الشجاعة
ومن أعظم الأسباب أيها الأحبة! الشجاعة، والشجاعة درجة بين الجبن والجنون، وكثير من الناس يعدون الجنون شجاعة، ويعدون التهور والتعدي شجاعة، وهذا ليس من الشجاعة، بل ذلك قد يُفضي بالرقاب إلى القصاص، أحدهم يقول: لقيت في السجن شاباً جميل المحيا حسن الطلعة، فقلت: ما الذي جاء بك في هذا المكان وهذا العنبر؟ قال لي قصة عجيبة وغريبة، خرجت ذات يوم بالسيارة، فجاوزتني سيارة ثم مال وانحرف صاحبها بسيارته عليّ، فطاش غضبي من هذا الفعل، فذهبت لأرد عليه هذا الفعل، فذهبت أحده يميناً ويحدني شمالاً، إلى أن بلغ الأمر برفع الأصوات ثم فتح النافذة وبصق -أكرمكم الله والسامعين والملائكة- قال: فما كان إلا أن كل واحد منا أوقف سيارته، قال: ونزلت بحديدة أريد أن أعرفه قدره، وليس قصدي أن أقتله أو أعيقه، لا.
لكن أريد أن أضربه ضربة لأهينه جراء ما فعل.
قال: فانطلقت الحديدة فلتة من يدي فأصابته مقتلاً، فمات من ساعته، وذُهب بي إلى السجن، وجلست في المحكمة، وحُكم عليّ بالقتل قصاصاً، وها أنا الآن في هذا العنبر أنتظر بلوغ القُصر الورثة ليقضوا فيّ قضاء الله بما يشاءوا، إما أن يعفو ويقبلوا الدية، وإما أن يطلبوا القصاص.
فهذا ليس من الشجاعة، عندما يأتي مجنون يحدك أو تحده، لو أن كلباً نبح فلا تنبح، ولو أن حماراً نهق فلا تنهق، ولو أن مجنوناً جن فلا تجن، لكن الشجاعة أن تكون في الحق، وفي كلمة الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: (ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) هذه الشجاعة يؤجر عليها الإنسان، أو شجاعة في الجهاد في سبيل الله، أو شجاعة في ذب الإنسان عن عرضه وماله: (من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون عرضه فهو شهيد).
أما أن يعتبر الإنسان الفزعة شجاعة:
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم طاروا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
مجرد أن يرى عراكاً يدخل فيه، مثلما ذكر ابن الجوزي في أخبار الحمقى والمغفلين، قال: وذكر أن رجلاً رأى قوماً يضربون رجلاً، فجاء يضربه معهم، فأمسك به رجل ثاني، قال: يا فلان! على ما تضربون هذا؟ قال: والله لا أدري، لكن وجدتهم يضربونه فضربته معهم حسبة للأجر، هذا جنون، بعض الناس يفزع في مضاربات عصبية قبلية، أناس من بلد تضاربوا مع أناس من بلد تتحول العنصرية إلى حدود إقليمية وعنصرية وسياسية ودولية.
أناس من قرية يتضاربون مع أناس من قرية، وأناس من قبيلة يتضاربون مع أناس من قبيلة، تتحول إلى مهاترات، وأعرف أكثر من حالة، وبنفسي أشرفت واطلعت عليهم، فأناس حُكم عليهم بالقصاص قتلوا أناساً ليسوا بأعداء لهم ولا يعرفونهم، فقط اشتركوا في (فزعة) يسمونها فزعة وهي جنون، اشتركوا فيما يسمونه فزعات فكان واحد من هؤلاء الذين فزعوا أقرب الناس إلى هذا الذي ضُرب، فكانت الضربة القاتلة بيد هذا الذي فزع، فحكم عليه بالقصاص، وأصل العداوة بين طرفين أحدهم قد خرج منها بريئاً، والذي فزع في هذه المضاربة هو الذي حكم عليه بالقصاص.
فيا أحبابي! الشجاعة درجة بين الجنون والجبن، فينبغي أن نفهم ذلك.
من الشجاعة ألا تخشى من موقف حق بسبب تردد في الموت أو لأجل الموت.
أي يومي من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا يجدي الحذر
إذا كنت تعلم أن الآجال بيد الله، والأرزاق بيد الله فلا يضيرك شيء.(66/10)
إخراج دغل القلب
من أسباب انشراح الصدر: إخراج دغل القلب، الحقد، الغل، الكراهية، الكبر، بعض الناس يحمل سمات حسنة، لكن يحمل ذنوباً كبيرة في صدره، كاحتقار الآخرين فلا يرى لهم قدراً ولا وزناً، ولا يراهم شيئاً أبداً، أو حقد على شخص حدث بينه وبينه مشكلة لا ينساها أبداً، أو لا يرى لأحد من أناس أو من أقرانه نتيجة للحساسية والتنافس في درجة واحدة لا يرى لهم قدراً، ويتمنى الوضيعة لهم.
إن من تمام الإيمان وصدق التعبد ألا تفرح بمعصية خصمك لله وإن كانت تسرك، شخص من الناس تكرهه، وتتمنى أن الله يفضحه، لكن هل تتمنى أنه يزني فيفضحه الله بالزنا حتى تنتصر أنت، من تمام الإيمان أن تسأل الله حتى لأعدائك من المسلمين ألا يقعوا في معصية الله وسخطه وفضيحة خلقه، فسلامة القلب من الحقد والإحن والبغضاء والعداوة كل ذلك من أسباب انشراح الصدر، بعض الناس لا يبالي أبداً ولا تهزه الرياح ولا السافيات ولا الغاديات ولا شيء أبداً.
لا أنت قلت ولا سمعت أنا هذا كلام لا يليق بنا
إن الكرام إذا صحبتهم ستروا القبيح وأظهروا الحسنا
هذا شأن من يحرص على انشراح الصدر ويسعى إليه، فأخرج دغل القلب من الحسد والحقد والبغضاء والنميمة والغيبة والكراهية، هذا أمر مطلوب، نعم.
أنت لست مأموراً بأن تحب الناس، إنسان لا يألو جهداً في أذيتك ومؤامرات ضدك، وحبائل ومكائد ينصبها تجاهك، نحن لا نقول اذهب فأحبه، ولا نقول لك أن تبكي على حبه، بل من عزة النفس أن من أعرض عنك فلا تتعلق به، إياس بن أبي مريم لما قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال له عمر: [أنت إياس بن أبي مريم الذي قتلت أخي ضرار بن الخطاب؟ قال إياس: الحمد لله الذي أدخله بسببي الجنة، ولم يدخلني بسببه النار -انظر رد الجميل الممتاز أي: قتلته فمات شهيداً، ولم يقتلني على الكفر آنذاك، فأموت كافراً- فقال عمر: اصرف وجهك عني فإني لا أحبك] عمر صريح لا يجامل.
فقال إياس: [يا أمير المؤمنين! إن كنت لا تحبني أفينقصني هذا شيئاً من حق الله لي في بيت مال المسلمين، قال عمر: حاشا لله، معاذ الله، والله لا أنقصك شيئاً، فقال إياس: إذاًً يا أمير المؤمنين! أبغض ما شئت، فإنما يبكي على الحب النساء].
بعض الناس مسكين، لو بغضه رئيسه أو المسئول عليه في العمل، كأنه امرأة مطلقة بغير سبب، لماذا يكرهني؟ لماذا يبغضني؟ لماذا تركني؟ كان بالأمس يحبني واليوم يبغضني، كان بالأمس يدنيني واليوم يبعدني، كان بالأمس يعطيني واليوم يمنعني، يا مسكين! تعلق بالله ولا تتعلق بالخلق، هذه من أعظم أسباب انشراح الصدر، أنك لا تمرض ولا تسقم ولا تجد مصيبتك لو أن أحد الناس غيرّ موقفه منك ما دمت على جادة الصواب، كن مثل المتنبي:
أنام ملئ جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
بعض الناس مولع يبحث ويتحسس رضى الآخرين عنه، كيف رضاكم عنا، عساكم راضين عنا، الله لا يرضى عنه، اسأل الله أن يرضى عنك، فإن من طلب رضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عليه الناس، ومن طلب سخط الله برضى الناس، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، فعود نفسك على هذه المسألة.
بعض الناس يقول: يا أخي! يؤذيني الذين يخالفونني في آرائي، يزعجنني الذين ينتقدونني في مواقفي، يا مسكين! هل الناس قطع معدنية متساوية في الوزن والسكة، والحرف والرسم، والطرة والإطار، فلا يختلف بعضها عن بعض؟ لا.
ليس من العقل هذا، لا تحسب الناس طبعاً واحداً، الناس يتباينون، لا تكن عشيقاً بطلب الرضا من الناس، بل كن حريصاً على الرضا من الله عز وجل، وحينئذ رب أقوام يرضون، وآخرين يسخطون، ثم يعود الساخطون راضين داعين متقربين معجبين، فلا تنزعج بهذا أبداً.
أما طلب رضى الناس، مديري المباشر غير راض، وفلان غير راض، وفلان تغير موقفه مني، هذا جنون، هذا عذاب للنفس وعذاب للضمير، لا تعلق نفسك بالبشر فالبشر يتقلبون، تعلق بالله عز وجل الذي إذا تقربت إليه شبراً تقرب إليك ذراعاً، وإذا تقربت إليه ذراعاً تقرب إليك باعاً، وإذا قدمت إليه تمشي أقبل إليك هرولة، انظر فضل الحي القيوم.
لو أن شخصاً يعمل عند تاجر أو رئيس شركة عشرين أو خمسة وعشرين سنة، وبعد هذا الزمن الطويل وقع من هذا الموظف عند هذا التاجر زلة، يمكن أنها من نوع كبير أو من نوع متوسط، فماذا كان شأن هذا التاجر؟ نسي كل ما مضى، وعاقبه عقوبة نكلت به تنكيلاً، وجعله عبرة وعظة للآخرة والأولى، بعد خمسة وعشرين سنة من نجاح وتقدم وإنجازات، وغلطة واحدة محت ومحقت كل هذا النجاح والتقدم.
لكن انظر رب العالمين عز وجل، تجد عبداً من عباد الله عمره أربعين أو ثلاثين أو خمسة وثلاثين سنة وهو مسرف على نفسه في الذنوب والمعاصي والمنكرات والكبائر والفواحش، ثم يُقدم إلى الله بعمل صالح، وتوبة صالحة وإنابة، فيغفر الله ذلك كله، ويجعل سيئاته حسنات.
فتعاملوا مع الله، وأقبلوا على الله، وتعلقوا بالله، فلن يندم أحدٌ، ولن يُظلم أحد في تعامله مع الله عز وجل، أما الناس:
فمن يغترب عن قومه لم يزل يرى مصارع أقوام مجراً ومسحباً
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا(66/11)
ترك فضول النظر والكلام والمخالطة
أيها الأحبة! من أسباب انشراح الصدر ترك فضول النظر، وترك فضول الكلام، وترك فضول المخالطات، لا تجهض السعادة أكلاً لذيذاً، ووجدت متعة الأكل في تقليب اللقم بلسانك في فمك، ثم استقرت لذيذة هنيئة في جوفك، فقف عند هذا الحد، ولا تزد في الأكل، فتحول لذة الأكل إلى تخمة تنقلب إلى سقم وضرر.
جلست مع أحبابك جلسة ساعة وربع ساعة ونصف جلسة لذيذة، قف على هذا وكل يذهب إلى بيته، لا تمدد الجلسة فيما لا طائل فيه، فتجهض سعادة الجلسة، فبدلاً من أن تتفرقوا على أوج السعادة، تتفرقون بعد سعادة على أمر أحدثتموه بآخر لقاء، فأحدث مللاً أو سؤماً أو خلافاً بينكم.
إذاً لا تجهض السعادة، وأطلق فضول المخالطات، وفضول النظر، وأما فضول النظر فشأنه عظيم، إذ أن من أطلق بصره فلا شك أنه يجد أثر ذلك في فؤاده.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المعاتب والقتيل القاتل
تعاتب من وأنت القاتل والقتيل؟!
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ختاماً أيها الأحبة: أسأل الله أن يشرح صدورنا وإياكم بالحق، وأسأله سبحانه بمنه وكرمه وأسمائه وصفاته أن يُصلح لنا ولاة أمرنا، وأن يجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة! إني داع فأحضروا قلوبكم وأمنوا لإخوانكم المجاهدين في الشيشان وداغستان.
اللهم يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعال لما تريد، إلهنا منشئ السحاب، هازم الأحزاب، منزل الكتاب، خالق الخلق من تراب، يا من إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، اللهم أنزل بأسك وبطشك وعذابك ورجزك على الكفار في روسيا يا رب العالمين.
اللهم كل من آذى المسلمين من الروس وغيرهم اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم إنا نشكو إليك ضعف الولاء بين المسلمين فانصر إخواننا يا رب العالمين ولا تكلهم إلى إخوانهم الضعفاء والمساكين، اللهم يا حي يا قيوم! انصر إخواننا المجاهدين في داغستان والشيشان.
اللهم وحد صفهم، وثبت أقدامهم، واجمع على الحق كلمتهم، وأقم على التوحيد كلمتهم، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، اللهم احفظهم، اللهم انصرهم، اللهم أنزل عليهم مدداً من ملائكتك تؤيدهم يا رب العالمين.
اللهم ارفع البأس والشدة والبطش عنهم يا حي يا قيوم، اللهم اجعل الدائرة على الشيوعيين ومن شايعهم، واليهود ومن هاودهم، اللهم صل على محمد وآله وصحبه.(66/12)
الأسئلة(66/13)
الحذر من وسوسة الشيطان
السؤال
يقول السائل: أنا شاب التزمت حديثاً ولله الحمد، ولكن مشكلتي أنني أشعر بالضيق من وقت لآخر، وأحس أن الله جل وعلا لم يقبل توبتي، أفيدوني ماذا أفعل مأجورين؟
الجواب
أخي الحبيب! دع عنك وسوسة الشيطان، فإن الله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] إن تبت توبة صادقة بشروطها: الإقلاع عن الذنب، كراهية العودة إليه، الندم على ما فات، على إيمان ويقين وصدق، وعملت صالحاً واجتهدت في مرضاة الله عز وجل بما ينفعك فأبشر بالخير، وأما ما يعرض لك فهو من وسوسة الشيطان، والله عز وجل يقول: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فلا تبال أخي بوسوسة الشيطان أبداً، لكني أنصحك ألا تجعل فراغاً في وقتك.
اشغل وقتك كله، حوائج والديك أولاً، صلة أرحامك، المجالسة الطيبة، الصحبة النافعة، القراءة المفيدة، حلقات العلم، مجالس الذكر، رياض الجنة، الحج، العمرة، الأمور النافعة إذا ملأت وقتك، فلن يجد الشيطان فرصة للوسوسة معك.(66/14)
تطبيق جميع أسباب انشراح الصدر ليس بشرط
السؤال
ذكرتم حفظكم الله أسباباً مختلفة لانشراح الصدر، وقد لا يمكن لشخص أن يجمع هذه الأسباب كلها، فهل يتحقق انشراح الصدر مع القيام ببعض هذه الأسباب؟
الجواب
لاشك، لا يلزم من طلب انشراح الصدر أن يجمع كل هذه الأسباب التي ذكرنا، فرب رجل لا يستطيع أن يشفع، أو حري إن شفع ألا يشفع، وإن تكلم ألا يسمع له، وربما لا يكون غنياً يجود أو ينفق، لكنه يستطيع أن يكون ذاكراً لله، منيباً أواهاً، متهجداً، يستطيع أن يكون مجاهداً في سبيل الله، يستطيع أن يكون معيناً على الخير، فلا أظن أن أحداًً يعجز أن يجمع من أسباب انشراح الصدر ما يستطيعه أياً كان.(66/15)
حقيقة انشراح الصدر
السؤال
هناك كثيرٌ من الناس وخصوصاً من الشباب، يظنون أن انشراح الصدر يكون في اللعب واللهو والسهر مع أصدقاء السوء، والسفر إلى بلاد الفسق والعصيان، وحينما تنصحهم يقولون: يا شيخ! استأنس ووسع صدرك ولا تكن معقداً متشدداً، فما هو توجيهكم لهؤلاء؟
الجواب
هو في الحقيقة يخيل إليه أن هذه سعادة وانشراح صدر، وإلا فإن الذين يقضون أوقاتهم في مجالس اللهو والفسق والمعصية والغفلة، وإن فعلوا ما يشتهون، أو رأوا ما يلذ بأعينهم، فإنهم يحسون بعد ذلك من الضيق والنكد والحسرة ما لا يخطر على بال، يقول الحسن البصري في شأن أهل المعاصي: إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، والله عز وجل يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21].
أتظنون يا أحبابي أن هذا الخاشع المتهجد الصائم العابد الذاكر الشاكر، يمكن أن تكون حاله سواء مع الفاسق الفاجر العنيد؟ لا يُمكن أن يستوي الأبرار والفجار، والصالحون والفاسقون، فكل من ادعى سعادة وانشراحاً على معصية، فإما أن تكون استدراجاً مضاعفاً لعذاب ينتظره، وإما أن تكون سعادة وهمية وانشراحاً تخيلياً لا حقيقة له، بدليل أن الكثير من هؤلاء الذين يسمون نجوماً ليسوا بنجوم، نجوم الفن إذا خلا أحدهم بنفسه، أو مع خاصة جماعته أو أصحابه، عُرف منه الكآبة والضيق، وما هو إلا عبد لرضى الجماهير، ما هو إلا عبد يريد رضى الجماهير، هل رأيتم فناناً يغني أمام واحد أو اثنين، لا.
لابد أن يأتي الجمهور ويطرب، هو عبد لهذا الرضا والإعجاب من الجمهور.
لكن العالم عندنا يجلس يحضر طالب، أو ألف، أو عشرة آلاف العلم علم والعبادة عبادة والتعليم تعليم، فرق بين رضى وانشراح صدر العالم والعابد والداعي، وما يراه أهل الفن والفسق والطرب من خيال، وحسبك أن أحدهم لو سألته بكل صراحة تقول: أنت تخيل نفسك أمام الله عز وجل، إذا سئلت بين يدي الله عن أعمالك، تقول: يا رب أحييت كرنفالاً، أحييت سهرة، أقمت حفلة، هذه أتقرب بها إلى الله، أو أريد بها منازل الفردوس والشهداء،
الجواب
لا يصح ذلك إطلاقاً، ولكن:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن(66/16)
التحذير من ترك العمل خوفاً من الرياء
السؤال
إنه شاب يعمل منذ عدة أشهر في نشر الدعوة إلى الله عن طريق المطويات والكتيبات وإرسالها إلى خارج المملكة عن طريق المراسلة، ويقوم بمجموعة من أمور الدعوة، لكنه يقول: إني أخشى على نفسي من الرياء، فما هو توجيهكم لي؟
الجواب
هذا شيطان يريد أن يردك عن عملك، بما يوسوس لك من دعوى الرياء، ولو أن كل من مر بعقله هاجس الرياء والسمعة توقف عن الخطب والمحاضرات وتوزيع الكتب والمطويات والنشرات، والعمل في المقرات الخيرية ومكاتب الجاليات، والمشاركة في كل الأعمال الخيرية، لما بقي منها أحد، كلنا يخشى على نفسه الرياء، أي والله نخاف ونخشى على أنفسنا الرياء، ونخشى على أنفسنا السمعة، لكن هل نترك العمل الصالح خشية وساوس الشيطان؟ لا.
أنت لا تعجب بعملك، ولا تُدل على الله بفعلك، ولا تباهي أو تحبط عملك، تقول: اسكت أنا فعلت وعملت، لا.
تقول: والله لا أدري، القدوم على الله عز وجل في أمر رحمته وحده لا شريك له، إذا قدمنا يوم القيامة فليس اعتمادنا على هذه المحاضرات والكلمات والخطب والمطويات والنشرات والصدقات والتلاوات والأعمال، ولكن رجاؤنا في رحمته وحده لا شريك له، رجاؤنا في أننا نشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
إن تكرم علينا الرب الجواد الكريم المتفضل المنعم بقبول شيء من أعمالنا فله الفضل، الذي أعطى اللسان الناطق، والعين الباصرة، والأذن السامعة، واليد الباطشة، والقدم الماشية، وإن لم يقبل فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومعاذ الله أن يكون العمل هباء منثورا، نسأل الله ألا يجعل أعمالنا وإياكم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39].
أخي الحبيب! إياك أن تقف عن العمل، بل قاوم هذا الوسواس بمزيد من النشرات توزعها، ومزيد من المطويات توزعها، ومزيد من الصلوات تؤديها، ومزيد من العبادات والدعوة تفعلها، أما إذا كان كلما رمي الإنسان بكلمتين أو ثلاث يتوقف عن عمله، كأن يقال: فلان يريد منصباً، إذاً وقف من أجل ألا يقولون: يريد له منصباً، فلان يريد دنيا، وقف إذاً، فلان يريد ثناء الناس وسمعتهم، لا.
أخلص ما بينك وبين الله عز وجل، واعلم أن أعمال الآخرة كالدعوة والعبادة، ما لم تكن خالصة لله، فالذين يبيعون الطماطم والخضار على الأرصفة أكسب منك، لماذا؟ لأن الذي يبيع الطماطم والخضار يكسب مالاً، أما الذي يظهر بأعمال العُبَّاد ولا يرجو بها وجه الله، فلا دنيا حصلها ولا آخرة، ويكون قد خسر الدنيا والآخرة.(66/17)
إن الله يغفر الذنوب جميعاً
السؤال
امرأة استزلها الشيطان وفعلت كل شيء من أفعال الرذيلة والكبائر، وتقول: هل يقبل الله توبتي على ما كان من عملي؟ وهل من المعقول أن أكون امرأة صالحة أم لا؟
الجواب
أسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن يستر على أختنا هذه، وعلينا وعليكم جميعاً، وفي الحديث (إن الله ستير يحب الستر) والستر من العبادات التي غفل عنها كثير من الناس، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذي يمسي يعصي الله فيستره الله، فيصبح يهتك ستر الله عليه، يقول: فعلت البارحة كذا، وفعلت البارحة كذا).
فإلى أختنا هذه بعد الدعاء لها بالستر والتوفيق وقبول التوبة والإنابة، نقول: استري على نفسك ولا تحدثي أحداً ولا تخبري أحداً أبدا، هذا أولاً.
الشيء الثاني: يقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فينبغي لمن أذنب ذنباً أن يجتهد في كثرة الحسنات الماحية للسيئات، وفي الحديث (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
فإلى أختنا هذه نبشرك بإذن الله رجاءً فيما عند الله، وتصديقاً بوعد الله، أن التوبة تُقبل بمنّ من الله وكرم، وإياك أن يُوسوس لك الشيطان أن التوبة لن تُقبل، وأن ذلك مما يردك عن المضي في الاستقامة؛ لأن الشيطان يأتي يقول: وهل بعد الذي حصل في مكان كذا وليلة كذا وساعة كذا وحفلة كذا وسهرة كذا ترجين قبول توبة، الشيطان يعظم الأمر، ويجعل التوبة بعيدة المنال، وهذا من الخطأ، بل أحسنوا الظن بالله، وتعلقوا بالله، وتوكلوا على الله، وأبشروا بخير عظيم من الله، فإن الله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدنا أظل راحلته في فلاة (مفازة جرداء مهلكة) فلم يجدها عنده، فأيقن بالهلاك، ثم توسد يده ينتظر الموت، فلما أفاق إذ بناقته تحرك يده بخطامها أو بشفتها، أفاق فوجد الناقة بعد أن تيقن الموت، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح، الله أشد فرحاً من فرحة هذا بوجود ناقته التي عليها الماء والشراب بعد أن أيقن الهلاك.
فيا أحبابنا أحسنوا الظن بالله، وبشروا الناس ولا تنفروهم، وقربوهم إلى الله عز وجل، فإن الله يمهل عباده، يخبرني أحد الشباب، قال: كنت رجلاً عسكرياً في نقطة من النقط، وكان معي شاب في هذه النقطة، وكان سكيراً عربيداً فاجراً ما ترك شاذة ولا فاذة ولا حاجة ولا داجة من السيئات والكبائر والفواحش إلا فعلها، قال: والله سمعته ذات يوم يتجرأ على الله بكلام، وناقل الكفر لا يكفر؛ لأن الله قال في القرآن ما قالته اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] يقول هذا الشاب عن صديقه، قال: والله لما نزل المطر نام ربي ففتحت الملائكة البزابيز، تعالى الله عما يقول علواً عظيماً، قال: فكنت أنتفض وأرتجف وأبتعد بعيداً، قلت: الآن تنزل صاعقة من عذاب، أو شيء يهلكني وإياه فقط لأني وقفت بجواره.
قال: فما زلت أتحاشى مجلسه، وأتحاشى القرب منه، قال: ثم تدور الأيام، فإذا بي أراه شاباً تائباً منيباً منكسراً؛ تواباً بكاءً، قد أطلق لحيته، واجتهد في طلب العلم، وعمل الصالحات، وترك كل ما مضى.
فيا أحبابي! بشروا الناس، فالله عز وجل يقبل التوبة، وأعيونهم على الرجوع، ولا تنفروا، ولا يتألى أحد على الله، ليقول: فلان لا يهديه الله أبداً، لا، هذا تألٍّ على الله.
بل اسألوا الله السلامة من أقوال المغترين، ومن أقوال المجترئين، ومن أقوال الغافلين، واسألوا الله الهداية لجميع المسلمين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا للكفار، قال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وقال: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) وقال: (اللهم اهد أم أبي هريرة).
فالدعاء للكافر بالهداية مشروع؛ فما بالك بالفاجر والفاسق، فتحببوا وتدوددوا وتقربوا إلى الناس، وخذوا منهم حسناتهم، وأعينوهم على ترك سيئاتهم تكونوا بإذن الله من أسباب استقامتهم.(66/18)
سؤال الله الثبات والحذر من سوء الخاتمة
السؤال
كثير من الأسئلة يقول أصحابها: بأنهم على بداية الالتزام وحضور المحاضرات ومجالس الذكر، ويسألون من الشيخ أن يدعو لهم بالثبات.
الجواب
أسأل الله عز وجل أن يثبتني وإياكم، وكلنا نحتاج إلى ذلك أحبتنا في الله، الذي أمضى في الدعوة أربعين سنة، والذي أمضى في الدعوة سنة، كلهم على خطر من سوء الخاتمة، وكل يخاف على نفسه أن يتقلب قلبه، أو يفتن بفتنة يصبح بها مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، أو يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ليس فينا ذلك الذي يأمن ويضمن نفسه، فلا تستبعدن على ضال هداية، ولا تأمنن على مهتدٍ غواية.
رجل مهتدٍ لا تقل: هذا لا يغوي أبداً، ورجل غاوٍ لا تقل: هذا لا يهتدي أبداً، ومن نصوص أهل السنة والجماعة في المعتقد، ولا نقطع لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار، وإنما نرجو للمحسن الثواب، ونخشى على المسيء العقاب، فيا أحبابنا! أنتم أنفسكم اسألوا الله عز وجل الثبات والهداية، ولن نكون أحرص عليكم من حرصكم أنتم على أنفسكم، ولن نكون أكثر شفقة في نجاتكم من شفقتكم أنتم على نجاة أنفسكم، فكلنا يدعو ربه، وكلنا يدعو لأولاده، وكلنا يدعو لإخوانه، وكلنا يدعو لجيرانه.
يا أخي! لا يضيرك إذا أوترت أن تقول: اللهم إني أسألك لنفسي ووالدي وذريتي وإخواني وأخواتي وذرياتهم وجيراني وذرياتهم والمسلمين؛ أن تجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل فتنة عصمة، حاول أن تجمع إخوانك المسلمين في الدعاء، بعض الناس لا يدعو إلا لنفسه فقط، جزاه الله خيراً على الدعاء، الدعاء عبادة، لكن -يا أخي- لا تنس الدعاء لوالديك: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24] ولا تنسَ الدعاء لعلماء المسلمين، وإخوانك المجاهدين، ولولاة أمور المسلمين؛ ففي صلاحهم صلاح الرعية، ولا تنسَ الدعاء لهم بصلاح البطانة، وباجتماع الشمل، وبالثبات على الحق، ولا تنسَ الدعاء لكل من أوصاك به ولمن أحبك في الله، وفي الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16] والأدعية التي في القرآن أكثرها بنون الجمع ونا الجمع.
فيا أحبابنا! ادعوا لأنفسكم ولإخوانكم وللمسلمين أجمع.(66/19)
أنواع الجلساء
إن من الضرر على دين الشخص مجالسة غير الصالحين، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمجالسة الصالحين، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر تحذيراً كبيراً من قرين السوء وبين خطره.
كما أن سبب تآلف القلوب وتنافرها هو تقارب الطباع أو تباعدها، وكما يقال: (الطيور على أشكالها تقع) ولقد حث الشيخ في درسه هذا على مصاحبة العلماء والحكماء وأهل الخبرة والصلاح.(67/1)
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
الحمد لله الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على نبيه محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: إنه لمما يسعدني ويثلج صدري أن أدعى تشريفاً وتكريماً للمثول بين أيديكم، والتحدث إليكم، والاستفادة منكم.
أيها الإخوة: كما تعلمون عنوان المحاضرة، أو عنوان الكلمة بالأصح" أثر الجليس على المسلم في الدنيا والآخرة"، ولقد صدر الأخ المقدم تقدمته بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبةً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة).
أيها الإخوة في الله: لا شك أن الإنسان اجتماعيٌ بطبعه، ولقد خلق الله سبحانه وتعالى في البشر أجمعين غريزة الاختلاط، وغريزة المخالطة، وغريزة المعاملة مع الناس، فكان لابد لكل إنسان أن يختلط بأبناء جنسه، وأفراد مجتمعه في جميع شئون حياته وحاجاته، فلا بد له من المخالطة مع زملائه في المدرسة، ومع زملائه في العمل، ومع جيرانه في الحي، ومع إخوانه المصلين في المسجد، ومع أقاربه وعصابته في صلته لرحمه وفي اتصالاته جميعها، فالإنسان لا شك أنه اجتماعيٌ بطبعه، وكان لهذا الاجتماع مصلحة عظيمة، ومن أجل تحقيق تمام المصلحة في هذا الاجتماع، كان لابد أن يكون له من الضوابط والقيود ما يحقق الأثر المنشود في هذه المخالطة، وفي هذه الصحبة.
وحسبكم -أيها الإخوة في الله- أن الله سبحانه وتعالى قد اختار صحبة نبيه، واختار صحب نبيه من الثلة الأولين الطاهرين المطهرين، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يلزم ويلزم نفسه بصحبتهم، فقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] فالله سبحانه وتعالى قد اختار الصحبة الطيبة الطاهرة لنبيه وأمره بلزومهم.
فنحن -يا معاشر المؤمنين- في دبر هذا الزمان في أمس الحاجة إلى الأصحاب والإخوان والخلان الذين بلينا بكثرتهم، وامتحنا بقلة النافع منهم، نحن بأمس الحاجة في هذا الزمان إلى تحقيق العلاقات، وتمحيص الصداقات، وتدقيق المودات، كل واحد منا لو أمسك أوراقاً، وليست ورقة ليعد كم من الأصدقاء عرفهم، وكم من الخلان اتصل بهم، لوجد أنه عرف الكثير الكثير منهم، ولكن إذا اشتدت الأمور، واستحكمت الأزمات، لن يجد إلا ما هو أقل من عدد أصابع يد واحدة يستطيع أن يفزع إليهم بعد الله سبحانه وتعالى، ويثق في نخوتهم، ويوقن بنجدتهم، بل وهو مطمئنٌ أن يفشي سره عندهم، وأن يفضي بحاجته إليهم، أولئك نزر قليلٌ من الإخوان والخلان والأصدقاء، ومن أجل ذلك كان واجباً أن نختار الأصدقاء، وأن نحدد العلاقات.(67/2)
المرء على دين خليله
يقول صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) وقوله صلى الله عليه وسلم هذا معيارٌ دقيقٌ في تعديد شخصية المرء بمعرفة جليسه، فأنت تستطيع أن تحكم على هذا الرجل، أو ذاك الرجل، تستطيع أن تحكم عليه بالشجاعة، أو القوة، أو الأمانة، أو الديانة والاستقامة إذا عرفت من هم جلساؤه وأصدقاؤه وخلطاؤه، لأن الإنسان على دين وملة وطريقة خليله، فلينظر أحدكم من يخالل كي لا ينسب لنفسه ديناً وملةً خبيثةً وسمعةً سيئةً، والعياذ بالله.(67/3)
(مثل الجليس الصالح والجليس السوء)
وإذا عدنا لنتأمل الحديث الذي قلناه آنفاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم تشبيهاً للجليس الصالح بحامل المسلك، فحامل المسك إما أن يحذيك، أو يطيبك، أو يهديك نصيحة، أو يعرفك بعيب من عيوبك، أو يعلمك أمراً تجهله، أو يرشدك في أمر قد ضل عنك، أو يحذرك من أمر كدت أن تقع فيه، وإما أن تبتاع منه، والمبايعة بما جيء بها في المثل إشارة إلى ما يتعلق بالمعاطاة من الأخلاق، وأنه تمنحه وداً صادقاً، وهو يعطيك علماً نافعاً، أنت تمنحه ثقةً طيبةً، وهو يمنحك أخلاقاً رفيعةً عاليةً، وإما أن تجد منه ريحاً طيبةً، فالجليس الصالح لو لم يكن لك منه إلا ريحه، ذكره، سمعته بين الناس، لقيل: حسبك بفلان أنه من مجالسي أئمة المساجد، حسبكم بفلان أنه من الذين يجالسون أهل الإيمان والذين يحرصون على حلقات الذكر في المساجد، حسبكم بفلان أنه من الذين يجالسون العالم الفلاني، والعالم الفلاني، والعالم الفلاني، وما جالسه إلا لطيبه.
إذاً هذه هي الرائحة الطيبة التي تنتقل إليك بمجالسة الجلساء الطيبين.
أما الجليس السوء، فهو الذي يحرق ثيابك، يحرق سمعتك، ويخبث ذكرك بين الناس، لا سيما إذا رؤي معك على صورة مريبة، أو حالةٍ تدعو إلى العجب والدهشة، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة، وهذه الريح هي ما لا يسلم منه الإنسان، لأن هذه الريح بمثابة غبار دخاني ينطلق بأجواء السماء، فلا يلبث أن يصل إلى جوفك، فتستنشقه وأنت لا تدري، وأعني بهذه الريح في المثال هي: ريح اكتساب الطباع الخبيثة والأخلاق السيئة، ومن هنا قال جملة من علماء الأخلاق والسلوك: المرء من جليسه، والطبع استراق، الطبع استراق: الإنسان يسرق الطباع وهو لا يشعر، وإن الإنسان يكون في أخطر مراحل سرقة الطبع إذا كان في مراحل صغره، وفي مراحل بداية نموه، ومن هنا نلاحظ أن الأطفال الصغار جداً يسرقون طباع والديهم، ونلاحظ أن من كبر قليلاً يسرق طباع المدرسين، ونلاحظ أن من كبر أيضاً يسترق وهو لا يدري طباع أهل حيه وجيرانه، وطباع الذين يعيشون من حوله.(67/4)
قوة التأثر بالجليس
وأذكر لكم قصةً تدلل على أن الإنسان يتأثر وهو لا يشعر، وهي قصة غريية، وقد فعلت فعلاً، قيل لأحد الوزراء، وكان حاجباً وجليساً عند ملك من الملوك أن يحضر ليتسلم هديةً أهديت إلى الملك، فجاء الوزير واستلم الهدية، ما هي؟ حصان، فأخذ هذه الهدية، ودخل بها في إسطبل الملك، ثم جاء مع الملك، وأخذ يتأمل هذا الحصان فترةً بعد أخرى، فقال له الملك: ما تقول في هذا الحصان؟، قال: هذا حصان جيد، ومن سلالة عريقة، لكن هذا الحصان قد ربي مع بقر، فعجب الملك من ذلك عجباً شديداً وسكت.
وبعد مدة أهدي إلى الملك صقر-طير من الطيور طير جارح- فدعا وزيره، وقال: تعال -أيها الوزير- وانظر إلى ما أهدي إلينا اليوم، فتأمله مراراً مرةً بعد أخرى، فقال: هذا طير جيد، لكنه قد ربي مع دجاج، فعجب الملك من ذلك عجباً شديداً، ثم سأل: كيف تقول: إن الحصان الذي أهدي إليَّ قد تربى مع البقر؟ وكيف تقول: إن هذا الصقر قد تربى مع الدجاج؟ قال: إني تأملت هذا الحصان فوجدته ينظف نفسه بلسانه، ولا ينظف نفسه بلسانه إلا البقر، أنتم تلاحظون البقرة، هي التي تتنظف بهذه الطريقة، فكون هذا الحصان قد تربى في حظيرة مع جملة من الأبقار، ولو كان حصاناً، فإنه سرق طباعها، وهو أعجميٌ بهيم لا عقل له، فما بالكم بالإنسان وهو يملك السمع والبصر والفؤاد، ألا يتأثر ممن حوله؟ إذا كانت هذه البهيمة تأثرت، وهي لا عقل لها ولا لب، فإن الإنسان يتأثر وهو لا يشعر.
قال: حسناً: هذا الحصان عرفنا شأنه، فما بال هذا الطير؟، قال: إني تأملت هذا الصقر الذي أهدي إليك، فنظرته مطأطئ الرأس، ومنقاره إلى الأرض يلتقط الحب كما تلتقط الدجاج الحب، وهذه خصلة لا توجد إلا في الدجاج، أما الصقور، فهي لا تنظر إلى الأرض أبداً، بل دائماً تحلق بأبصارها إلى السماء، فإذا رأت فريسةً، انقضت عليها في علوها، ثم نزلت بها إلى الأرض، وما تعودت الصقور أن تأكل مما في الأرض، فهذا الصقر حينما تربى في صغره مع الدجاج، اكتسب طباع الدجاج، وهو أنه يأكل من الحب، أقول هذه القصة لإخواني الشباب، ولأبنائي الصغار الذين يسمعونها لكي يعرفوا كيف يتأثر الإنسان وهو لا يدري، إذا كان الحصان والصقر قد تأثر، وهو ليس له عقلٌ وفؤادٌ وقلبٌ يتأمل ويبصر به ويعقل به، فما بالكم بالإنسان لا شك أنه سوف يتأثر.
