، بنية صادقة، بقلبٍ مخلص، القضية ليس فيها صعوبة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] لا تقل: إن ذلك أجرٌ كثير بعملٍ يسير، هذا فضل الله لا يحده شيء، خزائنه ملأى، يده سحاء الليل والنهار، الدنيا كلها بما فيها بالنسبة لما عند الله في الآخرة لا تساوي إلا قطرة تنحدر من أناملك إذا أنت أدخلت إصبعك في اليم، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم في كتاب وصف الجنة: (ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما يرجع) أنت حين تدخل إصبعك في البحر وفي المحيطات هذه كلها والبحار ثم تخرج إصبعك من البحر هل خرجت بنصف البحر؟ بربع البحر؟ بكيلو بكيلوين بلتر؟ خرجت بقطرة، اعلم أن هذه القطرة هي الدنيا بملوكها وأملاكها وثرواتها وما فيها، وكل كنوزها الظاهرة والباطنة في هذه القطرة، أما الآخرة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هي ما أعده الله لعباده المتقين المؤمنين، نسأل الله أن نكون منهم.
يمكن أن ندرك فضل هذه الآخرة بأسبابٍ عديدة: ومنها: ألا نضيع هذه الكنوز، وأن نستثمر وأن نغتنم هذه الفرص العظيمة.
سبحان الله العظيم وبحمده غرس في الجنة، لا تقل كيف ولماذا ولعل وربما وأين؟ أبداً، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] الله عز وجل اختار أن تكون هذه الكلمة ثوابها غرسٌ في الجنة، تعترض على الله، تستكثر على الله، تستكثر أن الله يعطيك غرساً في الجنة مقابل أن تقول: سبحان الله وبحمده، لا.
لكن الضياع والخسران والحرمان في هذه الألسنة والأبصار والقلوب، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ قال مثل ذلك وزاد عليه) يعني: بأعمالٍ صالحة، رواه الإمام مسلم وأبو داود والترمذي.
وفي الحديث الذي رواه الشيخان: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) أجر عظيم وفضل عميم في ذكر الله عز وجل.(125/11)
حكم التسبيح بالسبحة
بعض الناس عندما يرى أحداً يذكر الله كثيراً قال: أظن أن هذا صوفي، وهذا غير طبيعي، لأنه كثير ذكر الله تقول عنه صوفي؟ أو مجرد بعض الناس حينما يرى أحداً مولعاً بالذكر مشغولاً به قال: لا يهمك هذا سبحته لا يتركها من يده، ويسبح بها، الشيخ محمد بن صالح العثيمين في (نورٌ على الدرب) قبل أيام سئل وبأذني هذه وأنا مسئول عن هذا، سئل عن رجلٍ يقول: إنني أحرص أن أسبح ألف أو خمسمائة تسبيحة، وعندي سبحة فيها خمسمائة حبة، فهل هذا جائز، هل التسبيح بهذه جائز؟ فقال الشيخ: التسبيح بالسبحة لا بأس به ما دام أن السائل يقول: أنه يضبط بها العدد، لا يعتقد في السبحة اعتقاداً، إنما لضبط العدد، وهو يريد أن يسبح المائة يضيعها بسبحةٍ ما، أنا لست أدعو إلى التسبيح بالسبح، وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين متع الله به: ولكن التسبيح بالأنامل أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على إحدى زوجاته ورأى عندها حصىً تسبح به ما أنكر عليها ولكن أرشدها إلى التسبيح بالأنامل، فالأفضل أن تسبح بأناملك لأنهن مستنطقات.
فيا أخي الكريم إذا رأيت من هو على عناية بذكر فاستعن بالله واستفد منه، ما لم يكن يبتدع لنفسه أذكاراً معينة، من قرأ ألم نشرح لك صدرك مائة مرة فإنه يفعل كذا، من قرأ ويل لكل همزة لمزة؛ لأن هناك بعض المخرفة وإن كان الذكر حقيقة لكنه يعتقد عدداً معيناً في وقتٍ معين بشيء لم يشرعه الله ورسوله فهنا نقول: قفوا ولا تبتدعوا وإنما عليكم الاتباع.
لكن إذا جاء واحد وقال: يا أخي! أنا أعد بأناملي وأخشى وربما يجيك شايب كبير يقول: أنا لا أستطيع ضبط العدد بأناملي، مضطر أعد بهذه السبحة أو بشيءٍ من هذا، مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تقول له: لا.
قد ورد الشرع والنص والدليل بهذا الذكر وبهذا العدد، فلماذا تعترض عليه؟ لماذا تنكر عليه؟ إن كان بك خير،
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
في الحديث أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يمسي: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات لم يصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يمسي ثلاث مرات لم يصبه فجأة بلاء حتى يمسي) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وصححه الألباني.
بصراحة وبعبارة واضحة: يا معاشر الإخوة! يا معاشر المسلمين! نحن قد ضيعنا الأذكار، أقل الكلام حظاً على ألسنتنا هو ذكر الله عز وجل، وما سوى ذلك فحدث ولا حرج، نحن ضيعنا الأذكار، أذكار الصباح أذكار المساء أذكار الصلوات أذكار الحفظ؛ الأذكار التي تحفظنا من شر العين والحسد والشيطان والجان ومن كيد الإنسان؛ كل هذه الأذكار نحن ضيعناها، وما كان السلف يتهاونون بها أبداً أبداً.(125/12)
(لا حول ولا قوة إلا بالله) وفضلها
عن أبي موسى الأشعري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: يا عبد الله بن قيس! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله) أخرجه البخاري.
سبحان الله! لا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة، الآن الناس إذا رأى شيئاً عجيباً صفر هذه التصفيرة الطويلة، لا يقول: (سبحان الله) حينما يرى شيئاً عجيباً لا يقول: الحمد لله على هذه النعمة، أو إذا حل بلاء لا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، بل يقول: (أف) أو بعضهم يسخط على الله، وأنا ماذا عملت -يا رب- حتى يقع لي كذا، بل بعضهم يقع في الاعتراض وربما السخط على مقادير الله عز وجل؛ وذلك من الجهل العظيم، لكن لو ألزمنا أنفسنا الأذكار إذا رأينا عجباً سبحنا، وإذا صعدنا مرتفعاً كبرنا، وإذا هبطنا منخفضاً سبحنا، وإذا رأينا مبتلى قلنا: لا حول ولا قوة إلا بالله وسألنا الله العافية، إذا رأينا نعمة حمدنا الله، إذا رأينا شيئاً يعجبنا قلنا: ما شاء الله، فسنجد أن هذه الأذكار على ألسنتنا في كل مناسبة وفي كل ما نرى، لكن لما تعودت الألسنة المكاء والتصدية (التصفيق والصفير) والكلام العجيب والألفاظ الغريبة والحركات التي لا تليق أصبحت هي السائد عند كثيرٍ من الناس، وعند الشباب خاصة، ولو أننا عودنا أنفسنا هذا الذكر لكان بإذن الله خيراً نؤجر عليه.(125/13)
اللسان وعظم أمره
يا أحبابي إن الإنسان إذا تعود الذكر ربما ذكر الله في موطنٍ يؤجر فيه فيبلغ به أعلى الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تبلغ به من رضوان الله أعلى الدرجات) ما هي الكلمة التي يمكن أن تقولها من غير أن تخطط لها ومن غير أن تدبر لها، أنت قلتها ولم تلق لها بالاً فبلغت بك أعلى الدرجات من رضا الله؟
الجواب
هي الكلمة التي أنت قد تعودت عليها يا حبيبي، إذا كنت متعوداً على ذكر الله عز وجل، فسيأتي مقام أو مكان أو ظرف أو شيء معين، فتقول كلمة من ذكر الله في رضوان الله ما خطرت على بالك لكنك بلغت بها أعلى الدرجات: (وإن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) فإذا شئت أن تتعود الأجر والخير فعود نفسك أن تكتب لك الحسنات وأن تمحى عنك السيئات كما تأخذ هذا الزفير والشهيق في النفس بمحاولة تعويد النفس على ذكر الله عز وجل، والسلامة من الكلمات التي لا تليق، فحينئذٍ تؤجر بأجرٍ عظيم، فكما أن اللسان وهو الجارحة الصغيرة الذي يسبب أو تحصل به على حسناتٍ كثيرة يجعلك تنال درجات كبيرة ومنازل عظيمة وهذا اللسان ربما كان سبباً أن يكب عبدٌ من عباد الله على أنفه في نار جهنم، وكلكم يعلم حديث معاذ حيث قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون على ما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ) وهذه كلمة تقولها العرب لا تعني بها معناها، يعني: الرسول لا يدعو على معاذ بأن أمه تفقده وإنما هي من الكلمات التي تقولها العرب ولا يراد بها معناها، فقال: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم) فكما أن هذا اللسان جارحة الذكر يسبب لك أجراً وخيراً عظيماً، فربما جر عليك وبالاً وشقاءً عميماً وكبيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.(125/14)
الثلث الأخير من الليل كنز ضائع
إن من الكنوز الضائعة الثلث الأخير من الليل، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في الليلة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كل ليلة) رواه الإمام مسلم.
وفي حديثٍ لـ مسلم أيضاً: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول: أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) رواه مسلم والترمذي، وفي حديث عند الإمام أحمد والنسائي: (ينزل الله في كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفر له، هل من تائبٍ فأتوب عليه حتى يطلع الفجر) هذا فضلٌ يتكرر وكنزٌ يفتح بابه ويدعى الخلق إليه في كل ليلة، فأين الذين يسألون؟ أين الذين يطلبون؟ أين الذين؟ لو قال: يا إخوان! توجد قطعة أرض عشرة في عشرة مجاناً من أراد وقد تجمعت فيه الشروط فليأت في المكان الفلاني، وجدت الناس من بعد الفجر إلى أن تغيب الشمس كل واحد يمسك ملفه ويقدمه ويتنافس مع غيره، يا أخي! هنا كنوز عظيمة من عند الله عز وجل من فضل الله، الذي يفرح إن سألته ويرضى عنك إن دعوته:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وإذا بليت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتفرد المفضال
الناس إذا أعطوك اليوم غداً يمنون، وبعده يسخطون، وفي الرابعة يضربون، ولذلك لما رأى الأعرابي عطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة حنين جن ذاك الأعرابي، جاء ينظر إلى وادٍ مليءٍ بالغنم والنعم يسمع فيه الثغاء والرغاء والخوار فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم معناه أن الخير كثير، وهذه النعم جيدة، وهذه الغنم ممتازة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيسرك أن لك هذا؟ قال: إي والله يا رسول الله، قال: اذهب فهو لك) فقام الرجل يصيح بأعلى صوته: يا قوم! أسلموا فإن هذا ليس بعطاء بشر هذا عطاء نبي لا يخشى الفقر أبداً.
فالبشر إن أعطوا مرة مرتين ثلاثاً يملون، بل قال الله: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً} [الإسراء:100] ما التفسير؟ لو أنك تملك خزينة ليس المقصود أنها خزينة عظيمة لا يخطر على البال الذي فيها، بل أيضاً مع هذا خزينة لا تنقص أبداً لأمسكت خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً، لكن الله عز وجل كلما ألححت عليه كلما رضي عليك، فأين الملحون على الله عز وجل؟ أيها الأحبة أين أصحاب الحوائج؟ من الناس من له حاجات وحاجات وحاجات، ما ترك باباً إلا طرقه، ولا وجيهاً إلا تشفع عنده، ولا ثرياً إلا قصده، ولا معطاءً إلا مدحه، ولا باذلاً إلا بلغه ووصله، يريد منه أن يقضي حاجته، وربما رده الناس مراراً وتكراراً، فنقول لمثل هذا: هل سألت الله في آخر الليل؟ هل سألت الله في ساعة الإجابة يوم الجمعة؟ هل سألت الله في أوقات الإجابة؟ أبداً ما سأل ولا فكر أن يدعو، بل جلس الأيام الطوال في زمهرير الشتاء وحر شمس الصيف يسأل فلاناً وعلاناً لكنه ما سأل الله، ومن تعلق بشيء وكل إليه، بعض الناس ربما تعجل له العقوبة يوم أن ينصرف إلى سؤال الناس قبل أن يسأل الله عز وجل، اسأل الله أولاً وإن كانت حاجتك عند البشر، السماء لا تنزل معاملات وتعاميد هذا صحيح ومؤكد، لكن قبل أن تسأل فلان بن فلان اسأل الله عز وجل أن يسخر لك فلان بن فلان وأن يقضي حاجتك وأن يغنيك عنه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].(125/15)
فضل الصلاة على رسول الله
هنا كنزٌ أيضاً وهو كنز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر) رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
صل على النبي فتصلي عليك الملائكة وتدعو لك، الآن لو أقول سماحة الشيخ ابن باز، وسماحة الشيخ ابن عثيمين متع الله بهما وعافاهما من كل مكروه وإياكم أجمعين، لو قلت إنهم يدعون لك، قلت: أسألك بالله العلامة الجليل سماحة الشيخ يدعو لي، بل أقول: الملائكة تصلي عليك وتدعو لك إذا أنت قلت: اللهم صل على نبينا محمد، فالصلاة والسلام على الحبيب صلى الله عليه وسلم أجرها عظيم جداً، ولكن أيضاً من الغافلين، بل بعض الناس لو يذكر عنده اسم بشر استعد وغير جلسته وأنصت وقال كلاماً يعني: أشعركم أني مهتمٌ بهذا الاسم، فيمر اسم النبي صلى الله عليه وسلم فكأن اسم نبيٍ من أولي العزم لم يمر على مسمعه فلا يصلي أبدا، صلى الله على نبينا محمد.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي واحدةً صلى الله عليه عشر صلواتٍ، وحط عنه عشر خطيئاتٍ ورفع له عشر درجات) رواه أحمد والنسائي وغيره.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى علي حين يصبح عشراً وحين يمسي عشراً أدركته شفاعتي يوم القيامة).(125/16)
يوم الجمعة كنز عظيم
وأما الكنز الذي يلي ذلك فهو كنز يوم الجمعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم قائمٌ يصلي يسأل الله خيراً إلا أعطاه إياه، وقال بيده) قال صلى الله عليه وسلم بيده، يعني: يقلل هذه الساعة، يعني الساعة قصيرة جداً، فعلاً ساعة من آخر النهار كما في بعض الأحاديث الأخرى، من الذي يعجز أن يوقت الساعة ويرتب نفسه لكي يجلس بعد صلاة العصر، وعندكم هذا البيت العتيق والكعبة المباركة، ومقامٌ الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، أفلا نجلس لذكر الله عز وجل؟ أفلا نجلس لمحاسبة النفس؟ أفلا نجلس للاستغفار؟ أفلا نجلس للسؤال والدعاء وطلب الحاجات وقضاء الحوائج؟ إن ذلك ميسر ولكن القلوب ما امتلأت بالاعتقاد الكامل القوي العظيم الذي يكفيها عن الحاجة إلى البشر، قال صلى الله عليه وسلم: (التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة منها ساعة لا يوجد عبدٌ مسلمٌ يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر) رواه أبو داود والنسائي.
وهنا مسألة فقهية: ورد في بعض الأحاديث: (لا يوافقها عبدٌ يصلي) وإذا كانت بعد العصر فإن بعد العصر من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، فكيف يكون ذلك؟ لقد سبقنا أئمة الفقه من الصحابة، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة قال: صلى الله عليه وسلم: (خير يومٍ طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها، وفيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يصلي فيسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه.
قال أبو هريرة: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له هذا الحديث، فقال: أنا أعلم بتلك الساعة، فقلت: أخبرني بها ولا تضنن بها علي، قال: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس؟ قلت: فكيف تكون بعد العصر وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: أليس قد قال صلى الله عليه وسلم: من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة) وهذا دليل على فقه الصحابة رضوان الله عليهم.
فالخيبة والخسران لمن تكلم في الصحابة أو قال في أبي هريرة خاصة إنه يروي من الأحاديث ما لا يفقه ولا يدري، هذا أبو هريرة يحاور ويناقش عبد الله بن سلام، صحابيان جليلان إمامان عظيمان يتناقشان حول هذه المسألة العظيمة، قال: (أليس قد قال صلى الله عليه وسلم: من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة.
قلت: بلى، قال: فهو ذاك) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.(125/17)
حث على التبكير لصلاة الجمعة
من الكنوز الضائعة على كثيرٍ من الأخيار قبل عامة الناس، كنز يوم الجمعة، فكلكم يعرف الحديث الذي رواه أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح من الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم.
لو قلنا لك يا أخي الحبيب: تعال أعطنا ثلاثة آلاف ريال نريد أن نشتري بعيراً على حسابك ونذبحه لوجه الله ونوزعه على الفقراء، قلت له: يا أخي! أنا رجل فقير ما عندي هذه الثلاثة آلاف أشتري بعيراً، لو أردت دجاجة ما وجدتها عندي، حسناً: تعال -يا أخي- بإمكانك أن تقرب بعيراً كاملاً؛ تعال الساعة الأولى إلى المسجد وكأنما قربت هذه الناقة لوجه الله عز وجل وقسمتها على الفقراء، تعال في الساعة التي تليها كأنما قربت بقرة، تعال في التي تليها، فكأنما قربت كبشاً، وهذا من الخير العظيم.
إذاً: الإسلام ما تعامل مع أرباب الأموال فقط، هذا التشريع لم يتعامل مع طائفة من الناس عندها قدرات معينة، بل الجميع يستطيعون أن ينالوا قدرات، فالذين لا يملكون الأموال، إذا كان ذهب أهل الدثور بالأجور لهم فضول أموالٍ يتصدقون بها فإن الفقراء عندهم فضول التسبيح والتهليل والعبادة والتكبير يستطيعون أن يسبقوا هؤلاء، بل وربما وجدت فقيراً لا يملك ريالاً قد أجر أجر الملايين بدلالة على خيرٍ أو دعوة إليه: (من دل على خيرٍ فهو كفاعله، ومن دل على هدىً فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة).(125/18)
الاغتسال يوم الجمعة
خذ أيضاً من كنوز يوم الجمعة من اغتسل يوم الجمعة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة: (من اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته، ثم يصلي معه؛ غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) وبعض الناس يقول: ما دام هذا كافياً إذاً لا داعي للصلاة مع الجماعة، ولا داعي إلى العناية بكثير من الأمور ما دامت هذه تغفر، لا، هنا مسألة الإصرار على الصغائر كبائر، ترك الصلوات من أعظم الكبائر، التهاون بالصلوات مما توعد عليه بويل: (وهو وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره).
فيا أخي الكريم: لك أجرٌ عظيم بهذا، ووالله هذا الحديث الذي سأتلوه عليكم الآن قلبت وأعدت وسألت بعض طلبة العلم عن الرجال وبحثت عن الرجال رجلاً رجلاً يعني: أمر عجيب من عظم الأمر العظيم الذي يترتب على هذا الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت ولم يلغ -بعض الروايات ليس فيها: ومشى ولم يركب- كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنةٍ أجر صيامها وقيامها) الله أكبر! كم بينك وبين المسجد مائة خطوة، ربما أجرت أجر مائة سنة، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن ورجاله ثقات.
قال النووي في شرح المهذب معنى غسَّل: يروى غسل بالتخفيف والتشديد والأرجح عن المحققين التخفيف والمختار أن معناه: غسل رأسه ويؤيده رواية أبي داود في هذا الحديث: (من غسل رأسه يوم الجمعة واغتسل) وإنما أفرد الرأس بالذكر؛ لأن الناس قريباً كانوا يجعلون في الرأس الدهن والخطم ونحوهما وكانوا يغسلون الرأس أولاً ثم يغتسلون، وقيل المراد: غسل أعضاءه ثم اغتسل وقيل: غسل أي: جامع أهله قبل الخروج إلى الصلاة؛ لأنه يعين على غض البصر في الطريق، يقال: غسل الرجل امرأته بالتخفيف أو غسلها أي: جامعها.(125/19)
فضل الوضوء وإسباغه
في فضل الوضوء كنزٌ عظيم فعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: (كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي أرعاها، فروحتها بالعشي، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس وأدركت من قوله: ما من مسلمٍ يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة، فقلت: ما أجود هذا! فإذا قائلٌ بين يدي يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: إني قد رأيتك قد جئت آنفاً، قال: ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيبلغ الوضوء أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) أخرجه مسلم.
فهذا الطهور وهذا الوضوء فضله عظيم، فإذا أعقبته بصلاةٍ كانت سبباً في مغفرة ذنبك كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله من ذلك الذنب إلا غفر الله له) رواه أحمد وأصحاب السنن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يسهو فيهما غفر الله له ما تقدم من ذنبه) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فكل هذا من الفضائل العظيمة ومن الخيرات العميمة ومن الأجر الذي كتبه الله واختاره عز وجل وقربه إلى هذه الأمة لما كانت أمة أعمار أهلها قصيرة، جعل الله لها من الخيرات والبركات في ليلة القدر وفي ساعات الإجابة، وفي فضل الذكر، وفي فضل التسبيح، وفي فضل هذه الأعمال ما نسبق به الأولين ونفوق به الآخرين إذا صلحت منا النية، وصدق منا الفعل، وكان ذلك خالصاً لوجه الله عز وجل.(125/20)
كنوز أخرى(125/21)
فضل صلاة الفجر جماعة
يا إخوان أليس من فضل الله العظيم أن صلاة الفجر مع الجماعة تجعلك في ذمة الله عز وجل: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله فانظر يا بن آدم! لا يطلبنك الله من ذمته بشيء) كما قال صلى الله عليه وسلم؟ كم الذين تفوتهم صلاة الفجر الآن؟ بل كم من الذين يؤقتون ويثبتون الساعة والمنبه على وقت الانصراف إلى الدوام، والله يا أخي الحبيب إن قصد تفويت الصلاة وقصد تثبيت الساعة على وقت ينبهك بعد خروج وقت الصلاة لفيه دلالة على ترك الصلاة عمداً وتأخيرها عمداً، وهذا ربما كان سبباً أن يطبع على قلب صاحبه، وربما كان ذريعة إلى ترك الصلاة بالكلية؛ لأن ذلك تأخير (إن لله بالليل عملاً لا يقبله بالنهار، وإن لله بالنهار عملاً لا يقبله بالليل) الآن لو يأتي موظف يريد أن يداوم بعد صلاة العشاء والناس مداومون الصباح هل يقبل منه هذا العمل؟ لا يقبل مديره منه هذا، ولله المثل الأعلى، لا يمكن أن يقبل عمل الليل بالنهار أو عمل النهار بالليل، إلا من كان له عذرٌ شرعي، فحينئذ الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده، ويعذر عباده عز وجل، وقد يقول قائل: ما بال الفقراء، ما بال الأقوياء الذين سلبت منهم نعمة الصحة فأصبحوا من ذوي السقم والمرض، ما بال العجزة، ما بال الذين لا يقدرون على فعل هذه الأعمال ما حظهم من الثواب؟ نذكرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض المسلم أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحاً مقيما) فأنت -يا أخي الحبيب- عود نفسك الآن على الأذكار وعود نفسك على العبادة، واجعلها برنامجاً يومياً لا يشغلك عنه شاغل، ولا يصرفك عنه صارف، فلو كتب لك بعد ذلك أمرٌ من المقادير يحول بينك وبين ما كنت قد تعودته وأمضيته من العمل الصالح والأذكار فإن أجرك باقٍ كما هو لا ينقص من أجرك شيءٌ بأي حالٍ من الأحوال.(125/22)
من الكنوز الضائعة السنن الرواتب
من الكنوز الضائعة السنن الرواتب، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يومٍ وليلة اثنتي عشرة ركعة بني له بيتٌ في الجنة: أربع قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة) رواه الترمذي وصححه الألباني، وفي رواية أخرى للإمام مسلم وذكر فيها هذا الأجر العظيم.
فيا أحبابنا! هذا أجرٌ عظيم! السنن الرواتب أدركتها حققت خيراً كثيرا، ثم إذا لقيت الله عز وجل وقد نقص من الفريضة شيء فإن الله سبحانه يقول: (انظروا -يا ملائكتي- هل لعبدي من تطوع؟) فإن كان لك من عملك تطوع من صيام النافلة لصيام الفريضة، تطوعٌ من صلاة النافلة لصلاة الفريضة، تطوعٌ من حج النافلة لحج الفريضة، تطوعٌ من هذا العمل لهذا العمل، فإنه -بإذن الله- يكمل به ما نقص من عملك، فما الذي يضرك أو يجعلك تتقاعس أو تتأخر، أو ما الذي يثبطك عن القيام بهذا، ونحن اليوم في يوم صيامٍ وغداً وبعد غدٍ عاشوراء ويومٌ قبله وبعده أو قبله وبعده.(125/23)
الصيام كنز ضائع
فيا أحبابنا أيضاً كنزٌ ضائعٌ الصيام، وكثير من الناس عنده استعداد أن يفوت أجر كفارة سنة ماضية مقابل وجبة الساعة الحادية عشرة، ويمكن أنه لا يأكل الوجبة الثانية إلا قبل المغرب بربع ساعة، يا أخي الكريم! ارفع رأسك قليل من الصوم ينفعك -بإذن الله- في بدنك وفي عبادتك قال صلى الله عليه وسلم: (صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية) رواه الإمام مسلم والترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) فالله الله لا نترك الصيام يا أحبابنا، وامروا أهلكم وأزواجكم وأولادكم وبناتكم وخذوا أجرهم، فإن في هذا من الثواب ما تدركونه بأمركم وإرشادكم إليه.(125/24)
فضل الصدقات
كذلك من الكنوز الضائعة: الصدقات من الحلال، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره؛ حتى أن اللقمة لتصير مثل جبل أحد) أنت تتصدق من حلال بلقمة فالله عز وجل يتقبلها بيمينه ويربيها لك كما تربي مهرك أو فلوك، ثم تأتي يوم القيامة وتجد أن هذا الريال أصبح مثل جبل أحد، تجد أن هذه اللقمة أصبحت مثل جبل أحد.
أذكر ذات مرة تكلم أحد إخواننا في مسجدنا في الرياض أو المسجد الذي نصلي فيه فدعا الإخوان المصلين أن يتصدقوا وأن يساعدوا رجلاً محتاجاً، وكالعادة توضع الأوراق خلف المصلين من أراد أن يجود بشيء، فرمقت بعيني وتابعت عاملاً رث الهيئة خلق الثياب فما كان منه إلا أن ذهب ووقف عند هذا المكان الذي توضع عليه الصدقات فأخرج خرقة معقدة كذا وفكها وأخرج منها ريالاً ووضعه مع الصدقات، سبق درهمٌ ألف درهم، هذا عامل نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياه وجميع إخواننا المسلمين من عرق جبينه ومن كد يمينه، والله -يا أحباب- ربما الواحد أحياناً يقول: يا ليت أن الإنسان يعلم لو تقبل منه نصف ريال أو ريال، أو أنه من الحلال المحض، اليوم اختلط الحلال بالحرام واختلطت الشبهات بالمباحات، واختلط الحابل بالنابل فتغبط من ترى درهمه ومدخله ومصرفه ونفقته من عرق جبينه ومن كد يمينه، فمن تصدق من حلال وزاد أن تصدق سراً فإن صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: (والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).(125/25)
وقفات مهمة مع حسن الخلق
أيها الأحبة! حسبنا في هذا الوقت الذي مضى ما ذكرناه من هذه الكنوز، وثمت كنوزٌ كثيرة وعظيمة ومن أجلها وأهمها: حسن الخلق:
أبني إن البر شيءٌ هين وجه طليقٌ وكلامٌ لين
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافا) وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن المسلم ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم لا يفطر والقائم لا يفتر).
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
إنني أوصي جميع إخواني وأخواتي، وأوصي الشباب الطيبين خاصة ألا يجعلوا في التزامهم ثلمة يمقتها من رآهم، أو ينتقدهم بها من قابلهم؛ إما بغلظة، أو جفاء، أو إغضاءٍ، أو انصرافٍ عن الخلق بهذه الابتسامة (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) ماذا تخسر أن يكتب الله لك صدقة، ماذا تخسر أن تكسب الناس، وأن تؤثر عليهم بحسب الخلق بخفض الجناح بلين الجانب بالتواضع، ماذا تخسر يا أخي الكريم حين تبدؤهم بالسلام؟ وبالمناسبة فإن من إخواننا من رأى رجلاً عليه معصية لا يعطيه من الخلق الحسن شيئاً، وهذه من المفاهيم الخاطئة، أنت تمر على رجل يدخن أيضيرك أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبابتسامة وبوجه طليق، وتحنو عليه وتدنو إليه، وتقول: يا أيها الحبيب! إن هذا لا يرضي الله ولا يرضي رسوله، وإن هذا يضرك، ونصيحتي لك محبة وغيرة وإشفاقاً ألا تفعل هذا.
تجد بعض الإخوان -وفقهم الله ونفع بهم- بمجرد أن يرى على شخصٍ منكراً من المنكرات فإن وقوع هذا الشخص في المنكر كفيل بإسقاط حقوقه، فلا يبدأ بالسلام ولا يرد إذا سلم، ولا يشمت إذا عطس، ولا يعاد إذا مرض، ولا يصلى عليه إذا مات، ولا ينصح إذا استنصح، ولا يدل إذا استرشد، هذا ليس بصحيح يا أخي الكريم، بل إننا حينما نقابل هؤلاء بحسن الخلق، وربما تجد من الناس على ما فيه من معصية ظاهرة قد سلم من ذنبٍ قد يكون في أو فيك وهو خطير.
فيا أخي الكريم لا تتصور أن ما تراه من كمال الظاهر هو الدليل على الكمال في كل شيء، ولا تتصور أن ما تراه من النقص في الظاهر أو شيءٍ من الظاهر هو الدليل على النقص في كل شيء، نعم جنس الكمال في الظاهر صلاح الظاهر إشارة وقرينة على صلاح الباطن بإذن الله، وربما كان فساد الظاهر قرينة أو إشارة على تقصيرٍ في الباطن أعظم، لكن هذا ليس على إطلاقه، وإن من الكنوز الضائعة المتعلقة بمعاملة الخلق هي حسن الخلق وإنك لتؤجر عليها أجراً عظيما، يا أخي الحبيب! كما من الله عليك بالالتزام والاستقامة، واتباع السنة، وحب الخير، والدعوة والإرشاد إليه، وحب الدعاة إليه، احرص على أن تكون على درجة طيبة من حسن الخلق.
أما أنا فوالله إذا قابلني شابٌ لا أرى فيه حسن الخلق يمرضني يوماً أو يومين، أمرض مرضاً شديداً حينما أقابل إنساناً بابتسامة فيكفهر، أو أبدؤه بالسلام فلا يرد، أو تعطيه معاملة حسنة ثم لا تجد إلا جماداً لا تتحرك فيه مشاعر، لماذا يا أخي الكريم تصد بوجهك عني، ما أنا فحمة ولا أنت فرقد، يعني: ما بالناس فحم وأنت النجم، فحسن الخلق أمر مطلوب جداً، وأكرر ما أقول لكم أنني يؤذيني إذا رأيت من إنسان تعطيه من حسن الخلق ما تعطيه ثم ينصرف عنك بكل فظاظة وجفاء، وهذا لا يجوز ولا ينبغي: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الحجر:88] {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
يا أحبابنا لماذا لا نتصف بهذه الصفة؟ لماذا نجعل الخلاف في مسائل فرعية، الخلاف في مسائل فقهية، الخلاف حول قضايا معاصرة، شخص اختلفت أنت وإياه في أزمة الخليج، انتهى، فأصبح لا يسلم عليك، ولا يبتسم في وجهك، ولا يقابلك كأن أزمة الخليج هي فتنة القول بخلق القرآن؟ وهل نلزم أن نجعل عقولنا أجهزة نسخ أفكار بدون أن نحرر أو نغير أو نناقش؟ هنا قضايا متفق عليها، فمالي ولا لك فيها رأي ولا اجتهاد مع النص، وهنا مسائل محل اجتهاد؛ فما اجتهادك بأولى من اجتهادي، لكن إذا اختلفت معي فإن ذلك لا يبيح لي أن أغتابك، ولا يجيز لي أن أتناول عرضك، ولا يسمح لي أن أنم فيك، ولا يجيز لي أن أسقط حقوقك، أو أن أسكت عن الذب عن عرضك إذا تُكِّلم فيك وأنا جالس، وكذلك العكس بالنسبة لي، لأن من إخواننا من ضيع الكنز العظيم كنز الخلق الحسن بسبب الاختلاف، يقول أحدهم: فلان لا يهمك تراه يرى الرأي الفلاني في القضية الفلانية، وهل هذه القضية الفلانية هي تحويل القبلة، لا يسع أحد الانصراف عنه، مسألة ربما ليست ربما من الشرع في شيء وإنما محل اجتهاد فكري أو سياسي أو اقتصادي أو إعلامي، وللنظر فيها مجال، وللاجتهاد فيها مكان ومرتع، لكن أبداً، تعال ووافقني على آرائي وكن نسخة طبق الأصل، وببغاء قلدني وتابعني فيما أقول وإلا فلست من جماعتي ولا من أحبابي ولا أعترف بك وأنت من هؤلاء ولست من هؤلاء.
متى خلقنا هكذا؟ العقول التي خلقها الله عز وجل عظيمة دفاقة كالبحار؛ آتي وأضع عقلي في قربة من أجل أتبعك في هذه المسألة، أنا أخالفك في هذه المسألة؛ لكن مخالفتي لك لا تجعلني أسكت إذا اغتيب عرضك في مجلس، ومخالفتي لك لا تسمح بأن أغتابك أو أتكلم فيك أو أنم عنك، وكذلك العكس لك علي هذه الحقوق ولي عليك مثل هذه الحقوق، فلا نضيع حسن الخلق بمثل هذه الخلافات الفرعية في المسائل الفكرية والمسائل الاجتهادية.
أقول ما تسمعون أيها الأحبة، وأسأل الله عز وجل أن يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه، إنما نؤكد ونوصي ونشدد ونعيد ونزيد أن الأزمة أزمة العمل، ما أظن أنني في هذه المحاضرة قد جئتكم بجديدٍ لا تعرفونه، بل كل ما قلت أنتم أدرى به مني، وحالي معكم كقول الشاعر:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
ما جئتكم بجديد، لكن جئنا بذكرى لأنفسنا ولكم حتى نعلم ونطبق والله عز وجل يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا} [النساء:66] إذا نحن طبقنا ما نسمع في خطب الجمعة وفي المحاضرات وفي الندوات، وفي إذاعات القرآن الكريم، وفي المناسبات النافعة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68] أربع ثمار وفوائد عظيمة تكفل الله بها لمن جعل نيته فيما يسمع أن يعمل ويطبق، أما السماع للثقافة، السماع للمناظرة، السماع للنقد، السماع للتشفي، السماع للتمحل والتأويل، السماع لأغراض أخرى، هذا يضر صاحبه ولا ينفعه بأي حالٍ من الأحوال.
أيها الأحبة ختاماً: أود أن أؤكد على ضرورة الالتفات لإخواننا في البوسنة والهرسك، فلا يخفاكم معاناتهم وحاجتهم إلى الدعم والبذل والمساعدة، ولعل الشيخ قد جعل على الباب الشمالي من يجمع التبرعات التي تجود بها أنفسكم وستصرف للهيئة العليا التي بدورها على أتم حرصٍ وعناية فيما أشهد وأعلم واطلعت على ذلك لإيصالها لإخواننا المحتاجين في البوسنة، فالله الله يا إخواني {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] صدقة وذكر وعبادة، نسأل الله أن يجعلها كفارة لذنوبنا ورفعة لدرجاتنا ورحمة لنا ولوالدينا.
اللهم أعز الإسلام والمسلم ودمر أعداء الدين، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم ثبتنا على دينك واستعملنا في طاعتك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(125/26)
الماضي والمستقبل
المؤمن تراه دائماً يحاسب نفسه، فإذا مضى عليه يوم أو أسبوع أو شهر رأيته يحاسب نفسه على هذه الساعات التي انقضت، والتي تعتبر شيئاً من عمره، فيحاسب نفسه: ماذا فعلتُ من خير في هذه الأيام؟ ما هي الذنوب التي اقترفتها؟ مما يدعوه لعمل الخير فيما يأتي من عمره، وفي هذه المادة ما ينشطك لذلك، فطالعها.(126/1)
الموقف الأرشد تجاه العمر
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعنيه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إني لأقف في هذا المقام خجلاً بين أيديكم مع أن في القوم من هو أمثل وأخير وأعلم مني، ولكن المحبة في الله جمعت بيننا في هذا المكان، بين متكلم وسامع، ومستفيد ومتذكر، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا الكلام عوناً لنا على طاعته، وحجة لنا لا علينا بمنّه وكرمه.
أيها الأحبة: الحديث اليوم عن الماضي وعن المستقبل، وله مناسبة وهي أننا قبل أيام ودعنا عاماً كاملاً بأشهره ولياليه وساعاته، وما مر فيه شاهد لنا أو علينا، كلما أُحدث في هذا العام على وجه الأرض، وفي كل مكان من هذه الدنيا، فإنه في كتاب عند ربي لا يضل ربي ولا ينسى.
أيها الأحبة الماضي والمستقبل هو العصر والليل والنهار، الماضي والمستقبل هو الضحى والصباح والمساء، هو الأيام والشهور والسنون والأعوام: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [التوبة:36] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
هذا هو الماضي، وهذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل، لا نتحدث عن كوكب غريب، ولا عن عالم عجيب، إنما هي أيامنا وساعاتنا التي تمر على أعمارنا، لتقضى فيها مقاديرنا وآجالنا وأعمالنا، وإن أقواماً لا يدركون قيمة الحاضر، ولأجل ذا لا يأسفون على ما مضى، ولا يستعدون لما بقي، لقد اشتغل أقوام بالحسرات على ما مضى، تحسروا دون أن يحدثوا توبة وندماً واستغفاراً ورجوعاً إلى الله عز وجل، وإن أقواماً يخافون من المستقبل دون أن يستعدوا لهذا المستقبل.
إن الحزن على الماضي والخوف على المستقبل ما لم يكن لأجل الإعداد والاستعداد بالعمل الصالح فهو ضرب من الوسوسة، وهو ضرب من الأمراض النفسية؛ لأن الذين يخافون من المستقبل، ويحزنون على الماضي، إما أن يكون حزنهم وخوفهم مملوءاً عبقاً، باستعدادٍ لهذا المستقبل بالعمل الصالح، وندماً على ما فرطوا في جنب الله عز وجل، وحرصاً على أن يجعلوا مكان السيئة حسنات، وحرصاً على أن يجعلوا هذه الحسنات ماحية للسيئات، فأولئك حزنهم على ما مضى محمود، وخوفهم على المستقبل ممدوح.
أما الذين يحزنون ويخافون من غير إعداد ولا استعداد، فذاك ضرب من الوسوسة والجنون.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام جميل معناه يدور حول ما نملكه للماضي وللمستقبل، قال في الفوائد: هلمّ إلى الدخول على الله، هلمّ إلى مجاورة رب العباد في دار السلام بلا نصب ولا تعب ولا عناء، بل من أقرب الطرق وأسهلها، وذلك أنك في وقت بين وقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر، بين ما مضى وبين المستقبل.
فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب ولا معاناة، إنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما تستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، وليس هذا الامتناع عملاً بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة تريح بدنك وقلبك، فالذي مضى تصلحه بالتوبة، وما تستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح فيما مضى، ولا للمستقبل نصب ولا تعب، ولكن الشأن كل الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي وبين المستقبل.(126/2)
اشتغل بالساعة التي أنت فيها
إن الساعة التي نجلس الآن فيها هي ساعة بين ساعات مضت، وبين ساعات قادمة، فما مضى لا نستطيع أن نفعل فيه شيئاً إلا ما قدمنا، إن كان خيراً سألنا ربنا الثبات عليه، وإن كان تفريطاً استغفرنا وندمنا، وأما المستقبل فلا نملكه، وليس بأيدينا أي شيء منه، يقول ابن القيم رحمه الله: الشأن في عمرك هو وقتك الذي بين الوقتين، بين الماضي والمستقبل، فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر، نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم.
وحفظ الوقت الحالي أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها، وأنفع لها، وأعظم تحصيناً لسعادتها، وفي هذا يتفاوت الناس تفاوتاً عظيماً، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك.
ثم يقول رحمه الله رحمة واسعة ما معناه: إن الصبر عن المعصية والصبر على الطاعة في اللحظة التي تعيشها الآن لهي أهون بإذن الله من ندم على معصية فيما مضى، وأهون من خوف ووجل وقلق وهم على معصية تهم بها أو تخطط لفعلها.
قال الغزالي: إن الساعات ثلاث: ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية، وساعة مستقبلة لما تأت بعد، لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا، وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد العبد فيها نفسه، فإن لم تأتِ الساعة الثانية، لم يتحسر على فوات الساعة الحاضرة، وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الأولى.
ومن كلام ابن القيم أيضاً: إن دأب العبد واجتهاده في ساعته ولحظاته في طاعة الله عز وجل، وصبره عن معصيته، واجتهاده في مرضاته، تمر به الأيام بعد، ثم ينسى تعب الطاعة، ويبقى الأجر والثواب، وأما أهل المعصية فمهما تفننوا وفعلوا واجترحوا وأجرموا من الذنوب والمعاصي، فإن لذاتهم الموهومة قد مضت وانقضت وولت، ونسوا تلك اللذة، وبقي إثمها ووزرها وشؤمها.
يقول الحسن البصري رحمه الله عن الدنيا: إنها ثلاثة أيام: أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما الغد فلعلك لا تدركه، وأما اليوم فهو الذي لك أن تعمل فيه، إنك أيها المسلم بين مخافتين: بين ماض لا تدري ما الله قاض فيه، وبين مستقبل لا تدري ما الله صانع فيه، فاستعن بالله ولا تعجز، وإن من جهل قيمة الوقت، وتهاون بوقته وزمنه وعمره، والله ليأتين عليه موقفان وسيعرف حينئذ أنه قد ضيع، وفرط في أمر ثمين.
إن كثيراً من الناس لا يعرفون قيمة الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنهم سيعرفونها أتم المعرفة، ويدركونها أوفى الإدراك، وذلك ساعة الاحتضار إذا استدبر العبد الدنيا واستقبل الآخرة، يتمنى أن يمنح ولو ساعة من الزمان، يتمنى أن يؤخر إلى أجل قريب ليصلح ما أفسده، وليتدارك ما فاته: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11].
فالساعة الأولى التي سينقلب كل غبي بالوقت إلى ذكي، وكل جاهل بالوقت إلى عالم، وكل مفرط في الوقت إلى حريص، الساعة الأولى التي سيتحول فيها المفرط إلى حريص على وقته هي ساعة الموت، ولكن لا ينفع الندم ولات حين مندم، وأما الساعة الثانية، والموقف الثاني فذاك في الآخرة، يوم توفى كل نفس ما عملت، وتجزى بما كسبت، ويدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، هناك يتمنى أهل النار أن يعودوا ولو مرة واحدة إلى حياة التكليف، ليبدءوا عملاً جديداً صالحا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُور * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:36 - 37] ألم تعيشوا ثلاثين وأربعين وخمسين وسبعين وثمانين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] وفسر النذير في بعض الآيات بالشيب.
هيهات هيهات! يطلبون أمراً في زمن قد مضى، ويتمنون الخروج من دار هم يجنون ما زرعوا، ويحصدون ما بذروا.
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحا
وإذا ما هممت بالقول في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا(126/3)
الوقت ومحافظة السلف عليه
قال ابن هبيرة صاحب الإفصاح رحمه الله:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
كان عمرو بن دينار قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء يدرس فيه الحديث، وجزء ينام فيه، وجزء لصلاته وتهجده، والحال اليوم قد تبدلت، والأمور قد تغيرت، إن في الليل لسهراً، وإن في الليل لجهداً، وإن في الليل لعملاً، ولكن عمل على ما يضيع هذه الحسنات، وجهد فيما يفوت الصالحات، وسعي لأجل دنيا فانية، ولأجل حطام حقير، أما الآخرة فلا ينظر إليها بعين، ولا يرمى لها بسهم إلا من عباده من الأقلين، وما أقلهم:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
كان الشافعي رحمه الله يجزئ الليل ثلاثة أجزاء: جزء يكتب فيه، وجزء يتهجد فيه، وجزء ينام فيه، أما ليل شبابنا وليلنا وليل كثير من الناس، بل وليل بعض الصالحين هدانا الله وإياهم، فسهر طويل في القيل والقال، والحال والمآل، والكلام عن أحوال أقوام منهم من مضى ومنهم من بقي، وأقوام لا نسأل عنهم يوم القيامة ألبتة، فلا نلبث إلا أن ندرك أن منتصف الليل قد أدركنا، ثم نقوم إلى بيوتنا كسالى، ونأوي إلى فرشنا ضعافاً، الواحد ينقر الوتر نقراً، هذا إن كان فيه بقية من عزم على صلاة الوتر، ثم ينام متأخراً ليدرك ركعة أو ركعتين من الفجر، وربما فاتته صلاة الفجر، بسبب ماذا؟ بفيروس الوقت وهو ضياعه، وهو سهر فيما لا ينفع، وإنها من الأمراض التي يشكو منها كثير من الناس في هذا الزمان.
إنك تلاحظ ضغطاً اجتماعياً غريباً عجيباً على الناس، إذا اعتذر أحدهم عن موعد أو مناسبة بعد العشاء، فربما قال له بعضهم: وهل أنت من العجائز؟! وهل أنت من الشيوخ والكهول حتى تنام بعد العشاء؟! بمعنى: لم لا تسهر؟ لم لا تبقى؟ لم لا تجلس؟ حتى يمضي من الليل أكثره، ثم عد إلى فراشك ضعيفاً هزيلاً كسلاناً، حتى تضيع الفجر أو تضيع تكبيرة الإحرام.
قال أبو سليمان الداراني: لو لم يبك العاقل فيما بقي من عمره إلا على تفويت ما مضى منه في غير طاعة لكان خليقاً أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف بمن يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟! وقال ابن عبد القدوس في قصيدته الزينبية:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب والدهر فيه تصرم وتقلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه وازهد فعمرك مر منه الأطيب
ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب
ضيف ألمّ إليك لم تحفل به فترى له أسفاً ودمعاً يسكب
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
واخش مناقشة الحساب فإنه لا بد يحصى ما جنيت ويكتب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب
كانت سمات أهل العلم وأهل الآخرة، والسلف الصالح المحافظة على الوقت؛ لأن المحافظة على الأوقات من علامات ذوي الهمم القوية العالية، قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه متوضئاً تالياً، أو عائداً مريضاً، أو مشيعاً لجنازة، أو منتظراً لصلاة، قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، كنا نرى أنه لا يعرف كيف يذنب ويعصي، ويرتكب جريمة أو فاحشة أو منكراً أو معصية.
أما اليوم فكثير من الناس تجده وقت الصلاة نائماً، ووقت الجد والعلم لاهياً، ووقت الغنيمة غافلاً ساهراً على لهو أو فيلم أو أغنية أو ملهاة، وما أكثر ما يضيع من الخيرات والثواب والحسنات من أوقاتنا وأعمالنا! كان الحسن يقول: [ما مر يوم على ابن آدم إلا قال له: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى ما تعمل فيّ شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود أبداً إليك].
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة، فإن في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة).
فكم نضيع -يا عباد الله- من نخلات ومن غراس في جنات النعيم؟!
ومن عجب الأيام أنك جالس على الأرض في الدنيا وأنت تسير
فسيرك يا هذا كسير سفينة بقوم جلوس والقلوب تطير
الإنسان العاقل يحرص على اغتنام عمره إلى النفس الأخير من حياته، قال عيسى بن الهذيل: يا ابن آدم! ليس لما بقي من عمرك ثمن، وهو قريب المعنى من قول سعيد بن جبير: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفريضة والصلاة، وما يرزقه الله ويفتح الله عليه من ذكره، وللنظر إلى اللحظات الأخيرة، والبقية الباقية من عمر الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المتوفى سنة مائة واثنين وثمانين، الذي كان يعرف بأنه كبير القضاة في زمنه، قال القاضي إبراهيم بن الجراح: مرض أبو يوسف فأتيت أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق أبو يوسف، قال للقاضي إبراهيم: يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا؟ قلت: في هذه الحالة -أي: مسألة فقهية وبحث ونقاش وحوار وفائدة، وأنت في هذه الحالة من الإغماء أو في سكرات الموت- قلت: في هذه الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج.
ثم قال أبو يوسف: يا إبراهيم! أيهما أفضل في رمي الجمار -أي: في مناسك الحج- أن يرميها ماشياً أو راكباً؟ فقلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها يرضى الله عنك، قال: أمّا ما كان من الجمار يوقف عنده للدعاء فالأفضل أن يرميه ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت داري، حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله.
أما الإمام شيخ المفسرين والمؤرخين ابن جرير الطبري رحمه الله، فقد كان على فراش الموت وكان قد سمع دعاءً عن جعفر بن محمد، فاستدعى محبرة وصحيفة، فكتب الدعاء، فقيل له: يا ابن جرير! أفي هذه الحال؟! فقال: ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الموت.
وعن نعيم بن حماد قال: قيل لـ ابن المبارك: إلى متى تطلب العلم؟ قال: حتى الممات إن شاء الله.
بقية العمر عندي ما لها ثمن وإن غداً ليس محسوباً من الزمن
يستدرك المرء فيها كل فائتة من الزمان ويمحو السوء بالحسن(126/4)
المسارعة في الخيرات قبل فوات الأوان
أيها الأحبة: إن ما بقي من أعمارنا فيه خير كثير بإذن الله، إن أحسنا النية، وصدقنا العزيمة في طاعة الله عز وجل، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الواحد منا أن يتمنى الموت لضر نزل به، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إن مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) رواه مسلم، وقوله: (وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) قال في هذا ابن حجر: وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت أو الدعاء بالموت؛ لأن فيه انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة سبب العمل، والعمل يحصّل به العبد زيادة الثواب، ولو لم يكن فيما بقي من العمر إلا زيادة التوحيد، فهو أفضل الأعمال.
ولنستمع لوصية محمد بن يوسف حيث قال: إن استطعت ألا يكون شيء أهم إليك من ساعتك فافعل، فاغتنم هذا العمر قبل فراق الحياة، واغتنم هذا العمر قبل فراق العافية، واغتنم هذا العمر قبل فراق الأمن.
يا رافلاً في الشباب الرحب منتشياً من كأسه هل أصاب الرشد نشوان
لا تغترر بشبابٍ رائقٍ نضرٍ فكم تقدم قبل الشيب شبَّان
ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم يكن لمثلك في اللذات إمعان
هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ما عذر أشيب يستهويه شيطان
كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من الذي يصلي عنك بعد موتك؟! من الذين يصوم عنك بعد موتك؟! من الذي يرضي ربك بعد موتك؟! ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم بقية حياتكم، ويا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف يكون حاله؟! وأما الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام عند الكعبة ذات يوم، فقال: يا أيها الناس! أنا جندب الغفاري -هلمّ إلى الأخ الناصح الشفيق- فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحداً أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه، قالوا: بلى، قال: فسفر يوم القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور.
وهنا أقول لإخواني: صوموا يوم تاسوعاء ويوم عاشوراء، واقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واغتنموا الأجر، فإن فيه من تكفير الذنوب ما الله به عليم.
قالوا لـ أبي ذر: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديداً حره لطول يوم النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لموقف يوم عظيم، تصدق بمالك لعلك تنجو من غيرها، اجعل الدنيا مجلسين، مجلس في طلب الآخرة، ومجلس في طلب الحلال، والثالث يضرك ولا ينفعك فلا ترده، اجعل المال درهمين، درهم تنفقه على عيالك من حله، ودرهم تقدمه لآخرتك، والثالث يضرك ولا ينفعك فتجنبه.
ثم نادى بأعلى صوته، يا أيها الناس! قد قتلكم حرص لا تدركونه أبداً، وإننا لنقول لكل من فتح الله عليه بشيء من المال: لماذا تسوف بالإنفاق والبذل والصدقات؟ فتقول: إذا مت فأخرجوا من تركتي، وافعلوا بها كذا وكذا.
نعم إن الوصية فيها خير ونفع، والوقف على أمور الخير فيه خير، ولكن من الخير -أيضا- أن تعجّل بما تحرص على بذله وفعله، ما الذي يضيرك لو أن المسجد الذي أوصيت ببنائه من تركتك بعد موتك أن يبنى الآن وأنت حي، فتصلي فيه وتتابعه وتعتني به؟ ما الذي يضيرك أن الدعاة الذين أوصيت أن يكفلوا من تركتك بعد موتك أن تكفلهم وأنت حي؟ ما الذي يضيرك أن الغزاة الذين يجهزون بوصيتك من تركتك بعد موتك أن يجهزوا وأنت حي؟ ما الذي يضيرك في هذه الكتب التي أوصيت أن تطبع من تركتك بعد موتك أن تطبع وأنت حي؟ إذا كان عندك مصنع، وتملك أن تجعله يشتغل من الآن، وينتج من الآن، فلماذا تؤخر الإنتاج إلى ما بعد الموت؟ إن كل من صلى واعتكف في مسجد أنت تبنيه، أو استفاد من داعية أنت كفلته، فلك أجره إلى أن تلقى الله عز وجل، فلماذا تسوف؟ وتقول: إذا أنا مت فافعلوا كذا وكذا؟(126/5)
محاسبة النفس تعين على فعل الخير
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] هذه إشارة إلى محاسبة النفس، أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]].
كم من شريك جلس وحده ربما أحسن الظن بشريكه أو أساء الظن؟ وكم من شريك أخذ بتلابيب شريكه يحاسبه عن الدرهم والدينار والهللة والريال؟ فيا من عملك جنايته عليك ونفعه لك، هل جلست لتحاسب نفسك؟ هل حاسبت نفسك في أعمالك؟ قال مالك بن دينار: رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم خطمها وألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً، فحق على العبد المؤمن الحازم، ألا يدع محاسبة نفسه.
تمر الليالي والحوادث تنقضي كأضغاث أحلام ونحن رقود
وأعجب منها أنها كل ساعة تجد بنا سيراً ونحن قعود
الذي يجب علينا في ساعتنا ولحظتنا، وكل حال من أحوالنا ألا نضيع الزمن حزناً على ما مضى، أو خوفاً على ما بقي، بل الواجب أن نجتهد في الساعة؛ لأن الساعة هذه هي قبل حصولها كانت مستقبلاً، وبعد مرورها تصير ماضياً، فإن اجتهدت فيها فإنك قد أخذت بزمام أمرك، وتحكمت في حسنات من عمرك بإذن الله، فالواجب عليك التوبة والرجوع إلى الله، والعودة إلى ما يرضي الله.(126/6)
المبادرة بالتوبة مسارعة في الخيرات
يظن كثير من الناس أن التوبة واجب من الواجبات الموسعة على التراخي، وليست على الفور، وهذا من الجهل، إذ أن التوبة أمر واجب، لا تسوف التوبة إلى عام هجري جديد، أو إلى حج قادم، أو إلى ما بعد الزواج، أو إلى ما بعد بناء البيت، أو إلى ما بعد كذا، فإن كثيراً من الناس لا يزالون يسوفون والموت أقرب من تسويفهم هذا، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
فتأجيل التوبة إصرار، فإن كنت من المتقين، أو من الذين يراد بهم الخير، فلا تصر على ذنب، ولا تأخر التوبة، وبادر بالرجوع والإنابة، قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون).
يا أحبابنا! هل يؤتى الناس اليوم من جهلهم بالحلال والحرام؟! أترى كثيراً من الذين يرتكبون المعاصي، ويقترفون السيئات، ويتلبسون بالشهوات والفواحش والآثام والمنكرات، أتراهم يفعلونها جهلاً بأنها حرام؟ أو جهلاً بأنها لا تجوز؟ أو جهلاً بأنها تسخط الله؟ أو جهلاً بأنها تخالف أمر رسول الله؟!
الجواب
لا.
لكنه الإصرار، فهل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر الله؟! هل ترضى أن تكون مصراً على عناد أمر رسول الله؟! فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم دائرة، فليحذر هؤلاء المصرون أن تقع بهم مصيبة أو تنزل بهم نازلة على إصرارهم وعنادهم.
المسوف يقول: أتوب غداً، أتوب بعد غد، قال سهل بن عبد الله: وهذه دعوى النفس، وكيف يتوب عبدٌ غداً، وغداً لا يملكه؟ كيف تقول: أتوب غداً، وأنت في الغد لا تدرى هل أنت في مغسلة الموت، أم في غرفة الإنعاش، أم في ظلمات المقابر، أم في حال أنت لا تدري بها؟ إن الإنسان لا يعطي إلا مما يملك، فإن كنت تملك الغد فأعط فيه توبة، لكنك لا تملك الغد، بل أنت لا تدري أي نَفَس تدره، وأي نفس تجذبه.
إذاً الذي جعل كثيراً من الناس يسوفون أمر التوبة هو الاستغناء، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7] لما استغنوا بالمال والمنصب والجاه أصابهم الطغيان، ولو علموا أن العافية عارية ومردها إلى المرض، وأن الصحة عارية ومردها إلى السقم، وأن العمر عارية ومرده إلى الموت، وأن الجاه والمنصب عارية ومرده إلى الزوال أو العزل أو البعد عنه، فحينئذٍ يعلم العبد ما الذي يضره وما الذي ينفعه.
إن من الناس من يعلق توبته بأمر، ودون هذا الأمر أمور، ودون كل أمر أمر، وهذا ملاحظ عند كثير من المتذبذبين الذين لا يملكون الإرادة، ولا يملكون زمام أنفسهم، والمسوف المسكين يتصور أن يكون للخائض في الدنيا فراغ، وهيهات فما يفرغ من الدنيا إلا من اطّرحها.
فما قضى أحد منها لبانته وما انتهى أرب إلا إلى أرب
قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أن الإنسان ما دام يأمن الموت، فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجّه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذٍ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فتجتمع عليه سكرات الموت، وحسرات الفوت، وقد حذر الله عباده من ذلك في كتابه، ليستعدوا للموت قبل نزوله، حيث قال عز وجل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:54 - 56].
وقد سمع بعض المحتضرين من الناس وهو يعالج سكرات الموت، يلطم وجهه ويقول: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله! وقال آخر عندما حضرته سكرات الموت: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغرنكم الحياة الدنيا كما غرتني، فغاية أمنية الموتى الآن وهم في قبورهم، يتمنون حياة ساعة يستدركون فيها ما فات من توبة وعمل صالح، ونحن وإياكم يا أهل الدنيا نفرط في الحياة، فتذهب الأعمار بالغفلة، ومنا من يقطعها بالمعصية، قال بعض السلف: أصبحتم في أمنية أناس كثير، أي: أن الموتى كلهم يتمنون حياة ساعة، ليتوبوا فيها، ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيل إلى ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله فيما نظم من نظمه:
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جد وانقشعت عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت ورسل ربك قد وافتك في الطلب
فيا أحبابنا! اسألوا أنفسكم كيف مضى وقت الصحابة، وكيف مضى وقت التابعين؟ لقد مر عليهم المغرب والعشاء، والليل والنهار، والظهر والعصر والضحى، والإصباح والمساء، لقد مر عليهم ذلك فكانوا يكابدون الأيام ويجاهدونها، كان السلف يعتبرون اليوم معركة ساخنة حامية، إذا استطاع الواحد منهم أن ينتصر في يومه ذاك، انتهى من يوم مضى وانطوى، واستعد لمعركة يوم جديد، فكم من يوم مضى صرعنا فيه بغفلة؟! وكم من يوم يمر علينا نصرع فيه بالتسويف والإعداد لما لا نسأل عنه، والتفريط فيما نحاسب عليه؟!(126/7)
قصر الأمل وأهميته في تدارك الأوقات
إن قصر الأمل في الدنيا مما يعين على تدارك الأوقات بإذن الله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه البخاري، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره، وقال علي بن أبي طالب: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصدكم عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة ارتحلت مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل] رواه البخاري تعليقاً، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف، ورواه ابن المبارك في الزهد.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم تحت حديث ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب) قال: وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة وليست له وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على واحد من حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد الغربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم ألبتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون في الدنيا على واحدٍ من هذين الحالين.
تأملوا أحوال كثير من الناس، هل بنوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً؟ هل أعدوا لأنفسهم في الآخرة شيئاً يرجونه؟ ربما تجد كثيراً من الخلق قد بنوا لأنفسهم في هذه الدنيا قصوراً ودوراً ومزارعاً وضيعات وبساتين، ولكنهم ضيعوا أنفسهم في دار الخلود الأبدي السرمدي، قال ابن القيم:
فحيا على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلّم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطَّت به أوطاره فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أملك؟ قال: ما أتى علي شهرٌ إلا ظننت أنني أموت في هذا الشهر، فقال صاحباه: إن هذا لأمل طويل، فقال للآخر: فما أملك؟ قال: ما تمر علي جمعة إلا وظننت أني أموت فيها، فقال: إن أملك لطويل، فقيل للأخير: ما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه في يد غيره؟! رواه ابن المبارك في الزهد.
نعم أيها الأحبة: هل منا من كتب الآن وصيته تحت وسادة رأسه؟ هل منا من تخيل أنه يلبس ثوباً فلا يخلعه؟ ويدخل داراً لا يخرج منها؟ ويركب دابة لا ينزل عنها؟ هل منا من يتخيل أن الموت قد يفاجئه في أي لحظة؟ الواقع -أيها الأحبة- أننا لا نفكر بهذا أبداً، بل ربما نسمع المواعظ، ونتكلم بالمواعظ، وقلوب تعرف، وألسنة تصف، ولكن الأفعال تخالف، القليل من يستعد لهذا، وأكبر دليل أن الكثير منا عنده من الذنوب ما لم يتب منها، وعليه من الحقوق ما لم يردها، وعنده من التفريط ما لا يصلح به حاله.
فكيف -يا أخي الكريم- تعد نفسك من الأخيار، وتعد نفسك من أهل الآخرة، وأنت لا تزال متعلقاً متشبثاً بهذه الدنيا، وعن الآخرة معرضاً؟ كان أويس القرني إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي، فيبشر بالجنة أو بالنار، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان، حب المال وطول العمر) رواه البخاري.
وفي الأمل سر لطيف؛ لأنه لولا الأمل ما تهنّا أحد بعيش، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا، إنما المذموم الإسراف والاستغفال في طول الأمل، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة، فمن سلم من ذلك فهو على خير، قال ابن الجوزي: الأمل مذموم للناس إلا العلماء، فلولا أملهم لما صنفوا وما ألفوا.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أملي ولم يزد فيه عملي].
أيها الأحبة: المبادرة المبادرة! عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس، حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم وصححه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه الإمام البخاري رحمه الله.
أيها الأحبة في الله: كم يمضي ويمر علينا من الأيام والشهور والأعوام، والواحد قبل خمس سنوات أو أكثر قد عزم على أن يفعل كذا ولم يفعل، عزم على أن يقلع عن كذا ولم يقلع، وحرص على أن يرد لصاحبه كذا وكذا فلم يرد.
فإلى متى؟ وحتى متى؟
خل ادكار الأربع والمنزل المرتبع
والضاعن المودع وعد عنه ودع
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع
إلام تسهو وتني ومعظم العمر فني
فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع
يا أحبابنا! ويا إخواننا! إذا رأينا جنازة، فهل تخيلنا أننا ذات يوم على مثلها نحمل؟ وإذا رأينا نعشاً هل نتخيل أننا على مثله نغسل؟ وإذا رأينا عجوزاً قد احدودب ظهره وابيض عارضاه، وقد ذبل خداه، وضمر جنبه من الضعف والسقم، هل تخيلت نفسك يا بن العشرين والثلاثين والأربعين؟! هل تخيلت إن غفل عنك الموت، أو إن أخرتك المنية؟! هل تخيلت نفسك وأنت تدب على عصا قد احدودب ظهرك؟ الله المستعان! انظر إلى أقوام قد جمعوا وجمعوا، ثم أصبحوا ينظرون إلى دنيا ما استطاعوا أن يتلذذوا منها بشيء في أي حال من الأحوال، فو الله -أيها الأحبة- إن هذه الدنيا ليست بشيء، والعاقل من تأمل فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، أو تصدقت فأمضيت).
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلاً وأعقبه يوم عليك جديد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثنِّ بإحسان وأنت حميد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا تُرجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد
فيا أحبابنا! إنها نصيحة ونحن في استقبال عام جديد، أن ننتبه ونستعد، وألا يكون مغيب الشمس أمراً عادياً، إن الذي تصارعه نفسه إذا غابت الشمس وقف وقفة حرقة كيف غاب الشفق؟! وهل أدركتُ من هذا اليوم أمراً جليلاً في مرضاة الله عز وجل؟ إذا صلى الجمعة وغابت آخر ساعة من يوم الجمعة، وهو جالس في مصلاه يتحرى ساعة الإجابة، وقلبه يتحرك كيف مضى من عمره أسبوع، وهل قضى فيه شيئاً يرضي الله عز وجل؟ إذا هل هلال شهر ليعلن شهراً منصرماً ماضياً، ويعلن شهراً جديداً قادماً، تحرك قلبه كيف مضى الشهر؟ أليست هذه المفكرة تنزع منها كل يوم ورقة، كأنها ورقة تنزع من عمرك، وكأنها صفحة تنزع من عمرك، وكأنها مرحلة تنزع من عمرك؟
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا في ختام هذا العام المنصرم ممن ختم له بالتوبة والمغفرة والرجوع والإنابة، فنسأله عز وجل أن يجعلنا ممن استعد لهذا العام القادم بنية صالحة، فإن من الناس من استعد بالمعصية، واستعد بالسفر للخارج، واستعد أن يفعل كذا وأن يعصي الله بكذا، وأن يمشي إلى الحرام، وأن ينفق في الحرام، وأن يفعل الحرام، ومن الناس من استعد لحفظ كتاب الله وسنة نبيه، والدعوة إلى سبيله، والسعي في مرضاته، والشفاعة لحاجات خلقه، والسعي فيما يرضي مولاه عز وجل عنه.
فالعاقل من استعد بخير، والجاهل من استعد بشر، وكلٌ سيدرك ما أمّل، والله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فاستعدوا بخير، وظنوا بالله خيراً، أسأل الله أن يصلح أحوالنا، وأن يهدي ولاة أمورنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، اللهم أصلح أحوالنا واهد شبابنا واستر نساءنا، اللهم من أراد بالشباب والنساء فتنةً وضلالة واختلاطاً، اللهم من أراد بالعلماء مكيدة، وأراد بالولاة فتنة، اللهم اكفناه بما شئت، إنك أنت السميع العليم يا رب العالمين.
أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(126/8)
المصرون على الهلاك
يتحدث الشيخ عن رحمة الله لخلقه، وعن حكمته في أوامره ونواهيه، ثم يضرب أمثالاً لرحمة الله وحكمته في خلقه، وبعد ذلك ينتقل إلى ذكر أسباب هلاك المجتمعات والأمم بعقاب من الله جل وعلا، فمن أسباب الهلاك التي تكلم عنها الشيخ: الإصرار على الذنوب؛ وجود أئمة في الضلال، كراهية صلاح الناس؛ عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلخ.(127/1)
فضل حلق الذكر
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجه ربنا وعظيم سلطانه، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، الحمد لله حتى يرضى والشكر له إذا رضي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، نشهد أن لا إله إلا الله ولا رب ولا معبود بحقٍ سواه، نشهد أن الذي خلقنا هو الله، وأن الذي أحيانا ويميتنا ويبعثنا ويحشرنا وينشرنا هو الله، نشهد أن الذي يرزقنا ويمنعنا ويقبض رزقنا ويبسط في حظنا هو الله جل وعلا.
نشهد أنه المتصرف المالك المدبر المحيي المميت، المعز المذل، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك عمن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أشهد أن لا إله إلا الله فلا سجود ولا ركوع ولا توكل ولا حلف إلا به وعليه وله، ولا يجوز صرف قليل أو كثيرٍ من ذلك لغيره: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
أشهد أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] فأسماء الله حسنى بالغة في الحسن غايتها، وصفات الله جُلَّى لا يشابهه فيها أحد جل عن الشبيه والند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
أيها الأحبة في الله: أحمد الله الذي جمعنا وإياكم وهدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي منَّ على قلوبنا فأَمرَتْ جوارحنا وانقادت لحضور حلقة من حلق الذكر لا نرجو فيها إلا ثواب الله جل وعلا، أنتم تعلمون أن المكان هنا ليس فيه حظٌ من حظوظ الدنيا، لا مال نقبضه، ولا رزق تقبضونه، ولا مرتبة تنالونها، وإنما اجتمعنا ونشهد الله ربنا المطلع علينا وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور منا، نشهده أنا جئنا حباً لكم في الله وأشهد الله جل وعلا وأشهدوا ربكم على أنفسكم أن ما جاء بكم إلا ابتغاء أن تحفكم الملائكة، وتغشاكم السكينة، وتتنزل عليكم الرحمة، ويذكركم الله فيمن عنده، ففي الحديث (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملئه).
أحبابنا إخواننا يا رجال التوحيد يا وجوه الإيمان يا عزة الأمة بإذن الله جل وعلا: أيسركم أن تذكروا الآن في السماء السابعة في الملأ الأعلى؟ الله أكبر! فلان بن فلان تذكره الملائكة في الملأ الأعلى في السماء السابعة، يجلس حلقة من حلق الذكر جاء إليها لا يريد ريالاً ولا درهماً ولا خميصة ولا خميلة، ولا وظيفة ولا منصباً، جاء لكي يرضى الله عنه، وفي الحديث الطويل تعرفونه وأعيده حتى نستذكر النية: (إن لله ملائكة سيارين يبتغون حلق الذكر، فإذا وجدوا نادى بعضهم بعضاً أن هلموا، فإذا اجتمعوا ناداهم ربهم علام اجتمع عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يا ربنا! اجتمعوا يسألونك الجنة، ويستعيذون بك من النار، فيقول الله جل وعلا: يا ملائكتي! وهل رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: لا يا رب! ما رأوها، فيقول الله: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد لها طلباً، فيقول الله جل وعلا: وهل رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: لا.
فيقول الله جل وعلا: يا ملائكتي! كيف لو رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد منها هرباً، فيقول الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني قد غفرت لهم).
هنيئاً لنا إن مشت بنا الأقدام إلى هذا المكان خالصين مخلصين لوجه الله لا نريد إلا رضا الله، هنيئاً لنا إن خلصت نياتنا لا نبتغي إلا رضا الله، إن رضي الله عنا فلا نسأل، إن رضي الله عنا فلا نبالي، إن صحت الحال بيننا وبين الله فما بيننا وبين الناس يصلح.
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ وليتك ترضى والأنام غضاب
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب تراب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خراب
وفي الحديث وقول النبي أبلغ وقول الله أبلغ: (من ابتغى رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عنه الناس).
اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، اللهم اجعل لنا من كل ضيقٍ مخرجاً، اللهم اجعل لنا من كل بلاءٍ عافية، ومن كل فتنة عصمة، اللهم جئنا نبتغي خيراً من فضلك ونعمة من نعمك، اللهم فلا تردنا محرومين يا رب العالمين! اللهم لا تفرق جمعنا إلا بذنبٍ مغفور، وعيبٍ مستور، وتجارة لا تبور، اللهم لا تدع لهذه الوجوه الطيبة المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً من ذكرٍ أو أنثى إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين!(127/2)
رحمة الله لخلقه وحكمته فيهم
أيها الأحبة: حديثنا اليوم بعنوان: " المصرون على الهلاك " تصور أن ناراً ملتهبة وألسنتها تتطاير في السماء، وأنتم ترون مجموعة من الرجال والنساء والفتيان والفتيات كلٌ ينزع ثيابه يريد أن يدخل هذه النار ويقتحمها، وأنتم تمسكون بحجزهم، وتأخذون بأعناقهم، وتدفعونهم إلى الوراء عن النار دفعاً، وهم يقولون: ابعدوا أيها المعقدون! ابعدوا أيها المتشددون! ابعدوا أيها المطاوعة! انقلعوا، يا أيها الذين لا تفقهون! نحن نفقه، هذه ليست ناراً هذه حضارة هذه مدنية هذه جنة هذه ليست ناراً هذه تقدم وتمدن وتحضر! أولئك هم المصرون على الهلاك.
المصرون على الهلاك: الظالمون الفاسقون، المصرون على المعاصي الذين لا يريدون أن يتوبوا المصرون على الهلاك الذين آذوا عباد الله، وناصبوا أولياء الله العداوة، وجعلوا وظيفتهم ومهمتهم إيذاء الصالحين من عباد الله جل وعلا، هؤلاء هم المصرون على الهلاك ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولن نستعرض اليوم كل المصرين لكن سنستعرض طائفة منهم.
أيها الأحبة: ديننا عظيم! ديننا عظيم عظيم عظيم! ومادام الذي شرع الدين عظيماً فلا غرابة أن يكون الدين عظيماً، إذا شرع الدين حكيمٌ فلا عجب أن تكون الحكمة فيه، إذا شرع الدين رحيمٌ فلا غرابة أن تكون الرحمة في هذا الدين: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] إن ما ترون مِنْ شرع الله في هذا الدين في كل أمرٍ ونهي فيه من علم الله وصفاته جل وعلا حظاً ونصيباً، فرفع الحرج ودفع المشقة والتخفيف عن الناس من باب الرحمة بالعباد، والرحمة من أين جاءت؟ جاءت من الرحمن الرحيم، الذي نردد ونلهج بذكر اسمه في كل يومٍ في سبع عشرة ركعة في المفروضات: بسم الله الرحمن الرحيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2 - 3] وأنت يوم أن يحرم عليك في الدين شيء ليقال لك: اجتنب واترك وانزجر وابتعد وجانب ولا تقرب إنما ذلك لحكمة؛ لأن الله لا يشرع بلا حكمة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! لأن الله لا يشرع عبثاً لأن الله لا يشرع حيفاً أو ظلماً أو جوراً، إنما يشرع الله لحكمة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8]؟ بلى.
إذاً: فإذا قال الله: افعلوا كذا، اجتنبوا كذا، فإن الله ما أمرنا بهذا الأمر تشدداً أو تزمتاً أو هوىً أو ظلماً أو جوراً، إنما ذلك لحكمة يراها الله.
ما هو رأيكم -يا إخوان- لو أننا زرنا مريضاً في المستشفى ووجدناه ينتفض من البرد، ووجدنا الطبيب قد مد يده هكذا على السرير ووضع المغذي في وريده، ماذا سيكون في المغذي؟ (جلوكوز) أو (دكتروز) سكر ثنائي أو سكر أحادي على ما يقرر الأطباء مع أشياء تنفع المريض في حالة الحمى أو البرد أو انخفاض درجة الحرارة، فإذا جاء واحدٌ من الذين لا يفقهون قال: يا دكتور! لماذا لا تضع في هذا المغذي زنجبيلاً حتى يدفيه؟! هذا مريض بردان ما تراه ينتفض من البرد؟ ما رأيك لو أننا أخذنا حقنة زنجبيل وجعلناها في المغذي لأجل يستدفئ الرجل فيتصبب عرقاً!! ماذا يقول الطبيب؟ يقول: يا أحمق! وهل تفقه في الطب شيئاً؟! هل تظن أننا جعلنا هذا المغذي من هذا النوع من فصيلة هذا الدواء عبثاً، أم أننا جعلناه لحكمة يعرفها الأطباء، ويعرفون أنها حينما تسري في بدن المريض فإن حرارته تعتدل من الانخفاض إلى الاعتدال أو من الارتفاع إلى الاعتدال؟! إذاً الطبيب لا يقرر من هوى نفسه حينما يعطيك دواءاً، وإنما يقرر لحكمة يعرفها درسها في الطب أن الذي يناسب هذا المريض هذا الدواء.
الطبيب حينما يكشف عليك ويقلب السماعات على صدرك -والحمد لله أن السماعات ما تخرج ما في القلوب لو أن السماعة تخرج ما يفكر به الإنسان لما ذهب أحد إلى المستشفى؛ لأن الناس في نفوسهم الشيء الكثير الكثير، ومن رحمة الله أن الله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل) فحديث النفس معفو عنه، قال جل وعلا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] قال الصحابة: يا رسول الله! إن كان الذي نبديه نحاسب عليه، وإن كان الذي نخفيه نحاسب عليه فقد هلكنا، فأنزل الله جل وعلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:184 - 286].
فإذا كان حديث النفس مما لا يقدر الإنسان على رده وكبحه، وإذا كانت خطرات الفكر مما لا يستطيع الإنسان أن يردها فحينئذٍ يعفى عن ذلك، وقال الله جل وعلا حينما دعاه المؤمنون، قال: قد فعلت قد فعلت {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] وفي كلٍ يقول الله: قد فعلت قد فعلت، فالله جل وعلا لحكمة سلمنا وعافانا من حديث القلوب وما يدور في الخطرات، الحاصل أنك حينما تذهب إلى الطبيب ثم يعطيك الكبسولة الحمراء والصفراء والخضراء فإذا ذهبت إلى (الصيدلي) وأعطيته الورقة وقلت له: تفضل الطبيب كشف عليَّ وأعطاني هذا العلاج، فقام (الصيدلي) ونظر ما كتب الطبيب فأخذ كبسولاتٍ صفراء وحمراء وخضراء، لا يمكن أن يقول أحد: يا أخي! أنا هلالي أريد كبسولة زرقاء وبيضاء، أو أنا نصراوي أريد كبسولة صفراء وزرقاء! لا.
القضية ليست أمزجة وهوى، المسألة مسألة حكمة، الطبيب يعرف ما يناسبك من الدواء فلا تتجاوز ذلك.