إذاً فعلينا أن ننتبه فيمن نخالطهم، وأن ندقق فيمن نجالسهم حتى لا نقع فريسةً لتصرفاتهم وسلوكهم وعادتهم السيئة والخبيثة.
أنتم تلاحظون الذين يجالسون العلماء، يحبون أن يلبسوا مثل لباسهم، يحبون أن يتهيئوا بمثل هيئاتهم، يحبون أن يجعلوا في مجالسهم مثل ما يجعل العلماء في مجالسهم، والذين يجالسون الفساق يحبون أن يقلدوهم في تكسرهم، أو في عباراتهم، أو في أسلوب حياتهم، أو في طريقة معاملاتهم، إذاً فالإنسان يسرق الطباع وهو لا يدري، الإنسان يسترق الأخلاق سيئها وخبيثها وعنيدها وطيبها وهو لا يدري كلٌ بحسب جليسه.
إذاً -أيها الإخوة- ينبغي أن ننتبه لهذا الأمر انتباهاً مهماً.
يقول عقبة بن دينار: رأيت ذات مرة غراباً وحمامةً يطيران من غصن شجرة إلى أخرى، ومن أعجب العجائب أن يطير الغراب إلى جانب الحمام، لا تشابه بينهما في الفصيلة، لا شك أن كلهم من فصيلة الطيور، لكن هذا من جهة الحمام، وهذا من جهة الغربان، فما علاقة هذا بهذا؟ قال: فتأملتهما، فإذا هو غراب أعرج وحمامة عرجاء قد جمع بينهما المشاكلة في الطباع.
إذاً: فكل جليس يهوى من يجالسه في طباعه وأخلاقه، انظروا حتى البهائم، حتى الطيور، حتى العجماوات تتأثر باختلاطها، وتتأثر بأشكالها وأجناسها.(67/5)
سبب تآلف الأرواح أو تنافرها
إذاً فالإنسان من باب أولى أن يتأثر بمن يخالطه، فإذا تأملت رجلاً طيباً يصاحب طيبين مثله، فإنما هو من أجل هذه الطيبة، ومن أجل هذا الصلاح، ومن أجل هذا الدين، ومن أجل تلك الاستقامة التي يتمتعون بها، فجمعتهم في نظام واحد، وإذا تأملت بعضاً من الفاسقين، وجدتهم يجتمعون بأمورٍ جمعت بينهم إما في مجالسهم، أو في لهوهم، أو في لغطهم، أو في فسقهم والعياذ بالله، فجمعتهم هذه المجالس على ما عندهم من السوء والخبث وغير ذلك.
ثم تأكدوا -أيها الإخوة- أن الإنسان كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنودٌ مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) فأنت تعرف الإنسان بصلاحه، ودينه واستقامته، فينبلج صدرك له، وينشرح خاطرك في مجالسته، إن ذلك ائتلافٌ ألفه الله جل وعلا بين هذه الأرواح؛ لأنها تجتمع على أمرٍ بطاعة الله سبحانه وتعالى: (وما تناكر منها اختلف).
أنا حينما أجد واحداً من هذه الوجوه الطيبة، ولو كنت لا أعرفه من ذي قبل، وأقابله هنا، أو هناك، أو في سوق، أو في أي مكان أسلم عليه، وأصافحه، وتنبلج أسارير وجهي من أجله ارتياحاً وائتلافاً وسروراً وانشراحاً؛ لأن هذه أرواحٌ متعارفة، ما الذي عرف بينها، وجمعها على معرفة واحدة؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فهذه الأرواح تعارفت في الله، وتحابت في الله، واجتمعت لأجل الله سبحانه وتعالى، فكان حقها على الله أن يجمعها، وأن يؤلف بينها، وأن يجعل مجالسها مكتوبةً في صحف أصحابها، وتكون بإذن الله جل وعلا سبباً في تثقيل موازينها يوم القيامة، فانتبهوا لذلك أيها الإخوة، واحذروا من التهاون بالجلساء، فإن الإنسان يتأثر وهو لا يشعر، ثم إن الإنسان قد يقول: أنا أثق بنفسي، أنا أصلي، أنا أطيع والدي، لكني أخالط أناساً لا يصلون، ولا يطيعون والديهم، أو غير ذلك، لكني أنا واثق من نفسي لو أطبقت السماء على الأرض، ما أترك الصلاة، ولا أعصي والدي، ثقةً بنفسه يخالط الأشرار، وهو كما يقول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
رجل ربطناه، ثم رميناه في البحر، وقلنا له: انتبه لا تبتل ثيابك من الماء، فذلك كمن يجعل نفسه في وسط جلساء السوء، وفي مخالطة الأشرار والسيئين، ثم يقول: أنا لا أتأثر، سبحان الله! من ذا الذي لا يتأثر؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم وحده مع جملة الأنبياء.
وبلوت أخبار الرجال فلم أجد رجلاً يؤثر دون أن يتأثرا
إلا النبي محمداً فجعلته أملاً وسرت على هداه مكبرا
هو الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس: [من كان مقتدياً، فعليه بصاحب هذا القبر -يعني: رسول الله- فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة من بعده] كل إنسان يتأثر، كل إنسان يفتتن، فما بالك أنت أيها الطيب، أيها الشاب الصالح، أيها الثمرة، أيها الغرسة التي لا زالت تتأثر بجميع المؤثرات والعوامل، ترمي بنفسك في جلساء السوء وتقول: أنا لا أتأثر، سبحان الله! هل أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ما من إنسان إلا وحوله من يؤثر عليه؛ زوجته إخوانه أصدقاؤه أقاربه جلساؤه، كلٌ لابد أن يتأثر بمن يجالسه.
إذاً فلابد أن نجالس الطيبين، لابد أن نجالس الأخيار، لا بد أن نجالس الصالحين حتى نتأثر بفعالهم وطباعهم، ومن أجل ذلك كان العرب قديماً إذا نشأ الصبي فيهم يافعاً، ذهبوا به إلى البادية لكي يكتسب اللغة، ويكتسب طباع الشهامة والمروءة والشجاعة والفروسية والصدق في كل شيء؛ لأنهم يعرفون أنها لازالت تلك الأخلاق قديماً، أما الآن، فقد استوت الحاضرة مع البادية، آنذاك كانوا يرسلون الإنسان ليأخذ من هذه الطباع، فيتأثر الإنسان حينما يعود إليهم، ويجد الوالد ولده شاباً جلداً شهماً قوياً كريماً فروسياً شجاعاً بسبب مخالطاته آنذاك، أما الذي يقول: أنا أخالط ولا أتأثر، فهذا مسكين يضر نفسه وهو لا يشعر.(67/6)
خطر القرين السوء
رجل من الرجال، وكان مؤدباً حكيماً وجد ولده يخالط جلساءً سيئين، فقال: يا ولدي! لا تجالس هؤلاء، فإنهم يضرونك، إنهم يؤثرون عليك، إنهم يخبثون ذكرك وسمعتك بين الناس، قال: يا أبت! أنا لا أتأثر أبداً، إنما أضحك عليهم، ألهو معهم قليلاً، لكني لا أتأثر، قال: حسناً يا ولدي، وبعد أيام، قال له: اذهب -يا ولدي- إلى السوق، وائتنا بصندوق تفاح جيد نظيف جداً، فذهب الولد واشترى صندوقاً من التفاح، فجاء وكشفه أمام والده، وقال: ما ترى، هذا تفاح نظيف سليم مائة في المائة، خذ يا ولدي هذه التفاحة، وكانت تفاحة فيها فساد بسيط، ضعها في هذا الصندوق، وغطه كما كان، فأخذ الولد التفاحة وغطاه كما كان، بعد أيام نادى الوالد ولده: تعال -يا ولدي- ائتني بالصندوق، فجاء بالصندوق، قال: اكشفه، فلما كشفه، فإذ بالتفاح كله قد أصبح فاسداً، قال: انظر هذه تفاحة فاسدة أثرت على صندوق طيب، فما بالك بجملة فاسدين ألا يؤثرون على واحد طيب؟! بالعكس يفسدونه، ويخبثون طباعه، ويغيرون أخلاقه، ويجعلونه بدلاً من أن يكون باراً يجعلونه عاقاً، وبدلاً من أن يكون مؤمناً تقياً يجعلونه فاسقاً مجاهراً، وبدلاً من أن يكون ذا أخلاق طيبة ومعاملة حسنة يجعلونه شرس الأخلاق سيئ المعاملة.
إذاًَ فالجلساء لهم أثرٌ عظيم، وإني أحذركم -أيها الشباب- من مجالسة من لا تعرفونه حينما ينصح الوالد ولده، حينما ينصحني أبي، أو كل منكم ينصحه والده، ويقول: يا بني اترك فلاناً، وعليك بفلان، اسمع هذه النصيحة، ولا تتردد في قبولها، فإنها نصيحة من مشفق؛ لأنه لابد وقد رأى خلقاً سيئاً ذميماً، فنهى ولده أن يختلط بأولئك خشيةً من هذا الخلق.
منذ مدة وأنا أعرف هذه القصة بتفاصيلها إلى حد ما؛ شاب كان قريباً من حينا، كان عمره يقارب الثمان عشرة سنة، وأهله أسرة طيبة لا نستطيع أن نحكم عليهم إلا بكل خير، لكن هذا الشاب عنده ضعف في الشخصية، فيأتي من يحب أن يختلط به، فيسمح بهذا الاختلاط، فتجده يجالس هذا، ويجالس هذا، ويختلط بهذا، نصحه الناصحون من أهل الخير وأهل الدين والاستقامة، قالوا: ابتعد عن فلان وعلان وعلان، فلم يجد جدوى من نصيحتهم، ما هناك شيء جديد من هذه النصيحة، الذي حصل أن أولئك الجلساء قبض عليهم ذات يوم وهو معهم في جريمة مخدرات، حبوب -والعياذ بالله- وهو لا يدري هذا المسكين، لا يدري أنهم يحملون هذا المخدر في جيوبهم، أو في سياراتهم، أو في خبايا منازلهم، لا يدري أنهم يستعملون هذا الشيء، فقبض عليه من ضمن من قبض عليه، ونال جزاءه، وخرج بستر الله، لكن بعد ماذا؟ بعد أن شوهت سمعته، ولطخت سيرته، وقيل: فلان بن فلان آل فلان وجدوه مع شلة فاسدة معها مخدرات وحبوب وغير ذلك.(67/7)
الحرص على مصاحبة العلماء والحكماء
إذاً ليس عجباً أن نحذر من جلساء السوء، ليس عجباً أن نحذر من الفساق، ليس عجباً أن ننصح باختيار الصديق الطيب الذي يعينك إذا تذكرت، ويذكرك إذا نسيت، وتجده دائماً صديقاً صدوقاً صادق الوعد منصفاً في معاملته معك، وفي معاملتك معه، هؤلاء هم الجلساء الذي ينبغي أن نختارهم، وينبغي أن نصحبهم، وإني أنصح نفسي وإياكم بمجالسة من هو أعلم منا، ومن هو أرفع منا، ومن هو أكبر شهامةً ورجولةً وكرامةً وعلماً بأخبار الأولين، وأخبار الرجال المتقدمين، وأهل السير؛ حتى نستفيد من طباعهم، ومن مجالستهم، ومن أسلوب حديثهم، إنك لتنظر الشاب في أول وهلة، فتعرف أن أباه شهماً كريماً، أو تعرف أنه من أسرة شهمة وكريمةٍ وذات رجولة، أو تعرف أنه قد تربى مع النساء والبنات، تعرف لأول نظرة حينما تسلم على الشاب، فتجده رجلاً جريئاً قوياً في الكلام مرحباً مهللاً بمن يقابله خلافاً لمن تجده خجلاً منكسراً لا يستطيع أن يرد أدنى الحديث متأثراً بمن جالس.
إذاً فجالسوا الطيبين، جالسوا الأخيار، وأنتم ترون الإنسان حتى في فلتات اللسان تعرف من يجالس، العامي وهو العامي الذي لم يقرأ ولم يكتب، إذا جلست معه، تقول: هذا رجل يجالس العلماء، ولو تقول له: اكتب اسمك على الورقة، ما استطاع أن يكتب، لكن من حديثه تعرف أنه يجالس العلماء، والإنسان وقد يكون متعلماً حينما تتحدث معه، تقول: لا بأس هذا متعلم، لكنه كثيراً ما يجالس السفلة والغوغاء وسوقة الناس، كيف؟ نعرف ذلك من أسلوب حديثه ومن عباراته، لا يستطيع أن يأتي بالحديث على وجهه، ولا يستطيع أن يأتي بالكلام على متمه ومقاصده.
إذاً فالإنسان يتأثر بمن يختلط به، وأنتم -يا شباب هذا المركز- أنتم -أيها الصغار- انتبهوا لأن الأولياء الذين معنا لم يبذلوا جهداً في التوجيه، لكني أحدث الشباب الصغار، وأخصهم بمزيد من النصيحة استفيدوا من المراكز، وخالطوا المدرسين، استفيدوا من الموجهين، من المشرفين: المشرف الثقافي، المشرف الاجتماعي، المشرف على المجال المعين، ولا تجعل جلوسك في المركز وخروجك سواء، أنت دخلت هذا المركز، ماذا استفدت؟ عندك سؤال، اذهب واسأل مدير المركز، اسأل رائد الأسرة، اسأل موجه الأسرة، في ذهنك شيء حتى ولو لم يكن متعلقاً بالمركز، اسأل؛ لأن الجرأة هي سبيل العلم.
قيل لـ ابن عباس وهو ترجمان القرآن الذي مسح صلى الله عليه وسلم على رأسه وكان صغيراً، فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، يعني: علمه التفسير، قيل له: كيف نلت هذا العلم؟، قال: [بلسان سئول] لا أتردد، دائماً أسأل، فأنتم أيها الشباب لا يكون الواحد منكم يدخل المركز ويخرج وما استفاد شيئاً، اسأل تتعلم، اسأل عن أي شيء يخطر على بالك، ولو لم يكن أمام عينيك، اسأل، ناقش حتى تخرج بحصيلة علمية، وليس عجباً قد يكون هذا المدرس الذي سألته لا يملك الجواب، وكثيراً ما نسأل عن أشياء ولا نعرف الجواب عليها، لكن نبحث عنها في الكتب، نبحث عنها في المراجع، نطلب من الأستاذ أو الموجه، أو المشرف، نطلب منه أن يبحث عنها وأن يفيدنا، هذه حاجتنا إليكم أيها الشباب أن تشبوا، وأن تنشئوا على مستوىً من الجرأة، وعلى مستوىً من الفهم.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
فتعودوا فعالاً طيبةً، وتشبهوا بالرجال الأوائل؛ بالصحابة بـ السلف الصالح بالقادة الفاتحين.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني وإياكم إلى ما يحبه ويرضاه، وأسأل الله أن يعصمنا عن ما يسخطه، وأن يجنبنا ما يغضبه، وأن يوفقنا إلى ما يرضيه، وأشكر لإدارة المركز، وأشكر لأولياء الأمور هذا الحضور، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(67/8)
الأسئلة(67/9)
مصاحبة شخص يظهر الطاعة ويبطن المعصية
السؤال
يقول: يا فضيلة الشيخ! أنت تقول: يجب مصاحبة الشخص الذي يذكر اسمه في المجالس بالخير، ولكن هذا الشخص يفعل الخير أمام الناس وخلفهم يفعل غير ذلك العمل، فهل أحب مصاحبة هذا الشخص، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
أولاً: يا أخي! واجبك إذا علمت رجلاً كهذا أن تكون محباً ناصحاً، لا أن تكون حاسداً شامتاً؛ لأن النصيحة هي من حقوق المسلم على أخيه، وإنما يحكم على الناس بالصلاح والفساد مما يظهر لنا من أفعالهم، فمن أظهر لنا خيراً، عرفناه به، ودعونا له به، ومن أظهر خلاف ذلك، جانبناه وتركنا مجالسته، لكن إذا علمت وتيقنت يقيناً في رجل صفته كما ذكرت، فعليك أن تنصحه نصيحةً طيبةً لعل الله أن يهديه على يديك، ومن ثم فالدنيا مليئة بالجلساء والطيبين والصالحين وطلبة العلم والأخيار، فلم تضق الدنيا بأهلها حتى لا تجالس إلا هذا، وإن كان واجبك نصيحته، وواجبك إسداء النصح والمعروف إليه بأسلوب المحب، بأسلوب الداعية الناصح اللطيف، وليس بأسلوب المتشمت المشهر، والله أعلم.(67/10)
أصاحب قرناء سوء منذ مدة ولم أتأثر بهم
السؤال
أنا شاب في العشرين من عمري، ومنذ خمس سنوات وحتى هذا الوقت أجلس مع أصدقاء يلعبون الورق، ولا يحافظون على الصلاة، ويشربون الدخان، ولكني -ولله الحمد- أحافظ على الصلاة في وقتها، وبارٌ بوالدي، وأؤدي معهم كل واجب علي في الإسلام، ولكني أجلس معهم فقط مجرد جلوس؛ لأنه لا يوجد لدي أصدقاء غير هؤلاء؟
الجواب
أخي السائل! أقول: ثبتك الله على استقامتك ودينك وصلاحك، ولكن أقول لك كما قال الشاعر:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجرب
يقول العوام: (من بار الأجرب على الحول يجرب) لاشك أنك ستتأثر، السنة الأولى طيب ومطيع لوالديك، لكن السنة الآتية تقل صلاتك، وتقل طاعة والديك فتتأثر قليلاً قليلاً حتى تصبح-والعياذ بالله- من عداد الفاسدين، لا تخالط الأشرار ثقةً بنفسك أبداً، إنما ثق بالله واسأله الثبات، وخالط الأخيار الذين يعينونك كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
لما طمع صلى الله عليه وسلم في إسلام صناديد قريش لـ أبي جهل، الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط وكبار القبائل في قريش، طمع صلى الله عليه وسلم فيهم وفي إسلامهم، وكأنه انشغل قليلاً عن بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي، وغيرهم أنزل الله عليه قوله وهو رسول الله المعصوم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
الزم هؤلاء، جالسهم، خالطهم، تأثر بهم واستفد منهم أيها الشاب، ينبغي أن تتأثر بالطيبين الصالحين؛ لأنك لا شك سوف تتأثر إذا علمت أن الإنسان قد يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله- بسبب المجالسة السيئة، فـ أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالإمكان -وقد جرى القلم فيما جرى به، وكتب في اللوح ما كتب فيه- كان بالإمكان أن يموت على ملة إبراهيم على دين الإسلام، لكن جلساؤه وما سبق له من الخاتمة -والعياذ بالله- لما أن جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول يعرف معروف عمه أبي طالب عليه؛ لأنه حماه ورحمه ورأف به مما يفعل به المشركون أعداء الدعوة، فكان أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم من واجبه أن يدعو عمه، فجاء إلى عمه -وقد كان مريضاً مرض الموت- قال: (يا عم! كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله) فقال الصناديد الكبار من قريش: أتترك دين الآباء والأجداد يا أبا طالب؟! ورسول الله يترجاه، ويتمناه، ويدعوه (يا عم! كلمة واحدة أحاج لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله)، وهم يقولون: أتترك دين الآباء والأجداد يا أبا طالب؟! حتى فاضت روحه، وقال قبل أن يموت: هو على ملة عبد المطلب، يعني: أبو طالب قال عن نفسه أنه مات على ملة عبد المطلب، ملة الأصنام والأوثان عياذاً بالله، فهذا هو أثر الجلساء، والجلساء لهم خطر عظيم.
ثم يا أخي! لو فرضنا وسلمنا تسليماً جازماً أنك لن تتأثر بهؤلاء الذين يشربون الدخان، ويتهاونون في الصلاة، وقتك أين يذهب؟ ألست مسئولاً أمام الله عن وقتك: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه) شبابٌ فيما أبليته، وعمرٌ فيما أفنيته، ماذا تقول عند ربك حينما يسألك ويسائلك؟، تقول: يا رب! جلست معهم وهم يلعبون الورق، تقول: يا رب! جلست معهم وهم يدخنون، هذا جواب! هل يسرك أن تلقى الله بعمل كهذا؟! هل يسرك أن تموت وأنت على صحبة المدخنين والفساق؟! أسأل الله لي ولهم الهداية؛ لأن من كان مصراً على المعصية لاشك أنه فاسق، لكن من ارتكبها وهو يريد التوبة، أو عزم على التوبة، فنسأل الله لنا وله الهداية، الوقت أثمن من ذلك كله، ومن أنت حتى لا تتأثر؟ كما قلنا آنفا: من هو الذي لا يتأثر؟، إذاً فلابد أن تنتبه، ثم أيضاً ما هي النتيجة؟ اعرض عقلك، ناقش نفسك حينما تأوي إلى الفراش، اجلس يوماً مع العلماء والرجال حتى إذا لم تجد من العلماء من تجلس معه، اجلس مع كبار السن من الرجال أهل الشهامة والمروءة، فتجد أنك قد تعلمت منهم أحاديث فيها عبر، وتعلمت منهم طباعاً حميدةً يحمدك الناس بها، وليس الحمد هو المقصود، لكن تبدو في فعالك ومعاملاتك، لكن اجلس مع هؤلاء، أقل الأحوال تأوي إلى فراشك وثيابك كلها رائحة دخان، أقل الأحوال تعود إلى بيتك وأولادك قد ألفوا منك رائحة الدخان، فمادام والدهم يجالس الذين يدخنون، فنحن -الأولاد- من باب أولى نجالس المدخنين، لأن والدنا يجالسهم، ثم بعد ذلك إذا لم تتأثر أنت، أولادك يتأثرون، مادام أنك لا ترفع نفسك عن مستوى أولئك، وتجعلهم يدخلون في بيتك، ويشربون الدخان في دارك وأولادك ينظرون، فلا غرابة أن يذهب أحد أولادك ويجلس في بيوت الذين يدخنون، ويجلس في بيوت الذين يلهون، والأمر في النهاية مضرة عليك، وعلى أولادك، وهذا سؤالٌ وجيه جداً، وأسأل الله أن تكون الإجابة شافية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(67/11)
الحج المبرور
لقد أوجب الله على عباده حج بيته الحرام مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا، وجعل ذلك سبباً لطهارة القلوب ومغفرة الذنوب، ونيل النعيم في دار الخلود، وفي هذه المادة تعيشون مع فضل الحج المبرور، والتحذير من التهاون بالحج وتأخيره، ثم آداب وواجبات ينبغي الأخذ بها لمن عزم على الحج.(68/1)
فضل الحج المبرور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن الله جل وعلا قد أنعم عليكم بنعمة الإسلام، وفضلكم على كثير من الأمم تفضيلاً، وشرع لكم في أركان دينكم حج بيته العظيم الذي جعله مثابةً للناس وأمناً، وأوجب على عباده المسلمين حج بيته الحرام مرةً واحدةً في العمر، وجعل ذلك سبباً لطهارة القلوب ومغفرة الذنوب، ففي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) من سره أن يقدم عملاً يكون سبباً لتكفير الذنوب ونيل دار الخلود والنعيم، فليبادر إلى حج بيت الله الحرام.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) بل لقد عدَّه صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال حينما سئل: (أي العمل أفضل؟ فقال: إيمانٌ بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) ومن عظيم رحمة الرب الكريم بعباده أن فرض الحج على العباد مرة واحدة، وما زاد فهو قربة وتطوع، ولم يجعل فرض الحج دائماً في كل عام، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل -وفي رواية: أنه الأقرع بن حابس -: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع) رواه أحمد والنسائي.(68/2)
التحذير من التهاون وتأخير الحج
عباد الله: إن من الأمور الداعية إلى العجب والدهشة والغرابة ما يقع فيه كثير من المسلمين -وبالأخص بعض شباب المسلمين- من تأجيلهم الحج سنة بعد أخرى، وهم في أمنٍ، قد ملكوا الزاد والراحلة، والكثير منهم مقيم قريب من بيت الله الحرام، والأسوأ من ذلك أن ترى بعضهم قد زار بلاد الشرق والغرب من دول أوروبا وأمريكا، وأنفق فيها أموالاً طائلةً، وأوقاتاً طويلةً، ومع ذلك لم يحج فرضه، ولم يقم بالعبادة الجليلة الواجبة، تلك العبادة التي لا تحتاج إلى وقتٍ طويل، أو أموال طائلة، فالحذر الحذر يا شباب المسلمين من هذا التساهل.
أما يخاف أولئك الذين يؤجلون الحج ويسوفونه؟ أما يخشون أن تصرعهم المنايا، أو تخطفهم سهام المنون وهم بين أظهر الكفار غافلين عن أداء فرض الله؟ أما يخافون المروق من الدين بنص وعيد المصطفى صلى الله عليه وسلم في قوله: (من ملك زاداً وراحلةً تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً) رواه الترمذي.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جدة ولم يحج، فيضربوا عليهم الفدية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين].
فبادروا بالحج وتعجلوا يا من لم تقضوا فرضكم، ومن حج وابتغى التقرب في الزيادة، فليجتهد في حسن الأداء, والبشارة له بعد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، والحج المبرور ليس له ثوابٌ إلا الجنة) فمن استطاع الحج بوجود الزاد والراحلة، فليبادر وليتعجل إذا كان حراً بالغاً عاقلاً، والمرأة كذلك إذا وجدت محرماً زوجاً كان أو من تحرم عليه على التأبيد بسبب نسب فليبادر كلٌ بقضاء فرضه، واحرصوا على قضاء المرأة فرضها، وليحرص من هي في ذمته على ذلك، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.(68/3)
الحج عن الغير
معاشر المؤمنين: اعلموا أنه لا يجوز لأحدٍ أن يحج عن غيره قبل أن يحج حجة الإسلام عن نفسه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً بالحج يقول: لبيك عن شبرمة، فقال صلى الله عليه وسلم: ومن شبرمة؟ فقال: أخٌ لي، أو قريب، فقال صلى الله عليه وسلم: حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة.
ومن عجز عن أداء فريضة الحج لكبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه، لزمه إقامة من ينوب عنه لأداء فرضه، ففي الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأةٌ من خثعم، قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم).
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: فاحجج عنه) رواه الإمام أحمد.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(68/4)
آداب وواجبات لمن عزم على الحج
الحمد لله منزل الكتاب، ومنشئ السحاب، وهازم الأحزاب، وخالق الخلق من تراب، لا إله إلا هو عليه توكلنا وإليه المناب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين: ينبغي لمن جمع الهمة والقصد لحج بيت الله الحرام أن يراعي آداباً وواجبات في سفره لهذه العبادة الجليلة.(68/5)
التوبة الصادقة النصوح
أول ما ينبغي لمن أراد الحج أن يبادر بالتوبة الصادقة النصوح من كل المعاصي والمحرمات، وأن يجتهد بإبراء ذمته من مظالم الخلق وحقوقهم عليه.(68/6)
أن يكون المال حلالاً
وتذكروا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكر فيه: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!!).
أنى يستجاب لمن تزود لهذه الطاعة من مال حرام؟! أو تزود لها من مال فيه ربا، أو مال فيه خيانة حتى ناله وجلبه على نفسه؟! فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أنها عبادة جليلة لابد لها من زاد نقي طيب، والله لا يقبل إلا الطيب، في يوم عرفة آنذاك نظر أحد الصحابة إلى الحاج، قال: [إن الراكب كثير، فقال ابن عمر: ولكن الحاج قليل] فاعجبوا يا عباد الله من هذه الجموع العظيمة.
نسأل الله ألا يردها خائبة، وأن يكتب لنا حجاًً مع الحاجين، وفضلاً مع أصحاب الثواب والنعيم.(68/7)
الإكثار من النفقة لمواساة المحتاجين
معاشر المؤمنين: كما ينبغي لمن أراد الحج أن يكثر من النفقة والزاد، ليواسي المحتاجين منه، وقبل ذلك كله أن تكون النفقة -كما قلنا- من مالٍ حلال لم تكدره الشوائب من المحرمات والشبهات.
إذا حججت بمالٍ أصله سحتٌ فما حججت ولكن حجت العير
وليكن المسلم طيب النفس بما أنفق؛ ليكون أقرب إلى القبول والإجابة.(68/8)
تعلم كيفية الحج
كما يجب على المسلم أن يتعلم كيفية الحج، وليحذر من قول الكثير: سأحج مع جماعة وما سيفعلونه أفعله، إذ إن هذا دليل الجهل والإصرار عليه، بل والواجب على المسلم أن يتعلم كيفية أداء النسك، وعليه أن يتعلم كيفية أداء العبادة التي يؤديها، لا أن يفعلها تقليداً كما يفعلها غيره، ومن الجميل المناسب أن يصحب الحاج معه كتيباً جامعاً لأحكام المناسك، وأن يديم مطالعته ومدارسته مع غيره ليتفقه في أحكام الحج، واعلموا أن الكتب في هذا الموضوع كثيرة، والكتاب الذي ننصح به أنفسنا وإخواننا هو كتاب التحقيق والإيضاح لمسائل الحج والعمرة على ضوء الكتاب والسنة لسماحة مفتي هذه البلاد وشيخها/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أطال الله بقاءه، ومتعه بالصحة والعافية، ونفع به الإسلام والمسلمين.(68/9)
الاجتهاد في تحصيل الرفقة الصالحة
ينبغي لمن عزم على الحج أن يجتهد في تحصيل الرفقة الصالحة الرائدة للخير، المتمسكة بأحكام الشريعة؛ لتكون عوناً له على أداء النسك، وإن تيسر الحج في رفقة فيهم العلماء، أو طلبة العلم المدركون لأحكام الحج فيا حبذا ذلك؛ لأجل التواصي بالحق وحفظ آداب المناسك، والبعد عما يطرأ على المسافرين من مساوئ الأخلاق والتساهل في أمور الدين، وعلى الحاج مع رفقته أن يحرص على خدمتهم، وأن يحرص على رضاهم، وأن يتحمل عنهم شيئاً من المشقة، لا كما يفعله بعض ضعاف النفوس إذا ذهبوا مع رفقة، كانوا الجالسين وغيرهم يخدمونهم، وكم من رفقة تفرقت وعادت بالشحناء والعداوة من بينها من جراء أنانية بعضهم، والأثرة وحب الزاد.
عباد الله: الحذر الحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء، والعصاة المصرين الحذر الحذر من مصاحبتهم في سفر الحج، فإن هؤلاء لا يسلم من خالطهم في الغالب من الإثم واللغو في الحج.(68/10)
الإخلاص لله تعالى
أما الأمر المهم في هذه الفريضة لمن أراد أن يؤدي فرضه ورغب التزود والنافلة، فهو النية الصادقة الخالصة، إن من الناس من يحج ليسمى حاجاً، إذا عاد إلى بلاده، فلا ينادى إلا بها، ومنهم من يسافر ويفاخر بحجاته، وإذا جلس في مجلس قال: حججت ست عشرة حجة، أو ثماني عشرة حجة، وبعضهم إذا تكلم غيره، قال: أنا أكثر منك في حجاتي، فمن كانت هذه حاله، فهو على خطر عظيم في حبوط العمل وسقوطه في الرياء عياذاً بالله من ذلك.
أيها المسلم: احرص على التزود من فعل الخيرات، والمحافظة على الواجبات، فإن ذلك من أعظم القربات، وما زاد عن الفريضة فهو نافلة، فلا يضيع الواجب بالنافلة.
اتقوا الله في أداء ما فرضه عليكم، وتقربوا إليه بذلك، ولا تطلبوا بذلك سوى وجه الله.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان يحج أمتي نزهة، وأوساطهم للتجارة، وقراؤهم للرياء والسمعة، وفقراؤهم للمسألة) نعوذ بالله من حال أولئك أجمعين.(68/11)
الابتعاد عن المعاصي والمنكرات
معاشر المؤمنين: إن بعض الحجاج-منَّ الله علينا وعليهم بالهداية- إذا عزموا على الحج كأنهم عازمون على سفر ترفيهي، بل وإن الكثير منهم من يعمد إلى ما يعصي الله به، ليذهب به إلى المشاعر وليتنقل به بين المناسك، كثير منهم يأخذ معه تلفازاً، وكأن المكان ليس لذكر الله والاستغفار والتوبة والإنابة، وكثير منهم يريد أن يقضي ليالي التشريق حتى ينتهي من هذا الموسم ويعود، وهذا جهل عظيم، بل إنه قد يظن أنه ذاهب إلى عبادة جليلة، فيعود بأوزار مضاعفة، لأنه لم يحترم حرمة الزمان والمكان الذي هو فيه.
بعضهم يذهب بالتلفاز معه إلى هناك، ولا يتورع أن يرى كل ما يعرض فيه، وبعضهم تسمع الأغاني في خيمته، وبعضهم تشم رائحة الدخان من مكانه، وكثير منهم ترى الكاميرا قد علقها على صدره يأخذ لهؤلاء صورة للذكرى هنا، وصورة للذكرى هناك، وصورة عند هذا المكان، وصورة عند غيره، متى كان الحج ذكريات في الصور والمنكرات والملاهي؟ يا عباد الله: ينبغي لمن عزم على الحج أن يكون حريصاً على خلو حجه من المنكرات والمخالفات، ومن غلب على ظنه أنه سيقع في كثير من التساهل والتجاوز إما بسبب ضعف نفسه، أو بسبب رفقة هو يخالطها، فالأولى له أن يتصدق بنفقة حجه، ولا حج حجاً هذه حاله! لأن الله جل وعلا طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً، فلا تختلط الأعمال الصالحة بالمعاصي والمنكرات.(68/12)
فضل عشر ذي الحجة
معاشر المؤمنين: يومان أو ثلاثة ويحل عليكم شهر ذي الحجة، أسأل الله أن يهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، فينبغي -يا معاشر المؤمنين- لنا أن نعرف قدر هذه الأيام الفضيلة التي أقسم الله بلياليها بقوله: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] وعظم الأجر ومضاعفته للعاملين فيها، ينبغي لنا أن نجتهد، ونحرص على الأعمال الصالحة.
روى الإمام أحمد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتكبير والتحميد).
وروى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر وأبي هريرة (أنهما كانا يخرجان إلى السوق في أيام العشر، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما) وهذا الحديث نصٌ صريحٌ في وجوب إحياء هذه السنة سنة التكبير المطلق أيام العشر، وإننا نكاد لا نسمعها إلا قليلاً، فينبغي لنا أن نضج بها في أسواقنا ومجالسنا ومساجدنا ومنتدياتنا، وفي كل مكان ينبغي أن نظهر الشعور بحرمة هذه الأيام، وأن نظهر الشعور بعظيم فضلها وجليل قدرها، فإذا داومنا على هذا التكبير، وجعلناه دائماً على ألسنتنا، فإن ذلك مما يعظم الشعور بهذه الأيام في نفوسنا ونفوس غيرنا.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيامٍ العمل الصالح أحب إلى الله فيها من هذه الأيام -أي: أيام العشر- قال ابن عباس: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بماله ونفسه، ولم يرجع من ذلك بشيء) فانظروا عظم العمل في هذه الأيام، واستغلوها بما استطعتم من الصيام وتلاوة كتاب الله، وخصوها بمزيد من الطاعة.
أيها الإخوة: إذا أهل شهر ذي الحجة كره لمن أراد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً حتى يذبح أضحيته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي).
عباد الله: اتقوا الله في هذه الأيام الفاضلة خاصة، وفي غيرها من أيام أعمالكم عامة، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب لنا حجاً مع الحاجين، وأن يتقبل منا أعمالنا أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بيتك وحرمك وضيوفك القاصدين بيتك بسوء فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا جبار السماوات والأرض، إنهم لا يعجزونك.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين وارزقه البطانة الصالحة، وقرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وجنبه بطانة السوء، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مكسوراً إلا جبرته، ولا غائباً إلا رددته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضاً ولنا فيها صلاح، إلا قضيتها وأعنتنا على قضائها يا رب العالمين! اللهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، ومن كل فاحشة سداً، ومن كل فتنةٍ عصمة.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم سدد رصاصهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم ثبت الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم ارزقهم العلم النافع والعمل الصالح وإيانا برحمتك يا رب العالمين.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمدٍ، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(68/13)
من حقوق الجار
منزلة الجار في الإسلام عظيمة، دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث السنة، لكن الواقع المعاش يشهد علاقات سيئة بين الجيران، فكان لابد من التحذير منها، مع ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من حسن معاملة ومعاشرة، وآداب وحقوق للجار.(69/1)
حقوق الجار المسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] الجار ذو القربى هو ما اقترب داره من دارك، والجار الجنب هو: الجار البعيد، والصاحب بالجنب هو: رفيقك في سفر أو مهنة أو علم أو عمل أو وظيفة، فكل أولئك قد وصى الله جل وعلا بهم، ونوه بحقهم وذكرهم صريحاً في كتابه، وعطفهم على عبادته، والأمر بتوحيده وعدم الإشراك به، والحث على بر الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين، وما ذاك إلا لعظم شأن الجار، وما ذاك إلا لعظم منزلته ومكانته.
معاشر المؤمنين: إن كثيراً من الناس يجهلون حقوق الجوار، إن كثيراً من الناس لا يعرفون من الحقوق إلا أدناها وأيسرها، وما علموا أن حقوق المسلم على أخيه المسلم متعددة ومتنوعة ومختلفة المراتب، بحسب حال المرء من جاره، فإن كان جاراً مسلماً فله حقوق الإسلام وله حقوق الجوار، وإن كان جاراً ذا رحم فله حقوق الإسلام والرحم والجوار.
إذاً فما بال بعض الذين لا يدركون لهذه الحقوق أمرها، ولا يعرفون لها قيمتها؟ أيجهلون حقوق الجوار أم هم في غفلة من النصوص المتعددة من الآيات والأحاديث في هذا الباب؟ وما دام الجار مسلماً فله حقوق المسلم، ألا وهي التي جاءت في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم ست: إذا استنصحك فانصحه) إذا طلب منك النصيحة؛ فواجب عليك أن تخلص وأن تمحض النصح له.
(وإذا لقيته فسلم عليه، وإذا عطس فحمد الله فشمته) وإذا دعاك إلى وليمة أو مأدبة طعامٍ، وغلب على ظنك ألا يكون في هذا المقام منكر، أو ورد بخاطرك أن سيكون هناك منكر ولكن غلب على ظنك أنك تستطيع تغييره وإنكاره؛ فواجبٌ عليك إجابة هذه الدعوة (وإذا دعاك فأجبه، وإذا مرض فعده).
والعيادة هي الزيارة، وكثيرٌ منا يفقد جاره أياماً وليالي وشهوراً عديدة، ثم إذا لقيه تذكر أن له جاراً قد افتقد وجهه، أين أنت منذ زمن، بل لم لا تتفقد جارك؟ وقد يكون ذلك المرء معذوراً؛ لأن ذلك الجار الذي غاب وجهه عن المكان أو الحي أو الجوار، من الذين لا يشهدون المسجد ولا يشهدون الصلاة مع المسلمين، فلا غرو أن ينسى، ومن ضيع حق الله في العبادة؛ فلا يعجب إن ضيع الناس حقوقه في الجوار.
(وإذا مات فاتبع جنازته) هذا آخر حقٍ من حقوق المسلم على أخيه، إذ أن بعده لن تستطيع أن تقدم شيئاً أو تؤخر، فينبغي لكل مسلم إذا علم بوفاة جارٍ ولو بعيد، أن يبادر ما استطاع إلى اتباع جنازته، وشهود الصلاة عليه؛ لأنه لن يستطيع أن يقدم حقاً من حقوقه بعد ذلك.(69/2)
عظم حق الجار في الإسلام
معاشر المؤمنين: هذه حقوق أي مسلم على مسلم، فكيف الأمر إذا كان له جوار، فكيف الأمر إذا كان له مكانة ومنزلة، قد اعتنى بها جبريل عليه السلام، وما زال يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.
وأي شيء أعظم من هذه الوصية، التي بلغت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل سيأتي يوماً من الأيام ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن الجار سيرث جاره من كثرة ما يوصي جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بحقوقه.
حديثٌ متفق عليه.
فأي شيء أعظم من هذا؟! إن الإنسان من العصبة قد لا يرث، وإن الإنسان من ذوي الأرحام قد لا يرث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه) أي شيء أبلغ وأعظم من هذا ما دام قد وصل الأمر بوصيته، والحث على أداء حقوقه إلى درجة ظن النبي صلى الله عليه وسلم نزول وحي في توريث الجار من جاره.
إذاً فالجار له حق عظيم قد يقارب حقوق الأقارب، وحقوق ذوي الرحم، وحقوق غيرهم.(69/3)
حرمة إيذاء الجار
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) متفق عليه.
والبوائق: جمع بائقة، وتدخل في معنى الجائحة والضرر والمصيبة والأذى، فأي شيء أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ يخشى جاره أن يدركه الضرر أو يلحقه الأذى بسبب جواره، وأي بلاء وأي مصيبة أعظم من نفي الإيمان عن جارٍ لا يأمن جاره بوائقه؟! وما أكثر الجيران في هذا الزمان الذين لا تؤمن بوائقهم، وأقول لكم وهي علامة متميزة واضحة: إن جارك الذي لا تطمئن له، ولا تأمن بائقته لو فتشت حقيقة الأمر؛ لوجدته من الذين لا يؤدون حقوق الله جل وعلا، فمن ضيع حقوق الله، فلا غرابة أن يضيع ويتهاون ويتساهل بحقوق غيره من الجيران وغيرهم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه).
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره) إذاً فكف الأذى عن الجار دليل وعلامةٌ من علامات الإيمان بالله جل وعلا، الذي أوصى بالجار نصاً وصراحةً، والذي جعل حقوق الجار والقيام بها من تمام الإيمان به، حيث قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليقل خيراً أو ليسكت).
فما بالكم بجارٍ يؤذي جاره، ولا يكف الكلام والأذى عنه، بل لا يسلم منه، وكثيراً ما يقع في عرضه وفي شتيمته وفي سبابه، نسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من جار السوء.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
فاعلموا يا معاشر الأحباب! أن الفضيلة والكرامة والفضل والبر والمعروف، أن يقدم الإنسان الخير والفضل والإحسان إلى جاره، فإن لم يكن؛ فلا أقل من أن يسلم من شره، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من جار السوء، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دارٍ مقامة) جار المقام والبقاء هو جار أمامك وفي وجهك، صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً، أنت تخرج وهو بالقرب من زوجتك، وهو بالقرب من أطفالك، وهو بالقرب من أموالك، وهو بالقرب من أهل بيتك، فما حالك في جارٍ لا تأمنه على نفسك وذريتك وأهلك؟ فما حالك في جارٍ تخشى على أهلك حين تغادر بيتك منه؟ إذاً فهو من الذين لا يطمئن لهم وهو الذي قال فيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه) (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، فقال له: اذهب فاصبر -وفي هذا حثٌ على الصبر على أذى الجار- فأتاه مرةً أخرى فقال: اذهب واصبر.
حتى جاءه في الثالثة يشتكي أذى جاره، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاطرح متاعك في الطريق -القِ متاعك في قارعة الطريق- ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه: ما بالك؟ ما الذي أصابك؟ لم تجعل متاعك في قارعة الطريق؟ فيخبرهم خبر جاره يقول: إن جاري يؤذيني، فجعل الناس يلعنونه، وبعضهم يدعو عليه، فجاء جاره إليه، فقال: ارجع متاعك إلى بيتك، فإنك لن ترى شيئاً تكرهه مني أبداً).
أراد بذلك صلى الله عليه وسلم أن يبين أن الناس تلعن وتبغض وتدعو على من يؤذي جاره، بهذه الواقعة التي بلغ من أذى الجار فيها ما بلغ حتى جاء يشتكي إلى رسول الله مراراً، ووجهه إلى أن يلقي متاعه على قارعة الطريق؛ حتى يرى الناس هذا الأذى، ولكي يرى جار السوء ذلك، ولكي يرى أن الناس يدعون عليه، ويمقتون فعله هذا.
فاستخدم مثل هذه الطريقة لكي يبين خطر وعظم وسوء الجوار، وفي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! فلانةٌ تصوم النهار وتقوم الليل، وتتصدق بالأتوار من الأقط، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال صلى الله عليه وسلم: هي في النار) انظروا إلى عظم سوء الجوار، كيف محق بركة الأعمال من قيام الليل وصيام النهار والصدقات، وجعل ذلك لا ينفعها بما كسبت وجنت يداها من سوء الجوار، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: (من أغلق بابه دون جاره خوفاً على أهله وماله، فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه، أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عدت عليه بالمال، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خيراً هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لن يؤدي حق الجار إلا قليلاً ممن رحم الله) أين الذين يقومون بحقوق الجار في هذا الزمان؟(69/4)
وقفة محاسبة مع حقوق الجار
إنك قد تشكو من جارك، وجارك قد يشكو منك؛ لأنك جار وهو جار، فلنقلب النظر في معاملاتنا وفي جوارنا وفي تصرفاتنا مع من حولنا، ولنجعل أنفسنا مقامهم حينما نريد أن نفعل فعلاً، أو نتصرف تصرفاً، فلنجعل أنفسنا مكان ذلك الجار، هل ترضى لنفسك ذلك الفعل؟ إذا لم ترض هذا الفعل؛ فإن الناس لا يرضونه لأنفسهم، إذا لم ترض الإساءة؛ فإن الناس لا يرضونها، إذا لم ترض الأذى؛ فإن الناس لا يرضونه.
فاتقوا الله معاشر المؤمنين في حقوق الجوار، واجعلوا لأنفسكم ذكراً وسلفاً ويداً صالحةً بعد فراقكم من الدنيا، حيث إذا فارق الإنسان هذه الدنيا ترحم عليه جاره، وذكره بخيرٍ في كل مجلس، وإذا سمع بجار سوء قال: رحم الله فلان، لقد جاورنا وفارق الدنيا، والله ما أزعج خاطرنا بشيء.
هذه هي أعظم صدقةٍ يفعلها الإنسان لنفسه بحسن جواره، أن يجعل من سيرته مع جيرانه سبباً للدعاء له، وأن يجعل من سيرته مع إخوانه سبباً لكثرة الثناء عليه، وفي الحديث أنه: (مرت جنازةٌ، فأثنى الناس عليها خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت.
ثم مرت جنازة، فذكروا عنها شراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت.
فعجب الصحابة من هذا القول! قالوا: يا رسول الله! مرت الأولى وقلت: وجبت.
قال: نعم، وجبت لها الجنة، قالوا: يا رسول الله! مرت الثانية وقلت: وجبت.
قال: نعم.
وجبت لها النار، ذكرتم الأولى بخيرٍ فوجبت لها الجنة، وذكرتم عن الثانية شراً وسوءاً فوجبت لها النار، أنتم شهود الله في أرضه) فاجعلوا لأنفسكم ذكراً عاطراً، وصدقة جارية بالثناء والدعاء لكم بعد فراقكم من هذه الدنيا، بعد أعمارٍ طويلة وعملٍ صالح.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لك ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(69/5)
من آداب الجوار
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند، وعن المثيل وعن النظير وعن الشريك، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، والزموها، وصلوا معها، وأحسنوا الصحبة والجوار لجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: الآيات والأحاديث كثيرة في حقوق المسلم على أخيه، وحقوق الجار على جاره، ولا يسع المقام لذكرها تفصيلاً، ولكن حسبكم ما سمعتم من الطرف الذي ذكرناه آنفاً، ولكن نواصل في ذكر بعض الآداب المتعلقة بالجار والجوار، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا طبخ لحماً في بيته قال لـ نافع: [أكثر مرقه واهد إلى جيراننا] وجاء في الأثر: أنه لا ينبغي لجارٍ أن يدخل بطعامٍ ومتاع وجاره أو أبناء جاره ينظرون، إلا أن يعطيهم مما أدخل بيته؛ خشيةً من أن يكسر ذلك خاطره أو خاطر أبنائه، إلا أن يكون لا يكفيه؛ فيدخله في بيته سراً.
انظروا إلى عظم ودقة شأن وحساسية الشعور بالجار، ألا تكدر خاطره بشيءٍ يراه عندك وهو محرومٍ منه، إلا أن تعطيه، إلا أن تعود عليه بفضل ما آتاك الله، إلا أن تتصدق عليه، إلا أن تقدم له الفضل والبر والمعروف، فأين الناس في هذا الزمان من هذه الحقوق، ولقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم أن طُبِخَ في بيته لحمٌ قال: (أهديتم لجارنا اليهودي) جارٌ يهودي، وفعله صلى الله عليه وسلم قد يكون من باب الدعوة، ومن باب السياسة الشرعية، ولكنه صلى الله عليه وسلم مع ذلك لم يقصر هذه الحقوق، بل تعداها إلى الجار اليهودي طمعاً في إسلامه.
ويوم أن افتقد الشوك والأذى من طريقه، وهو يعلم أن جاره اليهودي هو الذي يجعل هذا الأذى والشوك في طريقه؛ ذهب وعاده في بيته، قال: (أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعودني؟! قال: نعم.
قال: كيف علمت بمرضي؟ قال: فقدت الشوك والأذى، قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله).
فالصبر على أذى الجار، والنصيحة له، وبذل المعروف والإحسان إليه؛ قد يكون سبباً لهدايته من الكفر إلى الإسلام، ومن الفسق والعصيان إلى الاستقامة والرشاد.
ذكروا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان له جارٌ يشرب الخمر كل ليلة، فإذا سكر هذى وأخذ يغني:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليومٍ كريهة وسداد ثغرِ
فكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله إذا قام إلى صلاته في هجيع الليل، سمع ذلك الجار في سكره يقول ذلك، فافتقده ذات يوم، وافتقده اليوم الذي يليه، فذهب يسأل عنه، فعلم أن الشرطة والمحتسبة قد وجدوه سكيراً فأخذوه وحبسوه، فذهب الإمام أبو حنيفة يعوده في الحبس، فعجبوا من مجيء الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكأنهم تغاضوا شيئاً يسيراً عن شأنه، فلما خرج ذلك الشاب قال له الإمام أبو حنيفة: يا فتى! وهل ضيعناك؟ لأنه في حال سكره كان يقول:
أضاعوني وأي فتىً أضاعوا
فقال له الإمام أبو حنيفة: هل ضيعناك؟ فحلف بالله ألا يعود لشربها أبداً، وتاب إلى الله توبة صادقة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، وأن يمن علينا وعليكم بالاستقامة.
معاشر المؤمنين: إن الجار الذي يؤدي المعروف والإحسان إلى جيرانه، ويكف الأذى عنهم لهو بمنزلةٍ عظيمة عند الله، وعند الملائكة والناس أجمعين، فكونوا من أولئك.
وإن الناس لتبيع الدور والقصور بأبخس أثمانها فراراً من جيرة السوء، ولتشتري أصغر الدور وغيرها رغبةً وطمعاً في جيرة الخير والصلاح والتقى.
ذكروا أن جاراً لـ أبي حاتم رحمه الله قد لحقه دينٌ عظيم، فاضطره أن يبيع بيته، فجاءوا يتزاودون على داره فقال: الدار بمائتي ألف دينار، فعجبوا من ذلك، قال: نعم.
أما الدار فبخمسين ألف دينار، وجواري من أبي حاتم بمائة وخمسين ألفاً، لقد عظم شأن هذا الجوار، فلما علم أبو حاتم بفعله هذا؛ قضى دينه وقال: اجلس في دارك جزاك الله خيراً من جار.
فانظروا يا عباد الله! إلى عظم ومكانة الجار الخيرّ والجار الطيب، ومكانته في نفس جيرانه، ولقد مضى زمنٌ قريب وكلكم أدركه، وقد عاش شيئاً من عمره فيه، يوم أن كان الناس يفتحون من دورهم على دور جيرانهم شيئاً، فإذا احتاجوا لا يخرجون مع الأبواب وإنما يطرقون النافذة من داخل المنازل، فتكلم فلانة إلى فلانة وتؤدي حاجتها إليها عملاً وبراً وإحساناً بالجوار.
كانت سطوح المنازل متحدة، وما كان جارٌ يفكر أن يؤذي جاره، كان الجار يسافر الأشهر الطويلة ويوصي جاره بأهله وأهل بيته، وما يتعرض الشيطان له أن يتعرض لهم بسوء، وما كان يمد طرفه وبصره إليهم.
أما الآن فإن الأذى مستشرٍ والبلاء منتشرٌ من بعض الجيران، إما بنظرات زائغة أمام الأبواب، وإما بإزعاجٍ، وإما بأذىً يُلقى أمام الدور، فما حال جارٍ هذه أموره مع جاره؟ والله إنه ليبيع داره بأبخس الأثمان فراراً من ذلك الجار.(69/6)
من أنواع الأذى للجار
واعلموا أن من أنواع أذى الجار وهو أمرٌ منتشرٌ بيننا، أن تضع سيارتك دائماً أمام باب جارك، فتعيق سيارة جارك من الخروج، ولو فعله أمام بيتك فهل ترضى؟ وما حاله لو كان في بيته مريض، وخرج مسرعاً، يريد أن يذهب بهذا المريض، فلا يجد طريقاً، فيدعو الله عليك ليلاً ونهاراً لما تسببت فيه من أذى، وفيما تسببت عليه من مضاعفة حال مريضه، إذ قد يدرك شيئاً من الأمر لو لم تفعل هذه الفعلة أمام داره.
ومن الأذى أيضاً وهو أذىً مضاعف للجار بالحرام، وهو الأذى بالملاهي والموسيقى وغيرها.
بعض الناس لا يراعي حق الجوار، وإذا بلي لا يستتر، فإذا ابتلي أحدٌ فليستتر، نسأل الله لنا وله التوبة والإقلاع، أما أن يجعل المنكر جهاراً نهاراً ويؤذي جاره عياناً بياناً، فأي خلق وأي دينٍ وأين بقية حياءٍ في وجه ذلك الجار؟ فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً، وليفعلوا فعلاً سديداً ولا يؤذوا جيرانهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).
ومن أنواع الأذى ما ورد في الأثر: استطالة الدور بعضها على بعض، بعض الناس يبني داره شاهقاً مرتفعاً، وكأنه يريد أن يسكن في بعض قمم الجبال، وقد يكشف بذلك سطوح بيت جيرانه ونوافذهم، فليتق الله في فعله ذلك، وإن كان قد وقع أو فرط الأمر منه عن خطأ، فليصلح شيئاً من هذه النوافذ بسترةٍ أو بعازل بينه وبين جيرانه حتى لا يكون سبباً لإيجاد شيءٍ في النفوس، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالهداية.
واعلموا أن من تعمد أذى جاره؛ أو لم يبال بالأذى الذي يلقيه قرب داره؛ فإنه قد يكون من الذين ذكر الله جل وعلا فيهم كزوجة أبي لهب حينما قال جل وعلا: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:1 - 4] التي تحمل الحطب والشوك وتجعله بطريق رسول الله {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:5] حبلٌ من النار عياذاً بالله من ذلك، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالهداية.(69/7)
عزاء جار من لا يصلي
وإن أعظم البلاء والمصيبة جوار من لا يصلي، إذا كان لا يعرف حق الله، فكيف يعرف حقك؟ إذا كان يضيع حق الله، فكيف يدرك حقوقك؟ وإذا لم تأمنه في حقوق الله، فكيف تأمنه في غيبتك على أهلك وبيتك وأولادك ومالك؟ اتقوا الله يا معاشر المسلمين! أما الذين لا يصلون مع جماعة المسلمين فليتقوا الله، وليسمعها كل جارٍ من جاره الآن أنه بريءٌ منه إن لم يشهد الصلاة معه، أنه يبرأ إلى الله من ذمته ألا يقول يوم القيامة: مررت بداري ولم تأمرني بالصلاة، ما الذي يمنعك من الصلاة، وأنت تسمع النداء خمس مرات؟ معافى في سمعك، معتدياً في بصرك، باطشاً بيديك ورجلك، لا يمنعك إلا البطر والكبر، لا يمنعه إلا أن الشيطان قد عشعش وفرخ في أذنيه وقلبه.
نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالهداية، والحمد لله رب العالمين.(69/8)
النفخ في الصور
إن لهذه الدنيا ومن عليها نهاية بأمرٍ من الله ووقوع آية من آياته، وسيأتي على الخلائق يوم يصعق فيه الجن والإنس، والمخلوقات جميعاً إلا من شاء الله، والنفخ في الصور من أعظم علامات يوم القيامة، ويلي ذلك أهوال وأحوال، ومصائب تشيب لها الولدان، وعن تلك الأحوال والأهوال يتحدث الشيخ حفظه الله.(70/1)
أحوال الناس بعد النفخ في الصور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن المثيل وعن الند وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! اعلموا أن لهذه الدنيا بما فيها ومن عليها نهاية، نهاية بأمر الله ووقوع آية من آياته، وسيأتي على الخلائق يوم وهو يوم جمعة يصعق فيه الجن والإنس والمخلوقات جميعاً إلا من شاء رب العالمين {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:68] وإذا وقعت تلك النفخة فحينئذ لا يستطيع أحد أن يستدرك من أمره شيئاً {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس:49 - 50] وعند ذلك تنطلق صيحات الندم والتمني كما في الحديث الصحيح، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة فقال صلى الله عليه وسلم: (ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها) رواه البخاري.
والنفخ في الصور -يا عباد الله- هو من أكبر وأعظم علامات يوم القيامة، والنفخ في الصور مرتان وقيل ثلاث مرات: الأولى: يصعق فيها العباد، والأخرى: يبعثون بها {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] فبعد النفخة الأولى ينزل الله جل وعلا من السماء مطراً فتنبت منه أجساد العباد، فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور، خرج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلاً ويقولون: من بعثنا من قبورنا؟ من بعثنا من مراقدنا؟ {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:52 - 53].
واعلموا -يا عباد الله- أن نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم هو أول من تنشق عنه الأرض، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) ثم يحشر الخلائق أجمعون إلى الموقف العظيم، يحشر الله الأولين والآخرين أينما كانوا، أينما كانوا فإن الله يأت بهم جميعاً، سواء كانوا في القبور أو في البحار، أو في بطون السباع، أو في حواصل الطير {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
وفي ذلك اليوم لا يبقى أحد صغيراً كان أو كبيراً عزيزاً أو حقيراً إلا جاء خائفاً وجلاً {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] ويقول جل وعلا: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:47] ثم تأملوا وتفكروا في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الخلائق كلهم أجمعون، ويحشر معهم الوحوش والبهائم والطير والسباع، فإذا تأملت حال الخلائق في ذلك الكرب العظيم، وجدتهم حفاة عراة غرلاً أي: غير مختونين، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] يوم أن سمعت عائشة رضي الله عنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غرلاً قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) متفق عليه.(70/2)
تبديل الأرض غير الأرض والسماوات
وفي ذلك اليوم يحشر العباد على أرض غير هذه الأرض التي يعرفونها، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي) قال سهل أو غيره: ليس فيها معلم لأحد {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] وفي هذه الآية يقول ترجمان القرآن عبد الله بن مسعود: تبدل الأرض أرضاً كأنها القصعة، كأن لم يسفك عليها دم حرام، ولم يعمل عليها خطيئة.
وعند عبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة، قال: بلغنا أن هذه الأرض -يعني أرض الدنيا- تطوى وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها.
وفي حديث الصور الطويل تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان على ظهرها، وفي تلك اللحظة التي فيها تبدل الأرض غير الأرض أين يكون الخلائق؟ لقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! يوم تبدل الأرض غير الأرض أين يكون الناس يا رسول الله؟ فقال: على الصراط) رواه مسلم، وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن ثوبان أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر).
وفي ذلك اليوم العظيم يوم القيامة يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماوات ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يأخذها بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
أما الجبال في ذلك اليوم العظيم فتدك دكاً وتكون مثل كثبان الرمل المهيلة، بعد أن كانت حجارة صماء، وتكون كالعهن المنفوش، كالصوف المتطاير {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:105 - 107].
أما البحار في ذلك اليوم فإنها تفجر وتشتعل نيراناً عظيمة قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار:3] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] أما السماء فتمور موراً عظيماً، وتضطرب اضطراباً، وتنفطر وتتشقق فتكون بعد ذلك واهية {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة:16].
أما الشمس الجميلة المشرقة فإنها تكور وتجمع ويذهب ضوؤها، وأما القمر فإنه يخسف ويذهب ضوؤه، وأما النجوم المتلألئة فإنها تنكدر وتتناثر، وتنصب كأن لم تكن شيئاً.
فما حالكم معاشر العباد في هذه الأهوال؟ وما مكانكم في تلك العظائم؟ وما موقفكم من الجبار جل وعلا؟ هل تكونون في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؟ هل تكونون عند الفزع من الآمنين؟ هل تكونون من الذين يبعثون مطمئنين؟ أم -ولا حول ولا قوة إلا بالله ونسأل الله ألا نكون جميعاً منهم- من الذين يبعثون صرعى سكارى تخبطهم الشياطين، وتتمايل بهم بطونهم من الربا، ويدورون في هذا الهول وهذا المحشر سكارى ومجانين، نعوذ بالله أن نكون في حال أولئك.
معاشر المؤمنين تأملوا وتدبروا حال ذلك اليوم العظيم، إننا لفي غفلة، وإن الكثير منا في لهوه وفي سكره، لا يتذكر موته، ولا يتذكر قبره، ولا يتذكر بعثه، ولا يتذكر نشوره، ولا صحيفته، وهل يقبضها بيمينه أو بشماله، ويتذكر الصراط هل يمر عليه أم تختطفه كلاليب جهنم، لا يتذكر هل يكون من أهل النار أم من أهل الجنة، أي غفلة في القلوب وأي سكرة في العقول، وأي إعراض عن ذكر الله وهديه؟ نعوذ بالله أن نكون من الغافلين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير:1 - 13] عند ذلك {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14] ولا ينفعها ليت ولا تمني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(70/3)
هول يوم القيامة
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! اعلموا أن من عقيدة كل مسلم أن يؤمن بالبعث والنشور، والحساب والصراط، وأن يؤمن بأهوال يوم القيامة، ودقيق وجليل أمورها وما يكون فيها من الأهوال والعظائم، فإذا حصل الاعتقاد بذلك وجب الإعداد والعمل، ووجب الاستعداد لهذه النقلة العظيمة، يوم يقبل العباد على ربهم ليس ثمة إلا الحسنات والسيئات، ليس ثَم إلا الجنة والنار، وقبل ذلك كل يرجو رحمة ربه الواحد القهار، اللهم فارحمنا وتجاوز عنا وتلطف بنا وكن لنا ولا تكن علينا.
معاشر المؤمنين! في ذلك اليوم تأتي الأم لولدها تقول: ولدي حملتك تسعة أشهر ثقلاً في بطني، وحملتك كرهاً ووضعتك كرهاً، حسنة واحدة أرجح بها موازيني فيقول: إليك عني، إليك عني، كل مشغول بنفسه، كل مشغول بنفسه، كل في أمر وشأن عظيم من حاله {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:33 - 35] أمه التي حملته ووضعته، وتلقت أذاه، وتلقت نجاسته بيدها، يكون في شأن وفي غفلة، وفي بعد عظيم عنها {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:33 - 36] فلذات كبده الذين لا يقعون على الأرض إن وقعوا وإنما قلبه الذي يتكسر ويقع، يكون في تلك اللحظة في غفلة عنهم {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] فما هي إلا {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] اللهم اجعلنا منهم {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:39 - 42] نسأل الله ألا تكونوا منهم، واستعيذوا واستجيروا بربكم وتعوذوا بالله واسألوه ألا تكونوا معهم.
عباد الله! إن كثيراً من الناس لا يشهدون الصلاة في المساجد، كأن لم يكن أمامهم بعث ولا حشر ولا نشور، إن كثيراً من الناس يعقون الآباء والأمهات، كأن لم يكن أمامهم حساب ولا عقاب، وإن كثيراً من الناس يظلمون الضعفاء وقد نسوا أن الله جل وعلا فوقهم
وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا سيبلى بأظلم
إن كثيراً من الناس يتهاونون بالفواحش، وإن من الناس من وقع في شرب الخمور، ومن الناس من تساهل بالزنا، وإن من الناس من أكل الربا، وإن من الناس من شهد الزور، ومن مشى بالنميمة، أفلا يخشون مشهداً كهذا؟ ألا يخافون موقفاً عظيماً وحشراً مهيلاً؟ أفلا يخافون يوماً كهذا؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] يقول صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها) يوم أن يقرأ صلى الله عليه وسلم آيات الجنة وآيات النار يتأثر تأثراً عظيماً، فأين تأثرنا حينما نقرأ آيات هذا الهول العظيم؟ أين تفاعلنا يوم أن نتلو في كتاب الله جل وعلا موقف العصاة المذنبين يوم القيامة؟
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا تقاة المسلمين تزوجت من حور عين زانهن شعور
وإذا المؤودة سئّلت عن شأنها وبأي ذنب قتلها ميسور
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشرت فتطايرت وتهتكت للكافرين ستور
وإذا السماء تكشطت عن أهلها ورأيت أفلاك السماء تدور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلق متشبث يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
كيف الحال بنا والذنوب في بيوتنا، والمعاصي أمامنا، والمنكرات في أسواقنا وكأن لم نر شيئاً، ولا يتحرك فينا شعرة أو شعور لإنكار أو غيرة إيمان لتغيير؟! اللهم لا تجعلنا من الغافلين، اللهم افتح على قلوبنا وتب علينا، اللهم ارزقنا الاستعداد للموت وأعنا على سكراته، اللهم كن لنا في قبورنا، اللهم أفسحها لنا ولأمواتنا ولجميع المسلمين مد أبصارنا، اللهم افتح لنا أبواباً إلى الجنان، اللهم اجعلنا يوم فزع الخلائق من الآمنين، اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبيك من الواردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وآتنا صحفنا باليمين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين، اللهم أدخلنا الجنة أول الداخلين، واجعلنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بعلماء الإسلام فتنة، وأراد بولاة المسلمين مكيدة، وأراد بالشباب والنساء ضلالاً وتبرجاً وسفوراً، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين وأصلح بطانته، وقرب له من علمت فيه خيراً له، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له، اللهم اجمع شملنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم اختم بها آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(70/4)
مكابد الدنيا ومشاقها
لقد وضحت هذه المادة حال الإنسان في الدنيا، مبينة أنه في كبد فيها، ومركّزة على حقيقة هذه الدنيا، وأنه لا استئناس ولا اطمئنان فيها إلا بذكر الله وطاعته وأن حلال الدنيا حساب وحرامها عقاب، ولا خير إلا فيما عند الله سبحانه وتعالى.(71/1)
بيان حقيقة الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى بفعل أوامره واجتناب زواجره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: سمعت الحسن بعد أن روى من طريق أبي مورود قرأ هذه الآية، فقال: [يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الآخرة]، وفي رواية: [يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة] واختار ابن جرير أن المراد بالآية: مكابدة الأمور ومشاقها.
أيها الأحبة في الله: كلكم يعلم أنه ما من راحة تامة أو سعادة دائمة إلا في الدار الآخرة، دار الخلود والبقاء، وأما هذه الدنيا فدار الابتلاء والكبد والشقاء، ومن أجل ذلك كان عيش الإنسان فيها في كبد ومشقة، ولولا ما فيها من عبادة الله واللجوء إليه، والاستئناس والاطمئنان بذكره لما أطاق المؤمن البقاء فيها، ولله في ذلك حكمة بالغة، إذ لو صفت الدنيا لأهلها من الأكدار والمصائب لركنوا إليها واطمأنوا بها، ولما اجتهدوا في الأعمال الموصلة إلى دار النعيم والخلود المقيم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد رحمهما الله: يا أبت! متى الراحة؟ فقال: الراحة يا بني! عند أول قدم نضعها في الجنة.
عباد الله: تأملوا هذه الدنيا وما فيها من خلق الإنسان في كبد، وهي برمتها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تعدل ذلك ما سقى منها كافراً شربة ماء، فالاجتماع في الدنيا مآله إلى الفراق، قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس) فنهاية الحياة إلى موت، وغاية الاجتماع فراق، أما اللذات في الدنيا من المآكل والمشارب والمناكح فتزينها الصحة والعافية، وأكثر أرباب الدنيا والأموال الطائلة والثراء الفاحش فيها يعانون أنواع البلاء والأمراض والأسقام، فيرون نعيماً ونعماً، ولذائذ ولذات لا يتمتعون بها، وأعمار الخلائق في هذه الدنيا محدودة الأجل، ورب معمر شقي بعمره سيما إذا كان مفرطاً فيما مضى من شبابه، قيل للأعشى ميمون بن قيس وقد بلغ من الكبر عتياً: كيف وجدت الحياة؟ فقال:
المرء يرغب في الحياة وطول عيشٍ قد يضره
تفنى بشاشته ويبقى بعد حلو العيش مره
وتسوؤه الأيام حتى ما يرى شيئاً يسره
كم شامتٍ بي إذ هلكت وقائلٍ لله دره
فلا أنس ولا لذة في الدنيا إلا بذكر الله، ولا راحة ولا نعيم في الدنيا إلا بطاعة الله، وذلك هو الذي يحقق السعادة ويربطها بالحياة ربطاً وثيقاً، فاجتهدوا يا عباد الله! اجتهدوا في طاعة ربكم ومرضاته، وتنافسوا في الأعمال الصالحة والتجارة الرابحة، ولا تغبطوا أحداً في مال أو منصب أو جاه إلا في طاعة الله ومرضاته، وما سوى ذلك فحطام غير حقيقي، وليس بكفء أن يحسد صاحبه، واعلموا أن كل من ترون في هذه الدنيا شقي لا محالة إلا من ربط نفسه بذكر الله وطاعته، لابد أن ترى كثيراً من الخلق والخلائق في شقاء؛ إما بأنفسهم، أو بأموالهم وأولادهم، أو سلطانهم، أو فقرهم أو غناهم، أو ذلة أو عزة، أو غير ذلك، إلا من شدَّ وثاق نفسه عن المعاصي والآثام، وأحكم السير وجد في المسير وأمسك بالزمام، وإلا فهذه الدنيا ومن فيها كما يقول القائل:
كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن
عباد الله: إن بعض المسلمين قد انشغلوا باللهو عن ذكر الله، وغرهم إقبال الدنيا عليهم، وخدعهم تردد خلان الرخاء والغناء إليهم، وما تأملوا حقيقة دنياهم، وما تأملوا حقيقة النعيم الذي فيها، وأنه زائل، وأنه دولة بين الناس يتقلب، يكون عند قوم وينتقل إلى آخرين: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وكأن الكثير منا ما سمعوا وما عرفوا أحوال الأمم السابقة والحاضرة في هذا الزمان كيف هوت وسقطت من عز إلى ذل، ومن قوة إلى ضعف، ومن غنى إلى فقر، ومن شمل مجتمع إلى شتات وتشرد وتفرق.
قالت هند بنت الملك النعمان: لقد رأيتنا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكاً، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ونحن أقل الناس.
وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها، فقالت: أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجو مالنا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا ويرحمنا مما نحن فيه.
قال إسحاق بن طلحة: دخلت عليها يوماً، فقلت لها: كيف ترين الأمر بكم؟ فأنشدت قائلة:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا إذا نحن فيهم سوقةٌ نتنصفُ
فأفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرفُ
قال صلى الله عليه وسلم: (حق على الله ما رفع شيئاً إلا وضعه) فلا تغتروا بالدنيا -عباد الله! - وكونوا منها على حذر، وخذوا حذركم في كل صباح ومساء، فإن الإنسان لا يدري ماذا يفجأه من طوارق الزمان.
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
وقال الآخر:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمان
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(71/2)
الدنيا دار عمل حلالها حساب وحرامها عقاب
الحمد لله الواحد الأحد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد نصبح ونمسي منك في عافية وأمن، وطمأنينة وستر، ونعيم ورخاء، وكل ذلك منك وحدك لا شريك لك، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، عليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
معاشر المؤمنين: إننا نرى كثيراً من المسلمين في دعاء بالويل والثبور على واقعهم وما هم فيه، أهم يدعون بالويل والثبور على ما هم فيه من المعاصي؟ أم على ما هم فيه من الآثام؟ أم أنهم يتسخطون ويعترضون على قدر الله سبحانه وتعالى؟ وليس الأمر في ما يدعون عليه من أمر أو مصيبة شديدة، كلا والله، بل ترى الواحد حينما يرى مركباً فارهاً سب الدنيا ومن فيها لأن فلان بن فلان ركب هذا المركب وهو لم يركبه حتى الآن، وإذا مر بقصر شامخ سب هذه الدنيا وحظوظها لأنه لم ينل هذا القصر أو جزءاً منه، وإذا رأى صاحب مال أو ثراء تجده يحتقر نعمة الله عليه، وما درى ذلك المسكين أن الله جل وعلا قد ابتلى صاحب القصر والدابة والمركب والمال والثراء، وقد اختصه بنعمة لم يجدها صاحب تلك النعمة، قد تجد هذا الذي يتسخط ويشكو ويسب هذا الدهر -ولا يجوز سب الدهر- معافىً في بدنه، آمناً في سربه، عنده قوت يومه وغده وسنين قادمة أيضاً، ومع ذلك فإنه لا يقنع ولا يرضى.
إن كثيراً ممن ترون من أرباب الأموال والثراء وغير ذلك، ليسوا في نعيم إلا من قيد ماله ونعمته في شكر الله، وخاف على نفسه وحاسبها من هذه الأموال التي دخلت عليه ديناراً ديناراً ودرهماً درهماً، وإلا فإن مثل أولئك لا شك مرتحل عن الدنيا، ومن بعده يأكلونها حلالاً وهو يحاسب عليها في الآخرة، حلالها حساب عليه، وحرامها عقاب عليه!! إذاً: أيها الإخوة: هل نغبط أحداً في هذه الدنيا لماله أو لجاهه أو لمنصبه، والله! لا يغبط أحد إلا في طاعته لله، قال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً- هل ادخره؟ هل جَمَّعه في رصيده؟ هل اشتغل به من هنا وهناك؟ لا- فأنفقه في سبيل الله هكذا وهكذا) تلك والله! هي الغبطة، ومن تمنى المال من أجل أن ينفقه في سبيل الله كتب الله له أجر نيته تلك.
إذاً: فاحمدوا الله على نعم تتقلبون فيها يا عباد الله! احمدوا الله على نعم تتقلبون فيها، وغيركم إما في فقر وذل، أو شتات وتفرق، وغيركم من أرباب المال والثراء يرون نعيماً لا يتمتعون به، إن كثيراً تمتد أمامه المائدة الطويلة قد حجب عن هذا الطعام، ومنع من هذا الطعام، ونهي عن هذا الطعام، فلا يأكل إلا زاداً قليلاً يقدم أمامه، وفقراء الناس يأكلون من كل شيء أمامهم وهو لا يأكل إلا هذا القليل القليل مما أمامه، أترون هذا نعيماً؟ تباً لدنيا هذا مآلها، يجمعها ويكد وينصب في جمعها ويحاسب عليها، ومع ذلك لا يهنأ بقليل من العيش فيها، وترى الآخر قد انشغل بدنياه حتى وصل به الدهر من عمر زمانه عتياً، ثم أصبح مريضاً ضعيفاً لا يستطيع أن يتمتع بشيء، إن أراد النكاح فهو عاجز، وإن أراد الأكل فقد ذهبت لذة الشباب التي تجعل كل شيء هنيئاً مريئاً.