إذاً: فليست هوى، أتظن أن الطبيب الذي يصرف لك من الدواء ما يناسبك ولا يتعداه إلى ما تشتهي أو تهوى، يعطيك الدواء المر وأنت تشتهي الحلو، ويحرمك هذا الحلو ويختار لك المر؟ الطبيب يفعل ذلك لحكمة، أفتظن أن الله حرم عليك شيئاً وأباح لك شيئاً لغير حكمة؟! الله أكبر! الله جل وعلا ما شرع عبثاً وما خلق عبثاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله ربنا، جل تعالى وتقدست أسماؤه! ننزه ربنا أن يحرم علينا أشياء هوى، أو أن يأمرنا بأشياء مزاجاً وإنما هي لحكمة، وقد عرفنا أن الطبيب يأمرك لحكمة وينهاك عن حكمة، ويأمرك بأكل هذا الطعام وينهاك ويحجبك عن الطعام الآخر لحكمة، فإن الله أحكم الحاكمين يوم أن يأمرك وينهاك أيها العبد الفقير الذليل المسكين! يوم أن ينهاك عن الربا وعن التحاكم إلى غير شرعه، وينهاك عن الظلم، ويأمرك بالصلاة، ويأمرك على لسان نبيه بإعفاء لحيتك، ويأمرك بترك اللهو، ويأمرك بترك المعاصي، ليس ذلك عبثاً وإنما ذلك لحكمة جليلة.
إذا عرفنا ذلك -أيها الأحبة! - فإن كل خصال الدين مبنية على الحكمة، والله جل وعلا لا يقدِّر عبثاً.(127/3)
من رحمة الله عدم محاسبته على حديث النفس
الطبيب حينما يكشف عليك ويقلب السماعات على صدرك -والحمد لله أن السماعات ما تخرج ما في القلوب لو أن السماعة تخرج ما يفكر به الإنسان لما ذهب أحد للمستشفى؛ لأن الناس في نفوسهم الشيء الكثير الكثير، ومن رحمة الله أن الله جل وعلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل) يعني: حديث النفس معفو عنه، قال جل وعلا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] قال الصحابة: يا رسول الله! إن كان الذي نبديه نحاسب عليه، وإن كان الذي نخفيه نحاسب عليه فقد هلكنا، فأنزل الله جل وعلا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:184 - 286].
فإذا كان حديث النفس مما لا يقدر الإنسان على رده وكبحه، وإذا كانت خطرات الفكر مما لا يستطيع الإنسان أن يردها فحينئذٍ يعفى عن ذلك، وقال الله جل وعلا حينما دعاه المؤمنون، قال: قد فعلت قد فعلت {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] وفي كلٍ يقول الله: قد فعلت قد فعلت، فالله جل وعلا لحكمة سلمنا وعافانا من حديث القلوب وما يدور في الخطرات، الحاصل أنك حينما تذهب إلى الطبيب ثم يعطيك الكبسولة الحمراء والكبسولة الصفراء والكبسولة الخضراء فإذا ذهبت إلى الصيدلي وأعطيته الورقة وقلت له: تفضل الطبيب كشف عليَّ وأعطاني هذا العلاج، فقام الصيدلي ونظر ما كتب الطبيب فأخذ كبسولاتٍ صفراء وحمراء وخضراء، لا يمكن أن يقول أحد: يا أخي! أنا هلالي أريد كبسولة أزرق وأبيض، أو أنا نصراوي أريد كبسولة أصفر وأزرق! لا.
القضية ليست أنسجة وهوى، المسألة مسألة حكمة الطبيب يعرف أنما يناسبك من الدواء الكبسولة الزرقاء والخضراء والحمراء لا تتجاوزها.
إذاً: فليست هوى، أتظنون أن الطبيب الذي يصرف لك من الدواء ما يناسبك ولا يتعداه إلى ما تشتهي أو تهوى يعطيك الدواء المر وأنت تشتهي الحلو، ويحرمك هذا الحلو ويختار لك المر، الطبيب يفعل ذلك لحكمة، أفتظن أن الله حرم عليك شيئاً وأباح لك شيئاً إلا لحكمة؟! الله أكبر! الله جل وعلا ما شرع عبثاً وما خلق عبثاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله يجل ربنا جل تعالى تقدست أسماؤه تنزه ربنا أن يحرم علينا أشياء هوى، أو أن يأمرنا بأشياء مزاج وإنما هي لحكمة، وقد عرفنا أن الطبيب يأمرك لحكمة وينهاك عن حكمة، ويأمرك بأكل هذا الطعام وينهاك ويحجبك عن الطعام الآخر لحكمة، فإن الله أحكم الحاكمين يوم أن يقول وينهاك أيها العبد الفقير الذليل المسكين يوم أن ينهاك عن الربا وينهاك عن التحاكم إلى غير شرعه، وينهاك عن الظلم، ويأمرك بالصلاة، ويأمرك على لسان نبيه بإعفاء لحيتك، ويأمرك بترك اللهو، ويأمرك بترك المعاصي، ليس ذلك عبثاً وإنما ذلك لحكمة جليلة.
إذا عرفنا ذلك -أيها الأحبة! - فإن كل خصال الدين مبنية على الحكمة، والله جل وعلا لا يقدر عبثاً.(127/4)
مثال يدل على حكمة الله
حدثني قبل يومين رجلٌ عن صديقٍ له قال: توفيت زوجته أثناء الولادة رحمها الله، والمرأة التي تموت بالولد شهيدة، وهذه من كرامات النساء إن المرأة إذا ماتت أثناء الولادة فلها أجر الشهيد عند الله جل وعلا، قال: ماتت هذه المرأة وقد أنجبت طفلة وخرجت الطفلة إلى الحياة، روحٌ تخرج وروحٌ تصعد! روحٌ تخرج إلى الحياة من ظلمات ثلاث وروحٌ تصعد إلى باريها! انتهى أجلها، فأين الثدي الذي يرضع هذه البنية؟! من يربي هذه الفتاة؟! من يلتفت لها؟! كتب الله أن تزوج الرجل زوجة أخرى، فمكث معها سنة وسنتين وثلاث سنوات ما أنجبت فأراد أن يطلقها، قال له أحد العلماء: لا تطلقها يا أخي، لا تعجل والله جل وعلا سيقسم لك رزقاً، فبلغت السنة الرابعة ما أنجبت، فأبى الرجل يريد أن يطلق قال له الشيخ: يا بن الحلال! لا تطلق، الله عز وجل يريد لك خيراً، فلما جاءت السنة السابعة حملت المرأة فأنجبت، فجاء الرجل إلى الشيخ وقال: يا شيخ! أنجبت المرأة في السنة السابعة، قال: لو أنجبت المرأة في أول سنة لانشغلت بولدها عن طفلتك، فمنعها الله الحمل سبع سنين حتى تتفرغ لرعاية ابنتك الصغيرة، ولما بلغت سبع سنين في بداية التمييز، أذن الله بالنطفة أن تلتقي في رحمها بما أودع في جوفها فكان إنساناً كونه الله وهو أرحم الراحمين.
أحبابنا لا تظنوا أن الله جل وعلا قدر شيئاً عبثاً، وما دامت مقادير الله في العباد ليست عبثاً، فمن باب أولى أن شرع الله دينه الذي هو مبني على افعل ولا تفعل التزم واجتنب وأن تلتزم وتفعل وأن تنتهي وتترك هذه مبنية على الحكمة البالغة.(127/5)
دخول الجنة برحمة الله لا بالأعمال
أيها الأحبة: قال صلى الله عليه وسلم: (الجنة أدنى إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك) إن الجنة التي عرضها السماوات والأرض، الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الجنة التي يقول فيها ابن القيم:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ ـخطاب عنك وهم ذوو إيمان
خودٌ تزف إلى ضرير مقعدٍ يا محنة الحسناء بالعميان
الجنة قريبة إلينا، إن بغياً من بغايا بني إسرائيل نزلت بئراً لتستقي فشربت، فلما خرجت من البئر إذ بها تر ى كلباً يأكل الثرى من العطش، فقالت الزانية: لقد بلغ بهذا الكلب ما بلغ بي من العطش، فنزلت مرة أخرى إلى البئر فنزعت موقها -أي: خفها- ثم ملأته ماءً وخرجت به إلى الكلب فسقت الكلب؛ فغفر الله لها فدخلت الجنة.
يا إخوان أتظنون أن الله جل وعلا محتاج إلينا حتى يجعل قضية الجنة محاسبة، القضية مبنية على الرحمة، وبعد ذلك على الاستجابة، الله جل وعلا حينما يدخلك الجنة لا يدخلك الجنة بأعمالك فقط، إنما قبل عملك برحمته، وبعد رحمته ينظر إلى استجابتك، ولو أن من عصى الله لا يدخل الجنة، ما دخل الجنة إلا المعصومون، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).(127/6)
من رحمة الله مناداة المسرفين بـ (يا عبادي)
فيا أحبابنا الجنة قريبة لنا، والجنة تفتح أبوابها صباح مساء، والتوبة أبوابها مفتوحة والغني ينادي الفقراء، العزيز ينادي الأذلاء، والقوي ينادي الضعفاء: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] الذنوب جميعاً: اللواط، الزنا، المخدرات، المسكرات، الأفلام، المجلات، الملاهي، كل هذه إن نتب إلى الله توبة صادقة يغفرها الله جميعاً، بعض الناس يظن أن المغفرة تتناول أو تقبل النظرة والغلطة واللمسة والهمسة والقبلة والضمة فقط، أما الزنا واللواط والمخدرات والربا والفواحش فهذه كبائر لا يغفرها الله، لا.
الله جل وعلا ما نادى المذنبين ما قال: أيها المذنبون! بل حببهم إلى نفسه وقال: (يا عبادي) وكلمة (عبد) حينما يسمي الله عبداً من عباده أو خلقاً من خلقه بلفظ العبد فهو نداء التحبيب والتقريب والتشريف، قال الله جل وعلا: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَاب} [الكهف:1] وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله).
الله جل وعلا ينادينا نحن المذنبين المفرطين المسرفين، وينادي معنا الذين زنوا، والذين فعلوا اللواط، والذين أكلوا الربا، والذين اقترفوا المكس، والذين نشروا الملاهي، والذين فعلوا، الذي يتوب منهم توبة نصوحاً بشروطها يغفر الله له: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر:53] ما قال: أذنبوا فقط، بل أسرفوا وبالغوا في الذنوب: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] (وأنيبوا) نريد إنابة! نحتاج إلى استجابة: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وهذا نداءٌ فيه بشارة وبعده تحذير: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] لأن الله ما دعانا ليشق علينا، وإنما دعانا لكي يحيينا ويسعدنا وينفعنا ويجعل الطمأنينة في قلوبنا، وإن لم نستجب، وإن لم نتب؟ فإن ذلك يعني أن الإنسان قد يحال بينه وبين قلبه، ويصبح كالذي أصيب بحالة إدمانٍ لا يمكن معها الشفاء إلا برحمة الله جل وعلا.
أرجو ألا يقول سامعٌ: إنني في حالة إدمان ولست من الذين يشفون، لا.
أنت الآن بإمكانك الشفاء، والطريق بين يديك، وباب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها أو أن روحك بلغت الحلقوم وأصبحت في حال الغرغرة فحينئذٍ تنتهي القضية، لكن لا شك أن الذين يتوبون من قريب خيرٌ من الذين يتوبون من بعيد، الذي يتوب بعد فاحشة واحدة أقرب إلى الله من الذي يتوب بعد عشر فواحش، والذي يتوب إلى الله بعد ذنب أقرب إلى الله منه بعد كبيرة، والذي يتوب إلى الله بعد كبيرة أقرب إلى الله من الذي يتوب إلى الله بعد كبائر، وكل الناس قربهم من الله بحسب تقواهم، وبحسب إخباتهم إلى الله جل وعلا، المهم أن نعرف أن ديننا يدعونا إلى الخير، ويقربنا إلى الجنة، ويفتح لنا أبواب السعادة
عطايانا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نورٌ وعزٌ ولكن ما رأينا السالكينا(127/7)
من سعة رحمة الله عدم مضاعفة السيئات بعكس الحسنات
الله جل وعلا حينما تفعل حسنة من الحسنات لا يضيعها، ولا يجعلها تذهب هباءً منثوراً إذا حافظت عليها ولم تضيعها؛ لأن من الناس من يفعل الحسنات ويعطيها الناس، إنسان يصلي الفجر مع الجماعة، افرض كتبت له ألف حسنة، ثم صلى الظهر مع الجماعة وكتبت له ألف حسنة، ثم تصدق بعد الظهر بألف ريال وكتبت له ألف حسنة، -على سبيل المثال- جمع الرجل ذلك اليوم ثلاثة آلاف، لكنه بعد صلاة العشاء عاد يعلب البلوت، ومع اللعب يدخل في السباب والشتام واللعان، تنتهي اللعبة وقد استهلك بسبب اللعان والشتائم والكلام الزور الذي لا يرضي الله جميع حسناته، عنده ثلاثة آلاف حسنة ذهبت خمسمائة حسنة أثناء اللعب، ثم يجلس ويلعب الحجر ويأخذ المعسل ويبدأ مع زملائه بالغيبة: فلان ما فيه خير، وفلان فيه كذا، وفلان وفلان حتى استهلك ثلاثة آلاف وخمسمائة حسنة، بمعنى: أنه كتبت عليه أربعة آلاف سيئة من بعد المغرب إلى الساعة الثانية عشرة من الليل، والرجل جمع الصباح ثلاثة آلاف حسنة، فخرج ذلك اليوم عليه خسارة قدرها ألف حسنة؛ لأن الرجل جمع ثلاثة آلاف حسنة وفعل أربعة آلاف سيئة، والله جل وعلا من رحمته يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40].
من بركات هذا الدِّين أن السيئة سيئة والحسنة حسناتٌ تتضاعف، لكن الذين يعاجلون الحسنات، بعض الناس منذ أن يعمل حسنة يتبعها بسيئة، نحن أولاً متى نعرف أن الحسنة قبلت؟ متى نعلم أن هذه العبادة قبلت حتى تكتب لنا بها حسنة؟ فليس كل من صلى كتبت له الحسنات، إن من الناس من يدخل الصلاة فلا يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها، ومن الناس من يخرج من الصلاة لم يكتب له منها شيء، بمعنى أنه يؤدي الركوع والسجود ويحضر الجماعة فقط ليسلم من الإثم لكن قد لا يكسب حسنات يكبر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وقلبه في درج المدير.
وفيما يروى أن موسى عليه السلام قال: يا رب! إن عبدك فلان يدعوك فلا تستجيب له، فقال الله: يا موسى! إنه يدعوني وقلبه عند ماله.
لو أن أحدكم يكلم المدير أو الضابط أو الرئيس وتنظر بعينك إلى وجهه، وقلبك عند الغنم أو عند الإبل، ولله المثل الأعلى، ولا نقيس الخالق بالمخلوق، لكن حتى تعرف أن المسألة ليست مجرد أفعال بل هي أفعالٌ وعبادة قلب، فمن حضر قلبه نفعته عبادته بإذن الله جل وعلا.(127/8)
من هم المصرون؟
قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) سبحان الله! يوجد إنسان يأبى أن تفتح له أبواب الجنة يقول له: تفضل، يقول: لا أريد (قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟) من هو المجنون الذي يأبى؟ من هو الذي لا عقل له يدعى إلى الجنة فيأبى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
أيها الأحبة: إننا بحاجة أن نبلغ اليقين أن وعد الله حق، إذا بلغنا هذه الدرجة وأدركنا أن الله إذا توعد بوعيدٍ فإن وعيده يحل، وإذا وعد بوعدٍ فإنه يعطي؛ والله يعطي عطاء لا حدود له، والناس إن أعطوك اليوم يمنون عليك غداً، وإن أعطوك غداً منعوك بعد غد، وإن أعطوك بعد غد، منوا عليك وطردوك وأقفلوا الباب في وجهك.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب
لا تسألن بُني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
قال الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:102 - 104] هذا يوم القيامة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:105 - 106] هؤلاء المصرون على الهلاك الذين دعوا إلى السعادة فاختاروا الشقاوة، والذين دعوا إلى الهدى فاختاروا الضلالة، والذين دعوا إلى الاستقامة فاختاروا الانحراف، والذين دعوا إلى التوبة فاختاروا الإصرار على المعصية: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107] الله فعال لما يريد، من الذي يشفع لك عند الله؟ من الذي يتوسط لك عند الله إذا كتبت لك النار وأخذت كتابك بشمالك وعدت تدعو ثبوراً لتصلى سعيراً؟(127/9)
خطر قرناء السوء
جاء إلي شاب -والله- ما لبث دقائق حتى أخذ يبكي، قلت: ماذا فيك يا فلان؟ قال: والله أنا أذنبت وأسرفت وفعلت وتعرف ما هو؟ قال: أنا أشعر بعقدة الذنب، أنا أشعر أنني حينما أخطئ أعرف أنني أخطأت، أنا ما أرتكب معصية وأقول: إني صليت، أو أفعل فاحشة وأقول: إني تصدقت، وأعرف أن للفاحشة شؤماً، وأن للمعصية عاقبة وخيمة، ولكن عندي مجموعة أصدقاء يقولون لي: يا أبا فلان! لا يهمك، نحن نتوسط لك وسنقف معك، ولا نتركك أبداً.
قلت: يا أخي الحبيب! هذا كلامٌ لا ينفع، ولكن افرض أن أصدقاءك كانوا صادقين جادين فيما يقولون، أنك إذا وقعت في ورطة خلصوك منها، هل يستطيع إخوانك إذا حملت على النعش أن ينزلوك من النعش وتمشي على قدميك؟! هل يستطيع زملاؤك إذا جاءت الملائكة لتقبض روحك أن يدفعوا الملائكة عنك بواسطة؟! هل يستطيع زملاؤك إذا جاء أقرباؤك وأدخلوك القبر ثم أدخلوك ظلمة اللحد، وضرب رأسك على الأرض؟! أحد الإخوان في البارحة قال: كنا في مسجد الشيخ ابن قعود قال: وإذ بي أجد شاباً شعره ما شاء الله، مسرف على نفسه -أسأل الله لنا وله الهداية- أجده متأثراً ويستغفر ويقرأ القرآن، يقول: فرأيت فيه علامات الانكسار وظاهره الانحراف، فسلمت عليه، فقال: يا (مطوع)! تعرف تدفن ميتاً؟ قلت: خيراً إن شاء الله، نصلي وبعد ذلك ندفنه، قال: فصلينا ثم صلينا على الجنازة، وكل واحد منكم سيُصَلَّى عليه، وسوف تُخْلَعُ ثيابه، ويُصَبُّ الماء على بدنه، وأنا أولكم وسوف أُغسَّل وتُغسَّلُون، وأُكفَّن وتُكفَّنُون، ونُحمل على النعش وتُحْمَلُون، وندخل في ظلمة اللحد وتدخلون، وسوف نُسْأَل وتُسْأَلون، وسوف يغلق اللِبنَ -ويمكن أن لبنةً تنزلق على وجهك في القبر- وسوف يغلق اللبن علينا ويغلق عليكم، وحينئذٍ لا تجد بصيص نور ولا شمعة أو نصف شمعة أو ربع شمعة في اللحد، هذه الفلل الفسيحة التي تتمشى فيها وتتعب من المشي، أين تتمشى في اللحد؟! لا تستطيع أن تحرك كتفك هكذا ولا هكذا، هذه قضية ضعوها بين أعينكم، وهذا المصير سوف يجمع كل الناس، الملوك الأمراء الوزراء الأثرياء الأغنياء الفقراء كلهم سيدخلون المقابر، كلهم سوف يوضع اللبن على رءوسهم، كلهم سوف يدخلون ظلمة اللحود، كلهم سوف يلبسون الشاش الأبيض وتنزع منهم الملابس وكل ما تحلو به في الدنيا.
تذكروا هذا جيداً يقول صاحبنا: فلما صلينا على الجنازة وذهبنا إلى المقبرة ثم نزلنا، وهؤلاء لا يعرفوا كيف يقبرون؟ وهذا صديقٌ له وربما من أهله كذلك.
أحياناً -يا إخوان- تعجب! والله رأيت بعيني جنازة ويتبعها ثلاثة أو اثنين فقط، سنة اتباع الجنائز مضيعة، الناس لا تتبع إلا جنازة من تعرف، وإذا جاء الناس دخلوا المقابر يتفاخرون، وأعجب ما ضحكت له -وشر البلية ما يضحك- قبل مدة كنا في المقبرة وإذ بي أجد شخصاً قاعداً يوزع على الناس قوارير ماء بارد، جزاكم الله خيراً يوزع على الناس ماءً بارداً، أيها الحبيب! اجعلهم يذوقون العطش قليلاً، أنت الآن توزع على الموجودين الذين دفنوا الميت ماءً بارداً، لكن هذا الميت الذي نشف ريقه، والتراب انهال على رأسه، من الذي يعطيه قارورة ماء؟ القضية صعبة صعبة جدا، ً ولكن الناس في غفلة، والغافلون من المصرين على الهلاك، الذين يستمرون ويصرون على الغفلة هم من المصرين على الهلاك.
قال صاحبنا: فنزلنا وأخذنا الشاب الذي نريد أن ندفنه، ونزلت في القبر ومعي صاحبي قال: فلما جئنا ننزله هكذا تعرفون الإنسان عندما يقف على شفير اللحد، أنت حينما تضع الميت ربما تضع رجلاً في اللحد ورجلاً فوق اللحد أو رجليك فوق اللحد وأنت تنحني لتضع الميت في القبر، قال: فلما وضعته هكذا سألت نفسي، قلت: ماذا ينفعه الآن؟ هل ينفعه أنه فلان بن فلان آل فلان؟! هل ينفعه أنه فلان بن فلان من قبيلة كذا أو من قبيلة كذا أو من نسب كذا؟! هل ينفعه أن أباه كان صاحب ملايين؟! هل ينفعه أن عنده شهادة ترجمة؟! هل ينفعه أن عنده وعنده؟! والله لا ينفعه إلا عمله الصالح: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
يقول صلى الله عليه وسلم: (يموت ابن آدم ويتبعه ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وولده ويبقى عمله) ثم إذا وضعوك في اللحد وأغلقوا اللحد باللِبن وأهالوا التراب، ثم بعد ذلك ذهبوا وتركوك، أيها الناس! في فصل الشتاء لا أحد يعطينا بطانية، درجة البرودة في الأرض عالية لا يوجد شيء ينفع، عندك عمل صالح يدفئك في البرد، أيها الناس! درجة الحرارة خمسين، وباطن الأرض ملتهب بالحرارة لا أحد يعطينا (مكيفاً) لا أحد يعطينا ماء لا أحد يرش على القبر ماء حتى يصلنا أيها الناس! كلبٌ من الكلاب يتبول على القبر لا أحد يبعد الكلب عن القبر! أنا فلان بن فلان ما يدخل علي أحد إلا بعد أن يستأذن من السكرتير، الآن الكلب بن الكلب يدخل ويبول على القبر ولا أحد يرده عن القبر؟! أيها الحبيب! هذا مصير الدنيا.
افتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل
آخر الشراب بول نجس، وآخر الطعام خراءة وعذرة، وآخر الجمال دودٌ وضعف، وآخر التفتح ذبولٌُ ونهاية.
إن الذين يتأملون حقيقة الدنيا وما تئول إليه يزهدون فيها حتى لو اجتمعت بين أيديهم، نسأل الله أن يبصرنا بحقيقة هذه الدنيا: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].(127/10)
تبرؤ الأصحاب والأحباب منك يوم القيامة
أيها الأحبة: المصرون على الهلاك الذين شقوا في النار لهم فيها زفير وشهيق: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] من الذي يرد عنك عذاب الله؟ من الذي يحول بينك وبين ملائكة جهنم؟ من الذي يثبت لك الجسر على الصراط حتى تمر عليه مطمئناً؟ من ينفعك: رئيسك؟ قريبك؟ حبيبك؟ أميرك؟ ما ينفعك إلا الله ثم عملك الصالح؛ فتعلق بهذا يا مسكين.
وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
أمك التي جعلت جوفها لك حواءً، وثديها لك سقاء، وسهرت عليك الليل، وزالت عنك القذى والأذى بيمينها التي تأكل بها تأتيك وتقول: أعندك حسنة يا ولدي؟ {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] إذا نفخ في الصور تضيع الأنساب، الأم ما عادت أماً، والأب ما عاد أباً، والزوجة لم تعد زوجة، والقريب لم يعد قريباً: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] ما الذي ينفع؟: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [المؤمنون:102 - 103] خسروا أنفسهم، ما خسر المال ولا خسر سيارته، ولا خسر وظيفته، بل خسر نفسه، أولئك الذين نسوا الله فنسيهم، خسروا أنفسهم.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:101 - 105] وهذا السؤال لكل مصرٍ على المعصية ولكل مصممٍ على الذنب، ولكل متكبرٍ على التوبة والأوبة والرجوع إلى الله: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:105 - 106] الشقاوة جلساء السوء الشيخ فلان بن فلان في الجمهورية الفلانية العربية يفتي بجواز الربا، وأخذت بفتواه واكتتبت في بنك كذا، اذهب نادي الشيخ بسلامته واجعله يحاج لك عند الله جل وعلا: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:109].
الشيخ الذي أفتى الناس بجواز الربا إذا جاء يوم القيامة رب العباد يفصل بينهم ويحاسبهم ولا تخفى عليه منهم خافية يقول: يا ألله! أنا الذي أفتيتهم، لا.
أبداً أنت كنت تعرف أن الشيخ ابن باز أتقى علماء الأرض، وأنت تعرف أن الشيخ ابن عثيمين لا يحابي أحداً، وأنت تعرف أن الشيخ ابن جبرين من أتقى عباد الله الصالحين، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، فما الذي جعلك تترك فتوى الصالحين الأتقياء الأبرار الأطهار الأخيار وتختار فتوى المدخنين وفتوى الذين ربما أفتوا مداهنة للحكام وإرضاء للعوام؟ {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:105 - 106] كانت شطارة ومعلومات صحافة وتحدياً وإمعاناً في العناد، الأصوليون يفعلون، والمتشدقون يتوصلون والذين يفعلون يتركون، وهلم جرا {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] لكن عندنا طلب {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108].
انتهت القضية فصل الأمر طويت الصحف جفت الأقلام وقف الناس للقضاء {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110] أولئك المصرون على الهلاك الذين يستهزئون بدين الصحوة، الذين يستهزئون بالذين نوَّر الله وجوههم بالطاعة، وشرَّف الله جباههم بالسجود، وكرم أنوفهم بالركوع، المستهزئ بهؤلاء ولم يتب من المصرين على الهلاك: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110] تستهزئون بهم تعلقون عليهم (كاريكاتير) زاوية صحفية تنكيت مجالس (مطاوعة) هيئة أمر بمعروف ونهي عن منكر، (مطاوعة معقدون): {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون:111].
لقد كان الاستهزاء يؤذينا، لقد كان (الكاريكاتير) يجرح قلوبنا، لقد كانت الكتابات الصحفية تؤذينا: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:111] هذه النتيجة في الصبر والثبات بإذن الله جل وعلا.(127/11)
أسباب الهلاك(127/12)
من أسباب الهلاك: الإصرار على الذنوب
أيها الأحبة: إن الإصرار على الذنوب من أسباب الهلاك، والمصرون على الذنوب هم المصرون على الهلاك، الذين يدعوهم الله جل وعلا، ويدعوهم نبي الله، ويدعوهم الدعاة إلى الله بكلام الله وكلام رسوله فيصرون، يقول الله جل وعلا وياليتنا نتدبر القرآن: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6].
أنتم الآن تعيشون على أرضٍ عاش فيها قومٌ قبلكم، ومنهم من أهلكهم الله جل وعلا، ومن هذه الأمم التي كانت قبلكم كانت أشد منكم قوة، وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرناها نحن، لا تظنوا أننا سخر لنا في الأرض ما لم يسخر لمن قبلنا، بل لقد سخر للذين من قبلنا أشياء أعظم مما سخرت لنا: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} [الفجر:1 - 11] قبلنا أمم أقوى منا فأهلكهم الله بذنوبهم وأنشأ بعدهم قرناً آخرين.
أفتظنون أنا معاشر هذا القرن نكون أقوى ممن قبلنا، أو نكون أقوى على الله جل وعلا؟ لا والله؛ والله ما صنعنا شيئاً وإنما أودع الله في الكون شيئاً وخلق لنا عقولاً أدركته فاستفادت منه، الذين صنعوا الطائرة هل صنعوا القوانين التي ترفعها من الأرض، أم أن الله جل وعلا جعل قوانين الجاذبية والسرعة وقوانين أخرى تتناسب مع سرعةٍ معينة في اتجاه ريحٍ معينة، في دفعٍ معين أن ترتفع الأجسام بسببها عن الأرض، إذاً نحن ما خلقنا الهواء الذي له دورٌ في رفع الأجسام عن الأرض، ونحن ما خلقنا قانون الجاذبية الذي يثبت هذه الأمور على الأرض، وإنما هدانا الله إلى سنن أودعها في الكون فعملنا بها وأنتجنا.
هذه السنن لا يختص بها الكفار، بعض الناس يتوقع أنه لا ينتج إلا كافر، ولا يخترع إلا كافر، بل الذي يعمل عقله ينتج، بوذي ينتج نصراني ينتج يهودي ينتج مسلم ينتج، المهم من أعمل عقله وتفكر في سنن الله جل وعلا فإنه ينتج ويطور ويخترع ويبتكر، وإلا فما معنى أن شخصاً يسافر من إسرائيل يدرس في كندا، وشخصاً يسافر من دول عربية يدرس في كندا، وآخر يسافر من كوريا ويدرس في كندا، ورابع يسافر من الصين ويدرس في كندا، فيرجع ثلاثة يخترعون والرابع لا يخترع؟ هل العقل العربي عقل منتهي الصلاحية لا يخترع والعقل الإسرائيلي والعقل الكوري والعقل الصيني يخترع؟ لا.
القضية قضية اعمل وفكر وطور وادرس وحلل واستنتج واستقرئ حينئذٍ تستطيع أن تعلم أن القضية ليست قضية عجز، أنوفنا كأنوفهم، وعيوننا كعيونهم وآذاننا كآذانهم لا نستطرد كثيراً، المهم ينبغي أن ندرك ذلك جيداً، فهناك أمم أقوى منا عاشت على الأرض وملكت أكثر مما ملكنا، وأبدانهم أقوى من أبداننا، ومع ذلك لم يبال الله بهلاكهم، فلنتنبه جيداً.
ولذلك قارون لما قال قومه له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:76 - 77] ماذا قال؟ {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] ماذا قال الله؟ {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] إذا أصر الإنسان على الذنوب وأصبح في هذه الحالة من العناد والإصرار والمكابرة والغفلة فهو مصرٌ على الهلاك ولا حول ولا قوة إلا بالله!(127/13)
من أسباب الهلاك: كراهية الصلاح للأمة
المصرون على الهلاك أولئك الذين يريدون لنا ألا تصلح بيوتنا ومجتمعاتنا وأمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد جعل سنة كونية إن نحن اجتهدنا في الإصلاح أن الله لا يهلكنا، وإن تهاونا ورأينا المعروف يضمحل ويقل، والمنكر يزيد ويكبر وسكتنا، وكلٌ جعل عمامته على وجهه وكأن الأمر لا يعنيه، هذا مؤشر الهلاك، قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116] اسمع: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] يعني: إذا أصلحنا أنفسنا فإن الله لن يهلكنا، وإذا تساهلنا وقعد بعضنا يثبط بعضاً وقع الهلاك.
ما رأيت أقبح من الذين يلومون المصلحين على العمل، تجد عبداً من عباد الله وداعية من الدعاة إلى الله مجتهداً في الإصلاح، فإذا ابتلي بنوعٍ من أنواع البلاء يأتي أحد عامة الناس، ويقول: ما الذي جعله يتدخل في الناس؟ لماذا يتدخل فيما لا يخصه؟ نحن أمة خير فضلنا الله لأننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونصلح مجتمعاتنا وندعو إلى الله، أما أمة الماعز هذه ليست أمة الإسلام، أمة الغنم! أمة النعاج! هذه ليست أمة الإسلام.
ولذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنتم يومئذٍ كثير) تصور! الأمة جفنة من الطعام وكل الأيدي تخدش وتأكل من الطعام، وتنهش من كل جانب: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا.
أنتم يومئذٍ كثير -الآن العالم الإسلامي مليار مسلم، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة، ولكن قال صلى الله عليه وسلم- أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، وينزع الله المهابة من صدور أعدائكم؟ قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) أصبحت أمة غثائية إلا من رحم الله وقليلٌ ما هم، ولو كانت أمة شهادة أمة تضحية أمة فداء أمة تتاجر بالدم ما يقتربها صربي ولا يقتربها كرواتي ولا شيوعي ولا غربي ولا نصراني.
نقول أيها الأحبة: إن ترك الإصلاح من أسباب الهلاك، والذين يثبطون أو يرجفون بالمصلحين أولئك الذين يريدون الهلاك، ولماذا لا نتعاون على إصلاح بعضنا بعضاً، إصلاح بيوتنا، إصلاح مجتمعاتنا؟ فإن من حذرنا ونهانا وأبعدنا وطردنا عن الإصلاح فذلك الذي يريد هلاكنا علم بذلك أو لم يعلم:
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم(127/14)
من أسباب الهلاك: انتشار الظلم
أيضاً من أسباب الهلاك: الظلم، هلكت أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتعٍ فيه.
أيها الأحبة: الظلم من أخطر الأمور، رب عبدٍ من عباد الله يرتكب ذنباً فيما بينه وبين الله فيتوب منه، ورب شاب يفعل فاحشة ثم يتوب توبة نصوحاً بعدها، لكن الظلم من أخبث أسباب الهلاك ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13] وقال ابن تيمية رحمه الله عند قوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال: وإن دلت الآية ابتداء وأصالة على أن الظلم الوارد فيها معنيٌ بالذي جاء في سورة لقمان: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] لكن يدخل فيه ظلم العباد بعضهم بعضاً.
وبين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه) لأن هذا فلان بن فلان! هذا له واسطة! هذا له جاه! (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع) أحضروا هذا الذي لا يستحي، هذا الذي ليس بكفوٍ، أحضروه لنا: (أقاموا عليه الحد) هذا من أسباب الهلاك؛ لأن هذه صورة من صور الظلم، إذا كان الظالم قوياً لا ينتصف منه للمظلوم فبقي المظلوم مظلوماً.
تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنم
وما من يدٍ إلا يد الله فوقها ولا ظالمٍ إلا سيبلى بأظلم
هذه من صور الظلم والحيف والجور في التطبيق، ولذلك ينبغي أن نتواصى في أن يكون الإنكار على الشريف والوضيع، والصغير والكبير، فإن كان منكراً كلٌ ينكر عليه، ويؤتى إليه، ويعطى ما يناسبه، لكن لا يعني ذلك محاباته ومداهنته، وإن كانت القضية حداً من حدود الله: (وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) لما سرقت المخزومية فعظم ذلك على قومها فقالوا: بمن نشفع؟ من الذي يتوسط لنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: حب رسول الله وابن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد بن حارثة، كان الرسول يحبه ويحب أباه، فجاء أسامة يتوقع أن المسألة شفاعة عادية، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجهه وانتفخت أوداجه: (يا أسامة! أتشفع في حدٍ من حدود الله؟! وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
فإذا رأيت الأمة تقام فيها الحدود على الصغير والكبير، والشريف والوضيع، والعالي والحقير فهي علامة من علامات سلامتها، وإذا رأيت الأمة في محاباة: فلان يفعل وفلان لا يفعل وفلان يسجن وفلان لا يسجن وفلان يقام عليه الحد، وفلان لا يقام عليه الحد، وفلان تقع عليه العقوبة وفلان لا تقع عليه العقوبة وفلان عليه القانون وفلان لا قانون عليه، فهذه من علامات الهلاك ومن مؤشرات الهلاك.(127/15)
من أسباب الهلاك: الترف والإعراض عن المواعظ
المصرون على الهلاك أولئك المتسلطون بالترف، المعرضون عن المواعظ، المصرون على الذنوب، الغارقون في وحل الشهوات، القاعدون بكل صراطٍ يوعدون وكما قال الله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26] ينهون الناس عن الخير، وهم أيضاً ناءون عن الخير، يعني: لم يقتصر شره على نفسه أنه بعيد عن الخير لوحده، بل هو بعيدٌ ويقول للناس: ابتعدوا، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] إذا رأيت المترفين الفساق متسلطين معرضين فتلك من علامات الهلاك، قد تقول: يا ربنا! وما بالنا نحن، هؤلاء مترفون مصرون غارقون؟! لا.
لأن الأمة إذا رضيت بالمنكرات وسكتت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر النصيحة، مصيبة الأمم الآن ألسنة في المجالس الخاصة، حال الشخص إذا أغلق المجلس في الأربعة الجدران قام يتكلم وينتقد (فيلسوف) وأستاذ، وإذا خرج وجلس مجلساً لا ينكر منكراً ولو برسالة، إذا كنت لا تستطيع أن تواجه لقصور أو لعدم قدرة أو لعدم تعود، اكتب رسالة إلى صاحب المنكر الذي تراه وقل له: اتق الله وأنت فلان بن فلان.
أعرف شاباً لم يؤت لساناً فصيحاً ولم يؤت بلاغةً ولم يؤت علماً ولا شيئاً يذكر، ولكن متخصص في أسلوب من أساليب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول: أنا أنصح بالرسالة، أي إنسان صاحب منكر أرسل له رسالة، وأرسل له الرسالة الثانية، ومستمر معه في الرد، أنا ماذا أخسر؟ حبر أكتبه على ورقة، والدافع الغيرة على الأمة إرضاء لله جل وعلا، تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم).
فقعودنا وسكوتنا عن إنكار المنكرات فيما نرى في مجتمع لا أحد يقول: مجتمعنا خير، نعم.
مجتمعنا فيه خير عظيم، أقول: في مجتمعنا خير عظيم، لكن لا يعني وجود الخير عدم وجود الشر، ولذلك كان لا بد من الثناء على الخير وعرفان الفضل لأهله، ولا بد من إنكار المنكر، وأنزلوا الناس منازلهم، وحدث الناس بما يفقهون حتى لا يكذب الله ورسوله.
البطر أيضاً من الأسباب التي تذكر ضمن الترف، والتي من وقع فيها وأصر عليها ولم يلتفت لطاعة الله حريٌ بأن يختم له بخاتمة السوء ما لم يتب إلى الله جل وعلا قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] بطرت من البطر والأشر.
يا أمة محمد! أسأل الله ألا يأتي زمان يقال: كان هنا أمة يقال لهم: أمة كذا.
أسأل الله ألا يأتي زمانٌ بعدنا يقال: كان في ذلك المكان بيوتٌ ودورٌ وضِياعٌ ومزارع.
أسأل الله ألا يأتي يومٌ يقال: كان في البلد الفلانية كذا وكذا من المنشئات والطرق، وغيرها؛ لأن الله تعالى قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58] نعم، {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان:25 - 28] القضية قضية عبودية لله، خلقنا للعبادة فلماذا نضيع الوقت في بنيات الطرق، أنت مخلوقٌ للعبادة أين كان منصبك؟ وأين كان موقعك؟
الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم
الناس وجدوا ليخدم بعضهم بعضاً: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32].(127/16)
من أسباب الهلاك: الإصرار على الكبر
أيضاً من أسباب الهلاك: الإصرار على الكبر والإصرار على التعالي والإصرار على ادعاء الفضل للنفس، يوسف عليه السلام لما عبر الرؤى للمساجين في السجن، وأثنوا على تعبيره والتفتوا إليه وأعجبوا به قال لهم: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] لم يقل: معكم شخص محترم، أنتم معكم إنسان متخصص في تعبير الأحلام بالقدرة الخارقة والتنبؤات الصادقة: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] اعترف أن الفضل لله واشتغل بالدعوة إلى الله في السجن.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] ما نسب النبي صلى الله عليه وسلم الهداية إلى نفسه أو قوته الذاتية أو قدراته الشخصية، قال: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] ولذلك فالمتكبرون من المصرين على الهلاك بالتكبر وغمط الناس.
أولاً نقول لكل متكبر: يا سعادة المتكبر! إذا ذهبت إلى دورة المياه ما الذي يخرج من جوفك؟ عسل مصفى، إن ذبابة النحل أطيب منك، يخرج من جوفها عسل: {شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69].
الذي يفتخر بطوله وعرضه وشحمه ولحمه يقال له:
لا تحقر الرأي يأتيك الصغير به فالنحل وهو ذبابٌ طائر العسل
المتكبر نقول له: إذا دخلت إلى دورة المياه فانظر ماذا يخرج من جوفك؟ لا يخرج إلا نجاسة، فالذي يتكبر فلينظر ماذا يخرج؟ يخرج العذرة، مر أحد الضعفاء بجوار واحد من المتكبرين أخذ يبحلق ويلتفت ولا يراه إلا بطرف عينه، فقال ذلك المتكبر للمسكين: أنت أما تعرفني؟ قال: بلى والله أعرفك؛ أنت ابن آدم المسكين، تحمل في جوفك العذرة، وبعد موتك جيفة قذرة، وتدميك البعوضة، وتقتلك الشرقة:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
الماء الذي أنت تسعى إليه لكي تدفع الغصص إذا شرقت بالماء هلكت، وتقتلك الشرقة، فعلامَ الكبر إذاً؟ ولذلك المتكبرون من صورة هلاكهم قال صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم) نعم.
يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر من هوانهم على الله، قال ربنا جل وعلا: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري) من الذي ينازع الله في صفاته؟ {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية:37] الله جل وعلا له الكبرياء فالمتكبر على العباد هذا أهون الناس يوم القيامة.
فيا أخي الحبيب: كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد) وكان صلى الله عليه وسلم سيد الأولين والآخرين يتواضع، تأخذه العجوز وتجره إلى قارعة الطريق وتتحدث معه الساعة، فيسمع حاجتها ثم ينتهي ويعود إلى صحابته، والصبي يقابله ويكلمه، ويجلس الصبيان على حجره، ويحمل أمامة بنت زينب بنت بنته على كتفه، وجدها تتعثر فحملها صلى الله عليه وسلم وصلى وهي معه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها، نسأل الله أن يمنح المسلمين التواضع.(127/17)
من أسباب الهلاك: التنطع والتشدد
أيضاً من أسباب الهلاك: التنطع والتشدد الذي يخرج الإنسان عن دائرة تعبد الله بالشرع حتى يخرج عن الشرع، النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال: (هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون!) من هم المتنطعون؟ الذين يتقربون إلى الله بالتشديد على أنفسهم في الامتناع عن أمورٍ أباحها الله لكي يتقوى بها العباد على طاعة الله، أولئك الذين جاءوا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته فأجيبوا عما سألوا فكأنهم تقالوها، فقال أحدهم: وما نحن بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن ينبغي أن نتعبد عبادة خاصة، فقال أحدهم: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: وأما أنا فلا أستظل، وقال الآخر: وأما أنا فلا أتزوج النساء، وقال أحدهم: وأما أنا فأصوم ولا أفطر، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك غضب وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني، إني آكل اللحم، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).(127/18)
أسباب أخرى للهلاك
من الناس من يهلك نفسه ويصر على الهلاك بأن يرى أن الناس هؤلاء كلهم ليس فيهم خير ولا أمل أن ينجوا أو يتوبوا ولا يدخل أحد منهم الجنة ولا يبقى إلا هو فتجده متنطعاً متشدداً، حتى يأتي اليوم الذي ربما مل من العبادة فعصى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله على بصيرة! وقد سمعنا بأناس عجباً لشأنهم تجده يتقرب إلى الله بما ليس من أسباب القربة، التقرب إلى الله يكون بما شرع الله جل وعلا.
أيضاً إذا انتشر الفساد وكثر الخنا والخبث فإن ذلك من علامات الهلاك، قالت عائشة: (أنهلك وفينا الصالحون يا رسول الله؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث) والخبث هو الزنا ودواعيه، فإذا رأيتم البلاد ينتشر فيها ما يدعو ويقرب إلى الزنا، ويتيح الاتصال الممنوع بين الرجال والنساء عبر كل صعيدٍ ومجال فذلك نذير الهلاك ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومن علامات الهلاك: ترك الإنفاق في سبيل الله، كان الصحابة في غزوة فحمل أحد المسلمين على الروم، فقال الناس: أما هذا فألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: نزلت فينا نحن معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه؛ كنا أهل ضياعٍ وزراعة، فقلنا: لو عدنا إلى زراعتنا وضياعنا، فأنزل الله جل وعلا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].
إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فاعلم أنها من علامات الهلاك، إذا وقف الصائح يصيح تبرعوا للمسلمين الذين ذبحوا ذبح الشياه، تبرعوا للبوسنة والهرسك تبرعوا لـ أفغانستان، تبرعوا لـ كشمير، تبرعوا للفليبين، تبرعوا لـ بورما، تبرعوا لـ أرومو، تبرعوا لكذا، ورأيت الناس يمرون معرضين لا يبالون، وإذا نظروا إليه يبيع أحذية بريالين سارعوا إليه معرضين عن الإنفاق في سبيل الله مقبلين على عرضٍ تافه من الدنيا حقير.
فهي خطيرة جداً ومن الذي يدعى إلى ذلك إلا الذي يجد فضلاً من المال، أما الذي لا يجد إلا ما يكفي نفسه وأولاده فلا حرج عليه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91].(127/19)
من أسباب الهلاك: وجود أئمة الضلال
من المصرين على الهلاك أولئك الذين يَضلون ويُضلون وينهون عن الحق وينئون عنه، أولئك الذين يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون، مجموعة علمانيون يجلس بعضهم يقول: اللحى سبب التخلف الثياب القصيرة سبب التخلف من يوم نظرنا هؤلاء (المطاوعة) ونحن نرجع عشر سنين إلى الوراء، يا أخي الحبيب! ولو حلق الناس لحاهم هل يستطيعون صنع طائرة؟ لو أسبل الناس ثيابهم هل يصنعون صاروخاً؟ سبحان الله! كأن اللحى هي التي منعت التقنية والتطور، كأن اتباع السنة في الثياب هو الذي منعنا من التقدم، وكأن بيننا وبين أن ننافس في صناعة القنبلة الذرية إلا أن نشتري في كل بيتٍ طبلةً وعوداً وبثاً مباشراً، سبحان الله العلي العظيم! إذا كان -كما يقول العلمانيون وأذنابهم- هؤلاء المتدينون المتشددون المعقدون هم سبب التخلف والتمدن، ففي المقابل سيكون الفن والسينما وما أدراك ما تحت هذه الأسماء من أسباب التقدم، هل رأينا شيئاً؟! الدول تدخل في حروب فحينما يشتد حمى الحرب، فهل نذهب ونرسل ثلاثين فناناً وثلاثين طبالة على الحدود من أجل أن يرجع العدو؟! لا.
لا ينفع إلا جندي في قوة، ويقاتل على عقيدة وفي سبيل الله، وعالِمٌ يثبت بقال الله وقال رسوله، ويعد الناس إن صدقوا وجاهدوا لتكون كلمة الله هي العليا بالجنة، هذا الذي يدفع عن البلاد الشر.
أحياناً أجلس في مجالس وقد لا أعرف فيها، بل أُعد من عامة الناس بفضل الله جل وعلا، أحضر مجلساً بدون (بشت) وبدون شيء وأجلس، وأستمع فيأتيك شخص يقول: والله -يا أخي- هؤلاء المعقدون هؤلاء (المطاوعة) والله لا يدرون ما في الدنيا، هؤلاء الملتحون هم سبب التخلف، أقول: الذين عصوا وعاندوا هل هم الذين قدموا للأمة الخير؟ ماذا قدم مجموعة من أولئك الذين أخذوا ينتقدون الدين والمتدينين والأصوليين ولا همَّ لهم إلا: الهيئة فعلت الهيئة طاردت الهيئة لاحقت شخصاً، والهيئة شخص قفز من السور ومات، والهيئة والهيئة؟! يا أحباب: هل تظنون أننا إذا حلقنا لحانا سوف نتقدم؟! وهل إذا أسبلنا الثياب سوف نتقدم؟! وإذا عصينا الله سوف نتقدم؟ والله ما يزيدنا ذلك إلا هلاكاً: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) لقد عرفنا أناساً أهل ذنوب ومعاصي لكن إذا تلكم علماء الدين والشباب الذين يدعون إلى الدين ورقعته قبلوا ذلك، نعم.
سيجارته في جيبه لكن كل شيء يهون إلا الدين فلا يترك أحداً يتعرض للدين وأهله، أنا صاحب معصية لكن إياك أن تتعرض للدين! فهذا ترجو له خيراً عظيماً، فذلك العاصي الذي يحب الصالحين ويحب الدعاة وأهل الخير، تسأل الله له بحبه الصالحين أن يمن عليه وأن يرزقه ويستر عليه، وأن يعينه ويعافيه ويهديه إلى التوبة، وربما يأتيك إنسان قد يكون ربما أقل ذنوباً ومعاصيَ، لكن يكره شيئاً له دين ومتدين، وكلمة حق، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، هذا فليبشر بالفضيحة، وليبشر بالمصيبة: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
اللهم من أراد بنا فتنة فأشغله في نفسه، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم من أراد بنا وبعلمائنا وولاة أمرنا وحكامنا هلاكاً فأشغله بنفسه، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا ودعاتنا وحكامنا على طاعتك، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك بأعداء الصالحين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم من افترى عليهم فأخرس لسانه، وعطل أركانه، وأهلك بنانه ولسانه يا رب العالمين! اللهم إنك قلت: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) اللهم من عادى الصالحين بغضاً فيهم ومن عادى العلماء كرهاً لهم، ومن عادى الدعاة أشراً وبطراً وكبراً، اللهم أهلكه وخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! إنهم لا يعجزونك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام! ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين وصلى الله وسلم على محمد.(127/20)
الأسئلة(127/21)
السبيل الأمثل في البعد عن الملاهي
السؤال
ما هو السبيل الأمثل في البعد عن الملاهي والملذات التي توقع الإنسان في المعاصي والهلاك؟
الجواب
أول طريقٍ إلى ذلك التخلص؛ فالذي يريد أن يتخلص من الخمر لا يبقي عنده قوارير منه، والذي يريد أن يتخلص من المخدرات لا يبقي حبيبات فوق الرف، والذي يريد أن يتخلص من المجلات الخليعة يحرقها كاملة، والذي يريد أن يتخلص من الأغاني والصور الخليعة فعليه أن يحرقها جميعاً، هذا أمرٌ ينبغي أن ندركه، أنت كيف تتخلص من نفايات بيتك؟ تخرجها من البيت وترميها في الزبالة، فكذلك زبالة المعاصي وحثالة الذنوب تتخلص منها بإبعادها.
الأمر الثاني: بأن تبتعد أنت عن أهلها، لا تجالس أصحابها، ولا يعني ذلك أن تترك مجالسة أهل الشر وتبقى وحيداً، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، لكن عليك أن تبحث عن الأخيار وأن تجالسهم.(127/22)
خطاب يمنع توظيف النساء في ميادين عمل الرجال
أيضاً هذا خطاب يقول: إشارة لحالة سعادة وكيل وزارة الصحة المبني على إحالة معالي وزير الصحة لخطاب سماحة الشيخ ابن باز الرئيس العام للإفتاء والدعوة، المعطوف على ما جاء في اللائحة التنفيذية لنظام المؤسسات الطبية الخاصة للمادة (27) فقرة (د) حول قيام بعض العيادات الخاصة بتوظيف نساء في الاستقبال يستقبلن الرجال والنساء في مرافق العيادات والتحدث معهن وهن متبرجات، وقد كثرت الشكاوى في هذا الجانب، وعليه فيجب مراعاة عدم توظيف النساء في ميادين عمل الرجال، كما يجب أن تكون العيادات غير مختلطة بين الرجال والنساء، مع التأكيد على منع التبرج والسفور من الموظفات والطبيبات، نأمل الاطلاع والتمشي بما جاء به.
مدير عام للشئون الصحية في منطقة الرياض الدكتور/ بدر بن عبد العزيز الربيع جزاه الله خير الجزاء وفرج عنه كل كربة، وصلى الله وسلم على محمد.(127/23)
المعوقون يتكلمون [1]
المعوقون والمعوقات طائفة منسية في المجتمع، وما أقل من يذكرهم، أو يتابع شئونهم أو يرصد أحوالهم، أو يتفقد حاجياتهم ومشاكلهم؛ لأنهم في اعتقاد بعض المفكرين عالة على المجتمع، وما علم هؤلاء أن الإعاقة الحقيقية في العقل وليس في البدن.(128/1)
مناط التكليف هو العقل وليس الجسد
الحمد لله على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة، نحمده سبحانه خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، نحمده سبحانه ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق، ونشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في ألوهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خير إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا حذر أمته منه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، وذلك بالتمسك بأوامره، والانزجار عن زواجره {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! حديثنا اليوم عن طائفة من أحبابنا وأبنائنا وإخواننا وأخواتنا يتقطع القلب حسرةً وألماً على ما هم فيه من الحال، ولكن قضاء الله وقدره بعباده جميلٌ ولو جهلنا حكمة ربنا فيه.
أيها الأحبة! حديثنا اليوم عن المعوقين والمعوقات من أبنائنا وبناتنا، وإخواننا وأخواتنا، أولئكم طائفة منسية من هذا المجتمع إلا من رحم الله، وما أقل من يذكرهم، أو يتابع شئونهم، أو يرصد أحوالهم، أو يتفقد حاجياتهم ومشاكلهم، وليس بدعاً، أو جدارةً، أو ذكاءً مني أن أطرقه بينكم، ولكن لما وجدته من إلحاح ومتابعة من طائفة من المعوقين من خلال رسائلهم واتصالاتهم الشخصية إلى حد قال لي فيه أحدهم: والله إن المشايخ لا يهتمون بنا، وإنهم هم أول الذين يحتقروننا، قلت: يا سبحان الله! ما الذي بلغك إلى هذا الحد حتى قلت هذا الكلام، أو أصدرت هذه الأحكام؟! فقال: لأننا منذ مدة طويلة نجتمع مع أمثالنا المعوقين، ونكتب حاجياتنا، ونرسلها إلى عدد من إخواننا، ولكن لا نجد من يلتفت لنا، أو يتفهم مشاكلنا، أو يتفقد حاجياتنا.
اعلموا -أيها الأحبة- أن الله جل وعلا جعل مناط التكليف العقل، فحيثما وجد العقل فالإنسان مكلفٌ بعقله، وإذا غاب العقل سقط التكليف، يقول صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل، وعن الصغير حتى يكبر، أو يبلغ).
وكل هذا فيه دلالة جلية واضحة على أن مناط ومتعلق الأمر والنهي هو العقل، فحيثما وجد العقل، فصحابه مكلف سواءً كان أعمى أي: لا يبصر بعينيه، أو كان مشلولاً، أو معوقاً، لأن مركز الاستجابة والاستقبال وهو العقل لا يزال حياً يقظاًَ نابضاً بتلقي وتفهم الأمر، فعند ذلك يكون صاحبه مكلفاً مهما كانت نوع إعاقته بالقدر الذي يستطيع العمل معه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
أيها الأحبة في الله! إذا علمنا ذلك، علمنا أن كل معوقٍ مطالب بالالتزام، ومطالبٌ بالاستقامة، ومطالبٌ بالمحافظة على الصلوات مع الجماعة بحسب استطاعته وقدرته، ومطالبٌ بالاستجابة لأمر الله في كل دقيق وجليل من أوامر الله جل وعلا ومناهيه، لا كما يظنه بعض النفسانيين أو التربويين الذين هم أجهل الناس بحقيقة علمهم، ولا أقول كل النفسانيين أو التربويين جهلاء، لكن أقول: إن الجهل يخص طائفة منهم أولئك الذين يعالجون المعوقين بالطبول والعزف والموسيقى والطرب وعرض أمور لا ترضي الله جل وعلا، ويقولون: هذا نوعٌ من العلاج النفسي، وهذا نوعٌ من العلاج التدريجي لأولئك المعوقين، نقول: ينبغي أن تعيدوا لأولئك المعوقين الثقة بأنفسهم، أعيدوا لهم الجدارة والقدرة، وأشعروهم بأنهم قادرون أن يفعلوا أشياء قد لا يفعلها كثيرٌ من الأصحاء السليمين، ألم يعلموا أن أحمد ياسين من قادة الانتفاضة في فلسطين وهو رجل مصابٌ بالشلل الثلاثي، أو الرباعي، ما عاقه شلله، وما ردته إعاقته من أن يكون عنصراً وقطباً محركاً محرضاً مجاهداً في فلسطين.
أولم يعلموا أن عمرو بن الجموح الأنصاري قبل أحمد ياسين وقبل غيره كان رجلاً أعرج، وأراد الدخول في معركة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبناؤه: إن الله أعذرك، فأنت من أهل الأعذار {وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح:17] فغضب عليهم، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أولادي هؤلاء يردونني عن الجنة، والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة يا رسول الله! فأذن له الرسول في الجهاد، فجاهد في سبيل الله، وصبر وثبت حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
ألم يعلموا أن كثيراً من علماء المسلمين وقادة الجهاد والمجاهدين لا يزالون على نوع إعاقةٍ، وما ردتهم إعاقتهم عن أن يمضوا في سبيل الله، وأن يقدموا لدين الله ما استطاعوا من جهودهم.(128/2)
النظر للمعوقين بنظرة الاستخفاف والعجز ونتائج ذلك
ينبغي أن ننظر إلى أولئك المعوقين نظرة الثقة، ونظرة الجدارة، ونظرة المسئولية، ونظرة الكفاءة بأنهم ليسوا من العاجزين، أو المخلفين، وكثيرٌ منهم يسرف في عبارات الخضوع والرحمة والانكسار إلى حد يجعل المعوق يضيق من نفسه، أحدهم يقول: والله لا يؤذيني معوقٌ من المعوقين، يقول: والله لا يؤذيني إلا مبالغة كثيرٍ من الناس في هذا الانكسار، وفي تلك العبارات التي يظنون أنهم بها يترحمون، وما علموا أنهم بها يكسرون الجدارة والقوة والكفاءة، نعم.
نحن ننظر والله لهم بعين نسأل الله معها أن يعينهم، وأن يرفع إعاقتهم، وننظر لهم -أيضاً- بأنهم عليهم نصيبٌ من مسئوليات مجتمعهم، ولا أقول إن كل المعوقين من الذين وقعوا في هذه الحال، بل منهم رجالٌ عرفناهم يعولون أسراً عديدة، ولهم أدوار بارزة بناءة في مجتمعاتهم.
لكن المصيبة في هذه الأيام مصيبة طائفة من الشباب المعوقين يشكون هذه الحالة، وهذه النظرة، وهذا الموقف الاجتماعي منهم، ما هي النتيجة؟ ما هي النتائج التي ظهرت من خلال هذا الموقف الاجتماعي من نظرتنا إلى المعوقين؟ لقد انعزل طائفة من المعوقين، والتف بعضهم حول بعض، وماذا تظنون -أيها الأحبة- أن تملأ اجتماعاتهم به؟ يقول صاحبنا هذا: والله إننا لنجلس، وقد يكون صاحب المنزل، أو المعوق الذي يضيفهم يدق نوعاً من الحبوب، فيمزجه بالشاي، فنشربه حتى يطرب، أو يتخدر طائفةٌ منهم، فقد وقعوا في المخدرات.
ومن خلال رسالته، ومقابلتي له شخصياً، واطلاعي على هذا الأمر، علمت أن صديقاً له من المعوقين نظر إلى مجتمعه نظرة البعد، ونظرة اليأس والقنوط من أن يفتح له المجتمع دوراً، أو مجالاً بارزاً بناءً، فآثر العزلة، ووقع في طلق المخدرات ومصيبتها، فأخذ يتناول حبوباً بيضاء، وما هي إلا مدةً يسيرةً حتى أدمنها جسمه، فتناول حبوباً حمراء حتى أدمنها جسمه، ثم أصبح يتناول أنواعاً من الحشيش وغيرها، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما هي النهاية؟ لقد مات على هذه الحالة، مات وهو معوقٌ على هذه الحالة، وكثيرٌ من زملائه وأصدقائه لا يزالون يعانون من هذه المشكلة، يقسم بالله العلي العظيم، يخرج لي عصاه وعكازه الذي يتوكأ عليه، يقول: أرأيت هذا العكاز، والله إن من خلاله لتدخل مئات الحبات من المخدرات، وتدخل سجائر الحشيش، وتدخل أمور محرمة ممنوعة، وقد ينظر إلى هذا المعوق نظرةً بالغةً في الشفقة والرحمة، فيمر، ولا يقع في أيدي رجال الأمن، ولا ينتبه لما يوجد في عكازه، لست هنا أدعو إلى التشديد وسوء الظن بالمعوقين وتفتيش عكازاتهم.
ولكن أقول: اعلموا أن الالتفات عنهم، وعدم إعطائهم مكانتهم ومنزلتهم المناسبة في المجتمع جعلتهم يبحثون عن أمور أخرى حتى وقعوا في جحيم المخدرات، وما أدراك ما يقع بين بعض الشباب من المعوقين، ولا أعمهم، لأني أعرف منهم طائفةً من الصالحين، وطلبة العلم، والرجال الأكفاء، لقد اجتمع كثيرٌ منهم على مثل هذه المجالس مع ترك الصلاة والسباب والشتيمة، والجلوس على أفلام خليعة لمشاهدتها، وكثيرٌ ينظر إليهم بعين الرحمة والشفقة، يراه يقع في نوعٍ من المخدر، أو يقع في شرب الدخان، أو ينظر إلى الأفلام الخليعة، ويقول: هذا مسكين، هذا معوق.
إذا كنت تنظر إليه بعين الرحمة والمسكنة، فواجبك أن تشعره بدوره، وأن توقظه من غفلته، وأن تبوأه مكاناً مناسباً يزول عنه به تلك العقدة التي علقت به من نظرة مجتمعه إليه.
ووالله -أيها الأحبة- إن الحديث عن بعض الشباب المعوقين ليؤلم ألماً عظيماً إلى حدٍ يستحي الإنسان أن يذكر ما يدور بينهم، ولكن لم نجد ألذ من الصراحة، ولم نجد أسرع في العلاج من تشخيص المرض بصراحة: يقع كثيرٌ من بعض الشباب المعوقين حتى في اللواط والزنا -والعياذ بالله- والله لقد وقع كثيرٌ منهم في هذا، وبعضهم يلتف حول بعض، ويجالس بعض، فأصبحوا في بوتقة، وفي حلقة مفرغة مغلقة، لا يعلم كثيرٌ من رجال المجتمع ما يدور في أوساطهم، ولا يجدون من يدخل إليهم حتى ينظف دائرتهم وحلقتهم مما يدور بينهم فيها.
فيا أيها الأحبة! ينبغي أن ننظر إلى إخواننا المعوقين، وأن نلتفت لهم، وأن نعطيهم من أنفسنا، ومن وقتنا، ومن شفاعاتنا، ومن حاجياتهم التي نبذلها لهم، ومن كل سبيل نستطيع أن نشعرهم من خلاله أن لهم محبة ومكانة ودوراً عظيماً، لا كما يظنه الكثير منهم أن المعوق ليس واقفاً إلا للاستجداء والمكيدة وسؤال الناس عند أبواب المساجد.
أحدهم يقول: كنت ذات يوم في المسجد، فإذ برجل يخرج من جيبه ريالات، فيضعها في يدي، إلى هذا الحد تضاءل وتناقص الفكر والعقل عند بعضهم؛ إلى حد أنه يظن أن كل معوق فقير، ليس هذا هو النظر العاقل، وليس هذا هو الموقف المطلوب، بل المطلوب هو أن نشعرهم بمكانتهم، وعن المكانة التي يمكن أن يتبوءوها، وإذا كان بعضهم لم يجد سبيلاً يستطيع من خلاله أن ينفع المجتمع، فعلينا أن نقترح، وأن نبحث عن أساليب نستطيع أن نضعهم فيها في مواقع اجتماعيةٍ مناسبةٍ نرد إليهم بها ثقتهم بأنفسهم، ومكانتهم، ونظرات المجتمع إليهم العادلة، لا كما وقع الآن من كثير من الناس بنظرة كلها انكسار وخضوع وشفقة متناهية، فالغلط أن ينظر إليهم بهذه العين حتى أصبح بعض الذين يعنون بشئونهم لا يرون علاجاً لهم إلا بالموسيقى وبالطبول وبالزمر ونحو ذلك.
آلمني ذات يومٍ ما رأيته في مجلة في مقابلة لأحد المعوقين بماذا برز؟ بماذا تفنن؟ أخرجوه وهو يضرب عوداً، ويدق أوتاراً، أهذا نموذج للمعوقين أن يظهر بين الشباب، لماذا لا نظهر معوقاً مخترعاً؟ لماذا لا نظهر معوقاً من طلبة العلم؟ هو معوقٌ، ولكن الأصحاء حوله جلوسٌ يستمعون إلى علمه، لماذا لا نظهر معوقاً له الدور البناء؟ نستطيع أن نجد آلاف ومئات المجالات التي نظهر ونبرز ونعيد الثقة لهم فيها، لا كما يظنه البعض نظراً لحالتهم الاجتماعية المرتبطة بالأحوال النفسية لا نجد لهم إلا الرسم التشكيلي، والفنون التشكيلية، والطبول والزمر، ونحو ذلك.
ليس هذا بعلاج للمعوقين، وليست هذه بخطة عمل للمعوقين، بل العلاج والخطة المناسبة أن تشعرهم أن مناط التكليف عقولهم، وليس مناط التكليف هو الرجل، أو اليد، أو العين، أو السمع، لقد سرني ما رأيته ذات يومٍ في نادي معهد الأمل للصم والبكم أن وجد عشرات عديدة من الشباب الصم والبكم عليهم سيم الالتزام في لحاهم، وفي ثيابهم، وفي سمتهم، وفي صلاتهم، بسبب شباب -أسأل الله أن يجعل جهودهم في موازينهم- دخلوا بين هؤلاء الصم، وفهموا إشاراتهم وعباراتهم، ووجدوا في صفوفهم حتى ظهر هذا الالتزام، وظهرت هذه الصحوة حتى بين الذين يشكون الصمم والبكم.
فمن الذي يكون لأولئك المعوقين، ويدخل مجتمعاتهم، ويخالطهم، ويعيد إليهم الثقة بأنفسهم حتى يشعل صحوة في الاستجابة والاستقامة لأمر الله جل وعلا؟ إن أوامر الله عامة، وليست تستثني من فقد عيناً، أو رجلاً، أو يداً، بل إنها تخاطب من له عقل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] الآيات كثيرة التي تبين وتظهر أن مناط الأمر والاستجابة والتكليف والنهي هو العقل والقلب، وليست هي اليد والرجل.
أسأل الله أن يعافيهم، وأن يشفيهم، وأن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، وأن يرينا من بينهم العلماء وطلبة العلم، والمجاهدين والمفكرين والمخترعين؛ إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(128/3)
من مشاكل المعاقين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! إن مما يشكوه، بل إن أشد ما يعانيه إخوانكم المعوقون نظرة محجمة منصرفة معارضة من القرب والدنو منهم ألا وهي: مشكلة زواجهم، مشكلة الزواج عند المعوقين من أعظم المشاكل -أيها الإخوة- كثيرٌ منهم وأكثر ما وصلني من رسائلهم أنهم لا يجدون من يزوجهم، أتدرون ما الحل؟ ما هو البديل؟ أليسوا بشراً؟ أليس لهم شهوة وغريزة؟ بل إن بعضهم ليكون أشد شهوة وغريزة ممن نراهم أمامنا من الأصحاء والأقوياء، إنهم يعانون من هذه المشكلة، ولا يجدون من يزوجهم، وإذا تقدم أحدهم رد ولم يزوج.
ولا أقول: إن بوسع كل واحد أن يكره، أو يجبر ابنته على أن تتزوج منهم، ولكن ما الأمر برجل عنده ابنة معوقة، وفتاة معوقة، فإذا خطبها شابٌ معوقٌ رده، ولم يسأل ابنته، ولم يعرض الأمر عليها، ينتظر رجلاً سوياً صحيحاً يأتي ليخطبها، إذا تقدم لابنتك نصيب، وما أكثر البنات اللائي يرضين! ولو بمعوق خير لهن من أن يبقين عانسات بلا أزواج، لو أن الأب عرض الأمر عليهم؟ والله قال لي واحد منهم: التمس لي زوجةً جزاك الله خيراً , ولو كانت أكبر مني، ولو كانت معوقةً، ولو كان فيها الذي فيها، أريد أن أتعفف بالحلال، ثم أخرج لي بطاقته بطاقة التخفيض للمعوقين، إذا سكن فندقاً يخفض له نصف التكلفة، وإذا صعد طائرة يخفض له نصف التذكرة، وإذا نزل مكاناً فيه رسوم رسمية يخفض له نصف ذلك، قال: اعلم أن هذا هو البديل، اعلم أن أمثالي من زملائي كثيرون لم يجدوا بديلاً إلا بطاقة المعوق المخفضة، قلت: وكيف تكون البطاقة بديلاً؟ قال: السفر إلى البلاد الفلانية، فأفخر الفنادق نسكنها بنصف الأجرة، وما نطلبه من البغاء والشراب، وغير ذلك يبذل بنصف التكلفة، هذا هو البديل يا عباد الله.
إذا أجرمنا في حقهم، قدناهم وسقناهم واضطررناهم إلى الوقوع في أوحال المعصية، لماذا لا يزوجون؟ لماذا لا يوجد من يهتم ويعتني بأمرهم؟ أليس في المجتمع فتيات معوقات؟ بلى والله، ما الذي يمنع أن تقوم طائفة من الصالحين بالتنسيق مع دائرة رسمية بحصر المعوقين والمعوقات، أو من يرغبون الانتساب والانضمام إلى هذه المؤسسة، أو هذا المكتب؟ لا لغرض تعليمهم الموسيقى والفنون التشكيلية، لا.
بل لتزويجهم، وهو يعانون أكبر المشاكل من الزواج، يعانون من ذلك أعظم المشاكل، والكثير منهم أصبح يائساً من مجتمعه حتى أن بعضهم يقول لأحد الصالحين منهم: أنت أشغلتنا بالشيخ فلان وعلان، لو كان في أولئك خير، لتناولوك أو تحدثوا عنك أو التفتوا لك، تعال واشرب، ويقسم بالله العلي العظيم أنه أرسل رسالة إلى أحدهم، قال: فرد لي الرسالة وفي داخلها حبوب مخدرات، هذا جواب الرسالة، جواب الرسالة ظرف فارغ إلا من الحبوب المخدرة، يعني: بلسان الحال، لا بلسان المقال، الجواب ما ترى لا ما تسمع، الجواب هو: الانحراف، الجواب هو: الغفلة، الجواب هو: الضلالة، ووالله لو تلطف بعض الشباب في الدخول إلى أوساطهم ومجتمعاتهم، لوجدوا خيراً عظيماً فيهم، ولاستطاعوا أن يوجدوا من أولئك المعوقين قادةً من الدعاة إلى الله جل وعلا، ليس العمل للإسلام محصورٌ للجهاد في أفغانستان، أو محصور في المنابر، أو محصور في الوعظ والإرشاد في المساجد، أو محصور في الخطب والمحاضرات.
إن العناية بأمثال المعوقين، ودراسة أحوالهم، وتتبع مشاكلهم-والله- لمن أعظم وجوه الدعوة إلى الله، والعمل لدين الله.
فيا أيها الأحبة! من عرف معوقاً فليساعده، وليكن نعم العون له على طاعة الله جل وعلا، لا أن يكون معيناً له على سفرٍ، أو غفلةٍ، أو لهوٍ، أو ضياعٍ، بل كن معيناً له في تفقد حاجته، في البحث له عن زوجة، توجد لهم سيارات تناسب قدرتهم بدلاً من الأجهزة التي تعتمد على الأقدام في القيادة وعلى الأيدي، وأعرف كثيراً منهم وهم معوقون يسوقون السيارات ويقودونها، توجد سيارات من هذا النوع- وأنتم تعلمونها- بعضهم يحتاج إليها فلا يستطيع أن يجمع قيمتها، ينظر المجتمع إلى هذا المعوق، سيارته عكازته، إذا زوجناه، لا يستطيع أن يذهب بابنتنا، أو يأتي بها، من الذي يصرف عليه؟ من الذي ينفق عليه؟ والله لو أن القلوب فيها رحمة وشفقة، لوجد المعوق من يزوجه ويصرف عليه وينفق عليه ابتغاء ما عند الله، ولا أقول إن المجتمع قد خلا من المعوقات، الكثير منهم يقولون: نحن لا نريد ملكات الجمال، نحن لا نريد شروطاً في زوجاتنا، نريد زوجة ولو معوقة مثلنا، لكن الكثير يرفضون تزويجنا، ومنهم من قال: حتى إني طلبت أن أتزوج من الخارج، فرفض أهلي وجماعتي، لأن هذا ليس من طريقتنا، أو من عاداتنا، فإذا كان من عادتكم ألا تزوجوا معوقاً، وليس من عادتكم ألا يتزوج من الخارج، ماذا يفعل؟ أينتحر المعوق؟ لا بد أن تلبى حاجته، لا بد أن تفرغ شهوته في قالب شرعي غريزي فطري مناسب ألا وهو بالزواج، فأعينوهم وتفهموا مشاكلهم.
ويا معاشر الدعاة! يا معاشر الشباب عليكم بجبهة المعوقين، اقتحموها وادخلوها، وانظروا ماذا يدور بينهم؟ أصلحوا شأنهم وأحوالهم، ووالله لو توغلتم في داخل ما يدور بهم، لوجدتم ما تشيب له الرءوس من المصائب التي يقعون فيها.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(128/4)
المعوقون يتكلمون [2]
من ابتلاه الله ببلية ثم صبر، وعلم أن الله رءوف بعباده، ولولا رحمة الله ورأفته بعباده لما قدر عليه ذلك، ثم سلَّم الأمر والحكمة لله جل وعلا - كان هذا من أجلِّ وأعظم أنواع التوحيد الذي لصاحبه عند الله مكانة عظيمة وأجر عظيم، وديننا الإسلامي قد أوصانا بالمعاقين، وأخبرنا أن في مساعدتهم أجراً لنا وصدقة، بخلاف الأديان الأخرى، فإنها تعتبرهم عضواً غير فعال في المجتمع، لا يجب الاهتمام بهم ورعايتهم، ومن الأشياء التي تحدث عنها الشيخ: المعاقات، وما هي أهم مشاكلهن في المجتمع(129/1)
كل ابتلاء من الله فيه حكمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
معاشر المؤمنين! كان الحديث في الجمعة الماضية عن المعوقين ونظرة المجتمع إليهم، وموقفهم من ذلك، وما ينبغي نحوهم، ولهم وعليهم، واليوم الحديث عن المعوقات ومشاكلهن -والله- أعظم أثراً وثقلاً على النفس من مشاكل المعوقين؛ لأن المعوق -الذكر- قد يتحرك يمنة ويسرة، وقد يذهب ويجيء، ويغدو ويروح، أما المعوقة، فطائر مكسور جناحاه.
فيا عباد الله! قبل أن نخوض في هذا الحديث ينبغي أن نقف وقفة متأملة، ألا وهي أن الإسلام نظر إلى من ابتلي ببلية نظرة فيها وعد جزيل بالثواب لمن صبر واحتسب على ذلك، أليس الله جل وعلا يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فمن ابتلي ببلية أياً كانت، أو إعاقة أياً كانت، ثم صبر واحتسب الأجر من الله على ذلك، فعليه من ربه صلوات ورحمة، وله من ربه الفوز والهداية، أليس الله جل وعلا يقول في شأن من صبر على ما ابتلي به: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
فمن رأى بلية الله فيه، ومن رأى ابتلاء الله له جل وعلا، ثم صبر وعلم أن الله رءوف بعباده، ولولا رحمة الله ورأفته بعباده لما قدر عليه ذلك، ثم سلم الأمر والحكمة لله جل وعلا، لكان هذا من أجل وأعظم أنواع التوحيد الذي لصاحبه عند الله مكانة عظيمة وأجر عظيم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه: (من أخذت حبيبتيه -أي: عينيه- فصبر واحتسب، لم أجد له جزاءً إلا الجنة) الله أكبر يا عباد الله! الله أعلم بك، وأعلم بما يسرك، وأعلم بما ينفعك، وآتاك بمقدار فيه خيرك وصلاحك وهدايتك، ثم يأمرك بالصبر على ذلك، وبعد ذلك يعدك بالجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر من النعيم المقيم.
إن الله جل وعلا ما قدر أمراً من المقادير إلا وللعباد فيه مصلحة، ووالله كم من شخص يتمنى أنه لم يبتل ببلية، ولو سلم من هذه البلية التي قدرها الله جل وعلا، فقد يكون له شأن آخر من الضلال، أو الغواية، ولكن لحكمة وتقدير وتدبير ينبغي أن يسلمها العبد لربه جل وعلا، وإذا رأى عافيةً، أو تحسناً، أو صحةً، أو مزيداً، فذاك تقديرٌ وتدبيرٌ من الله فهذا ينبغي أن يتمثله كل واحدٍ منا، وليس منا في هذه الدنيا إلا مبتلى سواءً كانت بلية ظاهرة، أو بلية باطنة ليجعل الله جل وعلا لنا هذه الدنيا داراً ننظر منها إلى الأكدار وما ينغص ملذاتها، فتكون طمعاً إلى دار لا ينكدها، ولا ينغصها شيء.
ما أضيق العيش ما دامت منغصةً لذاته بادكار الموت والهرمِ
وهذه الدنيا ليس يخلو أحدٌ فيها من بلية، أو ابتلاء، أو امتحان أياً كان هذا النوع، ظاهراً وباطناً، ولله جل وعلا في ذلك حكمة، وفي قصة أهل الكهف مما يدل على أن تقدير الله في المصيبة سواءً كانت في النفس، أو في المال، أو في غير ذلك، إنما هي لحكمة ربانية عظيمة، أليس الخضر لما ركب السفينة، خرقها، فقال له موسى: ما هذا الذي أحدثته؟ هذه مصيبة على أصحاب السفينة {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:71] إن هذا لأمرٌ عظيمٌ جداً، فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:67] ثم إنه مر على قرية، أو مكان فيه صبية، فأخذ واحداً منهم، ثم قتله وأزهق روحه، فعجب موسى من ذلك، فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:74 - 75] ثم لما أراد أن يبين له جميع ما عجز عن الصبر عليه، قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]، وفي قراءة: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً).
انظروا -يا عباد الله- أي الأمرين أعظم أن تخرق السفينة، فيمنع ذلك الظالم الغاشم عن مصادرتها وأخذها، أو تترك السفينة، ثم يأخذها ويدع المساكين بلا سفينة أبداً.
إذاً: فمصلحة المصيبة في خرق السفينة كانت أولى وأعظم وأجل من ترك السفينة صالحة، فهذا قدر من أقدار الله يفضي إلى الرضا، ويفضي إلى معرفة عين الحكمة، ودقة وجليل الصواب، والرحمة بأولئك الذين كان لهم الأمر والشأن، وأما الغلام الذي أزهقت روحه، فجاء بيان أمره {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81] فكانت مصلحة قتل هذا الغلام خيرٌ من أن يبقى، فيكون سبب فتنةٍ أي: كفرٍ على أمه وأبيه، والفتنة أشد من القتل، والكفر أشد من القتل، فكان مصلحة قتله فيها، وكان قدر قتله، أو تقدير إزهاق روحه فيها عين الرحمة، والصواب بالأم والأب وما نسل منهما من الذرية.
وهكذا فكل مصيبة نحن فيها سواءً كانت أمراضاً باطنيةً، أو عللاً ظاهرةً، والله، ثم والله، ثم والله إنها لعين العدل، وعين الحكمة، وعين الرحمة، والله جل وعلا أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا فما قدر لنا شيئاً إلا وفيه مصلحة عظيمة.
لما كان النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً من معركة حنين، ومعه سبي هوازن، حصل لهم من السبي شيء كثير من الشاء والنعم والأطفال والنساء، فبينما هم كذلك -وقد أعطى كل سائل ما أعطى وطلب- بينما هم كذلك إذ جاءت امرأة تركض من بين السبي، ثم أخذت وليداً من بين السبي، فضمته إلى صدرها، وأخرجت ثديها أمام الناس، وألقمت ثديها في فم الصبي، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).
إذاً: فمن عين رحمة الله، وعين تدبير الله وتقدير الله أن قدر على العباد ما قدر، وكثيراً ما جاء من يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء والعافية من البلية، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت، دعوت لك فشفيت، وإن شئت صبرت، ولك الجنة) وجاءت المرأة التي تصرع، فتتكشف، وقالت: (يا رسول الله! إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي، فقال: إن شئت دعوت الله لكِ فشفيت، وإن شئت، صبرتِ ولك الجنة، قالت: أصبر يا رسول الله! ولكن ادع لي ألا أتكشف) فدعا لها ألا تتكشف، فصبرت حتى تنال الجنة، وأجيبت دعوة المصطفى أن إذا أتاها الصرع، أو ابتليت به أنها لا تنكشف عورتها.(129/2)
الفرق بين الإسلام والأديان الأخرى في النظر للمعوقين والفقراء
نظرة الإسلام لمن ابتلي بشيء من هذه البلايا أنه عين الرحمة، وعين القدر واللطف، وعين العدل من الله جل وعلا، لا كما ينظر إليه اليهود والملاحدة والنازية الذين قال زعيمهم هتلر: ينبغي أن نحرق كل من ليس للمجتمع منه نفع في الأفران ونصهرهم حتى لا يكونوا عبئاً على المجتمعات، هذه نظرة النازية، ونظرة الشيوعية، ينبغي أن يزهق كل من ليس للمجتمع فيه نفع أبداً، ويقول أحد مفكري اليهود -وليس من مفكريهم، بل هو والله من معتوهيهم ولو كان مفكراً، لهداه فكره إلى الإسلام- يقول: ينبغي ألا نتصدق على الفقراء، لأننا إذا تصدقنا عليهم، قادهم ذلك إلى النكاح فتزوجوا، ثم انتشرت ذرية فقيرة، ومن بين هذه الذرية ذريات أخرى، فتعظم مشكلة الفقر، فعلى ذلك ينبغي أن يترك الفقراء، ولا يتصدق عليهم حتى يموتوا ويبقى المجتمع في طبقة تنال كفايتها ورفاهيتها وجميع احتياجاتها.
هذه مفرزات الحضارة الغربية، وهذه مفرزات المذاهب الإلحادية، الله أكبر على دين الإسلام العظيم الذي جعل لكل مسلم صغيراً أو كبيراً، سليماً أو غير ذلك، جعل له منزلة ومكانة عظيمة عند الله، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه العتاب يوم أن انصرف عن رجل كفيف جاء يسأله والنبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بصناديد قريش طمعاً في إسلامهم {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] انشغلت، أو تجهمت، أو تكشرت قليلاً يوم أن جاءك الأعمى طمعاً في إسلام أولئك من الصناديد وغيرهم.
هذا خطاب رباني من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن تكون العناية بأولئك عناية عظيمة، وحاشا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتقر معوقاً، أو غير ذلك، ولكن كان يطمع أن يلتفت إلى هذا الكفيف في وقت آخر، وهو مشغول بإسلام صناديد قريش، وكبار رجالاتها، فجاء العتاب، وجاء التعقيب سريعاً {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4] أما صناديد قريش {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس:5 - 7] هذا من معجزات ومبينات، ومن موقنات هذا الدين العظيم أن لنا فيه أعظم السعادة، وأجل الرفعة والكرامة لكل فرد من أفراد هذا المجتمع.
أيها الأحبة! هذه نظرة الإسلام إلى المعوقين، وإن كان في النفس شيء أن يسموا معوقين، بل هم-والله- رجالات المجتمع، ومنهم قادة الأمة، أليس رجلٌ قد أعيق في أطرافه الأربعة بشلل رباعي، ليس فيه إلا رأسه يهدد دولة تملك القنابل الذرية، رجلٌ معوقٌ يهدد دولة إسرائيل، وقدم، أو سيقدم للمحاكمة في فلسطين وهو أحمد ياسين الذي نسب إليه القتل، وكيف يقتل من ليس له يدٌ يبطش بها، أو رجلٌ يمشي عليها؟ شلله رباعي، ويحاكم من اليهود بتهمة القتل، والله لقد قتلهم بإيمانه وبصبره وبثباته وبتحريضه للمؤمنين على القتال.
نعم -أيها الأحبة- فنحن لا نرضى أن ينسب لمسلم أياً كان نوع البلاء الذي ابتلاه الله به، لا نرضى أن ينسب له ضعف، أو نقص، أو عجز، بل له مكانة، وله منزلة، وله كرامة، وله قيادة، وله شأن عظيم، ولو عرف قدر نفسه وقدر تكريم الإسلام له لتبوأ منزلةً مناسبةً، ولكان أعظم من مئات الأصحاء.
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إن أمر عنى
لرب معوقٍ خير من آلاف القاعدين الجبناء الضالين المنشغلين عن عبادة ربهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(129/3)
المعوقات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: كما وعدنا في صدر هذه الخطبة أن يكون الحديث عن المعوقات، فهذا أوان الشروع في المقصود.
عباد الله! إن في مجتمعنا أولياء ظلمة، إن في هذه الأمة من أولياء المعوقات -والله- ينسبون إلى الظلم والظلمة، ألا يخشون الله فيما بين أيديهم من المعوقات؟ ولم أبحث معكم، أو أتكلم به أمامكم إلا بعد اتصال بعدد من المعوقين والمعوقات، وأخبرتكم في الجمعة الماضية ما الذي يفعله بعضهم، أو يشكو منه بعضهم تجاه مشاكله وإعاقته، واليوم اسمعوا إلى فتاة لها معونة سنوية من الدولة -أعزها الله- أبوها ووليها يصادرها ويأخذها في شهواته وملذاته، قد يقول قائل: أنت ومالك لأبيك، وأقول: إن شأن من ابتلي ببلية، وأعطي وليه مكافأة، أو معونة لتحسين حاله ينبغي أن يثمرها، وأن ينميها في عقار، أو في أسهم شرعية، أو في تجارة مناسبة حتى ينمو هذا لصاحبه، فإذا يسر الله له يوماً من الأيام زواجاً، أو حظاً مباركاً، كان له من المال -والله هو الرزاق ذو القوة المتين- كان له من المال ما يعينه على نفسه، لا أن يأكلها الأب، ويراها مناخاً أو شرهةً، أو عادةً يأكلها، وبين يديه من ابتلي ببلية في يده، أو قدمه، أو شيء من التخلف في مستوى ذكائه، ولا ينفقها لأجل تحسين تعليمه وتربيته، هذا -والله- من الظلم، وهذا لا يجوز أبداً.
كذلك -أيها الأحبة- فتاة معوقة تشكو أن أباها لم يعرض عليها أمر الزواج أبداً، وهي تعلم أنه يتقدم إليها من المعوقين من يرغب الزواج منها، وأبوها يرفض أن يزوجها، ما دامت رغبت هذا الحظ والنصيب فما الذي يجعلك تردعها وتمنعها؟ أتحرمها أن تتزوج فيدور عامٌ أو عامان، فتنجب طفلاً أو طفلةً صحيحةً سويةً سليمةً، وما أسرع مرور الأيام والأعوام، ثم يكون هذا الطفل شاباً جلداً يرعاها ويتولاها، وينفق عليها؟ أتظن أن هناك ما يمنعك من تزويجها؟ والله إن من كانت عنده كهذه، فرغب من الزواج منها فمنعها بحجة أن من تقدم إليها ليس سوياً كامل البنية، فإنه آثمٌ آثمٌ آثم، لا يجوز فعله، وابنته حجيجته أمام الله، فلينظر مظلمتها، وما تأخذ من حسناته، أو تعطيه من سيئاتها.
كذلك -يا عباد الله- ينبغي للأولياء من كانت عنده بنية معوقة أن يتلطف، وأن يبحث لها عن زوجٍ، ينبغي أن يحمل همها وشأنها، لا أن يكون قصارى همه وجهده أن يجعل لها عربية في البيت، أو يجعل لها حجرة مستقلة، فيضع التلفاز أمامها، وأنواع الفيديو بأنواعها، ثم يقول: ما قصرت معها، وأمامها كل المغريات، وكل وسائل الترفيه، والله لقد قتلتها فوق أمرها، ولقد ذبحتها فوق ذبحتها، والله ثم والله إنك لا تزيدها إلا هلاكاً، وإن من واجبك أن تبحث لها عن زوج حتى لو كانت ثانية وثالثة.
واعجبوا -يا عباد الله- إلى الطوائف المنحرفة والمذاهب الضالة الذين يزوجون المعتوهين والسفهاء والمجانين، يزوجونهم العوانس وكبيرات السن اللائي لم يتقدم لهن أحد، يقولون: هذا معتوه، لكن يخرج من نسله صحيح سوي، وهذه مجنونة، ويخرج من نسلها صحيح سوي، ويكاثرون أمة السنة، ويكاثرون أمة العقيدة والتوحيد يريدون أن يكونوا أكثر منهم بأي سبيل وأسلوب حتى ولو بتزويج السفهاء والمجانين والمعتوهين وكبار السن، وغير ذلك.
فنحن -يا عباد الله- انطلاقاً من أمر الله لنا، ورحمةً بإخواننا، وذكراً للفضل بيننا ينبغي أن ننتبه للمعوقات في مجتمعنا، وأن نسعى بكل ما نستطيعه بتيسير شئون زواجهن، وترتيب ذلك، وتقريب وجهات النظر بين من يبحث عن زوجة، وبين من تبحث عن زوج، فنقرب هذا من هذا، وإن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، وينبغي أن نجمع لهم ما تجود به الأنفس، وتطيب به الخواطر، فنهيئ لهم المكان والسكن والوسائل المناسبة لخدمتهم ورعايتهم حتى يأتي اليوم الذي تنشأ فيه ذريتهم، فيقوموا بخدمتهم وعنايتهم.
أما أن نظن أن قصارى همنا وجهدنا أن نعلمهم الطبل والزمر، وأن نخرج لهم الأفلام والمسلسلات، ونقول: إنا قد قمنا بحقوق المعوقين علينا، فما-والله- قمنا بحقٍ، بل بذلنا لهم بلاءً إن نحن فعلنا ذلك، وغفلنا عن تربيتهم وتوجيههم على الإسلام، والله ثم والله إنه يندر أن تجد من يفهم الفكرة الإسلامية الصحيحة في مسألة البلاء والامتحان، أو قضاء الله وقدره، فتراه راضياً مطمئناً، بل أكثرهم تجدهم من الساخطين على المجتمع، أو من الساخطات على المجتمع، ولو كان جل ما تعلموا أو نشئوا عليه أن يعلموا أولاً وبادئ ذي بدء أن قدر الله حكمةٌ وعدلٌ، ولطفٌ ورحمةٌ، وأن هذا عين الرحمة من الله بهم، لكان أول ما نرى منهم الرضا، والاستعداد، والإيجابية في كل مجال يعرض عليهم، لكن نظن أنهم بحاجة إلى اللهو والطرب، أو بحاجة إلى أن ننسيهم واقعهم، لا والله، بل يتذكروا أنفسهم ويتلذذوا بهذه المنحة.
يقول أحد مفكري الإسلام: ومن عرف ربه، وعرف ثواب ربه، تكون المحنة عنده منحة، يوم أن نعلمهم هذا تكون البلية بالنسبة لهم نعمة وشهادة وشفاعة، ويكونون بها أقرب إلى دخول الجنة من غيرهم، هذا هو الفكر والعلم الذي ينبغي أن يعمق في أذهانهم بعد التوحيد بادئ ذي بدء.
أسأل الله جل وعلا أن يوفق الجميع إلى ما يرضيه، وأسأله سبحانه وتعالى أن يوفق من له ولدٌ معوقٌ، أو ابنةٌ معوقةٌ إلى تنشئتهم وتربيتهم وتعليمهم وتزويجهم، والعناية بهم حتى يكون لهم أكبر الأثر وأطيب المكانة في أنفسهم ومجتمعاتهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح جلساءه، اللهم قرب منه من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، واجمع اللهم شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين! وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، ربنا لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم وحد صفهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجبر كسرهم، اللهم فك أسرهم، اللهم انصرهم بنصرك، وأيدهم بتأييدك، وأهلك أعداءهم يا جبار السماوات والأرض، فإنهم لا يعجزونك.
اللهم انصر المجاهدين في الفليبين، اللهم انصر المجاهدين في أثيوبيا، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم أقم علم الجهاد في جميع دول العالم الإسلامي المغتصبة، اللهم أقم علم الجهاد، ورد بلدان المسلمين إلى حوزتهم، اللهم أقم علم الجهاد في قعر ديار الكفار، وأهلك الظالمين بالظالمين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين.
اللهم اهد شبابنا، اللهم أرنا فيهم خيراً مما نرجو، اللهم أرنا فيهم ما يرضيك ويسرنا ويثلج صدور المسلمين أجمعين، اللهم وفقهم واعصمهم، وأصلح جلساءهم، واهدهم يا رب العالمين! اللهم اهد بناتنا، واستر زوجاتنا، اللهم جنبهن الاختلاط والتبرج والسفور والتبذل، اللهم اجعلهن خير الأمهات لهذا الجيل يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(129/4)
إمام الهدى
إن لنا في المصطفى صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة، واقتداءً وتأسياً، فلذلك ذكرت كتب السير عن أخلاقه وحلمه وتواضعه وعيشه وحياته ووفاته الشيء الكثير، ولم يبق إلا أن نتدارس سيرته ونتعلمها ونطبقها، ونجعل نبينا لنا أسوة حسنة حتى ننال الأجر العظيم عند الله سبحانه في الدنيا والآخرة.(130/1)
خلق النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في مستهل هذا اللقاء أسأل الله عز وجل أن يكون اجتماعنا وإياكم مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
والحديث عن إمام الهدى، وما أدراك ما إمام الهدى! ذاك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي بصر الله به عيوناً عمياً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، إمام الهدى صلى الله عليه وسلم الذي هدانا إلى الصراط المستقيم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].
ذاك إمام الهدى، ولا غنى لمسلم أياً كان عن سيرته، لا غنى للملوك عن سيرته، ولا غنى للزعماء عن سيرته، ولا غنى للأغنياء والفقراء عن سيرته، ولا غنى للمتعلمين والعلماء عن سيرته، ولا غنى للرجال والنساء عن سيرته.
لماذا؟ لأنه أسوة وقدوة لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله فعليه بالتأسي بإمام الهدى، ومن كان يرجو اليوم الآخر فليتأس بإمام الهدى، ومن كان من الذاكرين أو يطمح أن يكون من الذاكرين فعليه أن يتأسى بإمام الهدى، وما ذاك إلا لأن كلامه صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، ولأن سيرته ترجمة لهذا الوحي.
نحن بأمس الحاجة أن نعرف عنه صلى الله عليه وسلم كل شيء من أحواله، كل دقيق وجليل في حياته، كيف كان صلى الله عليه وسلم يأكل، وكيف كان يشرب، وكيف كان ينام، وما حاله في الرضا، وما حاله في الغضب، وما لباسه، بل كيف كان مشيه، وما علاقته بالصغير والكبير، وما تعامله مع الناس على اختلاف أجناسهم وأحوالهم.
حاجتنا أن نعرف سيرته صلى الله عليه وسلم: أليس هو قدوتنا؟ بلى.
إذاً فلا بد أن نعرف عبادته، وأن نعرف أخلاقه، وأن نعرف حاله مع أزواجه، ولن يحيط القلم واللسان بحال إمام الهدى صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ولكن كما قال علي بن أبي طالب في ما رواه ابن ماجة والدارمي: [إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا برسول الله أهيأه وأهداه وأتقاه].(130/2)
خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس
ولنبدأ بخُلقه صلى الله عليه وسلم: يقول الله سبحانه في شأن نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ويقول عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: [كان خلقه القرآن].
قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.
فقال رضي الله عنه: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، وهذا وصفه في التوراة: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) رواه البخاري.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) هذا من سمو خلقه، هذا من كريم شمائله، هذا من علو منزلته صلى الله عليه وسلم يقال له: ادع على المشركين، فيقول: (ما بعثت لعاناً وإنما بعثت رحمة).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، وكان يقول عند المعاتبة: ما له تربت يمينه) يعني: أصاب يمينه التراب، هذا من كريم شمائله صلى الله عليه وسلم.
ولنقف عند هذه وقفة -أيها الأحبة في الله- إن بعض إخواننا من المسلمين تجده سليط اللسان في السباب والشتائم حتى على المشركين والكفار، وأنا لا أنافح عن كافر، ولا أدافع عن ظالم، ولا أقول ذلك خشية على عرض فاجر، ولكن نقول: فلنعود ألسنتنا ما تعودناه وما عرفناه من شمائل نبينا صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان سباب الكافرين وشتمهم سيفضي إلى منكر أكبر: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] بل وفي المقابل لو قيل لأحدنا: ادع لهؤلاء الظلمة، أو ادع لهؤلاء الكفرة، أو ادع لهؤلاء الفجرة أن يهديهم الله أو أن يسخرهم للإسلام والمسلمين، التفت ضاحكاً، وسخر ملتفتاً وقال: ما شأنك وشأن الدعاء لهم؟ ألا تلعن؟ ألا تشتم؟ ألا تسب؟ ألا تقول كذا وكذا وكأنه حرام أن يدعو للضال بالهداية، وللفاجر بالاستقامة! وهذا جهل يا عباد الله.
نعم، إن الله لعن الظالمين وأعد لهم سعيراً، نعم.
إن الله لعن الكافرين، نعم.
إن الله لعن طوائف في كتابه: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52] ولكن -أيها الأحبة- ينبغي أن نعود أنفسنا ما تعوده نبينا، ففعله وحيٌ، وقوله وحي، وسيرته وحي، فما كان سبّاباً ولا لعاناً ولا شتاماً صلى الله عليه وسلم، لقد جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ادع على دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وكانت دوس آنذاك مقيمة على الكفر والشرك، مقيمة على حال الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) يعني: أبا جهل أو عمر بن الخطاب، فدعا لهما وهما آنذاك من الكفار.
فنحن حينما نتعلم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث لعاناً، ولم يبعث سباباً، ولم يبعث شتاماً، وإنما بعث رحمة أي: يدعو بالهدى ويدعو إلى الهداية، ويدعو بالرحمة، ويدعو إلى العفو والصفح والمغفرة، فإن ذلك يعلمنا ألا نعود ألسنتنا على السب أو الشتم أو التسلط على أعدائنا؛ فليس ذلك من الرحمة بهم، ولا اللطف بجنابهم، ولا العطف في شأنهم، ولكن حتى لا تتعود ألسنتنا السباب والشتيمة، ونظن أنه غاية خدمتنا لهذا الدين، وغاية رعايتنا لهذه الدعوة، أو نظن أن منتهى قيامنا على هذا الإسلام أن نسب الأعداء وأن نلعنهم، فإن من تعود ذلك سيكون أستاذاً في السباب، ولكن لن يكون أستاذاً في الميدان، لن يكون أستاذاً في العمل، لن يكون أستاذاً في الواقع، لن يكون أستاذاً في التطبيق، وما أحوجنا إلى ألسنة بكْم على أيد فصاح:
إنا نتوق لألسن بكم على أيد فصاح(130/3)
خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته
وعن يزيد قال: أخبرنا زكريا عن أبي إسحاق قال: حدثني أبو عبد الله قال: قلت لـ عائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في آله؟ قالت: [كان أحسن الناس خلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح].
أين الناس من هذا الخلق وهذه الشمائل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله؟ فلم يكن سباباً، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يجزي بالسيئة مثلها، إن من الناس من يتعوذ أهله من سوء لسانه وسلاطته، ومن شر لسانه وخبثه، فمن الناس من لو انكسر كأس لسب، ولو انكفأ قدر لشتم، ولو انشق ثوب للطم، ولو تغير حال لضرب، أين هو من إمامه وحبيبه وقدوته ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان فاحشاً؟ يعني: لا يقول فحشاً من القول، ولا يلفظ بالفاحش أو البذيء أو الرديء من الكلام.
إن من الناس من تعود هذا الفحش وهذه البذاءة والغلظة، وإن من شرار الناس من تركه الناس اتقاء فحشه.
ومن الناس من هم على طائفتين في هذا: فبعضهم تجد لساناً أحلى من العسل، وأبيض من القطن، وألين من الماء، فإذا كان عند أهله وجدت سباً وشتماً، كريم بكل خلق، وبكل قول وكلام لين، وبكل منطق عذب مع الناس أجمعين إلا مع زوجته، إلا مع أبنائه، إلا مع أولاده، إلا مع بناته فإنه لا يطيق أن يسمعهم كلمة طيبة.
ما هذا الانفصام؟! وما هذا التناقض؟! ولماذا يعامل الناس معاملة وتعامل الزوجة والأهل معاملة أخرى؟! والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيء اللسان.
وطائفةٌ منهم من يفتخر أنه بذيء اللسان، فاحش في القول مع الناس ومع أهله، مع القريب والبعيد، ويعدها من الفصاحة ومن البيان، ويعدها من اللجاجة والقدرة على إسكات الخصوم، وليس هذا والله بحق، وليس هذا والله من الدين في شيء، بل الدين كل الدين فيما ورد عن رب العالمين وسنة إمام المرسلين في وصفه وشمائله: ما كان فاحشاً وما كان متفحشاً، وما كان بذيء اللسان صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة: [ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله] قالت: [وما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانتقم إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله] قالت: [وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار الذي هو أيسر إلا أن يكون إثماً، فإنه كان إثماً كان أبعد الناس منه].
فانظروا في شأنه صلى الله عليه وسلم: ما ضرب بيده امرأة قط، ومن بيننا ونحن المسلمين من يجلد امرأته جلد البعير، ويؤذيها ضرباً وسحباً على وجهها، ويذيقها ألوان البلاء والأذى، أهذا من الدين في شيء؟ أعلمك الإسلام هذا أم وجدت هذا في سنة نبيك؟ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة قط مع أن ضرب النساء جائز بعد الموعظة والهجر: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وهذا الضرب غير مبرح.
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن ضرب النساء، جاء رجال من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! زئرن النساء على أزواجهن.
أي: كأن بعضهن تطاولن على أزواجهن، فأذن لهم بضربهن ضرباً غير مبرح، ثم قال عن الذين يضربون: (وما أولئك بخياركم) يعني: أن العاقل وأن خيار الناس وكرامهم من يستطيعون أن يصلحوا الأحوال وأن يصلحوا أمورهم دون أن يلجئوا إلى ذلك، وإن لجئوا إليه فبقدر ما يحتاج البدن إلى الدواء دون تطاول.(130/4)
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتقم لنفسه
ومن شأنه وسمته صلى الله عليه وسلم أنه ما كان ينتقم لنفسه.
أما نحن في هذا الزمان فإذا ابتلينا وإذا ظلمنا في أنفسنا أو في أموالنا أو في حاجاتنا أو في مصالحنا ترى البعض يلبس هذه القضية بلباس الدين، ويظن أنه ينتقم لدين الله وهو ينتقم لنفسه، ويظن أنه يذب عن دين الله وهو يذب عن نفسه، ويظن أنه ينافح عن دين الله وهو ينافح عن نفسه، وإن تجريد المقاصد وإخلاص النيات لأمر عظيم، فالناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
فلنتعود -أيها الأحبة- أن تكون غيرتنا وأن يكون غضبنا وأمرنا وسعينا وإقبالنا وغدونا ورواحنا خالصاً لوجه الله عز وجل، وما أعظم شأن الإخلاص في هذا الزمان! والله إن الواحد -أيها الأحبة- ليخشى أن يلقى الله عز وجل ما قبل من خطبه ولا من محاضراته ولا من أعماله ولا من سعيه ولا من كتابته ولا من كل ما يفعل شيئاً، والخطر على الجميع من متصدق أو مجاهد أو أو إلى آخره، إذا سمع وتلا قول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39].
نعم -أيها الأحبة- إن العاقل يخشى أن ينقلب عمله فيكون هباءً منثوراً، إن العاقل إذا قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) أشرك شهرته، أشرك شخصيته، أشرك هواه، أشرك مصلحته، أشرك جانبه الشخصي، أشرك أموره، أشرك منفعته فإن الله غني عن هذا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فلنمحض الإخلاص -أيها الأحبة- قبل أن نفد على الله عز وجل فيقال لأحدنا: يا عبدي ما قبلنا صيامك! ما قبلنا صلاتك! ما قبلنا خطبك! ما قبلنا كلامك تأليفك عملك سعيك صدقتك! لأن العاقل والله يخشى -أيها الأحبة- أن يكون عمله هباءً منثوراً، وعلينا أن نجاهد وأن ندقق في هذا الأمر، وألا نخدع ذواتنا فنظن أننا نخدم الدين ونحن ربما استخدمناه، قالها رجل كبير قابلته في زغرب القريبة من البوسنة في مؤتمر لحقوق الإنسان فقال ذلك الرجل الطاعن في السن الكبير وقد التفت إلي: يا بني! ما أسهل أن نستخدم الإسلام! وما أشق وما أعظم أن نخدم الإسلام! إن استخدام الإسلام سهل، واستخدام الإسلام يكسب أرباحاً وتجارة ومنافع وصولة وجولة وبروزاً وشهرةً وتقدماً، ما أسهل أن نستخدم الإسلام! ولكن ما أعظم وأشق أن نخدم الإسلام خدمة نتجرد فيها من كل مصالحنا! أيها الأحبة: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ونحن اليوم لا نشكو أزمةً أخلاقية في الأخلاق التجارية، وفي أخلاق المجاملات، وفي أخلاق المداهنات، وفي أخلاق المصالح، وفي أخلاق المعاملات، تلك لا نشكو من أزمة فيها وإنما نشكو تكدساً وكساداً وزخماً وتضخماً فيها، أما الأخلاق الخالصة، أما الأخلاق النقية، أما المعاملة التي باعثها ومقصدها وجه الله عز وجل، وأولها وآخرها وجه الله عز وجل فما أندرها في هذا الزمان!! إن من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في عظيم تواضعه، ولين لطفه، وكريم شمائله، ما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قام خطيباً فقال: [إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، كان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط] وكأن عثمان رضي الله عنه يشير إلى الذين ألبوا الجموع حوله، وأشعلوا الفتنة في عهده، وجمعوا الناس ينتقدونه ويقولون في عثمان ما يقولون؛ فقام عثمان في خطبة ويقسم بالله فيقول: (صحبنا نبينا في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به) أي: أناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون عثمان بالنبي صلى الله عليه وسلم! يعلمون عثمان المبشر بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن التطاول من قديم وليس في هذا الزمن الذي رأينا وسمعنا من يتطاول فيه على إمام أهل العلم في هذا الزمان، على وجه الأرض قاطبة فيما نعلم وهو سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، لقد أوذينا في إمامنا، وأوذينا في علامة أمتنا، وأوذينا في علامة ملتنا، وأوذينا في مفتي هذه الملة وهذه الطائفة المنصورة المباركة، لقد أوذينا في عرض شيخنا وعرض إمامنا، يتكلم فيه الأقزام، يقولون فيه ما يقولون:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وطاولت السحب السماء سفاهة وفاخرت الأرض الحصى والجنادل
وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى يا صبح لونك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
أصبح الصغار يتطاولون على الكبار! أصبح الجهلة يتطاولون على العلماء! أصبح البخلاء يتطاولون على الكرماء! يا سبحان الله! متى عرفنا هذا التطاول إلا في منشور يتسلل لواذاً ويدس دسيسة، من أجل تفريقكم يا شباب الصحوة، من أجل الفجوة العظيمة التي يراد لها أن تزداد بين العلماء والعامة، وبين الولاة والعلماء، وبين العامة والولاة، نحن لا نقول: قولوا للأسود إنه أبيض، ولا نقول: سموا المنكر معروفاً، ولا قولوا للباطل حقاً، فإن الباطل باطل، والظلم ظلم، والشر شر، ولكن إن سبيل الإصلاح إذا بلغ بطريق أصبح الأمر فيه يتطاول أصحابه أو شأنه إلى الكبار وإلى العلماء، وإلى الذين شابت لحاهم في الإسلام، وبلغوا منزلة فيما ندين لله عز وجل، بلغوا منزلة ما أصبح يضرهم ذم ذام ولا مدح مادح؛ لما علم من صلاحهم، ونسأل الله أن يثبتهم، ولا ندعي العصمة لهم، إذا بلغ الأمر هذا فمن يعذرنا -أيها الأحبة- من أناس تطاولوا على علمائنا وأئمتنا؟ وأنتم المستهدفون، وأنتم المقصودون فافهموا ما تسمعون، وأدركوا ما تقرءون فإن وراء الأكمة ما وراءها:
أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام
نبينا صلى الله عليه وسلم خير الخليقة:
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمةً من محمد
ورضي الله عن حسان حيث قال:
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً فهن لطيب الراحل فداء
فأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء(130/5)
حلم النبي صلى الله عليه وسلم
أما حلم نبينا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم فهو لا يعدو ولا يتجاوز قول الله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وما كان صلى الله عليه وسلم يختار الشاق من الأمور، بل كان حليماً يختار الأيسر كما قالت عائشة رضي الله عنها، وقد مر بنا آنفا.(130/6)
حلمه صلى الله عليه وسلم على الأعرابي الذي جبذه بردائه
من الصور المشرقة الجميلة، وكل حياة إمام الهدى إشراق وجمال، من الصور المشرقة الجميلة في حلمه صلى الله عليه وسلم ما ورد في الصحيحين عن أنس قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذة الأعرابي، فقال الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك؛ فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وما تظنونه فعل؟ وما تظنونه قال؟ وما تظنون الذي ارتسم على قسمات وجهه وملامح محياه صلى الله عليه وسلم من الأمور؟ - التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ثم أمر له بعطاء وقال: أعطوه).
ما ظنك لو أن واحداً من أبنائك الذين أوجب الله عليك نفقتهم جبذك بطرف ثوبك لا بحاشية عاتقك، لا بحاشية قميصك، ثم قال: يا أبت! أعطني.
والله لتصفعنه أو لتضربنه أو لتؤدبنه أو لتفعلن به فعلاً عظيماً، ناهيك أن لو فعل هذا واحد من الأباعد دون الأقارب، فهذا أعرابي فض غليظ يجر النبي صلى الله عليه وسلم بحاشية البرد حتى أثرت حاشية البرد من الجانب الآخر في صفحة رقبته صلى الله عليه وسلم، ثم يقول الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مالك أبيك، فالتفت صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، التفت متبسماً، التفت حليماً، التفت صافحاً غافراً لهذا الأعرابي.
إن عفو النبي له شأن عجيب وله صور عجيبة، يقول أبو عبد الله الجدلي: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح] رواه الترمذي والطيالسي وأحمد، وإسناده صحيح.
هكذا شأنه، هكذا أمره، كان صلى الله عليه وسلم يعفو، كان صلى الله عليه وسلم يصفح، والعفو دليل القوة،، والكرم، والعفو دليل العزة، والمنعة، لا نظن أن العفو دليل ضعف، ولا نظن أن العفو دليل جهل، ولا نظن أن العفو دليل غفلة، بل العفو دليل وعي ورحمة وحكمة، وخير الناس من تحلى واقتدى بسيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعفو ويصفح.(130/7)
حلمه صلى الله عليه وسلم على من أراد قتله
عن أنس رضي الله عنه (أن ثمانين هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الصبح يريدون اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا أخذاً -أي: أمكن الله المسلمين من رقاب هؤلاء الذين انحدروا من جبل التنعيم فجأة- فلما جمعوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح:24]) رواه مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد.
ومن دلائل عفوه القصة المشهورة المعلومة في شأن اليهودية التي قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فسألها إمام الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ فقالت: أريد قتلك.
فقال الصحابة: ألا نقتلها يا رسول الله؟ قال: لا.
قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث رواه مسلم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو، ليس يعفو عمن تكلم في عرضه أو يعفو عن من تكلم في خاصة أمره فحسب، بل يعفو صلى الله عليه وسلم عمن حاول اغتياله، عمن حاول الاعتداء عليه، وذلك من جميل شمائله، ومن كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها في لطف معاملة الحبيب صلى الله عليه وسلم: [ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله] فهذا شأنه، وهذا عطفه، وهذه مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.(130/8)
شبهة في الطعن في حلمه صلى الله عليه وسلم والرد عليها
قد يقول قائل: إن من الناس من يدعوه للعفو هوان شأنه أو ضعف أمره، أو قلة حيلته أو حدود مكانته -أي: لم يبلغ مكانة عظيمة- فنقول: إن مكانة النبي عظيمة، وإن منزلته كريمة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه -وهذا الحديث هو حديث الشفاعة الطويل الذي يدلنا على عظم منزلة النبي ومكانته- قال: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فصلى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب؛ كل ذلك لا يتكلم حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله فقال الناس لـ أبي بكر: ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط.
قال: فسأله.
فقال: نعم.
عرض علي ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة، فجمع الأولون والآخرون في صعيد واحد، ففظع الناس بذلك حتى انطلقوا إلى آدم عليه السلام والعرق يكاد يلجمهم فقالوا: يا آدم! أنت أبو البشر، اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا إلى ربك.
فقال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] قال: فينطلقون إلى نوح عليه السلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين دياراً، فيقول: ليس ذاكم عندي، انطلقوا إلى إبراهيم عليه السلام، فإن الله عز وجل اتخذه خليلا.
فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السلام فإن الله عز وجل كلمه تكليماً، فيقول موسى عليه السلام: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى.
فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل.
قال: فينطلق، فيأتي جبريل عليه السلام ربه فيقول الله عز وجل: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة -بمقدار أسبوع- ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع.
قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع.
قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل عليه السلام بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي ربي! خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وإيلة، ثم يقول: ادع الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادع الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد.
ثم يقال: ادع الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك.
قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً).
إن هذا الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده لدليل على ما للنبي من المنزلة، وما له من العظمة، وما له من الكرامة، وما له من الرفعة العالية عند رب العالمين عز وجل، فما كان عفوه عن ضعف، هذه منزلته وذاك عفوه، هذه كرامته وذاك صفحه، هذا قدره وذاك إحسانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: "قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) هذا شأنه وتلك كرامته عند الله، ومع ذلك لا يرضى بالمديح ولا بالغلو فيه ولا بالإطراء وإنما يقول: إنما أنا عبد.
ولقد شرفه الله بهذه العبودية: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:19] فأشرف منزلة لإمام الهدى أن يكون عبداً لله، وقد أكرمه الله عز وجل بذلك.(130/9)
تواضعه صلى الله عليه وسلم
مع عظيم منزلته صلى الله عليه وسلم فلقد كان متواضعاً عاملاً بقول ربه عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] يقول أنس رضي الله عنه: (إن كانت الأمة الجارية لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) رواه البخاري.
والله إنا لنجد من أنفسنا فضاضة وغلظة، أو نجد من أنفسنا جفاءً ورعونةً في الأخلاق يوم أن يأتي أحد فيجر أحدنا بردائه أو بثوبه أو بعباءته فيقول: لي إليك حاجة ربع ساعة أو عشر دقائق بعد الصلاة، فإذا أطال قليلاً جعل الواحد منا يضيق ويتبرم من هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأمة، إمام الهدى، إمام الدولة، الإمام الأعظم، أنيطت به كل المهمات العظيمة ومع ذلك تأخذه الجارية الصغيرة فتتنحى به قليلاً وتحدثه في حاجتها صلى الله عليه وسلم.(130/10)
تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الأنصار وضعفاء المسلمين
(وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم) رواه النسائي بإسناد صحيح، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، وكان صلى الله عليه وسلم (يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويحلب الشاة -يحلب شاته بيده- ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير) رواه الطبراني بإسناد صحيح.
يا أحبابنا أين نحن إذا دعانا فقير أو عبد مملوك لا يُلتفت إليه؟ أين نحن إذا دعانا أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ذي أطمار هل نجيبه أم لا؟ لقد كان صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة تواضعاً لربه، ويخفض الجناح عملاً بقول ربه عز وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].(130/11)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في حمله الحسين بن علي على كتفه
يقول علي رضي الله عنه: (كان على الكعبة أصنام، فذهبت لأحمل النبي صلى الله عليه وسلم إليها -يريد علي أن يحمل النبي لكي يتكئ النبي بقدمه الشريفة على كتفه ليتطاول إلى تلك الأصنام فيكسرها- قال علي: فلم أستطع أن أحمل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فحملني هو صلى الله عليه وسلم فجعلت أقطعها ولو شئت لنلت السماء) النبي يرفع علياً ويجعله يصل إلى تلك الأصنام ليكسرها! علي بن أبي طالب وأي منزلة بقربه من النبي، والنبي يحمله ويرفعه، والنبي يخضع ويتواضع بكتفه لقدم علي، من أجل ماذا؟ من أجل التوحيد، من أجل أن تكسر الأصنام، من أجل ألا يعبد إلا الله عز وجل.(130/12)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في قبول الهدية وإجابة الدعوة
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (لو أهدي إلى ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت) ما ظنكم لو أن واحداً انتظر أحدكم ثم أعطاه ذراع شاة عند باب المسجد لقال له: أي تخلفٍ تعيشه؟! ألا تعرف وروداً جميلة؟ ألا تعرف هدية مناسبة؟ ألا تعرف شيئاً من المزركشات ومن المنمقات ومن المجملات تلفها حول هديتك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم لو أهدي إليه ذلك لقبله، ولو دعي إلى كراع شاة لأجاب.
وفي رواية أنه قال: صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) ويقول أحد الصحابة: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه) رواه البخاري.
هكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر نفوس صحابته، وحتى لا تنكسر نفوس الفقراء والمساكين، لو دعوه إلى ذراع لأجاب، ولو أهدوه كراعاً لقبل؛ فأين نحن من هذا أيها الأحبة؟ إن من الناس من يأنف من زيارة بعض الفقراء، ومن الناس من يأنف أن يأكل مع بعض العمال، ومن الناس من يأنف أن يزور بعض الناس في بيوتهم القديمة أو في مساكنهم التي ما عرفت رحبات الفلل ولا جنبات القصور، أما هو -أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم- فقد كان يجيب دعوة الداعي، وكان يقبل الكراع، ولو دعي إلى ذارع لأكل منه صلى الله عليه وسلم.(130/13)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في عشرته مع أهله
ولا تسل عن لين معشره، ولا تسل عن عذوبة خلقه صلى الله عليه وسلم، وما أحوجنا أن ندرس ونقرأ ونبحث ونفتش، وأن نقلب عن دقائق وزوايا وجوانب في حياته صلى الله عليه وسلم تدل على أنه يرفع الكلفة بينه وبين زوجته، يمازحها، يداعبها، يرقق لها الخاطر، يلين لها الكلام، يسعدها ويؤنسها! وكما قلت آنفاً: فإن منا من تراه عذب اللسان مع الناس ولكن إذا دخل بيته سلقهم بألسنة حداد أشحة على هذا الخلق الحسن.
فلماذا يا عباد الله؟ من لين عشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالت عائشة: [كان الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه صلى الله عليه وسلم فطأطأ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -طأطأ منكبيه- فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت] هذا النبي صلى الله عليه وسلم يطأطئ بعاتقه وعائشة على بني أرفدة تتفرج -على الأحباش- وهم يلعبون بالحراب، والنبي قد طأطأ كتفه لها وهي متكئة ومعتمدة على منكبه صلى الله عليه وسلم.
أين نحن من ذلك؟ لو جاءت زوجة أحدنا أو صغيرة أحدنا تريد ذلك لقال: اذهبي وابتعدي، خذي كرسياً أو أي شيء غير هذا؟ لطف ورقة ولين وعذوبة في المعاملة، هذا هدي نبينا، وهذا شأن نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضع وعذوبة لطفه صلى الله عليه وسلم ما تقوله عائشة قالت: [كانت تلعب بالبنات -ومعنى البنات: هي الدمى التي لا صورة لها، أي: لم ينقش لها عين ولا أنف ولا فم وإنما هي دمىً تحشى بالقطن معروفة- تقول عائشة: كنت ألعب بالبنات فكان صلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي] يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيجد البنيات الصغيرات أتراب عائشة رضي الله عنها فيدعوهن ويدخلهن.(130/14)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في أخذه بزمام راحلة معاذ
ومن تواضعه ما تفرد به الإمام أحمد في روايته عن معاذ بن جبل قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب على الدابة ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري، فبكى معاذ لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت فأقبل بوجهه نحو المدينة فقال: إن أولى الناس بي المتقون أين كانوا وحيث كانوا).
ما أجمل تواضع النبي صلى الله عليه وسلم! إمام الأمة، الغبار يعفر قدميه وهو يودع قائداً من قواده، وهو راكب والنبي يمشي، النبي يمسك بزمام الراحلة ويحدث معاذاً يقول له: لعلك لا تلقاني، لعلك أن تمر بمسجدي، يقرب له مصيبة لا بد من حلولها، وقدراً لا بد من بلوغه، وأجلاً لا بد من حلوله وهو موته صلى الله عليه وسلم فيقول: (أو تمر بمسجدي، أو تمر بقبري) فيجهش معاذ بالبكاء، ثم بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي) بنو هاشم؟ لا.
القرشيون؟ لا.
القبليون؟ الأحباش؟ العجم؟ الأثرياء؟ السادة؟ الملوك؟ الوزراء؟ الأمراء؟ لا (أولى الناس بي المتقون أين كانوا وحيث كانوا) فمن كان تقياً فهو من أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولن ينفع أبا لهب أنه قرشي من جرثومة وأرومة قريش، وما ضر بلالاً أنه عبد حبشي رضي الله عنه فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم دف نعليه في الجنة.(130/15)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في نقله التراب يوم الخندق
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان يوم الأحزاب قام صلى الله عليه وسلم ينقل التراب مع الصحابة، قال أبو إسحاق: سمعت البراء يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب، ولقد وارى التراب بياض بطنه وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا إن الألى قد بغوا علينا
وربما قال:
إن الملأ قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
يرفع بها صوته) وفي رواية عن البراء بن عازب قال: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يحمل التراب].
كان بوسعه صلى الله عليه وسلم أن يصدر الأوامر ألا تغيب الشمس إلا وقد حفر الخندق، كان بوسعه صلى الله عليه وسلم أن يدور عليهم ويأمر هذا ويزجر هذا وينهى هذا، لكنه صلى الله عليه وسلم يحفر كما يحفرون، ويحمل التراب كما يحملون، وذلك لأن هذه المشاركة تفجر طاقات الحب، والولاء، وتفجر طاقات الاستجابة، وتجعل النفوس متعلقة بإمامها وقائدها وحبيبها صلى الله عليه وسلم، يعلمهم التواضع بهذا، حتى إذا كانوا قادة في المستقبل ما تأمروا وما تجبروا وما تسلطوا، وإنما شاركوا وعملوا ورحموا وتداركوا، وما بغوا وما ظلموا ولا يظلمون.(130/16)
تواضعه صلى الله عليه وسلم في كراهيته للقيام له
ومن تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه مع حب الصحابة له كانوا إذا رأوه لا يقوم له أحد منهم لما يعلمون من كراهيته لذلك، كان يكره إذا قدم أن يقوم له الناس، ويكره أن يقوم الناس على رأسه صلى الله عليه وسلم من شدة تواضعه، ونحن -أيها الأحبة- على مستوانا معاشر العامة والمساكين! لو دخلنا مجلساً ثم رأينا الناس جالسين ما قاموا لقلنا: لماذا قلة الأدب؟ لماذا قلة الأخلاق؟! أما دخل إنسان عليهم؟! لماذا لم يتمثلوا قياماً؟! ونسينا (من أحب أن يمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) نعم إذا كان من عادات قومه وأعرافهم وجميل أخلاقهم ومعاملتهم أن القادم أو أن الداخل يوقف له، وخشينا أن يظن أن ذلك من الاحتقار، وخفنا أن يقذف الشيطان في قلبه سوءاً فلا بأس أن نقوم له من غير تعظيم، ولكن من باب التحبيب وطرد وسوسة الشيطان، مع أن للقادم حقاً خاصة إذا كان قادماً من السفر:
فلما بصرنا به مقبلاً حللنا الحبا وابتدرنا القياما
ولما جاء سعد بن معاذ قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) احملوا سيدكم، وأنزلوا سيدكم المهم أنه كان صلى الله عليه وسلم في قمة وغاية التواضع الذي نكاد أن نفقده حتى مع الفقراء والعالة، ومع السوقة والمساكين إلا من رحم الله، فضلاً عمن عنده ريال أو ريالات أو دينار أو ديناران.(130/17)
تواضعه صلى الله عليه وسلم مع الصبيان
أما تواضعه مع الصغار ورحمته ولطفه صلى الله عليه وسلم مع الصغار فيدل على ذلك ما رواه أنس، يقول رضي الله عنه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان يلعبون فسلم عليهم) رواه مسلم.
الرسول، الإمام، إمام الأمة الذي ينزل عليه جبريل بالوحي، ويخير أن تسير الجبال ذهباً أو فضةً وراءه، ويخير أن تطبق الجبال على أهل مكة، ويخير بعذاب أقوام، يمر على صبيان فيقول: السلام عليكم.
النبي صلى الله عليه وسلم يسلم، ويلقي هذه التحية.
إن كثيراً منا لا يسلم على الكبار فضلاً عن الصغار، وللأسف أن كثيراً من المسلمين والذين يلامون أكثر من غيرهم من الطيبين يمر الواحد منهم فلا يبتسم، ويمر فلا يسلم، يا أخي الحبيب! سلم ولو كان الذي تراه عليه شيء من آثار التقصير، سلم فلعل الله أن يحبب الخير إليه بسلامك، سلم فلعل الله أن يقذف في قلبه الحياء من المعصية، سلم لعل هذا السلام يكون سبباً في دخولك إلى حديث معه لإنكار هذه المعصية التي تراها منه.
أما ما يحصل من كثير من الشباب -هداهم الله- فينبغي للواحد إذا مر على أخ أو إذا مر على مسلم حتى ولو كان عاملاً، حتى ولو كان من سوقة، حتى ولو كان من أي فئة أن يسلم عليه ويبتسم فله بالسلام حسنات، وبالابتسامة صدقة: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) فهذا النبي يمر على الصبيان ويسلم عليهم.
بعض الإخوان إذا مر على الصبيان وهم يلعبون فإنه يضغط على بوق السيارة حتى يطردهم عن لهوهم يميناً ويساراً، لماذا يا أخي؟ مر، فإن كان وقت صلاة سلم عليهم، يا شباب! ما رأيكم لو نصلي وبعد الصلاة نكمل اللعب؟ يا شباب! السلام عليكم، أنا سمعت واحداً يقول لصاحبه: الله يفعل بك كذا يسب ويشتم، وهذا ما يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرضى بذلك، فلنتعلم من أخلاق النبي ولنطبقها، لا تكن هذه السيرة أوراقاً في الكتب، وحروفاً وأسطراً في المجلدات، نريد من هذه السيرة أن نتأسى بها حتى نطبقها في واقعنا.
وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: يا زوينب! يا زوينب! مراراً يداعبها ويلاعبها صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضعه مع الصغار ولطفه بهم ما رواه أنس قال: (كان صلى الله عليه وسلم يدخل علينا، وكان لي أخ صغير، وكان له نغر -الطائر النغري المعروف- يلعب به، فمات نغره الذي كان يلعب به، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى أبا عمير حزيناً فقال: ما شأن أبي عمير حزيناً؟ فقلنا: مات نغره الذي كان يلعب به يا رسول الله، فيلتفت صلى الله عليه وسلم إلى هذا الصغير فيقول: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ فيقول أبو عمير: مات يا رسول الله! مات يا رسول الله!) فالنبي بقدره وجلالة هيبته يتنزل إلى مستوى هذا الطفل فيتفاعل معه في مصيبته الصغيرة وهي: موت عصفوره.
قبّل الطفل ولو لم يك لك إنما الطفل على الأرض ملك
عطفة منك على لعبته تخرج المكنون من كربته
ومن تواضعه ولطفه بالصغار ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نلعب فقال: السلام عليكم يا صبيان، السلام عليكم يا صبيان) هذا نبينا إمام الهدى على جلالة قدره يقف ليسلم على هؤلاء الصبيان! وكذلك يقول أنس رضي الله عنه: (كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، أرسلني يوماً لحاجة -وكان أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال أنس: فخرجت حتى مررت على صبيان وهم يلعبون في السوق فوقفت ألعب معهم) النبي أرسل أنساً في حاجة فأنس في الطريق وهو ذاهب لحاجة النبي صلى الله عليه وسلمن إذ وجد أطفالاً يلعبون فنسي حاجة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلس يلعب مع الأطفال، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقف خلف أنس ومن ورائه قال أنس: (فنظرت إليه وإذ به صلى الله عليه وسلم يضحك، والنبي يقول: يا أنيس! ذهبت حيث أمرتك؟ فقال أنس: أنا ذاهب الآن يا رسول الله، أنا ذاهب الآن يا رسول الله!).
فالنبي يرسل أنساً، وأنس يجد أطفالاً يلعبون، فيقف يلعب معهم، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، ثم يلتفت أنس في لحظة وينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع أنه سيعاتبه على تأخره عن الحاجة، والنبي ينظر إلى أنس ويضحك ويقول: ما فعلت بالحاجة التي أمرتك؟ فيقول أنس: (أنا ذاهب الآن يا رسول الله) فانظروا إلى لطفه صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضعه وعذوبة لطفه ورحمته بالصغار ما رواه أبو قتادة قال: (بينما نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة بنت العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فصلى النبي صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه؛ يضعها إذا ركع ويعيدها على عاتقه إذا قام، حتى قضى صلاته يفعل ذلك في صلاته كلها) من أجل ماذا؟ رحمةً بهذه الطفلة، رحمةً بهذه الصغيرة، رحمةً بـ أمامة بنت زينب زوجة العاص بن الربيع، يعني جدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(130/18)
رحمته صلى الله عليه وسلم(130/19)
رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم العامة بالأمة ما ذكر الله في شأنه في محكم كتابه حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز -يعني: أقصر الصلاة- فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) يعني: أخشى على أمه، ومما أعلم من شدة شفقة ورحمة أمه من بكاء ولدها، فيقصر ويتجوز صلى الله عليه وسلم من بكائه.
رواه البخاري ومسلم.
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة أنه راجع ربه في قصة الإسراء والمعراج لما فرض الله عليه خمسين صلاة فجعل يراجع ربه في كل مرة، والله عز وجل يخفف عن الأمة حتى عادت إلى خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
من رحمته أنه قال: (أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فقال: لو قلت: نعم.
لوجبت، الحج مرة وما زاد فهو تطوع).
لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم التراويح بالصحابة فصلى بهم اليوم الأول والثاني، ثم بعد ذلك صلاها في بيته، فقال الصحابة: (هلا نفلتنا بقية شهرنا يا رسول الله؟ فقال: خشيت أن تفرض عليكم فلا تطيقوا ذلك) كل ذلك -أيها الأحبة- من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة.
بل من عظيم رحمته أنه ادخر دعوة الإجابة شفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم.(130/20)
رحمته صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه
ومن رحمته ولطفه في تعليم صحابته صلى الله عليه وسلم ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فزجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه لا تزرموه -أي: اتركوه حتى ينتهي من بوله- ثم قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما انتهى: إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن -ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه وقال-: إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلواً من ماء) لأن من الناس من إذا وقع في زلة أقام أحدهم الدنيا ولم يقعدها؛ لأنه أخطأ، فلا يأتيه باليسر، ما يأتيه باللين، ما يأتيه باللطف، بل البعض ربما يتمنى أن يجد من يخطئ حتى يتعنتر عليه في توجيهه وإرشاده ولا حول ولا قوة إلا بالله! وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فنظر الصحابة إليَّ الصحابة وهم يضربون بأيديهم على أفخاذهم فقلت: وا ثكل أمياه، ماذا فعلت؟!) أي: في المرة الأولى قال: يرحمك الله، فأخذوا ينكرون فعله هذا ويضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فقال: وا ثكل أمياه! ماذا فعلت حتى تفعلوا بي هذا؟! فلما انتهت الصلاة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المتكلم في الصلاة، فقال معاوية: (أنا يا رسول الله.
فقال معاوية: بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم، والله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، فقال صلى الله عليه وسلم لـ معاوية بن الحكم السلمي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه الإمام مسلم.
ما أجمل هذا الأدب! ما أعذب هذا التعليم! ما ألذ هذه المعاملة! ما أطيب هذه النفس التي تجعل الحجر الأصم ينقلب إلى ألين ما يكون، وأسهل ما يكون، وأقبل ما يكون للإرشاد والتعليم!(130/21)
عيشه صلى الله عليه وسلم
أما عيشه صلى الله عليه وسلم وهو إمام الهدى الذي خير أن تتبعه الجبال ذهباً وفضةً، فقد كان لا يشبع ثلاثة أيام تباعاً من خبز بر حتى مات صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة رضي الله عنها في ما رواه الشيخان: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعاً) والآن نحن عندنا مراكز (تخسيس) ومراكز (ريجيم) -نعوذ بالله من الشيطان الرجيم- ومراكز رشاقة، ومراكز لياقة؛ من أجل أننا أصبحنا نتدحرج بهذه الكروش من كثرة ما نأكل! والإنسان إذا نزل على صحن فساء صباح المنذرين؛ ما يرفع رأسه بتاتاً والنبي صلى الله عليه وسلم ما شبع ثلاثة أيام تباعاً أبداً.
وتقول عائشة رضي الله عنها: [إنا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد ناراً، إنما هما الأسودان التمر والماء] رواه البخاري ومسلم، بل ويمر على بيته صلى الله عليه وسلم الهلال تلو الهلال تلو الهلال، أي: يمر الشهر والشهر الذي يليه ولم يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، قيل: (ما كان طعامكم يا أم المؤمنين؟ قالت: الأسودان: التمر والماء).
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع، ما يجد ما يملأ بطنه من الدقل) رواه مسلم أي: من رديء التمر.
الله أكبر! إمام الهدى يخير أن تسير الجبال خلفه ذهباً وفضة! إمام الأمة صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع لم يجد دقلاً يشبع منه! (وكان صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء).
رواه أحمد في مسنده بسند حسن.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بربه، ولا شاةً سميطاً) رواه البخاري يعني: ما رأى شاة مشوية، ما رآها بعينه قط فضلاً عن أن يكون أكل هذا الرغيف المرقق أو البر الناعم أو الشاة السميط المشوية.
وهذا من دعائه صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) رواه البخاري ومسلم.(130/22)
كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكرم الخلق: (وكان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، وكان صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة) رواه البخاري.
وأجود خلق الله صدراً ونائلاً وأبسطهم كفاً على كل طالب
نعم.
ما قال: لا، وما سأله أحد شيئاً فمنعه إياه، بل أعطاه وبذله.
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
تعود بسط الكف حتى لو أنه ثناه لقبض لم تجبه أنامله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
ما كان صلى الله عليه وسلم يرد سائلاً أبداً، وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فقام ذلك الرجل الذي أعطي الغنم وأتى قومه يقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) الله أكبر! يعطي غنماً بين جبلين، ويبيت صلى الله عليه وسلم طاوياً، ما قال: أبقي من هذه الغنم من أجل أن أشبع، أو أنا أدخر لحاجتي، أو أنا لابد أن أفعل لحاجتي ما أفعل، بل يبذل صلى الله عليه وسلم ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً أبداً.
يعطي صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، وكان الرجل يجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمسي الرجل حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.
ولما فتح الله مكة على المسلمين -كما روى مسلم في صحيحه - (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين إلى حنين فاقتتلوا فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة ثم مائة فقال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ) هذا من كرمه صلى الله عليه وسلم.
وما كان يستكثر على أحد عطاء أعطاه لو كان النبي يقيم لهذه الدنيا حساباً ووزناً وهي التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة لما أرخص بها، ولكنه صلى الله عليه وسلم بذلها طيبة بها نفسه صلى الله عليه وسلم.
بل من المعلوم أنه في غزوة حنين عندما طلب صفوان بن أمية مئات من الإبل جاء الأقرع بن حابس التميمي وأعطاه مائة ناقة، ثم جاء عيينة بن حصن الفزاري فأعطاه مائة، ثم جاء غيره وأعطاه مائة، انتهت النوق فما بقي شيء، فجاء العباس بن مرداس السلمي وهو شاعر من الشعراء فقال: يا رسول الله! أعطني، أنا شاركت معكم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم خمسين من الإبل فقال العباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد
العبيد: فرس عند العباس بن مرداس اسمها العبيد، فيقول يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
أنا الذي ما زلت أقاتل ثم الغنائم يتقاسمها الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري!
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع
إلا قراريط أعطيتها عداد قوائمه الأربع
فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي! كفوا عنا لسانه، أعطوه ما يرضيه، فأعطوه حتى رضي، رضي الله عنه.(130/23)
انتقاله إلى ربه صلى الله عليه وسلم
هكذا -أيها الأحبة- كان صلى الله عليه وسلم يعطي ويبذل بذلاً سخياً، ومع أنا لم نحط بدرر سيرته -وكل سيرته أقمار ولآلئ ودرر- صلى الله عليه وسلم إلا أن سنة الله ماضية: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30].
ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا
روى البزار في مسنده وصححه الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] قال الله لنبيه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] والنبي صلى الله عليه وسلم يعزي من ابتلي بمصيبة أن يذكر مصيبة الأمة في فراقه صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته فيّ فإنها أعظم المصائب) رواه الإمام مالك والدارمي والطبراني في الكبير وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته في عن مصيبته التي تصيبه، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم.
نعم -أيها الأحبة- لا بد من الفراق، ولا بد من الوداع، هذه الصفحات المشرقة والليالي المقمرة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والأيام المنيرة بشمائله صلى الله عليه وسلم، لا بد لهذا النبي من سنة الله في خلقه أن يموت وأن يفارق هذه الدنيا:
عزاء فما ينفع الجازع ودمع الأسى أبداً ضائع
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحد راجع
عرفنا المصائب قبل الوقوع فما زادنا الحادث الواقع
وكل أبي لداع الحِمام إن يدعه سامع طائع
يسلم مهجته سامحاً كما مد راحته البائع
وللمرء لو كان ينجي الفرار في الأرض مضطرب واسع
وكيف يوقى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع؟
ولو أن من حدث سالماً لما خسف القمر الطالع
لو أن الأحداث يسلم منها أحد، لو أن الموت يسلم منه أحد، لو كانت الأعمار تبقى لواحد لرأيت رسول الله حياً مخلداً، فقد كتب الله على نبيه ما كتب، فعن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير قالت: فلما اشتكى وحضره القبض غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى، تقول عائشة: فقلت: إذاً لا يختارنا) رواه البخاري ومسلم.
ولما نزل به صلى الله عليه وسلم الموت طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو كذلك، ثم يقول: (لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري.
وقد دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد عبد الرحمن سواك وعائشة قد أسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، تقول عائشة: (فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك في يد عبد الرحمن فعلمت أنه ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك.
فأشار بيده أن نعم، قالت: وبين يديه ركوة فيها ماء، فجعل صلى الله عليه وسلم يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه الشريف يقول: لا إله إلا الله.
إن للموت لسكرات، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الكرب يتغشاه قالت فاطمة عليها السلام: واكرب أبتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم فلما مات قالت فاطمة: يا أبتاه أجاب رباً دعاه يا أبتاه إلى جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه).
فلما دفن وعاد الصحابة بعد دفنه صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة عليها السلام: (يا أنس! أطابت نفوسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر في العالية فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله، فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي! طبت حياً وميتاً يا رسول الله، والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبداً.
ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه ووجد عمر يتكلم والناس حوله، فلما تكلم أبو بكر التفت الناس إليه وتركوا عمر، فجلس عمر وقام أبو بكر وأثنى على الله وقال: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت حتى تلاها أبو بكر، قال عمر رضي الله عنه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى هويت إلى الأرض -سقطت على الأرض- وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات).
صُلي عليه صلى الله عليه وسلم، ودفن وغسل صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تيقن عمر أنه قد مات صلى الله عليه وسلم من شدة حبه لنبيه إمام الهدى.
فهذا نبينا، وهذا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، وما أجمل قول القائل فيه:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل يغرى بهن ويولع الكرماء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذ رضيت فذاك في مرضاته ورضا الكثير تحلم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديَّ وللقلوب بكاء
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء
بك يا بن عبد الله قامت سمحة بالحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهي حقيقة نادى بها الحكماء والعقلاء
الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء
والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء
أيها الأحبة: حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه خاصة يوم الجمعة وليلتها، وأن ننافح عن سنته، وأن ننشر دعوته، وأن نهتدي بهديه، وأن نصدق حبه باتباعنا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.(130/24)
الأسئلة(130/25)
كلمة توجيهية لرجال الحسبة
السؤال
فضيلة الشيخ: إخواننا في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد كان لديهم اليوم محاضرة في مقرهم، فرأى فضيلة رئيس الهيئة أن يحضر جميعهم إلى هذا المسجد، ومعهم فضيلة الشيخ/ عثمان الشهري رئيس الهيئة في جدة، ويطلب كلمة توجيهية قصيرة إليهم.
الجواب
أما أحبابنا وإخواننا المحتسبون القائمون على ثغر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلهم منا خالص الدعاء، وجميل الثناء، والتواصي فيما بيننا وبينهم بالحق والصبر، وإن هذا الثغر لنفع متعد، وعبادة ليست قاصرة، لأن البعض قد يقول: ماذا لو اشتغلت بخاصة نفسي، وما الذي يشغلني بالذهاب والإياب ومطاردة المجرمين والأشرار والفجار؟ نقول: يا أحبابنا! هذا ثغر عظيم، والقائمون عليه هم الذي يحمون السفينة من أن تغرق بإذن الله عز وجل، فواجبنا وحقهم علينا أن ندعو لهم.
ونصيحتنا لهم أن يتذكروا الإخلاص وأن يتذكروا الاحتساب، نحن نعلم أن الهيئة ليس فيها من المرتبات المغرية حتى يصر العاملون في البقاء فيها، ونعلم أن الهيئة ليس فيها الحوافز الجيدة، ونعلم أنهم بأمس الحاجة إلى أمور كثيرة، لكننا نعلم أن الذي أبقاهم رغم هذا كله هو الغيرة لدين الله، والغيرة لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فإنهم بإذن الله على خير من عند الله في الدنيا والآخرة.
كما نوصي أحبابنا بالرفق واللين وعدم العجلة، ولأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً) فالمنكر الذي ينكر هو الذي رأيناه وتحققنا منه أو رآه من بلغنا، ثم تحققنا بعد ذلك من بلاغه، فلا نعجل في اتخاذ إجراءات، لأن من الفجار من يمثلون تمثيليات من أجل الإيقاع بالهيئة في دعوى التسرع وعدم التثبت ونحو ذلك؛ ولذلك فلابد لنا من التثبت والتريث.
المسألة التي تليها: الستر على المسلمين ما أمكن إلى ذلك سبيلا؛ سواءً بستر الأمور إذا بلغت للهيئة، لأن الأمور خاصة إذا بلغت إلى رئيس المركز وهو نائب السلطان في الحسبة فلم يكن من حقه أن يعفو أو أن يستر (تعافوا الحدود في ما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) أي: فلا يجوز التساهل بهذا الأمر، لكن لعل ذلك بالإمكان إذا كان في مسائل التعزير، إذا كان في مسائل التعزير ورأوا من المصلحة أن يعالج الأمر بطريقة معينة، وأن يقام الأدب بطريقة معينة من دون هتك ولا فضح، وهو المعروف المشهور المعلوم عن إخواننا في الهيئة، والذي نعلم عنهم -جزاهم الله خيراً- أن القضية إذا تعلقت بالفتيات أو بالنساء فإنهم أحرص ما يكونون على سترها حفاظاً على مستقبلها، وأملاً في زواجها حتى لا تفضح، فإذا هتك سترها فإنها لا تجد من يتزوجها، وربما كان سبباً في طلاق أخواتها المتزوجات أو في بقاء أخواتها العانسات لا يتزوجن، فهم يراعون ذلك أشد المراعاة.
ثم إني أدعوكم جميعاً أنتم -أيها الإخوة- أن تتفقدوا الهيئة بأنفسكم بمعنى: إذا كان بجواري أنا جهاز للهيئة وأنا أعرف أحد التجار والمحسنين، هذا المركز محتاج إلى جهاز حاسوب (كمبيوتر) بحاجة إلى شيء من الأثاث، بحاجة إلى التعاون في إصلاح سيارة، فلا نقول: جهاز الحسبة جهاز حكومي ونحن لا علاقة لنا به ألبتة، فكثير من الدوائر الحكومية تقبل الهبات والتبرعات والهيئة من ضمنها، فمن واجبنا أن نجتهد في إعانة القائمين على هذا الثغر وإكمال احتياجاته ومستلزماته، ولنا بذلك أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
واعلموا يا إخوان أن العلمانيين يسوؤهم يوم أن يروا سيارة هيئة أو رجل حسبة، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون، لابد أن تبقى الهيئة، ولابد أن تبقى الحسبة، ولابد أن يبقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلينا أن نتمسك بذلك وأن نفوت مصالحنا في مختلف الجهات الأخرى حينما نتمسك بالهيئة، ونعلم ما يفوتنا من التمسك بها من الحوافز الأخرى، لكن لن يضيع عند الله عز وجل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.(130/26)
بيان الكتب الشاملة لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
السؤال
نرجو منكم يا فضيلة الشيخ أن تدلنا على كتاب في السيرة يبين لنا دقائق شماله صلى الله عليه وسلم.
الجواب
كتب السيرة كثيرة جداً، ولكن الكثير منها غير مضبوط بالسند، أعني: غير محقق بالأسانيد، لكن أنا أقول: من أراد أن يبحث في شمائل وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم بحثاً مضبوطاً بالأسانيد، ويعرف الصحيح من الحسن من الضعيف أو من الموضوع حتى يتجنبه فعليه بكتب الحديث، فإن كتب الحديث لا تخلو من فصول في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مبعثه، وفي أخلاقه، وفي كرمه، وفي عفوه، فكتب السنة فيها خير كثير.
لكن هذا لا يجعلنا نقول: لا نلتفت ولا نعتبر ولا نستفيد من كتب السيرة بل نستفيد منها، وعلى سبيل المثال سيرة ابن هشام الشاملة الكاملة، وكذلك لها مختصرات كـ مختصر السيرة للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، ومختصر السيرة للشيخ/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم للمباركفوري وغيرها من كتب السيرة النافعة المفيدة.(130/27)
أخلاق المعلم المتطلبة فيه
السؤال
ما هي أخلاق المعلم التي يجب اتباعها على ضوء أخلاق المعلم الأول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
العدالة
وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى روح العدالة في الشباب ضئيلا
أن يكون المعلم عدلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] أن يطبق على نفسه وأن يجتهد، ولكن إياه أن يترك التعليم والإرشاد؛ لأنه زل زلة أو أخطأ خطيئة أو لم يستطع أن يفعل شيئاً مما أمر به، فإن ذلك ليس من الحتم اللازم الذي لا يجوز إلا به، بمعنى أن الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يفعل هذا الشيء فلا يأمر به! فكم من فقير يخطب وينصح ويأمر بالصدقات، وقد لا يكون قادراً على إخراج الصدقات، فربما لا يستطيع إلا أن يحقق مصاريف بيته وحده فقط.
وعلى سبيل المثال أشياء أخرى، لكن الحذر الحذر من الوقوع في المخالفات التي ينهى عنها الإنسان، فإن وقع فيها فليتب إلى الله عز وجل، وليبادر هذه الزلة بالتوبة؛ لأن من الناس من لو علم أو نصح أو أفاد قال: أنا أخطأت ذاك اليوم الخطأ الفلاني إذاً أنا منافق، إذاً إذاً إذاً.
نقول: لا، اسمع قول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] المنافق يدمن المعصية في السر ويدمن إظهار الخير في العلن، لكن المسلم يدمن الخير ويستمر على الخير ظاهراً وباطناً.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(130/28)
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
لقد جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يبين أن التفاضل بين الناس ليس بالتراب ولا العنصر ولا الجمال، ولا العشيرة ولا الجاه والسلطان، وإنما التفاضل بما يكون في القلوب من تقوى وتعظيم لله، ولقد حاول أعداء الله زرع التفرقة والتمييز العنصري بين المسلمين، ونجحوا بذلك عند المغفلين من الناس، ولو رجعوا إلى الله لذابت العنصرية.(131/1)
العصبية القبلية في ميزان الشرع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، الناس سواسية كأسنان المشط، أبوهم واحد، الأب آدم).
معاشر المؤمنين: هذه مما لا تخفى على أدنى المتعلمين في أقل الدرجات الدراسية، والمستويات التعليمية، ولكن أناساً كبرت أجسامهم، وسفهت أحلامهم، تقدم بهم العمر، ولا تزال عقولهم صغيرة، لا تزال تعشعش العصبية في نفوسهم، والقومية الجاهلية في قلوبهم، أولئك الذين لا زالوا ينظرون إلى أنفسهم نظرة الكمال؛ لأنهم من قبيلة بني فلان، أو من أسرة بني فلان، أو من فخذ بني فلان، ويرون غيرهم نظرة الدون؛ لأن غيرهم من بني فلان وآل فلان.
سبحان الله!! هل عندهم كتاب في هذا أو أثارة من علم حتى يحتجوا بها، ويفرِّقوا بين العباد بها؟! أسوق هذا -أيها الأحبة- لما سمعته، ودنا إلى علمي، وظهرت بوادره في بعض المجتمعات، وإن كان المجتمع الإسلامي قاطبة يشكو من هذه العصبية الجاهلية، والقومية البغيضة، والعرقية النتنة، إلى يومنا هذا.
أيها الأحبة في الله: إن الإسلام نقل الناس من ضيق القبلية إلى العالمية الإنسانية، ومن أزقة القومية المسدودة إلى صراطه المستقيم الواسع الذي يقبل العباد أحمرهم وأسودهم وأبيضهم، وأميرهم وفقيرهم، ووضيعهم ووزيرهم في هذا الصراط، ومن أبى إلا الخروج عنه، فتباً له وسحقاً وبعداً.
تباً لمن يفتخر بعظم نخر، قال صلى الله عليه وسلم: (من رأيتموه يفتخر بنسبه فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) أي قولوا له: ضع ذَكَرَ أبيك في فمك، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: إن نغمة العصبية الجاهلية، والعرقية الضيقة، طالما عزف عليها البعث في حرب الخليج، طالما دندنت عليها إذاعة مكة المزعومة، وصوت المدينة في إذاعتها المشئومة، وأرادوا أن يمزقوا شمل هذا المجتمع، وأن يقطِّعوا نياط هذه الأمة، وأن يشتتوا اجتماع هذه الأمة بإثارة النعرات والعصبيات، والثارات القبلية القديمة، بين القبيلة الكبيرة ضد القبيلة الكبيرة الأخرى، وبين الفخذ العريض ضد الفخذ الآخر من نفس القبيلة، ولكن الله سلَّم، وأصبحت تلك الصيحات الداعية إلى إثارة النعرات هباءً منثوراً، لا تجد لها أثراً ولا وجوداً ولا نتيجة، ولا غرابة أن يبعث العصبية أو أن يبعث القبلية بعثي ضد المسلمين، أو يبعثها قومي اشتراكي ضد الموحدين، أو أن يبعثها علماني أجنبي ضد الآمنين، لكن أن تنبعث العصبية، وصيحات العرقية بين بني جلدتنا، بين إخواننا، بين أبنائنا، بين أفراد مجتمعنا، فذاك جهل عريض! إن الذين يحاولون أن يرفعوا هذه العصبية، أو أن يتألف بعضهم على بعض في إطار العرقية القبلية، والهمجية الضيقة الجاهلية، أولئك يدقون المسامير في نعش هلاك الأمة، ويهدمون بمعاولهم في كيان وأساس الأمة، ولماذا يفتخر بعضنا على بعض بالنسب؟ ولماذا يفتخر بعضنا على بعض بالقبيلة، ولماذا يفتخر بعضنا على بعض بالفخذ؟ وهب أن ذاك الذي افتخر بنسبه، أو اعتز بقبيلته، أو جعل طوق الجاهلية في عنقه، فلم ير رابطة إلا من خلال تلك القبيلة، ولا يحب إلا في إطار تلك القبيلة، ولا يوالي إلا في إطار تلك القبيلة، ولا يمنع ولا يعطي إلا في إطار تلك القبيلة، هب أن ذاك فعل هذا كله، فهل ضمن الجنة بين عينيه؟!! هل جاوز الصراط بقبيلته؟!! هل نال الشفاعة بنسبه؟!! هل دنا من حوض نبينا بأرومته؟!! هل وجد الأمن في قبره أو الأنس في لحده؟!! هل أعطي فسحة في الأجل بهذه الدعوة الضيقة؟!! معاذ الله.
إن هذا الدين العظيم لم يكن ديناً خالداً يصلح لكل زمان ومكان، ولم تكن هذه العقيدة معجزة متجددة للبشرية إلى قيام الساعة إلا يوم أن جعلت العباد سواسية، لا فضل لعربي على عجمي، ولا أسود على أبيض، ولا أحمر على غيره، إلا بالتقوى.
ولئن كانت دول الغرب التي طعنت في الحضارة، وأغرقت في التمدن، وأبعدت النجعة في وسائل التقنية تفتخر بهذا إلا أنها لا تزال تعيش عقدة الملونين، ولا تزال ترى أسباب العصبية، وألوان العنصرية ضاربة متحكمة في مجتمعها، الأمر الذي نراهن عليه، ونقطع به، بل نجزم بأن انهيار الحضارات الغربية بات وشيكاً قريباً، لأنها تنظر إلى المجتمع نظرة التفرقة العنصرية، ونظرة التفريق بين الملونين.(131/2)
النبي صلى الله عليه وسلم ومحوه لداء العنصرية والتفرقة
ولنعد إلى دولة الرسول صلى الله عليه وسلم لنرى صورة بين أسود وأحمر تلاحا رضي الله عنهما في حالة غضب، وفي حالة ضعف شيئاً ما، بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأسود الحبشي، وأبو ذر الغفاري من غفار، فلما كان بينهما من الكلام ما كان قال أبو ذر: (اسكت يا ابن السوداء، فسكت بلال رضي الله عنه) وسكت لأنه يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لن ولا ولم يقر يوماً ما، شيئاً من هذه العصبية، أو من ريحها، وحاشا الصحابة أن تتحكم فيهم الجاهلية، إنما هي نزغات من الشيطان يستعيذون بالله منها، فيولي شيطانهم خنيساً بعيداً.
فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بئس ما قلت له أن عيرته بأمه، ثم التفت إلى أبي ذر وقال: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية) لم يقل: أنت من أهل الجاهلية، ولم يقل: أنت جاهلي، وإنما قال: (فيك جاهلية) يمكن أن تزول بالتوبة، يمكن أن تضمحل وتتوارى بالأوبة.