إذاً: فعلى أي شيء نغبط الناس في دنياهم؟ على أي شيء نحسد الناس في مراتبهم، أو مراكبهم أو قصورهم، أو قليلهم أو كثيرهم؟ إن الغبطة والله في طاعة الله، إن الغبطة يوم أن ترى شاباً صغيراً يحفظ كتاب الله، أو ترى رجلاً سباقاً إلى المساجد، أو ترى شاباً داعيةً إلى الله قد أمضى وأفنى وقته وشبابه في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما سوى ذلك فليس بحقيق أن يغتبط الناس فيه أو أن يتحاسدوا، لكن أيها الإخوة! كل ما نراه من هذا الاعتراض والسخط على هذه الدنيا وأهلها ومن فيها، إنما هو بسبب عدم القناعة، وإن عدم القناعة إذا بلغ بصاحبه أمراً، فإنه قد يقوده إلى خطر عظيم وهو الاعتراض على ما قدر الله سبحانه وتعالى، قد يعترض الإنسان بطول وكثرة تسخطه على مراتب الناس وحظوظهم ونصيبهم في الدنيا عياذاً بالله من ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أمسى آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ما الفرق بين الأغنياء والفقراء؟ ما الفرق بين الرفعاء والوضعاء؟ ألهم ثلاثة بطون وللفقير بطن واحد؟ ذلك له بطن واحد وهذا كذلك، ألهم ثلاثة أعين وهذا له عينان؟ كلا والله، كلهم يشتركون في ما خلق الله لهم، إذاً فلا دنياً تستحق أن يغتبط الناس بها!! واعلموا أن كل إنسان مهما صغر أو عظم أو كبر فإنه لابد أن يكون في مصيبة من دهره، وهذه الدنيا أيها الإخوة! إذا كان الإنسان في نعيم وهو على حال غفلة، وبُعدٍ عن طاعة الله فليخش الانقلاب وتغير الأحوال، كما يقول القائل:
أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصال
وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقباً بزوال
وإن الذين ترونهم في هذا الثراء الفاحش والنعيم على بعدٍ وغفلةٍ عن طاعة الله لعلى خطر عظيم، بل إنهم يعيشون في داخل قلوبهم حسرات وأنَّات مما هم فيه، ويصدق عليهم قول القائل:
من ذا الذي قد نال راحة فكره في عسره من عمره أو يسره
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قله ويظل هذا تاعباً في كثره
عمَّ البلا ولكل شمل فرقةٌ يرمي بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهمُ حكم القضاء بحلوه وبمره
أوما ترى الرجل العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فيسره خيرٌ وفي أعقابه همٌ تضيق به جوانب صدره
وأخو التجارة حائرٌ متفكرٌ مما يلاقي من خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره
وترى القرين مضمراً لقرينه حسداً وحقداً في غناه وفقره
ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى غصص الفطام تروعه في صغره
ولقد حسست الطير في أوكارها فوجدت منها ما يصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في بره والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميتٍ فاستخرجته من قرارة قبره
كيف التذاذ أخي الحياة بعيشه ما زال وهو مروع في أمره
تالله لو عاش الفتى في أهله ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معهم بكل لذيذةٍ متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله مما يفي بنزول أول ليلةٍ في قبره
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومره
فاقنعوا يا عباد الله! واشكروا الله على نعم أنتم فيها: أعيناً تبصرون بها، وآذاناً تسمعون بها، وأيدي تبطشون بها، وأرجلاً تمشون بها، ونعماً عظيمة لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى.
أنتم والله في خير عظيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] فاحمدوا الله تعالى على ذلك، وقيدوا النعم بشكر الله، إياكم واللهو، إياكم والغفلة عن ذكر الله، إن كثيراً من المسلمين قد ابتلوا بالغفلة فجرتهم هذه الغفلة إلى السخط وعدم القناعة، ترى الواحد منهم منذ أن يصبح إلى أن يمسي ومزامير الشيطان في داره، لا يذكر الله في بيته إلا قليلاً، ولا تسمع آية من آيات الله في بيته تتلى، وتراه منشغلاً بهذه الأمور، ومنشغلاً بهذه الدنيا وحطامها وكل ما فيها.
إن حياة تدوم على المعاصي والآثام الموت خير لصاحبها من الحياة ومضاعفة السيئات والآثام.
أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالهداية والثبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] ويقول الله جل وعلا: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:1 - 8].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً واختلاطاً مع الرجال في تعليمهم ووظائفهم، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم عجل هلاكه، وأرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوأ من ذلك(71/3)
الولاء والبراء
الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، وفي هذه الأيام كثر الذين يميعون هذه القضية، ويدعون إلى التآلف والتآخي مع أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم.
وفي هذه المادة ذكر لأهمية الولاء والبراء في الإسلام، ووجوب موالاة المسلمين، والبراءة من الكافرين، مع بيان بعض مظاهر موالاة الكافرين التي منها: التشبه بالكفار السكن في بلادهم مداهنتهم مناصرتهم إلخ(72/1)
ستر الله علينا نعمة عظيمة
الحمد لله الذي ستر القبيح وأظهر الجميل وزيننا بستره، ولو كشف الله عنا أستاره لما كان من مستمع ولا منصت، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأثني عليه الخير كله أوله وآخره وظاهره وباطنه، ملء ما خلق وعدد ما خلق، وملء ما أحصى كتابه وعدد ما أحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: مما تعلمناه من مشايخنا ونعلمه أحبابنا وإخواننا أن يتجنبوا الثناء والمديح في مستهل المحاضرات واللقاءات، وكما قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: يا مسكين! إن أعجب الناس بك، فإنما أعجبهم جميل ستر الله عليك، ولو كشف الله للناس كل سيئة من فعلك، لما رأيت أو سمعت في هذه الدنيا محباً، ليس منا أحدٌ إلا وله هنات وأخطاء وتقصير وتفريط، لكن الله جملنا بأن الناس يرى بعضهم من بعض محاسن الأعمال، وسترنا ربنا ليخفي عن الناس مساوئها، فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بكلمة هو يعلم أنه دونها.
وعلى أية حال، فحبيبي وصديقي الشيخ/ محمد بن إبراهيم السبر أحسبه ولا أزكي على الله أحداً ممن يحترقون إخلاصاً وتفانياً وعملاً في الدعوة إلى الله عز وجل، أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحداً، ومحبة بيني وبينه ربما ساقت على لسانه هذه الكلمات من غير كيل ولا حساب، ولكن كما قال أهل العلم: من عرف بعداوة شديدة فشهادته مجروحة، ومن عرف بمحبة شديدة، فشهادته مجروحة، فلعل ما سمعتم من ثنائه يرد بعضه -وإن شئتم كله- عليه لشديد محبته وشديد محبتي له، أسأل الله أن يرفع درجاته وإياكم ونفسي في الجنة، وأن يجعلنا من المتحابين بنور وجهه، لنكون في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
أحبتي في الله: أهنئكم بشرف المكان وشرف المناسبة، فأما شرف المكان، فهو مهابط الرحمة، ومنازل الملائكة، حلق الذكر، رياض الجنة، والله ما من عبدٍ يندم يوم القيامة أنه جلس ساعة مع قوم يذكرون ربهم يتلون كلام الله ويتدارسونه، ويصلون على نبيهم صلى الله عليه وسلم، فمقامنا في هذا المكان شريف عظيم، وأي شرف أعظم من أن نكون في هذه الروضة التي تغشاها السكينة وتحفها الملائكة، وتتنزل عليها الرحمة، ويذكر الله أهلها والجالسين فيها في ملئه الأعلى، ولقد جلست مجالس عدة، وحضرت مواقع مختلفة، فلم أجد أشرح للصدر وأعز للنفس وأكرم للذات من هذه المجالس في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وأما شرف المناسبة، فاللقاء على هذه المائدة العلمية المفيدة التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم فيها بما علمنا، وأن يعلمنا فيها ما ينفعنا، وأن يرزقنا إتباع العلم بالعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.(72/2)
سبب التحدث في موضوع الولاء والبراء
أحبتي في الله: موضوعنا هو موضوع الولاء والبراء في سلسلة يبدو لمتأمل موضوعاتها أنها متعلقة بجوانب العقيدة، وإني لأشكر القائمين على هذا المسجد إماماً ومؤذناً، والشباب الدعاة المخلصين المعنيين بالأنشطة الثقافية والفكرية والدعوية، وتحفيظ القرآن وغيره على حسن عنايتهم وانتقائهم لهذه الموضوعات الجليلة.(72/3)
كثرة خوارم الولاء والبراء عند الكثير من المسلمين
سبب طرق هذا الموضوع قد يطول، ولكنني أختصره: لما رأيناه من كثير من الأفعال والسلوك التي لا نشك أنها من خوارم الولاء والبراء في هذه الأزمنة التي اشتدت كربتها وعظمت محنتها، وأصبح الناس يستحسن بعضهم الولاء للكفار، ويعده من باب المجاملات الرقيقة، ويعده من باب اللطف في المعاملة، ولا يستطيع أن يميز بين ما يجوز التعامل به مع الكفار وبين ما لا يجوز، أي: أن هناك أضرباً من التعامل لا تدخل من قبيل الولاء وإن تعاملنا فيها مع الكفار، ولكن أناساً أدخلوا زيادةً على هذه أضرباً من المعاملات، وظنوها لا تخرم الولاء وذلك بسبب الجهل بهذه القضية التي قل من يطرقها ويتحدث عنها في هذا الزمان.(72/4)
كثرة الندوات والمقالات في نبذ البراءة من الكافرين
إن كثيراً من الناس اليوم أصبحوا يسمعون دعوات وصيحات ذات اليمين وذات الشمال تدعو إلى نبذ البراءة من الكفار، بل وتدعو إلى موالاتهم واتخاذهم أحبةً وأصدقاء، ويزعمون أن لا ضير في ذلك؛ لأنه لا طريق للسلام العالمي اليوم والأمن والتعايش والوفاق الدولي إلا في ظل ذلك، وأنه لا يمكن أن يتحقق الوفاق والسلام العالمي إلا في ظل دفن أو وأد أو إجهاض قضية الولاء والبراء، وذلك أمرٌ في غاية الخطورة، لا يستطيع أحد أن يجمع الناس على كلمة واحدة، بل سنة الله عز وجل أن الخير والشر، والحق والباطل، الإسلام والجاهلية في صراع مرير إلى أن تقوم الساعة: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فقضية الصراع لابد أن تستمر، ونظرية التفرد والسيادة التي يسعى إليها الغرب ليضرب بيده الطويلة عبر قواعده الضاربة بأساطيلها بحار الدنيا كل من يخرج عن النظام العالمي الجديد، وإن أرادوا ذلك، فإنه لن تتمكنوا؛ لأن من سنن الله: التدافع والتنازع، ليبقى المتفرد بالهيمنة التامة والسيطرة الكاملة الذي له الحكم والأمر وحده لا شريك له هو الله وحده سبحانه وتعالى.
ولكل شيءٍ آفةٌ من جنسه حتى الحديد سطا عليه المبرد
لا يمكن أن تتحقق هذه النظرية التي يدندن عليها كثير من الكتاب، أو تطرق عبر الندوات التي تقام في القنوات الفضائية، مستحيلٌ أن يتم ما أرادوه؛ لأن من سنة الله في هذا الكون أن يمضي التدافع والتنازع بين الحق والباطل إلى أن تقوم الساعة، نعم للباطل صولةٌ، لكنها ساعة، وللحق جولةٌ لكنها إلى قيام الساعة: (لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم إلى أن تقوم الساعة) ينبغي أن ندرك هذه الحقائق.
وقول الله عز وجل أبلغ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] لا يمكن أن يتفق الناس، لابد أن يكون من الخلاف والنزاع والتدافع ما يدعو المسلمين إلى أن يعودوا إلى نصوص كتاب ربهم وأحاديث نبيهم صلى الله عليه وسلم؛ ليقرءوا ما يتعلق بهذه المسألة الكبيرة الخطيرة الجليلة (مسألة الولاء والبراء).
نعم.
هم الآن يجلبون بخيلهم ورجلهم حيال هذه القضية من أجل تذويب مسألة الولاء، وتخفيف المناعة فيما يتعلق بالبراء من المسلمين، ولكن مهما كان: إن الأسود وإن عاشت مع الخراف فستزأر يوماً ما.
نحن نعلم أن المسلمين اليوم، أو أن كثيراً من المسلمين اليوم قد روضت في حظائر الخراف، فأصبحت لا تعرف المهاجمة، ولا تعرف الزئير، ولا تعرف السيادة التي عرفت عن أسد الغاب وسيادتها على كل من حولها، لكننا على يقين أن هذه الأسود وإن نامت طويلاً في حظائر الخراف، فسيأتي لها يوم نسمع زئيرها، ونرى كيف ترد عن عرينها، وكيف تصد عن دينها: (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51].(72/5)
جهل الكثير من الناس في مسألة الولاء والبراء
المسألة المهمة المتعلقة بأسباب طرق هذا الموضوع أيضاً هي: أن كثيراً من المسلمين لا يعرف شيئاً البتة عن الولاء والبراء، بل لو سألته عن حقيقة الولاء والبراء، أو ما تقتضيه لا إله إلا الله محمد رسول الله من الولاء والبراء، لرأيته لا يعرف في هذه المسألة نقيراً ولا قطميراً، وهو على حد قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
إذاً نحن نلاحظ فئةً تجهل هذه القضية تماماً، ونلاحظ فئةً أخرى تعيش انفصاماً بين قضية الولاء والبراء، فأناسٌ يوالون المؤمنين، لكن لا يتبرءون من الكافرين، ولا إله إلا الله إثبات ونفي، ولاء وبراء، تحقيق وتبرؤ، فلابد أن نجمع بين هذه، وأن نضم أختها إليها لأولئك الذين لا يعرفون لهذه المسألة إلا فقهها الأول وهو الولاء، لابد أن يضموا إليه الجانب الآخر من البراء.(72/6)
إدخال شيء في البراء مما ليس منه
كذلك من دواعي طرق هذا الموضوع: أن من المسلمين من يخلط بين بعض القضايا وبعضها، وتختلط الأوراق لديه كما قلت بصدر كلامي آنفاً، فيدخل في البراء ما ليس منه، ويخرج من الولاء ما هو من لوازمه، ولذا تراه بسبب قلة علمه، أو جهله، أو عدم اهتمامه بهذه القضية لا يستطيع التمييز بين من يستحق الولاء ومن يستحق البراء.(72/7)
تعريف الولاء والبراء وأهميته وأدلته
جديرٌ بنا في صدر هذه الكلمات أن نعرف الولاء والبراء، الولاء هو: النصرة والمحبة والإكرام والاحترام، من نصرته وأحببته وأكرمته واحترمته، فأنت تواليه، وله في نفسك ولاء، وكونك معه ظاهراً وباطناً، فذلك أيضاً من الولاء، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257] فموالاة الكفار تعني التقرب إليهم، وإظهار المودة لهم بالأقوال، أو بالأفعال، أو حتى بالنوايا، أي قلب أضمر أو انطوى على حب للكفار، حتى وإن لم يصدر منه قول أو فعل يدل على ذلك، فليعلم أن مسألة الولاء والبراء في نفسه فيها خلل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الولاية ضد العداوة، وأصلها المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد.
والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه كما ذكره ابن أبي شيبة في المصنف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) وفي الصحيحين أيضاً عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه، قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر منها قال: على أن تنصح لكل مسلم، وأن تبرأ من الكافر) والله المستعان على ما نرى ونسمع في هذا الزمان من ذوبان مسألة الولاء والبراء إذا عرفنا معناها على ضوء ما سلف ذكره.
لقد أصبح غالب أحوال الناس اليوم ولاؤهم وبراؤهم لأجل هذه الدنيا: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58].
أما البراء فهو: البعد والخلاص، والعداوة بعد الإعذار والإنذار، قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر، ومنه قول الله تعالى في صدر سورة التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] أي: إعذارٌ وإنذار.(72/8)
الولاء والبراء عقيدة جميع الأنبياء
أيها الأحبة! الولاء والبراء ليس شريعة جاءت فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل الولاء والبراء عقيدة الأنبياء المرسلين جميعاً، والله سبحانه تعالى لما ذكر أولي العزم من أنبيائه ورسله، وذكر صفوة خلقه من أنبيائه ورسله، قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] أي: فنحن مأمورون أن نقتدي بنبينا وبهدي الأنبياء الذي لا يختلف مع هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كتاب الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة:4] انظروا إلى صريح المفارقة، وصريح المقاطعة، وإلى الكلمات التي لا تجد في أحرفها أدنى شبهةٍ من المجاملة، أو المداراة، أو التميع، أو التقرب: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
فهذا إبراهيم عليه السلام خليل الله، صاحب الملة الحنيفية الذي حطم الوثنية نادى بالولاء والبراء كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:26 - 28] تتوارثها أجياله من الأنبياء وأتباعه: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] وهي كلمة (لا إله إلا الله) المتضمنة والمشتملة على حقيقة الولاء والبراء، ولا تزال هذه العقيدة عقيدة الولاء والبراء باقيةً تتوارثها أجيال الأنبياء والمرسلين، فمن هنا نعلم أن الولاء والبراء ليس أمراً جديداً جاء في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو أمر قديم، بل هو دين الأنبياء والمرسلين جميعاً؛ لأن جميع الأنبياء والمرسلين دينهم واحدٌ وهو إفراد الله وتوحيده بالعبادة، وهذا يقتضي مقاطعة أهل الشرك وأهل الكفر وأهل الأوثان وأهل الجاهلية ولم يتخلف عن ذلك نبي من الأنبياء.(72/9)
سورة الكافرون أصل في البراءة من الكافرين
ظل الأنبياء يضربون بمطارق النبوة هامات الخرافة والذلة لغير الله، ويلهبون بسياط التجرد الخالص لله كل من عاداهم، أو أراد أن يذوب هذه المسألة، لقد حاولت قريش عبر المفاوضات الدبلوماسية الطويلة، وقدمت العروض من أجل أن تنال شيئاً يفت في قضية الولاء والبراء قالوا: يا محمد! اعبد ربنا سنة ونعبد ربك سنة، فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله عز وجل عليه قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
فقضية الولاء وقضية البراء وقضية الفيصل الفارق الواضح البارز الجلي بين الحق والباطل، بين الإسلام والجاهلية؛ لابد أن يكون واضحاً بيناً لا يلتبس على أحد أبداً، لقد حاولوا كل شيء، حتى عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم الملك والرئاسة والجاه والسؤدد بعد أن عرضوا الأموال والنساء، وكل ما استطاعوا أن يبذلوه، فلما عرضوا عليه الملك والرئاسة، قد يقول قائل: لماذا لا يجاملهم فترةً حتى يكون صلى الله عليه وسلم رئيساً زعيماً وملكاً على قريش، ومن ثم بمقتضى السلطة ومقتضى قوة الرئاسة والزعامة يستطيع أن يأمر وينهى فيهم؟ حتى هذا الأمر لم يقبله صلى الله عليه وسلم، بل قال كما جاء في السيرة: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أن تندق هذه السالفة) أي: فالمسألة لا تحتاج إلى تفاوض، أو هدنة، أو تأجيل، أو مراحل، نجامل الكفار هذه السنة ثم بعد ذلك نفاصلهم أو نعلن البراء منهم، لا.
مسألة البراء لابد أن تكون جلية واضحة، لا يقبل فيها أي عروض، أو أي مفاوضات تماماً.
ونبينا صلى الله عليه وسلم اعتنى غاية العناية بهذه المسألة، بل لقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود في سننه: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، ألا لا تراءى ناراهم) وهذا الحديث يحسنه بعض أهل العلم، وهو في الحقيقة حجة على كل مسلم ظل يعيش في بلاد الغرب بلاد الكفر دون حاجة أو مصلحة أو ضرورة على تفصيلات سوف يأتي بيانها.
أيها الأحبة: إن كون كثير من الناس اليوم أصبحوا بسبب التضليل الإعلامي لا يعطون قضية الولاء والبراء نصيبها من الإدراك والتأمل، وحظها من السلوك والمعاملة، فإن هذا لا يعني أن القضية أصبحت ميتة، إن الذهب يبقى ذهباً وإن لم يحصل عليه الفقراء، وإن الشهد يبقى شهداً وإن لم يستطع المرضى أن يتناولوه، فقضية الولاء والبراء قضية مهمة حتى وإن جهلها من جهلها، أو غفل عنها من غفل عنها، وحسبنا أن كلمة (لا إله إلا الله) التي نرددها في ذكرنا وعباداتنا وصلاتنا هي في الحقيقة مشتملة على الولاء والبراء، ومن لوازمها مسألة الولاء والبراء، والتطبيق العملي الواقعي لكلمة التوحيد لا يتحقق إلا بالولاء والبراء، وحسبنا أن نعلم أن كتاب الله عز وجل قد امتلأ بهذه المسألة، وعلى سبيل المثال من هذه الآيات: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] فمسألة الولاء قد امتلأت بها آيات القرآن، ولا نظن أنها مسألة نادرة، أو جزئية، أو مسألة شكلية، وإذا تأملنا أنها تناولت البراء من الكفار عامة، وحتى لا يبقى في ذهن أحدٍ أدنى شبهة من أن من كان قريباً أو نسيباً أو تربطنا به صلة رحم أن مسألة البراء يستثنى هو منها، بل جاءت الآية: {لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} [التوبة:23].(72/10)
أدلة واضحة في الولاء والبراء
فقضية الولاء والبراء قربت بلالاً الأسود، وأقصت أبا لهب الأحمر، وقضية الولاء والبراء قربت صهيباً الرومي وأبعدت أبا جهل القرشي المخزومي، وقضية الولاء والبراء قربت سلمان الفارسي وأبعدت كل نسيب وكل حسيب من أرومة قريش أو من جرثومتها.
إذاً: فحتى القرابات والأنساب والمصاهرات، والخئولة والعمومة، والأبوة والبنوة ينبغي أن تتحطم أمام مسألة الولاء والبراء إلا في حدود ما شرع الله من الصلة الداعية إلى الإحسان بقصد الدعوة والقربى إلى الله سبحانه وتعالى، يقول أحد أئمة الدعوة النجدية الشيخ / حمد بن عتيق رحمه الله من أئمة الدعوة السلفية، يقول: إنه ليس في كتاب الله تعالى حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم وهو الولاء والبراء؛ بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى علينا موالاة المؤمنين ومحبتهم ونصرتهم، كما أوجب علينا البراءة من المشركين وبغضهم وعداوتهم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وخص أهل الكتاب أيضاً، فهناك آيات تنهى عن موالاة الكفار عامة، وآيات تنهى عن موالاة الكفار أهل الكتاب على وجه الخصوص، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] بل إن من في قلبه صريح الإيمان وصادق اليقين، لا يمكن أن يقبل بأن يساكن قلبه موالاة للكافرين أبداً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23].
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
من كان في قلبه صريح الإيمان وصادق اليقين بالله وبرسوله، فلا يمكن أن تسكن قلبه موالاة للكفار حتى ولو كان هذا الكافر أباً أو ولداً، قريباً أو نسيباً، وقد جهل كثير من المسلمين اليوم هذه المسألة حتى بتنا -ويا للأسف- نسمع في بعض المناسبات من يقول: الكفار إخواننا، اليهود إخواننا، النصارى إخواننا، سبحان الله العلي العظيم! يشرفنا الله فيرفعنا فوقهم، فنصر إلا أن نكون أذلاء لنكون بجوارهم ومقامهم، بل إن الكفار كما أخبر تعالى يتمنون أن ننزل إلى حضيض مستنقع مستواهم، اليهود والنصارى يتمنون أن ننزل بترك الإيمان والسقوط في الكفر إلى مستواهم، ولذا قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
الذي يتمنى أن يساويك بنفسه لاشك أنه إنما يريد أن ينتشلك من الحضيض ليرتفع بك إلى الأعلى، والكفار لا يتمنون لنا أن نرتفع إلى مستواهم لا في صناعة، ولا في زراعة، ولا في تجارة، ولا في سياسة، ولا في قيادة، ولا في ريادة، ولا في اقتصاد، ولا غير ذلك، إذاً بقي شعورهم بأننا فقط بالإيمان أعلى منهم، فيتمنون أن نكفر كما كفروا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] يتمنون أن نهبط من مستعصم مواقعنا وعزةٍ شماء نرتفع إليها بسبب تعلقنا بديننا، يريدون أن نهبط إلى مستواهم، فإذا كان الله يكرمنا ويذلهم، ويرفعنا ويدنيهم، ويجعل مقامهم وضيعاً، فلماذا نصر ونقول: هؤلاء إخواننا، ولماذا نصر ونقول: هؤلاء وهؤلاء؟ يا أخي الحبيب! ليسوا لنا بآل، وليسوا لنا بإخوة، وليسوا لنا بأولياء، حتى وإن حصل بيننا وبينهم تعامل، حتى وإن حصل بيننا وبينهم أمور، فإن ذلك مفصلٌ أحكامه في بابه، لكن لا يعني ذلك الرضى بقوتهم بأي حال من الأحوال.(72/11)
وجوب موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين
وكما أن الله سبحانه حرم علينا موالاة الكفار، فقد أوجب علينا موالاة المؤمنين، فقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56] وقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وواقع بعض المسلمين اليوم أن تراهم مؤدبين طيبين لينين، رفقاء بالكفار أشداء على المؤمنين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إما جهلاً وإما تأولاً باطلا، والله عز وجل قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فالمؤمنون إخواننا في الدين والعقيدة وإن تباعدت الأنساب والأوطان والأزمان كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
ما الذي يجعلنا نحب خالد بن الوليد وأبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن تيمية وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل والشافعي والإمام مالك وإبراهيم النخعي، وأقواماً لم نعرفهم وبيننا وبينهم قرون؟ ذلك هو الولاء الذي لا يقف عند حاجز الزمن، فمن سبقنا بالإيمان أحببناه، والذين يجيئون بعدنا نحبهم، وإن كانوا لا يزالون في أرحام النساء أو في أصلاب الرجال، هذا مقتضى الولاء، ومن عاش من الكفار على ظهر الدنيا، فإننا نبغضه حتى وإن لم يقتل لنا قريباً، أو يسطو لنا على منزل، أن يكون بيننا وبينه معركة بأي حال، والكفار الذين لا يزالون في أصلاب الرجال أو أرحام النساء، فإننا نبغضهم ونكرهم.(72/12)
الولاء والبراء أوثق عرى لا إله إلا الله
عقيدة الولاء ترتبط بلا إله إلا الله منذ أن نزلت على هذه الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فلا شيء يحبس ولاءنا للمؤمنين، الموالاة للمؤمنين لا تحبسها لغة، فنحن نحب الأعاجم من المسلمين الذين لا يعرفون من العربية حرفا إلا الفاتحة والشهادة وبعض الأحكام التي لابد من العربية فيها، ونحن أيضاً نحب أقواماً تفصل بيننا وبينهم البحار والمحيطات، ونحب أقواماً ليس بيننا وبينهم من القرابات والأنساب شيء:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدر من غمامٍ واحدِ
أو يختلف نسبٌ يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالدِ
هذه من أهم الأمور وأهم القضايا، وبناءً على ذلك: فإذا شجر بين المسلمين قضايا في باب الاقتصاد، أو في باب السياسة، فينبغي لعامة المسلمين ألا يتدابروا ولا يتقاطعوا بسبب تقاطع الأنظمة أو تقاطع الحكومات.
أي: فلو أن حرباً وقعت بين دولتين مسلمتين، فإن هذا يعني ألا نتبرأ من إخواننا المسلمين، وألا يفضي بنا ذلك إلى بغضائهم وكراهيتهم، بل يبقون إخواننا ويبقون أحبابنا، وما ذنب إخواننا إذا تسلط عليهم من قال الله فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] فهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يظن أن مسألة الولاء والبراء مسألة جغرافية، فما كان داخل الحدود الجغرافية شمالاً وشرقاً وجنوباً وغرباً فإنه يستحق الولاء، وما كان خارج الحدود إن كان بيننا وبينه حرب أو معركة معينة، فلا يستحق الولاء، لا.
يبقى المسلم مستحقاً للولاء أياً كانت قيادته التي تقوده، قد تكون قيادة كافرة، أو ظالمة جائرة، أو قيادة مستبدة، لكن حتى وإن أوذينا من قبل قيادته، لكن الولاء بيننا وبين هذه الشعوب المسلمة لابد أن يبقى حياً يقظاً.(72/13)
الأصل الولاء لكل مسلم والبراءة من كل كافر
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأصل الولاء لكل مسلم مهما كانت ذنوبه، والأصل البراء من كل كافر مهما كانت محاسنه.
فالكفار مهما كانت إبداعاتهم وما يقدمونه من أسباب الترفيه في أمور الحياة، نعم نستفيد منها، لكن لا يعني ذلك موالاتهم، سنظل نتبرأ من الكافر والكفار، والمؤمن أياً كان الأمر لابد أن نظل نواليه بحسب ما فيه من الإيمان والطاعة، ونتبرأ مما فيه من المعصية على تفصيلٍ سوف يأتي بيانه قريباً.
وهذه مسألة مهمة: إنني أعجب من بعض الشباب، مثلا: ً تراه يكره لاعباً مسلماً ويحب لاعباً كافراً لا لشيء، إلا لأن هذا اللاعب المسلم في فريق لا يشجعه، وهذا اللاعب الكافر في الفريق الذي يشجعه، وهذه مسألة خطيرة جداً، لسنا الآن نريد أن نقول: تعالوا نشجع فريقاً معيناً، لكن خطورة الأمر التي تفوت على كثير من المسلمين هو أنه يجهل أن الأصل هو البراء من كل كافر حتى وإن كان في شركتك، أو كان في النادي الذي تشجعه، أو كان في المكان الذي أنت تحبه أو ترتضيه مثلاً، والأصل الولاء لكل مسلم.
فالشباب الذين يسجنون الآن في سجون انفرادية بسبب جرائمهم، أو بسبب تعاطيهم للمخدرات، لهم علينا حق الولاء فيما بقي عندهم من الإسلام والإيمان، ونتبرأ مما يفعلونه من المعاصي والمنكرات، وهم أعظم قدراً في أنفسنا من أولئك الكفار الذين لا يعبدون الله ويشركون به أنداداً ونظراء وآخرين، لابد أن ندرك هذه القضية الدقيقة حتى لا تذوب لأدنى مشكلة، أو لأدنى شائبة، ثم لنعلم أنه لابد من تلازم الولاء والبراء، فهذا مرتبطٌ بهذا، وحقيقة الولاء داعيةٌ إلى البراء، حقيقة الولاء للمؤمنين داعيةٌ إلى البراء من الكافرين، وحقيقة البراء من الكافرين داعيةٌ إلى الولاء للمؤمنين.(72/14)
الإمام محمد بن عبد الوهاب في الولاء والبراء
يقول الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
وقال رحمه الله في الأصول الثلاثة: إن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].(72/15)
سلوكيات تقدح في الولاء والبراء
وهنا سؤال إذا علمنا وأيقنا أن هذه هي منزلة الولاء والبراء، وهذه هي حقيقة الولاء والبراء؛ فيا ترى: لماذا يصر أقوامٌ بعد ذلك على الولاء للكافرين وعدم البراءة منهم، وضعف الولاء مع المسلمين، أو يوشك أن ينعدم عند بعض المسلمين الولاء، فلا يبالي بأي وادٍ هلك المسلمون ولا يسأل عنهم؟ بعض المسلمين يقع في خللٍ تجاه هذه القضية (قضية الولاء والبراء) ويمارس من السلوكيات ما يوقعه في الولاء للكافرين؛ كلٌ بحسب نوع عمله وتعامله الذي يفضي به إلى هذا الولاء مع الكفار، بعضهم يقول: هؤلاء كفار، ونحن لابد أن ندخل معهم في هذا الأمر، ولابد أن تكون لنا مكانة عندهم، وأن تكون لنا منزلة عندهم، والله عز وجل قد بين هذه القضية؛ لأن الله قد خلق هؤلاء البشر ويعلم ما يدور في أنفسهم، وما سوف يقولونه منذ خلقهم إلى أن تقوم الساعة، ولذلك قال تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] يريدون المنعة والرفعة والمنصب والمال والتسهيلات، قال الله عن الذين هدموا عقيدة الولاء والبراء من المنافقين: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] فبعض من يوالي الكفار يقول: نحن نواليهم ولا نتبرأ منهم، نريد أن تكون لنا عندهم مكانة، نريد أن يكون لنا عندهم شأن، يا أخي الكريم! لا يمكن أن يكون لك عند الكافر شأن إلا بمقدار ما تتمسك به في دينك، أي: فبمقدار التمسك في الدين يجعل الكافر يحسب لك ألف حساب، ويهابك ألف هيبة، ويقيم لك أعلى وزن، وإن مجاراة الكفار وضعف البراء منهم، وذوبان الولاء فيهم يجعلهم يحتقرونك حتى وإن ضحكوا وابتسموا ابتسامةً صفراء.
إذا رأيت نيوب الليث بارزةً فلا تظنن أن الليث يبتسم
قد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي
قضية فلسطين الآن كم قدم المسلمون فيها من تنازلات؟ ولو ذهبت تستقرئ التاريخ من ثمانية وأربعين إلى سبعة وستين إلى ثلاثة وسبعين إلى أوسلو وقبلها مدريد وغير ذلك، الآن رغم كل هذه التنازلات تأتي شركة دزني بأورلاندو لتقيم مهرجانات تقرر فيها أن القدس عاصمة يهودية، ماذا يفعل هؤلاء؟ كل هذه المفاوضات وكل الأعمال والتنازلات والأمور التي حرصنا أن نقترب بها، أو نصلح القضية بها، أو نصل إلى ما يسمى بالسلام، والأرض مقابل السلام إلى آخر ذلك ما قدمت شيئا، لا يزالون على مبدأ خذ وطالب، خذ وطالب، خذ وطالب، وحسبكم أن المؤمنين في فلسطين الآن والمجاهدين المسلمين المساكين في كربٍ شديدٍ لا يعلمه إلا الله، سواءً في الأراضي الفلسطينية التي تسمى تحت الحكم الذاتي، أو في مناطق الانتشار اليهودي، فإذاً ينبغي أن نعرف أن مسألة البراء من الكفار هي التي تجعل الكافر يحسب لك ألف حساب.(72/16)
أسباب تميع قضية الولاء والبراء(72/17)
ضعف الإيمان سبب في ذوبان الولاء والبراء
إن بعض الذين يتولون الكفار، أو يميعون مسألة الولاء والبراء سبب وقوعهم في ذلك: ضعف إيمانهم، كما أخبر تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81] الفسق والخروج عن الجادة والصراط المستقيم والصواب والحق الذي لابد منه.
أقول: إن ضعف الإيمان من أسباب ذوبان قضية الولاء والبراء، وكما أخبر تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81].(72/18)
الخوف والخشية من الكفار
كذلك من الأمور التي أوقعت بعض المسلمين في نسيان وذوبان قضية الولاء والبراء: الخوف والخشية من الكفار، نخاف المقاطعة، نخاف من أذية، نخاف من كذا، نخاف من كذا، نعم المسلم يحسب لأعدائه حساباً ولا يتساهل، ويعد العدة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} [الأنفال:60] لكن إن كنت تظن أن تذويب الولاء والبراء يعصمك من أذية الكفار، فاعلم أن الأمر كما أخبر تعالى عن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] كان أناسٌ من العرب إذا نزلوا في أودية موحشة، واستوحشوا المكان، قالوا: إنا نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعني: ما يستعيذون بالله، ما يلوذون بالله، بل يلوذون بكبير الجن (بالشيطان أو بالمارد) يقولون: إنا نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فما الذي يكون؟ الشياطين عندما يجدون هؤلاء العرب يستعيذون بالجن من دون الله، يقولون: تعالوا، هؤلاء قومٌ ضعفاء تسلطوا عليهم، فيزدادون عليهم تسلطاً وإرهاقا، كما أخبر تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6].
كلما ازداد لياذ المسلمين بالكافرين، ازداد الكافرون لهم رهقاً وإذلالاً وتجويعاً وتشريداً، لكن الكفار لا يفرقون بين الجنسيات، اليوم تجويع في العراق، وهنا ضرب في السودان، وهنا فعل في داغستان، وهنا إبادة في الشيشان، الكفار لا يعرفون تمييزاً بين جنسية وجنسية أخرى.
فإذا علمنا تمام العلم أن الركون إلى الكفار، أو أن ذوبان قضية الولاء والبراء لا تنفعنا أمامهم، بل إن ذوبان القضية بدعوى أننا نخشى منهم هي في الحقيقة مدعاة لمزيد تسلطهم علينا، يتسلطون علينا وعلى أموالنا، على أولادنا، ولذا قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] فبين تعالى أنه لا يذوب قضية الولاء والبراء ويسقط في مآسٍ الموالاة للكافرين إلا من في قلبه مرض: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] لماذا تسارعون فيهم؟ {يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] وعسى من الله واجبة، والحمد لله لقد جاء فتح مكة، وأصبح مرضى القلوب (أهل الظنون الفاسدة) على ما أسروا في أنفسهم نادمين.
فكذلك الآن إذا سئل من سئل عن هذا التهافت والتساقط والانبطاح أمام الكفر، وقيل له: لماذا؟ يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة، مثل ما قالت قريش لما جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت سورة براءة ألا يحج البيت مشرك، وألا يطوف في البيت عريان، ومنع المشركين من قدوم البيت، قالوا: هذا ربما يضر بالاقتصاد، هذا يمنعنا، فأنزل الله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:28] أي: ما أغناكم إلا هؤلاء الكفار الذين يطوفون بالبيت عراة، هؤلاء الذين تنتظرون قدومهم عراةً بأنجاس الشرك والوثنية، وترضون ببقائهم جوار البيت حتى تضمنوا استمرار التدفق الاقتصادي أو المالي الذي تجنونه من ورائهم؟ وكذلك كل من عصى الله عز وجل بمعصية وهو يرجو وراءها من المطامع المالية، والله لا تزيده إلا رهقا، ولا تزيده إلا نقصاً وخسارة، سواءً كان ذلك من الأمر الظاهري، أو الأمر الباطني، ومن هنا نعلم أن كل شيء لا نستجلبه بما يرضي الله، فإنه ينقلب علينا بعد سخط الله بنقيض ما قصدناه وأردناه.
على سبيل المثال: السياحة، السياحة أمرٌ جيد إذا أردنا أن نحول دون تدفق الناس إلى الخارج ليكون سواحنا في أرضنا، وإنفاق السواح يعود إلى بلادنا وتقوية اقتصاد وطننا، هذا شيء جيد جداً، لكن هل من ذلك أن نجعل في السياحة من معاصي الله عز وجل ونرضاه حتى نقول من أجل أن تتدفق إلينا الأموال؟ لا.
لأننا ما اعتمدنا على السياحة في اقتصادنا، بل على فضل الله الذي أنعم علينا وأعطانا وأكرمنا وآوانا، لا بكدنا ولا بكد آبائنا وأجدادنا، نعم الآباء والأجداد والقادة والسادة والأمراء والعلماء الذين سلفوا، وموحد هذه الجزيرة عليه شآبيب الرحمة وأسكنه الله فسيح جناته الملك/ عبد العزيز له علينا حق الدعاء بالمغفرة والرحمة والجنة لما كان له من دور يدركه الآباء والأجداد، وبضدها تتميز الأشياء، لكن هذه الخيرات التي تدفقت، بماذا؟ بفضل من الله، ثم بالتوحيد والعقيدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن حافظنا على العقيدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح المجتمع، تستمر هذه الخيرات، وإذا أردنا أن نظن أن مزيداً من الخيرات سوف يأتينا، أو معالجة أي مشكلة سوف تأتينا بمعصيةٍ نرتكبها في أي مسمى، أو في ظل أي شعار، فإن ذلك لن ينقلب علينا إلا بنقيض ما أردناه بعد سخط الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذاً فالذين لا يتبرءون من الكفار، ولا يوالون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، فأولئك على خطر عظيم؛ لأن الأمر بيد الله، وإليه يرجع الأمر كله، فينبغي ألا نخشى أحداً إلا الله سبحانه وتعالى.(72/19)
إبراهيم عليه السلام قدوتنا في البراءة من الكافرين
إن موقف إبراهيم عليه السلام في براءته من الشرك وأهله لموقفٌ حريٌ بالتأمل والتدبر كما قال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي: لا تصفو الموالاة إلا بالمعاداة، وكما قال تعالى عن إمام الحنفاء أنه قال لقومه: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 - 77] فلم تصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلا بتحقيق هذه المعاداة، أعني: من الكفار، فإنه لا ولاء إلا لله، ولا ولاء إلا بعد البراءة من كل معبود سواه، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:26 - 28] أي: جعل هذه الموالاة والبراءة من كل معبود سوى الله عز وجل كلمةً باقيةً يتوارثها الأنبياء بعضهم عن بعض وأتباع الأنبياء يتوارثونها أيضاً، وهي كلمة: لا إله إلا الله، ولم يخش منهم، ولم يخش مقاطعتهم، ولم يطلب عندهم شيئاً من العزة، فاستحق عليه السلام بالتزامه بعقيدة الولاء والبراء أن جعله الله أمَّة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] وجعله الله إماماً يقتدى ويتأسى به: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة:4].
وبلغ من براءة إبراهيم عليه السلام من المشركين وشركهم أنه فارقهم ببدنه كما خالفهم بقلبه وعقيدته، كما أخبر عنه تعالى بقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [مريم:48] أي: سأجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وأدعو ربي أي: أعبده وحده لا شريك له عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً، فانظروا إلى تضحية إبراهيم بالوطن، وتضحيته بمراتع الصبا من أجل الولاء والبراء، وانظروا إلى تضحيته بالقرابات والوشائج والصلات من أجل الولاء والبراء، فأورثه الله بركةً وخيراً، وعوضه الله عز وجل بها بدلاً من الخلطة السيئة للمشركين ولده إسحاق وولده يعقوب، وأنعم عليه في ذريته بالنبوة، كما قال تعالى: {وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] وقال مبيناً عقبى وبركة الفرار في الدين لما اعتزلهم، لما حقق الولاء لله والبراء من المشركين من قومه: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} [مريم:49].(72/20)
مظاهر موالاة الكافرين(72/21)
الرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم أو الشك في كفرهم
أيها الأحبة: إن من مظاهر موالاة الكفار: الرضا بكفرهم وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذاهبهم الكافرة، وهذا لا يحتاج إلى دليل، فالرضى بالكفر كفر، ومن لم يكفر الكافر فقد كفر.
مسألة خطيرة أن نجامل أو نداهن في مسألة تكفير الكافر، وللأسف أن نسمع من بعض الطلاب يقول: إنه سمع بعض المدرسين، أو قرأ، يقول: لا يمكن أن نسمي هؤلاء اليهود أو النصارى كفاراً: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] إذا لم يكن هؤلاء الكفار، فمن هم الكفار إذاً، الوحوش والزرافات والنعام؟! إذا لم يكن هؤلاء اليهود والنصارى هم الكفار الذين أمرنا بالبراءة منهم، وكتاب ربنا وسنة نبينا مليئة بالأحكام التي تضبط تعاملنا معهم بدقة، وضرورة الإعداد في مواجهتهم، فمن هم الكفار إذاً؟(72/22)
اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء
ومن مظاهر موالاة المشركين: اتخاذهم أعواناً وأنصاراً وأولياء، أو الدخول في دينهم، قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28].
قال ابن جرير: من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم ويظاهرهم على المسلمين؛ فليس من الله في شيء، أي: قد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.
وقال أبو محمد بن حزم رحمه الله: صحَّ أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] إنما هو على ظاهره بأنه كافرٌ من جملة الكفار، يعني: من والى الكفار وظاهرهم على المسلمين وأعانهم على المسلمين، فلا شك أن هذا من أسباب المروق من الملة ونقض الشهادة والدخول في الكفر، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أخبر الله في هذه الآية أن متوليهم منهم.(72/23)
الإيمان ببعض ما هم عليه أو التحاكم إليه
كذلك من صور موالاة الكفار: الإيمان ببعض ما هم عليه، أو التحاكم إليهم دون القرآن، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60] وقد يقول قائل: هل يعقل أن مسلماً يتحاكم إلى الكفر؟ نعم.
في جولات متعددة في بلاد الغرب، ومقابلة بعض إخواننا المسلمين فرج الله عنهم من الجالية المسلمة المقيمة في الغرب، تجد أن منهم من إذا صار بينه وبين مسلم آخر شجار أو نزاع، فإنه يقاضيه ويشكوه ويتحاكم معه لدى محكمة كافرة؛ لأن حكم القانون الوضعي يحقق له من الربح المادي والعوض المالي أضعاف ما يمكن أن يستحقه حينما يحكم له إمام المركز الإسلامي بحقه.
أو مثلاً: امرأة مسلمة، ربما تتحاكم ضد زوجها في قضايا مدنية غربية كافرة، ومعلومٌ شرعاً أنها لا تستحق مثلاً من النفقة إلا كذا، ولأولادها إلا كذا، لكن القانون الوضعي يحسب إلى مدة، ويحسب إلى مال، ويحسب إلى ثروة، ثم تجد المرأة المسلمة تقاضي وتحاكم زوجها لدى المحاكم الغربية الكافرة، وهذا لا يجوز أبداً، بل هذا من موالاة الكافرين، لا يلزم من موالاة الكافرين أن تمسك يد كافر وتقعد تقبل يده، كونك تذهب لتقاضي مسلماً مسلماً عند قاضٍ كافر، هذا من موالاة الكفار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(72/24)
التشبه بالكفار في الملبس والكلام
كذلك من مظاهر موالاة المشركين: التشبه بهم في الملبس والكلام وغيره، ولأن التشبه بهم في الكلام والملبس وغيره يدل على محبة المتشبه به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، يعني: الصراط المستقيم الذي أنت تدعو الله أن يهديك إليه كل يوم في المفروضات سبع عشرة مرة في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] في كل ركعات الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، اقتضاء الصراط المستقيم هذا أن تخالف أصحاب الجحيم، فلا تتشبه بهم البتة فيما هو من خصائصهم، أما ما أصبح عاماً ليس من خصائصهم، فلا يدل ذلك على موالاتهم، فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم وسمتهم وأخلاقهم وما يقعون فيه، وللأسف الآن أصبح بعض المسلمين يتشبه بهم حذو القذة بالقذة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
مرة من المرات لقيت شاباً في ولاية اسمها ساندياجو على حدود المكسيك، فسلم علي بعد محاضرة أقيمت، ولكن لفت نظري أن له ظفيرة وعليها ثلاث ربطات، فقلت: هذه فتاة التزمت وحضرت المحاضرة، فلما دنا، عرفني بنفسه، فإذ به يتلكم العربي واللهجة التي أعرفها تماماً، ما شاء الله! من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان من المكان الفلاني والحي الفلاني، قلت: يا سبحان الله! ما الذي حدث لك حلقت شاربك على لحيتك، وعصبت شعرك؟ فأخذ يبتسم، وقال: لا.
أنا جئت وسكنت مع مجموعة من الطلبة والطالبات في دورات لغة ودورات أخرى.
انظروا خطورة الاتصال الذي لا يسبقه مناعة وحذر من الموالاة، يقع الإنسان في التشبه مباشرةً من حيث لا يشعر، انظروا إلى ما في قلبه أيضاً، انظروا إلى الجانب الطيب في شخصيته أنه جاء ليحضر المحاضرة، وجاء ليشهد معنا الصلاة جماعةً، فهذه من الأشياء التي يشكر عليها أنه قدم واستمع إلى المحاضرة، وجاء يسلم وشكر واستفاد، لكن مسكين نسي أنه في حال منكرة من هذا الحال الذي هو عليه، تشبه بالكفار تماماً، حلق لحيته وشاربه، ما كنا نرى ونعرف أن الشباب يعصبون شعرهم ويجعلونه ظفيرة واحدة ويربطون عليه بكله إلا لما فعل الكفار ذلك، وأصبحت -للأسف- ترى أن من شباب الإسلام اليوم من يفعل ذلك، بل وأصبح من ذلك التشبه بالنساء ليس تشبهاً بنسائنا، لكن تشبهاً بشباب الكفار هناك لما وضعوا الأقراط، القرط يضعه بعض الشباب في أذنه، وبعضهم يضع قرطين، وبعضهم يلبس القلادة والسلسلة، من أين جاء هذا؟ من ضعف الولاء والبراء، وإلا أمة لا تسجد لله وتكفر بنعم الله وتتسلط على أولياء الله وتجوع شعوب المسلمين، هل يستحقون أن تشابههم؟ تصور أن قبيلةً من القبائل مثلاً غزو أهلك وجماعتك وقبيلتك، وذبحوكم وآذوكم، وفتكوا فيكم شر الفتك، وهذه القبيلة لها سمتٌ معين في شعرها، وسمتٌ معين في لباسها، وسمتٌ معين في هيئاتها، أفتظن أنك يا ولد القبيلة التي نحرت وذبحت وأوذيت وجوعت وطردت وشردت تقبل أن تتشبه بهم، أو ترى أحداً من قبيلتك يتشبه بتلك القبيلة الذين آووك وذبحوك وشردوك وطردوك؟
الجواب
لا.
فلماذا يتشبه أبناؤنا بهؤلاء الكفار الذين لم يألونا خبالاً؟ لماذا يتشبه أبناء المسلمين بهؤلاء الكفار الذين هم أنفسهم لا يرون لنا قدراً ولا وزناً؟ هذا الفنان الغربي الذي يسمى مايكل جاكسون قيل له: إن العرب يعجبون بأغانيك، قال: لو علمت أن العرب يسمعون غنائي لغنيت للخنازير ولا أغني للعرب، انظر إلى أي درجة بعض المسلمين يتعلقون في محبة من لا يرى لهم قدراً، ويتعلقون بأقدام من لا يراهم إلا كالصراصير والجرذان والفئران، فيا عجباً كيف تتعلق بمن لا يراك إلا حشرة؟! وكيف تتشبه بمن لا يراك إلا نقيصة؟! وكيف تتبع وتقلد من لا يراك شيئاً أبداً؟! تلك وايم الله من العجائب والمشكلات.
إذاً فالتشبه بالكفار بهذا السمت من دلائل التأثر بهم، أو تحقق نوع موالاة لهم.(72/25)
الإقامة في بلد الكفار والركون إليهم
أيها الأحبة: ومن صور موالاة الكفار: الإقامة في بلدهم والركون إليهم، وعدم الانتقال من ديارهم إلى بلد الإسلام لمن تيسر له ذلك لأجل الفرار بالدين؛ لأن هناك من المسلمين من اضطر إلى البقاء في دار الكفار اضطراراً، فلم يجد بلداً تؤويه، وقد أهدر دمه، أو خشي على دينه، وأصبح في حال لا يأمن فيها على نفسه وعرضه في بعض بلاد الإسلام، فاضطر اضطراراً أن يهاجر ليفر بنفسه وعرضه ودينه.
إن خطر ذوبان المسلمين في مجتمع الكافرين لا يستطيع أحد أن يتصوره، بل لا يصفه لسان ولا يخطه قلم، فالإقامة في بلدهم وعدم التحول منها لمن قدر على ذلك يعتبر من موالاتهم، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] يعني: الذين جاءت الملائكة لتقبض أرواحهم وهم لا يزالون في مكة، والعبرة في الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهؤلاء الذين نزلت بهم المنية وحل بهم الموت ولم يهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أذن الله لنبيه وأتباعه بالهجرة، نزلت بهم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97 - 99] فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كانت في إقامته مصلحة دينية كالدعوة إلى الله، ونشر الإسلام في بلادهم، فلا شك أن إقامته مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه المصلحة، لكن البقاء بين كثرتهم الكاثرة مع كثرة الإمساس وقلة الإحساس تقلل العداوة، وتذيب حديد البراء، وتؤثر على سلوكيات المسلم الخلقية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى أقل إيماناً من غيرهم؛ لأن الإنسان اجتماعي ومدني بطبعه، وهذه جبلة جبل الله عليها بني آدم، فكثرة المساس والمخالطة تفقد الإحساس، لا سيما إذا كان الذي يخالطهم لا يحمل هدفاً في دعوتهم وبيان الحق الذي شرعه الله عز وجل، وهذا معلوم، بل إن الإنسان إذا عاشر بهيمة من البهائم تأثر بطباعها، فمن عاشر نوعاً من البهائم اكتسب بعض طباعها، ولذا صار الفخر والخيلاء في أهل الإبل، وصارت السكينة والوقار في أهل الغنم، وصار أصحاب الجمال والبغال فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق البغال والجمال، بل وصار الحيوان إنسياً ووحشياً فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة وقلة النفرة، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم -وصدق بأبي هو وأمي-: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فإذا كان الأمر كما نسمع، فما بال أقوام لازالوا يعزفون على وتر النشاز، ويعقرون عقائرهم بنداءات مرفوضة وليست بمقبولة، بدعوى التقارب والتآلف والتآخي إلى آخره مع هذه الشعوب الكافرة، نعم.
نحن لا ندعو إلى ظلم أحد، لكن لا ندعو المسلمين أن يذيبوا مسألة الولاء والبراء، لقد قال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك وسكن معه، فإنه مثله) رواه أبو داود والترمذي، فلا تجوز مساكنتهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، ألا لا تراءى ناراهما).(72/26)
اتخاذ الكفار مستشارين من دون المؤمنين
كذلك من صور الولاء: اتخاذ الكفار مستشارين من دون المؤمنين، اتخاذهم بطانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:118 - 119] والتقدير: تؤمنون بمحمد وعيسى وموسى، وهم طبعاً لا يؤمنون بمحمد: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] بطانة الرجل: خاصته، سميت البطانة بطانة تشبيهاً ببطانة الثوب التي تلي البطن، يعني: من جعل أحداً بطانةً، فهو يستبطن أمره، وهذه البطانة تطلع منه على ما لا يطلع عليه غيره، وقد بينت العلة في النهي عن مباطنتهم في القرآن: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] يعني: العلة في النهي عن اتخاذ الكفار بطانةً وأولياء لأنهم لا يألونكم خبالا، يعني: لا يقصرون في أذيتكم وما يجركم إلى الخبال والوبال، ولا يتركون جهدهم فيما يورثكم الشر والفساد، ثم إنهم يودون عنتكم ومشقتكم والضرر والهلاك بكم، ثم إن العداوة التي ظهرت منهم دليلٌ واضح على ما يكنونه في أنفسهم، فحينئذٍ لا يجوز أن يكون الكفار بطانةً من دون المؤمنين، فالقرآن يبين لنا دخائل الكفار ويحلل نفسياتهم وما يكنون وما يضمرون من بغض وكيد وخيانة، وأنهم يستغلون ثقة المسلمين لإيقاع الضرر بهم.
روى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري، قال: [قلت لـ عمر بن الخطاب: لي كاتب نصراني، فقال عمر: ما لك قاتلك الله؟! أما سمعت قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟ يعني: مسلماً، قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه، فقال عمر: لا أكرمهم وقد أهانهم الله، ولا أعزهم وقد أذلهم الله، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله].
وروى الإمام أحمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين، فلحقه عند الحرة، فقال: (إني أردت أن أتبعك وأصيب معك، فقال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا.
قال: ارجع فلن أستعين بمشرك) ومن هذه النصوص يتضح لنا تحريم تولية الكفار أعمال المسلمين الذين يتمكنون بواسطتها الاطلاع على أحوال المسلمين وأسرارهم ويكيدون لهم بإلحاق الضرر بهم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ومن عجبٍ أيها الأحبة! ما وقع في هذا الزمان من تساهل الكثير من المسلمين في جلب الكفار إلى بلاد الإسلام وإلى جزيرة العرب خاصة، وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ومربين وبطانةً وغير ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب).(72/27)
مداهنة الكفار والركون إليهم ومجاملتهم
أحبتنا في الله: الحديث في صور موالاة الكفار كثير، ومن صور موالاة الكفار: الركون إليهم ومداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين، والاستغفار لهم والترحم عليهم، والثناء عليهم، ومشاركتهم في أعيادهم، والمساعدة في إقامة هذه الأعياد، وطاعتهم، ومجالستهم، والدخول عليهم في وقت يستهزئون فيه بآيات الله، والله عز وجل يقول: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140].
ومن صور موالاتهم: مودتهم ومحبتهم ومعاونتهم على أذية المسلمين، ومعاونتهم على ظلمهم ونصرتهم والتسمي بأسمائهم.
بالمناسبة: الآن بعض المسلمين أصبح يبحث عن قاموس الأسماء والكنى ثم لا يثق فيه ولا يجد فيها اسماً لولد أو بنت، لكنه يتحرى أن يسمي ولده أو ابنته باسم كافر، ويفتخر والعياذ بالله، بل بعض المسلمين الذين ذهبوا في مجتمعات الغرب يفتخر أن ولده لا يعرف من العربية شيئاً، ويفتخر أن ولده يجيد رطانة الكفار.
نكتفي بما سبق، وأسأل الله عز وجل أن يحقق لنا ولكم في قلوبنا البراءة الحقة من الكافرين، والموالاة الصادقة لإخواننا المؤمنين المسلمين، وإن كان بقية العناصر تتعلق في صور موالاة المسلمين، وما يجب للمسلمين من الموالاة، لكن لعل الشق الأول قد أخذ كل وقت هذه المحاضرة.
أسال الله بمنه وكرمه أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعله حجةً لنا لا علينا، اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك يا رب العالمين، نسألك اللهم لنا ولإخواننا ولأخواتنا في هذا المكان، وآبائنا وأمهاتنا ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا تائباً إلا قبلته، اللهم استعملنا في طاعتك، وتوفنا على أحسن حال ترضيك عنا يا رب العالمين.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، وجزاكم الله خيراً.(72/28)
الأسئلة(72/29)
مسائل لا تقدح في الولاء والبراء
السؤال
فضيلة الشيخ! سعد البريك أسعده الله في الدنيا والآخرة: هل تقليد الكفار لاعبين أو ممثلين يعتبر ناقضاً من نواقض الولاء والبراء؟
الجواب
قبل أن أجيب على ذلك هنا مسائل دقيقة تتعلق بصلب الموضوع ولابد من ذكرها، فمع تأكيدنا على قضية الولاء والبراء فيجوز للمسلم أن يرد السلام، يعني: إذا سلم الكافر على المسلم بتحية معلومة إذا علمتها وما تضمنتها، فتحيي بمثلها، فإذا قال لك الكافر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليكم السلام.
الآخر: إذا حييت بتحية ولم تعرف مضمونها، فقل: وعليكم، كذلك إذا دعاك الكافر إلى مناسبة تطمع في كف شره بحضورك، أو في استدرار خير منه لنفع المسلمين، أو في هدايته إلى الله عز وجل، فلك أن تجيب، والنبي صلى الله دعته يهودية فأجاب، ودعاه يهودي إلى خبز شعير فأجاب، كذلك الولاء والبراء لا يمنع من المعاملة كالبيع والشراء، إلا أن قصدك الشراء من المسلمين ومصانعهم والبلاد الإسلامية ينبغي أن يقدم على ما عند الكفار ما استطعت إلى ذلك سبيلا، بل وأنت تذهب لتشتري الآن خضاراً من السوق، فتجد دكاناً فيه عامل كافر ودكاناً بجواره فيه عامل مسلم، من الولاء أن تتجه إلى هذا الدكان الذي فيه العامل المسلم وتشتري منه، وتدع الدكان الذي فيه العامل الكافر، حتى وإن كان صاحب الدكان مسلماً؛ لأنك بعقيدة الولاء والبراء تقاطعه حتى تأتي بعامل مسلم مكان هذا الكافر، وقس على ذلك أموراً كثيرة.
كذلك المعاملة مثلاً: شركة كافرة احتاجت إلى أعمال وعمال وخبرات، ومن المسلمين من عنده هذه الخبرة، ووجدها وظيفة مناسبة، أو لم يجد من المسلمين من يعطيه هذه الوظيفة التي تناسبه ويحتاج إليها، نقول: يجوز لك أن تعمل، فإن علي بن أبي طالب قد نزح الدلاء ليهودي على تمرات كان يعطيه إياها.
كذلك ليس من الولاء والبراء ظلم الكافر: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فمهما كان الكافر كافراً، إلا أن كفره لا يجيز لك ظلمه، بل قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة:8 - 9] فمعاملة الكافر بالحسنى -كما قلت- رجاء خيره للمسلمين، حتى وإن لم تطمع في إسلامه، لكن كي يصير في معاملته هذه خير للمسلمين، على سبيل المثال: قد نعامل دولة كافرة معاملة حسنة من أجل أن ينعكس الوضع على الجاليات المسلمة التي تعيش في بلاد الغرب، هذا التعامل لمصلحة وهو مقصود، ليس من شرط أي تعامل تقوم به الدولة أو الجهات المسئولة أن تقول: انتبهوا لا تسيئوا فينا الظن، فنحن نبين لكم ما هو قصدنا، لا.
وبالمناسبة ندعو في عدم المسارعة في الأحكام على الهيئات والمؤسسات والنظم وغير ذلك، لكن كل شيء بضوابطه، والله أعلم بالنيات، فكل تعامل مع الكافر يراد منه دفع وكف شر الكافر عن المسلمين سواءً كان كف شرهم عنا، أو كف شرهم عن المسلمين هناك في بلادهم، أو رجاء خير للمسلمين، أو نعلم بأهميته، فلا يدخل ذلك فيما يجري النهي فيه.(72/30)
أشجع لاعباً كافراً وأحبه فما الحكم؟
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا أحب مشاهدة الكرة، والفريق الذي أشجعه يلعب له أحد الكفار، فأنا أحياناً أحب هذا الكافر وأحب له الظهور والتميز على لاعبي الفرق الأخرى وإن كانوا من أهل الصلاح والاستقامة، فما حكم هذه المحبة جزاك الله خيراً؟
الجواب
هذه مما تنقض قضية الولاء يا أخي الحبيب! وهذه الخطورة أن بعض المسلمين في سبيل الفن، أو في سبيل الرياضة أصبح يحب كافراً، وهذا الكافر لا يألو المسلمين سباً وشتماً وخبالاً واحتقاراً.
يا أخي: إذا كان وجود هذا الكافر قد دعاك إلى محبته وتفضيله على هذا المسلم، فلا شك أن هذا خلل في قضية الولاء والبراء عندك فاتق الله في هذا.(72/31)
لا بأس بحسن المعاملة مع الكافر طمعاً في إسلامه
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيك في تحسين المعاملة مع الكافر وذلك طمعاً في دخوله الإسلام، وذلك بتحسين الكلام والبشاشة في وجهه؟
الجواب
لا بأس، الله عز وجل قال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] فلا يتناقض مع الولاء والبراء حسن المعاملة، لأن الله قال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ما دمت تتعامل بمعاملة حسنة رجاء إسلامه وهدايته، فلعل الله سبحانه وتعالى أن ينفعه بك، أحد الطلاب في الولايات المتحدة كان له جار يهودي، واليهود أشد عداوة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] فغاب هذا الجار اليهودي وقتاً، هم طبعاً عندهم لا يوجد من التواصل الاجتماعي، أو أن أحداً يسأل عن أحد، يقول هذا الشاب المسلم: فلاحظت أن الجرائد تراكمت عند بابه وقوارير الحليب واللبن، إذا تجمعت ثلاث أو أربع قوارير عند البيت معنى ذلك أن صاحب البيت غائب، فقام هذا الأخ -جزاه الله خيراً- صار يجمع الجرائد ويدخلها، أول ما تأتي الجريدة وقارورة الحليب يأخذها ويدخلها في بيته حتى تجمع لديه الكثير منها، فلما عاد ذلك اليهودي إلى بيته، طرق عليه أخونا المسلم، قال: تفضل هذه القوارير التي تجمعت لك مدة الأيام الماضية وهذه الجرائد التي تخصك، قال: لماذا فعلت هذا؟ قال: خشيت أن يعلم أحد أنك غير موجود بسبب تراكم الجرائد وقوارير الحليب عند الباب فيسطون على بيتك ويسرقونه، فلأجل ذلك جمعتها حتى يظن أنك موجود، فلا يسطو أحد على البيت، قال: وما الذي دعاك إلى هذا؟ قال: والله أنا لا أعرفك، وأنت تعرف أنك يهودي وأنا مسلم، لكن ديننا يأمر بالإحسان إلى الجار، فالله عز وجل يقول: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] فقال: دين يأمرك بهذا، فأنا أحب أن أتشرف باعتناقه، فشهد الشهادتين وأصبح من المسلمين.
فالمعاملة الحسنة والقصص على المعاملة الحسنة التي أفضت إلى هداية كثير من الناس إلى الإسلام هي في الحقيقة كثيرة جداً، لكن المعاملة الحسنة لا تتعارض مع الولاء والبراء، لكن الولاء أن يكون في القلب ميل ويظهر هذا الميل في التشبه وفي المظاهر، ويظهر هذا الميل في قصد نفع الكافر وتفضيله على المسلم، هناك سلوكيات دقيقة تدل على ضعف الولاء والبراء في نفس بعض المسلمين أهمها ما ذكرناه آنفا.(72/32)
حسن الأخلاق والمعاملة من المدرس الكافر للطالب المسلم
السؤال
هذه أسئلة تكاثرت وتعاظمت حول قضية تدريس الكفرة لبعض طلاب المسلمين، أو تدريب بعض المهندسين في الأمور العسكرية وغيرها للمسلمين، سؤال هؤلاء يتركز عن قضية البشاشة والمعاملة والمصافحة، والتمسية بالخير والتصبيح وما إلى ذلك، وهذا سؤال يقول في المعنى: نحن طلاب في الجامعة ويحصل أن يدرسنا في بعض المواد أحد الكافرين من المدرسين خاصة في الأمور العلمية، والغريب أننا نجد منهم كريم الأخلاق وحسن الأدب، وعلى النقيض من ذلك نجد الجفاء وضيق البال ممن هم من بني جلدتنا، ماذا يجب علينا أن نعتقده تجاه هؤلاء وهؤلاء، وجزاك الله خيرا؟
الجواب
أما بنو جلدتنا الذين لا يقابلونك بما ذكرت، فلأنهم لم يحرصوا أن يدعوك إلى شيء، ولذلك هو يقوم بوظيفته فقط، أما هذا الأستاذ الذي يباشرك بهذه العلاقة الطيبة والابتسامات الجميلة، لا شك أنه يريد أن يغرس شيئاً في نفسك، والبعض يستبعد أن بعض الأطباء وبعض المدرسين وبعض الخبراء هم قساوسة وأصحاب دعوة إلى الكنيسة بطريقة غير مباشرة، يظن البعض أنه لا يمكن أن يخطر على بالك أن هذا قسيس، أو أن هذا داعية إلى مذهبي ومذهبك، لكن أخي الحبيب! نقول لك بما قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] ونقول: لا بأس أن تعاملهم بالحسنى، ولا يجوز لك أن تظلمهم، ولا بأس إذا دخلت مكاناً، فلك أن تقول كلاماً لا يصدق فيها التحية، فلا تبدؤهم بالسلام، لكن بابتسامة تحتسب عند الله عز وجل أن تتألف بها قلبه، وأن تكون طريقاً لإيصال بعض الكتب والنشرات التي تهديها إليه ولو بطريق غير مباشر، بعض الشباب المسلم يدعون الكفار بطريق كتيبات عن الآثار والمتاحف في المملكة، الثقافة الشعبية في المملكة، الثقافة التراثية والاجتماعية في المملكة، وفي ثنايا الكلام أمور تتعلق بالتوحيد والعقيدة تدعوهم بدعوة غير مباشرة؛ لأنه لا يمكن إنسان عاش ثلاثين أو أربعين عاماً على كنيسته وملته تريده أن يتأثر بك من أول ابتسامة أو من أول كتاب، فأنت أيضاً اجعل عندك النفس الطويل والمعاملة الحسنة، ولكن إياك أن تركن، بمعنى: أن يميل قلبك إلى حبه، أو أن يكون في ذلك تفضيلاً له على إخوانك المسلمين مهما رأيت من تقصير إخوانك ومهما رأيت من حسن أخلاقهم.(72/33)
أخبار المجاهدين في داغستان
السؤال
ما هي أخبار المسلمين المجاهدين في داغستان؟
الجواب
أسأل الله سبحانه وتعالى بقدرته التي لا يعجزها شيء، وأسأله سبحانه بأسمائه وصفاته أن ينصر إخواننا المسلمين في داغستان.
روسيا تعيش مرحلة من مراحل الجنون والتهور الذي أشك أنه سينعكس إن شاء الله بإذن الله قريباً عليهم بانفجار داخل دول الاتحاد الروسي الباقية، بدليل أنهم عادوا يلوحون باجتياح الشيشان، وبدءوا، وهم لماذا يضربون الشيشان؟ لأنها تعتبر الطريق الرئيسي، أو المنفذ الرئيسي لتدفق المؤن ومراكز التدريب ومواقع العدد والعتاد وغير ذلك، بقية الحدود نصرانية بما يتعلق بـ جورجيا وأذربيجان، وقد تكون القبضة مشددة، وما هناك إمكانية دخول بحر قزوين من جهة الشرق، قد تكون البحرية الروسية مسيطرة، لكن تبقى الشيشان هي وسيلة قوية وجيدة، وإخوانكم -بحمد الله- قد جمعوا لهذه المعركة منذ سنتين وهم يعدون لها إعداداً طويلاً، وحسبكم أن تعلموا أن داغستان فيها قبور أكثر من أربعين صحابي، فتحها في عهد عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن المزني، فأرض قد فتحها الأجداد، واستشهد فيها الصحابة، ولا تزال آثارهم فيها باقية، لا تظنوا أن الغرب سوف يسكت؛ لأنه يعرف أن هذا موقع استراتيجي وخطير، ولذلك صرحت إسرائيل بتقديم المعونات للاتحاد السوفيتي؛ لأنهم غير راضين عن مستوى التكتيك في العمليات العسكرية، فقالوا: إن روسيا تدير الحرب بطريقة عشوائية، وعشوائيتهم واضحة بدليل آلاف القتلى من الروس، والذين قتلوا من إخواننا حتى الآن لا أظنهم بلغوا المائة، ربما أقل من الستين، والذين قتلوا من الروس من بداية الهجوم في داغستان والعمليات بفضل الله عز وجل، الآن بدءوا يدخلون في عشرات الآلاف، ورفعت الدولة الروسية راتب الجندي الروسي إلى ألف دولار، ألف دولار شيء لا يحلم به روسي، الدولار كم يساوي من روبل؟ مع ذلك رفعوا راتبه إلى ألف دولار، ولا يستطيعون التقدم إلا بعد شرب الفوتكا والأشياء التي تهون من الخوف والرعب الذي في نفوسهم.
ولله الحمد والمنة إخوانكم على درجة قوية من الثبات، ولكم أن تتابعوا الأخبار عبر الإنترنت في صفحة صوت القوقاز، ففي صفحة صوت القوقاز كل أخبار تتعلق بـ داغستان ستجدونها من واقع المعركة من إخواننا هناك يبعثون بها، طبعاً الصفحة القديمة لإخواننا في الإنترنت اتصل عليهم من الغرب من اتصل وقال: سندمر موقعكم في الإنترنت خلال ثلاثة أيام، وبالفعل بعد ثلاثة أيام من هذا البلاغ الذي جاء للإخوة سلط على هذا الموقع من الفيروسات والتخريب والإفساد حتى خرب تماماً، وفتح الإخوة صفحة جديدة، وأودعوا فيها كافة المعلومات، وفي الحقيقة: لو أن الطريق متيسر ومفتوح إلى داغستان، فما أجمل الموت هناك! أحبابي: المسلمون يواجهون الروس الملاحدة، حرب إسلامية صحيحة، معركة مقدسة، ولكن هم يعرفون تماماً أن أخطر شيء يواجههم هو أن تفتح ثغرة ينفذ منها مسلم وخاصةً العرب، المجاهدون العرب إذا وصلوا هناك، تحولوا إلى أسود وفعلوا الأفاعيل، وأتوا بالغرائب والأعاجيب، فلك اللهم الحمد على ما أكرمت به هذه الأمة، ونسأل الله أن ينصر إخواننا، وإني أدعوكم -أيها الإخوة- أن تبحثوا بكل وسيلة عن الطريق الموصل إليهم لتدلوا من أراد الذهاب إلى هناك، وأيضاً أن تجتهدوا في إيصال التبرع لهم بالبحث والسؤال والتتبع، لعل الله عز وجل أن يفرج صدورنا عاجلاً غير آجل باندحار الروس وقيام دولة إسلامية في داغستان تتبعها دول، وما ذلك على الله بعزيز.(72/34)
مخاطر السفر إلى الخارج
يتحدد الحكم الشرعي للسفر بناءً على الغرض منه، فإذا كان السفر بنية ارتكاب الفواحش، وإتيان المحرمات، فهو سفر محرم، وهذا النوع هو المقصود هنا.
فكان أول ما تناولته هذه المادة هو توضيح لأسباب هذا السفر، ثم آثاره السيئة على الدين والبلاد والاقتصاد، وعلى المرء نفسه.
ثم جاء بيان لنعمة الاستقامة على الدين، وأقسام الناس من حيث أهمية حياتهم.(73/1)
السفر المحرم وأسبابه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل ما سألناه أعطانا، نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الأحبة: إن من الظواهر التي يلاحظها المتأمل في أحوال كثير من الناس، والشباب منهم خاصة، ظاهرة السفر إلى الخارج، ظاهرة السفر إلى البلدان الغربية والأوروبية في أي فرصة مواتية، سواءً كانت تلك الفرصة عطلة نهاية العام الدراسي أو الفصل الدراسي الأول أو عطلة عمل يطلبها الموظف ويرغب في قضائها خارج بلاده، والكلام اليوم ليس عن حكم السفر إلى الخارج أو السفر إلى دول الكفار، وليس للتفصيل في نوع السفر وحكمه ومدى الحاجة إليه من دراسة أو علاج أو تجارة أو اطلاع.
وحديثنا اليوم إنما هو عن ممارسة بعض المنتسبين إلى الإسلام حينما يسافرون إلى الخارج، وهم الذين تربوا وعاشوا في مجتمعات إسلامية حينما يسافرون إلى بلاد الغرب يقعون وينغمسون في ألوان الفواحش؛ من الزنا والسفاح، وشرب الخمور، وتناول المخدرات والقمار والوقوع في أردى ألوان الشذوذ الجنسي، هذه هي المشكلة، ما هي أسبابها؟ ما آثارها؟(73/2)
الفراغ أول أسباب السفر المحرم
عباد الله! إن من أهم أسباب هذه المشكلة الفراغ، فهو الذي يدعو الإنسان للتفكير في هذه الأمور جميعاً، ويوم أن كان الناس مشتغلين بأقواتهم وأرزاقهم وما يسد رمقهم، وما عندهم من الذرية ما كانوا يفكرون بشيء من هذا، الفراغ هو الذي يدعو الإنسان للتفكير في كل هذه الأمور، ما دام الإنسان منشغلاً عن الواجبات والمندوبات فلن يبقى أمامه إلا الوقوع في المحرمات.
والفراغ يا عباد الله ليس فراغاً دائماً، بل هو مرحلة بين مرحلتين؛ إذ الإنسان لا بد أن يكون منشغلا، إما منشغل بالواجبات والمندوبات وهي لاشك أكثر من الأوقات، ولا يستطيع إنسان أن يؤدي المندوبات إضافة إلى الواجبات، وأن يقوم بالحقوق جميعها إلا بجهد جهيد من تنظيم الوقت وعدم صرف جزء منه فيما لا فائدة فيه، فإذا لم ينشغل الإنسان بالواجبات والمندوبات فبم ينشغل؟ في أي شيء يقضي الوقت؟ بأي شيء يقتل الوقت؟ فيبدأ بالتهاون والتكاسل شيئاً فشيئاً حتى يدع أوجب الواجبات ويتهاون بها، ثم يعيش فترة من الفراغ الذي لا يدري أين يقضيه، فالشيطان قد صده عن القيام بالواجب، ولم ينتهِ شيطانه من التغلب عليه لإيقاعه في المحرمات.
إذاً ما فترة الفراغ إلا مرحلة صراع الشيطان للإنسان ليطمس على قلبه، وليضله ويقوده إلى مهاوي الرذيلة والضلال، الإنسان لا شك منشغل، ورحم الله القائل: نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
إذاً يا عباد الله الفراغ هو أول أسباب هذه المصيبة، أول أسباب ظاهرة السفر إلى بلاد الكفار والوقوع في ألوان المحرمات والانغماس فيها هناك.(73/3)
الثراء من أسباب السفر المحرم
والسبب الثاني لعله الثراء ولا نقصد بالثراء أو نشترط في هذا السبب أن يكون الإنسان مثرياً إلى درجة الملايين أو ما دونها، بل قد يكون ممن يدخر شيئاً يجمعه طيلة دراسته أو طيلة وظيفته، فإذا جاء آخر العام ذهب بحصيلة جهده لينفقه في بلاد الكفار وليدعمهم وليشتري عملاتهم، وليدعم سياحتهم وغير ذلك.