(فبكى أبو ذر رضي الله عنه، وعاد إلى أخيه بلال يقبله، ويضمه، ويستسمحه، ويطلب منه العفو والمغفرة، فما كان من أبي ذر إلا أن وضع خده على التراب، وقال: يا بلال! لا أرفع خدي حتى تضع رجلك السوداء عليه).
ولم يقل: أنا غفاري وهذا حبشي ولم يقل: أنا عربي وهذا أجنبي ولم يقل: أنا من غفار وهذا من الحبشة لا.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف:201] يعودون، ويستغفرون، ويتوبون، ويئوبون، وبهذا نعرف كرامة كل مسلم، لو كان رصيده في البنك هللة، أو كانت أطماره بالية، أو كان على بند الساعات والأجور، أو كان لا يملك فلة فارهة، أو لا يجد ريالاً يركب به مع النقل الجماعي فضلاً عن كونه يملك سيارة أو لا يملك.
بهذا نعرف أن منزلة كل مسلم، إنما هي بما يحمل في قلبه من قربة إلى الله فمن كان أقربنا إلى الله، فهو أعلانا منزلة، وأما الأموال والأولاد، فكما قال ربنا جل وعلا: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] ليس البنون والولدان يقربان كل بعيد، أو يرفعان كل وضيع، أو يقويان كل ضعيف، أو يعزان كل ذليل، لا والله! إنما هو الإيمان، إنما هي التقوى، إنما هو الارتباط بالله جل وعلا.
مر رجل غني ثري وجيه رفيع وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة جالسين، فسأل صلى الله عليه وسلم قال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! هذا رجل حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع فجدير بأن يشفع، وإن تكلم فضمان أن يسمع، ثم مر ضعيف فقير) ويا محنة الفقراء في هذا الزمان!
يمشي الفقير وكل شيء ضده ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا نعلة هشت إليه وحركت أذيالها
وإذا رأت يوماً فقيراً معدماً نبحت عليه وكشرت أنيابها
حتى النفاق دخل في الكلاب، ثم مر فقير طرير لا يُلتفت إليه فقال صلى الله عليه وسلم: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: يا رسول الله! هذا رجل مسكين، إن تكلم لا يسمع له، وإن خطب لا يزوج، وإن شفع لا يشفع له، فقال صلى الله عليه وسلم: لهذا خير من ملئ الأرض من ذاك).
وليس الفقر منقبة بعينه، لكن لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علم من انكسار ذلك الفقير، وقربه من الله جل وعلا، ما لم يكن موجوداً عند ذلك الغني بأمواله.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره) يعني: لو قال: أقسمت يا رب عليك أن تمطر السماء الآن لأمطرت.
(رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب) ربما يطرق الباب سائلاً أو محتاجاً أو واقفاً، فيفتح الباب ثم يدفع في وجهه (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
إذاً فإلام يمضي أولئك الذين يريدون أن يمزقوا شملنا في بلادنا بالعصبيات الجاهلية، والقوميات العنصرية؟! ونقول لأولئك الذين يرفعونها شمالاً أو جنوباً، شرقاً أو غرباً، وسطاً أو قريباً أو بعيداً، نقول لمن أراد أن ينظر إلى قوته وموقعه بنسبه أو بحسبه، أو بأرومته، نقول له: تفتخر بماذا؟ بالخراءة والعذرة في جوفك؟ بالبول في مثانتك؟ بالقذى في عينك؟! بالمخاط في أنفك؟! بالوسخ في أذنك؟! بالبخر في فمك؟! بالنتن في بدنك؟!! هذا هو الإنسان، قذى في العين، مخاط في الأنف، وسخ في الجوف، أذىً في البطن.
بماذا يفتخر إنسان على آخر؟! حج الخليفة الأموي ومعه ولداه، وكان الذي يتولى الإفتاء في المناسك بأمر الخليفة هو عطاء بن أبي رباح؛ عبد مولى أُعتق فطلب العلم، فبلغ فيه قمته، فانتهت إليه الفتوى في أمور المناسك، وكان الناس يقفون عليه سماطين أو ثلاثة -بما نسميه طابوراً- كل ينتظر دوره لكي يسأل عطاء بن أبي رباح، وهل كان عطاء جميلاً طويلاً مهيباً وسيماً؟ كان عطاء رحمه الله مفلفل الشعر، لا يرى إلا بعين واحدة، أفطس الأنف، إذا رئي من بعيد كأنه غراب رحمه الله، فلما بلغ الأمر حد الخليفة، يريد الخليفة أن يسأل في شأن من شئون المناسك، فجاء الخليفة وجثا بركبتيه عند عطاء بن أبي رباح، وأجلس ولديه على يمينه ويساره، وطأطأ مطرقاً هيبة للعلم، وإجلالاً للعالم، الخليفة الأموي يطأطئ ويجثو بركبتيه بين يدي عطاء بن أبي رباح، فهل ضر عطاء أن كان عبداً؟! وهل ضر عطاء أن كان مفلفل الشعر؟! وهل ضر عطاء أن كان أسود اللون؟! وهل ضر عطاء أن لم يكن له إلا عين واحدة؟! وهل ضر عطاء كل ما لا يحبه أولئك القوميون والعصبيون؟!(131/3)
القومية ونعرتها الجاهلية
أيها الأحبة: إن نعرة القومية نعرة فاشلة، ولما أن سقطت بلاد المسلمين في يد المستعمرين، وأصبحت أمة الإسلام حمىً مباحاً، وعرضاً مدنساً، ودوحاً حلالاً، لكل غريب، ولكل شرير، ولكل كافر من يهودي ونصراني.
أراد من خدعوا الشعوب بدعوى جمع شمل الأمة من جديد، أرادوا أن يجمعوا الأمة تحت شعارٍ يلم شتاتهم، ويشد ما ارتخى من حزامهم، ويجمع شملهم، ويعيد صفوفهم، فكانت بولةً زرارية كبرى، أن جمعت الأمة في الستينات على شعار القومية العربية، وطبَّل الناصريون، وجعجع العلمانيون، وقلَّد الببغائيون والقرود، وتقلب الحربائيون وراء هذه الدعوى.
من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر وأخذوا يرددون هذا الشعار.
وقال الآخر:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
وماذا كان بعد ذلك؟ لقد عظمت الأشكال، أما النفوس فما تزال صغيرة، لقد كثرت الملابس أما الحقائق فما تزال حقيرة، وقيل لإسرائيل: إنها ستباد وستقتل:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
وبعثت برقية عاجلة، للحيتان في البحار: يا معاشر الحيتان! تجوعوا فسنلقي باليهود إليكم، لتأكلوهم غداءً وعشاءً في أيام متتالية، تجوَّع يا بحر، كما صرح بذلك من صرح، وانخدع الحوت وما وجد طعاماً ونزلت الطائرات:
وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب
وقاتلت دوننا الأبواق صامتة أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا
أيها الأحبة: شعار شبيه بالشعار الذي يطرحه بعض الجهلة، وإني لأجزم أن من يرفع دعوى العصبية اليوم في مجتمعنا الواحد، في أمتنا الواحدة، في جزيرتنا الآمنة، في حدودنا المطمئنة، إن الشعار الذي ربما دندن بعض من أراد أن يجتمع أو يحوم عليه، شبيه بذلك الشعار، ولكن يغفر لهؤلاء الجهل والسذاجة والبراءة، وعدم براءتهم من الدين، وعدم قصدهم بعد الإسلام، وإنما هي نعرة جاهلية.
أما أولئك القوميون العرب، فكانوا يرفعون الشعار يريدون أن يفصلوا الأمة عن العالم الإسلامي، عن الهند والسند وعن إندونيسيا وماليزيا وعن جميع المسلمين في جميع بقاع المعمورة، يريدون أن يجعلوها عربية قومية صرفة.
أعود فأقول -أيها الأحبة-: إننا لم نبعد كثيراً عن تاريخ توحيد المملكة عام (1351هـ) توحدت هذه البلاد الآمنة، وماذا كان قبلها، لعل أجدادنا أدركوا وعاشوا زمناً ما كانت الضعينة تأمن، وما كانت القافلة تسلم، وما كانت الأموال يطمأن عليها، وما كانت الأعراض في مأمن من أن ينالها ما ينالها.
أوبعد أن من الله علينا بجمع شملنا، وتقارب نفوسنا، ووحدة صفنا، في دولة واحدة، وفي مجتمع واحد، نجد من يرى نفسه من أهل نجد لينظر إلى أهل الحدود الشمالية أو الجنوبية نظرة الدون؟! أنجد من يرى نفسه من أهل الحجاز لينظر إلى من عاش في الشرق أو الغرب نظرة الدون؟! لا والله يا عباد الله إن أولئك فيهم من هم خير منا، وفينا من هو خير منهم، والخير مرتبط بالقرب من الله جل وعلا.
ما ارتبط قط لا بنسب، ولا بسبب عرقي، أو بنعرة عصبية، فإن أدركتم هذا استطعتم أن تجمعوا أمتكم على صراط واحد، وفي خيط واحد، وفي محجة واضحة، وإن عاش كل يسب من يقابله في الجهة، فذاك نذير الخطر، والخطر على من تكلم به، والخطر على من رفع هذه الراية، والخطر على من رفع هذا الشعار.
فعلينا -عباد الله- أن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يخذله، ولا يسلمه، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) إن كان فيك احتقار لواحد من أهل الجنوب والشمال، أو الشرق والغرب، أو إن كان في واحد من أهل الجنوب أو الشرق أو الغرب أو الشمال احتقار لمسلم في أي جهة أخرى، نقول: يكفيه أن امتلأ قلبه شراً بنظرة الدون هذه، وبنظرة الاحتقار هذه.
ألا يا عباد الله: افعلوا ما يقربكم من الله، وابتغوا إليه الوسيلة، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وجعلكم محل نعمته، ومحط رحمته، وجعل الخيرات تتدفق إلى أرضكم، والتفتوا يميناً وشمالاً إلى حدود بلادكم، تجدوا أرضاً ملتهبة، وتجدوا فتناً وقلاقل وبلاء ومصائب متعددة، فهل جزاء شكر نعمة الله إلا أن نسليها بالخضوع والركوع، والذكر والشكر له جل وعلا، بدلاً من أن نظن أننا لأننا من بني فلان أصابتنا هذه النعم، لا والله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(131/4)
دعوة إلى الاجتماع ونبذ القبلية والعرقية الجاهلية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: اعلموا أن دعوى القبلية البغيضة، والعرقية الضيقة، والقومية التي لا أصل ولا دليل لها، اعلموا أنها دعوى إن سلمنا بها لأحد؛ فإن كل قبيلة تريد أن تحتج بها، وإن كان بعض العرب، أو إن كان بعض أفراد قبيلة بني فلان أو بني فلان، يريدون أن يروا لهم فضلاً أو مكانة أو منزلة في بقعة من البقاع أو في مكان من الأمكنة، أو بين طبقة من الناس، فليسألوا أنفسهم: لمن الملك قبل ذلك؟ ألم يكن الملك لله يورثه من يشاء من عباده؟
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحداً مراراً والهاً من تزاحم الأضداد
الذين يظنون أنهم هم بنو فلان، الذين لا يتقدمهم أحد في مقام كذا أو في منزل كذا نقول لهم: دونكم فلعلكم تمشون على أجساد أقوام قبلكم، وستمشي أمم بعدكم على أجسادكم وعلى ثراكم، فالله الله أن تفرقنا القبلية، أو أن تمزق شملنا العصبية، أو أن تنطلي حيل أعدائنا فينا.
لقد حاول الأعداء بكل سبيل أن يفسدوا هذا الكيان، إن نعمة الأمن ونعمة الوحدة والاجتماع في هذه المملكة حاول كثير أن يمزق شملها بمختلف الصيحات العلمانية والبعثية، وبمختلف ألوان فتح أبواب الفساد أو تصدير الفساد عبر المخدرات، وعبر الخلاعة وعبر المجون.
ووالله ما نراه من بث مباشر علينا وليس علينا فقط، أو فحسب، بل على كثير من بقاع المسلمين، وفي بعض الليالي يسلط البث بمكثفات ومقويات لكي يرى الناس أفلام الدعاية والخلاعة والمجون، ما هذا إلا خطوةً أو عاملاً يساعد على تفتيت شمل الأمة، وتكسير شمل هذه الدولة المجتمعة، فحذار حذار يا عباد الله أن تنطلي علينا الحيل، ولنتآلف ولنكن عباد الله إخواناً.
واعلموا أنه لن يجمعنا التراث، ولن تجمعنا الفنون، ولن تجمعنا التقاليد، لن يجمعنا إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، إن أردنا أن نؤلف صفوفنا، وأن نجمع شملنا، وأن نحافظ على كياننا، فلنغرس رابطة العقيدة، ورابطة الولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله، هذه أعظم رابطة تجمع القلوب، وتؤلف النفوس، وتجمع الأفئدة بين الشمال والجنوب والشرق والغرب.
وأما التقاليد، وأما ما يسمى بالتراث، أو ما يسمى بالفنون، فإنها لا تجمع أمة متفرقة، أو لا تعالج دعوى العصبية، ولا توحد شمل المتفرقين.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بنا في هذه المملكة خاصة، وفي سائر بلاد المسلمين عامة، اللهم من أراد بشملنا فرقة، وباجتماعنا شتاتاً، اللهم أزهق روحه، وعطل أركانه، وخذ سمعه وبصره، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم لا تحجب دعاء المسلمين فيه.
اللهم اجمع شملنا، ولا تفرح فينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم لا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا على طاعتك، وسخر لنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، واجعل اللهم ذلك في طاعتك، وإعلاء كلمتك، ورفعة دينك، ونصرة أوليائك، ومعاداة أعدائك.
اللهم لا تشمت بالمسلمين حاسداً، اللهم لا ترنا يوماً فيه فرقة أو شتاتاً، اللهم احفظ أبناءنا وبناتنا، ونساءنا وزوجاتنا، اللهم احفظ شبابنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم اجعلهم خير الشباب لدينهم، وفي طاعة ربهم، واتباع سنة نبيهم، واجعلهم خير الشباب لأمتهم.
اللهم إنا نسألك أن تسلط على من أراد بالفتيات والنساء تبرجاً واختلاطاً وسفوراً في أي مجال من المجالات يا رب العالمين! اللهم أهلك الصربيين، اللهم أهلك الصربيين، اللهم أهلك الصربيين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم إنك تعلم أن مطار سراييفو كان وشيك السقوط في أيدي المسلمين، فتدخل نصراني حاقد، فأمسك بهذا المطار حتى لا تقع فيه إمدادات من السلاح عسكرية للمسلمين، وإنما ليبقى لمجرد الأغذية والأدوية، لا أن يصل السلاح إلى المسلمين.
اللهم انقطعت الأسباب، وتقطعت السبل، وأغلقت الأبواب، ولم يبق إلا الفرج والنصر من عندك، اللهم فأنزل النصر على إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم أنزل بالصربيين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل بالصربيين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل عليهم طيراً أبابيل، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم.
اللهم أقم دولة سنية في قلب أوروبا، تكون شجاً وغصة في حلوق النصارى يا رب العالمين! اللهم أقم دولة إسلامية في قلب أوروبا ترفع كتابك وسنة نبيك.
اللهم أحقن دماء المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم احفظ ضائعهم، وأطعم جائعهم، وعاف جريحهم، وارحم ميتهم.
اللهم أصلح شانهم، اللهم تكفَّل بهم، اللهم قوهم وانصرهم وأغنهم، اللهم أنزل الرعب في قلوب أعدائهم، وأنزل القوة في نفوس المسلمين هناك يا رب العالمين! اللهم عجل نصرهم، اللهم عجل نصرهم، اللهم لا تحجب دعاء وقنوت المسلمين ليل نهار لهم، اللهم ارفع الكربة عنهم، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم فانصرهم وانصر المسلمين في فلسطين وفي بورما وفي كشمير وفي أفغانستان وفي سائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(131/5)
إنا وجدنا آباءنا على أمة
إن الحق لجلي واضح لمن أراده وطلبه من مظانه، إلا لمن كان في قلبه ظلم أو هوى، وقد أرسل الله الرسل ليبينوا الحق للناس، وفي هذه المادة يتعرض الشيخ لصور رد الحق على مرور التاريخ، وكذلك الحجج والأسباب التي بسببها يرد الحق، منبهاً على وجوب علاج ذلك الداء العضال.(132/1)
الحق جلي لمن أراده وطلبه
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا مضل لمن هديت ولا هادي لمن أضللت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مباعد لما قربت ولا مقرب لما باعدت، اللهم عائذون بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا.
نسألك اللهم ربنا الأمن يوم الخوف، والنعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول يوم القيامة، اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، واحشرنا في زمرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم غير خزايا ولا مفتونين، بمنك ورحمتك يا رب العالمين! أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأشكر الله جل وعلا ثم أشكركم على حسن إنصاتكم وحضوركم واجتماعكم، وأشكر مركز الدعوة الذي يسر هذا الشرف بالمثول بين يديكم والتحدث إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يذكر بعضنا بعضاً هذا المقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أيها الأحبة في الله: موضوع المحاضرة في هذه الليلة بعنوان: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
أيها الأحبة: الحق أبلج وواضح وجلي.
والحق أبلج لو يبغون رأيته هيهات يبصر من في ناظريه عمى
والله إن الحق لجلي لمن أراده وطلبه، إلا من كان في قلبه ظلم، أو كبر وعلو، أو هوى كما قال عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا} [النمل:14] بألسنتهم، بألفاظهم، بأقوالهم، بأفواههم: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] في قرارة قلوبهم يعلمون أن الحق هو ما جاء من عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] فلماذا يجحدون؟ {ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14].(132/2)
صور لرد الحق على مرور التاريخ
إن لرد الحق على مرور التاريخ صوراً عديدة، فتارة يرد الحق؛ لأن الذي جاء به ضعيف كما قال قوم شعيب له: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] فإنهم يرون أن شعيباً ضعيف، ويرون ضعفه سبباً لرد الحق الذي جاء به، وآخرون يرون أن الفقر والفاقة والمسكنة سبب لرد الحق ممن جاء به، ولذلك قال فرعون يحدث قومه ويرد الحق الذي جاء به موسى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] وهو يفتخر بأمواله ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51].
وقريش تقول لمحمد: {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:53] فهذه صورة من الصور التي بينها القرآن وذكرتها السنة في حال كثير من الذين يردون الحق ولا يقبلونه ممن جاء به.
وإن كثيراً ممن يردون الحق لا يردونه لأنهم يجهلونه، والله إنهم ليعلمونه ويعرفونه، ولكن الظلم والكبر، والهوى والعلو، والعناد والإصرار هو الذي ساقهم لذلك، قال عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} [القصص:50] لم يقل: فإنهم يجهلون أو لا يعلمون أو لا يفقهون أو لا يدركون، قال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] إنه لم يضل عن جهل ولم يضل عن نقص فقه أو فهم، وإنما ضل على علم، كذلك الهوى يعمي صاحبه عن البصيرة ويرده عن اتباع الصراط المستقيم.
فالحق أبلج، حينما ندعو من ضل عن الحق إلى الحق ندعوه بدعوة الله عز وجل لا نسبه ولا نشتمه: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] وإنما شفاء العي
السؤال
{ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وحينما نعالج المريض فإننا لا نشتمه ولا نشتم مرضه، وأول ما نحتاج إليه وأول ما ننبهه إليه أن ندعوه إلى استخدام عقله وفكره؛ حتى لا يكون من الذين قال الله فيهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] إن من الصور الواردة في رد الحق ودفعه ممن جاء به، ما ذكره القرآن في مواضع شتى، وإن الحاصر والمتتبع لها في القرآن ليجد صورة من الصور تكررت في مواجهة كثير من الأنبياء والرسل، تلكم الصورة التي يرد فيها الضالون الحق ممن جاء به؛ لا لأن عندهم حقاً يوازيه أو ينافسه أو أفضل منه، ولا لأنهم لم يفقهوه، ولا لأنهم لم يدركوه، وإنما قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22].
قال الله عز وجل: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:21 - 24] في هذه الآية ذكر ردهم للحق بسبب اتباعهم لآبائهم.
فالأولى قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأمة في هذه الآية بمعنى الملة والطريقة {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] وبعد هذه الآية في نفس السورة: {إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يقول ابن كثير: يقول عز وجل منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف:21] إي من قبل شركهم، من قبل ضلالهم وبدعهم، من قبل ظلمهم وعدوانهم، هل عندهم كتاب كانوا به يستمسكون؟ ثم بين عز وجل أن حجتهم في هذا أن آباءهم سبقوا إلى هذا، وهذا حال كثير من أمثالهم ونظرائهم.
ويقول عز وجل في آية أخرى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُون َ} [البقرة:170] قال المفسرون: إن هؤلاء إذا قيل لهم اتبعوا ما جاءت به الرسل من عند الله، وما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام النبي وحي يُوحى؛ لأن النبي لا ينطق عن الهوى، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال قالوا: لا.
بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والأنداد، فينكر الله عليهم: أولو كان آباؤكم هؤلاء الذين تتبعونهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون، أي: أنتم مصرون على اتباع آبائكم وأجدادكم حتى ولو كان آباؤكم ليس عندهم كتاب يستمسكون به، ولا فهماً، ولا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.
وفي آية ثالثة يقول عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا} [المائدة:104] ما هو حسبهم، وما الذي يكفيهم، وما الذي ملأ قلوبهم دون هذا الحق؟ {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104] قال المفسرون: أي أنهم إذا دعوا إلى الله وشرعه وما أوجبه، وإذا دعوا إلى ترك ما حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: حسبنا، أي: يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك، فالله يرد عليهم ويقول: أولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون؛ أفأنتم تتبعونهم حتى ولو كانوا لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون أبداً.
بل وأخبث من هذا وأضل أنهم يفعلون الفواحش والمنكرات ويحتجون بأنهم ألفوا آباءهم عليها وهم سائرون على ما سار عليه أسلافهم، قال تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] انظروا الكذب والعياذ بالله، يحتجون بآبائهم ثم يكذبون على الله ويقولون إن الله أمرهم بها: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] تعالى الله ربنا عز وجل، مولانا وخالقنا، الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، وهدانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، أيأمر ربنا بالفحشاء وهو الذي حرمها: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] ربنا الذي يحرم الفواحش ظاهرها وباطنها أيعقل أنه عز وجل يأمر بالفحشاء؟! أفيكون هذا دليلاً وحجة يكذبون على الله ويحتجون بآبائهم: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:28 - 29] والعبرة في النصوص القرآنية والنصوص النبوية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان لهذه الآية سبب وقصة كما ذكر ابن كثير قال: كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، فكانت قريش وتسمى الحمس، ويقال حمساً حمستهم الشمس، كانوا يطوفون في ثيابهم، وما سواهم من قبائل العرب يقولون: لا نطوف بالبيت وعلينا ثياب عصينا الله فيها، فمن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يجد أحداً من الحمس يعيره ثوباً طاف عريانا، وربما كانت المرأة تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر وتقول وهي تطوف:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا نحله
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وهذا شيء ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند من أمر من الله وشرعه فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فرد عليهم ربنا عز وجل فقال: قل أي: يا محمد إن الله لا يأمر بالفحشاء، هذا الذي يصنعونه منكر وفاحشة والله لا يأمر به، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟!(132/3)
حكم الاحتجاج بفعل الآباء والأجداد
وكذلك الحال -أيها الإخوة- في كثير من الناس في هذا الزمان في كثير من البدع، سواءً كانت بدعاً في الاعتقاد، أو بدعاً في التعبد، أو بدعاً في السلوك أو المعاملات، أو إسرافاً، أو تجاوزاً، تجد أن كثيراً من الناس إذا نهوا عن منكر شائع وخطأ فادح، وأمر منتشر بينهم غير محمود؛ فإنهم يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم وعلى سبيل المثال:(132/4)
الإسراف تبعاً للآباء والأجداد
منذ أيام كنا في مناسبة في منطقة من مناطق شمال المملكة، وإذ بنا نجلس على موائد لا ينتهي إليها البصر من أول هذا المسجد إلى آخره وصفوف متتابعة، ثم دعي الناس إلى الطعام فأكلوا ووالله ما حركوا ربع ما في هذه الصحون، ثم قيل هذه الضيافة الأولى، وأنتم بعد صلاة الظهر غداً على موعد في الضيافة الثانية، وحياكم الله بعد صلاة العشاء غداً في دخول العريس على زوجته في ضيافة ثالثة، فقلنا لصاحب الزفاف -يا عبد الله- أما تتقي الله عز وجل؟! {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] والله عز وجل يقول: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] فكيف تقعون في هذا الإسراف؛ فقال بعضهم: هذه من عادات آبائنا وأجدادنا، وعيب علينا أن نترك عادات الآباء والأجداد، والأعجب من ذلك أن من مد هذه الموائد وهذه السماطات فقراء يشترون السيارة الصالون التي قيمتها مائة بمائة وتسعين ألف ريال من أجل هذا الإسراف والتبذير، وإذا قيل له: لماذا تصر على هذا المنكر وهذا الحرام؟ {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] يقول: هذه عادة أبي وجدي {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
وكذلك بعضهم تجده يبتدع في العبادة ويتعبد الله بأمر لا دليل عليه من كلام الله ورسوله، ولا دليل عليه من فعل أبي بكر الصديق ولا من فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومع ذلك إذا قيل له: هل عندك حجة من القرآن؟ هل عندك دليل من السنة؟ هل عندك من هدي الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) هل عندك شيء من علم أو آثارة من علم فتخرجه لنا؟ قال: لا.
لكنا أدركنا آباءنا وأجدادنا على هذا، ولا يعقل أن يكون والدي وجدي على ضلال.
لماذا لا يكون والدك أو جدك على ضلال؟ أهو معصوم؟ أم أوحي إليه؟ أم سلم من هذا كله؟ أم استوثق العلم وحفظه من جميع جوانبه؟(132/5)
كشف النساء عن وجوههن بحجة عادات الآباء والأجداد
كذلك كشف النساء وجوههن لإخوة الزوج مثلاً، تجد في بعض المناطق تساهلاً، وإن كانت ولله الحمد والمنة مع الدعوة والاحتساب، ونشر الكتب والأشرطة النافعة بدأت هذه الظاهرة تزول.
وفي بعض المناطق تجد كثيراً من الناس يتساهلون في الدخول على المحارم، فإذا قيل لبعضهم: اتق الله ولا تفعل هذا، فإن نبيك وحبيبك صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والدخول على المحارم، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) يقول بعضهم: لا.
هذه أختي هذه لحمي ودمي هذه شعرة من جسمي لا يمكن أن أهم فيها بسوء، فنقول له: مالنا ومواقفك الشخصية، وما علينا من نزاهتك وطهارتك الذاتية، لكن المهم أن الله أمرك فاستجب، ونبيك صلى الله عليه وسلم أمرك فاستجب أياً كانت درجة النزاهة والطهارة في ذاتك أو في شخصيتك، أو أياً كانت درجة العفة في ذاتك، قال الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] لا تقل: آباؤنا وأجدادنا كانت المرأة فيهم تكرم الضيف وتخدمه، ولم يكن الضيف يهم بالمنكر، أنتم أيها الأجيال الأخيرة الذين تسيئون الظن بالناس، لا.
أياً كانت القضية فنحن عندنا هدي من الله مأمورون بالاستجابة له والالتزام به.
وقس على ذلك كثيراً من العادات والتقاليد، والبدع والأخطاء والأغلاط في أمور العقائد والتعبد والعادات العامة عند الناس في مناسباتهم وغيرها مما يحتج عليه بفعل الآباء والأجداد، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21] وهذه مصيبة هؤلاء الذين لا يجدون حجة إلا أن يقولوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، إنا وجدنا آباءنا على أمة، إنا وجدنا آباءنا على طريقة، وجدناهم على ملة، أيعقل أن الآباء والأجداد ضالون؟ أيعقل أن الآباء والأجداد يخطئون؟ يا حبيبي: أقول لك: هذا كلام الله بين دفتي المصحف لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] أعطيك القرآن وتقول: قال أبي وجدي، أعطيك قول نبيك صلى الله عليه وسلم فتعطينا من خزانة أبيك وجدك، ألا فليتق الله من كان هذا حاله.
أيها الأحبة: من أراد الحق والبصيرة، وأراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حشرجت روحه وبلغت الحلقوم، من أراد أن يعبد الله عبادة تنفعه إذا حمل على الجنازة، وإذا وضع في القبر، وإذا بعث بين يدي الله ووقف للحشر والنشر والحساب والسؤال والجواب، إذا وقف الناس على الصراط بين الجنة والنار، من أراد أن ينفعه عمله فليتق الله ولينظر إلى ما كان يفعله آباؤه وأجداده، فما وجد عليه هدى وأثارة من علم من كلام الله ورسوله فنعم الفعل فعل الآباء والأجداد.(132/6)
إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق
أيها الإخوة: إن الإسلام ما جاء ليلغي كل أفعال الآباء والأجداد، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بنسخ كل ما فعلته العرب من قبله، بل أثبت أموراً كانت العرب تفعلها، وهو ما كان مشروعاً محموداً مشكوراً في القرآن والسنة؛ من الوفاء والصدق والأمانة، وإكرام الضيف، والتعاون على الحق، ونصرة المظلوم، ودفع الظالم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
فيا أحبابنا: لنعلم تماماً أن من علمنا عنده شيئاً من عادات آبائه وأجداده، فما كان منها موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله فنعمت الأخلاق، ونعمت الجبلة والسجايا، وما كانت مخالفة لأمر الله ورسوله، فلن ندع قول جبار السموات والأرض لعادات بشر يمرضون ويتغوطون، ويتبولون ويمتخطون، وينامون وينسون، ويسأمون ويموتون، لن ندع قول الله لقول هؤلاء، ولن ندع قول نبي معصوم لقول هؤلاء أيضاً، قال الله عز وجل في بيان حوار جميل بين إبراهيم عليه السلام وقومه الذين -أيضاً- كانوا يحتجون بالآباء والأجداد: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:51 - 54].
انظروا ماذا قالوا؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، يبين ابن كثير رحمه الله بقوله: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضُّلال، ولهذا قال: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وإياهم على غير هدى وعلى غير طريق مستقيم.(132/7)
العجب من التقليد في عصر التقنية والتكنولوجيا
العجب -أيها الإخوة- في زمننا هذا، في عصر التقنية والتكنولوجيا، في عصر استخدام العقل -كما يقال- أن تجد أناساً ربما فيهم المهندس والطبيب، وفيهم عالم الرياضيات، والمتخصص في الأحياء والفيزياء وغيرها من الأمور التي تحتاج إلى إشغال العقل وإعماله بدقة يقبل أموراً يحتج عليها بفعل الآباء والأجداد.
لئن كانت قبلنا أمم أو أناس يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم لأنهم أميون لا يقرءون ولم يتعلموا، ولم يعرفوا الحساب ولم يعرفوا استخدام العقل في مكانه، فما حجة أولئك الذين برعوا في العلم والفيزياء والرياضيات، والصيدلة والكيمياء وعلوم أخرى، لئن كان في الآباء من لم يتعلم فانطلت عليه عادات الآباء والأجداد؛ فأنت أيها المتعلم، يا من لك عقل، ويا من لك هدى وبصيرة كيف تنطلي عليك هذه.(132/8)
تعطيل العقول سبب الضلالات
إذاً: من واجبنا أن نستخدم عقولنا لو أن رجلاً قال لي أو قال لك أو قال لأي واحد: أرجوك أن تغمض عينيك وأن ترمي بعقلك في الزبالة أو في صندوق، واتبعني في كل ما أنا فيه ولا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً؛ لقلت: لا وألف لا، إن الله ما خلق هذا العقل عبثاً.
لو أن رجلاً أراد يلقمك تلقيماً ويلقنك أموراً، وقال لك: احفظها ولا تناقش ولا تحاور ولا تجادل، ولا تبحث ولا تسأل ولا تناظر، إنما خذها وسلم بها؛ لقلت: وما قيمة العقل، وما الحاجة إليه إذاً؟! أيعقل أن العقل قد خلق عبثاً، إنما خلق العقل لكي يهتدى به إلى الحق، مستنيراً بنور الوحي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه} [الحجرات:1].
بل إن الله عز وجل بين أن طوائف الكفار الذين يصلون جهنم وساءت مصيراً يعترفون بأن تعطيل عقولهم كان سبباً في دخولهم النار، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10 - 11] فالأولى قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل، لو أنا حكمنا عقولنا لما دخلنا النار، ثم قال: فاعترفوا بذنبهم، أي: فأقروا أن تعطيل العقول ذنب، وأقروا أن تعطيل العقول أمر منكر، فكانت العاقبة أنهم من أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: اسمعوا قول الجبار عز وجل الذي خلقنا وإياكم، وخلق جميع البشر، وهو أدرى بما يصلح أحوالنا، وأدرى بما ينفعنا وأدرى بما يضرنا، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] اسمعوا قول الجبار عز وجل: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109] يعني: لا يصبك الشك فيما ترى من فعل هؤلاء، فإنهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل.
قال ابن كثير: فلا تكن في مرية مما يعبد المشركون، إنه باطل وجهل وضلال، إنهم يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل، وليس لهم من مستند إلا اتباع الآباء في تلك الجهالات.
وقال عز وجل أيضاً: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم:9 - 10] أيضاً القضية في الآباء، أنتم تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} [إبراهيم:9] الرسل يدعونهم وينصحونهم ويأتي هؤلاء يردون أيديهم في أفواه الرسل حتى لا يسمعوا منهم حقاً، ولأجل ذلك تجد بعض المساكين إذا قيل له ما قيل، قال: لا.
انتبه لنفسك، إن عندهم كلاماً كالسحر، ضع في أذنيك قطناً أو سدادة حتى لا تسمع هذا الكلام.(132/9)
قصة الطفيل بن عمرو الدوسي
إن الطفيل بن عمرو الدوسي قبل إسلامه كان قد سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث أخاً له يستفسر الخبر أو يستنبئ الخبر، فلم يشف غليله، فقال: إني أريد أن أذهب إلى هذا الصابئ -يعني محمداً صلى الله عليه وسلم- فأنظر في شأنه، فجاءه قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: انتبه! إن عنده كلاماً كالسحر يفرق بين المرء وزوجه، فخذ قطناً وضعه في أذنيك حتى لا تسمع من كلامه، أي اذهب فاسأل أبا لهب أو أبا جهل، أو الوليد بن المغيرة أو أمية بن خلف، اسأل هؤلاء، أما هذا الرجل فلا تسأله فإن عنده كلاماً يفرق به بين المرء وزوجه، قال الطفيل: فوضعت في أذني القطن وقدمت إلى مكان هذا الرجل لأسأل عن حاله، قال: فلما كنت في الطريق قلت لنفسي: إني لشاعر، بل إني لمن شعراء العرب وأشعرهم، وأعرف سجع الكهان من كلام الحق، وأعرف رديء القول من طيبه وجيده، فلماذا أضع في أذني هذا الكرسف وهذا القطن، قال: فأزلته فجئت إلى محمد صلى الله عليه وسلم فسمعت منه، فما هو إلا أن شرح الله صدري للحق.
أيها الأحبة: إن كثيراً من الناس ليس لديه استعداد أن يسمع الحقيقة، أنا أقول لكل عاقل ولكل من يحترم عقله: إياك أن تجعل عقلك في خزانة جدك وأبيك، وإياك أن تجعل عقلك تحت سرير نومك أو في خزانة والدتك، أريدك أن تحمل عقلك معك أينما انتهيت، واسمع مني وأسمع منك، والله لو علمت أن الحق معك لتركت ما أنا عليه واتبعتك، لكن لو بينت لي بصريح قول الله، وصريح قول رسوله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو الحق، ليست القضية أن يقل هؤلاء أو أن يكثر هؤلاء أو العكس، القضية أين الحق فنتبعه؟ أين الهدى فنسير عليه؟ أين الصراط فنلتف حوله؟ أين الراية فنجتمع عندها؟ هذا الذي يرضي الله عز وجل.(132/10)
نهاية أتباع الآباء والأجداد
قال الله عز وجل عن أهل الجحيم: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70] أولئك الذين اتبعوا آباءهم فكانوا معهم والعياذ بالله في دار الجحيم.
أيها الأحبة: إن قضية الاتباع للآباء والأجداد سوف تحسم وتنتهي في الآخرة يوم أن يتبرأ المتبوع من التابع، ويوم أن يتبرأ القائد، من المقود، يوم أن يتبرأ كل من الآخر، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29] أين هؤلاء الذين أضلونا وغررونا، أين الذين كنا نرى الحق أبلج فيضعون على أعيننا غشاوة، وكنا نسمع الحق واضحاً فيضعون في آذاننا وقراً حتى لا تصل الحقيقة إلى قلوبنا.
قال عز وجل: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:165 - 166] لاحظوا البراءة، أخذ بعضهم يلعن بعضاً، ويتبرأ ويتباعد عن بعض: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] في الدنيا أتبعك وتتبعني، لأنك قريبي ومن جماعتي، ومن قبيلتي، ومن صحبي ومن جيراني، الآن تقطعت بنا الأسباب: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:167] المساكين الضعفاء الذين يتبعون ويلحقون على غير علم ولا هداية: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167] هذا الاتباع المحموم المجنون بغير ضابط ولا عقل يكون حسرة على التابعين أمام المتبوعين، وبراءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة، بل إن الله عز وجل يبين أن طوائف من الذين يتبع بعضهم بعضاً يتحاجون في النار ويلعن بعضهم بعضاً، قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:46 - 48].
فهؤلاء أهل النار يتحاجون ويتخاصمون، ويقول الضعفاء للكبراء، يقول الأتباع للمتبوعين، يقول المساكين للسادة والكبراء: إنا كنا لكم تبعاً، أطعناكم فيما دعوتمونا، واستجبنا لكم فيما وجهتمونا إليه في الدنيا من الضلال، فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار؟ هل تتحملون عنا شيئاً من العذاب، {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} [غافر:48] إنا وإياكم سواء في النار لا أحد يتحمل عن أحد شيء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(132/11)
النهي عن التقليد المحموم
أيها الأحبة: إن التقليد المحموم والاتباع على ضلالة لمن أخطر الأمور؛ لأجل ذلك فإن المسلم منهي عن التقليد إلا إن كان عاجزاً عن الاجتهاد، فيتبع من شهدت له الأمة بصلاح منهجه وسلامة طريقته في الاتباع واستنباط الأحكام والأدلة.
قال ابن عبد البر في مسألة مهمة: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا على الكفار وحدهم؟ كأن يقول قائل: يا شيخ! محاضرتك أو كلامك هذا في شأن الكفار، نقول: هذه الآيات في شأن الكفار وفي شأن المقلدين، وفي شأن الأتباع والمتبوعين.
قال ابن عبد البر في مسألة مهمة وهي: هل الآيات الواردة في شأن الكفار لا يستدل بها إلا الكفار فقط؟ أجاب رحمه الله: وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجل رجلاً فكفر، وقلد رجل آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة من مسائل الدنيا فأخطأ وجهتها، فكان كل واحد منهم ملوماً على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضاً وإن اختلفت الآثام فيهم.
أيها الأحبة: إن التقليد لمما يلبسه الشيطان على هذه الأمة لتزيغ في اتباع إبليس.
قال ابن الجوزي رحمه الله في كتابه تلبيس إبليس، قال: ومما لبسه الشيطان على هذه الأمة في العقائد والديانات: أن دخل عليها في عقيدتها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.
والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائب عن الوصول إلى عمقه.
فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الفريق الأول فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية، ثم قال ابن الجوزي: وقد ذم الله سبحانه الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:23 - 24] المعنى: أتتبعون.
أنتم الآن تقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف:24] إذا جئتكم بكتاب من عند الله لا يضل ربي ولا ينسى، بكتاب من عند الله الذي خلقني وخلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم، هل تتبعون وتستجيبون؟ لكنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون.
قال ابن الجوزي: اعلم أن المقلد غير واثق فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال لمنفعة العقل، لأن العقل إنما خلق للتأمل والتدبر.
قال ابن الجوزي كلمة جميلة احفظوها: وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.
أي: يعطيه الله نور العقل فيترك شمعة العقل ويتبع أقواماً آخرين في ضلال أفعالهم وسلوكهم، فلم لا يستدل بشمعة عقله ويستضيء به؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما التقليد الباطل المذموم: فهو قبول قول الغير بلا حجة.
ثم قال بعد أن ساق بعض الآيات في ذلك: فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله، وهو اتباع الهوى، إما للعادة أو النسب كاتباع الآباء، وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين، فقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزله على رسله فإنهم حجة الله، أي: الرسل حجة الله التي أعذر الله بها إلى خلقه.(132/12)
الاحتجاج بالأعراف والعادات على البدع والضلالات
أيها الأحبة: هناك طائفة يحتجون بالآباء والأجداد كما أسلفنا وسردنا الأدلة، وطائفة يحتجون بالأعراف العامة، فيقولون: هذه أعرافنا وعاداتنا، والعرف ما تعارف الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك، وللأعراف البشرية مكانة عظيمة عند الأمم التي تسودها تلك الأعراف؛ ولذلك تجد في بعض القبائل من يقول لك: نتحاكم إلى العارفة، العارفة هو مرجع الأعراف والتقاليد، هو الحجة في هذه القضية، وهذا هو الكفر بعينة، قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
كانت تلك الأعراف لها قوة؛ لأنها بمنزلة القوانين التي تحكم الأمم والشعوب، وللأسف كانت تلك الأعراف جداراً صلباً صد الناس عن اتباع الحق، وقد قام صراع مرير بين الرسل وما جاءوا به من الشرائع الإلهية وبين أصحاب الأعراف والعادات من الزعماء وغيرهم، الذين يقدسون تراث آبائهم أو أجدادهم ولا يرضون أن تمس الأعراف التي تنسب للآباء والأجداد بأي قدح أو كلام، حتى ولو كان القادح لها من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من كلام أئمة الإسلام وصحابة النبي الكرام عليهم رضوان الله عز وجل.
إن الأعراف والعوائد البشرية في كثير من الأحيان تقف حاجزاً أمام دعاة الإصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحق مظلومين، وتراهم منبوذين،؛ لدعوتهم الناس إلى الرجوع إلى الدين الحق الذي أنزله تبارك وتعالى؛ ولمطالبتهم الناس بترك ما هم عليه مما يخالف شريعة الإسلام وآدابه في كثير من بقاع الدنيا.
لقد كانت الأعراف والعادات التي اختصها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين ديناً يتبع وشرعة لا تخالف، وميراثاً يحرص عليه حرصاً عظيماً، يصل إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس، وتهدر الأموال، وهذا ديدن البشرية عبر تاريخها الطويل، حجتهم دائماً: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثرهم مقتدون، والأمة هنا هي الطريقة التي سلكها آباؤهم والعادات والأعراف التي اعتادوها ودرجوا عليها.
وهكذا يرفض الحق بلا دليل، ويرد الصواب بلا بينة، والهدى بلا برهان، وكل ما في الأمر أن الآباء والأجداد كانوا على ذلك والعياذ بالله.
ولقد كانت هذه الأعراف سبباً في ضلال كثير من النفوس، وتعطيل كثير من العقول، وحرمان كثير من الأفئدة من معرفة الحق والاهتداء به.
أيها الأحبة: هذه الأعراف من يضعها؟ يضعها طاغوت من الطواغيت، ظالم من الظلمة متنفذ في قومه ويجري التعامل بها عليهم، ولو قال لهم: إنها من عندي لكفروا بها ولكن يقول: هذه من الآباء، والآباء عن الأجداد، والأجداد ما كانوا على ضلالة بأي حال من الأحوال.
ولذلك كان المشركون يقتلون أولادهم، فمن الذي زين لهم ذلك الأمر؟ الشياطين: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] والمقصود بالشركاء أولئك الزعماء والقادة ورجال الفكر الذين يقولون قولاً فيصبح طريقة متبعة، فيكونون بذلك مشرعين، يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله.(132/13)
نوح عليه السلام مع قومه
إن نوحاً عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما الذي جعل جهد تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة يضيع في هؤلاء هباءً فلا يهتدون ولا يستفيدون؟ السبب أنهم قالوا: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] تسعمائة وخمسون سنة من الدعوة ضاعت في عقول أولئك هباءً منثوراً لم يستفيدوا منها؛ لأنهم كانوا متعلقين بآلهة الآباء والأجداد، ولما رأى نوح أنهم لا يستجيبون وليس لله في نفوسهم وقار، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5 - 9] ثم ذكرهم بالنعم فقال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] مع كل هذه الأساليب وكل هذه الطرق في الدعوة لم يستجيبوا، فعرف العلة التي في نفوسهم، قال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] لو كان لله في نفوسكم وقار وخوف لاتبعتم ما أقول لكم من الله، لكن إذا كان الآباء والأجداد في النفوس أعظم من الله، وأعراف الآباء والأجداد في النفوس أعظم مما عند الله، وعادات الآباء والأجداد أعظم من كلام الله وكلام رسوله فحينئذ اعلم أنه الهوى، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
إن نوحاً لما رأى هؤلاء لا يستجيبون؛ دعا عليهم فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق الأبلج والملة السمحاء والشريعة الغراء، فنابذه العرب العداء، ورموه عن قوس واحدة، وعذبوا صحابته، وآذوه وحاصروه وتآمروا عليه لسفك دمه أو إخراجه أو حبسه قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] وأرسلوا الجيوش الجرارة لقتاله وقتل منهم من قتل كل ذلك حفاظاً على ما اعتادوه من عادات آبائهم وأجدادهم، قال تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص:1 - 7].
ولكن العرب بعد جهد جهيد ولأواء ومشقة أظهروا الحق، وأقلعوا عما اعتادوه وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، وعلت كلمة الله، واستنار الناس بنور الحق، وجاهد العرب الأمم الأخرى حتى أخرجوهم عن عادات آبائهم وأعرافهم الضالة، وهدوهم كما اهتدوا.(132/14)
اتباع الآباء والأجداد بسبب انتشار البدع والضلالات
إن المتأمل في كثير من البدع الشركية والبدع المفسقة، يجد أن من أخطر أسبابها: اتباع الآباء والأجداد، وقد بين الإمام الشاطبي رحمه الله في الاعتصام قال: إن من أسباب انتشار البدع اتباع الآباء والأجداد.
وحول هذه الآية يحدثنا أحد المشايخ عن رجل كبير في السن كان يصلي بجماعته التراويح ويقرأ قول الله عز وجل: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] حتى بلغ هذه الآية: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] سكت والجماعة سكتوا وراءه وهو يفكر في الآية: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] يعني يستغرب من منطق الكفار، فقال وهو يقرأ: انظر الجرأة، من شدة مناقشته في نفسه وتدبره وتأمله لهذه القضية، لما بلغ هذه الآية: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] سكت قليلاً ثم قال: انظر الجرأة، رفع صوته ونسي أن وراءه من يأتمون به، وذلك من شدة هذا الباطل الذي تمسك به الكفار ووقعوا فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: إن اتباع العادات أمر خطير من أسباب الضلال وانتشار البدع، ولا تكاد طائفة من الطوائف التي لم تهتد إلى الحق تسلم منه أبداً، حتى عند الذين يدعون أنهم عقلانيون، وأنهم أصحاب براهين وأصحاب حجج ومنطق فيجعلون كلام أساتذتهم ورؤسائهم وقادتهم مسلمات قطعية لا يصح الاعتراض عليها، أما نحن فمن قال فينا أو قال لنا كلاماً قلنا: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4] والجميل في الحق والهدى أنك لا تستحي بل تتشرف ويتشرف العالم أن أصغر طفل يقف أمام أكبر عالم ويقول: يا شيخ! ما دليلك على هذا الفعل؟ الدين من عند الله ورسوله فأين الدليل من كلام الله وكلام رسوله؟ لكن مصيبة الطوائف الضالة أن هذا السؤال ممنوع، أن تسأل عند الدرجة المعينة لك أن تسأل من الطهارة إلى كذا، لكن بعد ذلك لا تسأل، واسمع فقط لقول الشيخ، اسمع لقول الأب، اسمع لقول الجد، وإن فعلت غير ذلك فإنك على خطر أو أنت من الضلال أو من الخارجين عن الطريقة.
وكذلك اتباع العادات التي درجت بين الناس فتجد بعض المبتدعة يسلكون طريقة في العبادات على وجه من الابتداع، ويجري الناس في العلم معهم، وتجد هذا المنكر ينتشر يمنة ويسرة، ويتلقاه الناس جيلاً بعد جيل، ثم بعد ذلك يقولون: لو كان هذا باطلاً لما تتابع الناس على فعله، ولو كان هذا خطأً لما تواتر الناس على فعله.
أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك القضية تماماً وخاصة من ينخرطون ويهتمون بالدعوة وسلك الدعاة، ينبغي أن يفهموا أن تقليد الأبناء للآباء، وتقليد الخلف للسلف فيا يعتقدون ويعملون من الحوائل العظيمة التي تقف دون قبول المقلدين للحق ومعرفته، بل إنها كثيراً ما تدفعهم إلى مناهضة الحق وأهله؛ لكونه مما كان يعتقده آباؤهم أو يعرفونه.
ومن أجل ذلك فإنك إذا قابلت أحداً جلس أمامك وناقشته وقال: تعال، أنا لا أسلم لك، أي: أنني مثلاً حينما أدعو شخصاً ما إلى أمر معين، أنا لا أريد منه من البداية أن يسلم لي، لكن أريد منه أن يعطيني عقله ويضعه على الطاولة مثلما يقولون.
ضع عقلك وأضع عقلي ولنجعل العقول بوحي الشرع تتحاور وتتناظر وتتناقش، لكن مصيبتك من إنسان يقول لك: أنا ما عندي استعداد اسمع، ولا عندي استعداد أناظر، ولا عندي استعداد أحاور، ولا أريد أن أسلم ولا استمع لشيء ويكفيني الذين عندي ولا أريد أن أقابلك ولا أسمع منك، هذه مشكلة الدعاة في عصرنا الحاضر، حينما تقابل إنساناً مصراً على ما عنده من تراب أجداده وجداته غير راض بأن يحرك من جمود عقله شيئاً.
حينما يتقابل العقل مع العقل فللعقل مع العقل حديث، وللروح مع الروح كلام، وللعين مع العين خطوات، وللنفس مع النفس أسلوب، لكن حينما تقابل عقلاً جامداً، أو جمجمة لا عقل فيها، فأسألك بالله كيف تناظر وتحاور، وكيف تناقش؟ وهنا تكمن هذه القضية، ولذلك إبراهيم عليه السلام لما ناقش قومه أخذ يناقشهم بالعقل لعله أن يستدرجهم في إحضار عقولهم من خزائن أجدادهم؛ ليدخلوا في هذه المناظرة.(132/15)
إبراهيم عليه السلام في معركة مع قومه
إبراهيم عليه السلام في معركة مع المقلدين، قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] فأجاب المقلدون: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] قال إبراهيم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] فقال المقلدون: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:55 - 56] فسألهم مرة قائلاً: ما تعبدون؟ {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] فاستفهمهم إبراهيم ليوبخهم وليقلع جذور التقليد من قلوبهم، قال عن هذه الأصنام: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] فأجابوه في غفلة المقلد وأسر التقليد: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74].
واستمر إبراهيم عليه السلام يحارب التقليد في أجلى صوره وفي أعظم مظاهره بذلك السلاح العظيم، بالحجة النقلية والأدلة العقلية، والبراهين المنطقية، فحينما تدعو أحداً ممن خزن عقله في صندوق جده وجدته، أو ممن لا يريد أن يسمع منك، حاول أن تستدرجه بالحوار والمنطق إن كان له عقل ويحترم عقله واستعد لأن يقبلها، وكما قلت: لئن كان أناس لم يدرسوا في الجامعات ولم يعرفوا استخدام العقل في الكيمياء والطب والفيزياء والهندسة والأحياء والرياضيات، فما عذر جيل فيهم الطبيب والدكتور، والأستاذ والصيدلي، والكيميائي وعالم الرياضيات والفيزياء، لماذا لا يستخدمون عقولهم؟! تستخدم عقلك في حل المعادلة ذات المجهول والمجهولين والثلاثة من الدرجة الأولى والرابعة والخامسة، وفي اكتشاف الميكروب، وفي محاربة الفيروس، وفي معرفة النظرية والقوانين والآلات وغير ذلك، ولا تستخدم عقلك في أخطر قضية تموت عليها وتحيا لأجلها، وخلقت لأجلها وتبعث عليها يوم القيامة؟!(132/16)
الأخذ بالاحتياط في الأمور المشتبهات
وهنا كلام عام للشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني، قال رحمه الله وهو يذكر أموراً ينبغي للإنسان أن يقدم التفكر فيها ويجعلها نصب عينيه وهي: ينبغي لمن كان في ضلالة أو شبهة من ضلالة أن يأخذ نفسه بالاحتياط في مخالفة ما نشأ عليه، فإذا كان مما نشأ عليه أشياء يرى هو أنه لا بأس بها، ويرى أنها مستحبة، ويعلم من آخرين من أهل العلم من يقول أنها شرك أو بدعة أو حرام فليأخذ نفسه بالأحوط وليتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه.
وهكذا ينبغي أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك- إذا وجدت نفسك تميل إلى ما تشتهي أو تميل إلى ما تراه مباحاً وأنت تسمع بملايين من حولك يقولون: هذا حرام ولا يجوز -فإذا وجدت نفسك تأبى ذلك فاعلم أن الهوى قد استحوذ على نفسك فجاهدها، واعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف -يعني: أن يثبت عنده أن ما يُدعى إليه أحوط مما هو عنده- كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46].
إلى الذين يردون أنفسهم وينهون وينأون عن الحق -يا عباد الله- أعظكم بواحدة، أدعوكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا، لا نريد معارك ولا نريد سباباً ولا شتائم، نريد تحكيم هذا العقل المهتدي بمنطق الشرع.
نريدك أن تعطينا عقلك فنتناقش: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] لماذا قال مثنى وفرادى؟ لأن الإنسان إذا دخل مع مجموعة وهتفت المجموعة يهتف مع المجموعة ولا يبالي، ويصرخ مع المجموعة ولا يفكر، ويردد ما تقوله المجموعة ولا يتأمل.
يقول أحد علماء النفس والاجتماع: إن الجماهير لا عقول لها، ويضرب على ذلك مثال بمظاهرات العمال، يقول: مثلاً مظاهرات العمال أو حزب العمال في ألمانيا الغربية تبدأ المظاهرة بمطالبة رفع أجور العمال بواحد مارك ألماني، وتبدأ مسيرة المظاهرة ثم تردد المظاهرة ارفعوا أجور العمال واحد مارك، ارفعوا أجور العمال واحد مارك، وبعد قليل مع الحماس والغليان في أوج المظاهرة يقول قائد المظاهرة: فليسقط وزير العمل، فتردد المظاهرة وليسقط وزير العمل، ونريد رفع أجور العمال بمارك، تدخل معلومة في إثر معلومة من دون تفكير، ويتحمس لها أناس، فتدخل قوات الشرطة فيصارعون الشرطة ويكافحونهم ويضاربونهم، وأصل المظاهرة بدأت بمارك واحد، ما جاءت المظاهرة بإسقاط وزير العمل، ثم بعد قليل يشتد الحماس فيقول المتظاهرون: ولنحطم مبنى وزارة العمل ولنكسر الزجاج، فكل يأخذ الحجارة ويضرب على مبنى وزارة العمل.
والعقول كما يقول علماء الاجتماع: العقول في المجموعة تضيع، لكن إنما أعظكم بواحدة: أن تقوموا لله مثنى وفرادى، أعطني عقلك وأعطيك عقلي ونتناقش بحوار وبحجة ولا ندخل في الضجيج؛ لأن الكلام في الضجيج والغوغاء لا يسمع، طرح الأفكار أمام الغوغاء لا ينفع.
ولأجل ذلك أدعو نفسي وإخواني إلى دعوة كل ضال ترونه حتى وإن كان في ظاهر الأمر لا يقبل، بلغ لأن الانتصار هو البلاغ، وليس الانتصار أن تغسل عقول الناس، الانتصار هو أن تبلغ؛ لأن الله أحكم وأعلم: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ليست مهمتنا أن نغسل عقول الناس، فلنفرض أنك في مكان فيه تسعمائة ألف كافر ومائة ألف مسلم مثلا، مهمتك هي أن تدعو إلى الله، فإذا لم يستجب لك من هؤلاء واحد فلا يعتبر ذلك فشلاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت النبي يوم القيامة يجيء ومعه الرهط، والنبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان) يعني النبي ما أسلم معه إلا سبعة أو ثمانية، أو خمسة عشر أو سبعة عشر، والنبي ما أسلم معه إلا واحد، ونبي لم يسلم معه إلا اثنان، قال: (ورأيت النبي وليس معه أحد) هل نعتبر أن هذا النبي فاشل؟ هل نعتبر أن هذا النبي لم يفهم، ليس النجاح في الدعوة هو أن تذهب نفسك حسرات على الذين عرض عليهم الحق فلم يستجيبوا له: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6].
قال الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ويقول: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] لكن الانتصار الحقيقي هو أن ندعو إلى الله عز وجل وأن نبين كلام الله، وأن نبين كلام رسوله، وأن نبين كلام صحابته الكرام: {وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
أيها الأحبة: إن أولئك الذين يردون الحق ولا يستجيبون له لا يردونه عن قناعة، وإنما تارة يحتقرون من جاء به، وتارة يرونه ضعيفاً، وتارة يرونه فقيراً، وأعجب من ذلك أن بعض الطوائف لا تزال حبيبهم وصديقهم وسوياً في أعينهم وكريماً بينهم ما لم تدعهم إلى الهدى، فإذا دعوتهم إلى الهدى سقطت من أعينهم وهذا المنطق ليس بجديد كما قال قوم صالح له: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} [هود:62] أي: قد كنا نحترمك قبل هذا يا صالح، وكانت لك منزلة في نفوسنا: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] بعض طوائف الضلالة يحرجونك بجو من الاحترام وجو (بالإتكيت) كما يسمى، حتى تهاب دعوتهم، لكن إذا دعوتهم انظر إلى منزلتك بينهم.(132/17)
قصة موسى وهارون مع فرعون وقومه
وكذلك نفس الإجابة تكرر؛ قال فرعون وملأه لموسى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] ولأجل ذلك نهى القرآن عن اتباع الآباء والأجداد وطاعة الكبراء والرؤساء، ويعرض فيها القرآن صوراً واضحة، قال عز وجل: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
وفي سورة أخرى يقول عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66] هذا جزاء الذين يجعلون العقول في خزائن الجدات والعجائز، ولا يخرجون العقول للمناقشة والمناظرة، هذا جزء الذين يجعلون العقول تحت الأرض في السراديب المظلمة ولا يخرجونها إلى النور والحق والهدى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67] هؤلاء لا ينفعهم يوم القيامة أن يلعن بعضهم بعضاً أو يسب بعضهم بعضا.
وفي سورة أخرى يقول عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] وهذا أمر خطير.(132/18)
التعصب الأعمى
أيها الأحبة: إن أشد ما يطمس العقل البشري هو التعصب الجامد المظلم الذي يحبس صاحبه في قمقم قديم كان عليه الآباء أو الواقع الذي عليه الأكثرية والرؤساء، فلا تعتبر بالأكثرية، كما أن الآباء والأجداد ليسوا بالضرورة على هدى وصواب، فكذلك الكثرة ليست بالضرورة على هدى وصواب، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116] ويخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنهم ضلال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].
قد يقول قائل: نحن الآن على حق، ونحن في كثرة من الحق والحمد لله، إذاً هذه الكثرة لا يعتد بها؟ أقول: لا تقس المسألة بحدود المملكة التي أنت فيها، قس الواقع كله في الداخل والخارج في العالم، في قارة آسيا وأمريكا وأوروبا وأفريقيا، انظر إلى أكثر أهل الأرض وستعرف من هم الأكثرية، فلا تعتد بهم في أي حال من الأحوال.
وينبغي للعاقل ألا يكون إمعة كما جاء في الأثر: [لا يكون أحدكم إمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت] وإنما ينبغي للإنسان أن يحسن إذا أحسنوا وإذا أساءوا فعليه أن يجتنب الإساءة.
أيها الأحبة: ينبغي للعاقل ألا يغتر بكثرة أهل الضلالة، وعليك ألا تكون ممن قال فيهم القائل:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
بل ينبغي للإنسان أن يتميز، وإن كنت مثل الناس إنساناً لكن عليك بالتميز:
فإن ضل الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
أي: ليس ضالاً، ولكن تتميز عنهم بالهداية بإذن الله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
وينبغي لمن يحترم عقله ويقول إنه مكرم بهذا العقل والفكر إلا يتعصب للباطل.
إن قريشاً قد ضلت ضلالاً بعيداً مع تعصبها على باطلها، فمع معرفتها للحق لم تدع الله أن تهتدي إليه وإنما قالت منطقاً أعوج كما بيَّن عز وجل في حال أولئك الذين قادهم التعصب إلى أن يسألوا الله العذاب، هذا التعصب يعمي المرء ويصمه ويجعل عقله كأنه منحوت من الحجر الأصم، انظر كيف فعل التعصب بكفرة مكة الذين قالوا في عناد غريب: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] من شدة التعصب لم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا، قالوا: إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة، ولو عقل القوم لقالوا: إن كان هذا هو الحق فاجعلنا مهتدين وإليه هداة داعين، أو اجعلنا من أنصاره، ولكن صدق الله العظيم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
وحكى القرآن حالهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5] وينبغي للمسلم إذا سمع الحق أن ينقاد إليه وأن يدع قول الآباء والأجداد والأعراف والتقاليد، فإن المجادلة بعد بيان الحق ووضوحه مشاقة لله ورسوله، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32].
فالعاقل لا يجادل في باطل، وإنما ينظر بعقله مهتدياً بوحي من عند الله عز وجل، فإن وجدت الحق فيما دعيت إليه فاقبل ولا حاجة أن تتعصب على الباطل وتموت عليه، وتبعث عليه وتحشر مع أهله، وتعبد ربك على باطل.(132/19)
بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً
أيها الأحبة: لا تنزعجوا من الباطل أو كثرته، أو قوته وشوكته، أو جولته أو صولته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) وهو حديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت زيادات مفسرة في بعض الروايات: (قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي رواية (قيل من الغرباء يا رسول الله قال: أناس صالحون في بناة سوء كبير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
قال ابن القيم في كلام طيب جميل: فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جداً سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فيهم غرباء، والداعون إلى السنة الصابرون على أذى المخالفين أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقاً فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
قال ابن القيم في صفات الغرباء: ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم: التمسك بالسنة إذا رغب الناس عنها، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله، لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية له وحده، وإلى رسوله لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقاً، وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم، فلغربتهم بين الخلق يعدونهم أهل شذوذ وبدعة ومفارقة للسواد الأعظم.
ثم يقول ابن القيم رحمه الله في شأن المؤمن الغريب المتمسك بالسنة الداعي إليها، الصابر على الأذى في سبيلها: فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد اعتقادهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طريقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه يعاشرهم على ما لا تهوى أنفسهم، وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، لا يجد من العامة مساعداً ولا معيناً، فهو عالم بين جهال، صاحب سنة بين أهل بدع، داع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى أهل الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قومٍ المعروفُ لديهم منكر والمنكر عندهم معروف، انتهى بنصه من مدارج السالكين ورحم الله ابن القيم وما أعذب وما أجمل كلامه في هذا.
أيها الأحبة: أسأل الله عز وجل أن أكون وإياكم ممن يسألون ربهم الهداية إلى الحق فيتبعونه، ويسألون ربهم ألا يشتبه الحق عليهم فيكونوا ضالين أو مضلين وهم لا يشعرون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله كل خير.(132/20)
الأسئلة(132/21)
صحة حديث: (من لا تقية له لا دين له)
السؤال
هناك حديث نسمعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من لا تقية له لا دين له) ما صحة هذا الحديث، وهل من التقية عدم السؤال في الدين؟
الجواب
لا شك أنه حديث موضوع، وينسبونه إلى أئمة أهل البيت لعله جعفر يقول: التقية ديني ودين آبائي وأجدادي، من لا تقية له فلا دين له.
وهذا موضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم مكذوب أيضاً على الإمام، ولا يجوز للمسلم أن يكون عنده تقية، لأن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فليس للمسلم وجهان، للمسلم وجه واحد، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) إنه لا خير في الكذب ولا صحة لهذا الحديث أبداً، بل هو موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.(132/22)
بدعة العزاء لأكثر من أسبوع
السؤال
أشهد الله أني أحبك في الله، يسأل عن العزاء في بعض في المناطق التي يمتد لأكثر من أسبوع؛ تنصب فيه الخيام، وتوقد فيه النار، وتوضع الصحون، ويكون في العزاء كثير من الحديث عن التجارة وغيرها؟
الجواب
لا شك أن هذا مما ابتدعه المتأخرون، وليس هناك دليل على أن من كانت له مصيبة أن يفتح البيت، وأن يجلس للنياحة أو للحزن أو البكاء أبداً، والشيخ عبد الله بن جبرين متعه الله بعمره على طاعته شهدنا جنازة زوجته ذلك اليوم ودروسه من فجر غد كما هي، ومجلسه لطلبة العلم في بيته كما هو.
ولا يجوز فعل هذا إلا إذا قابلك أحد إخوانك وهو عالم بمصيبتك أو أخبر بها؛ فلا بأس أن يعزيك فيها، يقول لك: عظم الله أجرك، أو: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى.
ومن السنة أن يصنع لأهل الميت في يوم وفاته طعام؛ لأنهم اشتغلوا بحال ميتهم عن إعداد طعامهم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم).
أما أن اليوم الأول والناس في المقبرة وفلان يقول: الغداء عندي، وفلان حاجز للعشاء، وتنقلب القضية من العبر والمواعظ إلى مراجل وافتخار والعياذ بالله وأخطر من هذا، وقد رأيت بعضهم يضع له حوشاً جاهزاً ومن جاء أدخل ذبيحة أو ذبيحتين وجلس مع الناس، وبعضهم يأتي معه بذبحية وكيلو هيل وكيلو قهوة ويقعدون في أكل وشرب لمدة أسبوع، بل إن بعضهم والعياذ بالله صارت الموائد من هنا، ولعب البلوت والورق، والتفرج على التلفزيون، وسماع الأغاني والملاهي في المجلس الثاني، والبدع لا تأتي بخير أبداً.
والسنة في اليوم الأول أن يصنع لأهل الميت طعام ويرسل إليهم بقدر ما يكفيهم، وإياكم والإسراف، وما سوى ذلك فتصدقوا به: (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام) هؤلاء الذين يأتون بهذه الذبائح وهذه الأطعمة لو قيل لهم: يا أخي! تصدق بقيمتها لجمعية تحفيظ القرآن أو للبوسنة أو لـ كشمير أو للفليبين قال: لا.
هذه فقط من العادات والتقاليد، وهذا لا أجر عليه، بل كثير منهم لا يؤجر على هذا الفعل لأنه ما فعله تعبداً، وإنما فعله تقليداً للآباء والأجداد.(132/23)
حكم السجود لطاغية من الطغاة
السؤال
هل يسجد الإنسان لطاغية إذا ابتلاه بالقوة، وهل يدخل في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106]؟
الجواب
لا يسجد، وما أجمل الموت في هذه اللحظة، وهذه ميتة مضمون بإذن الله مائة بالمائة أنها شهادة، أنت يقال لك اسجد له فتقول: لا أسجد إلا لله ولو قطعت رقبتك في هذه الحالة؛ لأنك أبيت السجود لغير الله، فلا تسجد أبداً.(132/24)
الاحتجاج بقصة موسى على الأخذ بدون محاورة ونقاش
السؤال
يحتج بعض الناس في قبول ما عنده بدون نقاش بقصة موسى عليه السلام مع الخضر، ما هو الرد على ذلك؟
الجواب
الرد واضح جداً أن هذا خبر من عند الله عز وجل، لكن هذا الذي يقول: لا تناقش فإن موسى لم يناقش الخضر هذا بشر، والخبر الذي جاء بين الخضر وموسى نبأ من عند الله عز وجل.
الأمر الآخر: فإن الله عز وجل هو الذي أمر موسى وبين له أن الخضر أعلم منه، وذلك كما في سبب نزول الآيات في أكثر من تفسير وحديث: (أن رجلاً من بني إسرائيل قال يا موسى هل في الأرض أعلم منك قال: لا.
فأوحى الله إليه، يا موسى إن عبدنا الخضر أعلم منك) فعندنا دليل أن الخضر أعلم من موسى عليه السلام، وهذا نبي والله يقول: (إن خضراً أعلم منك) لكن هل هذا الذي يقول لا تناقشني نبي؟ وهل السائل قيل له: إن هذا أعلم منك، بل ربما أن السائل أعلم بكثير بالمسائل من هذا المسئول، لكن على العادات والتقاليد ربما يتوج أو يعطى من لا يستحق، فليست هذه بحجة على الإطلاق.(132/25)
حكم التدخين
السؤال
رجل يعاني من التدخين لا يستطيع أن يقطعه؟
الجواب
على أية حال نوصيه بالمجاهدة، فإن هذا من البلوى، وهي من الخبائث التي حرمت في هذه الشريعة الطيبة التي جاءت على هدي نبوي بوحي من عند الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحل لنا الطيبات وتحرم الخبائث، فالعاقل لا يسعى في جنون بإهلاك بدنه وخسارة ماله، ومعصية ربه، وإيذاء الملائكة، وإيذاء الناس، وهذا التدخين يحرم الإنسان خيراً كثيراً.
إن كثيراً من المدخنين فيهم خير كثير، ولكن رائحة الدخان تحرمه من دخول المسجد فيقول: أريد أن أصلي وأسمع المحاضرة، لكن سوف يتضايق الذين من حولي، لكن رائحة السيجارة طردته عن المسجد، وإذا ذكر له أناس على شيشة في الركن يفرح ويذهب للجلوس معهم فهذه السيجارة طردته عن المسجد وقادته إلى الرصيف.
بل إن بعضهم تقوده السيجارة إلى أهون مكان، في الكلية بعض الطلاب يستأذن من الأستاذ، يقول: أنا أريد أن أذهب إلى دورة المياه؟ ويدخل دورة المياه ويجلس خمس دقائق ثم يأتيك وكله (فمه وبدنه) رائحة دخان، قبح الله هذه السيجارة التي جرتك من روضة العلم العاطرة المعطرة إلى مكان النجاسة الخبيث المخبث.
فانظر كيف تجني السيجارة على صاحبها، تجره من المجالس الطيبة إلى المجالس الرديئة، وحسبك أن من كان في جيبه عطراً لا يتردد في أي لحظة أن يخرجه ويطيبك ويطيب الشيخ والقاضي والإمام والصغير والكبير، لكن الذي معه سيجارة، يذهب يبحث عن دورة للمياه يدخن فيها لكي لا يراه أحد؛ ولذلك أدعو إخواني المدخنين إلى العودة إلى الله، وأن يتجنبوا هذا وأن يكرموا أنفسهم وأن يترفعوا عنها.(132/26)
حكم الموسيقى
السؤال
ما حكم الآلات الموسيقية؟
الجواب
لا شك أن الموسيقى لا تجوز أياً كان شأنها.(132/27)
رؤية الزوجة
السؤال
رجل تزوج من امرأة ورزقه الله منها طفلة، ولكنها لا تكشف وجهها له بحجة أنها تستحي؟
الجواب
ما شاء الله جاءه مولود ولم ير وجهها بعد، ربما سمعت أن في بعض البوادي تعودت المرأة لبس البرقع فلا تكشف أبداً، وإن كان هذا من النادر، لكن على أية حال ينبغي إن تجتهد في رؤية زوجتك أعانك الله على ذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله، وشر البلية ما يضحك.(132/28)
مشاهدة المباريات
السؤال
ما حكم مشاهدة المباريات؟
الجواب
مضيعة للوقت لا فائدة فيه، ولا طائل منها إطلاقاً، ولو فازوا أو هزموا أو انتصروا، والله لو كنت عاطلاً ما أعطوك وظيفة، وإن كنت فقيراً فلن يغنوك، وإن كنت مديناً فلن يقضوا دينك، وإن كنت مريضاً فلن يساعدوك في المستشفى، وإن كان عليك أقساط في الكرسيدا التي اشتريتها فلن يسددوها عنك، فلا تشغل نفسك بتشجيع الرياضة، وفي الوقت الذي تشاهد فيه المباريات اشتر لك شاحنة بطيخ وبعها تكسب لك خمسمائة ريال خير لك من مشاهدتها، وبعض الناس مسكين تجده يزعج ويجن ويصيح: فازوا وهزموا ثم ماذا يا مسكين، والله لن يعطوك ولن ينفعوك، وهذا من صور تسليم العقول بلا فائدة.
فلماذا تعطي عقلك تشجع وتطبل والله سيحاسبك عليه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] يوم القيامة لن أحشر مع الفريق، كل يحشر ويحاسب بعقله وبأعماله وفعله، لن ينفعك الانتصارات ولا الفوز، لئن هزموا ألف هزيمة لن تنزل بك درجة، ولئن انتصروا ألف انتصار لن تستفيد درجة، فالعاقل يحفظ وقته عن الضياع، نعم إذا قلنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض، بعض الشباب ربما كان لعبهم بالكرة اشتغال بالمباح، لا يلبسون القصير، لا يلعبونها وقت الصلاة، لئن يعلبوا الكرة خير من أن يسافروا للخارج أو يعبثوا، أو يفسدوا أو يجعلوا من أوقاتهم أوقاتاً يعصون بها الله، واشتغالهم في المباح خير من الاشتغال في معصية، وضياع الوقت في مثل هذا ولا ضياع الوقت في معصية الله، لكن أن تجعل شغلك الشاغل هذه الكرة، وتجعلها هي الولاء والبراء، توالي من والاك فيها وتعادي من عاداك فيها، فذلك أمر خطير، وما أكثر هؤلاء! وعندما كنت في ثالث ثانوي لا أنسى هذا الموقف.
أذكر صديقين بينهم من الوفاق في أمور الصداقة إلا مسألة الفريق، كان أحدهم يشجع فريقاً والآخر يشجع الفريق الآخر، فجأة وأستاذنا يدرس في الفصل وكنا في ثانوية بدر إذ بأحد يأخذ النعل ويضربها في وجه الثاني، فلان يضرب صديقه فلان لماذا؟! قال: كل قليل يقول: يا أبو أربع يا أبو أربع، لأنه في مباراة الأمس هزموهم بأربعة أهداف، فضاق الرجل ولم يصبر، هذا الولاء والبراء ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.(132/29)
قضاء الصوم
السؤال
رجل عليه صيام شهرين منذ أربع سنوات ولم يصمها؟
الجواب
يبادر بصومها، وإن كان كفارة يشترط فيها التتابع فليحرص على التتابع فيها، وإذا انقطع التتابع يعيد من جديد.(132/30)
رؤية الله في الجنة
السؤال
هل يرى المؤمنون ربهم في الجنة؟
الجواب
رؤية الله عز وجل في الجنة ثابتة بنصوص القرآن ونصوص السنة، والمعتزلة وإن جادلوا بالباطل يجادلون بأمرين، الأمر الأول ما ورد في مسألة الرؤية من الأحاديث، يقولون هذه أخبار آحاد، وخبر الآحاد لا يحتج به في العقيدة، وخبر الآحاد إذا صح سنداً ومتناً احتج به في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق وغير ذلك، والأمر الآخر: يحتجون بالتأويل المنحوت المتكلف في اللغة، قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ماذا ردت المعتزلة؟ قالوا: آلاء معناها: نعم.
قالوا: مثناها إلاءان ومفردها إلى، فآلاء: نعم، وإلاءان نعمتان، وإلى: نعمة واحدة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى} أي: (نعمة) {رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فخرجوا بهذا التأويل المتكلف، وضلوا ضلالاً بعيداً.
وفي الأحاديث الصحيحة الصريحة قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] النظر إلى وجه الله الكريم، فأحاديث الرؤية واضحة وثابتة، وما منعهم من اتباعها إلا تسلط الهوى عليهم فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
ويذكر عن أحد من أهل السنة أنه كان في زمنه معتزلي ينكر عذاب القبر، فلما مات ذلك المعتزلي جاء هذا الإمام السني من أهل السنة ليصلي عليه صلاة الجنازة قالوا: تصلي على معتزلي، قال: نعم؛ فإني لما كبرت الرابعة في صلاة الجنازة قلت اللهم أذقه عذاب القبر فإنه كان ينكره.(132/31)
حكم التهاون بالصلاة والنظر إلى النساء
السؤال
رجل تهاون في الصلاة بتأخيرها ولا يكل نظره من النظر إلى النساء؟
الجواب
نوصيه وأنفسنا بتقوى الله عز وجل، وليعلم أن كبائر الذنوب من جميع صغارها
خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
والله عز وجل قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] لا تتهاون بقليل من الشر والمنكر فإنه محسوب عليك، واجتهد بكثرة الاستغفار وذكر الله، والتبكير للمساجد والتفكر في حالك ومآلك، ونعم الله عليك وكيف صرفتها، وماذا عملت بها، بمَ صرفت هذا النظر وهذا السمع وهذه الأقدام وهذه الأيدي، فالمتفكر يندم، والذي يفكر في نعم الله عليه ويفكر فيما بعد ينجو بإذن الله عز وجل، أما هذا المسكين الذي يضيع هذه النعم في غير ما شرع الله وغير ما أباح الله، وغير مبال فإنها يوم القيامة تجتمع عليه، ولا يغرك بعض حسناتك، لأن بعض الناس يقول: والله أنا بنيت مسجداً، فلا يضرني أن أنظر إلى الأفلام ولا يضرني أن أتكلم، ونقول: ربما عندك مسجد مقدار حسناته مليون حسنة ربما تجمع عليك مليونا سيئة، وتظن نفسك من الرابحين وأنت من الخاسرين ولا تدري، فلا تعمل السيئات اتكالاً على ما عندك من الحسنات، بل إذا عملت حسنة فاسأل الله أن تكون خالصة لوجهه، وأن يحفظها لك ولا يضيع عملك؛ لأن الإنسان إذا عمل صالحاً على خطر إن يضيع العمل بالرياء، وأن يضيع بالسمعة والعجب، وكذلك لا تتهاون بالسيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا يا رسول الله المفلس من لا دينار له ولا درهم، قال لا.
المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وأعمال كالجبال، فيأتي وقد لطم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا واغتاب هذا، وأكل مال هذا، فيعطى هذا من حسناته ويعطى ذاك من حسناته فإذا فنيت حسناته أخذت من سيئاتهم فطرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار) والعياذ بالله.
فلا تتساهل بالسيئات اتكالاً على ما عندك من الحسنات، وضع بين عينيك قول الله عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] أكثر من الحسنات احتياطاً للسيئات التي مضت، والتي تفعلها والتي تقع فيها وأنت لا تدري، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).(132/32)
حكم سب الصحابة رضوان الله عليهم
السؤال
ما حكم سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
من سب الصحابة فقد كفر، لأنه يكذب بكتاب الله، الله يزكيهم وهو يسبهم، والله يعدلهم وهو يجرحهم، والله يشهد لهم بالطهارة وهذا ينجسهم، الله يرفعهم وهذا يُنزل من قدرهم، قبحه الله وفعل به ما يستحق، من سب الصحابة فقد كفر كفراً أكبر لا شك فيه، أعوذ بالله، أعوذ بالله من الخذلان، وهذا من الضلال المبين والتسلط على أعراض الصحابة
لا تخض في حق سادات مضوا إنهم ليسوا بأهل للدنس
الصحابة رضوان الله عليهم ذكرهم الله في مواضع كثيرة من كتابه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، اختار الله من نطف هذه البشرية هذه الثلة المباركة الطيبة؛ لكي يكونوا صحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فمن الذي يكفرهم ويتجرأ عليهم؟ نعوذ بالله من الخذلان، وننصح من وقع في ذلك بتجديد الإسلام والتوبة، والدخول في الدين من جديد، وليندم على ما فعل؛ فإنه يوم القيامة سيضل ضلالاً بعيداً ولا حول ولا قوة إلا بالله.(132/33)
حكم الصلاة قبل دخول الوقت
السؤال
أناس يجمعون صلاة المغرب مع العشاء مع العلم أنه لا أمر يرخص لهم بذلك، وإنما يصلون المغرب ويجلسون نصف ساعة ويصلون العشاء قبل دخول وقتها؟
الجواب
لا يجوز الصلاة قبل دخول الوقت، ومن شروط الصلاة وصحتها: دخول الوقت، فمن صلى قبل دخول الوقت كمن صلى إلى غير القبلة، ولا يجوز ذلك بأي حال من الأحوال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] وجاء جبريل وصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم صلى به الظهر والعصر والمغرب والفجر وقال: الوقت بين هذا وهذا.
فهناك وقت اختيار الذي هو أول الوقت وهناك وقت جواز، ما بعد الوقت، وهناك وقت الاضطرار الذي هو قبل خروج الوقت، فمن فاتته وصلاها قضاءً فهو أهون ممن يصليها قبل دخولها؛ لأنه لا ينفعه وكأنه لم يصلها أبداً، من صلى صلاة قبل دخول وقتها فليعدها، ومن كان يجهل فعفا الله عما سلف ويصلي استئنافاً.(132/34)
التدرج في الدعوة إلى الله
السؤال
كيف أدعو إلى الله؟
الجواب
الدعوة إلى الله على بصيرة مبنية على علم، فلا يمكن أن يدعو الإنسان بحماس وصياح وسباب وشتائم وعاطفة.
الأمر الثاني: أن تركز جهدك وكلامك في ذات المرض نفسه بغض النظر عمن يفعلونه، فإنك يوم القيامة لن يحاسبك الله لماذا لم تفضح فلاناً ولم تشتم علاناً، وإنما أنت مسئول على أن توجه نصيحتك في ذات المرض والعلة والداء، كالطبيب الذي يأتي إليه المريض، لا مصلحة للطبيب في سب المريض وشتمه، ولا مصلحة للطبيب في أن يضيع وقته في لعن المرض والمرضى، وإنما من واجبه أن يبين خطر المرض، وأعراضه ومراحله، وتطوره والوقاية منه، وأساليب العلاج منه، فهذا من البصيرة والحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل.
ومن الحكمة أن يبدأ الإنسان في الدعوة بالأهم فالمهم، أي أن يتدرج في هذا، ففي هذا خير خاصة لمن ابتلي بكبائر العظائم والأمور، أو أمور في العقيدة، لا تكلمه في مسائل في الفروع وعنده ضلال في العقيدة، والإنسان بحسب نيته وحال المدعو، يعني ليس هناك طريقة عامة في كل شيء يختلف الناس ما بين جاهل يحتاج إلى بصيرة وما بين إنسان يطلب الحق وعنده شيء من الحوار والفطنة والنباهة والقدرة على المناظرة، ويحتاج إلى الصبر، وسماع الكلام، واحتواء ما عنده من الحجة، وسماع كلامه حتى الآخر، ثم أنك تجزئ له الحجة منطقاً منطقاً، فقرة فقرة حتى يستوعبها ويفهمها.
من الناس من يكون على ضلال وتتصل به؛ لأنك تطمع في هدايته فافهم هذا جيداً، ومن الناس من تعلم أنه عدو ضال مضل عنيد معاند، يقعد للحق بكل صراط يوعد ويتوعد، فهذا يستحق أن ينابذ وأن يحذر منه وينتبه لشره، أي ليس هناك قاعدة مطردة في كل حال وفي كل زمان ومكان، بل لكل مقام مقال.
وفي الختام أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته، وأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن تكثروا من سؤال الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته إلى أن نلقاه.
اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم توفنا راكعين ساجدين، شهداء موحدين، مصلين قائمين هداة مهتدين يا رب العالمين! غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شمل العلماء والولاة والدعاة على طاعتك، اللهم لا تشمت بنا حاسداً ولا تفرح علينا عدواً.
اللهم اهد الضالين، اللهم انصر عبادك الموحدين وانصر جندك المجاهدين يا رب العالمين، وارحم اللهم موتى المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، واقض اللهم الدين عن المدينين، وفرج هم المهمومين، يا أكرم الأكرمين يا رب العالمين! وفي الختام أرجو من إخواني أن يقف على الأبواب من يجمع تبرعات لإخوانكم المحتاجين في البوسنة والهرسك، تصلهم بإذن الله وعندنا تصريح في جمع التبرعات في هذا، أسأل الله أن يكون عملنا وعملكم خالصاً لوجهه الكريم وصلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم.(132/35)
أهمية العلم وحقيقته
إن العلم الحقيقي هو الذي يوصل ويقود إلى خشية الله جل وعلا، وقد حث الشيخ على العلم، وبين جهل كثير من الناس في مجال العقيدة، وكذلك جهل كثير من المثقفين في أبسط أمور دينهم، ثم وقف وقفة مع تعليم المرأة ووضح الضابط في ذلك.(133/1)
العلم الحقيقي هو المرتبط بالله سبحانه
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
معاشر المؤمنين يقول الله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ويقول جل وعلا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ويقول جل وعلا في مقام بيان وحدانيته وفي مقام بيان سبيل تحقيق الوحدانية -وهو العلم- قال جل وعلا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19].
أيها الأحبة في الله: حسبكم بالعلم أن كل جاهل يدعيه، وحسبكم بالعلم أن الكل يفتخر به، وحسبكم بالجهل أن الجاهل إذا وصف به ينفر منه، وحسبكم أن العاقل إذا وصف بالجاهل يغضبه ويسخطه ذلك، فكفى بالعلم فخراً أن يدعيه كل من على الأرض، وكفى بالجهل شؤماً أن يتعوذ ويبتعد وينفر من وصفه كل من على الأرض، والله سبحانه وتعالى قد جعل لهذا العلم درجة ومقاماً ومنزلة رفيعة، حسبكم ما جاء فيها من كتاب الله سبحانه وتعالى، والسنة النبوية المطهرة مليئة بذلك، مليئة ببيان فضل العلم: (من سلك طريقاً يبتغي له علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع) (إن الدواب والحيتان في البحر لتستغفر لطالب العلم) فحسبكم بهذا العلم منزلة وفخرا.
أيها الأحبة في الله: يوم الجمعة هذا يوافق اليوم العالمي لمحو الأمية، يوم عالمي اتفقت واجتمعت عليه دول العالم أن يكون يوماً عالمياً لمحو الأمية، والدعوة إلى نبذ الجهل، والدعوة إلى تحقيق العلم بمختلف وسائله، ولكن للمسلمين كلمة في الأمية، وللمسلمين كلمة في حقيقة العلم الذي يدعى إليه، فإن العلم ما لم يكن مرتبطاً بالعلم بالله سبحانه وتعالى، ما لم يكن العلم محققاً خشية الله سبحانه وتعالى، ما لم يكن العلم سبيلاً إلى رحمة الله ورضوانه فلا حباً ولا كرامة في هذا العلم، لأن العلم ولو تحقق خالياً من هذه الأهداف والمقاصد ينقلب شؤماً على البشرية، وينقلب دماراً عليها، ويحقق الويل والهلاك والدمار لأبنائها.
أرأيتم ما وصلت إليه دول الغرب والشرق في أفظع وسائل الفتك الحربية والهجوم والتفجير والقتال، أرأيتم لو كان هذا العلم منضبطاً مرتبطاً بالعلم بالله سبحانه وتعالى، أتصنع الدبابات لتسحق بها جماجم الأبرياء؟! أتصنع القنابل لتفجر بها منازل الأطفال والثكالى؟! أتصنع الصواريخ ليعتدى بها على المحارم والحرمات؟! هذا شأن علم لم يكن مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى، وهذه حقيقة كل علم ما لم يكن هدفه رضوان الله جل وعلا، ما لم يكن هدفه رحمة الله ورضوانه جل وعلا فإنه يعود بلاءً ودمارا.(133/2)
العلم ما قاد إلى خشية الله
إن حقيقة العلم ما قاد إلى الخشية، {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلماء فاعل ولفظ الجلالة مخشي منه سبحانه وتعالى، العلماء يخشون الله جل وعلا؛ لأنهم أقرب من غيرهم في معرفة إبداع الله وبديع صنعه في هذا الكون، يقول الله جل وعلا: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] حقق العلم الحديث أن غاية ما وصلت إليه العلوم في نوعين من العلم: علم الأبدان وعلم الأكوان، علم الأنفس وعلم الأفلاك، فمن توغل في هذا العلم ونال منه حظاً وقدراً ونصيبا، وكان مرتبطاً أو على أصل سليم من فطرة طيبة، أو لم يكن معانداً مكابرا فإن علمه هذا يقوده إلى خشية من الله ويقوده إلى تعظيم الله ويقوده إلى تحقيق وحدانية الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة في الله: لا خير في العلم ما لم يكن مرتبطاً بالخشية من الله، وبدون هذا الارتباط ينقلب العلم دماراً وهلاكاً على أبنائه، أما علوم الشريعة التي هي تاج العلوم وإمامها ورأسها وزعيمها، علوم الشريعة ما لم يكن الهدف منها مرتبطاً بتحقيق العدل وبذل العمل الصالح ونفع الآخرين وهداية الضلال وتبصير الجهلاء، فإن العلم قد يكون أيضاً حجة على صاحبه: (من سلك طريقاً مما يبتغى به وجه الله، من طلب علماً مما يبتغى به وجه الله لا يطلبه إلا للدنيا لم يرح عرف الجنة -أي: رائحتها- وإن عرفها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام).
نعم -أيها الأحبة- علم الشريعة ما لم يدع صاحبه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق دين الله والدعوة إليه وبذل النفع للآخرين، والعزة والرفعة بهذا الدين فماذا يكون حظ صاحبه إن لم يكن هذا حظه من العلم.
يقولون زند العلم كاب وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
فلو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به جمعاً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل أولى وأحزما
ما لم يكن الجد والاجتهاد في طلب العلم سبيل العزة في دين الله والرفعة في العلم بالله فلا خير لصاحبه مما علم إذا سخره للدنيا وحرم العباد من نفعه وفائدته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(133/3)
حث على العلم وأهميته
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله لا شك أن من حرم القراءة والكتابة فقد حرم خيراً كثيراً، ولا يدرك هذا الحرمان إلا إذا تقدمت به السن وانصرف عنه الأحباب والخلان فبدأ يمضي أوقاتاً كثيرة من أيامه ولياليه منفرداً وحيداً تدور به الوساوس والهواجس، ولو كان من المتعلمين لكان استغل فراغه ووقته وبقية عمره في قراءة كتاب الله جل وعلا، تجده يختم القرآن في كل يومين أو في كل ثلاثة أو أربعة، ما دام مستطيعاً للقراءة والكتابة، ما دام يملك وقتاً لهذا، فهو في خير، ومن كان لا يقرأ ولا يكتب ويعرف حاجته إلى كتاب الله وفضل تلاوة كتاب الله، وفقره إلى درجات وحسنات من ثواب الله وفضله فليبادر إلى تعلم القراءة والكتابة.
إن من فاته التعليم وقت شبابه يفوته خير كثير، لكن يستطيع الكثير باجتهادهم ومواصلتهم أن يحققوا جزءاً كبيراً مما فات وما مضى، يقول الشافعي أو ينسب عنه:
من لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه فكبر عليه أربعاً لوفاته
أيها الشباب لا تفرطوا في العلم ولا تتهاونوا به، واجعلوا حياتكم جميعها علماً وعملا، فائدة وتطبيقاً واستقامة لما علمتم.
أيها الإخوة في الله إذا كان هذا هو اليوم العالمي لمحو الأمية، فإننا بحاجة إلى أيام عالمية نمحو بها أمية العقائد في أمم يظنون الطواف بالقبور والذبح لها مع النذور، في أمم يظنون استغاثة الموتى، وندبهم ودعاءهم وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات وشفاء المرضى، يظنونه من أعظم القرب، يظنون الاعتقاد بالأولياء وتعظيمهم ورفعة منازلهم فوق منزلة النبي وغيره، يظنون ذلك من صميم دينهم، فهؤلاء أمم بحاجة إلى رفع أمية العقيدة عنهم.
إن أناساً يشكون من أمية العقائد يعبدون الله بغير ما شرع، ويتعبدون الله على ضلالة، وإذا مات الكثير منهم على هذه الحال رغم كده ونكده وتعبه ونصبه فإنه قد يتحقق فيه قول الله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].
يطوفون ويذبحون ويبذلون أموراً كثيرة يريدون الشفاعة يريدون الزلفى يريدون القربة، وما تزيدهم من الله إلا بعدا.(133/4)
أمية المثقفين
فيا شباب الإسلام إن لهذه الأمم التي هي في أمية من عقائدها إن لها حقوقاً عليكم أن تبذلوا حق الله في علمكم فتبصرونهم بحقيقة العقيدة، بحقيقة التوحيد الذي يقوم على وحدانية الله في ربوبيته وألوهيته وصرف دقيق العبادات وجليلها له وحده لا شريك له، هناك أمية في المتعلمين أيضاً، يقرءون ويكتبون لكن أميتهم عجيبة غريبة في أبسط أحكام الإسلام وأركان الدين، قد تكون في سفر أو في حج أو في مناسبة مع واحد من حملة الشهادات فتعجب في أخطاء ومغالطات عجيبة، في وضوئه وصلاته ونسكه وأعماله، إنها لأمية المتعلمين، وأمية المثقفين قد يكتب صفحات يملأ بها الجرائد والمجلات لكنه قد لا يعرف أبسط قواعد الصلاة.
فيا أيها الأحبة إن أمية المثقفين موجودة لا تظنوها مبالغة، فمثل أولئك بحاجة إلى تبسيط قواعد الفقه في الدين وعرضها عليهم بأيسر السبل، وما أجمل ما نراه بين الفينة والأخرى من الرسائل الجميلة التي توضح جملاً من أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الحج وأنواع العبادات لأئمة الإسلام من علماء هذا الزمان، ففيها خير عظيم، وحيهلا على طبعها والإذن بطباعتها ونشرها وتوزيعها في مختلف الأماكن والدوائر لنرفع أمية طائفة من المثقفين في هذا.(133/5)
وقفة مع تعليم المرأة
أيها الأحبة النساء إن كن في أمية فهذه الأمية قد تكون خطراً عليهن، بل قد يتحقق الخطر فيهن بسبب هذه الأمية.
وإذا النساء نشأن في أمية رضع الرجال ضلالة وخمولا
نعم -أيها الأحبة- لا بد أن تتعلم المرأة القراءة والكتابة، لا بد أن تتعلم حظاً يعينها على فهم دينها وأحكام عباداتها ومعاونة أبنائها وأطفالها، أما تعليم المرأة لأجل وظيفتها فتباً وبعداً وسحقاً، أما تعليم المرأة لأجل توظيفها لا يتحقق التعليم إلا لهدف الوظيفة فليس لهذا تعلم المرأة، نعم نحن نوافق على أن تتعلم المرأة لسد حاجة من حاجات المجتمع في الطب وفي التعليم، في طب النساء والولادة وفي التعليم، فهذا نوع فرض كفاية تقوم به طائفة من نساء المجتمعات الإسلامية لسد حاجة الأمة في هذا المجال، أما تعليم كل النساء من أجل الوظائف فلنكن صرحاء ولنكن على مستوى الوضوح: أنستطيع أن نوظف جميع المتعلمات في الطب والتعليم؟ لا.
إذاً أين يتوظف البقية؟ أين سنحدث لهن الوظائف، أيختلطن مع الرجال؟! تباً وبعداً وسحقاً لهذا التعليم إن كان مقصوداً به اختلاط النساء بالرجال، أو توظيف المرأة في مجالات لا يبيح الشرع أن تتوظف فيها.
قد يكون للمرأة حاجة في أن تتوظف وظيفة؛ إما لفقد وليها أو عائل أسرتها، فلا بأس ببعض الوظائف في معزل من الرجال، في طبيعة تناسب عملها، لا نستطيع أن نحصر الوظائف في الطب والتعليم فقط، فقد توجد بعض الوظائف المساعدة والمساندة في بعض الدوائر والمجالات، لكن لا علاقة للمرأة بالرجل في هذه الوظيفة، لا علاقة للرجال بالنساء.
أيها الأحبة إني لكم لنذير عريان، والرائد لا يكذب أهله، إذا رأيتم نذيراً يلوح عرياناً من خوف خطر داهم على الأمة: اعلموا -أيها الإخوة- أن الأمم التي وقف فيها الرجل مع المرأة، المرأة قد أبدت (زندها) وذراعها، وكشفت فخذها وساقها أمام موظف في مكتب واحد، والله كان التعليم عندهم مستقلا ثم أصبح مختلطا، ثم اختلطت في بعض الوظائف وهاهم الآن في المجتمعات يشكون ألوان الحمل غير المشروع، والإجهاض والاغتصاب والخيانات الزوجية بسبب هذا الباب.
فيا أمة الإسلام يا غيرة الرجال! يا غيرة الشجعان على أمتهم ودينهم! انتبهوا لهذا الأمر، ولا سبيل إليه ولا سبيل للانتباه إليه إلا بتحقيق الوعي وتحذير المرأة وبيان ما يراد بها، إن أعداء الإسلام يريدون أن يجعلوها سلعة رخيصة في متناول أيديهم، يقول أحد مفكري الإسلام يقول: إن الذين يطنطنون وينادون بحرية المرأة في الوظائف والتعليم باختلاط المرأة في الوظائف والتعليم وينادون بما يسمى بحرية المرأة، والله إنهم لا يريدون حريتها ولكن يريدون حرية الوصول إليها.
نعم، يريدون حرية الوصول إلى المرأة؛ في المتجر، وفي الوظيفة، وفي المكتب، وفي الجامعة، وفي كل مجال، وفي كل مكان، فيا أمة الإسلام! يا ذوي الهمم! ويا ذوي الغيرة! ويا أهل الإباء والشمم! عاركم على أنفسكم إن استحل واستفحل الخطر الداهم في مجتمعنا المسلم، في أمتنا المحافظة، في هذه القلعة الأخيرة من قلاع العالم التي لا زال فيها بقية طيبة من دين الإسلام تحكم شريعته وتعمل به.
اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تفرح علينا ولا عليهم عدواً ولا تشمت بنا ولا بهم حاسدا.
اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أهل دينك ويذل فيه أهل معصيتك، ويعز فيه أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اللهم أيد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم أعز الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم ثبتهم وارزقهم البصيرة في الدين والعمل والمعاملة يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم فجازه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفواً وغفرانا.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(133/6)
أهمية الوقت في حياة المسلم
اهتم الإسلام بالوقت وبيَّن أهميته، وذلك من خلال آيات من القرآن وأحاديث من السنة، كما جاءت كثير من العبادات لتنظيم وقت المسلم، في إطار هذا الموضوع تحدث الشيخ، وعرج على خصائص الوقت، وواجبنا تجاهه، إضافة إلى بعض النصائح الخاصة بالوقت مع برنامج مبسط لكيفية قضائه.(134/1)
أهمية الوقت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! إنه لمن دواعي السرور والغبطة أن يشرفني إخوانكم بالمثول أمامكم والتحدث إليكم، أسأل الله جل وعلا أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجعل هذا الاجتماع مرحوماً برحمته إنه هو أرحم الراحمين.
أيها الإخوة! الحديث عن الوقت، حديث مهم جداً؛ لأنه حياة الإنسان، ولأن الوقت ظرف لكل فعل، ولكل دقيق وجليل يخرج من هذا الإنسان المكلف في سائر تصرفاته وأقواله وأفعاله، فكل ما يحدث في هذا الكون إنما يحدث في حيز الوقت.(134/2)
القرآن يتحدث عن الوقت
ولذلك لا عجب أن نرى كتاب الله جل وعلا مليئاً بكثير من الآيات المتعلقة بهذا الوقت إما مباشرةً، أو إيحاءً، أو دلالةً على أهمية هذا الوقت وقيمته خاصةً لعباد الله الذاكرين الموحدين أولي الألباب، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191].
فإذا تأملت قول الله جل وعلا: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [آل عمران:190] فتغير هذا الليل بنهار بعده، ونسخ هذا الظلام بنور يزيله، هذه آية من آيات الله جل وعلا، والوقت والساعات دائرة بين فلك الليل وفلك النهار، من أجل ذلك قال الله جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] أصحاب العقول من هم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] ويقول الله جل وعلا في آية أخرى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61].
وهذه البروج، وهذا القمر مرتبط بتحديد الأوقات والأزمان، ثم قال بعد ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] فالمتذكر والمتأمل يتأمل في هذا الليل والنهار، وفي انقضاء الليل وإتيان النهار بعده، في زوال النهار وهجوم الظلام عليه، تلك آية عظيمة، ومن أجل ذلك كانت أشد المشاهد رهبةً للنفس الإنسانية مشهد الغروب، ومشهد الإشراق.
حينما ترى جيشاً من الظلام قد هجم على هذه البسيطة ليغطيها بسحابة سوداء، فينسخ هذا النور الذي هو فيها، حينما تتأمل غروب هذه الشمس، وكذلك حينما يأتي الصباح، ثم يأتي ضوء هذا الشمس رويداً رويداً ليهزم حلول الظلام، تذهب على أدراجها، ثم يعلو النور أجزاء هذه المعمورة، آية كونية عظيمة لمن تأملها.(134/3)
الوقت محل العبادات
ومن حكمة الله جل وعلا أن تُعبدنا بشيء من العبادات في هذه الأوقات: صلاة الفجر وصلاة المغرب مرتبطة أشد الارتباط بهذا الوقت الذي هو وقت عظيم ومهم جداً، بل إن من أهمية الأوقات أن الله جل وعلا أقسم بأجزاء منها، فقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2] والله إذا أقسم بشيء عظمه، وقال تعالى: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] وقال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] إلى آخر ذلك.
هذا الوقت أيها الإخوة! في كل جزء من أجزائه، وفي كل ساعة من ساعاته، وفي كل لحظة من لحظاته فيه وظيفة عبادة يتعبد الناس فيها إلى الله جل وعلا، فمنها وظيفة يجتمع الناس فيها، ومنها وظيفة تختلف بحسب قدرات الناس ومنازلهم ودرجاتهم وعلمهم ومكانتهم، فأما الوظيفة التي يجتمع الناس فيها في هذا الوقت؛ ألا وهي الصلوات، نلاحظ أن الناس مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالصلوات في وقت محدد معين قد قاله الله جل وعلا وبينه، وقد جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى به فيه، وقال: (الوقت من هاهنا إلى هاهنا، والوقت من هاهنا إلى هاهنا) كل ذلك أهميةً للوقت، وربطاً للناس في هذه الأوقات.
يقول الله جل وعلا: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] قال العلماء: فاشتملت هذه الآية على أوقات الصلوات قاطبة، دلوك الشمس: زوالها، وغسق الليل: نهايته، والعبادات التي هي فيه (وقرآن الفجر) صلاة الفجر.
إذاً فهذه الآية قد اشتملت وجمعت، وجاءت السنة مفصلة لأوقات العبادة، بل إن الوقت شرط أساسي في كثير من العبادات، الصلاة من شروطها: دخول الوقت، لو صليت قبل الوقت، ما وقعت الصلاة في محلها، ومن ثمّ لا تكون هذه الصلاة مقبولة، لأن من أتى بشيء لم يقم بشرطه، لزمه إعادته، حينما تصلي في غير الوقت، يلزمك أن تعيد صلاتك، وعندما ترى إنساناً يقول: أنا أريد أن أصوم في شوال، فهذا غير مقبول؛ لأن العبادة مرتبطة بالوقت، والصيام يكون في رمضان.
إنسان يريد أن يحج في محرم، نقول له: لا، العبادة مرتبطة بالوقت في أشهر الحج، وفي أيام معدودة من ذي الحجة، إذاً فالعبادة مرتبطة بالأوقات ارتباطاً عظيماً جداً.
كذلك النوع الثاني من وظائف العبادة في الأوقات: كل بحسب قدرته ومكانه وعلمه، هذا عالم يُعلم، وهذا مدرس يدرس، وهذا عامل يعمل، وهذا تاجر يتاجر، وهذا قاض يقضي، وهذا وهذا، كلٌ في مهمته، مدار أعمالهم في حيز هذه الأوقات وساعاتها، ومن حكمة الله جل وعلا أن جعل هذا الوقت يمضي رويداً رويداً بين الليل والنهار إلا أن فيه ميزاناً يجعل الناس ينضبطون فيه ألا وإن ميزان اليوم: الصلوات الخمس، ومن أجل ذلك نرى الذين يحافظون على الصلوات حفاظاً دقيقاً هم أشد الناس محافظةً لأوقاتهم بالجملة، فالجمعة ميزان الأسبوع، والصوم ميزانٌ في كل سنة، والحج ميزانٌ في العمر، وبعض السلف الصالح يسمي ذلك موازين الأعمال.
وتتمةً للحديث عن الوظائف المتعلقة بالوقت نذكر كلاماً جاء لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه حينما أوصى بالخلافة لـ عمر، قال: [يا عمر! واعلم أن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار] إذاً ليس المهم العمل في وحده فقط، بل المهم العمل المرتبط بالوقت المناسب.
المهم أن تعمل العمل المطلوب في الوقت المناسب الذي حدده الشارع، فهذا نلاحظ آثاره في أنفسنا، وفي شبابنا، وفي إخواننا.
أنتم حينما تلاحظون بعض الشباب من الذين يقضون ساعات الليل، الذي جعله الله جل وعلا سكناً، وستراً، وظلاماً، وهدوءاً وراحةً، الذين يُشغلون هذا الليل في معصية الله جل وعلا، وتراهم مع شياطين الإنس وتؤزهم شياطين الجن إلى معصية الله ومخالفة أوامره في الليل، فتجدهم بهذه المخالفة في أعمالهم في ظرف الوقت يخسرون جانباً آخر من الوقت وهو الصباح، فإذا جاء وقت الصباح، وقت الفلاح، وقت الجد، وقت التشمير، تراهم جيفاً نائمةً على فروشهم، تراهم كُسالى قد أهلكهم الخور والسهر والضعف؛ لأنهم خالفوا هذا النظام الذي قرره الله جل وعلا، وسنه في الكون، ومن أجل ذلك يبقى الإنسان في مخالفة، حينما تسهر طول الليل، فإن صلاة الفجر في الغالب تفوت، والصباح وقت تقسم فيه الأرزاق لكن تجد الإنسان غافلاً، تجد الأعمال الإدارية والحكومية والمصالح العامة في الصباح لكن تجد هذا الإنسان نائماً، وإذا عاد الناس في حر الظهيرة إلى بيوتهم آن له أن يستيقظ، وقد طارت الطيور بأرزاقها، وعاد الناس بمكاسبهم، واشتغل أصحاب الأعمال بأعمالهم وعادوا إلى بيوتهم.
هذا الضعيف المسكين السهران البارحة الذي خالف سنة الوقت، والسنة التي قررها الله جل وعلا في هذا الوقت، تجده محروماً، والعياذ بالله.
نلاحظ الكثير منهم عاجزاً عن العمل، إذا عمل عملاً للحظات، أو أيام، أو أشهر بالكثير، ثم يتركه، لأن فيه مخالفة، إذاً الأوقات مرتبطة بالأعمال، والعمل ليس وحده مهم، بل العمل المناسب في الوقت المناسب.(134/4)
خصائص الوقت
أيها الإخوة! هذا الوقت له خصائص، ألا وإن من أهم خصائصه:(134/5)
سرعة انقضاء الوقت
الوقت يمضي سريعاً، خاصةً أيام السعادة والشباب والسرور والفرح، هذه أوقات سرعان ما تنقضي، يقول الشاعر:
شيئان ينقشعان أول وهلةٍ شرخ الشباب وقلة الأشرار
هذه سريعاً ما تتقشع كما يقول القائل:
سحائب صيفٍ عن قريبٍ تقشع
إذاً فهذه خاصيةٌ من خصائص الوقت، وإن كانت لحظات الأسى والحزن والألم تمر بطيئةً على النفس، كما يقول القائل:
مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام
ثم انثنت أيام هجرٍ بعدها فكأنها من طولها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
فهذا الوقت سرعان ما ينقضي ويتذكره الإنسان، وأنت تذكر نفسك كيف كانت طفولتك؟ كيف كان صباك؟! والآن تجد نفسك شاباً يافعاً كبيراً ذا أسرة أو متحملاً لمسئولية.
نوح بعث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، هذه مدة بعثته، أما عمره، فقيل: هو على الألف، أو نيف على الألف سنة، قيل له: يا أطول الأنبياء عمراً، كيف وجدت العمر؟ كيف وجدت الوقت؟ كيف وجدت الحياة؟ قال: وجدت الدنيا كداخلٍ من باب ثم خرج من باب آخر.
ألف سنة! فما بالك أيها المسكين يا من وقتك بين الستين إلى السبعين، إذا قدر لك أن تحيا وإلا تخطفك المنون في شبابك، أو في صباك.
يُقال: إن في عهد الأنبياء المتقدمين وجد رجلٌ امرأة تبكي على ولدها، قال: يرحمك الله كم كان عمره يوم أن مات؟ قالت: مات في شبابه كان عمره أربعمائة سنة، قال: فما بالكِ إذا أدركت قوماً أعمارهم بين الستين إلى السبعين؟ قالت: والله لو علمت أن ليّ عمراً بين الستين إلى السبعين؛ لأمضيته في سجدةٍ لله، إذاً وقتنا قصير، ونحن في غفلة عن قيمته وأهميته.(134/6)
الوقت لا يعود
الخاصية الثانية للوقت بعد سرعة انقضائه هي: أن ما مضى منه لا يمكن أن يعود أبداً، الدقيقة تمضي لكن لا يمكن أن تردها بكل ما أوتيت من وسائل الدنيا بخيلها ورجلها وأموالها ورجالها وسلاحها وعتادها، لا يمكن أن ترد من هذا الوقت لحظة واحدة.
حينما نعد خصائص الوقت، يعني ذلك أن ننتبه لأهمية الوقت، قال الحسن البصري: [ما من يومٍ يخرج على ابن آدم إلا وينادي فيه منادٍ: يا بن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود أبداً] هذه من خصائص هذا الوقت أنه يمضي ولا يعود.
ولذلك يقول كثير من الناس: إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل إنه أدق عبارة للوقت لأن كثيراً من الحكماء والعقلاء شبهوا الوقت، فقال بعضهم: الوقت من ذهب، والحقيقة أن الوقت أثمن من الذهب؛ لأن الإنسان قد يخسر الذهب، ثم يتاجر مرة أخرى، فيكسب ذهباً أكثر، لكن الوقت لو تاجرت، ثم تاجرت لا ترده، ولذلك قال أحد أكبر الدعاة رحمه الله رحمةً واسعةً: الوقت هو الحياة، وقتك هو حياتك، ما مضى من وقتك هو شيء وجزء قد مضى من حياتك.(134/7)
الوقت أنفس ما يملك الإنسان
الخاصية الثالثة في هذا الوقت: أنه أنفس ما يملك الإنسان، لأنه لا يمكن أن أحداً يسلفك ويعيرك من وقته مهما بلغ الأمر، حياتك محدودة، حينما تأتي ساعة الأجل، لو يأتي الناس أجمعون، ويقولون: نريد أن نتبرع لهذا بخمسة أيام من أعمارنا لا يمكن إطلاقاً، فهو أنفس ما تملك، ولا يعوض بشيء، وإذا مضى لا يرجع.(134/8)
واجبنا تجاه الوقت
ما هو واجبنا تجاه الوقت؟ ما هي مسئوليتنا تجاه الوقت؟ إن أهم واجب علينا أن نحرص على الاستفادة من الأوقات، أن نحاسب النفس على الأوقات، ما هي ثمرة هذا اليوم؟ ما هي ثمرة هذا الأسبوع؟ ما هي ثمرة هذا الشهر؟ ما هي ثمرة هذه السنة؟ ينبغي أن تحاسب نفسك، أصبحت اليوم ومضت الساعة الأولى في هذا اليوم الثانية العاشرة.
إذا وضعت رأسك على وسادة فراشك ونظرت فيما مضى ماذا أودعت فيه من الأعمال الصالحة؟ ماذا فعلت فيه؟ بماذا أفدت نفسك؟ في أي أمر دعوت إلى الله، لا بد أن تحاسب نفسك على هذا الوقت، مضى شهر، ما جملة الفوائد؟ مضت سنة كيف حالك عن العام الذي قبله؟ هل أنت هذه السنة كما كنت في العام الذي قبله أم أفضل، أم أنت أسوأ- والعياذ بالله-؟ ينبغي أن تتأمل، وأن تحرص، وأن تحاسب نفسك.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [أدركت أقواماً أحرص على أوقاتهم من حرصكم على الدنانير والدراهم] يحرص الواحد منهم على وقته أشد من حرصنا نحن على الدنانير والدراهم.
ويقول ابن مسعود: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي] هذه أعظم مصيبة على الإنسان أن يمر عليه الوقت ولم يزدد عملاً، والمصيبة الأخرى: أن يمر الوقت وأنت في زيادة معصية، وصحائفك قد تسود بالسيئات، والعياذ بالله.(134/9)
شبابنا والوقت
كثيراً ما نسمع العبارة الدارجة عند كثير من الذين لا يعرفون للوقت قيمة، عبارة كثير من الشباب: نريد أن نقتل الأوقات، وكما يسميه البعض: الانتحار البطيء، فقتل الوقت هو الانتحار البطيء؛ لأن وقتك هو حياتك.
لا بد أن نفهم أثر هذه العبارة، وألا نجعلها ترسخ في أذهاننا، بل بدلاً منها اغتنام الوقت والمبادرة في الاستفادة من الوقت، قبل كثرة المشاغل على الإنسان، وأنتم أيها الشباب لا زلتم في ريعان الشباب، ولم يتحمل الكثير منكم مسئولية أسرة أو مسئوليات إدارية، أو مسئوليات أعمال، أو نحو ذلك.
فإن أعظم وأنفع وأجدى أوقات الإنسان وقت الشباب، فلا بد أن تغتنموه، لماذا نغتنم أوقات الشباب قبل المشاغل؟ لأن الإنسان لا يستمر فارغاً، فلا بد أن ينشغل إما بالطاعة، وإما بالمعصية، والعياذ بالله.
قال بعض السلف: فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر العبد هذه النعمة، وفتح على نفسه باب الهوى والشهوة واللهو والبطالة، تكدر عليه صفاء قلبه.
وقال بعض السلف: الخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل، ثم لا تتوجه إلى ربك، وأن تقل عوائقك، ثم لا ترحل إلى ربك.
وقديماً قيل: الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غِلمة، هذا حال مجتمعنا اليوم، كثيرٌ من الشباب قد وقعوا في شَرَك الفراغ الذي قتلوا به أنفسهم، فوقعوا في الغفلات، لأن الإنسان حينما يكون جاداً عاملاً نشيطاً قد رتب لأوقاته وظائف، فالصباح له وظيفة، والظهر له وظيفة، والعصر له وظيفة، والليل له وظيفة، وبعد العشاء وظيفة النوم، أي: كل شيء تحدد له وظيفة، وتستفيد من وقتك، وتشعر أن حياتك حياة مرتبطة بالأعمال مليئة بالفوائد.
أما كما يقول القائل: الفراغ للرجال غفلة، يكون وقتك غفلة عليك، هذا مما ينبغي أن يهتم به الشباب خاصة شباب مثلكم، أسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه.
وتتمة هذه العبارة" الفراغ للرجال غفلة، وللنساء غلمة" الغلمة هي: اشتداد الشهوة، وتعلق النفس بالشهوة، وهذا هو الواقع، كثير من البنات الآن نتيجة الفراغ اشتد بهن الغلمة، ما هي النتيجة؟ كانت البنت أو المرأة مشغولة من الصباح في بيتها، في أعمالها، في ملابسها، في أوانيها، فإذا جاء الليل؛ وجدتها تنتظر وقت الراحة، أما الآن الخادمة موجودة، والسائق موجود، وكل شيء موجود، إذاً بقين في الفراغ، ترفع سماعة التليفون، وتكلم فلاناً وعلاناً، هذه نتيجة الفراغ مصداقاً لهذا المثل" الفراغ للرجال غفلة وللنساء غلمة"، يقول الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدةٌ للمرء أي مفسدة
الجدة معناها: الثراء في المال.(134/10)
الإسلام يحث على اغتنام الأوقات بالأعمال
ولقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالمبادرة إلى الأعمال قبل حلول العواقب، قال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر) ماذا ينتظر الإنسان حينما يُضيع هذه الأوقات؟ ينبغي أن تبادر إلى العمل، وأن تشحن الأوقات بالأعمال.
(هل تنتظرون إلا غنىً مطغياً؟) فأصحاب الغنى الآن قد أطغاهم الغنى، وأشغلهم عن التفكر حتى في أخص خصائصهم وهي أنفسهم المسكينة التي غفلوا عن عتقها وفكاكها من النار.
(أو فقراً منسياً) الفقير تجده مسكيناً يبحث عن لقمة العيش، لا يتفرغ إلا لأوجب الواجبات.
(أو مرضاً مفسداً) هل أنت تضمن نفسك دائماً صحيح؟ ما دمت في لحظات السعادة والصحة والحيوية والنشاط، بادر بالعمل لأنك لا تضمن هذه العافية مستمرة.
(أو هرماً مفنداً) الإنسان قد يهرم ويخرف، ولو كان في الستين، أو في السبعين، فينبغي أن يجتهد في العبادة، ولا ينتظر مزيد وقت، أو يسوف.
(أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر) إذا جاء الدجال، انشغل الناس بأحوال عظيمة.
(أو الساعة، فالساعة أدهى وأمر).
وينبغي أيها الإخوة أن نعتبر بمرور الأيام والأعوام، يقول الشاعر:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرُّ الغداة ومرُّ العشي
إذا ليلةٌ أهرمت يومها أتى بعد ذلك يومٌ فتي
إذاً فينبغي أن نحرك هذه المشاعر في مرور الأيام، أنت تضع رأسك على هذه الوسادة، ثم يمضي الليل، ثم تصبح، ثم تكدح في هذه الدنيا، ثم يأتي الظلام، وهكذا دواليك، ينبغي أن تعتبر بمرور هذه الأيام التي تمضي معها الشهور، وتمضي وراءها الأعوام.(134/11)
نصائح في تنظيم الوقت
أيها الإخوة! أكرر أن المطلوب منا هو أن ننظم الأوقات، ما دمنا عرفنا أهمية الأوقات، وأهمية ملئها وشحنها بالأعمال، أقول: ليس المسألة كما قلنا أي عمل، لا، العمل المناسب في الوقت المناسب مع ترتيب الوقت؛ لأن ترتيب الوقت يضمن للنفس كمال الحاجات أجمع بإذن الله جل وعلا.
بعض الناس من حماسه ومن شدة اهتمامه يزيد الاهتمام بالوقت إذ به في يوم من الأيام يقتل نفسه وهو لا يدري، بل حينما تهتم بالوقت تجعل لكل وقت وظيفة، ومن أهم الوظائف راحة نفسك، فإن راحة البدن والنفس وظيفة، إن المنبت لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، المنبت: المنقطع، لا ظهراً أبقى، إنسان أراد أن يصل مثلاً إلى مكة، السير على الراحة إلى مكة يقتضي شهراً تقريباً، فهذا قال: لا، أنا أريد أن أواصل السير ليلاً ونهاراً حتى أصل في سبعة أيام، فأخذ يجلد هذه الناقة حتى هلكت في الطريق، ثم أخذ يمشي على أقدامه، حتى ضل ومات في الطريق، المنبت انقطع، لا ظهراً أبقى، لا بقيت الناقة، ولا قطع الأرض، وقد يكون هلك هو أيضاً.(134/12)
العمل بما نطيق
أيها الإخوة! أذكركم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) أي: ما دمت في اهتمامك وعنايتك بهذا الوقت، لا تكلف نفسك ما لا تطيق، أو تشحن نفسك بأمور قد تسبب لنفسك ردة فعل، بعض الناس من يدفعه الحماس والعاطفة والاهتمام بالوقت، بل والاهتمام بالعبادة جزاه الله خيراً إلى درجة يزيده الشيطان فيها زيادة تجعله يكره العبادة والاستقامة والتدين بسبب أنه ضغط على نفسه، ومعنى كلام النبي صلى الله عليه وسلم: لا تضغطوا على أنفسكم، بل اعملوا من العمل ما تطيقون، لأن الله غني عن أعمالنا، وكثرة أعمالنا لا تنفع ربنا.
إذاً: نكلف أنفسنا من العمل ما نطيقه رويداً رويداً؛ لأن الله لا يمل حتى تملوا (وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) فلنداوم على العمل الصالح القليل، فإن ذلك ينفعنا، وإني أنصح نفسي وإخواني الذين يضغطون على أنفسهم وفي أوقاتهم أن يجتهدوا في الترويح عن النفس، فالترويح عن النفس من ضمن برامج الوقت ووظائفه.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [روحوا القلوب ساعةً بعد ساعة، فإن القلب إذا أكره عمي] ويقول آخر: [روحوا عن النفوس ساعةً بعد ساعة، فإن النفس إذا كلت ملت].
إذاً: الترويح مهم، يُقال: إن رجلاً شاهد أعرابيةً تتعبد وتتنسك وتصلي، ثم رآها في وقت آخر، أي: في نفس يومها، قد تهيأت وتجملت لزوجها، فقال: أين هذا من ذاك؟ أين عبادتك من فعلك هذا؟ قالت:
وللجدِّ مني جانبٌ لا أضيْعه وللهو مني والمحبة جانب
يعني: أنا أقسم وقتي، وأجعل نشاطي في نفسي يوزع على هذه الأعمال داخل هذه الأوقات وقت الجد والعمل، حتى وقت الترويح عن النفس هو وقتٌ إذا احتسبه الإنسان، فهو عبادة، لأنه يدفعك ويجعلك تندفع نشيطاً لمزيد من الأعمال الصالحة.(134/13)
اغتنام أوقات الدعاء
وأذكر نفسي وإياكم بأن هناك أوقاتاً لها مزيد فضل، قد خصها الله جل وعلا بمزيد الأجور والثواب والخيرات منها: ساعات السحر، ساعات آخر الليل، ساعات فضيلة وجليلة، ولو كنا إلا ما ندر وشاء الله في غفلة عنها، لكن نحدث أنفسنا عسى أن نجتهد فيها إن شاء الله.
ساعات آخر الليل، ساعات التنزل الإلهي التي ينزل الله جل وعلا فيها نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ويقول: يا عبادي هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ يا إخواني! والله إن العجب كل العجب في أنفسنا حينما يكون للواحد منا حاجة، أذهب إلى ابن عمي، وابن خالي، وابن وابن، وفلان وعلان تريد الحاجة والنفع منهم، قبل أن تذهب إلى هؤلاء عندك ساعة ووقت يجاب فيه الدعوة، فأخلص النية واستيقظ آخر الليل.
تجد كثيراً من الناس يلح على أمر من الأمور شهراً، وشهرين، وسنة، وسنتين، ولا يتحقق له هذا الأمر، لكنه لا يكلف نفسه عناء ساعة آخر الليل يتوضأ ويحسن الوضوء، ويسأل ربه الذي خلق الدنيا ومن فيها ومن عليها أن ييسر له هذا الأمر وذلك دليل النسيان والغفلة، والعياذ بالله.
ومن الساعات المهمة يوم الجمعة وساعة الإجابة فيه ساعة فضيلة، كذلك في السنة أيام فضيلة فيها: عشر ذي الحجة، وفيها عرفة، وفيها رمضان، وفيها العشر الأواخر، وليلة القدر، الوقت مهم، ولكنه مليء بالفرص الأهم، الوقت ثمين، ولكن فيه ساعات أثمن، لكن أين نحن من اغتنامها؟ أين نحن من الاستفادة منها؟(134/14)
المحافظة على الصلوات
أيها الإخوة! وينبغي ونحن نستعين على الاستفادة من الوقت بالمحافظة على الصلوات، فتجد الذي لا يحافظ على الصلوات لا يستطيع أن ينظم وقته، فكثير من الناس ومن الشباب -الذين نسأل الله لهم الهداية نراهم في ضلال ووبال وخبال- تلاحظ أنهم في عجز عن تنظيم أوقاتهم، لأن الإنسان كالبهيمة حينما يضع رأسه، لا يبالي بوقت الصلاة، وقت عبادة، يأتي مثلاً قبيل الظهر، أو قبيل العصر فينام على العصر، ويضيع هذه الأوقات.
إما الشاب المسلم فتجد الوقت عنده مرتبط بالصلاة، بعد صلاة الفجر هذا وقت، إذاً معناه أنه يصلي الفجر ليعرف الوقت الذي بعد الفجر، فيستغله غاية الاستغلال، بعد صلاة الظهر وقت، يستغله في الترويح عن النفس، جلوس مع الأهل، زيارة بحسب البرنامج.
وهكذا.
بعد صلاة العصر فترتيبك للوقت مرتبط بالصلاة، فمن لا يُصلي مع الجماعة، أو كيفما استيقظ من نومه صلى، هذا تضيع عليه الأوقات وتمضي عليه وهو لا يعرف قدرها، ولا يدرك قيمتها.
أما الذي يجتهد على الصلاة مع الجماعة، بإذن الله جل وعلا يعينه الله على الاستفادة من وقته، وأزيد على ذلك مسألة ارتباط الإنسان بالشباب الصالحين الطيبين الذين يعينونك على الاستفادة من وقتك.(134/15)
الحذر من التسويف
والحذر الحذر من التسويف يقول: سوف أنظم وقتي ابتداءً من 1/ رمضان /1408هـ، يا أخي عندنا أمر طيب ما رأيك أن تبادر إليه، يقول: إن شاء الله من بداية 1/ 1/1408هـ أنا سوف انطلق، وكأنه صاروخ، وهذا المسكين هل يضمن أن يعيش إلى 1/ 1/1408هـ؟ لا، أو يقول: هذه السنة دعها على السعة والراحة، إن شاء الله من رمضان القادم أنطلق انطلاقة قوية، هذا حال كثير من الذين نسمعهم وللأسف في كثير من المناسبات إن شاء الله أحج.
هل تضمن أن تعيش حتى تحج؟ وهذا الوقت الذي يمر سدى يضيع هكذا، فالحذر الحذر من التسويف في استغلال الوقت، واعلموا أن الأماني رءوس أموال المفاليس.
وأقول لكم طرفة بسيطة هي واقعة، قال رجل لـ ابن سيرين - ابن سيرين رجل معروف بتعبير الرؤى والأحلام- يقول: رأيت في المنام أني أسبح في غير ماء، وأطير في الهواء بلا جناح، فضحك ابن سيرين في النهاية، وقال: تفسير رؤياك أنك رجل كثير الأماني والأحلام، أي: دائماً تعد نفسك سأفعل سأفعل، سأفعل، ويمر هذا الفصل الذي تريد أن تفعل فيه، وما فعلت شيئاً، ابتداءً من الأسبوع القادم، ويمر الأسبوع القادم، وما فعلت شيئاً، ابتداءً من الذي بعده، ويمضي الشهر الذي بعده، وما فعلت شيئاً، فهذا مما يمر بخلد كثير من الناس التسويف وسوف وسنفعل إلى آخره، كل هذه تجعل الإنسان في غفلة، وفي ضياع عن وقته.(134/16)
العمل لما بعد الموت
وينبغي أن تعلم أن هذا الوقت له نهاية، ليس هذا الوقت مستمراً، لن تدوم هذه العين ترى إشراق الشمس وغروبها، لا، لك نهاية تقف عندها، حينما تقول الملائكة: يا رب لم يبق له شربة إلا شربها، لم يبق له لقمة إلا أكلها، لم يبق له خطوة إلا مشاها، لم يبق له درهم إلا أنفقه، لم يبق عنده دينار إلا اكتسبه، حينما يقال هذا الأمر فيك؛ فقد حانت ساعتك، وتذكر قول القائل:
بين عيني كل حيٍ علم الموت يلوح
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح
أي: ليس لك بعد هذا الوقت إلا الموت، إذاً فاستعد لما بعد الموت، يُقال: إن ملك الموت نزل على موسى عليه السلام، قال: إني أستأذن عليك، قال: وما تريد؟ قال: أريد أن أقبض روحك، قال: تقبض روحي؟! فلطمه حتى فقأ عينه.
فعاد ملك الموت إلى رب العزة جل وعلا، وقال: يا رب أرسلتني إلى عبد من عبادك لا يريد الموت، قال: اذهب وقل له: ضع يدك على جلد ثور، فما غطت يدك من شعراته، فهو لك عمر، فذهب ملك الموت إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، قال: ثم ماذا يا ملك الموت؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، أي: اقبض روحي.
إذاً ما دام أن الأمر أنك لا محالة منتقل عن هذه الدنيا، فاستعد بالأعمال الصالحة، بل إن السلف كانوا يتمنون لقاء الله جل وعلا، ولقاء الله يكون بعد الموت، لقاء الله جل وعلا يكون بالاستعداد والأعمال الصالحة، والأعمال الطيبة الزاكية الخالصة لوجه الله يموت من شوقه إلى الموت.
فينبغي أن نقدم قبل الموت، وقبل نهاية الوقت أعمالاً تنفعنا عند الله جل وعلا، ولنجتهد بالعمر الثاني، لأن العمر للإنسان عمران: عمر في الدنيا وعمر بعد موته ألا وهو الذكر الطيب والثناء الصالح الذي هو دليل رضا الله جل وعلا، يقول القائل:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمرٌ ثان
ومن أجل ذلك أيها الشباب! أود أن أذكركم، بل أرجو أن تكونوا من الذين بعد عمرٍ طويلٍ , وعملٍ صالحٍ إن شاء الله يذكرون في هذه الدنيا بالأعمال الطيبة الصالحة، لا أن يولد الإنسان ويعيش ويكبر ويشيب ويموت كالبهيمة، كم يذبح اليوم في المذبح من البهائم، هل يذكر الناس بهيمة من البهائم؟ لا، البهائم بهائم لا تُذكر بشيء، لكن البشر يذكرون بالأعمال الصالحة، البشر يخلدون ذكرهم بعد موتهم بأفعالهم وأعمالهم، ومن أجل ذلك يقول إبراهيم بن أدهم، وهذه أبيات كثيرة أرددها، وأتمثل بها، وأدعو إخواني أيضاً إلى أن يتمثلوا بها، يقول:
إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى فقد ثُلمت من الإسلام ثلمة
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمة
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموت الفارس الضرغامِ هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمة
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمة
فينبغي أيها الأخ المسلم أن تكون من هؤلاء الخمسة الذين إذا توفتهم رحمة الله بعد عمر طويل وعمل صالح، يقال: رحمه الله لقد خلف أولاداً نفعوا الأمة والمجتمع، لقد كان معلماً نافعاً لتلاميذه، لقد كان قائداً مغواراً، لقد كان داعيةً مجاهداً، لقد كان تاجراً باذلاً، لقد كان موظفاً أميناً، لقد كان مفكراً محنكاً، لقد كان عابداً صواماً قواماً، ليس ذلك محبة لثناء الناس وذكرهم فقط، لا، بل حينما تُذكر، يدعى لك ألا وهي العمر الثاني، والصدقة الجارية (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) فقد يدعو لك ولدك والناس أجمعون إذا خلدت في هذا الكون عملاً صالحاً.
إمام الدعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه في جناته وأمطر صكوك الرحمة عليه، لا زال الناس يدينون بالفضل والثناء بفضل الله جل وعلا ثم له فيما هم فيه من التوحيد، وجد الناس في ضلال، أو في خبال يعبدون الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فجرد نفسه لله وطلب علماً دقيقاً شرعياً، وجاهد في الله حق جهاده حتى هز الأتراك، وهو في الدرعية، أرسل رسالة إلى نظام المقام العالي في الدولة العثمانية التركية أن اهدموا ما عندكم من القبور.
إنه داعية موحد هز الدنيا بدعوته الإصلاحية، من منكم يا شباب الإسلام يُعاهد الله جل وعلا عهداً وميثاقاً صادقاً أن يكون له في هذا المجتمع لبنة واضحة تُذكر من بعده، أو يدعى له فيها؟ كلنا يسأل الله أن يكون ذلك، فابذلوا واجتهدوا واحرصوا، وكل ميسر لما خلق له.(134/17)
إياكم وإلقاء سبب الضعف على الآخرين أو الزمان
أيها الشباب! ينبغي ألا نكون من العاجزين الكسالى الذين يلقون عهدة الخور والضعف، وضعف الإرادة على غيره، يقولون: هذا الزمان، وهذا الوقت، فما هو هذا الزمان؟ لقد كان وقت الصحابة أربعاً وعشرين ساعة؟ وزماننا أربع وعشرين ساعة، وزمان السلف الصالح أربع وعشرون ساعة، وزماننا أربع وعشرون ساعة، لماذا نلقي باللائمة على الغير؟ لماذا نلقي باللائمة على الناس؟ وكما يقول القائل:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
وقد نهجو الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمان بنا هجانا
كيف مر الوقت ولم تستفد من شبابك؟ الله المستعان! يقولون: الوقت يا رجال هذا الزمان تغير، إذاً تغير أنت لماذا لا تتغير إلى الأفضل؟! لماذا لا تتغير إلى الأحسن، هذا واجبك وهذا دورك.(134/18)
برنامج لقضاء الوقت
ختاماً أيها الإخوة! أنصح نفسي وإياكم إلى أن نبرمج لأوقاتنا أموراً معينةً ننفع الأنفس بها، ألا وإن من ذلك طلب العلم عند المشايخ، حلقات العلماء، هذه من أهم ما ينفع الإنسان نفسه، والله ما عرفنا قدر أنفسنا، وقدر جهلنا بالعلم إلا يوم أن جلسنا أوقاتاً محدودةً عند العلماء، لذلك ترى الإنسان لا يعرف مقدار جهله حتى يعلم، فإذا علمت قليلاً، أدركت أنك جهلت كثيراً.
فقل لمن يدعي في العلم معرفةً علمت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
إن الذي يظن أنه عالم فقد جهل، والذي يظن أنه نال من العلم النصيب الأوفر فقد جهل، لأن العلم بحرٌ تتلاطم أمواجه، ولا سواحل له، ينبغي أن تجتهد في طلب العلم عند المشايخ العلماء الثقاة، فإن ذلك خيرٌ لك في دينك ودنياك وآخرتك.
اجتهد بهذا أيها الأخ المسلم! أضف على ذلك أن تجتهد في أوقات فلا تقضى أربعاً وعشرين ساعة كلها عند المشايخ، بل تنظم ثلاثة أيام في الأسبوع عند الشيخ/ ابن باز مثلاً، وعند الشيخ/ ابن جبرين، وعند الشيخ/ الفوزان عند الشيخ كذا، تأتي كغيرك من الشباب ومعك كتابك وتقرأ، وتستمع، وتسأل فيما أشكل عليك، هذا خيرٌ لك في دينك ودنياك وآخرتك.
لديك من الأعمال المهمة مثل: المنتديات الطيبة التي يجتمع فيها الأخيار الصالحون، مثل: مكتبات المساجد، والمراكز الصيفية النظيفة، هذه تنفعك بإذن الله حينما تخصص الوقت الملائم لها، وتأتي لتشارك إخوانك، ليس فقط لتتعلم، بل قد تؤثر أيضاً، أي: قد يقول بعض الناس: أنا مستواي جامعي، لماذا أخالط أناساً في المتوسط والابتدائي، ما هي مصلحتي منهم؟ لا، أنت تأتي لتعمل فادعهم إلى الله، يرونك كبيراً وموجهاً ومشرفاً ثقافياً واجتماعياً فيتأثرون بك فيقتدون بأفعالك.
إذاً فأنت جئت إلى هذا المنتدى داعية، وبقي لك أثر طيب في نفس هذا وهذا فاستقام بإذن الله بسببك، ينبغي أن نجعل من أوقاتنا للدعوة إلى الله في مثل هذه المراكز الطيبة الصيفية.
وأصارحكم أيها الإخوة أنا منذ صغري كنت في مركز صيفي، شاركت في المراكز الصيفية، وكنت لا أستطيع أن أتكلم، فعلمني الأساتذة الأجلاء الأفاضل جزاهم الله خير الجزاء، يعطيني الواحد ورقة، ويقول: قم أمام إخوانك وزملائك امسك واقرأ هذه الورقة، فأمسك الورقة وأنا أنتفض هكذا، أخشى أن تقع الورقة، نعم، لأن الإنسان لا يولد عالماً، رويداً رويداً حتى أصبح الإنسان يقرأ، ثم أصبح الإنسان يقرأ هذه الورقة بكل ثقة واطمئنان، ثم أصبح يستطيع أن يعبر عما في نفسه دون الحاجة إلى الورقة، فهذه المراكز الصيفية تكتشف هذه المواهب الموجودة في نفسك، وتنفعك بإذن الله.
إذاً أيها الشباب! وخاصةً الصغار ينبغي أن يجتهدوا، وأن يستفيدوا، وأن يبادروا حينما يكون هناك مجال من الاستفادة، هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(134/19)
الأسئلة(134/20)
برنامج يوم إسلامي
السؤال
نحن الآن في الإجازة السنوية، وكما تعلم أنها في حدود ثلاثة أشهر، يا حبذا لو شرحتم لنا شيئاً في حياة يومٍ إسلامي، وما هي أسهل الطرق لحفظ القرآن الكريم، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
اليوم منقسم إلى الليل والنهار، هذا اليوم حينما يرتبه الإنسان وينظمه -كما قلنا- يخرج منه بأعظم فائدة إن شاء الله، فهناك جدول يومي، وهنا جدول أسبوعي، وهناك برامج شهرية، فأمَا وقد رغبت أن أفصل لك، أقول لك: إذا منَّ الله جل وعلا عليك، وكنت من الذين يأوون إلى فرشهم مبكرين، تنام في هذا الليل الذي جعله الله سكناً، وتنام في هذا الفراش مبكراً، وإياك والتعليمات الكثيرة، أنت في كذا، أنت في كذا، الليل سكن، وما أغبط إنساناً كغبطة إنسان لا يعرف المواعيد بعد العشاء، إلا بما ندر، أو مثلاً ساعة ونصف، إذا زاد الأمر فساعتين، ثم يهرع إلى فراشه؛ فإنه يستفيد؛ لأن ساعة من الليل تعدل ساعات من النهار فيما يتعلق بالسكن والراحة.
فإذا منَّ الله عليك بالاستيقاظ قبل الفجر ولو بربع ساعة، صليت ركعتين، تكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات والمستغفرين بالأسحار، ثم أذن المؤذن وخرجت إلى المسجد، وصليت الفجر مع الجماعة، أقول: لا تجبر نفسك من جهة الضغط عليها، قد تكون بالأمس سهراناً عند والدك أو جاء ضيوف، أو عند أهلك مناسبة، عندكم كذا، خذ قسطك من النوم، لكن؟ بعد أن تأتي بوردك بعد صلاة الفجر، الأوراد اللازمة، الفاتحة، آية الكرسي، آخر البقرة، أول آل عمران، شيء من سورة طه، المعوذات، شيء من المفصل، ثم اللهم إني أسألك خير هذا اليوم إلى آخر ما تعرفونه من أذكار الصباح، ثم إذا كنت مجهداً، فقم إلى فراشك، ونم قليلاً، لكن وقِّت الساعة، ولا تنم إلى أذان الظهر، لا، بل انتبه إلى الساعة، فإذا استيقظت، قد تكون مثلاً موظفاً، ستذهب إلى عملك، وقد تكون طالباً، ولعل السؤال موجه إلى الطلاب الذين يعيشون الإجازة، فإذا أصبحت وتناولت طعام الإفطار، وجلست مع إخوانك الصغار وقتاً لا بأس به، ثم خرجت إلى المركز الصيفي، أو إلى أي مكتبة، أو إلى مكتبتك الخاصة، فقرأت ما يسر الله لك فيها، ثم بعد ذلك قد يكون لأهلك حاجة من الحوائج قضيتها، وبعد الظهر أجود أوقات النوم، وإن كانت القيلولة قبل الظهر بقليل، لكن في الغالب هذا لا يتيسر، يقول الشاعر:
ألا إن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العُصير جنون
ألا إن بين الظهر والعصر نومةٌ تحاكي لأصحاب العقول قلوبُ
عموماً بعد الظهر نومة مفيدة إذا تغديت ثم نمت، ثم بعد ذلك صليت العصر، بهذا تكون نشيطاً، هنا أمر: كلٌ يختلف بحسب نفسه، الذي هو أمر الحزب اليومي من كتاب الله جل وعلا، فبعض الناس يقرؤه بعد صلاة الفجر، وبعض الناس قد يكون من الذين يغلبهم النعاس إذا كان مثلاً سهراناً في الليل لأمر أو مشغلة من المشاغل يكون حزبك بعد العصر، وتقرأ ما يسر الله لك من كتاب الله، ومن سنة رسوله، ولا بد أن يكون لك مكتبة كل كتاب وراءه كتاب، لا ينفع أن تقرأ في السنة الماضية نصف كتاب، والسنة التي قبلها قرأت نصف الكتاب، لا، القراءة هي النافذة على العالم، هي باب المعلومات وتوارد الخواطر، لا بد أن تجتهد في القراءة، ومن كانت له بداية محرقة في القراءة والاطلاع وغير ذلك، كانت له نهاية مشرقة.
ثم بعد ذلك إذا كان هناك نشاط في هذا المركز أتيت إليه، وبعد المغرب شارك إخوانك، لكن هناك أمور أساسية: الصلوات في أوقاتها، نصيبك من كتاب الله، وإني أهنئ شباباً قد خصصوا من أوقاتهم وقتاً لحفظ القرآن بعد العصر، وبعد المغرب، أو بعد المغرب فقط، أو بعد العصر فقط، المهم ألا يمضي عليك يوم ما قرأت فيه شيئاً من كتاب الله كلٌ بحسب نفسه.
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
الله عز وجل خلق الناس وفاوت مراتبهم، لا نظن أن كل الناس يكونون علماء، أو كل الناس يكونون حفاظ، لو كان الإنسان يصنع نفسه، لكان الإنسان تمنى أن يكون كريماً شجاعاً حافظاً صواماً عالماً مجاهداً ثرياً غنياً فصيحاً، كل شيء، لكن أراد الله جل وعلا أن يجعل الناس درجات: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فهذا نموذج ليوم إسلامي، لكن أريد أن أقول لك: هذا اليوم لا يخلو من أمور: المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وردك الأساسي اليومي من كتاب الله، ثم من سنة رسول الله، وساعة القراءة، ونصيب أهلك بك.
وكثير من الشباب، وأنا أعاتب الإخوة الحضور، وأعاتب نفسي فيما مضى مني، كنا نضيع حاجات الأهل والوالدين أسأل الله أن يغفر لنا هذا الفعل: أنا ذاهب إلى المركز أنا عندي كذا، بل ابدأ بحاجة والديك، فإن الوالد قنوعٌ بما يأتيك من العمل، حينما تقدم لوالدك عملاً بسيطاً، والدك يراك كهذه اللمبة، أو كهذه الشمعة تشرق على هذا المكان كله.
فينبغي أن تكون مهتماً بحاجات والدك، برنامجك ألا يخلو من هذا الشيء، مع حاجة والديك، الترويح عن نفسك ومخالطة جلسائك الطيبين، لا تنقطع يوماً واحداً من رؤية جلسائك الطيبين، ولو في مسجد، بعد الصلاة تجلس أنت وإياه عند السارية كيف حالك؟ وما عندك؟ وكيف المركز اليوم؟ في رحلة؟ في كذا؟ وهل هناك زيارة؟.
المهم أن تكون مرتبطاً بإخوانك، لأن الانقطاع يورث البعد، والبعد يجعل الشيطان يتوحد بك، ومن ثم يفترسك كما يفترس الذئب من الغنم القاصية.
لابد أن يكون لك برنامج أسبوعي في هذا الأسبوع مثلاً: إذا كنت من أصحاب هواة الرياضة، يكون لك شيء من ركوب الخيل، أو سباحة، أو تمرين معين.
وكذلك برنامج شهري تجعل في كل شهر مثلاً زيارة إلى المقبرة عظة وعبرة وتذكراً وتفكراً إلى آخر ذلك.
المهم أن المجتهد الحريص على وقته سوف يستغله، وليس البرنامج ينطبق على كل إنسان، كل إنسان يُكيف هذا البرنامج بحسب ظروفه، بعض الناس أهله عندهم مشاغل، وربما أخوه الأكبر يكفيه هذه المشاغل، فتجده متفرغاً، هذا يختلف عن إنسان لديه مسئوليات أسرته، وحاجات أهله فوق رأسه، لا بد أن يقوم بحاجات أهله، فالبرنامج يخصصه بحسب طريقته، يعني: تبرمج وقتك بحسب طريقتك الخاصة، لكن لا يخلو البرنامج من هذه النقاط الخمس التي ذكرناها.(134/21)
نصيحة إلى عاصٍ
السؤال
فضيلة الشيخ أرجو أن تنصح لي لكي أترك معصيتي التي أعملها كثيراً في وقت الفراغ، ولا أستطيع تركها، فهل من طريق إلى تركها؟
الجواب
الطريق هو أن تملأ الفراغ، لاحظ أنك قلت: في معصية أعملها وقت الفراغ، إذاً هذه المعصية لا يتسلط الشيطان عليك بها إلا في وقت فراغك، لأن هذا الوقت الذي أنت سميته وقت فراغك، لم تُشغله بشيء، فأشغلتك نفسك بالمعصية ما لم تشغلها بالطاعة، إذاً أهم شيء أن تملأ الوقت، فهناك خلل في برنامجك اليومي، هذا الوقت لماذا يكون فارغاً؟ قد يكون غيرك في عبادة، أو دراسة، وأنت تسميه فراغاً، قد يكون غيرك في رياضة، قد يكون غيرك في عمل، وأنت تسميه فراغاً، قد تقول لي: هذا الوقت بالليل مثلاً، أقول لك: لو كنت قد برمجت وقت النهار، لكنت في هذا الوقت محتاجاً إلى الراحة والنوم، وعلى أية حال جاهد نفسك يا أخي بالصبر عن معصية الله جل علا، فإنما يُوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، وأسأل الله أن يثبتني وإياك، وأن يعصم الجميع عما يسخطه، وأن يجنبنا ما يغضبه، فالله سبحانه وتعالى يتوب علينا وعليك، وأكثر من مجالسة إخوانك ما استطعت، فإن كثرة مجالسة الأخيار والجلساء الصالحين، بإذن الله تدفع عنك فعل المعاصي.(134/22)
الفرق بين الوقت عند المسلمين وعند الغرب
السؤال
ما الفرق بين الوقت عند المسلمين والغرب، وجزاكم الله عنا خيراً؟
الجواب
الوقت عند المسلمين هو كل شيء، لأنه حيز العبادة والأعمال، والوقت عند الغرب يختلف من ناحية أنه وقت للعمل فقط، لكن هذا العمل ليس مبنياً على هدف وغاية، أنت حينما ترتب أوقاتك، وحينما تهتم بها، كوسيلة للوصول إلى غاية، التي هي الوصول إلى أقصى درجة من العبودية لله جل وعلا، ومحاولة كسب أكبر قدر ممكن من الأعمال الصالحة التي يتوصل بها إلى رضا الله جل وعلا، أما الوقت بالنسبة للغربيين، فهو وسيلة إلى شيء تافه للغاية إذا كان يوجد عندهم غاية، ومن ثمَّ عند فقدان الغاية، يستعجلون النهاية، ذُكر -وهذا شيء واقع تقريباً من خمس أو سبع سنوات- أن أحد أثرياء الغربيين، قال: ماذا أعمل بجمع المال؟ أنا أجمع المال، لأكون سعيداً، من أجل أن يعرف النتيجة? من أجل أن أعيش هذه الأيام تمر عليَّ براحة، وماذا بعد الأيام؟ الموت قال: لماذا أنا لا آتي بالنهاية من الآن، وقتل نفسه وانتحر.
هذه النهاية أتى بها لنفسه واستعجل فيها، بل إنه قتل نفسه، والله سبحانه وتعالى قدر أن تكون هذه ساعته، ولكن أعوذ بالله من ختام سوء، فالوقت بالنسبة للمسلم ثمين ومهم وعليه أن يجتهد على ملئه بالأعمال الصالحة لكي يصل إلى الغاية العظمى التي هي ترضى الله سبحانه وتعالى، وإذا لم يستغل بالأعمال الصالحة ولم يذكر الله فيه، كان عليه حسرة.
ولذلك لاحظ أن الكثير منهم لأنهم عبيد الدنيا والمادة والمال يهتمون بالوقت اهتماماً دقيقاً من أجل المال، لكن أصحاب الإجازة بالنسبة لهم انظر كيف يعيشون؟ حياة البهائم، يذهب إلى أي مكان، يعيش في فندق، يجلس سكران في هذا الفندق خمسة أيام، أو ستة أيام، وهو يغالط في الأماني عنده، الوقت مهدر القيمة، أهم شيء العمل؛ لأنه هو يُوصل إلى المال، لكن بالنسبة للمسلم لا فرق، الوقت ثمين أيام الدراسة وأيام العمل وأيام الإجازة، والعطلة الصيفية، والوقت مهم وثمين، فالفارق في الوقت ليس من حيث عدد الساعات، بل الساعات واحدة، وليس من حيث العمل فقط.
بل العمل هم يعملون، ولكن في معصية الله، وأعمالهم عليهم حسرة، وتكون سبباً لدخولهم النار، والمؤمن يعمل لكي ينال بذلك رضا الله سبحانه وتعالى، وماذا بعد ذلك؟ مآل المسلم إلى الهدف الأسمى رضا الله والجنة، ومآل الكافر- عياذاً بالله- إلى النار.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.(134/23)
أيها الشاب إلى أين المسير وجوارحنا هكذا
إن من شباب المسلمين شباباً ليس لهم هَمٌّ إلا في لباسهم وأكلهم وشربهم، وفي معاكسة النساء في الشوارع وعبر الهواتف، في حين أن هناك من المسلمين في بعض البلدان من يذبحون بالمئات سواءً كانوا شباباً أم شيباً، وتنتهك أعراضهم أمام أعينهم من قبل أعداء الإسلام، والمسلمون نائمون لا يحركون ساكناً في هذه المادة تنبيه لشباب الأمة العائم في هواه، والغارق في سباته قبل حلول الكارثة.(135/1)
التاريخ يعيد نفسه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، أن يحرم وجوهكم وجسومكم عن النار، وأن يجمعنا بكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، إذ الداعي والباعث والغاية والمقصد من هذا اللقاء هو تحقيق محبة الله في الله ولله ولوجه الله، وفي سبيل الله وعلى طريق يرضي الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: (المتحابون في الله على منابر من نور -لا هم بأنبياء ولا شهداء- يغبطهم الأنبياء والشهداء بمنزلتهم من الله) فأسأل الله جل وعلا ألا يحرمنا وإياكم هذا الأجر العظيم، أسأله سبحانه كما هدانا إلى الإسلام أن يثبتنا عليه، وأسأله سبحانه كما هدانا إلى الإسلام أن يمكنا بالإيمان، وأن يهدينا إلى الإحسان، وأن يوفقنا إلى طاعته.
أحبابنا: وبين يدي هذه المحاضرة، وأمة الإسلام جراحاتها نازفة وأشلاؤها متناثرة وجماجمها تحت دبابات وطائرات وقنابل أعدائها، بين يدي هذه المحاضرة، والمسلمون بكل أرض إما جريح أو شريد أو طريد، بين يدي هذه المحاضرة التي فيها نداء لي ولكم ولكل شاب، ولقد أكثرنا في نداء الشباب الذين ضلوا ولكنا قصرنا وفرطنا في نداء أنفسنا، ودعوة أنفسنا وتمحيص ما ندعيه من الإيمان والاستقامة والالتزام.
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
أيها الأحباب: نظرة متأملة لجانب من جنبات واقعنا المعاصر فيما يتعلق بأحوال إخواننا المسلمين، إن التاريخ يعيد نفسه في عام أربعمائة واثنتين وتسعين للهجرة، في أواخر القرن الخامس احتل الصليبيون بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، وعندما دخل الصليبيون المدينة، انطلقوا في شوارعها وبدءوا بالمساجد ثم إلى الدور يقتلون كل من لاقاهم وصادفهم، رجلاً أو أنثى، صغيراً أو كبيراً، بل قال ابن الأثير: إن عدد القتلى من المسلمين زاد على سبعين ألف قتيل، منهم عدد كبير من أئمة المسلمين وعلمائهم وزهادهم وأكثر الناس فارق الأوطان، وقد روى شاهد عيان في كتب التاريخ ما فعله الصليبيون عندما دخلوا القدس، فقال: إن النساء كن يقتلن طعناً بالسيوف وطعناً بالحراب، وإن الأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم والطفل منهم قد التقم ثدي أمه يرضع منها، ويقذف بالطفل من جنبات السور، بل وربما هشم رأس الطفل بأعمدة الخيام، وذبح خلق كثير، وقد كان لاحتلال هذا البيت وتلك القبلة، أثر عظيم في نفوس المسلمين، وإن التاريخ كما قلت يعيد نفسه، فأنتم ترون أعداء الإسلام لا يزالون يجثمون بكلكلهم على تلك القبلة، بل ومدوا نفوذ سيطرتهم وأطراف عدوانهم على كثير من بلاد المسلمين.
والحال بالأمس واليوم سواء، خاصة في فلسطين فقد ذبح خمسون وهم سجود، برصاص الغدر والخيانة، من أبناء القردة والخنازير عبدة العجل، وأكلة السحت، وقتلة الأنبياء، ومن أتباعهم وأذنابهم من الصرب في البوسنة والهرسك ومن بني عمومتهم من الهندوس في كشمير وغيرها ومن ومن ومن الواقع والتاريخ يعيد نفسه.
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه بالدين النحيب
فحق ضائع وحمىً مباح وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
أي: يضمخون وهم لا يضمخون، بل ينجسون ويوسخون ويقذرون جدران المساجد بدماء الخنازير يعدونه وطيباً.(135/2)
لا عزة إلا بالإسلام
أيها الأحباب: فكما أن التاريخ يعيد نفسه، ويصور تلك المأساة التي كانت للمسلمين في أواخر القرن الخامس الهجري، ونحن نراها الآن في القرن الخامس عشر أي: بعد عشرة قرون، فإنا في هذه الساعة وفي هذه اللحظة وفي نفس الوقت نسأل عن شباب المسلمين آنذاك، لقد كان شباب المسلمين في تلك العصور وفي تلك الحقبة كانوا شباباً رهباناً بالليل فرساناً بالنهار، صوامين قوامين، ما عرفوا الخلاعة والمجون، وما عرفوا التهتك ولا التخلف، ولا التشبه بالنساء، وما عرفوا ضياع الرجولة، أو ذهاب الشيمة، أو ضيعة الإباء والشمم، ما عرفوا إلا جدية ورجولة وفروسية، وقبل ذلك وبعده عزاً بالإسلام يعتزون به، الشخص منهم يكفيه فخراً أنه مسلم وليس بعد هذا فخر، يعتز بأنه مسلم، ويفخر بأنه مسلم، وحق له بهذا الفخر، أوليس الله عز وجل يقول: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221]، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة:221] مهما أوتوا من الأموال، فإنهم يدعون إلى النار، ومهما كان عندهم من الثروات فإنهم يدعون إلى النار، ومهما اكتشفوا واخترعوا وتسخرت لهم أسباب المدنية وسبل الحضارة فإنهم بها ولها يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، والله يدعو إلى دار السلام، ويدعو إلى الحق وإلى الهدى.