إذ أن الثراء يا عباد الله من الأسباب التي تدعو إلى هذه المصيبة؛ ما دام الإنسان فارغ القلب خلي الذهن من الواجبات والمندوبات، فالثراء من الأسباب التي تدعو إلى ذلك، ولعل كثيراً من الناس من عصمة الله لهم ألا يجدوا مالاً كثيراً، إذاً فقول القائل، أو لعله من الأثر: من العصمة ألا تقدر، صحيح إذ أن كثيراً من الناس لو قدروا على المال لتوجهوا به، ولفعلوا به مثلما فعل غيرهم، فإن الله جل وعلا قد يعصم كثيراً من الناس بالفقر وقد يعصمهم بقلة ذات اليد، وفي الحديث الصحيح: (إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لطغى، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى).(73/4)
طيش الشباب من أسباب السفر المحرم
ولعل من الأسباب أيضاً فترة الشباب وما يصاحبها من فوران الشهوة وطيش العقل، وصدق القائل:
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
والعجيب يا عباد الله أن الأسباب الرئيسية للوقوع في هذه الظاهرة أو في تلك الجريمة والمشكلة هي في حد ذاتها من أعظم النعم على الإنسان، وقد تكون ابتلاءً وامتحانا، يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان عظيمتان مغبون فيهما كثير الناس: الصحة والفراغ) إنها لنعمة عظيمة ولكن الكثير يغبنون فيها، فالصحة التي هي فرصة القوة والجلد والنشاط بدلاً من أن يقضيها في نشاط العبادة والتشمير في العلم والفقه، والدعوة إلى الله، وفعل الواجبات، وإمداد الآخرين بالخيرات، تجد الكثير يغبن في هذه النعمة فيصرفها في شر المصارف وأفسدها.
والأمر الثاني الفراغ: فالكثير من الناس حينما يكون فارغاً لا يجد أن هذه نعمة يجب أن يصرفها في فائدة من الفوائد التي تعود عليه، وليس من شروط هذا الفراغ إذا كان الإنسان لا استعداد له أن يقضيه في الدعوة أو في العبادة أو في العلم، فأبواب المباحات مفتوحة، وأبواب المكاسب والتجارة في سبل الحلال مفتوحة، فما الذي يمنعه أن يسلكها؟ ولكن الكثير يصرفون هاتين النعمتين في كفر نعمة الله وجحودها.
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
فيا سبحان الله العلي العظيم!(73/5)
الآثار السيئة للسفر المحرم
عباد الله! حينما يذهب كثير من المسافرين إلى بلاد الكفار يقعون في أمور، يقعون في مصائب، يقعون في ألوان من الشذوذ لم يكن الغربيون قد عرفوها فكيف ابتدعها أولئك، إنما هو عطش وجوع جنسي وشذوذ عجيب، وإن من أخطر الأمور تلك التي يفعلها أولئك الذين يسافرون إلى دول الكفار، ويقعون فيما يقعون فيه في الحانات ودور البغاء وأماكن الخمور ونوادي القمار وغير ذلك.(73/6)
أثر الإساءة لسمعة الإسلام
أول شيء يسببونه أن يسيئوا سمعة دينهم، الذي ينتسبون إليه، والإسلام من أفعالهم هذه براء.
إذا سئل أحدهم: ما دينك؟ يقف بملء فيه ويقول: أنا مسلم، ولا غرو أن يقول ذلك، ولكن المصيبة ما يكون من أفعاله التي تناقض أقواله، يقول أفعالاً تناقض ما ينطق به، كثيراً ما يقول: أنا مسلم، وهو يقولها في نادٍ من نوادي القمار، أو في دور البغاء والحانات والخمور وغير ذلك، وإن كثيراً من الغربيين الذين أرادوا الدخول في الإسلام يوم أن دعوا إلى هذا الدين العظيم، قال كثير منهم: مادام هذا هو أحد المسلمين -الذي نراه في نادي القمار ونراه في دور البغاء ونراه في حانة الخمر- فما الفرق بيننا وبينه؟ وأي دين تدعوننا إليه؟ يظنون أن هذا الرجل بما ينتسب إليه لفظاً وشفهية لهذا الدين يظنون أنه يمثل دين الإسلام، والإسلام من فعله هذا براء.
إذاً فانظروا كيف جنى أولئك الذين يسافرون لدول الغرب ويقعون فيما يقعون فيه؛ كيف جنوا على كثير من الذين أرادوا الإسلام وصدوهم عن الدخول في الدين إذ لم يجدوا فرقاً بين ذلك، ولعلها من تدابير اليهود وخططهم وكيدهم لهذا الدين وأهله، يريدون أن يظهروا المسلمين بين اثنين: إما رجل صوفي متنسك لا يعرف شيئاً من أسباب الحياة، ولا يعرف شيئاً من وسائل التطور والتمدن فيها، لا يعرف إلا المسبحة والطوفان حول القبور، ولا يعرف إلا شيئاً من المدائح والقصائد وغير ذلك، يصورون الإسلام في هذا الجانب أو يأتون إلى الناس بجانب آخر ويقولون: انظروا إلى أولئك من دول الإسلام، من دول عربية، انظروهم في نادي القمار، انظروهم في حانة البغاء، انظروهم في أماكن الخمر، هؤلاء مسلمون فما الفرق بينكم وبينهم، ولم تتجشمون المصاعب في سبيل تغيير دينكم وما تلاقونه من الكراهية والبغضاء من مجتمعكم، وأنتم ترون صورة هؤلاء المسلمين؟ إذاً: فإنهم يسيئون إلى الإسلام أعظم الإساءة، والإسلام من أفعالهم هذه براء.(73/7)
أثر الإساءة لسمعة البلاد
وإن من الأمور الأخرى التي يسببها أولئك أنهم يسيئون سمعة بلادهم في الميادين المختلفة، فكثيراً ما نسمع أو نرى في بعض الفنادق الغربية حينما يقال: هذا فلان من بلاد عربية، ينظرون إليه نظرة أنه ما جاء إلا ليجمع في غرفته أو في جناحه الذي احتجزه، أو في هذه الصالة الكبيرة من الفندق، ما جاء إلا ليجمع فيها ألوان الحسناوات وأصناف الخمور، وليدعو أشهر اللاعبين في القمار ليلعب معهم، يظنون هذه الصورة تنطبق على كل مسلم ينتسب إلى بلادٍ عربية.
فأي سمعة سيئة وأي سمعة رديئة يسببها أولئك لبلادهم وأي مشاكل يقعون فيها؟ ولذلك فإن المطلع على الصحف الأجنبية يرى كثيراً ما تتهكم تلك الصحف بهم خاصة في رسم ما يسمى بالكاريكاتير، فلقد رأيت ذات مرة في إحدى الصحف الأجنبية رجلاً وموضوع نحو رأسه إشارة سهم، رجل عربي، وأمامه رزم متكومة من النقود وحوله مجموعة من البنات والحسناوات في صورة لا تليق، يريدون أن يصوروا أبناء البلاد العربية وأبناء المسلمين خاصة، وأبناء الذين ينتسبون إلى البقاع المقدسة بالأخص ينسبونهم إلى هذه الأفعال، لكي يردوا الناس عن دين الله جل وعلا.
وأي تهكم بلغ بهم إذ ذكروا أن واحداً منهم يوم أن وصل إلى أحد الفنادق دعا عدداً من البغايا لكي يبيت معهن في ذلك الفندق، انظروا أي تهكم وصل ببعض الذين ينتسبون إلى البلدان الإسلامية بسبب أفعال أولئك الذين يشوهون سمعة دينهم ويشوهون سمعة بلادهم.(73/8)
أثر دعم اقتصاد الغرب
ما يقع فيه الكثير منهم من جراء هذا فهم لا يدرون أنهم يدعمون اقتصاد تلك الدول الغربية، إذ أن السكنى عندهم والسفر إلى بلادهم يقتضي أن تشترى عملاتهم وأن يدفع لهم في مقابلها عملات صعبة، ويقتضي الأمر أن تدعم دور البغاء والخمور والشذوذ، إذ لو كان الأمر مقصوراً على الكفار أنفسهم لما احتاجوا إلى تلك الدور بالشكل الذي يهيئونها الآن وخاصة للسائحين العرب، لأن بينهم من الانحلال والشذوذ ما يغنيهم عن الذهاب إلى تلك الحانات والمراقص ودفع الأجور الباهظة للمكث فيها.
نعم يا عباد الله، إن المتأمل يرى أن تلك الأماكن إنما هي خصيصاً وبالدرجة الأولى لأبناء البلاد العربية، لأبناء المسلمين خاصة، إذ أن الغربيين ليسوا بحاجة إلى أن يقيموا هذه الدور، إذ بينهم من الإباحية والانحلال، وبينهم من الشذوذ ما يجعلهم يقعون فيه بالمجان، ما يجعلهم يقعون فيه بلا مقابل، ولكن يقيمون هذه الدور ليجذبوا أبناء المسلمين إليها، ليجلبوا ضعفة الإيمان، ليجلبوا ضعفة القلوب إليها، وبعد ذلك يصورونهم ويأخذون عليهم كثيراً من الصور التي تعتبر مستندات ورهينة بالنسبة لهم، خاصة بالنسبة لرجال الأعمال الذين يقعون في هذه الأمور فكثيراً ما يقع تحت مراهنة وتحت مساومة.
إذ لا يدري وهو في ذلك الفندق أو في تلك البلاد قد التقطت له صور عديدة مع باغيات وفي أماكن مشبوهة وبعد ذلك يقال له: إما أن تدفع كذا وكذا، وإما أن ننشر هذه الصورة في مختلف الصحف، فبعد ذلك لا يجد نفسه إلا مضطراً ذليلاً ليقدم لهم هذا المال ليستروا عن نفسه ذلك، عياذاً بالله من حالهم ومكائدهم.(73/9)
أثر دعم السياحة الأجنبية
ولعل من الأمور التي سببها أولئك: أن يدعموا السياحة الأجنبية، وهي من أهم مكائد الخطط الصهيونية، ولذلك ترون أشهر الفنادق في العالم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ونجومها تحظى بفروع متعددة في دول مختلفة ولا يألون جهداً في التخريب والإفساد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، والأدهى والأمر من ذلك يا عباد الله أن كثيراً من البلهاء تسرق أموالهم وتسرق بعض ممتلكاته وهو في سكر أو عهر أو بغاء، إنه الجاني على نفسه.
وما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه
فانظروا يا عباد الله عظم خطر هذه المصيبة، وخطر هذه المشكلة على أنفسهم، وعلى بلادهم، بل حتى على عقائدهم ودينهم.
حدثني شاب أنه يعرف رجلاً قد جيء به إما هو أو صديقه قد جيء به ميتاً، يقول: إنه كان في حالة من الشرب والسكر وغير ذلك، كان ينتظر حبيبة له في أحد الفنادق، فلما تأخرت عنه وصل به الجنون ووصل به الأمر إلى حد غريب، فلما وصلت إليه ذكروا أنه سجد لها لما أقبلت، فانظروا أعظم خطرٍ وصل بهم، ووصل بالكثير منهم وهم في حالة الشهوات والخمور وغيبة العقول إلى أن يخرج الإنسان عن دينه عياذاً بالله من ذلك.
وأعداء المسلمين يوم أن رأوا أن المسلمين والعرب منهم خاصة لا يمكن الوصول إليهم بالسلاح غزوهم بغزو فكري وغزو خلقي وغزو جنسي، واستطاعوا بعد ذلك أن يجندوا أبناءهم ليكونوا في خدمتهم ولا عجب من ذلك يا عباد الله، إذ أن الشجرة لا يقطعها إلا غصن من أغصانها.
يقول زعيم طائفة المبشرين يوم أن اجتمع به عام (1964م) على أغلب الظن، أنه لما اجتمع مع القسيسين وغيرهم وسألهم ماذا عملتم، فقالوا: قد نصرنا عدد كذا وكذا، ونصرنا عدد كذا وكذا، ولكن بعضهم رجع إلى الإسلام، ماذا قال القس صموئيل زومير الذي هو رئيس ذلك الاجتماع الذي عقد في القاهرة في ذلك العام؟ قال: اسمحوا لي معاشر المبشرين أنكم لم تعرفوا حقيقة التبشير حتى الآن، إن العرب المسلمين ليسوا بأكفأ أن يدخلوا في المسيحية ولكن يكفي أن تخرجوهم من دينهم حتى يعيشوا في الضلال والضياع.
انظروا إلى أعظم شيء في ذلك، وقال غيرهم: إن العرب لا يغزون بالسلاح وإنما يغزون بغزو فكري، إنه مؤكد ولكنه بطيء، فماذا بعد الأخلاق إذا انهارت؟ وماذا بعد المروءات إذا تكسرت؟ وماذا بعد الشيم إذا ماتت؟ ماذا يبقى للناس من دين أو عقيدة يدافعون عنها، أو أعراض يموتون دونها، أو شمم وإباء ورفض للضيم؟ بعد ذلك تصبح النفوس كنفوس الديوثين والخنازير، إذا وقعوا في ألوان الانحلال والشذوذ عياذاً بالله من ذلك.(73/10)
أثر السفر في الخاتمة السيئة
ومن أعظم المصائب والجرائم التي يجرها كثير من أولئك الذين يسافرون تلك البلاد أن الكثير منهم يموت في تلك البلاد على أسوأ خاتمة وأسوء حالة، كيف حاله إذا كان الناس يبعثون يوم القيامة على ما ماتوا عليه؟ إذا مات الإنسان شهيداً بعث شهيداً، جرحه يثعب دماً، اللون لون دم والريح ريح مسك، إذا مات الإنسان محرماً فإنه يكفن في إحرامه ولا يغطى رأسه لكي يبعث يوم القيامة ملبياً، إذا مات الإنسان ساجداً بعث يوم القيامة ساجداً، فما حال من مات وهو في أحضان باغية؟ ما حال من مات وهو عند فرجها؟ ما حال من مات وهو بين مجموع من ألوان المصائب والبلاء والخمور وغيرها؟ كيف يبعث يوم القيامة وعلى أي حال يبعث؟!
وا سوءة الحال من حال كتلك وا سوءة الأمر في حال كتلك
نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على دينه، وأن يحسن خاتمتنا وأن يتوفانا على أحسن حال ترضيه إنه سميع كريم مجيب.
عباد الله لا تظنوا أن هذا الكلام فيه ضرب من المبالغة، اسألوا الصالات الدولية في المطارات المتعددة كم استقبلوا من جثة في أقرب عطلة انتهت، عطلة الربيع الماضي، كم استقبلوا من جثة شاب جيء بها في التابوت، ذهب يمشي وعيد به محمولاً، أي مال أنفقه؟ وأي جهد ضيعه؟ وأي فريضة ضيعها؟ وأي فاحشة ارتكبها؟ انظروا إلى عظم هذا الأمر الذي يقع فيه كثير من الناس، أسأل الله جل وعلا أن يمن على شباب المسلمين، وأن يهديهم، وأن يفوقهم إلى ما يحبه ويرضاه، ثم اعجبوا بعد ذلك يا عباد الله بمجموع هذه المشاكل ومجموع هذه المصائب التي يسببونها لأنفسهم ولأموالهم ومعتقداتهم وغير ذلك، يسببون أيضاً مشاكل لا حصر لها للجهات الرسمية التي تمثل بلادهم.
والذي يعرف واحداً خاصة في البلدان التي تشتهر بالسياحة وما تحت السياحة من ألوان مزركشة وما دونها من بلاء، فليسأله إن كان له في الجهات القنصلية أو السفارات أو غيرها ليسمع منه العجب العجاب في حال بعض الذين يذهبون إلى تلك البلاد، ويعودون بأسوأ سمعة لدينهم وبلادهم، نسأل الله أن يتوب علينا، ونسأله جل وعلا أن يهدي شباب المسلمين وأن يوفقهم إلى ما يحبه ويرضاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأسأله أن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(73/11)
نعمة الاستقامة على دين الإسلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بدين الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله! إن من نعمة الله جل وعلا على العبد أن ولد في مجتمع مسلم، إنها من أعظم النعم يا عباد الله أن يولد الإنسان في مجتمع مسلم، هداية ومنة عظيمة من الله جل وعلا، لو ولد الإنسان في مجتمع دهري أو إباحي أو غربي ونحو ذلك أتظنون أنه يصل به الأمر في دينه إلى ما أنتم فيه الآن -ولله الحمد والمنة- من معرفةٍ لأحكام الدين والعقيدة والفروع وغير ذلك؟ إنها لنعمة عظيمة، فاستمسكوا بهذه النعمة، وتمسكوا بها والزموها، وإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن جاءه رجل قال: يا رسول الله! مرني بأمر لا أسأل أحداً فيه بعدك، أو قال: أوصني يا رسول الله، فقال: (قل آمنت بالله ثم استقم) {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112].
إن الاستقامة على دين الإسلام لمن أعظم النعم، إننا يوم أن نرى رجلاً قد وصل الستين عاماً أو الثمانين أو المائة أو غيرها؛ نغبطه أن بلغ ستين عاماً في دين الإسلام، وقد ثبته الله على هذا الدين من يوم أن ولد إلى أن بلغ هذه الخمسين أو الستين، ولا عجب أن نسمع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله حين يقول: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم) لأنه شاب ونشأ وترعرع في دين الإسلام، فماذا بعد ذلك إلا التمسك بالنعمة.(73/12)
أهمية التمسك بالدين لاستقامة الحياة
يا شباب الإسلام! ماذا بعد هذا إلا أن نعض بالنواجذ على هذا الدين، الذي وفقنا إليه بدلاً من أن نذهب لنضيع ديننا ونضيع كرامتنا ونسيء سمعة ديننا وبلادنا في تلك البلدان، إنها لمن أعجب المتناقضات، والإنسان ينبغي أن يعيش عيشة تحمد في موازينه يوم أن يرى صحيفته يوم القيامة، وينبغي أن يعيش عيشة يسأل الله فيها الثبات، وأن يذكر أنه عاش إنساناً ولم يعش بهيمة ولدت وأكلت وشربت وأنتجت ثم فارقت الدنيا، ينبغي أن يعيش عيشة الإنسانية التي تترك بصمات نيرة، التي تترك آثاراً جليلة في أسرة مستقيمة، في نشء صالح في دعوة صادقة، في علم نافع، في اختراع نافع، في جندية حقة، في عمل منظم، في إدارية نافعة، في أي عمل من الأمور التي يسر الإنسان أن يخدم بها بلاده وأمته وولاة أمره.(73/13)
أقسام الناس من حيث أهمية حياتهم
أما أن يعيش الإنسان كالبهيمة يولد ويأكل ويشرب ويموت، ولا يبقى له أي أثر في هذه الدنيا، فأي فرق بين ذلك وبين البهيمة؟ بل إن بعض البهائم قد تكون أجل شأناً من ذلك، وتذكروا قول إبراهيم بن أدهم يوم أن ذكر الناس وذكر صفاتهم وأن الكثير منهم يعيشون، عيشة البلاء، ولله جل وعلا حكمة في إيجادهم، أما الذين يخلدون ويذكرون إذا فقدوا فهم قلة معدودة، حيث قال فيهم:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى لحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتى كثير الجود محل إن بقاءه خصب ونعمه
وموت الفارس الضرغام هدم فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق همج أو رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
نعم يا عباد الله ينبغي أن يكون الإنسان مجاهداً شجاعاً عالماً تقياً، تاجراً مصدقاً منفقاً في سبل الخيرات، عابداً يرحم الله ببركة دعائه وبركة نفعه، أما الذين يعيشون لا همَّ لهم إلا أنفسهم وشهواتهم وبطونهم ماذا قدموا لأمتهم؟ ماذا قدموا لدينهم؟ أولئك الذين صرفوا الأموال في تلك البلدان وأساءوا سمعة دولتهم، وأساءوا سمعة دينهم، ووقعوا في البلاء، وقد يختم لهم بخاتمة الشقاء عياذاً بالله من ذلك، حتى أنفسهم أقرب الأمور إليهم ماذا قدموا لها؟ أسأل أن جل وعلا أن يستعملنا في طاعته، وأن يستعملنا فيما يرضيه، وأن يجعل أقوالنا وأفعالنا خالصة لوجهه، وأن يجعل جميع أعمالنا عبادة خالصة له جل وعلا.
اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين فإنك ربنا تزع بالسلطان مالا تزع بالقرآن، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب منه من علمت فيه خيراً له، اللهم أبعد عنه من علمت فيه سوءاً وشراً له، اللهم اجمع شمله بإخوانه، اللهم ثبت أقدامهم ووحد كلمتهم، واجمع شملهم، ولا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً.
اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا، اللهم سخر لنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم اجعل لنا من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، واجعل لنا في كل دين قضاء، وفي كل مرض شفاء واحتساباً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحدنا في هذا المكان ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره.
معاشر الأحباب! ولو أطلنا عليكم أعود لأتذكر نقطة: إن كثيراً من الذين يسافرون إلى تلك البلدان بحمد الله جل وعلا لم يجدوا مجالاً مفتوحاً للفساد والعهر في هذه البلاد وهذه نعمة عظيمة، قد يقول قائل ويدور بذهن أحدكم الآن يقول: وهل تجهل أن هناك ما يمارس سراً وخفاء؟ نقول: إن المعصية إذا ظهرت عمت، وإذا خفيت خصت، ولا يخلو مجتمع من فساق أو من فعلة الفحشاء وغيرها، ولكن بحمد الله جل وعلا أنهم لم يجدوا متسعاً ومتنفساً في هذه البلاد، فيذهبون إلى تلك البلاد، ولكن رغم ذلك ننصحهم بالتوبة والعودة والإنابة إلى الله جل وعلا.
اللهم صل على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(73/14)
أهمية تعمير المساجد
المسجد مدرسة الرجال، ومحضن الأبطال، وبقدر الاهتمام به وتفعيل دوره يوجد الرجال، وفي هذه المادة بيان لأهمية بناء المساجد حسياً ومعنوياً، وأهمية إكرامها والتأدب بآدابها.(74/1)
معرفة حقيقة عمارة بيوت الله
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد! الله اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فهي وصية الله للخلائق أجمعين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المؤمنين! ابتداءً من يوم غد السبت ولمدة أسبوع تهتم الجهات الحكومية على اختلاف مهماتها، وطلبة الجامعات والمدارس، كل أولئك يهتمون ويبذلون مزيداً من الجهد للمشاركة في الأسبوع السنوي للمساجد، والموضوع اليوم متعلق بذلك.
عباد الله: لقد ذكر الله جل وعلا في كتابه الكريم فضل وثواب المعتنين بالمساجد والمهتمين بها فقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] وعمارة المساجد ليست قاصرة على إنشائها أو بنيانها فقط، بل إن عمارة المساجد المذكورة في الآية شاملة للعمارة بكل معانيها، فيدخل في ذلك إنشاؤها وبنيانها؛ سواءً كان بانيها متبرعاً بذلك من خالص ماله وحله، أو ساعياً في جمع ذلك المال لبناء المساجد به، أو متبرعاً بشيء مما يصلح لبنيانه وإنشائه، ويدخل في عمارة المساجد عمارتها بالسعي إليها والصلاة مع الجماعة فيها، وقراءة القرآن وتعلم العلم وتعليمه فيها، وقد ذكر الله جل وعلا صفات عمار المساجد بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة:18] وبذلك دلت الآية أن من اتصف بهذه الصفات فهو بإذن الله من عمار بيوت الله، الذين ترجى لهم الهداية والتوفيق، إذ قد يعمر المساجد من يباهي ويرائي بعمارتها وقد يعمرها من مال حرام، والله طيب لا يقبل إلا طيباً.
بنى مسجداً لله من غير حله فكان بحمد الله غير موفق
كمطعمة الأيتام من كد عرضها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
إن بعض المسلمين هداهم الله قد يتاجرون في أموال ربوية، وتجارة محرمة، وصفقات مشبوهة، وبعد ذلك يطيب خاطره بقوله: أبني مسجداً أو مسجدين من هذا المال، ويظن أن تبعة ماله بذلك قد انتهت، وقد نسي أنه سيحاسب على ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، ديناراً ديناراً ودرهماً درهماً.(74/2)
ثناء الله على عمار بيوته بذكره وتسبيحه سبحانه
عباد الله: لقد أثنى الله جل وعلا على عمار بيوته بالتسبيح والذكر والدعاء، ووعدهم بجزيل الأجر والثواب فقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:36 - 38] ولقد توعد الله من عطل مساجده، أو كان سبباً في قطع الناس عنها، أو بعدهم عن الصلاة فيها فقال جل من قائل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114].(74/3)
الحث على عمارة بيوت الله وفضل المشي إليها
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على بناء المساجد في الحديث الذي رواه الشيخان: (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله؛ بنى الله له بيتاً في الجنة) وفي رواية: (من بنى مسجداً لله ولو كمفحص قطاة) ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً كان أول عمل قام به بناء المسجد، وذلك لأهميته، ولا غرو ولا عجب في ذلك، فالمساجد بيوت الله، ومأوى ملائكته، ومهابط رحمته، ودور عبادته، وهي ملتقى عباده المؤمنين، رتب الله على وجود المساجد أجوراً عظيمة، وخيرات عميمة، فجعل سبحانه المشي إليها سبيلاً لرفعة الدرجات، ومحو الخطايا والسيئات، يقول صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من راح إلى مسجد الجماعة، فخطوة تمحو سيئة وخطوة تكتب حسنة ذاهباً وراجعاً) رواه أحمد بإسناد حسن، والطبراني، وابن حبان في صحيحه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إلا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!) ويقول صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) رواه أبو داود.
وهذا الفضل يفوز به الذين يحافظون على صلاة الفجر في المساجد، إذ أن تمام الظلمة في ذلك الوقت وفي صلاة العشاء أيضاً، أما الذين يتكاسلون عنها، ويتهاونون بها، فإنهم على حرمان وغبن عظيم، إذ يفوتون على أنفسهم، فالنور التام يوم القيامة -برحمة الله وفضله- إنما هو للمشائين في الظلم إلى المساجد يبتغون ما عند الله، والذي يعمر المساجد بالصلاة فيها مع الجماعة مشهود له بالإيمان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] رواه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، في صحيحيهما.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) وروى البخاري: (إن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يقم من مصلاه أو يحدث) فكل هذه الأجور، وكل هذه الفضائل والخيرات متعلقة بعمارة المسجد بالصلاة فيها مع الجماعة والذكر والدعاء والتلاوة والقرآن.
فما حال الذين لا يعمرون المساجد بالصلاة فيها مع الجماعة، الذين يصلون في بيوتهم، الذين يصلون فروضاً في المسجد، ويتركون أغلب فروض اليوم فيصلونها في بيوتهم، هل ينالون فضل السعي إلى المسجد؟! كيف يسعى إلى المسجد وهو يصلي في بيته؟! هل ينالون فضل نور المشائين في الظلم إلى المساجد وأحدهم يصلي بجوار فراشه؟! هل ينال فضل دعاء الملائكة له بقولهم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وهو لا يصلي إلا حينما يفرغ من شغله، سواء فوت الصلاة مع الجماعة أو أخرها إلى التي تليها عياذاً بالله من ذلك؟! إن الذين يتركون الصلاة مع الجماعات ليسوا من عمار بيوت الله، ويفوتون على أنفسهم ثواباً وفضلاً عظيماً، فيا غبن صفقتهم! ويا خسارة تجارتهم! عباد الله: ما دامت هذه الأجور العظيمة مرتبطة ومبنية على وجود المساجد، وعمارتها والصلاة فيها، وما يترتب على ذلك من السعي والمشي إليها، فالله الله! بالتبكير إلى المساجد ولا تتهانوا بها، وكونوا من عمارها تشهد الملائكة لكم عند ربكم، يقول صلى الله عليه وسلم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فإذا جاء الليل صعد ملائكة النهار إلى الله، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ يقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهو يصلون) فيا فوز من شهدت له الملائكة عند ربه بالصلاة مع الجماعة! ويا خيبة من خسر هذه الشهادة بالصلاة في داره وبيته! عباد الله! إن التأخر عن الصلاة رويداً رويداً مما يجر الإنسان إلى تعطيل عمارة المسجد، والتهاون بذلك، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) رواه مسلم.
عباد الله! إن عدم عمارة المساجد بالصلاة فيها مع الجماعة قد يجر إلى تعطيل الجماعات، وتعطيل الأذان، وإن التأخر عن الصلاة والتهاون بها من صفات المنافقين الذين لا يشهدونها مع الجماعات ويتهاونون بها، ولقد وصفهم الله بقوله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] ويقول الله أيضا: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة:54].(74/4)
من اعتناء الشرع بالمساجد
المساجد يا عباد الله فضل الله فيها عظيم، ورتب الله خيرات عميمة لعمّارها، والمهتمين بالصلاة فيها، والمبادرين المتسابقين إلى الصفوف الأولى فيها، فيا بشراهم بفضل الله ورحمته عليهم!(74/5)
الأمر بصيانتها من الأقذار
إن من عناية النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتنظيفها ونهيه عن توسيخها ببصاق ونحو ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة؛ وكفارتها دفنها) والدفن إنما هو في المساجد التي تكون تربتها من الحصباء، أما المساجد في هذا الزمان فهي بحمد الله على أحسن حال، وأفضل صورة، فينبغي صيانتها عن كل شيء، وينبغي العناية بها وتنظيفها.(74/6)
النهي عن إنشاد الضالة في المسجد
عباد الله: لقد نهى صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المساجد فقال: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.(74/7)
النهي عن رفع الصوت في المساجد
ونهى صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت فيها، فعن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: [كنت في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف، فقال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم] رواه البخاري.(74/8)
النهي عن الإتيان بالروائح الكريهة إلى المسجد
فالشريعة جاءت بالعناية بالمساجد واحترامها وتكريمها، ولا أدل علىذلك من تكريم المصلين والملائكة عن كل ما يؤذيهم، وينفرهم، إذ نهى صلى الله عليه وسلم الذين يأكلون الثوم والبصل من إيذاء المصلين فقال: (من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) ولا يتخذن أحدٌ هذا الحديث حجة أو وسيلة للتهاون بالصلاة، فيأكل ثوماً وبصلاً ويقعد في بيته متخلفاً عن الجماعة ويقول: أكلت ثوماً وبصلاً.
ألا وإن مما هو أسوأ من الثوم والبصل الدخان، وما يسمى بالشيشة أو النارجيلة أو ما داخل هذا المعنى فإنه مما يؤذي المصلين، ويؤذي الملائكة، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم، فاستغفروه من كل ذنب وتوبوا إليه؛ يمتعكم متاعاً حسناً، ويرسل السماء عليكم مدراراً.(74/9)
ضرورة فتح بيوت الله ليل نهار
الحمد لله الذي أنزل الكتاب، وأنشأ السحاب، وخلق عباده من تراب، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
عباد الله! علمتم فضل المساجد ومكانتها في دين الإسلام، وأن المساجد اليوم لا تعرف من دورها إلا الصلاة والأذان فيها فقط، أما ذلك الدور الذي عرفه الآباء والأسلاف والأجداد، ذلك الدور الذي أنشأ القادة، ذلك الدور الذي أعد الرجال والأجيال، ذلك الدور الذي رفع الحماس في قلوب المصلين، وسيرهم بالجهاد مستبسلين يبتغون الشهادة، ذلك الدور الذي خرج العلماء وطلبة العلم، ذلك الدور الذي جعل المسجد قنديلاً، وجعل المسجد مشكاة يستنير بها من حولها، فهو مفقود في هذا الزمان، وما هو إلا أن الناس لم يعرفوا من دور المسجد إلا أن يأتوا ليصلوا فيها، أو يحضروا قليلاً، فإذا أقيمت الصلاة صلوا فيها، ثم خرجوا منها.
إن المساجد -يا عباد الله- ينبغي أن تكون مفتوحة ليل نهار، وإن كان هناك ما يخشى من سرقته أو يخشى من فقده أو العبث به، فإن الدولة مشكورة وفقها الله قد هيأت خدماً وحراساً للمساجد، وهيأت مساكن فيها، فهم الذين يعتنون بها.
إن المساجد لا بد أن تكون مشعلاً حياً في الأمم والمجتمعات، ولا بد أن تعود حلقات العلم فيها، ولا بد من السعي لإيجاد حلقات تدريس القرآن الكريم للصغار والكبار فيها، فإن ذلك من أهم الأمور التي تحفظ أبناء المجتمع، أرأيتم لو أن كل مسجد فيه حلقة للكبار والصغار لتعليم كتاب الله، وأن المسجد يبقى مفتوحاً مع عناية وحراسة والتزام وتنبه لما فيه، أتظنون أن غريباً لا يجد من يؤويه سيجد مشكلة أن يتوضأ ويصلي ركعتين فيجلس في بيت من بيوت الله؟ ولا أعني بذلك أن يتخذ المسجد سكناً أو أن يتخذ مكان إقامة، وإنما هو يجد بيتاً من بيوت الله جل وعلا، ليجد فيها أمناً وراحةً واطمئناناً، حتى يدبر شأنه، وييسر سبيله، وينجح قصده، أما الذين يتخذون المساجد مكاناً للنوم، أو يتخذونها مكاناً لقضاء الوقت والفراغ فيها، فإن أولئك في الغالب لا يعمرونها بذكر الله أو الطاعة والعبادة.
لذا يا عباد الله! ينبغي لمن كان مسئولاً في مسجد من المساجد أو إماماً أو له كلمة في مسجد قد بناه أو قام بشأنه، ينبغي أن يحرص على ذلك، وأن ينشئ فيه حلقة من حلقات القرآن الكريم لتدريس الناس وتعليمهم، وإن من أهم الأمور التي ينبغي أن توجد في المساجد إيجاد مجموعة من الكتب فيها، أو إنشاء مكتبة في زاوية من زوايا المسجد أو في ناحية من نواحيها، فبفضل الله جل وعلا، ثم بهذه المكتبة يأوي شباب الحي وأطفالهم فيجدون متسعاً نظيفاً لقضاء الوقت، ويجدون مكاناً مهيئاً يقضون أوقاتهم فيه إما بتلاوة أو بذكر أو بعبادة، أو بقراءة واطلاع، أو بنقاش.
ومما ينبغي أن يعاد إلى المساجد وذلك بتبرع أهل الخير فيها تبرعاً مالياً أو تبرعاً جهدياً، لتدريس أبناء المجتمع شيئاً من المواد قرب مواسم الامتحانات، فجزى الله من بادر وتبرع بجهده لتعليم أبناء الحي شيئاً من المواد التي سيختبرون، وسيجد فضله وثوابه عند الله جل وعلا.
كذلك الدروس الأسبوعية أو الشهرية أو المحاضرات، وتعويد الصغار على الجرأة في المساجد بإلقاء الكلمات، وبالوقوف أمام الناس، على الجرأة بالسؤال والجواب، في سبيل تحصيل العلم، فإن المساجد حينما تقوم بهذه الأدوار عن طريق المهتمين بها وعن طريق جماعات المساجد فيها، فإنهم بذلك يعيدون دوراً حياً ومكانة للمسجد في كل مكان.
أسأل الله جل وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين.
عباد الله! إنها لمن أعظم النعم بفضل الله ومنته أن إذا حان دخول وقت صلاة من الصلوات ضجت هذه البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، ارتفعت أصوات التكبير من المآذن خفاقة عالية بتكبير الله جل وعلا، وحث المصلين وندائهم إلى حضور المساجد، وهذا أمر يندر في كثير من الدول، فالحمد لله على هذه النعمة، نسأل الله أن يجعله صوتاً خفاقاً، وذكراً عاطراً باقياً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بعزة الله جل وعلا للإسلام والمسلمين، وولاة أمورنا خاصة، وولاة أمور المسلمين عامة.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله بإخوانه، اللهم لا تفرح عليهم عدواً ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم ما علمت في أحد خيراً له فقربه منه، وما علمت في أحد شراً له ولأمته فأبعده عنه برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى الجنة مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا أيماً إلا زوجته برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم أغثنا! اللهم أغثنا! اللهم أغثنا! اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، لا إله إلا الله سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا خلق من خلقك، وعبيد من عبيدك، فلا تحرمنا بذنوبنا فضلك، اللهم إن كثرت معاصينا فإن فضلك أعظم، وإن كبرت ذنوبنا فإن فضلك أكبر برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ولموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واجعل ختامنا وميتتنا وفراقنا من هذه الدنيا على الشهادتين ما ظلمنا وما بدلنا وما غيرنا، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وافسح اللهم لهم قبورهم مد أبصارهم برحمتك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم وفيهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه التي لا تستطيعون حصرها ولا تقدرون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(74/10)
الصحة والفراغ عند الشباب
الإجازة الصيفية بوابة يطل عليها الأبناء من الصغار والكبار ولكن ماذا عن؟ ماذا أعمل في الإجازة الصيفية؟ كيف أستغل الوقت فيها؟ ماذا عن ظاهرة سفر كثير من الشباب إلى الخارج؟ أسئلة جعلها الشيخ محور حديثه في هذه الخطبة وأجاب عنها.(75/1)
أبناؤنا والإجازة الصيفية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونتوب إليه، إنه كان للتائبين الأوابين غفوراً، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً نصيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيرا؛ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وأنيبوا إلى ربكم، وأسلموا له من قبل أن يأتيكم يوم تودعون فيه لحوداً وقبوراً، يقول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ).
معاشر المؤمنين: بعد أيام قليلة يستقبل أبناؤنا وشبابنا إجازة طويلة، بعد أشهر مضت في الدراسة والتعليم، ولا يخفاكم أيها الإخوة! أن الإجازة الدراسية في آخر العام تعني فراغاً كثيراً في أوقات الشباب، وهذا ما يدعو إلى أن نطرح أمامهم سؤالاً مهماً وهو أين وفيم يقضون أوقات الفراغ في هذه الإجازة الطويلة؟(75/2)
الفراغ نعمة ونقمة
قبل أن نخوض في توجيه الشباب إلى الترتيب والإعداد لبرامج الاستفادة من الأوقات نود أن نبين لهم أن الفراغ نعمة ونقمة، فهو نعمة لمن أحسن استغلاله واستثمر أيامه، ونقمة لمن جعله موسماً لمزيدٍ من البطالة والكسل، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: [أشر شيء في العالم البطالة] معاشر المؤمنين: أيها الشباب! تذكروا أن آباءكم وأجدادكم كانوا لا يعرفون شيئاً اسمه الفراغ؛ لأنهم في شغل شاغل، في تأمين لقمة العيش وسد حاجات الحياة الأساسية، كان الواحد منهم من صغره وهو في حاجة أهله وعون والديه على النفقة على إخوانه وأخواته، وسواءً تغرب وسافر من أجل ذلك، أو عمل أجيراً ببدنه؛ لأجل ذلك في بلاده، ولم تكن مرافق الحياة وخدماتها متوفرة لهم، كما توفرت بين أيدينا في وقتنا الحاضر، إذ أننا اليوم نرى الشاب يملك من الوقت الكثير الكثير؛ خاصة أوقات الإجازة الدراسية الطويلة؛ وذلك لأن جميع مرافق الحياة ومستلزماتها وأسباب الراحة والرفاهية قد هيئت له وتوفرت بين يديه، فلا عليه إلا أن يشتغل بما هو أهم وأولى، ولكن كثيراً من الشباب لم يعرفوا قيمة نعمة الفراغ، وبالتالي لم يستثمروا الأوقات كما ينبغي، وقاد ذلك الكثير منهم إلى الوقوع في العادات السيئة الضارة المخلة بالدين والشرف، وتورط بعضهم في جرائم لم يكن يتوقع أو يظن أن يقربوها أو يقتربوها بدون ذلك الفراغ القاتل:
إن الشباب والفراغ والجده مفسدة للمرء أي مفسده
عباد الله: اعلموا إن النفس البشرية لا بد لها من شغلٍ وعمل؛ فإن لم نشغل هذه النفس ونستعملها وما معها من الجوارح في طاعة الله، فستشغلنا بغير ذلك، أي: بمعصية الله ومن هنا ننصح أنفسنا وإخواننا بترتيب الأوقات والاستفادة منها غاية الاستفادة، إذ أن الأوقات هي حياتنا ومراحل أعمارنا تطوى بليلها ونهارها؛ ولأن ما مضى منها لا يعود أبداً، وقد جاء في بعض الآثار: [ما من يومٍ تطلع فيه الشمس على ابن آدم إلا وينادي فيه مناد: يا ابن آدم! أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود أبداً] ولو عمل الإنسان الواجبات واعتنى بالمندوبات والسنن المؤكدة، واعتنى بوقتها عناية دقيقة؛ فلن يجد متسعاً لشيءٍ يسمى الفراغ أو البطالة.(75/3)
حث الإسلام على اغتنام الأوقات
عباد الله: إن اغتنام أوقات الفراغ بأيامها ولياليها أمرٌ قد حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها فراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك) فما من أمرٍ فيه خير وصلاحٌ للإنسان في دينه ودنياه إلا وينبغي له أن يبادر الوقت في تحقيقه قبل أن يحل به ما يشغله عنه، يقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال، هل تنتظرون إلا فقراً ملهياً، أو غنىً مطغياً، أو الدجال فشر غائبٍ ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).(75/4)
مجالات متعددة للاستفادة من الأوقات
أيها الشباب: هناك مجالاتٌ متعددة للاستفادة من الأوقات والاستمتاع بها غاية المتعة، ومفتاح ذلك والسبيل إليه الجلساء الصالحون والصحبة الصالحة المعينة على استغلال الوقت واستثماره فيما يعود على الشاب بالنفع والفائدة، فإذا حصل الشاب مفتاحاً معيناً له على الاستفادة من وقته؛ فأمامه عند ذلك سبلاً شتى لاستغلال أوقات الفراغ إن وجدت.(75/5)
المراكز الصيفية
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر المراكز الصيفية التي تعنى بها الجهات التعليمية في هذه البلاد المباركة عناية شديدة؛ حيث يتوفر للشاب فيها ألوان مختلفة من الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية يستطيع من خلالها أن يكتشف وينمي مواهب ومهارات موجودة في نفسه لم يكن يعرفها قبل ذلك، وعلى قدر مشاركة الشباب وتفاعلهم في هذه الأنشطة، فإن الواحد منهم يعود على نفسه بخبرات فريدة وتجارب مفيدة تنفعه في مستقبل عمره، ولو لم ينل الشاب من هذه المراكز إلا أن يحفظ نفسه عن مجالسة الأشرار، ومخالطة السيئين لكفى بذلك نفعاً ومغنماً.(75/6)
الدروس العلمية لدى العلماء والمشايخ
ومن السبل النافعة التي يقضي فيها الشباب أوقاتهم، بل من أجل السبل النافعة التي يقضي فيها الشباب أوقاتهم، الدروس العلمية لدى العلماء والمشايخ الأجلاء والتي تنعم مدينة الرياض بمزيدٍ وافر منها في شتى المساجد المتفرقة في هذه العاصمة، وماذا على الشباب لو رتب الواحد منهم وقته وأعد لنفسه برنامجاً أو جدولاً يحضر فيه عدداً من الدروس المختلفة في العقيدة، أو الفقه، أو الحديث، أو الفرائض، واللغة والأدب؛ ليرتقي بنفسه إلى مراتب العلم والعلماء.(75/7)
حفظ كتاب الله
ومن أجل السبل النافعة التي ننصح أنفسنا وإخواننا الشباب بها: استغلال الإجازة في حفظ كتاب الله جل وعلا، وليس ببعيدٍ على شاب مجتهد عرف كتاب الله وما فيه تلاوته وتدبره من الأجر والثواب؛ ليس ببعيدٍ عليه أن يعكف على كتاب الله ليحفظه كاملاً في مدة هذه الإجازة الطويلة، وليس هذا الأمر صعباً أو معجزة بالنسبة لمن فرغ القلب والنفس من الهموم والمشاغل ووحد العزيمة في حفظ كتاب الله، وإني لأهنئ شباباً صغاراً قد بادروا أوقاتهم في إجازات مضت وعزموا بالجد والاجتهاد، فحفظوا كتاب الله في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أو أربعة، يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].(75/8)
القراءة والمطالعة
ومن السبل النافعة التي يقضي بها الشباب أوقاتهم القراءة والمطالعة في المكتبات العامة والمنتشرة في كثير من المساجد بحمد الله؛ فإن في ذلك من الفوائد الكثيرة ما يضيق المقام بحصره، ولو لم يكن فيها إلا جلوس الإنسان في بيتٍ من بيوت الله قريباً من ذكره وعبادته بعيداً عن الشيطان ووساوسه لكان ذلك وحده كافياً.
ومن الشباب من أولعوا بشيءٍ من الهوايات النافعة تعم بالخير كالرماية والسباحة، وهي التي حث الفاروق بن الخطاب رضي الله عنه عليها بقوله: [علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل] فهذه من محاسن الهوايات وأفضلها؛ لما يتعود عليه طالبها من الرجولة والكرامة والإباء، ولا بأس أن يقضي الشاب في ممارستها شيئاً من وقته بشرط ألا تشغله عن ذكر الله جل وعلا.
وإن مما ننصح به الشباب الصالحين المستقيمين أن يجعلوا هذه الإجازة فرصةً لمزيد بذل في الدعوة إلى الله، وطلب العلم وتعليم من يجهل احتساباً لذلك عن عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذه من أمور العبادة، والإنسان معلوم أنه يبذل فيها أفضل أوقاته ويبذل فيها أهم أوقاته، لكنه يزيد من جهده ويضاعف من نشاطه في طلب العلم والدعوة إلى الله في مثل هذه الإجازة.
ومن الشباب من أولع ببعض الهوايات العلمية التقنية؛ كشيءٍ من الاختراعات أو تطوير بعض الأجهزة، وذلك حسن جداً؛ لما يعود عليه وعلى أمته مستقبلاً بالنفع العظيم.
إن كثيراً من الناس حينما تسأله عن انقطاعه وفقده، يقول: كنت منشغلاً بالدراسة والامتحانات، أما الآن فأمامك إجازة طويلة تستطيع أن تقضي فيها أوقاتاً مباركة في صلة أرحامك وبر والديك، وفي زيارة إخوانك في الله، وفي جملة من الأعمال المهنية والعلمية والوظيفية، وإن هذه البلاد بحمد الله قد فتحت معاهد للتدريب الفني والمهني لمن أراد أن يكسب صنعة أو أن يكسب خبرة في أي مجال من المجالات، فاستغلوا الأوقات وبادروها قبل أن تفوت عليكم ولم تستفيدوا منها.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(75/9)
ظاهرة السفر إلى الخارج
الحمد لله الواحد بلا شريك، والعليم بلا ظهير، والعزيز بلا نصير، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو الذي أنشأنا من العدم وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن وجوهكم وجسومكم على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين: هناك ظاهرة سيئة وقع بعض الشباب -هداهم الله- فيها، ومن المؤسف أن جملة ممن وقعوا فيها لا يزالون صغاراً، ألا وهي سفر بعضهم أو اصطحاب بعضهم بعضاً إلى السفر إلى الخارج، إذ أن الإنسان لا يقف أمامه ما يردعه، فجواز السفر ميسرٌ بالنسبة له، وبعد ذلك قد يذهب بدون إذن والده أو عاصياً امتناع والده عن سفره، ومن ثم يذهب إلى تلك الدول الغربية الكافرة، التي تعرض فيها المنكرات والفواحش في الأسواق عرضاً، ثم بعد ذلك لا يملك أمام شيطانه وضعف نفسه الأمارة بالسوء، لا يملك أمام ذلك إلا أن ينساق وراء هذه الشهوات والمغريات، فيعود عياذاً بالله! شارباً للخمر، أو زانياً، أو واقعاً في كثير من الممارسات الجنسية الشاذة، وإن بعض الشباب قد وقعوا في ذلك -هداهم الله- ومنهم من أخبرني أنه سافر مع صديق له لا يزالون صغاراً، لكن الشيطان أغوى بعضهم أو أغواهم، ومن ثم وقعوا في جريمة كبيرة، وبعد ذلك عاد تائباً يقول: إن الله يقبل التوبة، ولكن ما الذي حدا بك للسفر إلى بلاد لا حاجة لك فيها، لا تطلب فيها علماً معدوماً في بلاد المسلمين، وليس لك فيها تجارةٌ لابد من حضورك فيها، وليس لك من أمرها قليلٌ أو كثير.
إننا بحمد الله يوم أن ننصح الشباب ألا يتوجهوا في السفر إلى الخارج، وأن يقضوا إجازاتهم في مصايف بلادهم، وفي أرضهم، وفي ربوع مملكتهم ننصحهم بهذا؛ لأننا نعلم ولله الحمد أنهم في هذه البلاد على ارتباط وثيقٍ بعبادة الله، فهم يسمعون المآذن تعج بالتكبير في كل يوم خمس مرات، أينما ذهبوا في أي جهةٍ من جهات هذه المملكة شمالاً وجنوباً وغرباً وشرقاً، وذلك مما يشدهم ويصدهم عن الوقوع في الفواحش، ومن العصمة ألا يقدروا إذ أننا ولله الحمد والمنة لا نرى مظاهر الفساد، أو الزنا، أو الخمور، علنيةً ظاهرة؛ فذلك من فضل الله، والكثير يعجز عن نوالها والحصول عليها، ومن العصمة ألا يقدر الإنسان.
أيها الإخوة: إننا ننصحكم أن تنتبهوا لأوقاتكم، وألا تفكروا في السفر إلى بلاد لا حاجةً لكم فيها، وإني لأنصح الآباء أن ينتبهوا لأبنائهم، وأن يتأكدوا تمام التأكد من أحوالهم، وأن يكونوا على صلةٍ وثيقة تحصل الهيمنة والسيطرة من الأب على ولده، لا أن يخرج الشاب ثم يسافر إلى أي جهة شاء، وبعد ذلك يعود فاجراً، أو زانياً، أو سكيراً، أو مجرماً من المجرمين، فإذا عاد الواحد منهم، وقد تكون أول مرة يقع فيها في الفواحش يعود الشيطان إليه يقول: ماذا بعدما زنيت، اترك الصلاة، زنيت دع عنك هذا الأمر، شربت الخمر دع عنك هذه الصحبة، ثم بعد ذلك يهون عليه ارتكاب الجرائم والفواحش والمعاصي مذكراً له بفاحشة كبيرة تهون عليه ارتكاب ما دونها، وإني لأنصح الشباب أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً عظيماً، وألا ينساقوا وراء المغريات التي تنتشر في كثير من المجلات، عبر الدعوة إلى شركات السياحة والمتعة في بلدان الخارج، إذ أن حقيقتها سم زعاف وتدمير للأخلاق، وإفساد للهمم والكرامات، فيما يسمونه بالرحلات السياحية التي تنظمها شركة من الشركات، فتدور على جملة من بلدان العالم، من هو الذي يحفظهم في هذا السفر؟ من هو الذي يوجههم؟ هل معهم من أهل العلم من ينتبه لهم؟ هل معهم من المربين والأساتذة المثقفين من ينتبه لأحوالهم؟ رحلات سياحية في أي جهة كانت، هدفها الأول ابتزاز الأموال ومحصلة آخرها فساد للشباب في أخلاقهم وفي أنفسهم، وصرف لهم عن طاعة رب العالمين.
وإن من المداخل الخبيثة السيئة على كثير من الشباب ما يسمونه بفكرة دراسة اللغة الإنجليزية، فترى الواحد منهم يسافر وحيداً أو يدفعه والده إلى السفر بحجة تعلم اللغة الإنجليزية وبعد ذلك يقول: إذا سافرت إلى هناك لا بد لك أن تسكن مع أسرة تخالطها وتحادثها، وتتكلم معها؛ لأن ذلك يعينك على الاستفادة من اللغة وتحصيل المخاطبة بها، وقد نسي ذلك الشاب أو نسي والده أنه يقع في فخٍ وكمينٍ قد أعد له من زمن طويل، أو أعد لفلذة كبده، فالتفتوا لهذا يا عباد الله! وإن سبل تحصيل هذه اللغة متيسر في هذه البلاد ولله الحمد والمنة لمن كان محتاجاً لها.(75/10)
عاقبة الفراغ وحفظ الشباب لأوقاتهم
الله الله يا شباب المسلمين! إياكم والبطالة، ودعوا عنكم الكسل، واجتهدوا في حفظ أوقاتكم، إن الإنسان أن يفتح متجراً أو مكاناً بسيطاً يتاجر فيه وإن لم يشتغل بذكر الله والدعوة إلى الله وطلب العلم والتعليم خير له من أن يبقى عاطلاً لا عمل له، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إني لأرى الرجل فيعجبني، فأسأل هل له من عمل؟ فيقول: لا.
فإذا قال: لا.
سقط من عيني] لأن البطالة أساس الفساد.
إن الذين وقعوا في المخدرات وتناولوها، وساروا في بيعها وترويجها، إن الذين ضعفت نفوسهم في تدبير الرشاوى، إن الذين دخلوا بالفساد على أنفسهم وأهلهم، إن الذين وقعوا في كثير من الانحرافات الخلقية وبثوا سمومهم إلى ما حولهم من أبناء مجتمعهم، كان السبب الأول في هذا هو الفراغ.
إن الفراغ هو الذي يولد المصائب وهو الذي يولد الجرائم، وهو الذي يولد المشكلات.
إذاً فينبغي لنا أن نهتم بأوقاتنا، وأن نشغل أنفسنا بطاعة الله أو بالمباحات التي تعيننا على طاعة الله، قبل أن تشغلنا النفوس بالمعاصي:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمرٌ ثاني
إذا اشتغل الإنسان ونفع في بلده وأسرته وفي وطنه وأمته استطاع بذلك أن يحقق لنفسه عقباً صالحاً من جميع المسلمين الذين يذكرون أفعاله بالخير ويدعون له على ما فعل، أما الذين يعيشون الليل والنهار كالبهائم لا يذكرون الله، ولا يعرفون عبادة، ولا صلاة مع الجماعة، ولا يعرفون ذكر الله طرفة عين، وقد وقعوا في حضيض الفساد وهاوية الدمار، إنهم بذلك يجرون الفساد لأنفسهم ولمجتمعاتهم، فإذا ماتوا بعد ذلك قيل عنهم: حجرة زالت عن طريق المسلمين، فينبغي للإنسان أن يجعل لنفسه في هذه الحياة لبنة تعرف له في حياته ويذكر بها بعد موته، يدعو له من رأى ثمرة عمله ونتيجة جهده يقولون: جزى الله فلاناً بن فلان خير الجزاء، فلقد فعل وفعل، مما عاد بالنفع عليه وعلى أسرته وإخوانه المسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بلادنا بسوء وأراد ولاة أمورنا بفتنة وعلمائنا بمكيدة؛ اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم اختم بالشهادة آجالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لأحدنا هماً إلا فرجته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم اعصمنا عما يسخطك وجنبنا ما يغضبك، ووفقنا إلى ما يرضيك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً مريئاً مريعاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، واغفر لنا وتب علينا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له، وابعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله بإخوانه ومن أحببته وأحبه، اللهم لا تفرح عليهم عدواً ولا تشمت بهم حاسداً برحمتك يا رب العالمين! اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين ونساءهم وزوجاتهم وبناتهم يا رب العالمين، اللهم أرنا في شبابنا ما يرضيك ويسرنا يا رب العالمين، اللهم اجعلهم خير الشباب لأمتهم، اللهم انفعهم بأمتهم، اللهم انفع أمتهم بهم، اللهم لا تجعلهم حطباً لجهنم، اللهم لا تجعلهم ممن ينفع أعداء أمتهم، اللهم وفقهم لما فيه صلاح نياتهم وذرياتهم وقلوبهم يا رب العالمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تصنعون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تفعلون.(75/11)
الخسوف
الخسوف والكسوف من آيات الله الكونية التي يجريها سبحانه وتعالى لحكم عديدة، منها: التخويف للعباد، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء والصلاة، لكن الواقع المشاهد للمسلمين يُرثى له، من عدم الاتعاظ والاعتبار بآيات الله والانغماس في المعاصي والذنوب، في ظلال هذا الموضوع كانت خطبة الشيخ.(76/1)
حكمة الله في الخسوف والكسوف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، يقول الله جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
معاشر المسلمين! أجرى الله آياته الكونية، كالنجوم والشمس والقمر وسائر الكواكب وغيرها، وسائر مخلوقاته جل وعلا أجراها على نظام معينٍ تسير عليه: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40].
فإذا أخلف الله هذا النظام، وغير تلك القوانين، أو قلب تلك السنن التي تسير عليها مجموع الكائنات والآيات الكونية وغيرها، فإن ذلك تنبيه للعباد على أمور عديدة.(76/2)
إثبات وجود الله وقدرته
أولها: أن الله الذي أوجد هذه الآيات الكونية، أن الله الذي خلق الشمس والقمر، أن الله الذي خلق الجبال والبحار، أن الله الذي خلق جميع الآيات والكائنات، الذي أنشأها من العدم وصرفها كما يرى العباد، وصرفها بقدرته ومشيئته، كما يرى العباد رؤية الأبصار لا رؤية المشيئة، يوم أن صرفها وأنشأها فهو قادرٌ على تغييرها وهو قادرٌ على إخلاف مساراتها وقلب نظمها وقوانينها، فذلك دليلٌ ولفتةٌ وانتباهٌ للعباد أجمعين.
إن العباد يوم أن يصبحوا ويرون الشمس مشرقةً من المشرق، ويوم أن يمسوا ويرون الشمس تغرب من المغرب، فإذا جاء الليل رأوا القمر في كبد السماء أو في أحد أطرافها، إذا استمروا على ذلك ولم يروا تغيراً أو تنوعاً أو تقلباً، فإن الكثير من الغافلين يظنون أن هذا أمرٌ لا بد ولا محالة كائن، سواء بتدبيرٍ أو بغير تدبير، وهنا يُظهر الله جل وعلا آياته فيخلف آيةً من هذه الآيات، فقد تحتجب الشمس وقد ينخسف القمر وبعد ذلك يقف العباد وقفة دهشة!! كيف تغير هذا النظام؟ وما الذي غير مسار هذا الكوكب؟ إن الذي خلق ذلك وأبدعه وأوجده من العدم، قادرٌ على تغييره، وقادرٌ على قلب مساره، وقادرٌ على إفنائه كما أوجده، إنها لآية عظيمة من آيات الله جل وعلا، ولكن أكثر الناس عن آيات الله معرضون، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله! خسف القمر على وقت النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الناس تقول: إنما تنكسف الشمس أو ينخسف القمر لموت عظيم أو حياة عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس لا تنكسف، وإن القمر لا ينخسف لموت عظيمٍ أو حياته، وإنما هما آيتان من آيات الله، يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فادعوا وصلوا حتى ينجلي أو ينكشف ما بكم).
إذاً فهي آية من آيات الله التي خلقها وهي آية من الآيات التي كونها ودبرها وقرر مسارها ونظامها، ويوم أن يعلم البشر بحدوث خسوف أو كسوف، فإن ذلك لا يضر أو ينقص من قدر آيات الله شيئاً؛ لأن البشر مخبرون عما سيقع، وليسوا قادرين على أن يُوقعوا شيئاً لم يقدره الله؛ لأن البشر يخبرون عما سيقع بما آتاهم الله جل وعلا من وسائل الأسماع والأبصار والأفئدة والعقول والقلوب، لأن البشر يخبرون بما سيقع بما سخر الله لهم من علوم الفلك وعلوم الطبيعة والحسابات وغير ذلك.
أما ولو كانوا صماً، وعمياً، وبلهاً؛ فلن يقدروا أن يخبروا عن إمكان حدوث خسوف أو كسوف قد يقع أو لا يقع.
إذاً فإن علم البشر بحدوث آية من آيات الله لا ينقص من قدرها، ولا يهوّن من شأنها، ولا يقلل من أمرها، فالتفتوا إلى آيات الله جل وعلا ولا تكونوا عن آيات الله غافلين.(76/3)
تخويف العباد
معاشر العباد! ثم إن في ذلك ومع إثبات وجود الله وخلقه وتدبيره في ذلك تخويف للعباد، في ذلك بيانٌ قريب أن الله لو شاء لجعل خطأ هذه الآية أعظم مما هي عليه، ولا يستطيع العباد أمام هذه الآية فعلاً أو تدبيراً أو شيئاً، إن الذي جعل القمر ينخسف، أو جعل الشمس تنكسف، لقادرٌ على أن يجعل القمر غائباً عن الناس آماداً طويلة، ولقادرٌ على أن يجعل الشمس غائبةً عن العباد مدداً ودهوراً بعيدة.
فالذي أمر الشمس بالكسوف والقمر بالخسوف فهو قادرٌ أن يأمر غيرها من الآيات والكائنات المسخرة بأمره؛ بتغيير ما تكون عليه من حالٍ إلى حال، ولذلك يقول الله جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:71 - 72].
فالله جل وعلا حينما يحدث آية من آياته ينبه العباد على أمرٍ عظيم، والتنبيه بالقليل فيه قدرةٌ على الكثير، وفيه بيانٌ بالكثير، إذ إن الله جل وعلا يوم أن خسف بالقمر، أو كسف بالشمس قادرٌ أن يجعل هذا القمر غائباً، وقادرٌ على أن يجعل هذه الشمس غائبةً آبادً ومدداً طويلة، وبعد ذلك من يأتينا بليلٍ نسكن فيه، أرأيتم لو أن الشهور والأعوام انقلبت علينا نهاراً جهاراً من يأتينا بليلٍ نسكن فيه؟!.
أرأيتم لو أن الله جعل الدهور والأعوام ليالي مظلمة، من يأتينا بضياء نستضيء به، وما الذي يجعل قدرات البشر الضعيفة، وقدراتهم المحدودة من الكهرباء وغيرها تستطيع أن تؤثر أو تغني ولو أدنى غنى في آية من آيات الله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قد نبه على ذلك صراحةً، ونبه على غيره من الآيات في مواقع عدة، يقول جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] هذا الماء الذي جعل الله كل حيٍ منه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
هذا الماء الذي منه الحياة بقدرة الله وإرادته لو شاء الله جعله غائراً فلم نستطع له طلباً، والله جل وعلا يوم أن سخر هذا الماء وقربه إلينا لتناله وسائلنا المحدودة، وقدراتنا الضعيفة إنما ذلك آية من آيات الله، ولكن أكثر الناس عن آيات الله معرضون.(76/4)
النظر إلى آيات الله ونعمه
معاشر المؤمنين! انتبهوا إلى آيات الله جل وعلا، وتدبروها أعظم التدبر واعلموا أن أي تغير فيها إنما هو تخويف للعباد من الله، وإن العباد لا بد ولاشك قد أحدثوا أمراً {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ويوم أن ننظر إلى آيات الله بعين الشمول، والعموم نُدرك أن هذه الآية تذكرنا وتنبهنا إلى عدد من الآيات والنعم التي لا نستطيع لها عدداً ولا إحصاءً ولا حساباً، يقول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] ما الذي جعل هذا النسل البشري يتكاثر {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة:8] من نطفةٍ قذرة تكون في أصلاب الرجال إلى أرحام النساء في ظلمات الأرحام، وبعد ذلك يخلقها الله جل وعلا بأمره لملائكته من نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ، وبعد ذلك يؤمر الملك فينفخ فيها الروح وتُكتب الآجال والأرزاق والسعادة والشقاء والأعمال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [الواقعة:58 - 59] إنها لمن آيات الله جل وعلا التي تبين للناس أنه وحده سبحانه القادر على الإنشاء من العدم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:65].
إن العباد بأسبابهم الضعيفة لا يملكون إلا أن يشقوا الأرض، لا يملكون إلا أن يحرثوها ويضعوا البذور التي خلقها الله لهم بينها، ثم يفعلون الأسباب التي أمروا بها، وبعد ذلك يتكلون على الله جل وعلا، يتكلون عليه وحده لا شريك له ومن ثم يخرج لهم هذه الثمار اليانعة، تُسقى بماء واحد ويُفضل بعضها على بعضٍ في الأكل، تُسقى بماءٍ واحد وترون ألوانها وأنواعها مختلفةٍ ومتعددة: {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:68 - 74] كلها آيات من الله جل وعلا، ولكن أين المتأثر وأين المعتبر؟ أين الذي يتأثر لرؤية الكسوف والخسوف؟(76/5)
غفلة الناس عن آيات الله
إن الناس ليعلمون بحدوثه ومع ذلك لا يهتمون ولا يلتفتون، وإن الناس ليرون وقوعه ومع ذلك تجد أكثرهم غافلين، فأين التأثر؟ وأين الخوف والوجل؟.
كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى آية من آيات الله تغير لونه واصفر وجهه، وكان يقول: (اللهم سلم سلم) فأين العباد الذين يتجهون إلى بيوت ربهم ليصلوا وليدعوا حتى ينجلي ما بهم؟ إن الناس لفي غفلةٍ عظيمة، وأعظم دليلٍ على ذلك أنكم ترون الكسوف والخسوف ومع ذلك تجد أكثرهم أمام الشاشات، والملهيات، والطرب، والأغاني، والموسيقى، واللهو والمزاح، والضحك لا يلتفتون إلى آية من آيات الله جل وعلا فأي غفلةٍ بعد هذه، والله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة:22].
هذه آية من آيات الله لو حدثت فهي تذكير، والآيات غيرها كثيرة: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة:22] ويقول جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف:57] لم يدر أن هذه الآية جاءت تخويفاً له فيما أحدثه من نظرات وخطراتٍ وربا وخروجٍ وتكشفٍ وسفورٍ وتبرجٍ وسبابٍ وشتيمةٍ وغيبةٍ في المجالس ونميمة، وغير ذلك من الفواحش والمعاصي، وغير ذلك من الآثام والذنوب ومع ذلك هم معرضون: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57] لن يهتدوا إذاً أبداً، أولئك الغافلون عن آيات الله متى يلتفتون إلى العبادة؟ متى يدعون ويتضرعون؟ إذا حصلت الآية ولم يتضرعوا ولم يخشوا ولم يهابوا، إذا لم يهابوا في أوقات الشدة فمتى يلجئون إلى الله؟! أفي أوقات الغفلة والمرح والسرور، إن الذي غفل في أوقات الشدائد لغافلٌ في غيرها من الأوقات.
أسأل الله جل وعلا أن يمنّ علينا وعليكم بالذكرى والموعظة والعبرة، ألا وإن حدوث الغفلة هذه لآية عظيمة على ضعف الإيمان في القلوب ولكن نسأل الله جل وعلا أن يوقظنا من نومة الغافلين، ونسأله تعالى أن يمنّ علينا بتوبة إنه هو أرحم الراحمين.(76/6)
حدوث الآيات الكونية دلالة على وقوع المعاصي
معاشر العباد! يوم أن ترون آية من آيات الله قلبوا النظر في أموركم وأحوالكم، من منكم لا يصلي، من منكم لا يحضر الصلاة مع الجماعة، من منكم من يتهاون بصلاة الفجر وهو مصرٌ على تركها مع الجماعة، من منكم يتعامل بالربا، من الذي يقع في الغيبة والنميمة، من الذي يفعل من الأمور ما لا يرضاه الله جل وعلا، إن ذلك لتنبيه لطيف إن ذلك لبيان وتعريف للعباد، أن الله جل وعلا يخوفهم بآيةٍ يسيرة تستمر ساعات معلومة، حتى يلتفتوا، ولو شاء الله جل وعلا لأنزل عليهم العذاب جملةً واحدة، هل الله بحاجة إلينا؟ حاشا وكلا، إن الله لم يخلقنا ليستكثر بنا من قلة، أو ليستعز بنا من ضعف، أو ليستظهر بنا من قلة علم، ولكن خلقنا لعبادته، فأين نحن والعبادة في هذا الزمان، إن الله جل وعلا قادرٌ أن ينزل الآية الشديدة الكونية مرةً واحدة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يوم أن عصت الأمم السالفة أنزل عليها العذاب، يقول جل وعلا: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:38 - 39].
ماذا فعل الله به؟ {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] ويقول جل وعلا في شأن عاد: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} [الذاريات:41 - 45].
لو أراد الله أن يُحدث آية من آياته جل وعلا بنا، وهو أرحم بنا من أن يعذبنا، وهو أرحم بنا من أمهاتنا وآبائنا أيرده من ذلك شيء؟! لأننا مهما عبدناه لا يزيد ذلك في ملكه، وإنما نحن بحاجةٍ إلى عبادته، ولو عصيناه ما ضره ذلك شيء، يقول جل وعلا في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيدٍ واحد، فسألوني وأعطيت كل سائلٍ مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منكم، ما زادني ذلك شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نقص ذلك وما ضرني ذلك شيئاً) فالله جل وعلا غني عن العباد والله جل وعلا أيضا رءوف بالعباد.
وينبههم بأيسر الآيات وأهونها حتى إذا اعتبروا بهذه الآيات اليسيرة رفع الله عنهم العذاب، ورأى منهم التضرع والخضوع والانكسار بين يديه، ثم بعد ذلك ينزل عليهم رحمته.
أما إذا رأى منهم غفلةً مع الغافلين، ولهواً مع اللاهين، فإن الله جل وعلا لا يضره أن ينزل بهم بأسه، وجنود الله لا حد لها، يقول جل وعلا: {وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] لو شاء الله جل وعلا لسلط على العباد أهون شيءٍ بين أيديهم، إن الذي سلط الجراد والضفادع والطوفان والقمل والدم آيات مفصلاتٍ على أمم من الأمم؛ لقادرٌ أن يُسلطها علينا في هذا الزمان.
من يرد عنا بأس الله إن أراد بنا سواءً؟! فنسأله جل وعلا ألا يعذبنا بذنوبنا، إنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك نستغفرك ونتوب إليك، ونبوء بذنوبنا بين يديك، ونبوء بنعمتك علينا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ربنا لا تعذبنا بما فعل السفهاء منا، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا لا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، نحن الضعفاء وأنت القوي، ونحن الفقراء وأنت الغني، ونحن الأذلاء بين يديك وأنت العزيز.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(76/7)
تفضيل الله لأهل الجزيرة بالنعم
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، وخالق الخلق من تراب، منزل الكتاب، رب الأرباب، لا إله إلا هو وحده لا شريك له عليه توكلنا وإليه مئاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه ومن اقتفى أثره واتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! كونوا على يقظةٍ في قلوبكم، كونوا على حذرٍ من أموركم، كونوا على بصيرةٍ مما ترون في ليلكم ونهاركم، إن البهائم والسوائم هي التي تأكل وتشرب وتُخرج غير ذلك ولا تلتفت لصباح أو مساء، تعلف وتنتظر جزارها.
أما أنتم معاشر العباد! فلقد خلقتم لحكمةٍ جليلة، ولغايةٍ فضيلة، خلقكم الله جل وعلا لعبادته ومن أجل ذلك سخر لكم ما لم يسخره لغيركم، وكرمكم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70] وفضلكم على كثيرٍ من الأمم تفضيلا، وفضلكم على كثيرٍ من سائر مخلوقاته، وأنتم يا أمة هذه البلاد: قد فضلكم الله جل وعلا على كثيرٍ من الأمم تفضيلاً فوق غيركم.
فاحمدوا الله جل وعلا على نعمه عليكم، واعلموا أن الله جل وعلا لا فضل ولا قيمة لنسب أحدٍ عنده: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي ولا أسود على أبيض ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ليست بمزية لكم من سائر الأمم، ولستم مفضلين على سائر الأمم.
إن المفضل عند الله من كان أتقى له، إنما المفضل عند الله والمقرب إلى جنابه والذي يفوز برحمته وثوابه هو من كان أتقى له وأخشى له، وأعبد وأكثر خضوعاً وانكساراً بين يديه جل وعلا، اعتبروا بالآيات الصغيرة قبل أن تأتي الآيات العظمى، اعتبروا بالآيات اليسيرة، وما هناك شيءٌ من آيات الله صغيرٌ أو يسير، إن جميع آيات الله عظيمة ولكنها تختلف في مراتبها، فاعتبروا بما هو أدنى تنبيهاً على ما هو أعلى، واتعظوا واعتبروا يا أولي الأبصار.
أسأل الله جل وعلا ألا يجعلنا وإياكم من الغافلين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته.
اللهم احفظ ولاة أمورنا، ولا تُفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم أدم عزك ونصرك لهم، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته برحمتك يا أرحم الراحمين: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(76/8)
الطلاق
الزوجية رابطة اجتماعية كريمة، يعد التعدي عليها جريمة، وهدم صرحها مجازفة لئيمة، فلا يشرع الطلاق إلا عند الحاجة الماسة إليه؛ لذلك كان التلفظ به خطراً ينبغي تركه.
وفي هذه المادة بيان لمخاطر الطلاق، وتبيين لضوابط الفراق، ونصائح للزوج وأهله، وللزوجة وأوليائها.
والله الموفق.(77/1)
خطر الطلاق وكراهته
الحمد لله الذي خلق وقدر، وشرع فيسر، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل فضلٍ وخيرٍ سألناه أعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقدم بعض المسلمين هداهم الله ومنَّ علينا وعليهم بالتوبة والهداية، على هدم صرحٍ اجتماعي، وإلى تفريق شملٍ مجتمع، بكلمةٍ يطلقها لا يلقي لها بالاً، قد تكون عند سببٍ تافهٍ من الأسباب، وعند أمرٍ حقيرٍ من الأمور، وقد تكون عند سماع أمرٍ لم يتثبت منه، أو شيءٍ لم يتحقق من وقوعه، تلك الكلمة التي يوقعها هي كلمة الطلاق.
الطلاق هو: فسخ عقد الزوجية، وقطع هذه الرابطة الاجتماعية الكريمة، ليقدم بعض المسلمين هداهم الله بقطعها وبترها وتفريق شمل اجتماعها، من دون تقديرٍ لمقدمات الأمور وعواقبها، وذلك أمرٌ مكروهٌ مبغوضٌ في الشريعة.
روى أبو داود في سننه بسنده عن محارب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحل الله شيئاً أبغضه مثل الطلاق) فالطلاق أمرٌ وإن كان مشروعاً في حق من احتاج إليه، إلا أنه قد يصل إلى درجة الكراهة الشديدة جداً لمن أوقعه وهو غير محتاج إليه، لما يترتب عليه من ضياع الأسرة، ولما يترتب عليه من فراق الشمل.(77/2)
خطر الطلاق لأجل الدعوات والضيافات
أيها الأحبة في الله! إن بعض المسلمين هداهم الله، يجعلون الطلاق ضيافة زوارهم وضيافة أقاربهم، وضيافة القادمين الوافدين إليهم، فإذا وفد إليه قريبٌ أو حبيبٌ من جماعته أو من بلادٍ قريبة، أو من أي مكانٍ من الأماكن، أول ما يحلف بالطلاق ليأكلن ذبيحته، فإذا كان الذي يسمع هذا الكلام فيه شيءٌ من الحمق، أو قد يكون مرتبطاً بأمرٍ من الأمور فلم يوافق على أمره، فإنه عند ذلك قد يجعله متورطاً في أمرٍ كان في غنىً عنه، وإن الكثير الكثير يقعون في هذا، خاصةً من البادية هداهم الله ومنَّ علينا وعليهم بالتوفيق والعلم النافع، تجد الواحد منهم لا يحلف إلا بالطلاق، ولا يهدد إلا بالطلاق، ولا يأمر بأمرٍ إلا وفيه الطلاق، ولا ينهى عن نهيٍ إلا وفيه طلاق، فهذا استهتارٌ بهذه الكلمة، وهذا عدم مبالاةٍ بهذه الكلمة، وهذا إيقاعٌ للأمور في غير مواقعها وهو ظلمٌ، فإن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.