إذاً: فأول قاعدة نبنيها ونضعها ونوصيكم معاشر السامعين بفهمها والتيقن بها: أن نعتز بالإسلام وليس بغير الإسلام عزة، تباً وسحقاً وبعداً لرجل يعتز بثيابه وينسى أن يعتز بدينه، يعتز بمركبه وينسى أن يعتز بدينه، ويعتز بجنسيته وينسى أن يعتز بدينه، ويعتز بمبانيه وبما عنده وينسى أن يعتز بدينه، فهو حقير كسير مسكين ليس له في هذه الحياة حظ من العزة لا في قليل ولا في كثير.
أيها الأحباب: أقول هذا لأن أعداء الإسلام تسلطوا علينا وعلى شبابنا خاصة عبر وسائل الإعلام المختلفة، عبر الأفلام، وعبر المجلات، وعبر المسلسلات، وعبر الأقمار الصناعية، والقنوات، وعبر كثير من السبل جاءونا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا، وأرجفوا بالناس من تحتهم ومن فوقهم، لا يريدون إلا أن يضلوهم عن طاعة الله، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة:105].
أدنى الخير أو ذرة من الخير فأسأل الله أن نكون ممن خصوا برحمة الله، وخصوا بعزة في دين الله، وبرفعة في طاعة الله، وبمحبة من الله عز وجل، أولئك كما قال الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
أيها الأحباب: على الرغم من تخلف المسلمين في مجال التقنية والتسلح، وعالم الفضاء والإلكترونيات، وكثير من المجالات، على الرغم من تخلف المسلمين وتقدم الكافرين في كثير من المجالات إلا أن الكفار لا يزالون ينظرون ويرون أن المسلمين أرفع وأكبر وأعلى قدراً منهم، ومن ثم يريدون أن ينزلون بهم من مستعصم عليائهم إلى منخفض جاهلية الكفار، فيكونون سواء، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] إذا كنا نظن أننا في الدون والكفار في العلو فإن الكفار لا يتمنون أن يرتفع المسلمون ويكونون معهم في درجة واحدة، لكن معنى هذه الآية: يدل على أن الكفار حينما يرون المسلمين متمسكين بالإسلام فهم يرونهم في رفعة وفي عزة وفي علياء، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} فتهبطون وتنزلون {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} ويأبى الله ذلك، ويأبى المؤمنون الصادقون ذلك، وإن النصر بإذن الله لقريب إذا وجدت أمة تستحق النصر، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40 - 41].
يا شباب الإسلام! ويا أيها الشباب! والحديث لكم، ومن ثم منكم إلى إخوانكم على مقاعد الدراسة، وعلى مقاعد العمل، وفي جوار المنازل، وفي مناسبات تجتمعون فيها وتلتقون فيها، أنتم رسل هدى ورسل خير، فلا يظنن أحدكم أن قصارى مهمته وأن مبلغه من الخير والصلاح أن يحضر محاضرة ثم ينتهي، نعم جزيت خيراً على حضورك، وأثابك الله على مجيئك وعلى ما تركت من أعمالك وتركت من أشغالك لتسمع آية وحديثاً، وتوجيهاً ونصحاً، ولكن الأمر لا ينتهي عند ذلك، الحديث الليلة والحديث في كل ليلة حينما يكون في كلام الله ورسوله رسالة إلى السامع وليبلغ الشاهد الغائب، وليبلغ السامع من لم يسمع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب مبلغ أوعى من سامع) ولو لم يكن لك إلا دعوة هدى: (ومن دعا إلى هدى فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً).
أيها الأحبة في الله: لا يشك شاب عاقل عنده أدنى بصيرة وأدنى معرفة:
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
إن اليهود والنصارى حتى هذه اللحظة وقبل هذه اللحظة وقبل سنين لا يزالون يتربصون بنا كما قال الله جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة:217].
ذلك المنهزم التي انطلت عليه دعايات الكفار، ذلك المخدوع الذي وقع في الفخاخ، ذلك المسكين الجاهل المقلد الذي نصب له الشرك فوقع فيه من أول خطوة وأول لحظة.(135/3)
شباب المسلمين ومؤامرات الكفار
إن أعداء الإسلام سواء تكلموا بلغاتنا، أو ادعوا حبنا، أو خالفونا في اللغة واللباس وغير ذلك، والله لا يريدون بهذه الأمة عامة ولا بشبابها خاصة إلا ضلالاً وخبالاً وكما قال عز وجل: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] أي: ودوا عنتكم وشركم، وإضلالكم ومضايقتكم، وإفسادكم وتدميركم وخراب أرضكم {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ولكن مصيبتنا اليوم ممن يرى أنياباً مفترسة فيقول: هذه نواجذ ضاحكة، ويرى مدىً مسنونة لذبح المسلمين فيقول: هذه مدى قد أعدت لضيافة الضيوف من المسلمين، ويرى فخاخاً تنصب فيقول: هذه درجات للتقرب والصلة وحكم العلاقة بين المسلمين والكافرين، لا، سيبقى الأمر كما قال الله عز وجل في عداوتهم وفي بغضائهم وقد يوجد من بينهم من هم سذج أو بسطاء أو فيهم من شيء من العدل، أو فيهم شيء من الإنصاف إلا أن وجود شريحة أو طائفة من اليهود والنصارى ممن قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75].
ويقول عز وجل: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113] تبقى تلك الشريحة حالة مستثناة من عموم الكافرين، نؤمن بوجودها تصديقاً للعدل وتصديقاً بما ورد في الكتاب والسنة، ولكن أصل الحقيقة أن اليهود والنصارى لا يألون جهداً في خبالنا وفي ضلالنا، ولأجل ذلك ما فتئ الكفار على اختلاف مسمياتهم: يهود، نصارى، بعثيون، ماسونيون، هندوس، بأي طريقة وملة ونحلة كانوا يخططون للبحث عن أقرب السبل وأيسرها لإفساد شباب المسلمين وإضلالهم.
ولذا يقول أحد الماسونيين: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوا هذه الأمة في حب المادة والشهوات.
نعم.
إنها مؤامرة على شبابنا، إنها مؤامرة على إخواننا، وعلى فلذات أكبادنا، وإنك لترى حقيقة المؤامرة يوم أن ترى شاباً يلوح بثيابه أو يصفق بيديه أو يصفر بفمه أو يهز برأسه على لعبة أو على ملهاة، أو في غفلة وفي نفس اللحظة المسلمون في البوسنة تغتصب نساؤهم.
ومن شواهد نجاح خطة أعداء المسلمين في شباب المسلمين أنك ترى في نفس اللحظة التي يذبح فيها شاب مسلم وتغتصب فيها حرة مسلمة ترى شاباً يسير وراء غانية أو ممثلة أو سينمائية، في نفس اللحظة التي يمزق فيها المصحف ويتبرز على المصحف ويتبول على المصحف في نفس اللحظة تجد شاباً لا هم له إلا أن يقلد ممثلاً أمريكياً، أو بطلاً فرنسياً، أو نجماً سينمائياً شرقياً أو غربياً، أليس هذا دليلاً من أدلة نجاح أعداء الإسلام وخططهم في إفساد شباب المسلمين؟ وإن هذا أمر ليفت الأكبد، ويجرح القلوب، ويجعل الإنسان يبكي الدم بدل الدمع من شدة ما يرى من أحوال هذه الأمة، إن التفت يميناً وجدت شباباً غافلين، وإن التفت شمالاً وجدت أعداء في الضلال مجتهدين، فتلك مؤامرة:
مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب
مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماً من تراب
مؤامرة تقول لهم تعالوا إلى الشهوات في ظل الشراب
شيوعيون نزر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب
تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب(135/4)
وفي أنفسكم أفلا تبصرون
أيها الأحبة: إن هذه الحال تدعونا أن نخاطب كل شاب فنقول له: يا أيها الغافل! أين الطريق؟! يا أيها الغافل! إلى متى الغفلة؟! يا أيها الضال! هل عرفت الهداية؟! يا أيها الجاهل هل ستسلك سبيل العلم؟ يا أيها المستغرق في شهواته ولذاته! هل أدركت حقيقة دنياك، وهل تفكرت في بدايتك ونهايتك؟! هل تفكرت من أي شيء خلقت، ولأي شيء خلقت، ولأي غاية خلقت؟! اعلم أيها المتصدر! اعلم أيها الجاهل! اعلم أيها المسكين -الذي غفل وضل عن طاعة ربه- أنك لو تأملت أصل خلقتك لوجدتها خلقة مهينة لا ترفع بها رأساً، ولا كرامة لها إلا بما نفخ الله بها من روح وكرمها بوحي وهدى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16].
هذه آية من كلام الله عز وجل، الوحي الرباني يخبرك أيها الشباب ما هي بدايتك، وما هي مراحل حياتك، وما هي نهايتك، (يا أيها الناس) وأنت أيها الشاب من هؤلاء الناس الذين يدخلون في هذا الخطاب وهذا النداء، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ)) [الحج:5] هل رأيت التراب الذي تدوسه بحذائك؟ هل رأيت التراب الذي تطأه بقدميك؟ هل رأيت التراب الذي تمشي عليه الكلاب والدواب وتغرس فيه الأشجار؟ إنك في أصل خلقتك من هذا التراب
خفف الوطء ما أظن أن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
رب لحد قد صار لحداً مراراً والهاً من تزاحم الأضداد
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].
وهذه من دلالات البعث بعد الموت، ومن شواهد الخلق بعد الفناء، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6].
أيها الشاب! اعرف حقيقة خلقتك حتى إذا قال الداعي: حي على الفلاح، أدركت يا أيتها النطفة، يا أيتها المضغة، يا أيتها العلقة، يا أيتها النطفة المذرة من الماء المهين، كيف تتكبرين على داعي الفلاح ومنادي الله عز وجل فتزورين وتنقلبين أو تتقهقرين وتترددين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ((أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)) [يّس:77] {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5 - 6] نعم.
نبدأ بهذه القضية في خطابنا لكل شاب نناديه لكي يقلع عن الغواية ويعود إلى الهداية، نناديه لكي يترك مجالس اللهو ليعود إلى مجالس الذكر، نناديه لكي يترك كل ما يضره ويصده عن طاعة الله، ليعود إلى ذكر الله وطاعة الله، فنقول له من البداية: إن تصورك لحقيقة نفسك وحقيقة تكوينك هي التي تجعلك تنقاد خاضعاً مختاراً طائعاً لا خيار لنفسك في نفسك.
إنك أخي الكريم! يوم أن تحاسب أحداً من موظفيك أو أحد عمالك، استخدمته براتب أو بأجرة وفيرة، ثم رأيته يتصرف في مؤسستك، ويبذر في مالك، ويعتدي ويخالف، ويعزل ويفعل، ويأمر وينهى، ولا يألو جهداً في أن يفسد أو يخالف أو يستثير غضبك فإنك أول ما تدعوه تقول له: من أنت؟ تريد أن تذكره بحقيقة نفسه، وتريد أن تذكره بحقيقة موقعه، وبحقيقة وضعه في هذه الشركة أو في هذه المؤسسة، تريد بهذا أن تقول له: إن وضعك لا يسمح لك بالأمر، ولا يسمح لك بالنهي ولا يأذن لك بالتصرف، فأنت متصرف فيك، مأمور في هذه المؤسسة والشركة، ولست الآمر والناهي.
ولله المثل الأعلى، نقول لك أيها الأخ الكريم: من أنت حتى تزور وتكفهر ولا تنزجر ولا ترعوي ولا تأتمر بأمر الله ورسوله، {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [الإسراء:50].
يا من دعي إلى الصلاة فلم يصل! يا من دعي إلى هجر الغفلة فلم يهجرها! يا من دعي إلى مجالس الذكر فلم يحضرها! يا من نصح بالكتاب والشريط فلم يسمع! يا من دعي إلى الهداية فلم يرعوِ! من أنت؟ حجارة لا تدور، أم حديد لا يلين، أم قوة لا تضعف، أم صحة لا يعتريها مرض، أم حياة مخلدة لا يكدرها الموت؟! من أنت؟ أمان لا يفنى، أم كنوز لا تنقضي، أم قوة لا يغالبها أحد؟! من أنت يا من يعصي ربه؟! من أنت يا من يخالف أمر رسوله؟! من أنت يا من لا يتصبر ولا ينقاد لأمر الله ورسوله؟! ثم بعد ذلك تظن أنك بعد إذ خلقت على هذه الحال، أن الله خلقك عبثاً؟! إن فيك ملايين بل مليارات الخلايا التي أمرها الله بتركيب هذا الجسم مذ كنت في رحم أمك -ملايين الخلايا التي تنتج في مصنع الرحم- فخلايا تتجه لصناعة عينك، وخلايا تتجه لصناعة أذنك، وخلايا تتجه لصناعة القدم، والمفصل والركبة والفخذ، وخلايا تتجه لصناعة الرئتين، وخلايا تتجه لصناعة قلبك، وخلايا تتجه لصناعة عظامك، وخلايا تتجه لصناعة سمعك وبصرك وجوارحك وحواسك وأجهزتك وما ضلت خلية عن طريقها، ما رأينا رجلاً ضاعت خلية منه وتاهت طريقها، خلية الأنف ما ضاعت وما تاهت عن الطريق، ما رأينا أحداً نبت أنفه في ظهره، كل خلية في كل إنسان اتجهت لتثبت في هذا المكان، وكل خلية أذن في كل إنسان اتجهت لتثبت في مكانها، وكل خلية في العين اتجهت لتبقى في مكانها، ما ضاعت وما ضلت، ولو أن البشر أرادوا أن يحكموا تدبير الخلايا وتوجيهها والسيطرة عليها والإحكام في أمرها لعجزوا عن ذلك، مليارات من مليارات الخلايا التي يعجز الإنسان عن عدها فضلاً عن أن يتصرف فيها، إن الله جل وعلا قد سخر فيك هذه الكائنات، وأمرها بأن تكون أداة ومادة لتكوينك وخلقك ثم أبدع تصويرك وأحسن خلقك، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
بعد هذا كله أتظن أن الله أبدع وخلق وصور وأحكم وأنشأك ورباك ونماك في هذه الصفة لكي تأكل ما حرم، أو لتسمع ما حرم، أو لتنظر إلى ما حرم، أو لتقول ما حرم، أو لتفعل ما حرم، أو لتترك ما أوجب، أو لتستهزئ بما أمر، أو لتنصرف عما أمر؟ حاشا وكلا {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] قال الإمام الطبري في تفسيره، يقول جل ذكره: أفحسبتم أيها الأشقياء! أنما خلقناكم لعباً وباطلاً، وأنكم إلى ربكم بعد مماتكم لا تصيرون أحياء، فتجزون بما كنتم في الدنيا تعملون؟!! قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116] أن يخلقكم عبثاً أو أن يضيعكم، أو بمجرد أن يحييكم ثم يميتكم، لا يرجعكم إليه ليحاسبكم؟ تعالى الله عز وجل وتنزه وتقدس أن يخلقنا ثم يتركنا، ولا يعيدنا ولا يجمعنا مرة أخرى للحساب والسؤال والجزاء.(135/5)
الغاية التي من أجلها خلقنا
لقد خلقنا لغاية ألا وهي نداء من الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] أول أمر في القرآن أمر بالتوحيد، وأول نهي في القرآن نهي عن الشرك، أول أمر في القرآن أمر بالعبادة، عبادة الله وحده لا شريك له، بل جاءت صريحة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
يا أيها الشاب! يا أخي الحبيب! إن من واجبنا أن نتفكر ملياً، إياك أن تشغلك نغمة أغنية، أو صورة خليعة، أو رواية ماجنة، أو مسلسل يغويك عن غايتك التي خلقت من أجلها، هل فكرت في معنى حياتك على هذه الأرض؟ من أين جئت؟ ما الذي جاء بك؟ ولماذا جيء بك؟ وأين يذهب بك بعد الموت؟ هل فكرت يوماً من الأيام أن تقف بجوار مقبرة من المقابر؟ هل وقفت يوماً من الأيام بجوار قبر من القبور وقلت: يا ليت شعري ماذا يدور في اللحد تحت هذا القبر؟ هل وقفت يوماً لتقول كما قال القائل:
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المذل بسلطانه وأين العزيز إذا ما افتخر
هل فكرت في هذه النهاية؟ إلى أين تسير أيها الأخ الحبيب؟ أسئلة لا بد أن تكون قد خطرت ببالك، ولا بد أن تخطر على بال كل عاقل، إذ إن الذي يركب سيارة ثم يستوقفه أحد في الطريق، فيقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ فيقول: لا أدري، فهذا أحد المجانين، قد ركب دابة، وشق بها طريقاً وعبر بها سبيلاً، لكنه لا يعرف الغاية كما قال ذلك المجنون المعتوه الذي يدعى إيليا أبو ماضي، حيث قال:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي
لست أدري ولماذا لست أدري لست أدري
قد سألت البحر يوماً: هل أنا يا بحر منك
أصحيح ما ذكروا عني وعنك
ضحكت أمواجه مني وقالت: لست أدري
وهذا الرجل لا يدري وسيظل لا يدري إذا لم تكن هناك دراية وهدى ودلالة من كتاب الله عز وجل، لأن الذي لا يعلم من القرآن شيئاً جاهل، والذي لا يعلم من السنة شيئاً جاهل، والذي لا يعلم من الشرع شيئاً جاهل، حتى وإن بلغت المراكب أعلاها وإن بلغت به المنازل أسناها.
أيها الأحبة: يقول أحد الأعراب -وهو جبير بن مطعم -: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذ به يقرأ قول الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
فكاد قلبي أن يطير) من شدة تأثره بهذه الآية التي تسائل أقواماً أنكروا وجحدوا وتقول لهم: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} هل العدم خلقهم؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أم هم خلقوا أنفسهم؟ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} هل استطاعوا أن يخلقوا ما حولهم؟ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36].
إن هذه من الآيات التي تجعل المسلم إذا قرأها يتوقف ويسأل ويتدبر ويقرر بكل اعتقاد ويقين أنه خلق من خلق الله عز وجل، وأنه مع من في الأرض جميعاً، من البشر وجميع البهائم والدواب والحيتان والجبال والأشجار والمياه والمحيطات والكائنات والموجودات في ميزان الله أمر صغير حقير {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67].
لو قيل لك: إن رجلاً قوياً من الأقوياء يصرع عشرة من الرجال بضربة واحدة، لقلت: هذا شجاع! ولو قيل لك: إن رجلاً يصرع عشرين أو أكثر، لقلت: هذا بطل من أبطال الزمان، لكن ولله المثل الأعلى: إن الله عز وجل قوي جبار مكين، والخلق أرواحهم بيده، ولا أحد منهم يغالبه، وسلطان الله نافذ فيهم، وحكمه ماضٍ فيهم، ومشيئته فيهم نافذة، وليس في واحد أو عشرة أو مائة بل كل هؤلاء العباد نواصيهم بيده وقلوبهم بين أصبعين من أصابعه عز وجل، والأرض كلها بمن عليها قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون.
أيها الضال! أيها الغافل! أيها المعاند! أيها المكابر! عد إلى الله، فإنك لست بشيء في ملكوت الله عز وجل، إن الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وهو الذي يملك السمع والأبصار، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وهو الذي يدبر الأمر، هو خالقك الذي أمرك بالصلاة وأمرك بالاستقامة وبالتوبة وبالإنابة وأمرك بالهداية، وهو الذي نهاك عن الضلالة ونهاك عن المعصية، ونهاك عن الانحراف وعن الزيغ والبعد عن طاعته عز وجل.
هذا الرب العظيم لماذا خلقك؟ خلقك لعبادته، خلقك لتعمر هذا الكون بعبادته، فأياً كانت وظيفتك، وأياً كان مصيرك، وأياً كان وضعك، فلا بد أن تعرف قدر كل شيء، وأن أول وظيفة وأول قضية وأول حقيقة هي أنك وجدت لتعبد الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
جاء بك لعبادته فهل ستظل حياً؟ لا.
بل لا بد لك من نهاية {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35]، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78]، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42]، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء:34] الله يخاطب نبيه، ويقول: إنه لن تسلم نفس من الموت حتى أنت يا محمد، حتى أنفس الأنبياء وهم أفضل الخلق وأكرمهم على الله، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] إذاً فلتعلموا أيها الشباب وليعلم الجميع أن هذه الحياة لا بد لها من نهاية، كنا جميعاً -يا معاشر السامعين- كنا صغاراً في المهد نرضع من ثدي الأمهات، والآن قد خطت بنا السيول خطاها، ومضت بنا نحو آجالنا.
والليل فاعلم والنهار كلاهما أرواحنا فيها تعد وتحسب
نعم.
لقد ولدنا ووجدنا وبدأنا الحياة ونشق الطريق إلى النهاية {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] هذه نهاية المطاف وآخر الأجوبة على الأسئلة، ففي هذا اليوم العظيم يوم ينتهي الأمر بنا إلى رب العالمين، يوم القيامة يتميز الناس إلى فريقين في حياة أبدية لا تنتهي، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] فمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واتبع رسول الله، فأولئك هم السعداء أهل الجنة، فأولئك لهم رزق معلوم، {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات:42 - 49].
وأما الفريق الآخر الذي أعرض عن ذكر الله وأشرك به وكفر برسله، أو عصى ربه وأصر على المعصية وارتكب ما حرم الله ومات على الكبائر من دون توبة وأصر على كل أمر، فأولئك هم الأشقياء أهل النار: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].
أولئك الأشقياء: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36 - 37].
هذه حال الفريقين في النهاية: فريق في الجنة وفريق في السعير،
الدار جنة عدن إن عملت بها يرضي الإله وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
أيها الأخ الحبيب! يا من تسير على طريق الدنيا ولا تعلم هل أنت سائر إلى مرضاة الله أم إلى سخطه؟! هل أنت سائر إلى الجنة أم إلى النار؟! هل أنت متبع لنبيك أم متبع لأعداء نبيك الذين حذرك نبيك منهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قال الصحابة: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: إذاً فمن، أو فمن القوم؟) محذراً من أن يتبع المسلمون حال المشركين، وإنك حينما تتأمل أبناء المسلمين، أبناء الموحدين، والمصلين، والصائمين، والقائمين، تجد كثيراً من أبنائهم يقلدون الغربيين في مشيتهم، وفي لبسهم، وفي تصرفاتهم، وفي أخلاقهم وتعاملهم، وفي معاملاتهم، وإني أقول وأكرر وأردد: إننا بحاجة أن نذكر أبناءنا وأن ندرسهم كراهية الكفار وأن نحذرهم من(135/6)
انقسام الشباب إلى فريقين
إن شباب هذه الأمة اليوم قد باتوا على فريقين، فريق من الصالحين وفريق دون ذلك، فريق من أمثالكم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ولكن الصنف الآخر نسأل الله لهم الهداية ونسأل الله أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً، ونسأل الله ألا يجعلهم حطباً لجهنم، ونسأل الله ألا يصدق فيهم ما يخططه الكافرون ويتربص بهم الملحدون، فريق آخر جلّ أوقاتهم على الأرصفة بعيداً عن المساجد، يسمعون حي على الفلاح، فلا يحضرونها، وإذا دعوا إلى سهرة في منتزه وجدتهم يجتمعون لها، تراهم على أماكن اللهو يعيشون حياة الضياع، سماهم اللهو والغناء، ونظرهم الأفلام والمسلسلات، صدور كاسيات وأفخاذ عاريات، سماعهم ورؤيتهم فيما حرم الله، وحديثهم فيما يبعدهم عن الله عز وجل، فيا أيها الشاب: احمد الله إن كنت من الأوائل، والحذر الحذر أن تكون من الأواخر، إن كنت من هؤلاء الأواخر فعليك بالتوبة فإن بابها مفتوح، ورب العزة عز وجل يناديك وينادي عباده أجمعين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53]، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، أفمن يرضى لنفسه مخالطة الأشرار وأصحاب السوء أهدى أمن لا يرضى إلا بمخالطة الصالحين والأخيار؟! أفمن ثقافته المجلات الخليعة والأفلام الماجنة أهدى، أمن تشرب قلبه بالقرآن والسنة واستماع كلام أهل العلم؟! أفمن يعيش ليأكل ويشرب وينام باسم الإسلام أهدى، أمن يعيش للإسلام ويضحي بدمه وماله رخيصاً لهذا الدين؟! أيها الأحباب: إن هؤلاء الشباب وإنكم جميعاً لفي سعي {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] والإنسان قد خلق في كبد {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، والإنسان كادح ماضٍ في عمل، فإما كبد في طاعة وإما كبد في معصية، وإما كدح في طاعة وإما كدح في معصية، {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فأما الصالحون فكدحهم وكبدهم في سبيل الله وطاعته، وأما العصاة فكبدهم وكدحهم في تلبية شهوات أنفسهم، وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وقول الله عز وجل من أوضح وأبلغ الأمور في هذا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7 - 10].
من زكى نفسه بالطاعة، فهو من الفالحين، ومن دسَّى وأخزى وأذل نفسه بالمعصية فهو من الضالين الخاسرين، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] من الناس من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله، ومن الناس من باع نفسه وأعتقها، ولكن من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]، ومنهم من يضل ويضل {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26].(135/7)
اشتر نفسك واغتنم خمساً قبل خمس
أيها الشاب اشتر نفسك! أيها السامع اشتر نفسك! أيها المسلم والمسلمة كل منا يشتري نفسه، ويعتقها ويبادر بفكاك رقبته، كما نادى النبي صلى الله عليه وسلم وكما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] قال: يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً) وفي رواية للبخاري: (يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله! يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله! يا عمة رسول الله! يا فاطمة بنت محمد! اشتريا أنفسكما من الله لا أملك لكما من الله شيئاً!) ونحن ننادي كل شاب وكل ضال خاصة، ونقول: اشتروا أنفسكم من الله، اشتروا أنفسكم من الله، وأوبوا وعودوا إلى الله عز وجل، قال الحسن البصري: [المؤمن في الدنيا كالأسير يسعى في فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل] وقال الحسن أيضاً: [ابن آدم إنك تغدو أو تروح في طلب الأرباح فإن يكن همك نفسك فإنك لن تربح مثلها أبداً] ما ظنكم بإنسان سيقتل بعد أسبوع ومشغول هذا اليوم وغداً وبعد غدٍ في بيع وشراء وتجارة، هل ينفعه المال؟ هل تنفعه التجارة؟ هل ينفعه المركب؟ هل ينفعه الجمال؟ وهو هالك لا محالة بعد أسبوع، فكذلك الضال والغافل الذي يسير وهو يعلم أنه على غير صراط الله المستقيم يمضي إلى هاوية أو إلى طريق تضل به، وتبعد به وتهوي به في مكان سحيق، أينفعه ما جمع من الدنيا؟! ولكن الغفلة عن هذا كثيرة، تلك هي التي جعلت كثيراً منهم يسدرون ويغطون في سباتهم العميق.
يا أيها الناس! إن الزرع في غير وقته لا يفيد الزارع شيئاً، وإن التعلم ساعة الامتحان لا يجزئ الإنسان شيئاً، وإن الذي يأتي يوم القيامة وقد اكتسب سيئاته في الدنيا ولم يعمل من الصالحات الكثير هو المفلس والخاسر، وربما بل لا شك أنه يتمنى أن يعود من جديد لكي يعمل وهيهات فيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] وماذا وراء ذلك؟ {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينادينا وينادي الشباب وينادي الأمة أجمع: (اغتنم خمساً قبل خمس) والغنيمة أمر لا يكاد يفوت، لا تقال غنيمة إلا فيما عليه شيء من الجهاد وشيء من النزال والقتال، ولا تقال غنيمة إلا لأمر فيه مبارزة، أما الذي يأتي بدون قتال فهو فيء يسير سهل، لكن الغنيمة تحتاج إلى مبادرة، ولا يقال: اغتنم الأمر إلا لأمر يفوت ويضيع، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس وهو حديث صحيح.
ما أكثر الذين عن هذا هم غافلون ضالون وفي سباتهم نائمون،
واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد صاروا إلى المطلب الأعلى على مهل(135/8)
تبرؤ الأخ من أخيه والشيطان من أتباعه يوم القيامة
أخي الحبيب! حاسب نفسك لماذا تصحب من لا ينفعك في الآخرة؟ إنك تعجب من شباب تكلمهم، تقول لهم: يا أخي الكريم! تعال إلى روضة من رياض الجنة، تعال إلى حلقة ذكر، تعال إلى رفقة صالحة، تعال إلى سماع نافع، تعال إلى قراءة نافعة فيقول: لا، أنا مشغول، مشغول بماذا؟ مشغول بمعصية، مشغول بمن لا يصلي، مشغول بمن يسوء، مشغول بمن يتبرأ عنه، كما يحصل لهم يوم القيامة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
ما أكثر الشباب الذين سيتبرأ بعضهم من بعض، ما أكثر الذين سيسب بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، إذا كنت أنا وأنت كلٌ منا يتبرأ يوم القيامة من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه وأخيه فما بالك بأصدقاء السوء؟ أتراهم يوم القيامة يقول أحدهم: لا.
لن أدخل حتى يدخل صديقي قبلي، أو تراه سيقول: لا.
أتحمل عن صديقي شيئاً من العذاب؟! لا.
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] ولن يتحمل بعضهم من بعضهم شيئاً، بل إن الشيطان ينصب له منبراً وعرشاً ومكاناً ثم يقف بين أهل النار يقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] الشيطان يبدأ يسخر ويستهزئ بالذين أطاعوه، يقول: والله ما كان معي عصا أضربكم بها، وما كان معي قيود أجركم بها، وما كان عندي شرطة أسوقكم بها، وما كان عندي من أمر ((إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)) [إبراهيم:22] مجموعة أناس دعاهم الشيطان فاستجابوا له، هذا حوارهم وهذا حالهم، {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:24] بل وكما قال عز وجل عما يقوله الشيطان لهم: ((مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ)) [إبراهيم:22] أي: الصريخ المنقذ {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] هذا حال الذين يصرون على المعصية، وإذا دعوت أحدهم قال: إني راضٍ بأصحابي، راضٍ بالذين لا يصلون، راضٍ بالذين يسهرون إلى آخر الليل وينامون عن الفجر، راضٍ بالذين يعقون آباءهم وأمهاتهم ويقطعون أرحامهم، راضٍ بالذين يتناولون المسكرات والمخدرات ويجلسون على المحرمات، راضٍ بالذين يملئون ساعاتهم بكل ما يغضب الله ويسخطه ويخالف أمره وأمر نبيه، للأسف هذا حال كثير منهم! بل بعضهم يقول: أنا أحب هؤلاء، وأحب أصدقائي هؤلاء أكثر من حبي لك أنت ومطاوعتك وعلماءك هؤلاء الذين أزعجتني بهم، نعم: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يوم القيامة ستحشر أنت مع من أحببت، أحببت الفنانين؟ أبشر ستحشر معهم، أحببت أهل الربا وأسهم البنوك الربوية؟ أبشر ستحشر معهم، أحببت أهل المعاصي؟ أبشر ستحشر معهم، أحببت أهل الزنا والخنا؟ ستحشر معهم، أحببت العلماء؟ ستحشر معهم، أحببت الصالحين؟ ستحشر معهم، أحببت الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة؟ ستحشر معهم، وكما قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب يوم القيامة) وقال آخر: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ فقال: والله ما أعددت لها كثير عمل إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: أنت مع من أحببت يوم القيامة، أو المرء مع من أحب يوم القيامة).
إن مجرد محبة الصالحين طريق إلى أن يسير المرء في ركابهم، وأن يسلك مسلكهم، وأن ينتهج نهجهم وأن يتقفى أثرهم وأن يهتدي بهديهم، وإن مجرد حب أهل الباطل بوابة ووسيلة وسبيل إلى أن يكون الشخص منهم.
تذكر أخي الشاب أن جلساء السوء لا يأمرون إلا بالمنكر ولا ينهون إلا عن المعروف، إنهم لا يرضون بالفضيلة، ويمقتون الاستقامة، وإن مخالطة أهل السوء وأهل المنكرات الغافلون عن الصلوات والجماعات أقل ثمارها ضعف الإيمان، وأخطر نتائجها خروج المسلم وردته عن دينه، وإن كثيراً من الشباب ربما ارتدوا وكفروا وخرجوا من الإسلام وهم لا يشعرون، هل سمعتم أن شباباً بلغ بهم الهزأ والاستهتار أن بعضهم يرسل نغمات موسيقية على آيات قرآنية، وبعضهم لو قلت له: أنت كافر بهذا العمل، قال: أعوذ بالله، أنا كافر!! أنا كافر!! أنا فلان بن فلان الفلاني مولود في قلب الجزيرة العربية، أنا مسلم، وقد نسي أن جلساء السوء قد قادوه بالسهرة واللهو والغفلة والاستهزاء والسخرية حتى بات يسخر بكلام الله وآياته ورسوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
إن كثيراً من الشباب لا يعلم مدى خطورة الإعراض عن الاستقامة، ومدى خطورة المضي في معاشرة أولئك الذين هجروا المساجد والصلاة مع الجماعة، وهجروا طاعة رب الأرضين والسماوات، وبعضهم قد تعلق بدعوى الصداقة، أصدقائي أحبابي صداقة العمر، أخلاء العمر، الشخص منهم لو أردت منه روحه قدمها، يا مسكين! يوم القيامة لو أردت من أمك حسنة والله لن تعطيك منها شيئاً، فما بالك بشخص سيأتي يوم القيامة ليطلع أحدهم على الآخر فيقول له: {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، والآخر ينازع أو يجادل صاحبه ليتبرأ منه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167] كل صداقة على غير طاعة الله تنقلب عداوة يوم القيامة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
أيها الشاب! عد إلى الله، ودع قرناء السوء، ودع عنك الصور الخليعة، والأغاني الخليعة، وعد إلى مرضاة الله، ولا تكابر في دعوة التوبة والاستقامة، لا تقل: أنا رجل وسط، أسمع قليلاً من الأغاني وأسمع قليلاً من الملاهي، وأفعل شيئاً من المحرمات، إن السيئة تقول: أختي أختي، والسيئات بريد الإدمان على المعاصي، والإدمان على المعاصي بريد إلى سوء الخاتمة، ولكن عالج نفسك وعد إلى الله فقد أمضيت في شبابك ولهوك سنين، ولا تدري ما الذي بقي من عمرك، أليس من نعم الله عليك أن الله لم يتوفك وأنت في لهو؟! أليس من نعم الله عليك أن الله لم يقبض روحك وأنت على معصية؟! أليس من نعم الله عليك أن الله ما قبض أنفاسك وأنت على فاحشة تقارفها؟! إذاً عد إلى الله سبحانه وتعالى، وابحث عن قوم {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].(135/9)
دعوة إلى الهجرة إلى الله ورسوله
أيها الشاب! العمر عمران، والميلاد ميلادان: أما ميلادك الأول فهو خروجك من ظلمات رحم أمك إلى نور الدنيا، وذلك عمر وميلاد يشترك فيه كل الخلائق، المسلمون والكفار والأبرار والفجار، وأما العمر الحقيقي وأما الميلاد الحقيقي هو يوم أن يخرجك الله من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وهذا الميلاد لمن وفقه الله، وأناب إلى الله، وتاب إلى الله {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، يقول الله عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً} [الأنعام:122] ميت في الضلالة، ميت في المعصية، وفي الفاحشة، وفي اللهو، وميت في الغفلة، وفي ترك الطاعة، وميت في أمور كثيرة والعياذ بالله، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فبادروا بادروا، وسابقوا سابقوا، وهلموا هلموا، وأنيبوا أنيبوا يا شباب الإسلام!
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
فاقضوا مآربكم سراعاً فإنما أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عواري
ودعوا الإقامة تحت ظل زائل أنتم على سفر بهذا الدار
من ذا يرجي العيش فيها إنما يبنوا الرجاء على شفير هار
والعيش كل العيش بعد فراقها في دار أهل السبق أكرم دار
شيئان ينقشعان أول وهلة شرخ الشباب وخلة الأشرار
لا بد أن تعلم أن هذه النهاية قريبة وأنها متحققة فبادر بالنقلة، وبالتوبة، وبالهجرة إلى الله، والهجرة إلى رسول الله، والهجرة في طاعة الله، كما قال الإمام الجهبذ النحرير شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، يقول: الهجرة هجرتان: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة، والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله.
أيها الشباب! نحن ندعوكم وندعو أنفسنا، أن نهاجر اليوم، وأن نهاجر هذه الساعة، هجرة بقلوبنا إلى الله ورسوله؛ وهذه هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها، لا يهاجر أحد ببدنه إلا إذا هاجر قلبه، وهي هجرة تتضمن من وإلى، فيهاجر العبد بقلبه من محبة غير الله إلى محبة الله، ويهاجر من عبودية غير الله إلى عبودية الله، ويهاجر من خوف غير الله ورجاء غير الله والتوكل على غير الله إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، يهاجر من دعاء غيره، وسؤال غيره، والخضوع لغيره والذل والاستكانة لغيره إلى دعاء وسؤال وخضوع لله، وذل واستكانة بين يدي الله، وهذا معنى قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] نفر من الله إليه، الهجرة القلبية، الهجرة التي يحتاجها الناس صباح مساء، ليلاً ونهاراً في كل زمان ومكان، أن يهجروا بقلوبهم كلما يصرفهم عن طاعة الله عز وجل، يقول ابن القيم: والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن هجران ما يكرهه، وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصل الهجرة الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر أحب الأمرين إليه على الآخر، وإذا كانت نفس العبد وهواها وشيطانها إنما يدعونه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا يزالون يدعونه أي: الهوى والنفس والشيطان، لا يزالون يدعونه إلى مرضاة غير الله، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه، فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله، ولا ينفك في هجرته إلى الممات.
أيها الأحبة! أوجز ما بقي من هذه الكلمات لكم ولمن وراءكم ممن تتعبدون الله جل وعلا بنصحهم ودعوتهم حتى تقوم الحجة، وحتى تبرأ ذمتكم بدعوتهم إلى الله عز وجل، نقول: إن حاجتنا في هذا الزمن إلى هجرة إلى الله ورسوله، هجرة حدها كما يقول ابن القيم: سفر الفكر في كل مسألة من مسائل الإيمان، وكل منزلة من منازل القلوب وحادثة من حوادث الأحكام إلى معدن الهدى ومنبع النور المنتقى من فم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته، وإلا فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعده من أهل الريب والشبهات، فهذا حد هذه الهجرة والمقصود كما يقول ابن القيم: إن هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعن هاتين الهجرتين، يسأل كل عبد يوم القيامة في البرزخ ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار.
قال قتادة: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين؟ وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادة، ولئن سأل سائل منكم -أيها الأحبة- عن هذه الهجرة، وكيف نجد دابة ومركباً يوصلنا ويبلغنا إلى مقاصد هذه الهجرة، فاسمعوا ما يقول رحمه الله: وأما مركبه فصدق اللجوء إلى الله والانقطاع إليه بكليته، وتحقيق الافتقار إليه بكل وجه والضراعة إليه، وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المفتون الفارغ، الذي لا شيء عنده، فهو يتطلع إلى قيمه ووليه أن يلم شعثه وأن يمده من فضله وأن يستره، فهذا الذي يرجى له أن يتولى الله هدايته، وأن يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها، ألا فلنتزود قبل الرحيل، ألا فلنستعد قبل الرحيل، فإن الموت يفاجئ.
يا أيها الشباب!
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(135/10)
العاقل من لا يؤثر الخسيس الفاني على الجميل الباقي
تزود للرحيل، واسمع ما يقوله ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح يقول: العجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه لا قيمة له إذا ذهب لم يرجع إليه، فمصائب الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين حمل ويصار به، أعظم من سير البريد، ولا يدري إلى أي الدارين ينقل، فإذا نزل به الموت اشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته، لما سبق من جناياته وسلف من تفريطه حيث لم يقدم لحياته، فإذا خطرت له خطرة عارضة، دفعها باعتماده على العفو وقال: قد أنبأنا أنه هو الغفور الرحيم، وكأنه لم ينبأ أن عذاب الله هو العذاب الأليم، ولما علم الموفقون ما خلقوا له، وما أريد بايجادهم، رفعوا رءوسهم فإذا علم الجنة قد رفع لهم، فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضع لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في أبدٍ لا يزول، بسبابة عيش، وإنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في منام، مشوب بالنغص ممزوج بالغصص، وإن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف، فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني والخسيس على الحظ الباقي، وباع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكاراً عرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق، مسافحات أو متخذات أخدان، وحوراً مقصورات في الخيام بخبيثات مسيبات بين الأنام، وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، وجلوس على منابر الياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتصبوا فلا تهرموا.
ونادى بغناء المغنين:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
وإنما ظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً، وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد: ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم بين العباد، فلو علم المتخلف عن هذه الرفقة -لو تذكر الغافل، العاصي، المعرض عن الهداية، والاستقامة، الذي يصد عن الخير- لو تذكر المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم وادخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفى لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن ولا على قلب بشر خطر، لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته وهو معجوز من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكاً كبيراً، ذلك المضيع الغافل المفرط اللاهي المصر على المعصية، المعرض عن التوبة، إذا علم أن القوم الصالحين، قد توسطوا ملكاً كبيراً، لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم، في جوار الكبير المتعال، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].(135/11)
تزود من دار الموت لدار الحياة
يا أيها الشاب! عد إلى الله قبل أن تأتيك سكرة الموت وأنت على غفلة، فكم من شاب حضرته المنية وهو في حضن باغية، وكم من شاب مات وهو سكير بخمرة، وكم من شاب مات وهو أمام الحرام، وكم من شاب مات في سفر إلى حرام، وكم من شاب مات وهو عائد من سفر حرام، وكم من شاب مات وهو يجمع الربا ويأكل الرشا ويجمع الأموال بالحرام، فعد إلى الله جل وعلا قبل نهاية الرحلة، وقبل أن تأتيك سكرة الموت ذلك الذي أنت تخافه وتحيد منه، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن هذا الموت نغص على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه.
فكيف ووراءهم يوم يعدم فيه الجواب، وتدهش فيه الألباب، وتفنى في شرحه الأقلام والكُتّاب.
وقال ابن السماك رحمه الله: إن الموتى لم يبكوا من الموت ولكنهم يبكون من حسرة الفوت، فاتتهم والله دار لم يتزودوا منها ودخلوا داراً لم يتزودوا لها.
فأية ساعة مرت على ما مضى، وأية ساعة بقيت علينا، والله إن المتفكر في هذا لجدير أن يترك الأوطان ويهجر الخلان ويدع ما عز وهان.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً وتُلحق أُخرانا بأولانا
في كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
وهذا مصيرنا يا معاشر الغافلين! والقبور بيوتنا بعد الترف واللين، والقيامة تجمعنا وسوف تنصب الموازين والأهوال العظيمة فأين المتفكر الحزين، إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94].
ولما حضرت الوفاة محمد بن سيرين بكى فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.
يا أيها الناس! يا أيها الشباب خاصة! إن إلى ربكم الرجعى، إنكم إلى ربكم ترجعون، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية:15] {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسير قولك هذا؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال الرجل: ما هي؟ قال الفضيل: تحسن فيما بقي يغفر لك فيما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وبما بقي وفي والنهاية: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].
إن الذين يُبشرون، وإن الذين يستجيبون، والذين ينزجرون وللحق يرعون ويتبعون، أولئك طائفة من البشر.
إن جميع الدواب ساجدة، والشمس والقمر ساجدة، والنجوم ساجدة، والجبال ساجدة، وإن كل ما خلق الله متبع لأمر الله، خاضع لأمر الله، إلا البشر ففيهم من يطيع وفيهم من يعصي، فعليكم أن تكونوا من أهل الطاعة، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ} [الحج:18] كلها بلا استثناء، مستجيبة ساجدة {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18] ولم يقل كل الناس يستجيبون {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] دلالة على أن أكثر الناس لا يستجيبون فكونوا من المستجيبين، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
أسأل الله عز وجل أن يجعل ما أقوله عبرة وعظة لي ولكم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيه حظاً ولا نصيباً.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأله سبحانه أن يُحَرِّمَنا وإياكم على النار، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن يثبتنا وإياكم على طاعة رب العالمين.(135/12)
الأسئلة(135/13)
وسائل الثبات على دين الله
السؤال
ما الوسيلة التي تعين على الثبات على طاعة الله عز وجل؟
الجواب
إن من خير ما يعين على الثبات، أن يحرص الإنسان على المتابعة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتحرى سمت النبي وهديه وأن يطبقه.
الأمر الآخر: مجالسة الأخيار والحذر من مجالس الغفلة، والحذر من المجالس التي يكثر فيها الضحك، ويكثر فيها اللهو، ويكثر فيها القيل والقال والحديث عن الناس، فإن ذكر البشر داء، وذكر الله دواء، فمن أراد الثبات فعليه بصحبة الأخيار والعناية بالاقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يشغل نفسه بما يحاسب عنه يوم القيامة.
العجب أيها الإخوان! أن الشخص منا يتكلم في كل ما لا يعنيه، فإذا كُلم فيما يعنيه مل من الكلام، يطول الكلام ساعات فيما لا يعنينا، أما إذا تكلمنا في موتنا وحشرنا ولحدنا وقبرنا وموازين أعمالنا قلنا: ساعة وساعة، ولا حاجة لتكرار المواعظ، ولا حاجة للإكثار من ذلك، إذا حدث الإنسان بما يشغله أو يعنيه مل وازور، وإذا حدث بأخبار الناس والغادين والرائحين لا ينقطع لحديثهم طرف.(135/14)
الحذر من مجالس اللغو
السؤال
هناك بعض الشباب فيهم خير لكن يكون جلوسهم مع أشخاص ليس فيهم شر وليس فيهم نفع، فما هو السبب لعدم استمرارهم في الخير، فما توجيهكم؟
الجواب
يا إخواني! كما قلت: العمر محسوب عليك، والنفس الذي يخرج لا يعود، والذي يدخل كذلك لا يتكرر إلا نفس جديد، بمعنى: أن الأنفاس محسوبة ومعدودة والفرصة محدودة، فالذي يدعى إلى الجنة ويحذر من النار، والذي يدعى إلى المليارات يذهب يشتغل بالفلس والفلسين؟!! الذي يدعى إلى جنة عرضها السماوات والأرض، يقول: لا، لا حاجة في روضة الجنة وأنا يعجبني الجلوس في الرصيف، والذي يدعى إلى ذكر الله والنظر في كلام الله، يقول: لا حاجة لي به، ويطيل نظره وبصره وفكره فيما حرم الله جل وعلا من صور ولهو ونحو ذلك.
فإنه لا يعذر الإنسان أن يقول: أنا وسط، لا.
الحياة وموقف العبد فيها ليس فيها مسألة وسط {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].
الإنسان إما أن يتقدم في طاعة أو يتأخر في معصية، وإن جلوس الإنسان مجالس الضحك ومجالس اللهو ومجالس الغفلة والإدمان عليها وعدم وجود الذكر فيها، لا يليق بالمسلم، نحن لا نقول: الإنسان يحرم عليه الضحك، أو يحرم عليه الابتسامة، أو يحرم عليه الطرفة، أو يحرم عليه المزاح بحدوده المشروعة، لا نقول هذا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ويمازح ولا يقول إلا حقاً، وكان الصحابة يتمازحون، لكن مشكلتنا من أقوام يقولون: نحن لم نجلس على خمر ولم نجلس على أفلام خليعة، لكنهم يتكلمون في كلام ليس فيه فائدة، مجلسهم من أوله إلى آخره ليس فيه ذكر لله، ولا صلاة وسلام على رسول الله، وبعد ذلك يقول أحدهم: نحن وسط، لا.
يا أخي الحبيب! قد ضيعت والله وقتك، وأنت في أمس الحاجة إلى لحظة تقول فيها: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.(135/15)
الحذر من وساوس الشيطان في ترك التوبة
السؤال
شاب يقول: أنا أقترف المعاصي والكبائر وكلما حاولت الرجوع والتوبة أجد نفسي لا أستطيع، ثم أنتكس وأرجع إلى الذنوب، فماذا أفعل؟
الجواب
نقول: عد إلى التوبة، يعني: أذنبت اليوم فتب، أذنبت سراً تب إلى الله سراً، {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ولا يأتيك الشيطان يقول: قد ارتكبت الذنب المرة الأولى ثم تبت، ثم أذنبت ثانية ثم تبت، ثم أذنبت ثالثاً ثم تبت، إذاً أنت كذوب في توبتك، أنت منافق في توبتك، لا.
لو أذنبت العاشرة فأت بالتوبة الحادية عشرة، عليك أن تتسلح بالتوبة الصادقة النصوح، وبكثرة الحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فإن ذلك يقطع التوبة، وأنا أقول: ومن جرب هذا عرفه وأدركه، وعلى الإنسان ألا يأتيه الشيطان فيقنطه من رحمة الله، شاب من الشباب أذنب ذنباً -وقع في معصية من المعاصي- فندم وأصابه ما أصابه من الهم والقلق والحزن على أنه عصى الله عز وجل، ما الحل؟ الحل أن يتوب إلى الله وأن يعمل عملاً صالحاً يكفر به هذه المعصية، أي: على سبيل المثال: شاب جلس مجلس لهو وأخذ ينظر فيه إلى حرام، فلما خرج من هذا المجلس ندم وقال: هذا لا ينبغي، لماذا عصيت الله؟ والبصر الذي خلقه الله نظرت به إلى الحرام، فعاد إلى البيت وصلى إحدى عشرة ركعة، وأطال السجود وأطال القنوت والقيام، ثم جاء في ليلة ثانية وفعل مثل المعصية الأولى، فعاد وفعل مثل ما فعل مثل الصلاة الأولى، ولو أنه جد في التوبة النصوح وألحقها بالحسنات التي تمحو السيئات ربما لا يفعل الذنب للمرة الثالثة ولا المرة الرابعة، لكن المشكلة أن التوبة توبة ليست نصوحاً، ومع هذا كله لا نقول لمن أذنب الخامسة أو العاشرة ما عاد هناك أمل أو الحالة ميئوس منها، بل أنت قادر على أن تتوب وإياك أن يفتح لك الشيطان باب اليأس والقنوط، فيقول: اعمل ما بدا لك من الذنوب، إذ إنك لن تتوب بأي حال من الأحوال.(135/16)
واجبنا تجاه الشباب غير الملتزمين
السؤال
ما واجبنا تجاه الشباب غير الملتزمين؟
الجواب
واجبنا -أيها الأحبة- أن نرفق بهم، وأن نتلطف في دعوتهم بكل وسيلة، بالشريط بالكتاب بالرسالة بالموعظة، بالنصيحة، وهنيئاً للشباب، فلقد رأيت في بعض القرى ورأيت في بعض المدن، ورأيت في أطراف البلاد، شباباً إذا ذكروا لم تعرف أسماؤهم، ليسوا من أهل المحاضرات، ولا من أهل الندوات، ولا من الخطباء، ولا من الذين تنزل لهم المقالات في الجرائد، ولا يعرفون، حفاة أتقياء أخفياء، ولكن إذا بحثت وجدت أن هؤلاء الشباب فيهم من هو متفرغ للدعوة، وتجد الإنسان منهم إذا دخل العام الهجري قال بسم الله، بدأنا السنة، بدأنا موسم التجارة، لا يمكن أن ينتهي عام إلا وقد هدى الله على يديه اثنين أو ثلاثة، فيمسك الطريق ويسير على الجادة والمحجة الصحيحة، ويدخل العام الثاني فيركز على ثلاثة أو أربعة ويسير معهم، فيزورهم ويهديهم ويعتمر بهم، ويحج، ويذهب إلى العلماء بهم، وإلى المكتبات والمحاضرات ويؤثر عليهم.
أقول: إني والله وكثير من المحاضرين يغبطون هذا الشاب وأمثاله، وإن كان لا يعرف، وإن لم يكن فصيحاً، وإن لم يكن من الذين إذا تكلموا سمع لهم، أو من الذين إذا حضروا أشير إليهم، إن مثل هؤلاء الدعاة، في قرية أو في مدينة أو في بادية والله نغبطهم، أولاً: لأنهم غير معروفين، فهم أقرب إلى الإخلاص.
ثانياً: أنهم على الجادة، يأتي في بداية العام وينظر إلى زملائه في المدرسة من الشباب الذين يرجى فيهم خير أو لا بأس فيهم، فتجده يركز عليهم، ويتعرف عليهم ويستضيفهم، ويعزم ثلاثة أو أربعة من الطيبين، يحترمونه ويكرمونه، ويهدونه، ويخرجون معه، ويذهبون وإياه، ويعتمرون معه، فما يلبث نهاية العام إلا وقد هدى الله على يديه الثلاثة، وربما تمر السنين ويأتي يوم القيامة وفي ميزان أعماله حج عشرين شاباً، وعمرة عشرين شاباً، وصلاة عشرين شاباً، واستغفار عشرين شاباً، وجهاد عشرين شاباً -داعية إلى الله عز وجل- ليس من شرط الدعوة أن تملك فصاحة سحبان، وليس من شرط الدعوة أن تكون عندك الأموال، وليس من شرط الدعوة أن تكون لديك شهادة، شرط الدعوة أن تخلص لله، وأن تصدق الاستقامة وأن تدعو ولو شخصاً أو شخصين.
يا أخي! إن بعض الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت النبي ومعه الرجل) أي: نبي يدعو ولا يستجيب له إلا شخص واحد (ورأيت النبي ومعه الرجلين، ورأيت النبي وليس معه أحد).(135/17)
ترتيب الوقت
السؤال
نصيحة للشباب كيف يرتبون أوقاتهم؟
الجواب
أتوقع أن ترتيب الوقت بحسب حال الإنسان وارتباطاته وأعماله، لكن الواجب ألا يخلو وقت الإنسان من تلاوة كلام الله عز وجل، ومن العناية والدراية بالسنة، وأي قراءة نافعة، وأيضاً أوصي أن يكون في وقتك حظ لوالديك وأهلك، فإن هذا من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل.(135/18)
نصيحة لمن يريدون السفر إلى أمريكا من أجل المباراة
السؤال
ما رأيك بشباب عازمين على الذهاب إلى أمريكا من أجل مشاهدة المباراة التي سوف تقام هناك بعد فترة، أرجو أن تسدي النصيحة لهؤلاء؟
الجواب
والله إني كنت أتوقع أنهم سيشاركون في ضربة الصرب، أما أن يسافروا إلى أمريكا ويقطعوا ثماني عشرة ساعة في الطائرة من أجل رؤية كرتون أو علبة بلاستيكية تتقاذفها الأرجل، فهل هذا في طاعة الله؟! هل هذا في جهاد؟! هل هذا في عبادة؟! هل هذا في دين؟! كم بينه وبين مكة؟ ساعة واحدة بالطائرة، وبعضهم والعياذ بالله ربما بلغ به العمر وما حج وما عرف الحج، وما اعتمر وما عرف العمرة، وما شد الرحيل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى البيت الحرام ليصلي فيه صلاة بمائة ألف صلاة أو بألف صلاة، وما تمنى أن يصلي في بيت المقدس ولو صلاة واحدة، ولكن إذا دعي إلى رؤية هذه المباريات، يعزم على السفر، أظن أن الذين يعزمون هم نوادر جداً جداً حتى لا نصاب بالإحباط ولا نتفاءل بالشر في شبابنا.
الأمر الثاني: أن هؤلاء الذين سيذهبون لو أنهم فكروا لرجعوا وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما يحسب علينا لا لنا.
حقيقة أيها الأحبة: يطول المقام بتلاوة بقية الأسئلة، لكني أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم وأن يثبتنا وإياكم على طاعته.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(135/19)
بادروا بالأعمال
أمرنا الله سبحانه وتعالى بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته، وأخبرنا أن ذلك من صفات الأنبياء عليهم السلام، وذلك -بدون شك- يحتاج إلى مجهود عظيم من المسلم.
وفي هذه المادة بيان لأهمية المبادرة بالأعمال، قبل وقوع الفتن، أو حلول الأجل.
وقد ذكر الشيخ -أيضاً- في هذه المادة بعض وسائل رفعة الدرجات في الآخرة، وبعض فضائل الأعمال، واستدعى كل ذلك ذكر شيء من أحكام التوبة، وموانعها، وبيان يسرها وأهميتها.(136/1)
مدلولات المسارعة والمسابقة
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ويقول سبحانه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] لاحظوا الآية الأولى سارعوا، والآية الثانية سابقوا.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) فلفظ المسارعة، ولفظ المسابقة ولفظ المبادرة ولفظ الغنيمة كلها تحوم حول أمرٍ يفوت، وهذا الأمر إن لم يتدارك بالمسابقة والمبادرة والمسارعة وإلا فإن صاحبه يعض أنامل الندم على ما فرط فيما مضى، أو ضيع من هذه الفرص المتاحة بين يديه.
ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد
يقول صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبلك هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وخذ من نفسك لنفسك، ومن دنياك لآخرتك).(136/2)
مدلولات المسارعة في حياة الأنبياء
الغنيمة أيها الأحبة لا تقال إلا لأمرٍ لا ينال بالهين من الحال، والغنيمة لا تكون إلا في شيء يفوت، والغنيمة لا تكون إلا في أمرٍ إذا فات لا يعوض، فدل هذا على أننا قد وجدنا في هذه الدنيا من أجل أن نتنافس هذه الغنيمة، من أجل أن نتبادر هذه الكرامة، من أجل أن نتسابق وأن نسارع كما هو الحال في شأن خيرة خلق الله وهم أنبياء الله ورسله، حيث قال الله عز وجل في شأنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] الأنبياء أولو المعجزات الذين اختارهم الله واصطفاهم من بين الخلائق وأيدهم بالمعجزات، وأكرمهم بالوحي؛ فمنهم الكريم، ومنهم الذي آتاه الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، ومنهم الذي سخرت له الجن والإنس ومع ذلك هؤلاء الأنبياء يصفهم الله عز وجل بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} [الأنبياء:90] أي: طمعاً وحباً ورجاءً لما عند الله عز وجل من الخير (ورهباً) أي: خوفاً وإشفاقاً من النار.(136/3)
أهمية الرغبة والرهبة في الدعاء
أقول أيها الأحبة: إن الله عز وجل قال في شأن هؤلاء الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فجمعوا بين المسارعة والرغبة في الجنة والخوف من النار والخضوع والذلة والإخبات والانكسار إلى الله عز وجل، ولو خرجنا عن موضوعنا قليلاً لاستفدنا من هذه الآية فائدة عظيمة وهي ردٌ على طائفة من طوائف الضلالة وهم غلاة الصوفية الذي يسمون بأصحاب مدرسة الحب الإلهي الذين يقولون: إننا عبدنا الله حباً في ذات الله لا خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه وإنما حباً في ذاته، فنقول لهؤلاء: كذبتم وخبتم وخسئتم وخسرتم، لن تكونوا أمثل وأكمل وأفضل وأجل نهجاً وسمتاً وهدياً من خيرة خلق الله الذين اصطفاهم من سائر خلقه وهم الأنبياء والرسل ومع ذلك يقول الله عز وجل عنهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً} [الأنبياء:90] يطمعون في الجنة {وَرَهَباً} [الأنبياء:90] أي: خوفاً من النار {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بذلك لما جاءه أعرابيٌ فقال: (يا محمد! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة، وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أعرابي أنا ومعاذ حولها ندندن) ما أنا وما معاذٌ وما الصحابة إلا وهم في دعائهم في صلاتهم وعبادتهم إلا يسألون الله الجنة، ويستعيذون بالله من النار، لكن الجنة تحتاج إلى مسابقة، وتحتاج إلى مبادرة ولذا قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد:21] فالذي يريد الجنة بنومٍ عن صلاة الفجر، ويريد الجنة بنومٍ عن شهود الصلاة مع الجماعة، وبإعطاء النفوس شهواتها، ويريد الجنة بالبخل عن الإنفاق في سبيل الله، وبالقعود عما أمر الله به، ويريد الجنة وقد أسلم لنفسه زمامها في شهواتها وغفلاتها ومعاصيها وإصرارها على المعصية ثم بعد ذلك يقول: أنا أريد جنة عرضها السماوات والأرض، الجنة تريد مسابقة.
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا
تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا قيل: حي على الفلاح، انقلبت على الجنب الآخر لا تريد أن تسمع بقية الأذان؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت إذا دعيت لتنفق في سبيل الله من مالك أصبح الإنفاق على شهوتك ولذتك وشهوات أولادك أحب إليك من الإنفاق في سبيل الله؟! تريد جنة عرضها السماوات والأرض وأنت قد أعطيت النفوس زمامها وأسلمت لها العنان وأطلقت لها الأمر فما اشتهت من شيء إلا وطئته حلالاً كان أو حراما؟! ثم إذا قيل هذا لا يرضي الله وهذا يسخط الله، وهذا لا يجوز وهذا لا ينبغي؛ أتيت بحججٍ وأقاويل وتأويل، وربما وكيف وأين ولعل ويمكن وقيل وسمعنا وروي، تتعلل في الهروب معللاً لنفسك فعل الحرام، وتتلون في الفرار مبادراً أو مسارعاً بالفرار عن المسابقة إلى مرضاة الله، ثم تقول: إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض.(136/4)
حتمية عذاب العصاة بقدر ذنوبهم
نحن لن نكون خوارج فنقول: إن أهل الكبائر وأهل المعاصي لا يدخلون الجنة، حاشا وكلا، فمعتقد أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر من أمة محمد عصاةٌ أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، ولكنهم ليسوا بمخلدين في النار، ولكن من لم يغفر الله له فإنه لابد أن يمسه من عذاب الله ما يمسه حتى يطهر من ذنوبه وغفلاته وسيئاته، وربما شدد له العذاب في قبره، أو شدد له في سكرات موته، أو شدد له في مصائب دنياه، أو شدد له في عرصات القيامة، أو مكث في النار ما شاء الله له أن يمكث حتى يطهر من ذنوبه ويرد على الله عز وجل، لكن لا نتوقع أن أمر الجنة ومنازل الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين تنال بالأمر الهين.
أسألكم بالله هل يستطيع أحد أن ينال الشهادة الجامعية ليسانس أو بكالوريوس بنومٍ في النهار وسهرٍ أمام القنوات والأفلام في الليل، فإذا جاءت الامتحانات كتب فيها ما يكتبه الغافلون والساهون، هل يستطيع أن ينال هذه الشهادة؟ لا، على أهل الشهادات مواظبة دوام حضور مراجعة بحوث دراسة حتى استطاع أن ينال شهادته، وربما تغرب زمناً طويلاً حتى نال شهادته، وربما اضطر أن ينشغل عن حاجات زوجه وأهله حتى ينال شهادته، وهي شهادة قرطاسية يسيرة من أمر الدنيا ما نالها إلا بالمشقة.
واسألوا ضابطاً من الضباط كيف علق نجمة أو تاجاً أو مقصاً أو وساماً أو نياشين، هل نالها بالنوم والعبث واللهو والعصيان والعناد للأوامر؟ ما نالها حتى جاع أياماً، وزحف على بطنه، واختبرت لياقته، واختبرت شدته وتحمله وصبره، وثبت على ذلك زمناً ودورة بعد دورة ومسابقة بعد مسابقة، حتى علق نجمة أو اثنتين أو تاجاً أو مقصين.
واسألوا التاجر كيف جمع هذه الأموال؛ أبالغفلة واللهو والإسراف والتبذير والعبث؟ بل بصرِّ الدينار على الدينار والدرهم على الدرهم والمتابعة، تعبٌ في جمع المال وتعب في متابعة الاستثمار حتى استطاع أن يجمع هذا المال كله.
إذا كان هذا في شأن ما نراه من أمور الدنيا ما نالها أربابها ما حصلها أصحابها إلا بتعب أتظنون أن جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أتظنونها تنال بالأماني؟ أتظنونها تنال بلعل وليس ولو أني؟
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني(136/5)
دواعي المسارعة والمسابقة
إذاً أيها الأحبة الله عز وجل أمرنا بالمسارعة، وأمرنا بالمسابقة، وأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمبادرة؛ لأن الأمر جد خطير وجد عظيم، ولابد أن يتبادر وإلا فات، وما الذي يفوت؟ الجنة باقية لها أهلها ورجالها، المتنافسون المتسابقون في ميادين الليل بالقيام، وفي ميادين النهار بالصيام، وفي المحاريب بالصلاة، وفي الأعمال بالدعوة إلى الله عز وجل، وفي السعي على الأرامل والمساكين، وفي الصبر على هذه الدنيا ونكدها وكبدها، وفي السير بصدقٍ وإخلاص وجدية في هذه الحياة، وفي التربية الحسنة لأبنائهم، وفي الثبات على دين الله، وفي الاستقامة على شرع الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] تكون الجنة لمن رحمه الله ووفقه الله إلى هذه الأعمال، واعلموا أن لكل شيءٍ أسبابه، ولكل شيءٍ مقدماته التي تفضي إليه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7] لما أعطى واتقى وصدق بالحسنى أكرمه الله ويسره لليسرى.
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10].
إذاً لكل شيءٍ مقدماته:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادةٌ قامت عليها شمائله
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله
من جد واجتهد، وحصل وكابد وجد نتيجة طيبة، ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة.(136/6)
أهمية المبادرة بالأعمال قبل حلول الفتن
يقول تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة:48] ويقول صلى الله عليه وسلم في بيان شأن آخر بالأمر بالمبادرة: (بادروا بالأعمال فتناً) أي: اعملوا اجتهدوا.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان
أنت اليوم مبصر، وغداً لا تدري أكفيف أم بصير، وأنت اليوم تمشي، وغداً لا تدري أراجلٌ أو معوق، وأنت اليوم قادر، وغداً لا تدري أقادرٌ أم ضعيف، أنت اليوم قوي، وغداً لا تدري أقويٌ أم عاجز، وأنت اليوم عزيز، وغداً لا تدري أعزيزٌ أم ذليل، وأنت اليوم قد متعك الله بكل ما آتاك، وأنت لا تدري غداً هل تعيش وأنت محرومٌ مما أوتيت من قبل، أو لا تدري لعل غداً يأتي وأنت في جوف الأرض ولست على ظاهرها.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه الإمام مسلم.
ففي هذا الحديث يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبادر بالأعمال، فالواحد لا يدري لعل فتناً تحل بواقعه، وفتن الزمان عجيبة
والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كل عجيب
لا تدري أتصبح في فتنة قد لا تمسي فيها مؤمناً، أم تمسي في فتنة قد لا تصبح فيها مؤمناً، يفتن الناس فتناً عظيمة، ولا يقولن أحدٌ: أنا ذلك الحصن المنيع الذي لا يتسور، وأنا تلك الصخرة الصماء التي لا تخترق، وأنا ذلك الجدار الذي لا ينكسر، بل قل: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.
إن فتناً حقيرة من أمور الدنيا، تعجب يوم أن ترى الناس يتعصبون لها ويتحزبون ويتدابرون فيها، ويتقاطعون بسببها، وهي أمورٌ تافهة ليس فيها من العجائب أو الغرائب أو المعجزات، ومع ذلك فتن الناس بها أو كثيرٌ منهم أيما فتنة، فما بالك إذا جاءت فتنٌ كقطع الليل المظلم يرقق بعضها بعضا، يصبح الواحد فيها مؤمناً فيمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً فيصبح كافراً.
ما دام الواحد منكم -يا عباد الله- في فسحة من العيش، في مهلة من الأجل، في قوة من العافية وسعة من الرزق في قدرة من الحال ما الذي يردك أو يصدك عن المبادرة؟ أقوامٌ بصر الواحد منهم حديد (ستة على ستة) فيقال له: اتل كتاب الله، تدبر كتاب الله، يقول: فيما بعد، أو إذا كبرنا، إذا إذا إن شاء الله، ثم إذا ضعف البصر واحتاج إلى عدسة غليظة، ثم ما عادت العدسة تنفعه، قال: يا ليتني أبصر لأقرأ في كتاب الله عز وجل، وأين القراءة في كتاب الله عز وجل يوم كان نظرك (ستة على ستة)؟ وآخر كان يسابق الذئاب والثعالب والتراحيل من شدة عدوه وسرعته، وينام عن الصلاة في المساجد، ثم إذا تقدم به السن قليلاً أو أصابه من مقادير الله ما أصابه فأصبح عاجزاً عن المشي على قدميه قال: يا ليت لي قدمان تحملني إلى المسجد لكنت أصلي كل فرضٍ في بيت الله، وأين أنت أيام كانت الأقدام قوية؟ وآخر كانت الدنيا في يده يعبث بها يمنة ويسرة في إسراف وشهوات، وفي أمورٍ كثيرة، ثم تقلبت به الأيام وتغيرت الأمور: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فقال بعد أن افتقر بعد ذلك الغنى: يا ليتني كنت غنياً فأكفل الدعاة، وأكفل الأيتام، وأسعى على الأرامل والمساكين وأعطي المحتاجين وأين أنت يوم أن كاد الرصيد يئط كما يئط الرحل من حملٍ فوقه، أين أنت عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل؟ أين أنت أيام قدرتك المالية؟ لما ضاع المال وذهب واضمحل وزال وولى وانتهى تأتي وتقول في حال الفقر: يا ليت {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة:75] إلى قوله عز وجل: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِه} [التوبة:76].(136/7)
علامات انتهاء فرصة المبادرة
أيها الأحبة! لا يزال السياق في الأمر بالمبادرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بادروا بالأعمال ستاً) بادروا أي: سارعوا وسابقوا واجتهدوا في الأعمال قبل أن تحل بكم واحدةٌ من هذه الست، أو بعضها.
(بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها) وإذا طلعت الشمس من مغربها فلا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، حينئذ يُغلق باب التوبة ويحال بين المرء وما يشتهي: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة) أي: سابقوا بالأعمال الصالحة ستاً، والمراد أن واحداً من هذه الست لو نزلت بأحدكم لأشغلته عن مبادرةٍ وعن استمرارٍ وسعيٍ للعمل.(136/8)
استغلال النعم المعاصرة لزيادة الطاعات
أيها الأحبة! لو أن الواحد منا تفكر في حال آبائه وأجداده، معاناةٌ منذ الصباح إلى المساء، قطرة الماء معاناةٌ لا يجدها بسهولة ولا بيسر، وإن كان بعض الناس لا يزالون يجدون شيئاً من المعاناة في حصولهم على الماء، ولكن شتان شتان بين حال الأوائل وحال المتأخرين، وطهي طعام يحتاج إلى معاناة، من جمع الحطب والبحث عما يشعل هذه النار، والانتظار على هذا الطعام ثم بعد ذلك ما يتبعه من تبعاتٍ وأمورٍ أخرى.
وأما الثياب فمعاناة، وأما المبيت فمعاناة، في الشتاء معاناة وفي الصيف معاناة، وفي كل حالٍ من أحوال الفرد معاناة.
أما الآن فكما يقول الشيخ الجزائري: نحن في زمنٍ طرنا في الهواء، وسرنا على الماء، وأكلنا فاكهة الصيف في الشتاء، وما كان ذاك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهل هذا دليلٌ على أن زماننا خيرٌ من زمن الأوائل؟ لا وألف لا -أيها الأحبة- ولكن الأمر أننا ابتلينا بما آتانا الله عز وجل.
إن كل ما سخره الله لنا من مبانٍ أو إضاءة أو خدماتٍ، أو غنى أو أمن أو طمأنينة؛ يبتلينا الله عز وجل فيه لينظر ما نحن صانعون؟ أنت في أمن والآمن يستطيع أن يفعل خيراً، وأن يعبد الله عز وجل، أما الذي هو في خوف فلا يعرف كيف يعبد ربه.
أنت في غنى والغني يستطيع أن يجد فسحة من الوقت ليعبد الله سبحانه، أما الفقير الذي منذ أن يصبح لا يفكر إلا في لقمة يسد بها رمقه، ويقيم بها صلبه وأوجه، فلا يستطيع؛ يفكر في هذه اللقمة ولا يفكر في غيرها، أما الغني فلا يفكر في هذا إطلاقاً وعنده فسحة من الوقت وفسحة من الزمن يستطيع أن يتعبد الله عز وجل بذلك.(136/9)
المبادرة قبل حلول الأجل
إذاً أيها الأحبة! لا يدري الواحد ما الذي يحول بينه وبين العمل، وإنما ضيع كثيرٌ من الناس أنه أكثر من التسويف وأكثر من التعليل، تقول له: تب إلى الله، استقم على طاعة الله، أقلع عن الذنوب والمعاصي وهو قويٌ غني صحيحٌ شحيح يرجو الغنى ويخشى الفقر، ما هو جوابه إذا دعي إلى الله ورسوله؟ يقول: إن شاء الله غداً! بعد أسبوع! بعد الحج! رمضان قريب! بعد نهاية رمضان! إذا فرغت الصوامع! إذا قضيت الدين! إذا فعلت كذا، إذا فعلت كذا!! ويعلق توبته على أمورٍ هو لا يعلم هل يبلغها أم لا.
لو أنك تقدمت في معاملةٍ تريد حقاً من حقوقك أو مصلحة من مصالحك، فقال لك المسئول: ننجزك ما تحتاج أو نخدمك بما تريد إذا حصل كذا، وعلقك على أمرٍ لا تدري متى يحل، فأنت لا تقبل بهذا الأجل، تقول: حدد لي أجلاً معيناً، فإني لا أريد أن أضيع وأن أسوف، ما أدري هل هذا الأمر يقع أو لا يقع، وما أدري هل أنا أبلغ هذا الأجل أم لا أبلغه، فكذلك قل لنفسك إذا دعيت إلى التوبة والمبادرة والإنابة إلى الله عز وجل، قل لها: هل تستطيعين أن تبلغي ذلك الأجل؟ هل تستطيعين أن تبلغي تلك الغاية التي جعلتيها أو علقت بها هذه التوبة وهذه الإنابة:
مضى أمسك الماضي شهيداً معجلا وأعقبه يومٌ عليك جديد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثن بإحسان وأنت حميد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود
ولا ترجِ فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد
يقول لي أحد الذين أعرفهم: كنت ممسكاً بيد والدي وقد خرجنا -في مدينة الرياض - من المسجد في شهر شعبان قبل سنتين أو ثلاث، يقول: ونحن في نهاية الشهر على قرب حلول رمضان يقول: فكان أبي وهو ممسكٌ بيدي يقول: يا ولدي! كم من نفسٍ لا تصوم هذا الشهر، وكم من نفسٍ لا تكمل صيام هذا الشهر، يقول: فكان أبي هو ذاك الذي ما صام من الشهر إلا أياماً فمات، رحمه الله رحمةً واسعة.
وهذا جليٌّ وواضح وليس بالغريب، وليست بقصة معجزة، بل ما أكثر الذين يتحدثون عن المنايا والآجال وهي تنتظرهم، لعل المتحدث أول من يموت، ولعل السامع أول من يموت، ولعل الصغير أول من يموت، ولعل الكبير أول من يموت، وتقول العوام: كم ناجحٍ شربت في جلد حوارها، يعني: ناقة عسراء أنتجت ثم إن نتاجها الحوار الذي خرج مات ثم بعد ذلك جعلوا من جلده سقاءاً فشربت الأم في جلد نتاجها ووليدها:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري(136/10)
تذكر الموت غايته الاستعداد والمبادرة
أيها الأحبة! مصيبتنا أننا إذا تكلمنا عن الآجال لا يتخيل أحدنا أنه ربما هو الذي يوافقه، أو أن السامع لا يتخيل أن الأجل ينتظره، ولأجل ذلك علينا أن نكون مستعدين للقاء الله عز وجل، حينما نتكلم عن الموت ينبغي ألا نخرج من الكلام إلى الزاوية الخلفية أو الوجه المعاكس في هذه القضية، بعض الناس إذا تكلم عن الموت أخذ يبكي وانقطع عن العمل والإنتاج، وضيع قيمة الزمن، ما عاد يحترم هذه الأمور جميعاً، لا، نتكلم عن الموت بحيث يكون الإنسان مستعداً للقاء الله عز وجل من أول لحظة، تكلم عن الموت واذهب من الفجر إلى السوق وبع واشتر، وتكلم عن الموت، واذهب غداً إلى مصنعك وأنتج واصنع، وتكلم عن الموت واذهب إلى مدرستك وتعلم وعلم، وتكلم عن الموت وقف على حدودك واحرس وراقب، وتكلم عن الموت، وكن منتجاً إيجابياً فاعلاً قوياً نشيطاً، ليس الكلام عن الموت من أجل البكاء والانكسار في المساجد والخلوات، الكلام عن الموت من أجل الاستعداد: (واتق المحارم تكن أعبد الناس) فلا يغرنك ثناء الناس عليك، أنت أدرى بنفسك وكما يقول ابن الجوزي رحمه الله: يا ناقص العقل! لا يغرنك ثناء الناس عليك، فإن أعجبوا بك فإنما أعجبهم جميل ستر الله عليك.
فلا يغترن أحدٌ منا بنفسه، أو تغره نفسه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] إما أن يغرك الناس، أو تغرك دنياك، أو تغرك العافية، أو يغرك الغرور، من هو الغرور؟ هو الشيطان الذي يوسوس ويسوف، ويعلل ويرجي، ويجعلك تسوف هذه التوبة حتى تلقى الله عز وجل وأنت عاص.
أحبتنا في الله! الحديث بصدقٍ وصراحة أقرب إلى النفوس من التعليل، ماذا لو أن أحدنا قيل له: إن ملك الموت ينتظرك عند باب المسجد! أو لو أن ملك الموت دخل على هؤلاء الحاضرين وقال: يا عباد الله من أهل شرورة! من منكم مستعدٌ للقاء ربه الآن؟ هل فينا أحد مستعد؟ لا والله، نقول له: انتظر لحظة دعنا نسدد الديون، دعنا نرجع حقوق الناس، نتخلص من بعض الذنوب، نتخلص من بعض المعاصي، نرجع بعض الأشياء، الإنسان أدرى بنفسه.
نعم أيها الحبيب الواحد خير شاهدٍ على نفسه، وإن مدحك الناس فأنت أدرى، وإن ذمك الناس فأنت أحرى وأدرى، فلو أن ملك الموت وقف وقال: يا عباد الله! من فيكم جاهز يسلم أمانته لله عز وجل الآن؟ لا والله ما فينا واحد مستعد، لماذا؟ لأننا لا نبادر بالعمل، لأننا نسوف، هذه حقوق مالية إن شاء الله نعطيها صاحبها فيما بعد، مع وجود ما نسدد به المال، وهذه مظلمة ما أنصفنا صاحبنا منها، وهذه خطيئة ما تبنا، وهذا ذنب ما أقلعنا عنه، وتلك مصيبة ما تبنا إلى الله منها، فكنا قد جمعنا أموراً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه) وأنا أقول: كثيرٌ منا يعمل حسناتٍ كثيرة، ولكن يعمل سيئات أكثر، فلا تغتر بكثرة حسناتك مع كثرة سيئاتك، إن التاجر الذي يكسب في الصباح مليوناً ثم يخسر في المساء مليونين لا يمكن أن يقال: إنه تاجر؛ لأنه خسر أكثر مما ربح، وإن الذي يعمل حسناتٍ ثم يثنيها بسيئاتٍ ترجح بها فحينئذٍ لا يمكن أن يسمى رابحاً أو فالحاً؛ إنما الفالح الذي رجحت حسناته على سيئاته، نحن لا نتوقع ولا نظن أن عبداً من عباد الله يخلو من الذنوب أو المعاصي الصغائر أو الكبائر، كلٌّ بحسب حاله، ولكن المصيبة كل المصيبة، والبلية كل البلية من عبدٍ تتراكم عليه الذنوب والمعاصي ولا يتوب.
إذا كنت جاداً صادقاً في هذا الأمر فتوقع وانتظر أن تلقى الله عز وجل في أي ساعة فتكون مستعداً، ثم إن الله سبحانه وتعالى قد شرع لنا من المبادرة ما ينظف الرصيد من المديونية أولاً بأول.
الواحد منا لا يسلم خطوة زلة كلمة نظرة صغيرة لمم فتجد عنده الأخطاء، لكن الله عز وجل شرع لنا ما يمحو هذه الخطايا أولاً بأول، ومن زلت به القدم فليبادر إلى التوبة، ولا يدع الذنوب حتى تجتمع عليه، أنت إذا جاءتك فاتورة الكهرباء قدرها ثلاثمائة ريال يمكن أن تسددها، لكن إذا تراكمت شهراً بعد شهر حتى صارت آلافاً فإنك تعجز عن أن تسددها، فكذلك بادر بالتوبة ما دامت الذنوب صغيرة، وجاهد نفسك ألا تقع في دين الذنوب مرة أخرى، وإن وقعت ثانية فتب ثانية، وإن زللت ثالثة فتب ثالثة، وإن أخطأت رابعة فارجع رابعة، وليس بينك وبين التوبة أحد، بل إن التوبة لا تحتاج إلى واسطة، والمهم المبادرة (وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن).
جاهد في محو كل ما يكدر ويسود ويلوث صفحة أعمالك، وخالق الناس بخلقٍ حسن، هذه معاملة مع الناس، والخلق الحسن من أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة كما أخبر صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أثقل شيءٍ يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) الشاهد أن الواحد منا مأمور بالمبادرة، وقد شرع الله لنا المبادرة بأعمالٍ لا تبقي على الواحد بإذن الله سيئة إذا هو اجتهد.(136/11)
وسائل وفضائل محو الخطايا ورفعة الدرجات
قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله) الآن أنا لو آتي على مجموعة من الموظفين في العمل، أقول: يا إخوان عندي لكم شيء، جميع الإنذارات تمزق، جميع لفت النظر يمحى، جميع التهديد ينتهي ويحقق لكم رفعة ورتبة، الذي في الثانية يرقى إلى الرابعة، والذي للرابعة في الرابعة عشر يروح للممتاز، والنقيب يأخذ رتبة رائد، والمقدم يأخذ رتبة عميد، وهنا السيئات تمحى والدرجات ترتفع: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال صلى الله عليه وسلم: كثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره، فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
ما أجمل هذا الكلام الذي هو وحيٌ يوحى! ما ينطق صلى الله عليه وسلم عن الهوى، إذا كنا نريد أن نجتهد في المبادرة فهذا نموذج من نماذج المبادرة في الأعمال الصالحة التي تفيد الإنسان الاستمرار والمداومة على مرضاة الله عز وجل.
كثرة الخطى إلى المساجد.
مساكين الذين لا يصلون مع الجماعة، محرومون الذي يقعدون عن الصلاة مع الجماعة، يظلمون أنفسهم، يخسرون هذا الخير العظيم، إذا تطهر وأحسن الطهور والوضوء خرجت من يده كل معصية اقترفتها يده مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وخرجت مع عينه كل معصية نظرت بها عينه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وخرجت من رجله كل معصية مشت إليها رجله مع الماء أو مع آخر قطر الماء، ثم ماذا بعد ذلك؟ ثم يمشي إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة فكل خطوة ترفع حسنة وتمحو سيئة.(136/12)
فضل دعاء الملائكة وقراءة القرآن
ثم يدخل إلى المسجد فالملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ما دام في انتظار الصلاة، الآن يقول بعض الناس: جزاك الله خيراً، لا تنسنا من دعائك، قل لفلان يدعو لنا، أنا عندي لك ملائكة تدعو لك، تقول: اللهم اغفر له الله ارحمه، لو قلت لك الشيخ ابن باز أو الشيخ ابن عثيمين يدعو لك لفرحت، لكن أيضاً بإمكانك أن تجعل الملائكة تدعو لك وتستغفر لك وتقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة تستغفر لأحدكم ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة ما لم يحدث) فأنت إذا بكرت بخطواتك مكتوبة، وهذا ربح لا يفرط فيه أحد، ولذلك بنو سلمة لما أرادوا أن ينزلوا من دورهم وبيوتهم ومساكنهم ليبنوا بيوتاً ويسكنوا دوراً بجوار مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (يا بني سلمة! دياركم -أي: الزموا دياركم- تكتب آثاركم) لماذا تضيعون الحسنات {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12].
ثم إذا دخلت المسجد وصليت هاتين الركعتين المباركتين وتسندت على هذا العمود فالملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه.
ثم فتحت المصحف لتقرأ وليس (الم) حرف، ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، ولك بكل حرفٍ حسنة ولك بالحسنة عشر أمثالها، ثم إذا أقيمت الصلاة وصليت والصلاة بإذن الله عز وجل كفارة للذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهراً غمراً يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء، قالوا: لا يا رسول الله، لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلكم الصلاة لا يبقى من درن العبد وذنوبه معها شيء) الله أكبر! لكن صلاة كاملة، صلاة تامة، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصلاة التي تحضرها بقلبك، الصلاة التي تتدبرها، وقد تنسى وقد تغفل وقد تنشغل في صلاتك بشيءٍ ما، لكن عد وجاهد نفسك، فلك بإذن الله أجر الصلاة وأجر المجاهدة.
يا أحبابي! هل يبقى من درن الواحد منا شيء؟ الجنة قريبة، ولا يحرم الجنة إلا الذي أصر وقال: أريد النار، لا يهلك على الله إلا هالك.
أسباب الخير كثيرة ويسيرة ومتعددة، لم يجعل الله طريق الجنة في الأموال والصدقات، لو كان ذلك لحرم الفقراء دخول الجنة، لو جعل الله دخول الجنة في الجهاد لكان الضعفاء لا يدخلون الجنة، ما جعل الله دخول الجنة في عملٍ معين بل من فضل الله ومنه وكرمه أنه لم يجعل الجنة في الجهاد فحسب، أو في الصيام فحسب، أو في الصدقة فحسب، أو في عملٍ معين فحسب، بل جعل أبواب الجنة متعددة، وكلٌ يسلك طريقه إلى الجنة، والمرد والمنتهى والعاقبة إلى الجنة بإذن الله عز وجل.(136/13)
الفضائل العظيمة للذكر
لما جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور لهم فضول أموال يتصدقون بها وليس لنا أموال نتصدق بها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لكم بكل تسبيحة حسنة، وبكل تهليلة حسنة، وبكل تكبيرة حسنة، وإصلاح بين اثنين حسنة، إماطة الأذى عن الطريق صدقة، تغيث الملهوف صدقة، تصنع لأخرق صدقة، تعين المسكين صدقة) سبحان الله ما جعلت الجنة للأغنياء فحسب، فكما أنها في أعمال الأغنياء هي كذلك في أعمالٍ يدركها الفقراء بل إنك لتعجب من أن الله عز وجل شرع سبلاً وأبواباً إلى الجنة بعبادة غريبة عجيبة وكبيرة يسيرة: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] كما أن الله اختار محمداً نبياً واختار الكعبة قبلة، واختار الإسلام ديناً، واختار هذه الشرائع لعلمٍ وحكمة بالغة فكذلك اختار الله الذكر ليكون عباده يسيرة على جارحة صغيرة وعليه أجورٌ كبيرة وكثيرة، هل يعجز أحد أن يذكر الله عز وجل؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] أنت تستطيع أن تذكر الله سبحانه وتعالى وأنت مضطجع أو قائم أو جالس أو مسافر، خارج البيت وداخله، راكب في السيارة، أو ماشياً على أقدامك، لا أحد يستطيع أن يمنعك من ذكر الله عز وجل أو يشغلك عن ذكر الله عز وجل إلا من تشاق.
ثم هذا الذكر ليس مشروطاً بالوضوء، ولا يحتاج إلى استقبال قبلة أو الدخول إلى مسجد، أو تقول: إنه سيقطعك أعمالك.
ثم ماذا؟ ثم إنه يعينك على طاعة الله عز وجل، ويكسبك رزقاً وقوة وخاتمة حسنة بإذن الله سبحانه وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب ألف حسنة أو تمحى عنه ألف خطيئة؟ قالوا: من الذي يستطيع ذلك يا رسول الله؟ قال: يسبح الله مائة مرة، فتمحى له ألف خطيئة أو تكتب له ألف حسنة) أنا الآن أريد من الإخوة الحضور كل واحد يمسك ساعته دقيقة ويقول سبحان الله مائة مرة، تدريب عملي بسيط، هذا ما هو بذكر جماعي حتى يقول واحد: والله الجماعة قد صاروا صوفية، لا.
المسألة أن انظر كم يستغرق من الوقت أن تقول: سبحان الله مائة مرة، كل واحد يسبح مائة مرة في نفسه.
مرت دقيقة ونصف.
هاه يا إخوان، استغرقت أقل من دقيقتين.
إذاً أيها الأحبة! لا يهلك على الله إلا هالك فعلاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! فعجب الصحابة وقالوا: من يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
عطايانا سحائب مرسلاتٍ ولكن ما وجدنا السائلينا
باب مفتوح يقول للناس: هلموا خذوا املئوا اختاروا ما شئتم، والناس معرضون،
وكل طريقنا نورٌ ونورٌ ولكن ما رأينا السالكينا
الخير مفتوح وأسبابه كثيرة، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) يقول صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير كتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة).(136/14)
نعمة التوبة والمبادرة إليها
عمر بن الخطاب بلغه عن أحد عماله أنه شرب الخمر، فأرسل له رسالة من عبد الله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى فلان، يقول الله عز وجل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] الله أكبر! ما أجمل هذه الحكمة العظيمة من عمر بن الخطاب! يرسل رسالة إلى هذا الذي يعلم أنه مخطئ ثم يقول له مذكراً بهذه الآية: عد وتب إلى الله عز وجل.
ما أجمل هذا النداء! ولماذا لا نكون كذلك، والله عز وجل العظيم القوي العزيز الجبار يتحبب إلينا معاشر العباد ويقول لنا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] أياً كان هذا الذنب، بعض الناس يقول: هذه آيات لمن عنده معاصٍ خفيفة، لكن أنا عندي مخدرات، أنا مهرب ومروج، أنا أتعاطى المخدرات وأشرب خمر، أنا عندي مشكلة خلقية، مشكلة زنا، مشكلة لواط، فكيف يتوب الله عليَّ؟ الله عز وجل قال في آخر سورة الفرقان قال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70] من الذي يحول بين الشباب وبين التوبة؟ من الذي يحول بين الناس وبين التوبة؟ من الذي يرد الناس عن التوبة؟ بل إن الذي يقول: إن التوبة أصبحت بعيدة المنال هو الذي يقتل نفسه بهذا الجواب، ولا أدل على ذلك من ذلك العابد الجاهل الذي جاءه رجلٌ وقد قتل تسعاً وتسعين نفساً، فجاء إلى ذلك العابد فقال له: إني قد قتلت تسعاً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ فكان الجواب الجاهل المبني على غير علم، قال: ليس لك توبة، فجنى الجواب على المجيب فطعنه القاتل فأكمل به المائة، فذهب الجاني إلى عالم وقال: قتلت مائة نفسٍ، فهل لي من توبة؟ قال: نعم، ومن ذا الذي يحول بينك وبينها، الحق بأرض بني فلان فإن فيها قوماً يعبدون الله عز وجل، وفي هذا فوائد: الأول: أنه مهما عظم الذنب فإن الرحمة قريبة: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
الأمر الثاني: أن من أذنب وأراد التوبة الصادقة النصوح الخالصة الصحيحة، فعليه أن يغادر مكان المعصية ووسط المعصية ومناخ المعصية؛ لينتقل إلى مناخ وجو ومكان وطبيعة الطاعةِ والعبادة والذكر والإنابة والإخبات والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
أما بعض الناس يشكو من الجراثيم والفيروسات ثم يعالج ويعالج ويحقن بالكيماوي وبالأدوية وبغير ذلك، ثم يرجع من جديد في وسطٍ متجرثمٍ مملوءٍ بالبكتيريا والفيروسات والجراثيم ثم يقول: كيف رجعت إليَّ هذه الأمراض من جديد؟ يداك أوكتا وفوك نفخ، أنت الذي اخترت أن تعيش في وسط المعصية مرة ثانية، ولو أنك صادق في توبتك لخرجت من وسط المعصية إلى وسط أهل الطاعة، وانتقلت عن جلساء السوء إلى جلساء الخير، وتركت عاداتٍ قبيحة إلى عباداتٍ جليلة نافعة بإذن الله وحينئذٍ تترقى في دين الله، وتجد لذة لا تقف.(136/15)
شبهة حول صعوبة الالتزام والتوبة
بعض الناس يقولون: مساكين هؤلاء المطاوعة كيف يعيشون؟ بالله أنا أريد أن أفكر أفهم كيف المطوع قادر يعيش؟ زعموا المطوع ديناصوراً انقرض وانتهى ولا يمكن أن يعيش في زمن الأزمات، وكلمة مطوع هذه لها قصة، يقول الشيخ ابن حميد الله يدخله في جنات النعيم، يقول: كلمة مطوع عند أهل نجد هي أصلاً كما يذكر محمد رشيد رضا صاحب المنار: هي كلمة بين العالم والعامي، هي كلمة تعني: أن الرجل في منزلة بين العالم والعامي؛ لكن كثير من الشباب يتوقع أن هذا المطوع لا يمكن أن يعيش حياة طبيعية، ولا يمكن أن يعيش حياة سعادة، ولا يمكن أن يعيش حياة فيها أنس وبهجة، وضحك وسرور وطرافة، ودعابة ومزاح، وانبساط واندماجية، واجتماعية وتفاعل أبداً، يتوقع هذا المطوع حالته حالة، مثلما يخبرني أحد الشباب يقول: والله كنت أتصور أن المطاوعة خلقٌ غريبٌ عجيب، قلت: كيف؟ قال: مرة من المرات مجموعة من الشباب دعوني أن أخرج معهم إلى رحلة البر، فيقول: وخرجت معهم بعد العصر، يقول: فلما خرجنا، فرشوا بساطاً وطلعوا الشاهي، وجاءوا بكتاب رياض الصالحين وقاموا يقرءون أحاديث، قلت: حتى الآن معقول، وبعد قليل ختموا هذا الكتاب، وكل واحد فتح شنطة سيارته وجاب (التكميلة) ولبس (تكميلته) ويفرشون ويلعبون، يقول: جن جنوني! مطاوعة ويفرشون ويعلبون كرة! المسألة غريبة جداً، قلت له: ماذا تتوقع يعني؟ قال: والله أتوقع أن كل واحد يقعد عند إطار ويصيح.
فيا أحبابنا! كثيرٌ من الناس لا يكره الخير، لكنه يتصور أن الاستقامة أمر صعب المنال، ويتصور أن التوبة قضية تحتاج إلى بروتوكول وإلى طقوس وإلى قرارات، وإلى مراسيم وإلى إصدارات، ويعظم أمر التوبة، وما المسألة إلا شيءٌ سهل قليل، وهو تتوضأ وتصلي ركعتين تقول: يا رب تبت إليك، انبذ أشياء تذكرك بالمعصية، صور، مجلات، أفلام، ارمها إلى الشارع، ثم انظر إلى صحبة أخيار: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
وماذا بعد ذلك؟ يكون التزام على علم، لا على عواطف؛ لأن العاطفة ارتفاع في منحنى معين ثم فجأة يسقط الأمر، ارتفاع في حالة معينة، ثم فجأة تزول تلك العاطفة، فمن الطبيعي أن تجد رجلاً بجوارك في صلاة التراويح أو في ختمة رمضان، ثم إذا جاء العيد حجز على دولة من الدول المجاورة وذهب يزني فيها، العاطفة ليست بمقياس، العاطفة هي فرصة للإنسان أن يدفع نفسه إلى الأمام وأن يتخلص من ذنوبه ومعاصيه، لكن لابد أن تبني استقامتك والتزامك على علم، وعلى صحبة صالحة وعلى رفقة أخيار، يشدون عضدك ويأخذون بيدك، ويذكرونك إذا نسيت، ويعينونك إذا ذكرت.(136/16)
تدليل على يسر التوبة من قصة صحابي
لا تظن أن التوبة أمر صعب المنال، إن النبي صلى الله عليه وسلم كما هو المعلوم في سبب نزول قوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] في سورة هود هذه الآية المدنية في تلك السورة المكية سبب نزولها أن أحد الصحابة كان تماراً -رضي الله عنه- فجاءته امرأة جميلة بارعة الجمال فقالت: هل عندك تمرٌ أجود من هذا؟ فقال: نعم، في البيت تمرٌ أجود منه، فتقدمها وفتح الباب لها، ظناً منها أن في مقدمة البيت تمراً أجود من ذلك التمر الذي رأت، فما كان منه -رضي الله عنه- إلا أن أغلق الباب دونها، ثم أخذها وضمها وقبلها، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: وما كان بينه وبينها ما يوجب الحد، مجرد ضمة وقبلة، ثم إنه ندم وبدأ عتاب الضمير يلاحقه ويجلده بسياطٍ في نفسه حتى هرع مسرعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني فعلت كذا وكذا، فهل قال صلى الله عليه وسلم: اقلب وجهك، اغرب عنا، أنت منافق، في ظاهرك مع الصحابة وتفعل هذه الغلطة الكبيرة، لا يمكن هذا!! كما هو الحال اليوم لو أن بعض الناس زل أو أخطأ لربما أنكره إخوانه وأبغضوه، وتجهموه وطردوه من مجالسهم، كان الرجل يعصي فيقيم عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد، ويجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم من يوم غد، ما قال: ابعد فقد عصيت الله ولا تجلس مع الأخيار، بل الواجب أن الأخيار هم أوسع الناس صدراً وأرحب الناس قلوباً لاحتواء من زل وأخطأ وأذنب ثم عاد إلى الله سبحانه وتعالى.
الحاصل قال صلى الله عليه وسلم: لا تبرح مكانك، حتى تغشاه الوحي، فلما سري عنه صلى الله عليه وسلم قال: أين السائل؟ قال: هو أنا ذا يا رسول الله، قال: إن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ما أجمل هذا القرآن! ما أجمل هذا الكلام المعجز القوي المتين المملوء حكمةً وعلماً! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109] ما أجمل كلمات ربي! ما أحكم كلمات ربي! ما ألذ كلمات ربي!
وإن كلام الله أوثق شافعٍ وأغنى غناء واهباً متفضلا
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا(136/17)
قسوة القلوب سبب الإصرار
مصيبتنا قسوة القلوب، ولو كنا نتدبر كلام الله عز وجل ما أصر أحد على معصية، أنا لا أقول: إننا سننقلب إلى ملائكة ليس فينا من يخطئ، لكن لن يكون فينا من يصر على ذنب، بل من أذنب استغفر.
إن الله عز وجل لما بين صفات المتقين بعد أن دعانا إلى المبادرة والمسابقة والمسارعة إلى الجنة، فقال في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] من هم المتقون يا رب؟ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:134 - 135] يا سبحان الله! متقون وفيهم من يفعل فاحشة، أو يظلم نفسه، لكن: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
إذاً يا أخي الحبيب: لا تتوقع أنك بالتزامك ستكون ملكاً معصوماً، بل المرجو من كل واحدٍ منا أن يجاهد نفسه عن المعصية، وأن يكون قريباً من طاعة الله ومرضاته، ولكن المبادرة تعني المبادرة إلى العمل، وتعني المبادرة إلى التوبة إذا وقع الزلل، لا تتصور أن المبادرة إلى الأعمال هو نداءٌ للمتدينين فقط، أو نداءٌ للمستقيمين فقط، لا، المبادرة إلى العمل للمذنب والمطيع، للصالح والطالح، للمخطئ والمصيب، للقريب والبعيد، مبادرة من المخطئ بالتوبة، مبادرة من المذنب بالاستغفار، مبادرة من الذي ابتعد بالرجوع، ومن عظيم نعم الله عز وجل أن الواحد لا يحتاج إلى أن يفضح نفسه إذا أراد أن يتوب.(136/18)
لا داعي لاعتراف التائب أمام الناس
بعض الشباب، إذا غلط غلطة راح وجاء عند الإمام وقال: والله يا شيخ في تمام الثانية عشر ظهراً من ذلك اليوم الذي في تاريخ كذا (وعطف التاريخ كله) فعلت وفعلت وفعلت.
يا أخي: من الذي قال لك تعترف بكل ما فعلت؟ لسنا نصارى! لستَ أمام قسيس، أمام كربينال، في كاتدرائية، تب إلى الله فيما بينك وبين نفسك: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، قيل: من المجاهر يا رسول الله؟ قال: هو الذي يمسي يستره الله عز وجل، فيصبح يهتك ستر الله عليه) من عظيم النعمة أننا في هذا الدين ارتباط بالله عز وجل ليس بيننا وبين الله واسطة، لا داعية لا عالم لا حاكم، لكن انظر إلى الأديان والملل الضالة كالنصارى في طوائف أخرى، الواحد يضحك من غرائب ما يجري.
مرة زرت الفاتيكان في روما فوجدت حجيراتٍ في ذلك المكان القبيح، وليس بمكانٍ طاهرٍ لأنه مملوء بالصلبان، ولكن: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] فقلت لمترجمٍ كان معنا: ما هي هذه الحجيرات الصغيرة؟ قال: هذه يجلس القسيس في هذه الحجرة الصغيرة في هذه الزاوية أو في هذه الجهة منها وأنت كما ترى هذه الستارة أو هذا العازل وبينهما فتحة مربعة، فيجلس القسيس، يعني: الحجرة فيها عازل، يجلس القسيس هنا ويجلس المجرم هنا، فيجلسان ويقول المذنب: أيها القسيس! باسم الرب والروح القدس فعلت كذا وفعلت كذا وفعلت كذا، ثم يدخله القسيس -مسخرة- يقدم له إناء فيضع فيه كذا دولار أو كذا عملة معينة، ثم يدق جرس ويقول: قد غفر الله لك.
لا تضحكوا يا إخوان، وشر البلية ما يضحك، من قُدر له أن يزور سيجد من هذه السخافات والعجائب، وكل كنسية لها طريقة في التوبة وفي الاعتراف وفي طريقة الغفران، لكن في دين الإسلام لا أحد يذهب إلى القاضي أو الشيخ أو العالم ليقول: إني أذنبت وفعلت وفعلت، نعم إذا كان مبتلى بذنب، ما يقول: أنا أذنبت، يقول: كيف ما هي نصيحتك لمن وقع في ذنب كذا، أو يريد التخلص من كذا، أو شخصٌ ما يريد أن يتخلص من كذا، ما تأتي لتفضح نفسك؛ لأن الله ستير يحب الستر ومن ستر مسلماً ستره الله، لا واسطة بيننا وبين الله.(136/19)
لا داعي للواسطة بين التائب وبين ربه
من جميل ما قاله أحد المفسرين: إن الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة البقرة لما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] قل أي: يا محمد {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة:220] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة:217] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] فما سأل الصحابة سؤالاً إلا قال الله عز وجل: يا محمد قل لهم الجواب كذا.
ولما سأل الصحابة عن الاتصال بالله، قالوا: يا رسول الله! ربنا بعيدٌ فنناديه أم قريبٌ فنناجيه، فقال الله عز وجل ما قال قل يا محمد، وإنما جاءت في كتابه الكريم {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ما فيها واسطة، حتى الاتصال بالله ما تحتاج إلى أنك تتصل بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم تتصل بالله عز وجل، نعم صلتنا بالله في معرفة ما أراده الله في تطبيق شرع الله، لكن في المناجاة يا محمد قل للناس، يا محمد ندعوك أن تبلغ دعوتنا لله، لا، يا ألله مباشرة، يا ألله مباشرة، وهذه من هذه الكرامات والمنن العظيمة الجليلة التي أكرمنا الله بها في هذا الدين.
ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
أن يكون الواحد عبداً لله، وأن يناجي الله عز وجل مباشرة، ما أطيب وألذ وأجمل هذه الصلة! إن الدنيا ربما يحتاج الإنسان إلى وساطات حتى يتوصل إلى فلان أو زعيم أو أمير، لكن الصلة بملك الملوك وهو الله مباشرة.(136/20)
أمور ضرورية للمبادرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: أيها الأحبة في الله! علمنا أن الغنيمة تفوت، وأن العمر يمضي، وأن الفرصة ثمينة، وأن ما فات لا يسترد، فما الذي يردنا عن المبادرة إلى التوبة؟ وما الذي يردنا عن المبادرة إلى المسابقة في الأعمال الصالحة، وإلى التنافس في مرضاة الله عز وجل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد من ابن آدم بأطرقه، فقعد له في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد الشيطان للمسلم في طريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس ذي الطول -الطول هو الحبل الشديد يشد أحد الطرفين في وتدٍ والطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب- فعصاه فهاجر، ثم قعد الشيطان للعبد في طريق الجهاد، فقال: تجاهد، فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقفته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) رواه أحمد والنسائي وابن حبان بإسنادٍ صحيح.(136/21)
ضرورة المجاهدة
أيها الأحبة! المبادرة تحتاج إلى مجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
المبادرة تحتاج يقظة وحذراً من هذه الملهيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11] لا بد أيها الأحبة من المبادرة، ولا بد أن تعلم أن الليل والنهار يمضيان ويسرعان.
والليل فاعلم والنهار كلاهما أرواحنا فيها تعد وتحسب
قال الجنيد لرجلٍ وهو يعظه: جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تمض نهارك بما هو لك فلا تمضه بما هو عليك، وإن لم تصحب الأخيار فلا تصحب الأشرار، وإن لم تنفق مالك فيما لله فيه رضاً فلا تنفقه فيما لله فيه سخط وغضب:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب والدهر فيه تصرمٌ وتقلب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه وازهد فعمرك مر منه الأطيب
ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
ضيفٌ ألم إليك لم تحفل به فترى له أسفاً ودمعاً يسكب
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
واخش مناقشة الحساب فإنه لا بد يحصى ما جنيت ويكتب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب(136/22)
ضرورة احترام الأوقات
أيها الأحبة! المبادرة إلى الخيرات تحتاج احتراماً للأوقات، الوقت هو الحياة، والذي لا يحترم وقته لا يحترم حياته، والذي لا يحترم حياته لا يحترم نفسه ولا يحترم شخصيته، الناس كلهم اليوم الواحد يتمنى أن يكون مهيباً عزيزاً كريماً موقراً بين الناس محترماً بين من حوله، فكيف يوقر ويحترم وهو يهين نفسه بإهانة وتضييع وقته.
قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يطاع الله عز وجل فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئاً، أو عائداً مريضا أو مشيعاً جنازة أو قاعداً في المسجد قال: فكنا نرى أنه لا يحسن أن يعصي الله عز وجل، يقول حماد: نتوقع أن سليمان التيمي لا يعرف كيف يعصي الله، والحقيقة أنه يعرف، وكل واحد يعرف كيف يعصي الله، والأتقياء يعرفون، لكن لماذا لا يعصون؟ لأنهم لا يريدون أن يبيعوا الباقية والخير العظيم بالفانية التافهة وهي الدنيا.(136/23)
ضرورة التفكر في حقارة الدنيا وعظمة الآخرة
قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم في كتاب وصف الجنة: (مثل هذه الدنيا كمثل ما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بمَ يرجع) القطرة التي تسقط من أنملتك هي الدنيا، واليم المحيط والبحار هي الآخرة، فمن الذي يبيع المحيط بقطرة؟ من الذي يبيع الدنيا بشبر؟ من الذي يبيع المليار بهللة؟ من الذي يبيع الكمال والبقاء بالزوال والفناء؟ سبحان الله العظيم! إن لم نبادر أيها الأحبة فنحن على خطرٍ عظيم، وواجبنا أن نتهيأ وأن نستعد فيما بقي، فما فات لن يعود أبداً.
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها
كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد! من الذي يصلي عنك بعد الموت؟ من الذي يصوم عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون ألا تنوحون على أنفسكم باقي حياتكم، يا من الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، ومع هذا ينتظر الفزع الأكبر؛ كيف يكون حاله؟! إذاً أيها الأحبة! فلنبادر بالعمل الصالح، وخير المبادرة ما كان في طاعة الله، اتق المحارم تكن أعبد الناس، ترك المعاصي وفعل الواجبات في الدرجة الأولى، والله لو أن الواحد إذا سمع الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح رمى الشغل الذي في يده وذهب إلى المسجد، لا نريد مزيداً من الصيام، ومزيداً من التهجد، ومزيداً من أعمال كثيرة، جرب نفسك مع هذه العبادة التي هي أول ما ينظر في عمل العبد يوم القيامة، انظر نفسك مع الصلاة، والله لو عود الواحد نفسه ألا يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح إلا وهو في المسجد، أو يبادر، والله ليجدن لذة يقول: هل من مزيد، هات صياماً، هات صدقة، هات دعوة، هات جهاداً، هات كفالة أيتام، هات كفالة دعاة، يريد أن يفعل كل خيرٍ يقربه إلى مزيد قربى من الله سبحانه وتعالى.
أيها الأحبة! الحديث كثير، ولكن نريد أن يكون العمل كثيراً أيضاً، يقول الله عز وجل في شأن من طبق ما علم، ونفذ ما سمع، وانتصح واتعظ بما وعظ، أي: ليست مجرد معلومات وثقافة واستعراض مهارات، لا والله يا أحباب، علينا أن نعلم أن الكلام الذي نقوله ونسمعه حجة علينا يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68] أربع فوائد عظيمة لمن يبادر ويطبق هذه المعلومات، ويحول العاطفة والالتزام إلى برنامج عمل.
أسأل الله أن يتوفانا على طاعته ومرضاته، اللهم يا حي يا قيوم! نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تجعل لي وللحاضرين من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته بمنك وكرمك يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع اللهم شملنا وحكامنا وعلماءنا، ولا تشمت بنا حاسداً ولا تفرح علينا عدواً، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
آمين يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(136/24)
الأسئلة(136/25)
رجاء!!
السؤال
كتب فيه السائل في أوله: الرجاء قراءة هذا السؤال، ولعلنا جميعاً نشارك هذا السائل فيما ذكر، فهو يقول: أخي فضيلة الشيخ! إني أحبك في الله، ولا أحبك لشيءٍ من أمور الدنيا، وإني عندما أسمع صوتك أرتاح راحة نفسية، ونحن في مدينة شرورة نرحب بك ونرجو منك تكرار الزيارة لنا، لكي تعطر الجو بصوتك الجميل.
الجواب
والله يا أحبابنا لو كنت شاعراً لقلت فيكم أبياتاً، ولا أخفيكم أني منذ أن هبطت الطائرة في هذا المكان انشرح صدري انشراحاً بالغاً، وما كنت أجد هذا في بعض المناطق، فلعلها من دلائل الخير والفضل والتوفيق، وأسأل الله أن يثبتنا وإياكم على طاعته ومرضاته، وأعد إن شاء الله بتكرار هذه الزيارة، وأنتم أصحاب الفضل بعد الله سبحانه وتعالى أن شرفتموني بالحديث إليكم والنزول بين يديكم.(136/26)
نصائح في دعوة الجار
السؤال
فضيلة الشيخ! كثرت الأسئلة عن التهاون في الصلاة، وكلها تدور حول الجار الذي لا يحضر المسجد، وهذا سؤال منها يقول: عندي جار وله أربع سنوات ومنزله مقابلٌ للمسجد، ولكن لا يصلي في المسجد، وقد نصحته مراراً لكنه يرد عليَّ بقوله: إني أصلي من قبل أن أعرفك، ما هي نصيحتكم لهذا ولغيره؟
الجواب
يتلطف معه في الدعوة وبالكلمة الطيبة لعل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده إلى الهداية، والدين النصيحة، المهم ألا تحول النصيحة إلى فضيحة هذه قضية مهمة.
المسألة الثانية: اعلم أخي الحبيب أنك مكلفٌ بالبلاغ، والهداية بيد الله عز وجل: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لاحظ أخي الحبيب أن النبي صلى الله عليه وسلم يُخَاطَب في غير موضعٍ من كتاب الله ليقال: إنما عليك البلاغ، إنما أنت منذر، إنك لا تهدي من أحببت، ليس عليك هداهم، لكن يخاطب ويقال: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] فإذاً نحن علينا البلاغ، والهداية بيد الله عز وجل، وهذا الذي تنصحه لعله بعد استمرار النصيحة يهتدي، فلا تمل نصيحته أبداً، قد يأتيه يومٌ إما أن يصلي وإما أن يرحل عن جوارك، لأنه لا يريد أن يكون بجواره رجلٌ يتربص به كلما نزل به ليأمره بالصلاة وينهاه عن المنكر.(136/27)
مخاطر القنوات الفضائية
السؤال
من الأمور التي كثرت عنها الأسئلة الأطباق الفضائية (الدشوش)!
الجواب
أيها الأحبة! الفضاء اليوم مملوء بالصور والكلمات والأفكار والأطروحات والقضايا الخطيرة، فلا ينبغي أن يكون موقفنا هو موقف المنهزم، بل يقول الله عز وجل: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ينبغي أيها الأحبة أن نحصن أبناءنا من بداية مراحل الطفولة، وفي بدايات مراحل التعليم بالحق أولاً؛ حتى إذا عرفوا الحق أدركوا أن ما سواه الباطل، ولا بأس أن ننوه بأنواع الأخطار والضلالات والمصائب، مع أنه سيأتي الحديث عن قضية الدش، لكن هذه المسألة مهمة قبل ذلك وبعده، ربما لو أتينا لنقول لأحد الإخوة مثلاً: ضع شريط (الكاسيت) في (كرتون الفاين)! فهل سنسمع الشريط؟! لا.
لأن مكانه الطبيعي هو المسجل، وكذلك وضعه في الكأس خطأ، ووضعه تحت الطاولة خطأ، ووضعه في الجيب خطأ، ووضعه على الأرض خطأ!! كم تتصورون من احتمالات خاطئة، ملايين الاحتمالات من الأخطاء، لكن المكان الطبيعي لهذا الشريط هو: جيب هذا الجهاز، فينبغي أن نبدأ أولاً بتعليم مجتمعنا وأبنائنا وبناتنا ورجالنا ونسائنا الحق، ويعلمون أن ما سواه الباطل، لأن تعليم الحق لا يكلفك إلا بيان الموقع الطبيعي، والصيغة والمقام والمكان والزمان لهذا الحق الذي تدعو إليه، فإذا علمنا ذلك أدركنا أن ما سواه هو الباطل، فأمام هذا السيل الجارف من الصور والكلمات والأفكار ينبغي أن نركز على تعليق الأسس والمبادئ، ولئن كانت الصين الوطنية الكبيرة التي أخذت من الآن رغم الضلال البعيد يعلمون الأطفال من جديد مبادئ (ماوتسي تونغ) من أجل المحافظة على أصول الشيوعية حتى لا يجرفها تيارٌ أو ما يسمى التغيير أو غير ذلك.
فنحن أيضاً أيها الأحبة ونحن دعاة حق يجب علينا أن نعمق كل صور الحق، وأن يعلموا أن ما سواه هو الباطل، حتى لا تبقى عقولهم خالية فتكون كما قال القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
هذه الدشوش نقلت أفكاراً خطيرة، وحولت أوضاع المجتمعات إلى صور وغرائز، ولو أن راصداً أو باحثاً يستقصي بالأرقام والبيانات حجم الجرائم والمشكلات والمشاكل الزوجية، والخيانات والجنح والأخطاء الكثيرة لوجد أن المؤشر يرتفع منذ بداية الدشوش إلى يومنا هذا، والسبب أن هناك سماً زعافاً يبث للناس، يا عجباً لرجلٍ لو قلت له: تعال أعطني ولدك أريد أن أتحدث معه على انفراد، أرجوك لا تتدخل ودعني أتكلم معه!! ماذا تقول؟ لماذا تنفرد به؟ لماذا تكلمه بهذه الطريقة؟ تجد نفسك حريصاً على أن تعرف ما سأقول له، فلماذا لا تكون حريصاً لتعرف ماذا يقول الدش لأولادك وبناتك؟ يا من تتركهم ست ساعات وخمس ساعات وأربع ساعات ضيعوا الدراسة، وتركوا الصلاة، وضيعوا العفاف وتمردوا على قيم الفضيلة، وتجرءوا على السفور والتبرج، وعلى أمور خبيثة ما كنا نعرفها في مجتمعنا إلا يوم أن عرفنا الدش.
ولعلكم في هذه المدينة الصغيرة أحسن حالاً من مدنٍ كبيرة كل ما ينشر في الدش اليوم تجده غداً أو بعد غد (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه).
الآن يوجد من الشباب من يقلد الذين يراهم عبر الفضائيات من المطربين والمخنثين!! والله يا أحباب! مرة في إحدى مدن الولايات المتحدة في مركزٍ إسلامي، جاء شابٌ ظننت أنه منهم يضع ربطة بنت، وجاء فسلمت عليه، وقلت: إن شاء الله هذا مسلم جديد، داخل في الإسلام، ولنفرح به مهما كانت حاله، قال: ألا تعرفني؟ قلت: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: أنا فلان، أنا جاركم أنا في البيت الفلاني، قلت: ما الذي جاء بك؟! ما الذي تضعه على رأسك، قال: يا شيخ أنا ساكن في مجتمع غربي ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أهدى من الجرب
الخراب يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب، فيا أحبابنا! بعض الناس إذا ناقشته في الدش قال: أنا يا أخي أتتبع الأخبار! أنا أنتبه للأطفال! وأنا وأنا، أنا قد أغزو! أنا سياحي، رجل صاحب قرار سياسي، رجل صاحب قرار عسكري، رجل مسئوليته تحتم عليه هذا، لكن واحد ينظر في الدش يتفرج عليه وينام عن صلاة الفجر قال: نحن نتتبع الأخبار! قلت: أخبرني عنها، قال: في أفغانستان قتلوا ماذا فعلت؟ هذه آراكن في البوسنة ماذا فعلت؟ هذه البوسنة قاتلوا الصرب فعلوا ماذا فعلت؟ مصائب المسلمين، اليهود مزقوا الناس في فلسطين وقاتلوهم وقتلوهم وشردوهم وكسروا عظام الشباب وسجنوا وفعلوا، ماذا فعلت؟ يا أخي لا تكذب وإذا بليتم فاستتروا.
بعض الناس زوجته وقعت في الفاحشة مع ذي محرم، فعلت الفاحشة مع خالها الذي هو أخو أمها، بسبب ماذا؟ بسبب القنوات والأطباق، وعما قريب سيأتي طبق أكبر من هذا يأتي بأربعين محطة، فالمسألة تحتاج إلى تربية، وتحتاج إلى تعميق الإيمان بالله في النفوس، مساحة لا يمكن أن تصل إليها رقابة الشرطة أو القانون أو الحاكم أو المسئول، إنها الرقابة الذاتية فيما بين الإنسان وبين الله عز وجل.
بعض الناس للأسف يعطي لولده الحرية المطلقة، حمل! ولادة! رضاع! يترعرع ثم إلى الهاوية، والله لأن يكون أحدكم عقيماً خيرٌ من أن يكون له ولدٌ بهذه الحال، الذي أخرجه به إلى الدنيا وضيعه وأهمله، لا تربية! لا قدوة! ولا تعليم! لا هداية! لا ثقافة! لا تحذير من المعاصي! ثم أطلقه سماً وخنجراً على المسلمين!!
وأبناءً حسبتهم سهاماً فكانوها ولكن في فؤادي
وإخواناً جعلتموهم دروعاً فصاروها ولكن للأعادي
فيا أحبابنا! أنصحكم والعقلاء يسمعون النصيحة، أثر في مدينة الرياض رجل برسالتين الرسالة الأولى ثم تبعتها رسالة ثانية بغض النظر عن الحلال والحرام تناقشه مناقشة عقلية برسالتين بفضل الله عز وجل أخرج الدش من بيته من الذي يقتنع أن وجود الدش حرام؟ يا إخوان نحن ننظر إلى تاريخ صلاحية العلبة من الجبن أو القشطة أو المربى، ونقول: لا لا هذه انتهت الصلاحية، انتهت، لا تأكلها فيحدث تسمم، لكننا نحضر السموم ونسقيها أبناءنا في غفلتنا عما يعرض عليهم في هذه الشاشات.
هل تعلمون أن بعض الأمريكان أو الكفار أصبحوا الآن يطالبون بالتخلص من هذا البث، ويرون أن من علاج المجتمع الأمريكي الذي نشأت فيه الجريمة المبكرة هو التخلص من هذه القنوات، ويقولون: إن هذه الأفلام علمتهم السرقة والقتل والجريمة.(136/28)
نصائح في مواجهة بعض الفتن
بارك الله فيك! هذان سؤالان في معنى واحد؛ فالأول يقول فيه السائل: كيف يتقي الإنسان الفتن وما هي الأسباب الميسرة للاستقامة على دين الله يقول خاصة فتنة النساء؟ سؤال آخر: كيف يواجه الشاب المسلم الآتي: الشيطان، الشهوة، النفس، الهوى، وكيف ومتى يعلن الالتزام، وكيف يكون الصبر على الطاعة، وعن المعصية؟
الجواب
على أية حال فإن قضية أن يتقي الإنسان الفتنة فأجيب عليها بالمثل العامي يقولون لك البادية: لو أعطيت الجني قل: بسم الله، قال واحد: لا تعط الجني ولا تسمي.
كيف تتوقى الفتن؟ لا تقرب الفتن:
قالت الأرنب قولاً جامعاً كل المعاني
أشتهي ألا أرى الذئب ولا الذئب يراني
لا تطلب الفتن تسلم بإذن الله عز وجل، أما واحد يعرض نفسه للفتن، ويقع في أماكن الرذيلة، أماكن الخطر، مواقع السوء، مجالس اللهو، مجالس الغفلة، ثم يقول: كيف التوقي من الفتن؟ تسبح في بركة (بنزين) وتقول: أخاف الاحتراق، هذا ليس بصحيح، التخلص من الفتن ما هو بصنعة صاروخ ولا كبسولة ولا حقنة في الوريد، أنت تأخذ أرجلك وتبتعد عن مكان الفتنة، يوجد جلسة فيها لهو، غفلة، معصية، ابتعد عنها واذهب إلى جلسة فيها ذكر وطاعة خير من جليس السوء، ولأن تشتغل في أي عملٍ مباحٍ من أمور الدنيا، خيرٌ من أن تجلس في جلسة فيها ما يجرك إلى ضياع دينك ودنياك.
أما كيف ومتى وأين ولعل وسوف، والصيدليات المناوبة، ودرجات الحرارة في الالتزام، إجابة هذا السؤال الكبير؟ يا أخي الحبيب لا تحتاج إلى مكان ولا تحتاج إلى جماعة، إذا عندك أشرطة ومجلات فقطعها، وكذلك سائر المعاصي ابتعد عنها واهجرها، وهذا خير سبيل للوقاية من الفتن، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(136/29)
بر الوالدين [1]
بر الوالدين من أسباب الفلاح، ووسائل نيل العبد رضا الله تعالى، فحق الوالدين مقرون بحق الله، ولا يسقط بحال، بل قد جعل الله الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام متوقفاً على إذنهما مالم يتعين، وهنا يتحدث الشيخ عن حقوقهما وفضل برهما.(137/1)
جوانب طاعة الوالدين وأهمية برهما
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى بمراقبة أمره، وفعل كل ما أمر، اتقوا الله تعالى بالبعد عما عنه نهى وزجر.
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:23 - 25].
معاشر المؤمنين: إن الله جل وعلا أمر عباده بتوحيده وعبادته، وقرن ذلك ببر الوالدين كما قرن شكرهما بشكره سبحانه وتعالى، حيث يقول في كتابه الكريم: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] فحق الوالدين والبر بهما عظيم جداً، وحسبكم أن يكون في أوائل الأعمال المحبوبة إلى الله جل وعلا، فقد روى البخاري (أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاة على وقتها، قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فانظروا كيف قدم البر بهما على الجهاد في سبيله.
ومن محض حق الوالدين الذي ينبغي ألا يتساهل به أحد منا معاشر الأحباب، هو ألا نكون سبباً لأن نعرضهما أو نتعرض لهما بالإساءة والعقوق، أو أن نعرضهما للسب والشتيمة، فإن ذلك من الكبائر التي ثبتت في السنة النبوية، ولقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم! يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) ومن المؤسف حقاً أن تسمع شتيمة الرجل لأم الرجل وأبيه في كثير من الأحيان على ألسنة البعض هداهم الله إلى التوفيق والسداد.
معاشر المؤمنين: إن الإنسان مهما كان في خصومة مع غيره من الناس ينبغي ألا يتعرض لوالديه بسب أو شتيمة، والكثير من الناس إذا تشاجر مع رجل آخر بدأ بشتيمة أمه وأبيه، فيقول: فعل الله بأمك، وفعل الله بأبيك، أو يابن الفاعل ويابن الفاعلة وأمه وأبوه قد يكونان في القبور، فيكون بذلك قد سب مسلماً في قبره، وعدوه أو خصمه الذي يتشاجر معه أمامه لم يتعرض لشيء من هذا -ولا ينبغي أن يتعرض باللعن أو الشتيمة على خصمه- ولكن المصيبة إن تعدت من هذا الخصم إلى والديه.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم والترمذي.
والأحاديث في الزجر عن عقوق الوالدين وأن ذلك من الكبائر كثيرة جداً -يا عباد الله- ويكفي أن نعلم أن عقوقهما كبيرة تكون سبباً لحرمان المسلم من التوفيق وتكفير السيئات؛ لأن الله جل وعلا يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] فكيف تكفر سيئات من أصر على عقوق والديه، أو شتم أمه وأباه متناسياً حقوقهما عياذاً بالله من ذلك؟!(137/2)
مفهوم عقوق الوالدين وأهمية اتباع أمرهما
وحقيقة العقوق -يا معاشر المؤمنين- هو مخالفة الوالدين في كل شأن لهما، فلا يجوز لمسلم أن يخالف أمر والديه، بل تجب طاعتهما أياً كانت الظروف، بل لا يجوز تأخير قضاء حوائجهما التي طلبت على الفور إلا بإذنهما أن تقضى بعد الفراغ أو بعد فراغ الابن من حاجته.
فاحذروا -يا عباد الله- كل الحذر من مخالفة أمرهما والتهاون به، ولو كان الواحد منشغلاً بأجل الأعمال وأزكاها، روى البخاري في الأدب المفرد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تكلم مولود من الناس في المهد إلا عيسى بن مريم وصاحب جريج، فقلنا يا نبي الله! وما صاحب جريج؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن جريجاً كان رجلاً راهباً في صومعة له، فأتت أم جريج يوماً فأخذت تناديه وقالت: يا جريج! وكان يصلي، فقال جريج في نفسه وهو يصلي: يا رب! أمي وصلاتي، فرأى أن يؤثر صلاته، ثم صاحت به أمه مرة أخرى: يا جريج! فقال في نفسه وهو يصلي: يا رب! أمي وصلاتي، فرأى أن يؤثر صلاته فلم يجبها، قالت أمه: لا أماتك الله يا جريج حتى تنظر في وجوه المومسات، ثم انصرفت.
وفي ذلك الزمان كان راعي البقر يأوي إلى أسفل صومعة جريج، وكانت امرأة من أهل القرية تختلف إلى الراعي؛ فولدت منه بعد أن زنى بها، فأتي بالمرأة إلى الملك فقال لها: ممن حملت وولدت؟ قالت: من جريج، قال الملك: أصاحب الصومعة؟ قالت: نعم.
قال: اهدموا صومعته وائتوني به، فضربوا صومعته بالفئوس حتى وقعت، ثم جعلوا يده إلى عنقه بحبلٍ، ثم انطلق به، فمر على المومسات فرآهن فتبسم وهو يذكر دعوة أمه يوم أن قالت: لا أماتك الله حتى تنظر في وجوه المومسات، فرأى المومسات وهن ينظرن إليه في الناس، فقال له الملك: ما تزعم هذه؟ قال جريج: وما تزعم؟ قال: تزعم أن ولدها منك، فقال جريج لها: أنت تزعمين ذلك؟ قالت: نعم.
قال: أين هذا الصغير، قالوا: هو ذا في حجرها.
فأقبل عليه العابد فقال: من أبوك؟ فقال الصغير: راعي البقر، فقال الملك: أنجعل صومعتك من ذهب؟ قال: لا.
قال: أمن فضة؟ قال: لا.
قال: فما نجعلها؟ قال: ردوها كما كانت، قال الملك: فما الذي تبسمت له؟ قال جريج: أمراً عرفته، أدركتني دعوة أمي حين كنت في صلاتي يوم أن لم أجبها ثم أخبرهم بقصته) وقال بعض العلماء: ولعل في شريعتهم آنذاك أن الكلام ليس ممنوعاً في الصلاة، وقيل غير ذلك.
وخلاصة الأمر من هذه القصة يا عباد الله! أهمية اتباع أمر الوالدين فيما ليس بمعصية الله، وتوقي سخطهما ودعوتهما على الابن، فإن دعوة الوالد لا ترد، لذا فأوصيكم ونفسي -يا عباد الله- أن تطلبوا من آبائكم وأمهاتكم أن يخصوكم بالدعاء فيما يخصون به أنفسهم، لأن دعوة الوالد لولده مستجابة بمشيئة الله جل وعلا.
واعلموا معاشر المؤمنين: أن ما ذكرناه من الآيات والأحاديث غير وافٍ في شأن الوالدين، ولعلنا أن نتمه في مناسبة قادمة وإنما أحببنا أن ننبه على أهمية طاعتهما والمسارعة بتحقيق ما أمرا به، أياً كان المسلم منشغلاً بأي عمل جليل من الأعمال إلا أن يكون الأمر معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(137/3)
أهمية تقديم حق الوالدين على الزوجات والأقارب
الحمد لله؛ الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شي، وهو الباطن فليس دونه شيء، وبيده مقاليد كل شيء، جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، كل ذلك تعظيماً لشأنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وسلم الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين: اعلموا أن الله جل وعلا أمركم بالتقوى وخلقكم لعبادته، فإن الله ما خلقكم ليستكثر بكم من قلة، وما خلقكم ليستعز بكم من ضعف، وإنما خلقكم لعبادته، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، فاعرفوا حقيقة ما وجدتم له، وأنيبوا إلى ربكم وتوبوا إليه، واتقوا الله تعالى حق التقوى، وتذكروا أن وجوهكم وأجسامكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله.
معاشر الأحباب: إن من المسلمين هداهم الله من تهاون بحق والديه تهاوناً وصل به إلى إكرام زوجته على حساب أمه، ومنهم من وصل به الأمر إلى أن يفضل رغبة زوجته، وأن يقضي حاجتها قبل حوائج أمه، بل إن منهم من يحب أن يقضي حاجة أدنى زملائه قبل أن يقضي حوائج والديه، أفنسيت أنها حملتك وهناً على وهن تسعة أشهر في بطنها، ولو حملت شيئاً أقل من ذلك على كتفك خارج جسمك لذقت به ذرعاً ولو يوماً أو بعض يوم؟ فما شأنك بمن حملتك، وتوحمت بك، وسهرت الليالي والأيام لأجلك، وبعد أن وضعتك سرت بوجودك حياً سليماً معافى، ثم أخذت تميط الأذى عنك وتنظفك، وترضعك من خالص ثديها، ومن لين درها، وأنت بعد ذلك تقابلها بالإساءة والعقوق، لا والله ما هذا بحق الوالدين ولا هذا بحق الآباء والأمهات.
وتأكدوا -معاشر الشباب- أن الواحد منكم لن يدرك حق والديه إلا بعد أن يرزق بمولود صغير ليعلم كيف يمشي هذا المولود على لحم قلبه، وإن وقع ذلك الطفل على الأرض فكأنما الذي وقع أحشاؤه أو وقع قلبه، وليس الذي وقع هو ولده، من شدة شفقة الوالد على ولده.
إذاً: فاعلموا أن في قلوب أمهاتكم وآبائكم من هذا الشعور ما الله به عليم وإن كنتم لا تدركونه، وإن كنتم لا تحسونه، ولذا فإن حق الوالد عظيم، وجزاؤه على الله إن شاء الله جنات النعيم.
معاشر المسلمين: إياكم أن تقدموا الزوجات على الأمهات! وهذا من البلايا التي حلت في هذا الزمان، فإن الكثير من الناس لا يبالي أن يخرج بزوجته في أي وقت سواء كانت أمه في حاجتها أو لا، ولا يبالي أن يرضي زوجته بما شاءت من اللباس والذهب وغير ذلك دون مراعاة لخاطر أمه، ودون مراعاة لما بذلته في سببه، ودون مراعاة لما بذلته لأجله، فينبغي إن كنت تتودد لزوجتك أن تتودد أضعاف أضعاف ذلك لأمك؛ فإن لها حقاً عظيماً، وينبغي ألا يكون الإنسان متساهلاً لدرجة أن البعض يسمع كلام زوجته في أمه، ويسمع كلام زوجته في أبيه، فيضطره ذلك إلى الخروج من المنزل وهجران والديه وتركهما وهما في أشد الحاجة إليه.
ما هذا بجزاء الإحسان، وما هذا بجزاء التربية، وما هذا بجزاء العطف والحنان، إذاً: فالتفتوا لذلك يا عباد الله! ومن الشباب -هداهم الله- من إذا زاد الريال في يده، ورأى رغبة زوجته في مفارقة أمه وأبيه من غير سبب وجيه أو شرعي يفضي إلى ترك والديه، انشغل بزوجته وبأقارب زوجته وترك أمه وأباه، فهل هذا من العدل والإنصاف؟! وهل من حق الوالدين أن تتركهما في أشد الحاجة إليك وتذهب إلى هنا أو هناك؟! إذاً: فالتفتوا لذلك معاشر الشباب! ومن كان في نفسه أن يخرج من بيت أمه وأبيه فلا يخرج إلا بعذر وجيه شرعي، وبعد أن يستسمح والديه وإن استطاع أن يكون مستقلاً بقربهما حتى إذا دعت حاجة أحدهما إليه انطلق مسارعاً لتلبيتها في أي ساعة من ليل أو نهار.
ومن الشباب هداهم الله من يبلغ به الأمر إلى مقاطعة والده بسبب أمه أو مقاطعة أمه بسبب والده، فلقد عرفنا الكثير منهم هداهم الله يهجر والده لأن أمه غضبت يوم أن تزوج أبوه زوجة ثانية أو ثالثة، فقالت له: لا تذهب إلى أبيك أو لا تفعل له كذا أو لا تقضي حاجته، وهذا لا يجوز؛ لأن أباك له عليك حق عظيم، ولأمك عليك حق عظيم، ولا يمنع غضب أحدهما أن تقضي حاجة الآخر.
إذاً: فالتفتوا لذلك معاشر الأحباب! وفقنا الله وإياكم إلى البر بهما، وفقنا الله وإياكم إلى نيل رضاهما، ونسأل الله جل وعلا أن يرضيهما عنا وأن يجازيهما عما بذلا فينا جنات النعيم والفردوس الأعلى، ونسأل الله جل وعلا ألا يميتهما بعد عمر طويل وعمل صالح إلا وهما عنا في حالة الرضا وقرارة العين، والشعور ببذل الجهد لأجل البر والصلة تجاههما، أسأل الله جل علا أن يغفر لنا ولكم، وأن يغفر لنا ولوالدينا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وعطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد المسلمين بسوء، وأراد علماءهم بمكيدة، وأراد ولاة أمورهم بفتنة، وأراد شبابهم بضلال، وأراد نساءهم وبناتهم بتبرج وسفور، اللهم فاجعل كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم لكتابك وسنة نبيك، اللهم أعزهم بالإسلام، وأعز الإسلام بهم، اللهم اجمع شملهم، ووحد كلمتهم، ولا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم اجعل لكل مسلم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم سخر لنا ملائكة السماء برحمتك، وسخر لنا جنود الأرض بقدرتك.
اللهم يا حي يا قيوم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا فضلك، اللهم لا تحرمنا بمعاصينا رحمتك، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، وعبيد من عبيدك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، اللهم فارحمنا وكن لنا ولا تكن علينا، وأعطنا ولا تحرمنا، وانصرنا ولا تعن علينا، بقدرتك يا جبار السماوات والأرض! اللهم لا تجعل لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته، ولا عاقاً إلا رددته بالبر لوالديه، ولا قاطعاً إلا رددته للصلة برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ولموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(137/4)
بر الوالدين [2]
طاعة الوالدين من طاعة الله تعالى، وفي الواقع نشهد أموراً لا تقرها الشريعة من سوء معاملة الأبناء لآبائهم، وفي المقابل تجد تعنتاً من الآباء تجاه أبنائهم أحياناً.
وفي هذه الخطبة تحدث الشيخ عن عِظَم فضل الأم ومنزلتها، وذكر آثار عقوق الوالدين، إضافة إلى بيان بعض الحقوق الخاصة بالآباء والأمهات على الأبناء.(138/1)
سوء معاملة الأبناء لآبائهم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي وصية الله لكم في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: لا شك أن حق الوالدين عظيم بما عظّم الله، وقرن طاعتهما بطاعته، وثنى بالشكر لهما بعد الشكر له، وحسبكم أن عصيانهما من الكبائر التي تؤدي بصاحبها إلى النار والهلاك إن لم يتب من العقوق والقطيعة، ولقد مر بنا ما وقع فيه كثير من الناس وبالأخص بعض الشباب الذين قدموا طاعة الزوجات على الأمهات، وجعلوا حوائج الوالدين بعد الفراغ من حاجاتهم وحاجات أصدقائهم، فترى الرجل له الولدان والثلاثة يقف على قارعة الطريق صباحاً أو مساء في انتظار لمحتسب يوصله إلى قصده وأولاده على فرشهم، لم يشاءوا أن يقطعوا لذيذ النوم من أجل والدهم، وكثيراً ما نرى المرأة تلتمس من جيرانها وممن حولها مساعدتها في الوصول إلى منزل قريب أو لمناسبة معينة، وأولادها في المنزل يتحاسبون كلٌ يقول لأخيه: أنت تذهب بها.
فيا للحسرة والأسف على شاب بذل فيه والداه الجهد الجهيد، وفي نهاية الأمر لا ينفعهم في أدنى الحوائج، فاحذروا معاشر المسلمين عقوق الوالدين؛ فإن ذلك سبب للشقاء في الدنيا والخزي والعذاب في الآخرة، جاء في الحديث الذي يرويه النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بعطائه) (وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والمترجلة) رواه الحاكم وصححه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أربع حق على الله ألا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن الخمر، وآكل الربا، وآكل مال اليتيم بغير حق، والعاق لوالديه) فإياكم والعقوق، والزموا البر والصلة، واعلموا أن الوالد أوسط أبواب الجنة، فحافظوا على ذلك الباب إن شئتم أو دعوه، وجاء في الحديث عن ابن عباس: (ما من مسلم له والدان مسلمان يصلح إليهما محتسباً إلا فتح الله له بابين من الجنة، وإن كان واحداً فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه حتى يرضى عنه، قيل: وإن ظلماه، قال: وإن ظلماه).(138/2)
تعنت بعض الآباء مع أبنائهم
اعلموا -معاشر المسلمين- أن من الآباء والأمهات من يتعنتون أولادهم في حق طاعتهم تعنتاً شديداً، يصل في بعض الأحيان إلى أمر الوالدين أو أمر أحدهما ولدهما أن يطلق زوجته، أو أن يفارق جلساءه الصالحين وأصدقاءه وألا يخالطهم أبداً، فهذا معاشر الآباء تشدد في باب الطاعة والبر، فما المصلحة لأب أو أم كرها زوجة ابنهما لغير سبب فأمراه بطلاقها، أيريدون أن يتجنوا على تلك الزوجة الضعيفة المسكينة، حتى إذا طلقت عاشت دهرها أيماً لا زوج لها، وقد يجران البلاء والشقاء لولدهما في الحصول على زوجة جديدة قد توافقه وقد لا توافقه، وقد كان قرير العين بزوجته الأولى راضياً بها.
وينبغي للشاب المسلم إذا وقع في مثل هذا أن يحتسب الجهد في إقناع والديه لبقاء زوجته عنده وعدم طلاقها، وتأكيد حق والديه على زوجته بمضاعفة البذل والخدمة والعناية.
أما تشدد بعض الأباء -هداهم الله- على أبنائهم في مجالسة الصالحين والأخيار من الأصدقاء؛ فإنهم بتشددهم هذا؛ يفتحون المجال لهم لمجالسة الأشرار والسيئين والفاسدين، فالنفس لابد لها من صاحب، إما أن يكون جليساً صالحاً أو جليساً سيئاً، وقد يتشدد الأب على ولده في هذا النوع من المجالسة خوفاً عليه ولا شك، فالحل عند ذلك لا يكون بقطع الابن عن أصدقائه وجلسائه الصالحين، بل الصواب هو متابعة الابن والتأكد من ذهابه مع أصدقائه الصالحين وسؤاله عما يدور بينهم في مجالسهم، سؤال تلطف واستفادة متبادلة، لا سؤال تحقيق وامتحان، وعند ذلك يطمئن الأب إلى ذهاب ولده وإيابه.
وبهذه المناسبة أكرر النصح والدعوة إلى الشباب عامة وللأخيار الصالحين منهم خاصة، أن يضاعفوا البذل والعطاء والبر والإحسان بوالديهم، فإن الجميع ولا شك مقصر في هذا الباب تقصيراً عظيماً.(138/3)
عِظَمُ منزلة الأم في الطاعة
اعلموا أن للأم النصيب الأوفى والدرجة العظمى في مقام البر وحسن الصلة، ففي الحديث الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال ثم من؟ قال: أبوك) ولا عجب أن تنال الأم هذا النصيب من البر والصلة ولها حق كبير وكثير، وما نقدمه لها يسير، وقيل بالنسبة لما قدمته لنا:
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها فمن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فآه لذي عقل ويتبع الهوى وآه لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
وذكر أن أبا الأسود الدؤلي تخاصم مع امرأته إلى القاضي في غلامها منه، أيهما أحق بحضانته، فقالت المرأة: أنا أحق به؛ لأنني حملته تسعة أشهر ثم وضعته ثم أرضعته إلى أن ترعرع بين أحضاني كما ترى، فقال أبو الأسود: أيها القاضي: حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، فإن كان لها بعض الحق فيه؛ فلي الحق كله أو جله، قال القاضي: أجيبي أيتها المرأة، قالت: لئن حمله خفاً فقد حملته ثقلاً، ولئن وضعه شهوة فقد وضعته كرهاً، فنظر القاضي إلى أبي الأسود وقال له: ادفع إلى المرأة غلامها ودعني من سجعك.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: (يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري لها حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أن ينزعه مني بعد أن طلقني، فقال: أنتِ أحق به ما لم تنكحي) أي: ما لم تتزوجي، رواه أحمد وأبو داود.
يقول الإمام القرطبي: إن من الإحسان للوالدين والبر بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد إلا بإذنهما، وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: أحي والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد) رواه مسلم.
وروى البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال صلى الله عليه وسلم: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما).
ولا شك أن بكاء الوالدين لما يجره الولد لهما من العقوق كما جاء ذلك في الحديث، ومن الحديث الذي سبق ينبغي لمن أبكى والديه أو أغضبهما أن يتوب إلى الله، وأن يسعى جاهداً لإرضائهما، وأن يسعى جاهداً لأن يرضيا عنه، ولرد الابتسامة إلى وجوههما بفعل يرون منه ندمه وأسفه على ما فرط في حقهما، وذلك بهدية تليق بمقامهما، والدعاء لهما، والتلفظ واللباقة في معاملتهما.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(138/4)
آثار عقوق الوالدين
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، أحمده سبحانه حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند والتظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه، ومن اتبع أثره، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله.
معاشر الأحباب: إن أناساً يعيشون في قطيعة الرحم ويعيشون في عقوق لوالديهم، فهل يأمنون أن يخطفهم هاذم اللذات ومفرق الجماعات وهم على حال كهذه، فأي مصير لهم وأي مصيبة عند سكرات موتهم إن فارقوا هذه الدنيا على حادث أو فجاءة أو أي قدر من الأقدار، وآباؤهم في سخط عظيم عليهم.
وإن رجلاً كهذا قد لا يؤمن عليه من سوء الخاتمة، فعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه آت، فقال: يا رسول الله! شاب يجود بنفسه، فقيل له: قل لا إله إلا الله فلم يستطع أن يقولها، فقال صلى الله عليه وسلم: أكان يصلي؟ قال: نعم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهضنا معه، فدخل على الشاب، فقال له: قل لا إله إلا الله.
فقال: لا أستطيع.
قال: لم؟ قالوا: كان يعق والدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحية أمه؟ قالوا: نعم.
قال: ادعوها، فدعوها فجاءت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهذا ابنكِ؟ قالت: نعم.
فقال لها: أخبريني لو أُججت نار عظيمة، فقيل لكِ: إن شفعت له صلينا عليه، وإلا حرقناه في هذه النار هل كنت تشفعين له؟ قالت: يا رسول الله! إذاً أشفع.
قال: فأشهدي الله وأشهديني أنكِ قد رضيتِ عنه.
قالت: اللهم إني أشهدك وأشهد رسولك أني قد رضيت عن ابني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقالها: ففاضت روحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أنقذ ابنك من النار).
وكان هذا الشاب كما ورد في كتب الحديث يؤذي أمه، ويؤثر رضا زوجته على رضاها.(138/5)
من حقوق الوالدين
الله الله يا معاشر المسلمين في الوالدين، فإن لها حقاً عظيماً، وإن الجميع مقصرون مفرطون في حقهم، وإن من أدنى الواجب أن يكثر الإنسان الدعاء لهما، وكما جاء في الآية: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] أقل الأمر أن لا ينساهم الإنسان في كل صلاة وفي كل دعاء أن يدعو لهم بخالص ما يدعو به لنفسه من الرحمة والمغفرة وهون الحساب ودخول الجنة.
معاشر المسلمين: ومن كان والداه كبيرين، فإنهما أعظم باب لدخوله الجنة، وإنه على خطر عظيم إن ماتا ولم يحسن البر بهما، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنفه! رغم أنفه! رغم أنفه! قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة).
وتأملوا هذه الواقعة أو هذه القصة معاشر المؤمنين، فإن كثيراً من الناس يستكثر ما ينفق على والديه، ويستكثر بقاء والديه في بيته، ويستكثر خدمته وعنايته بهما، وقد نسي ما قدماه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن أبي أخذ مالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ائتني بأبيك، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول: إذا جاء الشيخ؛ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الرجل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك! أتريد أخذ ماله؟ فقال الرجل: يا رسول الله! سله هل أنفقت إلا على عماته أو على نفسه، فقال صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك لم تسمعه أذناك؟ فقال: أفلا محالة يا رسول الله! قال: نعم.
فقال: إني يا رسول الله قلت في نفسي:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهلُ
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهملُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضلُ
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل ُ
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليّ بمال دون مالك تبخلُ
فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ولده، وقال: أتسمع؟ أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك).
إذاً معاشر الأحباب الوالدان لهما حق عظيم، نسأل الله جل وعلى أن يعيننا على القيام بحقهما، وعلى البر بهما، ونسأل الله أن يرضيهما عنا، ونسأله أن يرضى علينا برحمته وبرضاهما عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بالمسلمين سوءاً وأراد علماءهم بفتنة، وأراد ولاة أمورهم بمكيدة، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أرنا فيه يوماً أسود، اللهم أدر عليه دائرة السوء.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد أئمتنا لتحكيم كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، وانصرهم بالإسلام وانصر الإسلام بهم، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واغرس بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا عاقاً إلا إلى البر رددته، ولا قاطع رحم إلا إلى رحمه وصلته برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اجعل ما أنزلته من الخير رحمة بنا، اللهم اجعل ما أنزلته من الخير رحمة بنا من غير استدراج بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
معاشر المؤمنين: إن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة لقدسه، وثلث بكم معاشر المؤمنين من جنه وإنسه، فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبيك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن العشرة المبشرين بالجنة، وارض اللهم عن أهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(138/6)
برقية عاجلة
إن من أعظم ما نعانيه اليوم في جسد الأمة هو أن بعض أعضائها مبتور ومريض وهزيل، ولا مغيث ولا منقذ لأجل علاجه والنظر في حاله، وقد تكلم الشيخ في هذه الرسالة عن إخواننا المسلمين في الصومال ومآسيهم ومعاناتهم، وما يعيشونه من أوضاع تقطع الأكباد، ثم ختمها ببرقية عاجلة إلى جمعيات الإغاثة وجميع المسلمين.(139/1)
الصومال ومآسيها
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله القائل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:11 - 16].
الحمد لله القائل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:44 - 45] والصلاة والسلام على رسوله الأمين القائل: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الخلق لعبادته، وما يعزب عن علمه مثقال ذرة منهم أو حولهم، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، أشهد أن لا إله إلا الله، كلُّ قدرٍ بعدله، وكل قدرٍ بحكمته، ورحمته سبقت غضبه، وهو الرحمن الرحيم، وهو أرحم الراحمين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله جل وعلا في نِعم ترفلون فيها، وتتقلبون عليها، وتسبحون في جنباتها، وتأكلون وتلبسون وتشربون منها: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57].
معاشر المؤمنين! مآسي المسلمين تترى، وأحوالهم عجيبة، وهم جسد واحد، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) فحيثما حللت فرأيت مسلماً فهو عرق من عروقك، وشلو من بدنك، وطرف من جسمك، ونبضة من قلبك، وخفقةٌ من فؤادك.
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
أيها الأحبة! المسلمون في هذا الزمان الذين هم جسد واحد، نعم، إنهم جسد واحد، ولكنه جسد أحواله غريبة، وأطواره شاذة عجيبة، فترى في الجسد جزءً متخماً يجر نواعم الخز والحرير، وترى فيه طرفاً آخر هزيلاً جائعاً، وثالثاً معوقاً لا حراك به، مجروحاً نازفاً، نعم، المسلمون جسد لكنه جسد ممزع، ممزق، مفرق، جسد بعضهم غافل وبعضهم لاهٍ.
آه منا آه ما أجهلنا بعضنا أعمى وبعض يتعامى
نشرب الجوع ونستسقي الظمأ(139/2)
برقية عاجلة من مسلمي الصومال
أيها الإخوة في الله! وصلتنا برقية عاجلة موقعة باسم اليتامى الذين فقدوا الآباء، فلا تسمع إلا صراخهم، ولا ترى إلا دموعاً لا تجد من يمسحها عن خدودهم! ووصلتنا برقية باسم الثكالى اللائي أنهكهن المرض، فلا ترى إلا دموعهن، ولا تسمع إلا أنينهن! ووصلتنا برقية باسم الشيوخ والعجزة الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلاً! ووصلتنا برقية من الصبايا المحطمات هُتكت أعراضهن وحرماتهن.
إن هذه البرقيات كلها من مسلمي الصومال الذين يموتون الآن ونحن نسمع الخطبة، يموت منهم عددٌ من الأطفال وعدد من النساء وعدد من الرجال، برقية مسلمي الصومال لم تجد أذناً معتصمية أو نخوة عربية، فهل نجدها في هذه البلاد؟ هل نجدها في حكامها؟ هل نجدها في رجالها؟ هل نجدها في شبابها؟ هل نجدها في الطيبات من نسائها؟(139/3)
الصومال إلى أين؟
أيها الأحبة في الله! الصومال قطعة جميلة في القارة الخضراء في منطقة القرن الأفريقي، أمة مسلمة نسبة المسلمين فيهم (100%) لا يوجد فيهم أقليات وثنية أو نصرانية، الصوماليون مسلمون (100%)، ولكن الصومال شأنها كشأن غيرها، ظلت ترزح تحت نيران الاستعمار الذي جثم على صدر الأمة زمناً، حتى استقل وتحرر بعد أن قدم أرواح أبنائه، وفلذات أكباده، وخيرات بلاده، تحرر من الكفر الأجنبي، ليستقبل في عصر الخداع وفي عصر التعتيم الإعلامي كفراً محلياً، ودع كفراً أجنبياً، واستقبل كفراً محلياً، في ظل وعود الشعارات الزائفة والسعادة الموهومة، استقبل كفراً أسوأ ظلماً وتسلطاً وجبروتاً من الذي قبله.
وما إن سقط هذا الكفر وسقطت تلك العلمانية، حتى ظهر للمسلمين هناك أن قنبلة موقوتة تنفجر بزوال النظام، حتى تعيش الأمة حرباً أهلية وقبلية بغيضة، وحروباً متطاحنة.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
شعب عدده قرابة التسعة ملايين نسمة، عقيدته واحدة، من عرق واحد، والصوماليون -كما قلت- أمة مسلمة عرفوا الإسلام في زمن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لهم في الإسلام والدعوة إليه تاريخ مشرق ومشرف، ولكن ما إن توالت الدهور والعصور، حتى اكتنفت بهذا الشعب وأحاطت به إحاطة السوار بالمعصم والعقد بالجيد، أحاطت به شلة وشرذمة نصرانية وعلمانية، وأحكمت نطاق حدوده دول نصرانية كافرة، فلا تعجب أن ترى أحوال المسلمين في الصومال أشد مما تسمع، وأبلغ مما يُروى.
نعم.
وفوق هذا كله لا تزال جسور الكفرة تمتد إليهم، لتُغذي الصراع بالسلاح، ولتُغذي القبيلة والعنصرية عبر الإرساليات البريطانية والفرنسية، وأذنابها ممن جاور هؤلاء حول حدودهم وبلادهم، كانت مناطق آمنة، فخلف من بعدهم خلف علماني كافر أضاعوا الصلاة وحكموا القوانين، وأباحوا الزنا، ونشروا الخنا، وأشاعوا الفاحشة، وضاعت تلك الأمة في ظل تلك القيادات الكافرة التي لا هم لأحدهم إلا قول القائل:
إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر
أي: عليّ وعلى أعدائي.
ولينجو الظالم ببطشه وبرصيده وبملكه، لا يبالي أن يشرد ويقتل ويضيع من وراءه.
أيها الأحبة! في فترة مضت -وسمعتم وسمعنا هذا- عُذب العلماء في الصومال، وأُحرق عشرة منهم في ساحة عامة في العاصمة، أحرقوا أحياء بعد أن سكب البنزين عليهم، أما الدعاة فالسجون لها حديث معهم، والزنزانات تعرف أسرارهم، والأغلال تشم أنفاسهم، ولكن من يخبر المسلمين بهذا؟! تعتيم لا نعلمه.(139/4)
انفجار الانتفاضة في الصومال إلى عنصرية وقبلية
أيها الأحبة! ومرت في تلك الفترة محاولات باءت بالفشل، وفي عام (1989م) قامت تلك الأمة المسلمة بانتفاضة تريد التخلص من الجوع والظمأ، تريد التخلص من الكفر، تريد التخلص من الخنا والزنا، ولم تعلم أن الخلاص هو ميقات انفجار قنبلة الحرب الأهلية والقبلية البغيضة، في ظل هذا الوضع انفرط النظام الذي يجمع الناس بالقهر والاستبداد، وسقطت تلك الأمة، وأصبحت القبائل حرباً بعضها على بعض، ولم تُترك تلك الأمة لتعالج أوضاعها بنفسها، بل لا زال الكفر الأجنبي يُغذي أطراف النزاع، لكي يجعلوها لبنان جديدة، ولكي يجعلوها دولة ذات أحزاب متناحرة، هؤلاء مسلمون! وهؤلاء عملاء! وهؤلاء دخلاء! وهؤلاء وهؤلاء أحوال لا يعلمها إلا الله.
أيها الأحبة في الله! تُسلط على هذه البلاد، وحكمت بـ الشيوعية زمناً، تحت مطارق العسف، ومناجل الإجهاض والظلم، ولما تنفسوا الصعداء، وظنوا بأن الأزمة انفرجت، إذا بهم يرون ما يرون، ولكن ينبغي أن نعلم كما علموا أنما يدور بينهم ليست فلتة أو صدفة أو مفاجئة، بل هو مخطط نصراني رهيب، يريد أن يمزق هذه الأمة المسلمة، حتى لا تكون منطلقاً لنشر الإسلام في القارة الخضراء.
بعد أن سقط ذلك النظام انقسمت القبلية إلى ثلاث فرق كبيرة.
إلى قبائل الهوية، وقبائل الدارود، وقبائل الإسحاقيين، وهؤلاء ومن أولهم نزل ما يسمى بحزب المؤتمر الصومالي الموحد، ثم انقسم تحت قيادة زعيمين زيادة على ما ذكرناه من تغذية الدول المجاورة لهذه الحرب الداخلية ولأطماع النصارى والمستعمرين المستفيدين من هذا كله.
إنها مأساة غريبة، وليست كارثة طبيعية، إنها حرب صليبية تشرد بسببها حتى الآن مليونان ومائة وعشرون ألف مسلم ذهبوا ضحايا، ومن نجى من الأطفال نُقل إلى الكنائس في دول الغرب، ونُقل إلى إسرائيل لكي يكونوا جنوداً لليهودية أعداء للمسلمين.(139/5)
أحوال المسلمين في الصومال
أيها الأحبة! وماذا عن آبائنا وأمهاتنا وعجائزنا وأحبابنا داخل الصومال، حدث ولا حرج عن هذه المصائب، وألوان الغارات والنهب والسلب والجوع، إلى حد أنهم جعلوا يطبخون جلود الحيوانات ويأكلونها؛ لأنهم لم يجدوا شيئاً، وهذا واضح ومستفيض في مدينة جلب ومركة وقربولي، أكثر الناس يطبخون -بعد البحث بعناء شديد- من جلود الحيوانات ويأكلونها.
لماذا لم يلتفت إلى أزمة المسلمين في الصومال؟ لماذا لم نسمع بهم؟ لذلك أسباب عديدة، ولا يُعفى إعلام المسلمين منها، ولكن واكبت أزمة الخليج، والناس مشغولون بحرب الخليج عنها، واعتقد الكثير أنها قضية حزبية داخلية بحتة، وحرصت الدول المجاورة على تعتيم عظيم حول هذه القضية، فأنت تسمع عن أجمل فراشة، ولا تقرأ خبراً عن أحوال المسلمين في الصومال، وتسمع عن أجمل قطة، وتقرأ تحقيقاً عن أهدأ كلب، ولا تسمع شيئاً عن أحوال المسلمين والمسلمات.
نعم.
إعلامنا الإسلامي شأنه عجيب في هذا الزمان، فنحن نسمع بالعجائب والغرائب؛ محترف يعتزل، ولاعب يدشن الملعب، ومصيبة تحل، وديانا تطلق زوجها، والأمير تشارلز يبكي على هذا الفراق، أما أحوال المسلمين في الصومال وفي كشمير وفي بورما فلا تجد لها إلا زاوية صغيرة غريبة، فإننا نقول لكل من قدر على أن ينبئ المسلمين بحال إخوانهم: إنك آثم لو سكت.(139/6)
المسلمون داخل العاصمة
الصومال أيها الأحبة! شأنها في الداخل والخارج حرب همجية شعواء، وصل لهيبها وحريقها إلى المدينة، بينما الناس يتجولون في الطرقات، إذا بهم يفاجئون بقذائف الراجمات وأنواع القنابل، فترى الجثث تملأ الأزقة والطرقات، والموت بالمئات في مواقع التجمع والأسواق، حتى امتلأت الأرصفة بالجثث، وباتت الجثث غداءً وعشاءً للكلاب المسعورة، ومرتعاً للجرذان والقطط والفئران، أشلاء ممزقة، رءوس على جنبات الطريق، وأرجل على أطرافها، وأيد لا تعرف لأي جسد تتبع.(139/7)
فرار اللاجئين من الصومال
أما اللاجئون الذين فروا من جحيم الحرب الأهلية بعد سقوط النظام، ترى في وجه كل واحد منهم صفحة تقرأ في سطورها مجسماً لكل معاني الفقر والفاقة والحرمان والجوع والبؤس، ولكل مهاجر قصة، ولكل لاجئ حكاية، ولكل أسرة ألف حكاية وحكاية.
ولكن إلى أين اللجوء؟ إلى أين الفرار؟ اسألوا هذه القوافل، اسألوا البواخر الفارة، والقوافل الهاربة، إلى أين تذهبون؟ إلى أين تفرون؟ يفرون إلى الموت البطيء، إلى الموت الزاحف، يفرون إلى الجوع، يفرون إلى الوباء، يفرون إلى المرض، يفرون ليفترشوا الأرض ويلتحفوا السماء، يفرون إلى الجهل، يفرون إلى لهيب الشمس وحر الهواجر، وزمهرير الشتاء، وصقيع البرد.(139/8)
استقبال جحافل المنصرين للاجئين
هذا شأن الفارين إلى كينيا وإلى الحبشة وإلى إريتريا وأثيوبيا وإلى حدود اليمن الجنوبي، هذه نهاية الرحلة ومحطة الوصول، فمن الذين يستقبلون المسافرين؟ تستقبلهم فيالق السلام، سلام التنصير لا سلام التوحيد، تستقبلهم الجمعيات الصليبية والمنظمات التنصيرية، ولكثرة الزبائن والقادمين والوافدين، أصبح النصارى لا يتورعون أن يقولوا: البس الصليب، وصل للمسيح، واحمل الإنجيل؛ نعطيك غذاء وكساء ودواء، وإن لم تفعل فاذهب إلى محمد يُعطيك لباساً وغذاءً ودواء.
البس الصليب، واحمل الإنجيل، صل للمسيح (يسوع) المُخلص نعطيك اللباس والدواء، فإن لم تفعل فاذهب إلى محمد حتى يعطيك لباساً وغذاء ودواء، إن عيسى لم ينزل في كينيا ولا إريتريا ولا أثيوبيا، ولكن الذين بدلوا دينه وحرفوا ملته، جاءوا يزعمون أنهم أتباع عيسى، ويقولون للناس: هانحن فأين أنتم؟ أما نحن أتباع محمد الذين لم نحرف ولم نبدل.
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
لعلنا تكاثرنا أن نكون مسلمين موحدين، ولكن والله إننا سنسأل عن أحوال إخواننا، لجأ إلى كينيا أربعمائة ألف شخص، والهجرة والرحلة رحلة العذاب والأسى تستمر يومياً في الحدود الكينية بمعدل خمسمائة شخص، إلى منديريا وعيلواق وبانيسا وأيفو وليبوي، أما في أثيوبيا ففي صوفتو وحدها يموت يومياً خمسة وعشرون طفلاً، وكذلك في دولو فليس الوضع بأحسن حالاً من صوفتو، ولا تسأل عن أحوال الذين على أطراف هذه البقعة وتلك البلاد.
أيها الأحبة في الله! واقع الصومال أسوأ من البوسنة والهرسك، واقع الصومال أشد بؤساً من البوسنة والهرسك، ولا يعني ذلك أن نرد شبابنا وأموالنا وجمعيات الإغاثة التي ذهبت من قبل بلادنا، والمخلصين من أبنائنا وعلمائنا وطلبة العلم، لا، وإنما نريد مثلها في الصومال، نريد أن نضاعف البذل وأن نزيد العطاء، حتى يُعبد الله وحده ويُهزم الصليب، ويشفى المرضى، ويكسى العراة، ويشرب الظمأى، ويشبع الجياع.(139/9)
صور من المعاناة والمأساة في الصومال
أيها الأحبة في الله! يقول مدير وكالة غوث اللاجئين الدولية وهو نصراني من النصارى، يقول: لقد عايشت عدداً من الأزمات والكوارث والحروب، ما رأيت أزمة كهذه، أي: مصيبة المسلمين في الصومال.
أيها الأحبة في الله! أما القادمون الفارون من الجحيم، فتسألهم عن البقية الباقية من أحوال المسلمين هناك، فيقولوا: رأيت جثث الحمير وجثث البشر والآدميين تملأ الأزقة والطرقات، كل فر تلقاء وجهه إلى أقرب حدود دولة مجاورة، ولم يبق هناك إلا مشلول لا قدم له تنقله، لم يبق إلا أرملة لا زوج لها، لم يبق إلا عجوز وشيخة لا ولد لهما، أو يتيم لا كافل له، تفرق الناس، وتشتت الأسر، فالأم لا تعرف أين مصير أولادها، والأب لا يدري عن بناته، والزوج لا يعلم شيئاً عن زوجته.(139/10)
تشريد الآباء والأمهات والأبناء بعضهم عن بعض
وخذوا صوراً لكي تعيشوا شيئاً يسيراً من المعاناة والمأساة، في مقديشو، ناقلة تحمل الناس لكي تفر بهم من جحيم الحرب الأهلية وقذائف المدافع العشوائية، فجاءت امرأة ومعها طفلها تريد اللحاق بهذه القافلة والفرار معها إلى رحلة مجهولة، المهم أن تفر من هذا المكان، والقافلة تُسرع، لو وقفت لحوصرت من بعض العصابات واللصوص، فقدمت الأم طفلها، فتناولوا طفلها، ثم أسرعت القافلة ولم تستطع الأم أن تركب معهم، فعاشت وبقيت لتعيش الحسرتين، فراق الوليد وجحيم المدينة، هذه صورة لعدد لا يُحصى من النساء.
أيها الأحبة! ويا تُرى هل يلتقي الطفل بأمه في مقبرة من المقابر أم في الآخرة، أم في مخيم من المخيمات؟! وهذه امرأة حبلى قُتل زوجها في العاصمة، وفرت بجنينها التي تحمله في أحشائها ومعها أطفالها الثلاثة، ولما وصلت منطقة كسمايو وضعت جنينها لتحمل أطفالاً أربعة، وزادت رحى الحرب في المنطقة، فهربت الأم ثم فروا إلى كينيا، ونزلت الأم مع اللاجئين في العراء حيث الموت بكل صوره ينتظرها وينتظر أطفالها، فمات الأطفال أولهم الجنين حديث الولادة، ثم مات الباقون واحداً تلو الآخر، ثم أصيبت الأم بالجنون، وأخذت تدور بين الناس وتقول: كان لي أربعة أطفال كلهم ماتوا، تقول الأم وهي مجنونة: كان لي أربعة أطفال كلهم ماتوا، هل صحيح أنهم ماتوا؟(139/11)
انتهاك الأعراض
ولا تسأل عن انتهاك الأعراض، في براوة حيث فرت الفتيات والنساء إلى المسجد، وجاء قطاع الطرق واللصوص، وناشدوهم ألا يصلوا إلى الأعراض، خذوا الملابس والمال وما تريدون، دعوا الأعراض فاقتحموا المسجد وفُعلت الفاحشة بالنساء.
أما قصة حافلة مليئة بالفتيات لما شقت طريقها نزل الظلمة والطغاة الغاشمون بثلاثين فتاة، نزلوا بهن من الأوتوبيس وفعلوا بهن الفاحشة على الأرض والعراء، ثم صبوا البنزين عليهن وأحرقوهن وذهبوا، ونجت واحدة بحروقها وآثار النار فيها، لتروي مرارة المأساة، وقصة الفاجعة.
وفتاة في أحد المخيمات في الحدود الكينية يجرها جندي كيني، فقابله رجلٌ وقال: ماذا تريد منها؟ وقال بكل بجاحة: دعك ولا علاقة لك بها، فسأل الشاب هذه الفتاة التي لم تجاوز ستة عشر ربيعاً من عمرها، قالت: لقد طلبت منه خمسين شلن كيني، أي ما يعادل خمسة ريالات لأشتري حليباً لأخي الصغير، فلم يقبل إلا بعد أن أوافقه على فعل الفاحشة هذا المساء، وقال: إما أن ترد الخمسين شلن، أو تسلمني نفسها كما وعدت، من ينتصر للأعراض والنساء والضعفاء! وتاجر في كسمايو يقول: كنت أملك ألفين مليون أي: مليارين شلن صومالي، الآن يقول: لا أملك إلا نفسي وهذا الطفل الصغير، ولا أعلم شيئاً عن أفراد أسرتي.
حدث ولا حرج عن هذه المأساة، أما الذين يفرون باتجاه السواحل والبحر، فأولئك يتزاحمون على السفينة، وربما آثرت الأم ولدها فرمته في السفينة وتبقى على أرض المأساة؛ لأن حمولة السفينة لا تحمل الأطفال والأمهات، فلا بد من الخيار المر أن تُقدم الأم نفسها وجنينها، فإذا ركبوا جميعاً غرقوا، أو أن تبقى الأم تعاني المأساة، ويرحل الأطفال رحلة مجهولة، ومنذ مدة أعلنت بعض وكالات الأنباء عن سفينة غرقت وفيها خمسمائة نفس من الصوماليين، تزاحموا على القارب فلما أبحر قليلاً غرق القارب ومن فيه.
أيها الأحبة! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(139/12)
انتشار المنظمات الصليبية على الحدود الصومالية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! أشهد أن لا إله إلا الله، حكمٌ عدلٌ، واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتفطنوا وانظروا حال إخوانكم هناك، لا تُوجد جمعيات إسلامية تُذكر أو جهود تُخبر، لا يوجد إلا منظمة الصليب الأحمر، ومنظمة كير للعناية الكاثوليكية، ومنظمة أطباء بلا حدود الهولندية، ومنظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، ومنظمة أكس فام للإغاثة البريطانية، ومنظمة العون الأمريكي والرؤيا العالمية، ومنظمة جي تي زت الألمانية.
أما الإغاثة الإسلامية فليست في شيء يُذكر، وإني أنادي الإغاثة ومنظمة الإغاثة من هذا المكان، والله لتسألن أمام الله إن كان في رصيد الإغاثة ديناراً لا يصرف على هذه الأزمة.
نعم.
الإغاثة تعمل وتبذل ولها جهود، لكن ينبغي ألا تدخر وسعاً (أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) اللهم أعط كل منفق خلفاً، ولا كرامة للإغاثة فهي من جيوب المسلمين، لست بهذا أتهم الإغاثة بأنها تسرق الأموال، ولكن أقول: الحال في الصومال ليست على المستوى المطلوب، وجهود الإغاثة مقصرة! مقصرة! مقصرة!! فإما أن تبرهن للناس جهوداً واضحة قوية، وتتعاون مع المؤسسات الإسلامية النشطة، كمنظمة مسلمي أفريقيا، أو تقول للمسلمين: إنا نعجز عن أن نقدم شيئاً في أفريقيا، أو يقولوا: إنا نعجز أن نُقدم شيئاً في الصومال، حتى نعرف أين تذهب الأموال، لست أشكك بل أجزم وأقطع وبنفسي رافقت الإغاثة إلى كمبوديا وإلى بكين وإلى بعض البقاع، فرأيت عملاً مشرفاً وجهوداً طيبة، لكني أقول: الجهود في الصومال ضعيفة، الوضع في الصومال غير مشرف، سبع منظمات صليبية بعضها يحتكر الغذاء، وبعضها يحتكر الدواء ينبغي أن يوجد منافسة، وأن تصب الملايين صباً، وهذه برقية عاجلة إلى مدير هيئة الإغاثة: أخبروا المسلمين ماذا قدمتم في الصومال؟ المأساة عظيمة، إغاثة أي: إغاثة لكل مسلم في أي بقعة كان، ومع وجود هذه المنظمات الصليبية التي لا تفتأ أن تُنزل مع الدواء أسلحة، ومع الغذاء متفجرات، حتى تقول للناس: اعملوا واشتغلوا في هذه الحرب الأهلية، حتى إذا كشفت الحرب عن ساقها ظهر لنا أمر عجيب، وجدنا أن الهدف الأول في الحرب الأهلية، هم الدعاة والمتدينون وطلبة العلوم الشرعية.
إذاً ليست كارثة ومفاجئة، بل حرب صليبية يغذيها النصارى بالسلاح تحت الدواء، وبالمتفجرات تحت الغذاء، وماذا يقول بعضهم؟ تقول بعض منظمات الإغاثة: إن هؤلاء الأصوليين هم الذين يحولون دون وصولنا إلى كثير من المناطق التي نريد أن نصلكم فيها، لكن هؤلاء المتشددون الوهابيون المتطرفون هم الذين يمنعون وصولنا إليكم، حتى يثيروا الأحقاد والعداء في نفوس الفقراء على العلماء وطلبة العلم، فإذا جاءوا يدعونهم أو يحذرونهم من التنصير، أو يدعونهم إلى التوحيد، قالوا: أنتم أعداؤنا فلا نقبل منكم شيئاً.
ما هي احتياجات المسلمين في الصومال؟ الغذاء، الماء، الدواء، الكساء، الخيمة، هذا الذي يريدونه، يريدون شيئاً يفضل عنا، يريدون شيئاً لا يساوي عشر ما نصرفه في حفلة زواج.(139/13)
وضع المسلمين اللاجئين في الحدود الصومالية
أيها الأحبة! الوضع سيئ جداً جداً، أما الماء الذي يشربونه فلا أنهار جارية، إنما من المستنقعات المليئة بكل ما يسبب البلهارسيا والملاريا والدسنتاريا المليئة بالجراثيم العجيبة، وربما جفت بعض المستنقعات فرحلت الهياكل العظمية التي كُسيت بجلد جاف رقيق بجالون صغير ساعات طوال تبحث عن مستنقع لم يجف بعد، تجد فيه قطرة ملوثة مملوءة بكل شيء، من ألوان الجراثيم والفيروسات والبكتيريا، وإذا وصلوا إلى مستنقع فيه بقية من ماء ملوث، لابد أن ينتظر الساعات حتى يصل الدور إلى جالونه؛ لأن الناس طوابير على هذا المستنقع.
أما السكن فأغصان من الشجر تغرز في الأرض، ويلقى عليها أسمال بالية وخِرق ممزقة، لا تجاوز مساحتها الخمسة أمتار، فهذه العُشيشة هي المطبخ والمجلس والمرقد، وأي مطبخ وهل هناك آلة طبخ؟ أو شيء يُطبخ؟! الله المتسعان.
أما اللباس فلا عجب أن ترى الأطفال حتى الثامنة ذكوراً وإناثاً عراة ليس عليهم حتى ما يستر عوراتهم المغلظة، أما الكبار فأكوام من النساء لا يستطعن الخروج لعدم وجود ما تُستر به العورة، والرجل لا يجد إلا ما يستر عورته المغلظة.
أما الجنائز فموت الرجل أو المرأة يفرج كربة عريان من العراة، فبموته يؤخذ منه لباسه لكي يُكسى به حي آخر لا لباس له، وبماذا يُكفن هذا الميت؟ ربما دفن عرياناً، وربما كفن بما يوجد من قراطيس وكراتين ونحوها.
أيها الأحبة في الله! أما عن الدواء فلا يُوجد على الإطلاق، وانتشر بينهم مرض اسمه: مرض المرسمس، هذا المرض ينتفخ فيه بطن الطفل انتفاخاً عجيباً، ويُضخم فيه وجهه ورأسه، وتضمر عظامه، ويبقى في حالة عجيبة، ثم بعد ذلك يصب جوفه الإسهال كالماء، ثم يصب الدم كالماء، ثم يموت موتاً بطيئاً.
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وأن المنايا قد غدون أمانيا
يفرح بعضهم أن يموت من أمامه، يجد الموت فرجاً، وفراق الحياة بشارة، حتى يرتاح من هذه المعاناة التي تراها، قال أحد الشباب -وكل ما أذكره لكم من تقارير موثقة، ومن رجلين صالحين ذهبا بنفسيهما، ورأيا بأم عينيهما ما ذكرته لكم أيها الأحبة- لا تسأل عن هذا المرض الذي انتشر فيهم، والجفاف الذي كسا أبدانهم، يصيب بعضهم أو أكثرهم مرض إذا أخذت بجلدة يدي أحدهم أو بجلدة من رقبته أو صدره، ثم جذبت الجلد وأطلقت يدك عنه، فإنه لا يرجع إلى وضعه الطبيعي من شدة الجفاف، حتى ترده من جديد إلى وضعه الطبيعي.
قال -الراوي- ورأينا خيمة دخلناها فوجدنا فيها امرأة مضرجة بالدماء، ينزف الدم من أنفها ومن فمها -أعزكم الله والمسجد والملائكة والسامعين- وينزف الدم من قبلها ومن دبرها، فسألناهم عنها، ما هذه المرأة؟ قالوا: إنها مريضة، قلنا: وماذا تنتظرون؟ قالوا: ننتظر حتى تموت، لنستفيد من خيمتها وملابسها.
وهذا رجل وزوجته مقطوعة أطرافهما، وأطفالهما مصابون بالإسهال، فسألنا عنهم، فقلنا: ما هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء مرضى، وعلى أية حال ربما يموتون بعد خمسة أيام ويستفاد من مكانهم، أصبحت الناس تريد الموت، وتجد في الموت راحة، وتجد في الموت كساء، وشبعاً، ورياً، وأماناً، وطمأنينة، أما الحياة فمرض وجوع وعري وعطش وسقم ونهب وفزع وقلق وخوف.
أما الغذاء إذا وصل إلى تلك المناطق، فلا يقال لهم لقد جاءكم غذاء، إنما يقال: وصلت حملة طبية معها أدوية، ثم تنصب الخيمة والغذاء فيها، ويُدخل المرضى حسب الترتيب الأولوي لأشدهم مرضاً، ثم يعطى الغذاء بملاعق كأنه يعطى الدواء، إذ لو علم أولئك اللاجئون أن هذه القافلة القادمة أو السيارة الواصلة تحمل غذاءً، لتقاتلوا عليها وتناهبوها ولا يلامون من شدة الجوع.
سلوا أنفسكم ماذا ستأكلون بعد الصلاة هذا اليوم، ما هي أصناف الغداء التي ستأكلونها بمشيئة الله بعد الانصراف من الجمعة؟! انظروا أولئك وتذكروا المائدة التي سوف تنزلون عليها.
أما المقابر أيها الأحبة! فما بين كل عشرة إلى عشرين خيمة، تجد قبوراً لخمسة أو ستة، وليس عجيباً أن تجد رجلاً يقول مات لي طفل اليوم وبالأمس مات لي طفلان، وعندي طفل أو اثنان مرضى.
أما النساء الحوامل فثمانون بالمائة من النساء الحوامل يمتن ويفارقن الحياة، ويلفظن النفس أثناء الطلق والولادة لعدم وجود العناية والرعاية بهن.(139/14)
نداء إلى كل مسلم
يا أمة الإسلام! من يشتري الجنة بدعوة إلى التوحيد ومواجهة للتنصير؟! من يشتري الجنة بلقمة تدفع الموت، وبجرعة تبرئ السقم، وبغرفة ماء ترد الحياة، وبلباس يستر العورة؟! أين من أسرف على نفسه بالذنب والمعصية؟ دونك باب عظيم في الصومال، إغاثة اللاجئين تُكفر به ذنوبك وخطاياك: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
هل في المسلمين تاجر يهجر مكتبه أو شركته، أو يهجر شاشة الأسهم وبورصة العملات، ليعقد أكبر صفقة رابحة مع الله في إنقاذ عباد الله اللاجئين من الشرك، الفارين من التنصير، الهاربين من المرض والجوع والعطش؟! هل يوجد ثري يسافر إلى هناك؟! هل يوجد من يُغير خط الرحلة، من نيس وكان وماربيا وجنيف ليجعله إلى صوفتو وغيرها، من المواقع التي تمتلئ بالمساكين الصوماليين؟! أين من يملك طائرة خاصة يتجول بها، أو ينقل بها الضيوف ليحضروا زواج ابنته في لندن، هل يذهب بطائرته إلى هناك لكي ينظر أحوال المسلمين؟! هل يوجد من يسير إلى تلك البقاع؟! هل في شبابنا من يجمعون المال ويسافرون، وينتظمون في سلك الإغاثة، ويقولون لهيئة الإغاثة: أعطونا المال والدواء، وجهزوا كل السُبل ونحن ننفذ إن لم يوجد عندكم جهاز يكفي للتنفيذ؟! هل فكرنا أن نزور هذه المنطقة؟! أيها الأحبة! منذ مدة وجهت إلينا دعوة لنحضر زفافاً في فندق الإنتر كونتيننتل، فقلت: لا والله لا نحضره، وحرام على أهلي أن يحضروه، ولا يجوز لنا أن نحضر، إيجار الصالة في ليلة واحدة مائة وخمسين ألف ريال! حفلة زواج بمائة وخمسين ألف ريال! ومنذ مدة حفلة زواج في فندق الإنتر قبل الحفلة قُدم للمغنية ستون ألف ريال، أو لمطرب من المطربين قدم له ستون ألف ريال لكي يغني في العروس والعريس، إنا لله وإنا إليه راجعون!! ألا تخشون أن يصيبنا ما أصابهم؟! ألا تخشون أن يحل بنا ما حل بهم؟! ألا تخافون أن يخسف الله بنا؟! قلتها في الجمعة الماضية: إناء من العجين يُصنع به زخرفة، عجين الطعام الذي لا يجدونه ليأكلونه يُصنع به زخرفة في مناسبة من المناسبات.
يا أمة الإسلام! والله إنا لنخاف على هذه النعمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] الناس تموت جوعاً ومرضاً، ومنا وفينا من يتسابقون لوضع أكبر دش يستقبل الـ إم بي سي والقاهرة والكويت، وربما استقبل بعضهم ستة وأربعين محطة فضائية، نعم.
يستقبلون ماذا؟ يستقبلون الحفلات والرقص والغناء واللهو، وليس في هذه الأقمار الصناعية أو المحطات الهوائية ما ينقل لنا أحوال المسلمين.
يا أمة الإسلام! كم تبكي عيون بنيك دماً؟! حسبنا الله ونعم الوكيل! إننا من هذا المكان نناشد كل مسئول في الإعلام بأن تظهر تقارير على الأقل نصف أسبوعية عن المسلمين في الصومال، وفلسطين والبوسنة والهرسك، وبورما وكشمير وفي كل بقاع الأرض، حتى نبرهن إسلامنا في إعلامنا، وفي تصرفاتنا، أما أن تمر الشهور ونرى العجائب، ولا نرى شيئاً عن أحوال المسلمين فهذه مصيبة، ولابد من إيجاد البرامج والحوارات واللقاءات والتحقيق المصور، حتى يظهر الأمر على حقيقته.
ختاماًَ أيها الأحبة! لا يزال المسلمون يكرهون النصارى هناك، لا يزال الفقير الجائع العطشان العاري يكره النصارى، ويريد لقمة من مسلم، ولا يريد طبقاً من كافر، فهل هناك مسلم يذهب؟ أسأل الله جل وعلا أن يدفع البلاء عنا وعنكم.
إخواني: ستجدون على الباب من يجمع، وإني لا أعذر أحداً يخرج إلا وقد تبرع، فإن لم يجد فيأتي بالتبرع، ويأخذ على عاتقه بأن يقدم أسبوعياً مائة ريال فقط، اجمعها وليست من جيبك، لو أننا في كل جلسة وفي كل زواج وفي كل مناسبة، بعد أن نشبع ونهضم ما نملأ به البطن بالببسي كولا، بعد أن نشبع ونتجشأ، ونقول: يا إخوان! شبعتم وغيركم جياع، ليعطينا كل واحد منكم خمسة ريالات يجمعها على مدى الأسبوع، قدمها لهؤلاء صدقة تدفع عنا البلاء، إن كنت تريد أن تعيش على هذا الوضع آمناً مطمئناً في علاج ودواء وأمن طُرق وخير ودعة وراحة، إن كنت تريد أن يعيش أطفالك فانتبه لأطفال المسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال، اللهم فرج كربة المسلمين في الصومال وفي البوسنة والهرسك، اللهم أهلك الصربيين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم كن في عون المسلمين في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين في تونس والجزائر وفلسطين وفي سائر البقاع، وفي كشمير وبورما وسائر الأرض يا رب العالمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تُفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم قنا شر الفرقة والخلاف والضياع، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وحكّامنا ودعاتنا على طاعتك، ربنا لا تُفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، ولا تغير ما بنا من النعيم، اللهم زدنا من هذه الخيرات، وزدنا شكراً وعبودية لك يا رب العالمين! اللهم صل على محمد وآله وصحبه.(139/15)
آداب التوبة
إن مما يشرح الصدور أن نرى شباب الأمة قد عادوا إلى رشدهم، وتابوا إلى ربهم، وأسلموا له أمورهم، وهذه أعظم نعمة يمن الله بها على هذه الأمة، ولكن هذه النعمة لابد لها من آداب تتبعها لتدل على صدقها وقبولها، ولابد من الحذر من تثبيط إبليس والاجتهاد في مواصلة الأعمال والطاعات.(140/1)
آداب التوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا معاشر المؤمنين! أن مما يشرح صدر المؤمن ويثلجه، أن يرى شباباً تابوا إلى رشدهم، وارعووا عن غيهم، وأنابوا إلى ربهم، وأسلموا له الأمر في القول والعمل، في الدقيق والجليل، وتلك والله نعمة على الأمة، فمن أعظم نعم الله عليها أن يهتدي شبابها، وأن يكثر الصالحون فيها.
ولكن أيها الأحبة! إن من الأمور التي ينبغي أن يعيها كثير من الشباب بعد توبتهم إلى الله، والتزامهم بأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، هو إدراك أن التوبة من الذنوب والخطايا والآثام لها آداب من أهمها، ومن أهم مقومات قبولها ودلائل صدقها ما يأتي:(140/2)
تحقيق التوحيد والإكثار من الأعمال الصالحة
بأن يكثر العبد من الأعمال الصالحة، وأن يجتهد في محو السيئات بالحسنات، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
قد يحار كثير من الشباب في فعل العبادات المكفرة للذنوب، المحيية للقلوب، فلا يعرف بعضهم إلا القليل منها، وبعضهم يجهلها، وهي والله سهلة ميسورة، وأهمها وأجلها فعل الواجبات وترك المحرمات، فما تقرب عبد إلى الله بشيء أحب إلى الله مما افترضه عليه، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
فالعناية بهذا من أجل ما يلقى اللهَ به عبدٌ من عباده، بعد تحقيق التوحيد والصدق في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
روى عبد الرحمن بن شماسة المهري رضي الله عنه، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: [يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله] يقولها صحابي من الصحابة، إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ثم قال رضي الله عنه: (إني قد كنت على أطباق ثلاث -أي: على أحوال ثلاث- لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي، أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمنيك فلأبايعنك، فبسطه يمنيه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال صلى الله عليه وسلم: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، فقال صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله، ثم لم يكن أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم إنا ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي).
الشاهد والحاصل يا عباد الله! إن أجل ما يرجو به العبد ربه تحقيق التوحيد.(140/3)
الاجتهاد في عمل الطاعات
أيها الإخوة في الله: إن العبد مأمور بعد التوبة بالإكثار من الحسنات، لتكون ماحية للسيئات، ومرجحة لكفة الصالحات في ميزان الأعمال.
إن العبد مأمور أن يكثر من الحسنات ليتذوق بها لذة ما فاته من نعيم العبادة، والأنس بالطاعة، وهذا أمر ندركه بالحس والملاحظة، لو سأل بعض الشباب أنفسهم عما كانوا يلاقونه ويعانونه من قلق النفوس، وشرود الأفكار، واضطراب الأعصاب، بالرغم مما كانوا يمنحونه ويتيحونه لأنفسهم من إغراق في الملذات والمحرمات، والشهوات المفسدات، وبالرغم مما كانوا يستجيبون فيها لأدنى النزوات، ظناً منهم أن تحقيق رغبة النفس يورث السعادة والراحة والاطمئنان، ما الذي كانوا يجنونه ويلقونه بعد فعل المعاصي؟ كان الواحد منهم إذا وقف أمام المرآة يرى الظلمة في وجهه، والكآبة في محياه، والذلة في شخصه، ويصبح في حالة نفسية عجيبة، يريد أن يخرج منها فلا يجد مخرجاً إلا بإشعال السجائر، والسهر مع الأصدقاء إلى آخر الليل، وقد يبلغ الحد بهم إلى شرب المسكر، وتناول المفتر والمخدر، لكي يخرج من نكد الوجود، وألم الإدراك والمشاهدة مما يفعله ويرتكبه.
ومثل حاله كحال من رام تغسيل الدم النجس بالدم الذي هو أنجس منه، فكم يفوت المسلم في حال المعصية من الملذات، والأنس بالطاعات والأجور والبركات! حدث عن الخسارة في هذا ولا حرج، ثم بعد ذلك انظر إلى نفس ذلك الشاب الذي أسرف على نفسه انظر إليه بعد أن تاب إلى الله وأناب إلى ربه، وانكسر إلى خالقه، ولينظر الشاب أيضاً إلى نفسه، مقارناً صورته السابقة بحالته الراهنة بعد التزامه واستقامته، ترى ويرى البِشر والنظارة في وجهه، والأنس والسرور على محياه، والنور يشع من جنبات نفسه بحسب اجتهاده في الطاعة والعبادة، فيزول عن صورته ذلك الجبين المقطب، والظلام المخيم، وخبث النفس الدائم، وسرعة الغضب، وتهيج الأعصاب لترى ذلك الشاب خاشعاً مخبتا، مطمئناً هادئا، حيياً حفياً.
إذاً أيها الأحبة: لا بد أن يجتهد العبد في الطاعات بعد التوبة، وليكثر من الأعمال الصالحة، ليحصل على ما فاته وما مضى عليه من الأنس والسعادة، وليتدارك ما مضى بالاجتهاد فيما بقي.
جاء أحد الصحابة رضوان الله عليهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (يا رسول الله! أذنبت ذنباً، فأطرق الرسول صلى الله عليه وسلم برأسه قليلاً، ثم تغشاه الوحي، ثم التفت إلى ذلك الصحابي، وقال له: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(140/4)
يسر الشريعة الإسلامية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، أنشأنا من العدم وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وأمننا في أوطاننا، وأصلح بالنا وهدانا، نحمده سبحانه ونسأله الهداية والتوفيق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضو بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: إن تكفير الذنوب بعد التوبة والإكثار من الصالحات، يكون إما بمحو السيئات، أو بتبديلها حسنات، فالمحو كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) وأما التبديل فكما في قوله الله جل وعلا بعد أن ذكر الذين قتلوا النفس وزنوا، قال سبحانه: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
أي: بعد توبتهم.
فيا معاشر الشباب: يا معاشر المؤمنين! أقبلوا إلى رب غفور رحيم، غني كريم، غني عنكم ويبسط يده إليكم، ويفرح بتوبة عبده أشد من فرحة أحدكم لو ضلت ناقته وعليها طعامه وشرابه، أشد من فرح أحدكم إذا وجد ناقته بعد أن ضلت عنه، وهو في فلاة قفر مهلكة، وقد كان عليها طعامه وشرابه.
عباد الله: إن دين الله سهولة ويسر، إن دين الله نور وطمأنينة، إن دين الله فرحة وسعادة، أقبلوا يا شباب الإسلام ولا يردنكم الشيطان، ولا يثبطنكم عن التوبة والمبادرة، فإن الإنسان لا يدري هل يمهل يوماً أو يومين، أو شهراً أو سنة أم لا، فبادروا إلى التوبة يا عباد الله.(140/5)
الحذر من تثبيط إبليس
إن كثيراً من الشباب يعلم هذه الآيات، وهذه الأحاديث، ولكن حينما تهم نفسه بالتوبة الصالحة، حينما يبدأ الخطى العملية في مجانبة المنكرات، وفعل الصالحات، وترك قرناء السوء، ومجالسة قرناء الصلاح والاستقامة، يأتيه الشيطان من كل جانب، أتظن أنك قادر أن تفعل؟ أتظن أنك قادر أن تستقيم؟ أتظن أنك قادر أن تستمر؟ أتستطيع أن تترك الغناء؟ أتستطيع أن تترك اللهو؟ أتستطيع أن تترك الشراب؟ أتستطيع أن تتوب من العودة إلى الربا؟ ثم يعظم عليه أمر التوبة، تعظيم تعجيز لا تعظيم قرب، ولا تعظيم تهيئة، يعظم عليه شأن التوبة لكي يعجزه ولكي يبعده، ووالله لو بدأ خطوة أولى لوجد الطريق مضاءة، والسبيل ميسراً والأعوان كثر، والأحباب أكثر.
إذاً: يا عباد الله! أقبلوا على الله سبحانه وتعالى، يا أخي الشاب! أقدم واسمع إلى قول ابن القيم رحمه الله:
واقدم ولا تقنع بعيش منغص فما فاز باللذات من ليس يقدم
وما ضاقت الدنيا عليك بأمرها ولم يك فيها منزل لك يعلم
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم
واسمع إلى قول القائل:
قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن
عباد الله! (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) اعلموا أن كفارات الذنوب كثيرة، بل كل دين الإسلام -ولله الحمد- رفعة للدرجات، وتكفير للخطايا والسيئات، فأقبلوا على الله، وأكثروا من الحسنات الماحية للسيئات، اسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم إلى الثبات والاستقامة، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، ومن الحور بعد الكور، ومن الزلل بعد الاستقامة.
اللهم ثبتنا على دينك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم لا تكلنا إلى ضعفنا، اللهم لا تكلنا إلى عجزنا ومنقصتنا، اللهم إن تكلنا إلى أنفسنا تكلنا إلى ضعف ونقص وعورة وعجز، وإن وكلتنا إلى جنابك الكريم، ووجهك العظيم، فنحن بك وحدك لا شريك لك نرجو الرحمة، ونسألك الجنة، ونعوذ بك من النار يا ربنا، يا خالقنا.
نسألك اللهم أن تتجاوز عن سيئاتنا، وأن تضاعف حسناتنا، اللهم يمن كتابنا، اللهم اهد أعمالنا، اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه شاربين، وعلى الصراط من العابرين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين، وآتنا صحفنا باليمين، وأدخلنا الجنة بسلامٍ آمنين أول الداخلين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، واجمعنا اللهم بهم في دار كرامتك يا رب العالمين، ومن كان منهم حياً، اللهم فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك المجاهدين، اللهم انصر جندك الموحدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم أهلك الشيوعيين، وعملاء الشيوعيين، وأذنابهم، ومن والاهم، ومن نصرهم، ومن نشر مذهبهم، وعمل بأفكارهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم انصر عبادك المجاهدين، اللهم وحد صفهم، واجمع شملهم، وسدد رصاصهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.(140/6)
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؟
أيها الأحبة: أتظنون أن الله سبحانه وتعالى خلقكم وجعل لكم الأسماع والأبصار، والأفئدة والجوارح والحواس عبثاً؟ إن العاقل ليعلم أنه لم يُخلق عبثاً ولن يُترك سدىً، ولكن ما هي الفائدة التي من أجلها خلقنا؟ وكيف نقيم هذه الغاية ونداوم عليها؟ هذا ما ستجدونه في طيات هذه المادة.(141/1)
الغاية من خلق الإنسان
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستهديه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك كل من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، والند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خير إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شر إلا وحذر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: كل عاقل يعلم أن الله لم يخلقه عبثاً، ولن يتركه سدىً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36].
معاشر المؤمنين: أتظنون أن الله سبحانه وتعالى خلقكم وركب فيكم الأسماع والأبصار، والأفئدة والجوارح والحواس، وأموراً خفيت عليكم ونعماً لا تحصوها عبثاً؟ أفترون أن هذا كله خُلق عبثاً؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
إذاً: لأي شيء خُلقنا؟ ولأي حكمة وجدنا؟ خلقنا لعبادته سبحانه، خلقنا لنفرده وحده سبحانه بالعبادة لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ما خلقنا الله ليستكثر بنا من قلة، أو ليستغني بنا من فقر: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:57] ما خلقنا الله ليستظهر بنا من قلة علم، أو ليستقوي بنا من ضعف: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
معاشر المؤمنين: من أجل هذا خلقتم، ولأجل هذا وجدتم، فهل تصرفاتكم تبرهن ما خلقتم لأجله؟ وهل أعمالكم تثبت لأي شيء خلقتم، أم أن الكثير قد انصرف عما خلق لأجله، وانشغل بما تكفل الله له به؟ إن الخلق خلقوا لعبادة الله سبحانه وتعالى، تلك التي تنفعهم وتُوضع في موازينهم وتُرجح صحائفهم، وتكون بعد رحمة الله سبباً لدخولهم الجنة، إن كثيراً من العباد في غفلة عن هذا الأمر، وقد انشغلوا بأمر قد تكفل الله به، قد انشغلوا وتشاغلوا بأمور قسمها الله سبحانه وتعالى ألا وهي الأرزاق ومتاع الدنيا.
يا بن آدم! إن الله جل وعلا خلق دواباً صغيرة لا تبصرها ولا تراها، وجعل لها سمعاً وبصراً وأجهزةً هضمية وتناسلية، وجعل لها من وظائف الخلق والمعيشة ما الله به عليم، أفتظن أن الله ينساك ويتركك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].(141/2)
الرزق مقسوم والأجل محتوم
يا بن آدم: إن الله خلقك ولن يُضيعك، وإن رزقك الذي تشاغلت به قد قسمه الله لك وأنت نطفة في رحم أمك، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ويُؤمر بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أم سعيد) فالرزق قد كتب وأنت في رحم أمك، والأجل قد كتب وأنت في رحم أمك.
إذاً فلا الحرص على الدنيا يزيد نصيبك فيها، ولا القناعة فيها تقلل حظك منها، ولا الإقدام على الدعوة والصدق في الحق يقرب أجلك، ولا الجبن والخوف والخور يُبعد أجلك ولو يوماً واحداً: {إذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
(بكتب رزقه وأجله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -وجاء في بعض الروايات: فيما يظهر للناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
إذاً يا عباد الله! الأرزاق والآجال بيد الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن لا ننشغل بها عما خلقنا لأجله وهو العبادة، ينبغي أن نُسخر طاقاتنا وأوقاتنا، وقدراتنا وتصرفاتنا وأفعالنا، ينبغي أن نسخرها لوجه الله سبحانه ولعبادته وحده.(141/3)
شروط قبول العمل ولوازمه(141/4)
أهمية المتابعة في الأعمال
أيها الأحبة: أترك أمر العبادة لكل واحد منا أن يتعبد كما يحلو له؟ لا وألف لا.
إن العبادة أمر مشروع من الله سبحانه وتعالى، ولابد أن ننطلق فيها عن أمر من الله أو أمر من نبيه صلى الله عليه وسلم، لم تُترك العبادة ليتعبد الإنسان كيفما يحلو له، يصلي يوماً خمساً ويوماً أربعاً، أو يوماً سبعاً ويوماً ثمانياً، يصوم هذا ويترك هذا لا، إن العبادة لا تبد أن تنطلق من أمر عليه شرع من الله سبحانه، وعليه شرع من نبيه صلى الله عليه وسلم، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه، مضروب به في وجهه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي: مردود، وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فلابد أن يكون منطلق العمل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كل فعلٍ صالح وعمل طيب لابد وأن يكون عليه دليل من كتاب الله وسنة نبيه، إما بخطاب تكليفي ورد به خصوصاً، أو بقاعدة عامة يندرج فيها هذا العمل.
وماذا بعد العمل يا عباد الله؟ يبقى أساس الأمر ولبه وذروة سنامه ألا وهو الإخلاص، الإخلاص الذي يجعل كثيراً من الناس يستنكر أعماله ولا يجد بريق نتائجها.
إن الكثير منا ليعمل أعمالاً ويبذل جهوداً، ولكن النتائج -والنتائج بيد الله- لا تكون على حسب ظنه، أو لا تكون على قدر توقعه لماذا؟ فليتهم إخلاصه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو تُعبد له الليل والنهار، وصيمت له الأيام، وأُدخل في هذا العمل أحد سواه؛ فإن الله يرفضه ولا يقبله، ومن أجل هذا فكل عبادة ليس عليها أمر الله أو أمر نبيه ولم تكن خالصة لوجه الله فهي مردودة على صاحبها، ويجعلها الله هباءً منثوراً: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(141/5)
أهمية الإخلاص في الأعمال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، فهي سبب أمنكم وعزكم ورفعتكم وسيادتكم، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: الإخلاص شأنه عظيم، الإخلاص مكانته من الأعمال جليلة، ولا يُقبل عمل ليس خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، إن الله لم يأمرنا بالعبادة وحدها، بل أمرنا بالعبادة مقرونةً بالإخلاص: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ينبغي أن يكون الإخلاص قائدنا ومحركنا وباعثنا في كل أمر من الأمور التي نفعلها أو نذرها ونتركها.
ينبغي أن يكون فعلنا للأمور منطلقاً من إخلاصها لوجه الله سبحانه وتعالى، وتركنا واجتنابنا للنواهي والمحرمات إخلاصاً لوجه الله، ومراقبةً الله، وخشية من عقاب الله، لا أن يكون عن عجز وضعف عن نيل ذلك الحرام أو المنكر أو المكروه.
معاشر المؤمنين! يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فاحذروا -يا عباد الله- أن يخالط أعمالكم شيء من الرياء أو الشرك أو شيء من ابتغاء حظوظ فانية رخيصة عاجلة، ابتغوا ما عند الله فما عند الله خير وأبقى؛ ومن أجل هذا -يا عباد الله- فإن الأعمال ولو كانت قليلة إذا زينها الإخلاص ضاعفها الله بالقبول وبمضاعفة الحسنات حتى يجدها عند الله أعمالاً كالجبال بسبب الإخلاص، وبسبب مراقبة الله سبحانه وتعالى.
ومن أجل هذا تفاوت الناس وتباينت درجاتهم، لماذا رجح إيمان أبي بكر الصديق على إيمان الأمة أجمع، لو وضع إيمان أبي بكر في كفة ووضع إيمان الأمة في كفة لرجح بها إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه؟ والله ما هو بكثير صلاة ولا صيام فاق به سائر الأمة، لكنه لأمر وقر في قلبه رضي الله عنه، ومن أجل هذا كانت له مكانة عظيمة عند الله وعند نبيه صلى الله عليه وسلم.
يقول الحسن البصري: [الناس هلكى -جمع هالك- إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم].
لابد أن يستديموا الإخلاص ويلازموه في كل أعمالهم حتى يكون العمل من أوله إلى آخره خالصاً لوجه الله وحده لا شريك له، ثم ماذا بعد ذلك؟ اسألوا الله قبول الأعمال، إننا لنرى في أنفسنا وفي كثير من إخواننا من يأتي إلى الصلاة فينقرها كنقر الغراب، أو يفعل شيئاً من العبادة ويظن أن الأمر قُبل بلا شك ولا محالة.
مسكين هذا الذي يمتن على ربه بعبادته، مسكين هذا الذي يمن على خالقه بصلاته، قِف مع نفسك قليلاً: هل أديت هذا العمل في وقته وعلى نحو ما شرعه الله؟ وهل باعثك إخلاصه لوجه الله؟ ثم قف خاشعاً ذليلاً متضرعاً، واسأل ربك أن يكون العمل قد قُبل؛ فإن المحروم من يعمل أعمالاً يضرب بها وجهه ويلف كما يلف الثوب الخلق.(141/6)
الخشية من الله والخوف من عدم قبول العمل
لابد أن تقف سائلاً الله بعد نهاية كل عمل قبوله، اسأل ربك القبول، فإن المحروم الذي ليس له من صلاته إلا التعب والسهر، وليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، وليس له من أفعاله إلا ثناء الناس وحديثهم وليس له نصيب عند الله؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن المحروم هو الذي ينال شيئاً من الثناء والمديح وليس له عند الله مكانةٌ ولا منزلة، ولا رفعة لدرجاته، ولا ثقل في موازين أعماله الصالحة.
إذاً: يا عباد الله: اسألوا الله قبول أعمالكم وتذكروا قول عائشة رضي الله عنها يوم أن تلت قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: يا رسول الله! أهم الذين يزنون؟ أهم الذين يسرقون؟ أهم الذين يشربون الخمر؟ قال: (لا، يـ ابنة الصديق أولئك قوم يُصلون ويتصدقون، ويصومون ويقومون الليل وقلوبهم وجلة يخشون ألا تقبل أعمالهم).
إذاً فاسألوا الله القبول، وراقبوا الله في أعمالكم دقيقها وجليلها، فإننا نرى جهوداً كثيرة خاصة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، لكن لا نجد النتائج على مقدار هذه الجهود، ولله في ذلك حكمة، إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، فليست الاستجابة شرطاً لوجوب الدعوة والأمر بالمعروف، لكننا ينبغي أن نلاحظ أنفسنا وأن نتهم أعمالنا، وأن نناقش إخلاصنا لننظر ما الدافع والباعث والمحرك فيها.
إننا يوم أن نحقق الإخلاص نفوز بخير عظيم ولو قمنا بأعمال قليلة ما دامت خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، فإن الله يبارك فيها وينميها ويقبلها عنده طيبة، والله لا يقبل إلا الطيب.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً، وأراد ببناتنا اختلاطاً في الوظائف والتعليم مع الرجال، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم اجزه شر ما تجزي به فاسقاً في فسقه.
اللهم إننا نُصبح ونمسي ونبيت منك في أمن وعافية ورخاء وستر وطمأنينة، وإن من الخلق من يحاولون تنكيد هذه النعم وإحلال النقم مكانها، اللهم من أراد ذلك بنا وبعلمائنا وولاة أمرنا، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوء من ذلك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم ارزقنا توبة قبل الموت وشهادة عند الموت ونعيماً وسروراً وحبوراً بعد الموت، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ووالدينا وجميع المسلمين أجمعين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا غائباً إلا رددته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك من العافية شمولها، ومن النعمة حصولها، اللهم إنا نسألك من العصمة دوامها، ومن العافية تمامها، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم وفقنا إلى ما يرضيك وجنبنا أسباب سخطك، وباعد بيننا وبين أسباب غضبك، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً نافعاً مجللاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم ارحم المسبحات الرُكع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، اللهم ارحمنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ولا تعذبنا بذنوبنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين، اللهم ارحم المستضعفين، اللهم ارحم المستضعفين، اللهم ثبت إخواننا المجاهدين، اللهم وحد شملهم، واجمع كلمتهم، وثبت أقدامهم، وسدد رأيهم ورصاصهم في نحور أعدائهم، اللهم عجل بنصرهم، اللهم عجل بهزيمة وكسيرة أعدائهم، اللهم وعدك الذي وعدت إنك لا تخلف الميعاد، اللهم انصرهم يا رب العالمين، اللهم بشرنا بنصرهم عاجلاً غير آجل.
اللهم عليك بـ الرافضة الإيرانيين الخونة، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بـ الجعفرية الإثني عشرية، اللهم اجعلهم بدداً وأحصهم عدداً ولا تبق فيهم أحداً، اللهم أهلك زروعهم وضروعهم، من كان فاجراً فاسقاً حاقداً منهم بقدرتك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ولجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم نوّر على أهل القبور قبورهم، اللهم نوّر على أهل القبور قبورهم، اللهم آنس وحشاتهم، اللهم آنس وحدتهم، اللهم أهل غربتهم، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه واجعله على الشهادة والسعادة، وأعنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(141/7)
الانحراف أسبابه وعلاجه
الانحراف: هو الاعوجاج وتنكب صراط الله المستقيم، ولا يمكن لرجل أن يمسي صالحاً ثم يقوم من نومه طالحاً، ولا لفتاة أمست عفيفة لتصبح وقد سلبت عفتها؛ إلا إذا كان هناك ما يخفيه الشخص من سوء عمل وقصد يظهر عليه في تلك اللحظات.
وقد ذكر الشيخ حفظه الله جملة من أسباب الانحراف المتفشية في المجتمع، والتي يجب محاربتها والحذر منها.(142/1)
تعريف الانحراف وأنواعه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: الحمد لله رب العالمين؛ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، وأثني عليه الخير كله، وأشكره ولا أكفره، وأخلع وأترك من يكفره، نرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق، اللهم لك الحمد أطمعتنا وسقيتنا وكفيتنا وآويتنا وإلى الإسلام هديتنا، وإلى التوحيد وفقتنا، اللهم لك الحمد سترت عيوبنا ونشرت فضائلنا، وسترت قبائحنا، وجملتنا بسترك الجميل يا رب العالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، فهو الرب وحده المالك المدبر المتصرف في هذا الكون ولا رب سواه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، فهو الذي يعبد وحده لا شريك له، فالركوع والسجود له، والاستعانة والإنابة به وإليه، والتوكل عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في أسمائه وصفاته وربوبيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! أسأل الله عز وجل أن يبيض وجوهنا وإياكم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأن يحرم أقداماً على النار مشت إلى هذه الروضة من رياض الجنة، وأن يجعل اجتماعانا هذا مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
أيتها الوجوه المؤمنة! إن من نعم الله عز وجل أن نجتمع ونتآلف ونتعارف، وحيهلا ومرحباً بهذه الوجوه التي تجتمع في رياض الجنة من غير أنساب بينها، ولا مصالح تربطها، ولا مقاصد تريدها سوى وجه الله عز وجل، تجتمعون لتذكروا الله وحده لا شريك له، ولتصلوا على نبيه صلى الله عليه وسلم، فأبشروا بأن الله وملائكته يذكرونكم في الملأ الأعلى، ففي الحديث أن الله عز وجل قال: (أنا عند ظن عبدي به، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه).
أيها الأحبة في الله! الحديث اليوم عن قضية جد مهمة، كما بين أخونا المقدم جزاه الله خيراً، ألا وهي قضية الانحراف، فما أسبابه وعلاجه؟ إن الأعين المبصرة إذا رأت الحق فمن الطبيعي أن تهتدي إليه وأن تستجيب له، وأن تنقاد له بطواعية، فيا سبحان الله! كيف تعمى بعض البصائر عن إبصار الحقائق؟ إن الآذان النقية عن شوائب الشبهات والشهوات لا تستنكف أن تستجيب لداعي الله وداعي رسوله، ولكن ما بالنا نرى آذاناً عن الحق صُمت، وأعيناً عن الحق عميت، وأفئدة عن الحق صرفت، أترون أن هذا لضعف في بيان الحق، أو لضباب في هذه المسيرة، أو لبعد صلة في حجب الحقائق عن هؤلاء الذين انحرفوا وضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
أيها الأحبة في الله! إن من الطبيعي أن الإنسان يحب نفسه، ويحب مصلحة نفسه، فما بالنا نرى كثيراً من الناس يقصدون إضرار أنفسهم، والوقيعة بأرواحهم وأجسامهم، وإغلال قلوبهم وأفئدتهم، هذا نوع من الانحراف، إن لم يكن هذا هو الانحراف كله.(142/2)
تعريف الانحراف
فيا أيها الأحبة! ما هو الانحراف؟ الانحراف: ميلٌ واعوجاج وتنكب عن الصراط السوي المستقيم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
الانحراف: ميل بقصد وربما كان ميلاً بغير قصد، فأما الذي مال بجهل فدواؤه أن يعلم، وأما الذي مال بشبهة، فواجبنا أن ندحض ونبطل هذه الشبهة التي علقت به، وأن نبين له الحق جلياً واضحاً حتى ينقاد إليه بكل ليونة ويسر وسهولة.(142/3)
أنواع الانحراف
والانحراف: كلمة صدرت بـ (ال) وهذه (ال) الاستغراق، أي: أنوع الانحراف، وهي ثلاثة: الانحراف العقدي، ويليه الانحراف الفكري، وبعده الانحراف الأخلاقي، فالأول والثاني يدخلان -كما ذكر شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية وغيره من علماء الإسلام- في أمراض الشبهات، وأما الانحراف الأخلاقي فهو داخل في أمراض الشهوات، والسؤال هنا: ما هي الأسباب التي دعت وقادت وسببت هذا الانحراف عند كثير من الناس؟ وقبل أن نتكلم عن أسباب شيء مجهول، لا بد أن نبين أماراته وعلاماته.(142/4)
علامات الانحراف
الإعراض عن الصلاة صورة من صور الانحراف.
الإعراض عن سماع كلام الله وكلام رسوله، وقصد سماع اللهو ومزمور الشيطان، والطرب والغفلة صورة من صور الإعراض والانحراف.
صرف الأنظار عن التدبر فيما خلق الله إلى رؤية المحرمات والمعاصي والمنكرات والأفلام والمسلسلات صورة من صور الانحراف.
الإعراض عما أباح الله من الطيبات والقصد إلى تناول المخدرات وشرب المسكرات من صور الانحراف.
الاعتداء على حقوق الآخرين، سواء بالسرقة أو الاختلاس أو النهب أو السلب من صور الانحراف.
التعدي على أعراض الناس، احتقار الخلق، بطر الحق، وغمط الخليقة من صور الانحراف.
قطيعة الرحم، الجفاء، التدابر بين الأقارب من صور الانحراف.
عقوق الوالدين، التكبر عن طاعتهم، الرعونة في معاملتهم، التأفف عند أمرهم وخطابهم صورة من صور الانحراف.
معاكسة النساء، إيذاء الغاديات والرائحات، صورة من صور الانحراف.
الاعوجاج عن المناهج الحقة، والقصد إلى الأفكار المصدرة والمذاهب المستوردة صورة من صور الانحراف.
الدعوة إلى اختلاط الرجال والنساء في الوظائف والتعليم والمجامع العامة صورة من صور الانحراف.
الإعراض عن تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم صورة من صور الانحراف.
كل معصية عصي الله بها وخولف بها أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فذلك نوع من أنواع الانحراف.
أيها الأحبة! لو ذهبنا نسرد صور الانحراف لضاق بنا الليل والنهار، ونحن نذكر أنواع مخالفات لا تعد ولا تحصى من تصرفات البشر، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وبالإشارة تفهم العبارة، والتلميح يغني عن التصريح.
يكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يدعى بالنداء العالي
أيها الأحبة! وإن كنت أود هذه الليلة أن أركز على الانحراف الأخلاقي، ومن ثمَّ الانحراف العقدي، وإن كان من المنطق والعلم أن نبدأ بالكلام عن الانحراف في العقائد والأفكار أولاً، إلا أن حاجة الحاضرين ليبلغوا من يرونهم يخالفون في هذا الجانب أعظم، ولقلة الانحراف العقدي -ولله الحمد- في مجتمعنا أو ندرته، ولكننا نلاحظ صوراً من الانحراف في السلوك والأخلاق والمعاملة، فيا ترى ما هي الأسباب التي أدت ودعت وأفضت وحققت أنواعاً من الانحراف التي نتأفف منها، ونتبرم برؤيتها، وتنزعج آذاننا لسماعها، وكثيراً ما كانت حديث مجالسنا انتقاداً وبغضاً أن نقع فيها، ودعوة للهداية والاستقامة لمن وقعوا فيها؟!(142/5)
أسباب الانحراف
إنه لا يمكن أن يكون رجلاً سوياً ثم يصبح منحرفاً، ولا نتصور أن فتاة باتت عفيفة فأصبحت متبرجة، ولا امرأة أمست طاهرة فأصبحت فاجرة زانية، ولا نتصور أن رجلاً أصبح مهتدياً فأمسى فجأة ضالاً، بل لا بد أن يكون لهذا أسباب، ولا بد أن يكون له خطوات، وهو بصريح كلام الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] قال ابن كثير: هذا نداء بأن نلتزم بأمر الله، وبأحكام الإسلام، السلم هنا هو الإسلام كافة من غير تفريق.
ولذلك لما تحدث بعض علماء السلف، فقال له رجل: إن هذه مسألة من المسائل اليسيرة والصغيرة، أو كما يقول بعض الناس: هذه مسألة قشور، وليست من مسائل اللباب، فغضب ذلك العالم، فقال: إنه ليس في الدين قشور ولا لباب، إن الله عز وجل قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
فالدين كله مسئولية عظيمة، بأحكامه وأخلاقه وآدابه وأصوله وفروعه، المهم أننا أمرنا أن نتبع هذا الدين اتباعاً كاملاً دقيقاً، وحذرنا الله عز وجل: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] إن الخطوات هي التي قادت إلى الانحراف، وسببت هذا الضلال.(142/6)
مجالسة رفقاء السوء
إن كثيراً من الشباب عهدناهم وعرفناهم أبراراً أغياراً أطهاراً، من الشباب الذين تتمنى أن تكون ذريتك كأمثالهم، تتمنى أن يكون إخوانك كأمثالهم، تتمنى أن تمتلئ الأمة بصلاحهم واستقامتهم، ولكن نفاجأ بأحدهم أنه قد تنكب الصراط، ورجع القهقرى،، ونكص على عقبيه، وارتد مدبراً، وتغيرت أموره، وانتكست مفاهيمه، وتقلبت قناعاته، وأصبح يرى ما كان مكروهاً محبوباً، وأصبح ما يأنف منه يتودد إليه، وأصبح ما كان يستحي أو يأنف من سماعه يتفاخر به.
إن ذلك انحراف كان سببه رفقة تساهل بالجلوس معها وبمخالطتها، وبتفويت بعض الأمور ظناً منه أنها من الصغائر، وما زالت الصغيرة تدعو أختها، فاجتمعت كقشات جمعت فأضرمت، فأصبحت ناراً أحرقت سلوكه، وأحرقت استقامته، وعفافه، وطهارته، فبات فاجراً بعد أن كان براً، وأصبح مفسداً بعد أن كان صالحاً، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم -أيها الأحبة- إن المجالسة كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لها أثر، إذ المرء يتأثر بجليسة، ويصطبغ بفكرته ومعتقده وسلوكه وأعماله، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة) رواه البخاري ومسلم.
إن من خالط أشراراً حتى ولو كان تقياً، إن من خالط فجاراً حتى وإن كان عالماً، وأعني بالمخالطة أن يجعل مخالطتهم ديدناً وهجيراً، وأن يجعلها سجية وطبيعة له، أما عالم يخالط فجاراً لينصحهم، أو داعية يغشى فجاراً ليدعوهم، أو مهتد يغشى ضلالاً ليناصحهم، فهذا لا يدخل في الأمر، بل غايته أنه يؤجر، والله عز وجل أمر خيرة من في ذلك الزمن (موسى وهارون) أن يذهبا إلى شر خلقه في ذلك الزمن وهو فرعون، الذي قال: أنا ربكم الأعلى، والذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أرسلهما ربنا عز وجل وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
إنما الممقوت والمنهي عنه أن ترى رجلاً سوياً يخالط فجاراً ينسجم إلى مجالسهم، ويطمئن إلى طرائفهم، وينبسط لنكتهم، يتعود غشيانهم ولا يقاطعهم، يجلس معهم من غير دعوة يقصدها، ولا علم ينشره، ولا هداية يرنو إليها، إنما أعجبه حديثهم، أعجبته طرائفهم وسواليفهم وتعليقاتهم -أو ما يسمى تنكيتاتهم- فأصبح يغشاهم، إن ذلك من أسباب الانحراف الخطرة.
والإنسان يتأثر، ولو أتيت بأتقى الناس وأعلم الناس فجعلته يصبح ويمسي في مجالسة اللاهين العابثين الغافلين المستهزئين الساخرين، وجعلته يجلس بينهم فسوف يتحول إلى مستودع وخزينة معلومات، أما سلوكه وطبائعه وغيرته وحميته وأنفته وحبه، سوف يجمد في قالب إذا واجه هذه الأمور التافهة والخطرة، فجمدت حماسته وغيرت أنفته، وغيرت غيرته.
إذاً فلننتبه، وإن من الأخيار من يتساهل بهذه المجالس.
منذ أيام -ربما لا تتجاوز العشرة أو أكثر- جاء شاب إلى المسجد فقال: إني كنت محافظاً على قيام الليل، وكنت محافظاً على الصلوات في الجماعة، وكنت صادقاً وبراً وغيوراً وخيراً وطيباً، فتقلبت أحوالي تقلباً عجيباً، فقلت: ما الذي تغير أو تقلب من حالك؟ قال: أصبحت أنظر إلى الأفلام والمسلسلات الماجنة، وأسمع الغناء، وأتكاسل عن الصلاة، وربما جمعت الفرض إلى الذي يليه، والفرضين إلى الليل، وإني إذا ذكرت تلك الفترة الذهبية الرائعة الجميلة من أيام حياتي أبكي على ما أنا عليه وما أنا فيه، فيا ترى أي دواء تصفه لي، وأي وصفة تكتبها لي؟ فسألته بالله، والله عز وجل يقول: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] فسألته بالله وقلت له: أنت أدرى مني بنفسك، ولست أعلم الغيب، ولكن أي أمر في سريرتك أحدثته، أي أمر في خلواتك أحدثته، أي أمر أصبحت تتعود فعله في حال لا يراك فيه إخوانك الصالحون، فقال: إنه أمر واحد، وجدت شلة.
ولا أقول ثلة؛ لأن الله عز وجل قال في السابقين وأصحاب اليمين: ثلة، قال: وجدت شلة أعجبني تنكيتهم وضحكهم ومزاحهم، وتعليقاتهم وكلامهم، فأصبحت أغشاهم، وفي البداية كان الشيطان يقول لي: اذهب إليهم فادعهم إلى الله عز وجل، اذهب إليهم تناصحهم، اذهب إليهم تعلمهم شيئاً يجهلونه.
قال: فما هي إلا أيام بعد أن كانوا في بدايات المجالس إذا دخلت عليهم خبَّئوا ورقهم، وأخفوا منكراتهم، إذ بي أنا أخرج ما يخبئونه لنلعب به، وإذ بي أنا الذي أحركهم ليديروا هذه الأجهزة فنرى صور العرايا ونرى صور الماجنات والخليعات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إذاً القضية أنه ما بات باراً فأصبح فاجراً، وإنما هو تنازل بنفسه، ورضي أن يجره الشيطان تحت تلبيس لإبليس، ووسوسة وغواية بحجة شيء اسمه فيما يتوهم دعوه، وفي الحقيقة أنها غواية من الشيطان له، أصبح يتردد عليهم، تعجبه تعليقاتهم، سخريتهم، تصنيفاتهم، عجائبهم، يقهقهون، يضحكون، يشبعون ضحكاً، ثم بعد ذلك يقوم وهو في كل ليلة يهدم بفأس غفلته صلاحه وإيمانه، حتى بلغ به الحال أن أصبح كذاباً بعد أن كان صادقاً، وأن أصبح فاجراً بعد أن كان باراً، وأن أصبح ضالاً بعد أن كان مهتدياً، ومطلقاً لعينه وأذنه في الحرام بعد أن كان لأذنه وعينه حصوراً عن الحرام، والسبب: هي هذه المخالطة! إن بعض الناس لو حدثته عن المجالسة، قال: أنا مستعد أن أعطيك آيات عن الجليس السيئ، وأعطيك أحاديث عن الجليس السيئ، وأعطيك أبيات شعر عن الجليس السيئ، وأعطيك حكماً وأمثالاً عن الجليس السيئ، ولكني أقول: لا تعطني من هذا شيئاً، ولكن أعط نفسك، وأعطني التزاماً بقول الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28].
إياك ومجالسة الغافلين، إياك ومجالسة اللاهين، إياك ومجالسة الضالين، إياك ومجالسة المنحرفين؛ لأنك لا تزال في بداية الاستقامة، لا تزال حديث عهد بتوبة، لا تزال قريب تجربة بضلالة، فانتبه لنفسك.
أتظنون أن رجلاً يعمل في معدات البنزين والوقود يخرج من عمله ومكائنه وورشته، وقد امتلأت ثيابه بالوقود والبنزين، وأطرافه وجسمه بالوقود والبنزين، ثم يجلس بين المدخنين الذين يشعلون ولاعات النار، من الطبيعي أن يحترق ويقبس هذه النار في جسمه على آثار ما علق به من الوقود، وكذلك الشاب الذي لا يزال قريب عهد بتوبة، وحديث عهد باستقامة، إياك أن تخاطر بنفسك، إذا كنت حديث عهد بالسباحة في الأنهار، فضلاً عن أن تكون سباحاً ماهراً تواجه الأمواج العاصفة في المحيطات، إذا كنت لا تكاد تعرف السباحة فهل من العقل أن تذهب لتنقذ أقواماً غرقى تقلبهم أمواج البحار والمحيطات؟ إن واحداً من هؤلاء الغرقى سيتعلق بثوبك فتكون أنت في أسفل الموج وهو في أعلاه، ولتكون أنت تحت طبقات الماء وهو في أعلاها، بتساهلك أو بحجة أنك تريد أن تنقذه، وأنت يا مسكين، وأنت يا غرير، يا جاهل، يا مغرور، تظن أنك قادر على إصلاحه وأنت لم تزل بعد محتاجاً إلى إصلاح نفسك.
أقبل على النفس فاستكمل محاسنها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
إن جلساء السوء يحرمون الإنسان حتى الفرصة الذهبية، أو الفرصة التي لا تعوض بأمر الدنيا قاطبة، وحسبكم ما ثبت فيما يرويه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عمه أبي طالب لما حضرت أبا طالب الوفاة، ولكن جلساء السوء لا يتركون أحداً حتى في اللحظات الأخيرة.
دخل صلى الله عليه وسلم يعود عمه أبا طالب، فوجد عنده رأس الكفر أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية فلم يلتفت لهم ولم يخاطبهم ولم يقل لهم: لماذا أتيتم تؤذون عمي في اللحظات الأخيرة، جئتم تصدونه، بل أقبل عليه يريد في معركة وسباق مع الزمن أيهما ينفذ أولاً سكرات الموت وخروج الروح، أو وصول دعوة النبي إلى قلب أبي طالب، فبدأ أولاً بعمه، قبل أن يكلم أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله، فقام هؤلاء الشياطين، وقال أبو جهل: أتترك وترغب عن ملة عبد المطلب.
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يحاول، وهؤلاء الصناديد من الضلال يحاولون إغواءه، وهم ينهون عنه وينئون عنه حتى مات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب، لم يكتف فقط أن يسكت، بل إنما صرح تحت وطأة وتأثير الجلساء لينطق إرضاءً لهم، فيقول مصرحاً: هو على ملة عبد المطلب.
كان بوسع أبي طالب أن يضمرها في نفسه ويسكت، كان بوسع أبي طالب أن يقول كلاماً، كان بوسعه أن يقول لهم: حتى هذه اللحظة لن تنفعوا ولن تشفعوا ولن تقربوا، كان بوسعه أن يقول أموراً بغض النظر هل تنفعه أولا تنفعه، لكن أثر جلساء السوء جعلت هذا الذي ينازع الموت ويحتضر، ويعالج السكرات، جعلته ينطق بما يريد هؤلاء الضلال والطواغيت بالتفصيل، فمات وهو يقول: هو على ملة عبد المطلب.
ولكن إن هؤلاء الذين يضلون بإضلال جلسائهم، وإغواء رفقائهم، هؤلاء يوماً ما سوف يلعن بعضهم بعضاً، ويسب بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، كما قال عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
والله عز وجل أخبر أن هؤلاء سيندم أحدهم(142/7)
ضعف الإيمان
إن من أسباب الانحراف أيها الأحبة: ضعف الإيمان وعدم تعظيم أمر الله عز وجل؛ إن من الناس مَن لو قلت له تفضل هذه ورقة من الحقوق المدنية أخذ ينتفض أسبوعاً كاملاً، ويذهب إلى الشيخ والصديق والقريب: ماذا أفعل؟ وماذا أقول؟ وكيف أجيب وأتصرف؟ وكيف السبيل؟ وما الطريقة؟ وأين الملجأ والملاذ؟ وأين المعين؟ يعد لهذه الورقة ألف جواب من شدة خوفه من البشر، أما رب البشر عز وجل الذي خلقه من العدم، الذي جعله سميعاً ولو شاء لجعله أصم لا يسمع، الذي جعله بصيراً ولو شاء لجعله أعمى لا يبصر، الذي جعله قادراً على المشي والحركة ولو شاء لجعله مشلولاً معوقاً، فإن كثيراً من الناس لا يبالي بأمر الله، ولا يخاف ولا يقيم لأمر الله وزناً، بل كما قال نوح لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
إذاً أيها الأحبة! ضعف الإيمان، وعدم الخوف من الله عز وجل، هو الذي أحدث عند كثير من هؤلاء الجرأة على الانحراف، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) روى هذا الحديث البخاري ومسلم.
فضعف الإيمان والهيبة من الله عز وجل جرأ الكثير من الشباب والشابات والرجال والنساء على معصية الله عز وجل، والله إن بعضهم لو قيل له في عمله: مدير الشرطة يريدك، قال: أنا ما فعلت شيئاً، ليس عندي مشكلة! لو قيل له: قسم الحوادث في المرور يريدك، قال: أنا لم أقطع إشارة! يحاسب نفسه، ويتخيل طريقه منذ أن خرج من بيته إلى أن عاد، هل تجاوزت خط المشاة؟! هل قطعة الإشارة؟! هل سلكت طريقاً ممنوعا؟! هل خالفت السير؟! يسائل نفسه مائة سؤال نتيجة لهذه المكالمة.
أما هل يسأل نفسه قبل أن يخرج من البيت: هل يسلم من المعصية؟ هل يسلم من الزلل؟ إذا أراد أن يذهب إلى مجلس يا لسان تعاهدني ألا تنطق إلا بحق؟ يا أذن تعاهدين ألا تسمعي إلا خيراً؟ يا قدم تعاهدين ألا تمشي إلا إلى أمر فيه صلاح؟ يا يد هل تأخذين أو تمدين إلا إلى شيء فيه نفع للإسلام والمسلمين؟ القليل من يتحدث مع جوارحه وحواسه، لكننا أو البعض منا يهاب من البشر هيبة ما يهابها من الله عز وجل، وكما قال بعض السلف يعاتب بعض العصاة: [لا تجعل الله أهون الناظرين إليك].
إن طول الأمد والبعد عن الأجواء الإيمانية هو الذي سبب ضعف الإيمان، فإذا كان الإنسان يصبح في عمله، وبعض مجالات العمل يبتلى فيها بعض الناس بجلساء ليس لهم حديث والعياذ بالله إلا عن المعاصي أو عن الفواحش أو إغراق في أمور الدنيا، أو عن الشهوات أو أو إلخ.
ثم يعود إلى عمله فيأكل لقمته، ويرمي بنفسه، وتفوته الصلاة، وربما ركعها في البيت وصلاها في غير وقتها، ثم قام إلى شلته وسهر معهم، وعاد متأخراً إلى بيته، وزوجته الحزينة وأولاده الضائعون يتمنون رؤيته لحظة أو لحظات من سائر اليوم كله، ثم بعد ذلك يداوم على هذا البرنامج والمنهج.
البعد عن الأجواء الإيمانية يسبب جرأة في المعصية، ويسبب جرأة في ارتكاب المحارم، وما الذي يفرق بين شخصين، شخص تعرض عليه الفاحشة والمعصية والشهوة والفتنة، فيضطرب وينزعج ويخاف ويبكي، ربما بعضهم يبكي من شدة انزعاجه مما عرض عليه من المعصية، وفي المقابل شخص يخطط يدبر يلاحق يطارد يبحث يعاكس يتصل يبذل يغري؛ من أجل أن يصل إلى المعصية، أليس هذا بشر وهذا بشر، وعند هذا غريزة وعند هذا غريزة؟ لكن الأول الذي عرضت عليه المعصية، فقال: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] كان سبب إعراضه عن المعصية هو أنه كان قريباً من الأجواء الإيمانية والمساجد، إذا سمع (حي على الفلاح) انتعشت روحه وطار فؤاده، تلذذ كأنما يسمع صوت حبيب يناديه ويناجيه، ويقربه، ويتمنى سماع صوته، انظر أحب أحبابك إليك، وأطيب أصدقائك وأقربهم منك حينما يناديك، انظر كيف يطير قلبك فرحاً لإجابة دعوته وصوته، وترديد صدى كلماته بارتياح وطمأنينة منك.
الذين يعيشون الأجواء الإيمانية؛ إذا سمع أحدهم (حي على الفلاح) شعر أن جبال الهموم تقشعت، وسحائب الظلام زالت، والسحب الكثيفة من الضباب ومصائب الدنيا، والمشاكل، والقيل والقال زالت، سيمشي لا يريد فلاناً ولا فلاناً، ولكن سيذهب إلى الذي خلقه من العدم، سيتجه ليركع ويسجد، سيشكي أموراً، سيحكي أحوالاً، إذا سجد وأناخ جبينه على الأرض يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من ضعف، يا ألله أنت تعلم ما أنا فيه من حال، يا ألله اغفر لي، يا رب أكرمني، يا رب أعطني، سبحانك ما عبدتك حق عبادتك، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، تجد لذته في أن يركع ويسجد لله عز وجل، والسبب هذه الأجواء الإيمانية.
أما الذين لا يعيشون الأجواء الإيمانية، ولا يشهدون الجماعة، ولا يحضرون المحاضرات، لا يسمعون الهدى والمواعظ، كل حديثهم في الدنيا والمعاصي والشهوات وما إلى ذلك، فإن أولئك تقسو قلوبهم خاصة مع طول الزمان، قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فدلت الآية على أن طول الوقت الذي أمضوه بعيدين عن الأجواء الإيمانية كان سبباً لقسوة قلوبهم، وضعف الإيمان في القلب هو من أهم أسباب الانحراف.
ولذلك نلاحظ هذا الشيء في الذين يعيشون أو يكرمهم الله بالعمل ولو فترة من الفترات في مجال الدعوة، أنت تلاحظ الشاب الذي يلازم الحضور إلى حلقة القرآن، إلى مكتبة المسجد، إلى المعهد والجمعية التوعوية، هذا الشاب الذي يأتيك دائماً مواظباً على هذه اللقاءات؛ تجده بإذن الله غضاً طرياً، مستجيباً، حيياً، حفياً تقياً، وأما الذي ينقطع عن هذه المجالس فسرعان ما تلاحظ أثر انقطاعه قسوة في قلبه:
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها(142/8)