عباد الله! ذات يومٍ طرق عليّ الباب ثلاثة نفرٍ قبيل صلاة العصر، والصلاة قد حان وقتها، فلم أجد بداً من حديثهم، فقالوا: إنما جئناك لأمرٍ، قلت: ما عندكم؟! قال أولهم: أنا أسكن هنا ودخلي محدود، وهذا أخي قدم علي من الجنوب، والثالث أخونا الأصغر، فقلت لما قدم أخي قال: عليه الحرام أن يأكل ذبائحه، فأجاب القادم الوافد هذا بأن عليه الطلاق ألا يأكل ذبائحه، فحلف ذلك الصغير الذي لم يتزوج بعد وإن كان بالغاً مكلفاً، حلف أن عليه الطلاق أن يتم أخوهم هذا الأمر الذي حرمه الأول على صاحبه، فقلت: يا عجباً! ويا عجباً! من هذا الجهل العظيم بالشريعة، ويا عجباً من هذا الحمق الذي يجعل الإنسان يتورط، ويقطع وشائج وعلاقات أسرٍ عديدة، بكلماتٍ توقع من غير معنى! هذا حلف على نفسه بالحرام والتحريم أمرٌ خطير، والتحريم قد يكون أشد من الطلاق، والآخر حلف على نفسه بالطلاق، وذلك الثالث طلق ولم يتزوج بعد، ولا طلاق إلا لمن أخذ بالساق، لأن الذي طلق ولم يتزوج بعد لم يقع منه طلاقٌ على أية حال، لكن الكلام في هذين الاثنين، الذي لم يجد ضيافةً لأخيه الذي وفد إليه، لم يجد ضيافةً له إلا بالطلاق، وإن بعضاً منهم، وسمعتُ ذلك منهم وممن حدثني به بعضهم، قال: إن الواحد منا إذا وفدت عليه، فلم يحلف بالطلاق على وليمته أو على عزيمته، فإنه يتشكك من جزمك في كرمه، ويرد النظر أو يشك أنك غير صادقٍ فيما أقدمت على إكرامه، فإذا حلفت بالطلاق، فإنه عند ذلك يتيقن أنك جازمٌ على احترامه وإكرامه، فقلت: والله لا حباً ولا كرامة، لمن لا يريد كرامته إلا بالفراق والطلاق!(77/3)
خطر التلبيس على العلماء في فتاوى الطلاق
وهو أمرٌ وقع فيه كثيرٌ من الناس، وتساهلوا فيه وتوغلوا فيه وأوغلوا إيغالاً ضر أنفسهم، فإذا عاد الواحد إلى رشده وصوابه، وذهبت السكرة، وجاءت الفكرة، ذهب إلى شيخٍ أو عالمٍ من العلماء ليحلل له زوجته، من ذا الذي يرد عليه زوجته، فيأتي يقول: يذكرون أن هناك عالماً قال كذا وكذا، ويذكرون أن هذا عالمٌ قال كذا وكذا، ثم بعد ذلك يذهب ليتتبع الرخص، وقد يكذب فيما يخبر به، ليجد مدخلاً أو فجوةً تحل له زوجته بظاهر ما يسمعه المفتي، وإلا فحقيقة الأمر بينه وبين ربه إذا كان أوقع الطلاق على صفةٍ تجعل الأمر بائناً بينونةً كبرى، فإن رجعته زنا، وإن عودته حرامٌ، والعياذ بالله! هذا أمرٌ أيضاً عرفته وعلمته من رجلٍ طلق طلاقاً علم منه أنه قد أبان زوجته بينونةً كبرى، فذهب إلى أحد العلماء الأجلاء، أسأل الله أن يمدهم بالصحة والعافية، فذهب إليه وأخبره، فقال: يا ولدي أسأل الله أن يخلف عليك زوجتك بخيرٍ منها، ولقد استعجلت في أمرٍ لك فيه أناة، فذهب يبحث عن شيخٍ آخر، وعن شيخٍ ثالث، وعن شيخٍ رابع، وعن شيخٍ خامس، حتى يجد من يكذب عليه، وإلا فإن العلماء لا يحلون لأحدٍ ما حرم الله عليهم، لكن تجد الواحد منهم يبالغ أو يغير أو يحرف في الكلام، حتى يجد مدخلاً يرى أنه سبيلٌ لرد زوجته عليه، وكما قلنا فهذا عودٌ إلى زنا، وعودٌ إلى حرامٍ والعياذ بالله، وذلك إذا كان ما تلفظ به، وأوقعه من لسانه يدل على قطع هذه العلاقة قطعاً تاماً ويبين عقد الزوجية بينونةً كبرى.
إذاً يا عباد الله! فلننتبه لهذا الأمر، ولا نهدد نساءنا بالطلاق، فإن الذي يهدد زوجته بالطلاق، فذلك دليلٌ على ضعفه وحمقه وجهله، هل ضاقت أسباب الأدب، وهل ضاقت أسباب العلاج، وهل تعسرت سبل حل المشاكل إلا أن يهدد الإنسان بالطلاق والفرار؟! إن هناك أموراً كثيرةً قد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، فمنها هجر المرأة، ومنها ضربها ضرباً غير مبرحٍ إذا أتت بفعلٍ يحتاج إلى شيءٍ من الضرب الخفيف، وخير الناس الذي لا يضرب زوجته.
أما أن يذهب بعضهم فيقول: أنت طالقٌ إن ذهبتي إلى هؤلاء! وأنتِ طالقٌ إن لم تأتي إلى هؤلاء! وإن فعلتِ كذا وكذا فأنت طالق! فإن هذا استهتارٌ وإهدارٌ لعقد الزوجية وعدم احترامٍ وعدم مبالاةٍ بهذا العقد والرابطة الكريمة، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين بالتثبت في جميع الأمور.
وإن من واجب الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر الطلاق ألا يوقعه فجأة، بل عليه إذا كان جازماً وإذا كان متأملاً، وإذا كان مصراً على هذا الأمر، أن يذهب بزوجته إلى بيت أهلها ثم يستشير من يعرف فيه العلم والحلم والأناة، ثم يخبره بذلك، فلعله يدله على أمر خير له من الطلاق، فيعود وقد رد زوجته إلى البيت ولم تعلم بما عزم عليه، أما أن يعود إلى ردها بعد طلقةٍ واحدةٍ أو طلقتين وله حق الرجعة فيها، فإن ذلك يبقي جرحاً أليماً في قلب المرأة؛ لا تنسى ذلك اليوم الذي طلقها فيه، وأخرجها من بيتها، وأرسل حوائجها ولوازمها وأدخلها على بيت أهلها، إن هذا يومٌ مشهودٌ بالنسبة للمرأة، لا تنساه طيلة حياتها، ويبقى طعنةً أليمةً داميةً في قلبها.(77/4)
الطلاق السني
إذاً فلنتثبت في هذا الأمر، ولنكن على مستوىً من العلم والفقه في إيقاع هذه الأمور، فلا نوقعها جزافاً، أو في حال غضب، أو في حال شهوةٍ، أو في حال أمرٍ من الأمور التي لا تجعل الإنسان طبيعياً فيها، بل على الإنسان إذا وجد أنه لابد ولا مناص ولا ملاذ من الطلاق أن يقدم على ذلك بعد معرفةٍ واستخارةٍ واستشارةٍ لمن عرف منه العلم والفقه، وبعد ذلك فلينتبه إلى القواعد الشرعية بالطلاق، وهي أن يطلق المرأة في طهرٍ لم يجامعها فيه، فلا يجوز له الطلاق في الحيض، والطلاق في الحيض حرامٌ بالإجماع، ولا يجوز له أن يطلق المرأة في طهرٍ قد جامعها فيه، لأنه قد يضر بالمرأة إضراراً عظيماً، بتطويل العدة عليها، وله من الحكم والأمور الشرعية التي الله سبحانه وتعالى أعلم بأسرارها وحكمتها، وما أوتينا من العلم إلا قليلا.
إذاً فلنحرص يا عباد الله! ألا نحتاج إلى هذا الأمر قاطبة، وإذا احتجنا إليه بعد دراسةٍ ورويةٍ واستخارةٍ واستشارة، أن يكون في طهرٍ لم يجامع الإنسان زوجته فيه، لأنه إذا أراد الطلاق ثم صبر حتى تحيض، ثم تطهر بعد ذلك، فلعله خلال هذه المدة (مدة بقية الطهر الذي جامعها فيه، أو مدة الحيض) أن يئوب إلى رشده، ولعله أن يرى حال أطفاله وصغاره، ولعله أن يرى هذه الرابطة الكريمة، ولعله أن يذكر من زوجته أموراً أحبها واستحسنها، فلا تطغى السيئة الواحدة على الحسنات الكثيرة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر).
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(77/5)
أضرار التسرع في الطلاق
الحمد لله وحده لا شريك له، الحمد لله وحده لا شريك له حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، جل عن الشبيه وعن الند، وعن المثيل وعن النظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، لا إله إلا هو وحده لا شريك له وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! إن بعض المسلمين قد يقع منه الطلاق في نهاية مدة حملٍ، فإذا وضعت زوجته حملها وقع طلاقه بائناً لا يمكن له الرجعة إلا بعقدٍ ومهرٍ جديدين، ولو كانت طلقةً واحدة، وهو في هذا قد أغلق على نفسه باب الرجعة في هذا الأمر، فإنه لا ينبغي لأحدٍ خاصة إذا كان يعلم أنه متردد أو متذبذبٌ في أمره هذا، خاصةً إذا كان الأمر في قرب وضع ولادة، ينبغي له ألا يستعجل في هذا الأمر، فإن طلقها حاملاً فليبادر بالرجعة قبل وضعها، حتى تعود إلى عصمته، لأنها إذا أنجبت فإنها بعد ذلك لا تعود له إلا بعقدٍ ومهرٍ جديدين، كما قلنا ذلك.
إذاً فينبغي للإنسان ألا يستعجل في هذا الأمر، خاصةً قرب مراحل الوضع الأخيرة، لأن هذا دليلٌ على قلة الفقه والعلم في الشريعة، وكما قلنا فإن ضلال كثيرٍ من الناس إنما يكون بالسرعة والتهور وعدم الاستخارة والاستشارة، فينبغي أن ننتبه لهذا الأمر انتباهاً جيداً، وكذلك فإن بعض المسلمين بعد أن يطلق ثم يعود إلى بيته حسيراً كسيراً؛ يعرف فضل زوجته بعد أن تخرج من بيته، تتراكم عليه آنية الأطعمة، ويرى ثيابه متسخة، ويرى بيتاً ليس بنظيفٍ ولا مرتب، عند ذلك يعرف فضل هذه الزوجة، وقد يكون أخرجها لسببٍ تافهٍ صغيرٍ من الأسباب التافهة، أو لأمرٍ حقيرٍ من الأمور، فعند ذلك يعرف فضلها وقدرها، فإذا كان قد طلقها طلاقاً يجوز له الرجعة فيه، كأن يكون طلقها طلقةً واحدة أو طلقتين، ثم يعود بعد ذلك إلى وليها أو والدها، فيقول: إني أريد العودة إلى زوجتي، وإني أستغفر الله عما وقع مني، وإني نادمٌ على ما فعلت إلى غير ذلك، إن بعض الأولياء، إن بعض الآباء يقفون حجر عثرةٍ أمام هذه الرجعة، وهذا لا يجوز لهم، لأن الله جل وعلا يقول: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232].
فإذا رضيت المرأة أن تعود إلى زوجها، وإذا رأيت الزوج راغباً في العودة إليها، فلا عليك إلا أن تكون عوناً على بناء صرح هذه الأسرة من جديد، وينبغي لك أن تكون معطاء، وينبغي أن تكون يداً بانيةً، لا يداً تعين على الفراق والطلاق، فعند ذلك عليك أن تقنع ابنتك أو من هي في ولايتك، بالعودة إلى زوجها، فإذا رضيت فلا تعضلها أن تنكح زوجها ما دامت قد تراضت بينها وبين زوجها بالمعروف {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق:2].
فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجوز له أن يقف حجر عثرةٍ أمام هذه الرجعة المبنية على الندم والرضا والرغبة في بناء صرح الأسرة من جديد: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:232].(77/6)
إمكان الزواج بالثانية مع إبقاء الأولى
فينبغي لكل مسلمٍ إذا وقع منه هذا الأمر أن يعود إلى زوجته، أن يعود إلى مراجعتها، وأن يعود إلى تربية أطفاله، وإذا كان محتاجاً أو مضطراً إلى زواج، فإنه ليس سبيل الزواج الثاني طلاق الأولى، إنما ذلك أمرٌ لا يجوز، ولا يجوز لأناسٍ إذا تقدم إليهم من يريد زواجاً من زوجةٍ ثانية، أن يقولوا له: لا نزوجك حتى تطلق زوجتك الأولى، فإن هذا منهيٌ عنه، وهذا محرمٌ شرعاً، لأنه جاء في السنة أنه لا يجوز للمرأة أن تجعل زواجها بطلاق ضرتها، فلتنكح إذاً، أي: فلتبادر بالزواج، إذا قبلت أن تكون جارةً أو تكون زوجةً ثانية لهذا الذي تقدم إلى خطبتها.
فانتبهوا لذلك يا عباد الله؛ وكونوا أعواناً، وكونوا أنصاراً ودعاةً لبناء المجتمعات، ولا تكونوا معينين على التفريق والهدم، إذا جاءك من يستشيرك في أمر زواجٍ وقد كان بينه وبين زوجته الأولى شيءٌ من الخلاف، فقل له: لا بأس أن تعود، وأن تصلح هذا الخلاف، وهون عليه الأمر، واذكر له الشاهد من نفسك، ومن أحوالك ومن السلف الصالح، ومن الخلفاء الراشدين الذين تحملوا من النساء ما تحملوا؛ ومع ذلك لم يقدموا على طلاقهن لمعرفتهم بأن عقد الزوجية عقدٌ كريمٌ لا يحل إهداره، ولا يجوز عدم المبالاة به، لأن ذلك خطرٌ اجتماعيٌ كبير، وإلا فلو قلنا: إن كل من أراد أن يتزوج زوجةً ثانية طلق زوجته الأولى، فإننا بذلك نزيد المجتمع مشاكل على مشاكله، ومصائب على مصائبه، والمجتمع اليوم في أمس الحاجة إلى رعاية الموجود من المطلقات والأرامل ونحوهن.(77/7)
الموقف السلبي من زوجة الابن
إذاً ينبغي أن ننتبه لهذه الأمور، وأن نكون أعواناً لبناء الأسر والمجتمعات، لا أن نكون سبيل تفريقٍ في هذه الأسر.
إن بعض الآباء والأمهات حينما لا يعجبهم سلوك زوجة ولدهم أو يحدث شيءٌ من الخلاف، أول ما تقوله الأم: إن كنت رضعت هذا الثدي مني حلالاً فلا ينبغي لك أن تبقى مع هذه المرأة، بل طلقها.
وامرأةٌ تقول لابنها: حرامٌ عليك ثديٌ رضعت منه حتى تطلق فلانة بنت فلان، وأبٌ قد يكون له مشكلةٌ مع آخرين، قد يكون من قبيلةٍ أخرى، أو من فخذٍ آخر، أو عنده مشكلة تافهة، فلا ينتقمون إلا بطلاق الضعفاء المساكين.
ما ذنب النساء أن يكن وسيلةً عند غضبٍ يطلقن؟! وعند كراهةٍ يطلقن؟! وعند أدنى مشكلةٍ يطلقنَ؟! هذا أمرٌ جد خطير فانتبهوا لذلك يا عباد الله! وإن من الناس من دعي عليه بسبب فعله هذا، فاستجاب الله دعوة تلك المظلومة على من أشار على ولدها بالطلاق، فبقيت في مصائب ومناكد كثيرة، بسبب ما أشارت به؛ ليست لأمرٍ شرعيٍ وليس لسببٍ معقول، إنما هو لحقدٍ أو لبغضاءٍ على أسبابٍ تافهةٍ من الأمور.
فليتق الله أولئك، وليقولوا قولاً سديداً، ولا يحرضوا أولادهم على طلاق زوجاتهم، فإن وجدوا شيئاً من عدم العشرة، أو عدم سلوك زوجة الولد معهم، فلا بأس أن يكونوا عوناً لولدهم، فليعينوه على اتخاذ مسكنٍ قريبٍ منهم، كي يكونوا بالقرب منه، ويكون الولد مع زوجته، لا أن يخسروه خسارةً عظيمة، ويكلفوه تكاليف باهظة في زواجٍ من زوجةٍ ثانية، بعضهم يقول: طلقها، ولا يهل هلال شهرٍ قادمٍ إلا وقد زوجتك بغيرها.
ما الذي دعاك إلى هذا؟ وما الذي حدا بك إلى هذا؟ وأنت تعلم أن هذا الولد المسكين ما تزوج إلا راغباً محتاجاً، وقد تعب في سبيل ذلك أشد التعب، فكل هذه الأمور من المخالفات الاجتماعية، ومن الصور الاجتماعية التي يقع فيها كثيرٌ من المسلمين نسأل الله أن يمن علينا وعليهم بالهداية.
فاتقوا الله يا عباد الله! ولا تشيروا على أحدٍ بالفراق، ولا تعينوا أحداً على طلاق، وكونوا أسباباً وسبلاً ميسرةً لجمع الأسر والمجتمعات، يثبكم الله على هذا خير الثواب، ويجزيكم به خير الجزاء، ويكون ذلك في خالص أعمالكم في موازينكم يوم تلقون ربكم جل وعلا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أرشد ضالنا، اللهم علم جاهلنا، اللهم تب على مذنبنا ومن كان فينا عاصياً، اللهم تب علينا أجمعين، اللهم أحينا على الإسلام سعداء، وتوفنا على التوحيد شهداء، واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم إنا نسألك توبةً قبل الموت، وراحةً عند الموت، ونعيماً بعد الموت، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا، اللهم وفق إمامنا، اللهم أصلح إمامنا، اللهم اهد إلى كتابك وسنة نبيك إخوانه وأعوانه، اللهم اجمعهم على كتابك وشرعك، اللهم وحد شملهم، واجمع صفهم، ولا تشمت بهم حاسداً، ولا تفرح عليهم عدواً، وسخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، واجعلنا وإياهم عاملين بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك التوبة والإنابة والاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات، اللهم اختم لنا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم اختم بها آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه، اللهم أعنا على ما أعنتهم عليه.
لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، اللهم يا من لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، اللهم يا من لا يعجزه شيءٌ في كل مكان، اللهم إنا نسألك أن ترينا في الفرس الشعوبيين الزنادقة الفجرة، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم اجعلهم طوائف مختلفة، اللهم اجعلهم أحزاباً متنافرة، اللهم أنزل حيلهم بينهم، اللهم أنزل سوط عذابك عليهم، اللهم عجل زوالهم، اللهم قرب فناءهم، اللهم أحصهم عدداً، وأهلكم بدداً، ولا تبق فيهم أحداً، بقدرتك يا جبار السماوات والأرض، فإنك لا يعجزك شيءٌ يا قيوم السماوات والأرض.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(77/8)
أبناؤنا أمانة في أعناقنا
الأبناء أمانة عظيمة في عنق كل أب وأم، وفي هذه المحاضرة يبين الشيخ قضايا مهمة في التربية وفي توجيه الأبناء، مع ذكر بعض سلبيات الأمهات والآباء أثناء تربية أبنائهم.
وأيضاً بين الشيخ أن السبب الأول لانحراف الأبناء إنما هو إهمال الآباء لأبنائهم، فالأبناء من يهتم بتربيتهم في الصغر يجني ثمرات هذه التربية في الكبر وبعد الموت، فالعمل ينقطع عن الرجل إذا مات إلا من ثلاث، ومنها: (ولد صالح يدعو له).(78/1)
بركة سماع المحاضرة في المسجد
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله عز وجل وأشكره ثم أشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه اللقاءات المباركة في جهاز الإرشاد والتوجيه، وأسأل الله سبحانه -لنا ولهم ولكم جميعاً- بمنه وكرمه أن يستعملنا في طاعته، وأن يتوفانا على أحسن حالٍ ترضيه، وأن يضاعف لنا الحسنات، ويكفر السيئات، ويرفع الدرجات، ويغفر الزلات، إنه سميعٌ مجيب الدعوات.
أحبتي في الله: قبل أن نفيض في موضوعنا هذا أود أن أذكر بمسألتين مهمتين، الأولى هي مسألة الفضل العظيم الذي يتحقق بحضور حلق الذكر في رياض الجنة، الفضل العظيم الذي يتحقق بالعناية والإنصات والمشي والاستماع إلى مثل هذه اللقاءات؛ إذ رب قائلٍ يقول: ما ضر لو اشتريت المحاضرة، ما ضر لو أنني قرأت كتاباً حول هذا الموضوع ولا داعي لحضورها، وربما يكون هذا الأمر صحيحاً لمن كان مشغولاً شغلاً لا بد له منه، أما من لا شغل يمنعه أو يحجبه عن مثل هذه المحاضرات والكلمات والندوات واللقاءات المباركة فإني أنصحه ونفسي بألا يبخل على نفسه بما فيها من الفضل والثواب العظيم.
صحيح أنك تؤجر إذا استمعت إلى المحاضرة والحديث والخطبة في الشريط، كما أن الإنسان يؤزر إذا اشتغل باللهو وساقط القول ورديء الكلام، ولكن لحضور هذه المحاضرات والندوات واللقاءات في بيوت الله مزية لا يمكن أن نجدها في الاستماع أو في تصفح بعض المحاضرات عبر ما يسمى بالإنترنت مثلاً أو غير ذلك، وذلك للحديث الذي جاء فيه: (ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) وهذا أجر عظيم لا يتحقق عند سماع الشريط في البيت، أو تصفح المحاضرة في الصفحات الإلكترونية عبر الحاسب.
قد يقول قائل أيضاً حتى ولو كان واعظاً أو داعياً أو مرشداً، قد يقول: لو أنني بدلاً من إلقاء المحاضرة على عشرين أو خمسين رجلٍ في مسجد لو أني اقتصرت على المحاضرات في التلفاز والقنوات الفضائية واكتفيت فيها عن إلقاء المحاضرات في المساجد نقول: لا شك أنك عبر القنوات الفضائية تخاطب ملايين البشر، ومن مقاصد التبليغ أن تصل الكلمة والرسالة واضحة جلية إلى أكبر عددٍ ممكن من الناس كما قال موسى عليه السلام: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان:18] ولكن أيضاً أنت أيها المتحدث أو المحاضر أو الواعظ أو المرشد بحاجة إلى الفضل الذي يحتاج إليه ويسعى في طلبه الحضور الذين جاءوا لاستماع المحاضرة، فالمتكلم والسامع والملقي والمنصت، كلهم بحاجة إلى أن يستحضروا الثواب العظيم عند اجتماعنا ولقائنا في بيوت الله عز وجل لاستشعارنا أننا الآن برحمة الله وفي وجوده وفضله وكرمه، الآن الملائكة تحفنا، وتتنزل علينا السكينة، وتغشانا الرحمة، وهذا ثوابٌ لا تجده في قناة فضائية أو في سماعٍ بعيدٍ عن بيوت الله عز وجل، هذه مسألة ينبغي أن نستحضرها دائماً حتى لا نقول: الدعوة تطورت، والاتصالات تطورت، ولا حاجة إلى أن يجتمع الناس لهذه المحاضرات طالما يمكن أن نخاطب الملايين من البشر عبر القنوات وغيرها؟ لا.
نعم ينبغي أن نستغل وأن نستفيد مما هيأ الله عز وجل، ومن كل فرصةٍ سانحة، ومزاحمة أهل الشر بشيء من الخير لتذكير أقوام لا يشهدون الجمع ولا الجماعات، ولا يسمعون الأشرطة، ولا يقرءون الكتب من المقاصد الحسنة المطلوبة التي ينبغي لنا أن نلتفت إليها جميعاً.
المسألة الثانية: وهي في ظل المتغيرات وما يسمى بعصر العولمة والغزو الفضائي، قد يقول قائل: ليس هناك جدوى ولا فائدة من خطبة جمعة أو محاضرة أو كلمة يلقيها شيخ على ستين شخصاً أو ثمانين شخصاً في مكانٍ ما، والناس الآن يخاطبون الذين في بيوت الحجر والمدر، ما تركوا أحداً في وادٍ ولا قرية، ولا جبلٍ ولا سهلٍ، ولا وعر ولا بحر إلا وخاطبوهم عبر الاتصالات الفضائية، فما هي جدوى اللقاءات في المساجد والناس في عصر العولمة والاتصالات، وإني أقول: لا تزال لهذه المحاضرات والخطب والندوات في المساجد أدوارٌ عظيمة ومهمة وذلك أن الكلمة الطيبة -كلمة لا إله إلا الله- بشروطها وحقوقها وما تقتضيه وما يجب لها وما ينبني عليها؛ أن هذه الكلمة الطيبة حينما تقال في رياض الجنة ويستمعها أقوامٌ جاءوا لا لغرضٍ من أغراض الدنيا، وإنما جاءوا استجابة وامتثالاً لأمر الله وطلباً لثوابه وخوفاً من عقابه، فإن الكلمة الطيبة لها أبلغ الأثر: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24 - 25] فينبغي ألا نتهاون بشأن المحاضرات والندوات والخطب والكلمات حتى وإن تيقنا غاية اليقين أن جمهور المستمعين عبر الوسائل الإلكترونية الحديثة المعاصرة أضعاف أضعاف جمهور المستمعين في المساجد وفي حلق الذكر ورياض الجنة، وذلك أن التلقي والاستماع والاجتماع في هذا المكان وأمثاله له مزية فضلٍ وبركة، والله إن بارك في شيءٍ نفع، والبركة شأنها عظيم، وكلنا مدعوون لطلبها والسعي في تحصيلها، بل نحن في كل أحوالنا نسأل ربنا البركة حتى في السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حتى في الأكل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، حتى إذا دعونا لأحدٍ ضيَّفنا: اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، حتى من نهنئه في الزواج: بارك الله لك وبارك عليك، حتى في الثناء على الله: حمداً كثيراً طيباً مباركاً، بل إن عيسى عليه السلام يمتن أو يذكر نعمة ربه ومنة خالقه عليه وهي منقبة له حيث قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31].
فالبركة -بإذن الله- إن لم تكن في مثل هذه اللقاءات فقل لي بربك أنى تكون؟ لذا ينبغي أن ننتبه لهذا حتى لا نزهد في الخير الذي بين أيدينا في مقابلة البهارج والصياح والعويل إلى غير ذلك في الوقت الذي نقول فيه: إننا مأمورون مدعوون ألا ندع مجالاً من مجالات تبليغ الحق إلا وسلكناه وبلغناه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].(78/2)
رحلة الحصول على الولد
أما عن كلمتنا هذه الليلة وهي بعنوان: أبناؤنا أمانةٌ في أعناقنا.
أحبتي في الله: لو سألنا واحداً منكم أو سألنا واحدة من الأخوات: صف لنا رحلة الوصول إلى الولد، بيّن لنا كيف بلغت هذه الحال التي أصبحت فيها أباً أو أصبحتِ فيها أماً؟ لقالت بكل لسانٍ فصيح: لقد كانت مرحلة طويلة، ولقال مثل ذلك هو أيضاً، همٌّ في جمع المال لإيجاد المهر، ثم بحثٌ وعناءٌ طويل في البحث عن الزوجة المناسبة، ثم زياراتٌ ومقابلاتٌ واستخارة وما تبع ذلك، ثم مناسبة دعي إليها الأحباب والأقارب، ثم تم الزواج وحصل الزفاف، ثم بدأ همٌّ آخر وقد تكونت الأسرة بمسئولياتها وتبعاتها: (وكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) ثم ما هي إلا أشهر حتى حملت المرأة، وحمل الرجل هماً في النفقة والرعاية والعناية والمتابعة أشهراً طويلة، حتى إذا دنا المخاض وقرب الميلاد، تتابعت الزيارات إلى المستشفيات والفحوصات والكشف وغير ذلك، ثم بشر أحدنا بالمولود، ذكراً كان أو أنثى ولم تنته الرحلة عند هذه، بل فرحنا لحظاتٍ والفرح مستمرٌ بنعم الله علينا وعليهم في عافية وأمنٍ وطمأنينة، ولكن ما زلنا نحمل هماً في علاجهم في دوائهم في لباسهم في تعليمهم في السهر معهم في مداعبتهم في ملاعبتهم في احتضانهم وإشعارهم بالحنان ودفء العواطف، مسئوليات كثيرة ومتتابعة، وما زلنا كذلك ننفق ونعطي ونعالج ونسهر، كم ليلة حرمنا لذيذ النوم! وكم ليلة خرجنا من البيت في ليلة شاتية! وكم ليلة سهرناها وقبلها تعبٌ طويل وبعدها عملٌ شاق! وكم وكم إلى غير ذلك، حتى إذا بلغ الولد أو البنت الذي تعبنا تعباً طويلاً للحصول عليه ابتداءً بفكرة الخطوبة وانتهاءً بهذه المرحلة التي أصبح الوليد فيها مكتملاً في نموه وعقله واستجابته، أخذ يعي ويفهم ويخاطب ويستمع ويستجيب، وينادى فيأتمر حتى إذا بلغ الولد هذه المرحلة قال بعضنا: هذا الولد قد انتهينا منه ثم رموه في زبالة الأفلام والمسلسلات، وفي أحضان السائقين والخادمات، وفي مخالطة السوقة والفسقة ممن ليسوا بأهلٍ ولا كفءٍ أن يدخلوا بيوتنا فضلاً عن أن يكونوا أصحاباً لأولادنا وبناتنا، هذا هو الواقع اليوم.
كثيرٌ من الناس كالذي يستدين من فلان وعلان، ويكدح الليل والنهار، ويجمع أجرة اليوم على الأسبوع، وأجرة الشهر على الشهر حتى إذا جمع مالاً اشترى أرضاً، ثم أخذ يكدح ويتعب ليبني بيتاً حتى إذا بناه أخذ يتعب من أجل أن يكسوه داخلاً وخارجاً ثم يؤثثه، حتى إذا اكتمل البيت وأصبح جنة صغيرة فتح الأبواب للكلاب والذئاب وقال لهم: ادخلوا وارتعوا والعبوا واعبثوا كيفما شئتم بهذا البيت الذي تعبنا عليه، هذا واقع كثير من الآباء والأمهات اليوم، يتعبون على الأولاد حملاً وولادة، وتربية وعلاجاً ولباساً، ودواءً وغذاءً حتى إذا اكتمل الولد رموه كما يرمون الزبالة عند الأبواب، وهذا واقع ومشاهد، ومن تأمل يجد أن ذلك أمراً لا مرية فيه ويا للأسف!(78/3)
فتنة الأولاد
أحبتي في الله: الله عز وجل قد بين لنا أن أولادنا نعمة أو نقمة: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14] هذا في جانب الخطر أن يكون الأولاد فتناً وأعداء، وفي الجانب الآخر: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فالولد إما أن يكون قرة عين يسرك أن تلقاه في الدنيا وتجتمع به في الجنة في الآخرة، وإما أن يكون فتنة وعدواً تقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38].
كيف يكون هذا وكيف يحصل؟ تأمل أخي الحبيب!! أن الله سبحانه وتعالى جعل الأبناء والأولاد والبنين والحفدة زينة في الحياة الدنيا وبهجة في المجالس، وعوناً على مشاق الحياة وشدائدها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] بل ما قيمة الحياة بلا ذرية وأولاد؟ إنها شاقة وعسيرة بل إن البيت الذي لا تسمع فيه للأطفال صوتاً ولا عبثاً كأنه مقبرة ليس بها ساكن.
لولا بنياتٍ كزغب القطا رددن من بعضٍ إلى بعض
لكان لي مطرف واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمضِ
الأولاد الهبة السماوية، المنحة الربانية، سبحان من وهبهم وأنعم بهم علينا! سبحان من أعطانا! إذا أردت أن تعرف عظمة وجلال هذه النعمة فتخيل نفسك واحداً من أولئك الذين ابتلاهم الله بالعقم، يذهبون من طبيب إلى طبيب ومن حكيم إلى آخر طلباً للولد، تخيل أنك تدخل منزلك وكأنك تدخل قبراً لا تسمع به كلمة من طفلٍ يناديك: (يا أبتِ أو يا بابا) سبحان المالك المتصرف: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49 - 50].(78/4)
الآباء هم السبب الأول في انحراف الأبناء
ٍأحبتي في الله: إن هؤلاء الأولاد الذين تعبنا تعباً طويلاً شاقاً بالغاً في الحصول عليهم ما سقط من سقط منهم، وما ضل من ضل منهم، وما انحرف من انحرف منهم بغتة أو فجأة أو بين عشية وضحاها، لا تصدق أن رجلاً قال: بات ولدي ليلة صالحاً فأصبح فاجراً، لا تصدق من قال: أصبح ولدي مؤمناً فأمسى كافرا، لا تصدق من قال: غدا ولدي براً فراح مجرماً!! لا.
إنما المسألة لها خطراتٌ وخطواتٌ وكما قال الأول:
وللمنية أسبابٌ من السقم
قد يكون السبب الأول فيما تكرهه وفيما أقض مضجعك وعذب ضميرك، وآذاك في نفسك، ونكد عليك عيشك، وجعلك تتجرع الغصص في حلقك ربما كان السبب في انحراف ولدك هو أنت أنت من حيث لا تشعر.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
أخي الحبيب: أنت الولي وأنت الأب والمؤدب والراعي ربما كنت سبباً في ضياع أولادك، وربما دمرت هذه الأسرة بمن فيها من البنين والبنات، ربما كنت السبب بل المتهم الرئيس في إذكاء شعار الفتنة والمتاهة والشقاء في أولادك وبناتك، والبعض يقول: لا.
لا تحملني المسئولية وحدي، أليس على الولد كفلٌ من هذه الملامة؟ أليس للولد حظٌ من هذه الأسباب؟
الجواب
نعم.
ولكن أخي الحبيب! إن الولد حينما يقول: هذا جناه أبي علي، وما جنيت على أحد إذا كان والده من المضيعين له الذين لم يحسنوا تربيته ولم يلتفتوا له أبداً.
نعم.
كثيرٌ من الآباء والأمهات ما قصروا، ألبسوه ناعم الحلل، وأسكنوه أوسع الفلل، وعطروه وزينوه وعالجوه، ما تركوا موضع إبرة في بدنه إلا ونعموها بطعامٍ وشراب، ولباسٍ ودواء، ولكنهم تركوا أكبر شيءٍ في بدنه وهو فؤاده وقلبه وعقله، جسمه المحدود اعتنوا به، أما عقله وقلبه الذي يتسع لأضربٍ من الشر كثيرة، أو أصنافٍ من الخير كبيرة عظيمة أهملوه، ما تركوا جانباً إلا وقدموا له وافر الغذاء فيه، أما غذاء روحه وغذاء عقله وفكره، فأهملوه غاية الإهمال، وحينئذٍ حينما يتخلى الأب وتتهاون الأم في ذلك الأمر سهل للأعداء من شيطان الجن وشياطين الإنس إفساد الأبناء وسلخهم من الحجاب والحياء، وإماتة العفاف والآداب في أنفسهم، أوليس إذا تخلى الولي عن الولاية والأمانة التي تعلقت برقبته؛ ضاعت الأمور من بين يديه؟! إذاً أنت أنت أيها الأب! أنت المسئول قبل كل شيء؛ لأنك أسلمت الولد والبنت لقمة سائغة للذئاب البشرية، لأنك تواريت وابتعدت وتزاورت ذات اليمين وذات الشمال عن دفة القيادة ومسئولية التوجيه والرياسة، فسمحت لأسراب الخفافيش أن تغزو منزلك في جنح الليل المظلم، ورضيت بالمنكرات والمعاصي أن تتصدر مساحاتٍ كبيرةً من بيتك وتستحوذ عليها، أنت بهذا شعرت أم لم تشعر أفسدت ولدك، وكنت عوناً لشياطين الإنس والجن في تحقيق مآربهم من هنا وهناك، ولذا أيها الأحبة! كان لزاماً علينا أن نتأمل هذه المسئولية العظيمة، وإن القليل القليل من التوجيه والرعاية يحفظ الأولاد بإذن الله، ويغني عن الكثير الكثير من الآداب والوعيد والتهديد والملاحقة في الكبر، فما دام الأمر سهلاً يسيراً، والأولاد لا زال الواحد منهم غضاً طرياً كأغصانٍ غضة لينةٍ كيفما عدلتها اعتدلت، فإن ذلك أسهل بكثير من أن تهمله حتى إذا بلغ الولد سبعة عشر عاماً، أو ستة عشر عاماً أو أقل أو أكثر، أخذت تهدده بالعصا، والحرمان والطرد والإبعاد، والجلد والإهانة، والتوبيخ والعبارات الجارحة التي لا تزيده لك إلا بغضا ولا منك إلا فرارا.(78/5)
غش الرعية
أيها الأحبة: واجبنا مراراً أن ننتبه لهذه المسئولية وهي مسئولية كلنا يحاسب عنها: كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائلٌ كل رجلٍ عما استرعاه حفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) أوليس هذا أمراً عظيماً؟ إن الواحد لو كان أمين صندوق وجاء يوم الجرد لاحمر وجهه، وخفق فؤاده، خشية أن يضيع مما استودع شيئاً من حطام المال قليلاً كان أو كثيراً، لكن لا يبالي حين يضيع من أولاده خمسة، أو لا يبقى من العشرة إلا اثنان لا يبالي أبداً، وهذا -أيها الأحبة! - من الجهل العظيم، بل إن ذلك غاية الغش والظلم والخديعة والخيانة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).
ما تقولون في رجلٍ غش رعيته، وهم زوجته وأولاده وبناته وأهل بيته؟ غشهم فما أمرهم بالصلاة، وما نهاهم عن المنكرات، بل جعل البيت مسرحاً ومستودعاً لكل ألوان الفجور والفساد، وحجته بذلك أنه لا يريد أن يكون مطوعاً، لا يريد أن يكون متشدداً، لا يريد أن يكون متزمتاً، بل يريد أن يكون منفتحاً متساهلاً، معتدلاً متوسطاً، من الذي قال لك إن هذا هو الاعتدال؟ إذا كان هذا الذي يفعله بعض الناس اليوم من الرضا بالمنكرات في بيوتهم، وتربية بناتهم على التبرج والسفور، والسماح للزوجات أن تكون الواحدة منهن خراجة ولاجة، لا شغل لها إلا الذهاب والإياب، ولا يعرف شيئاً عن بيته، فلا يبالي أن يكون هو الذي سعى في تدمير بيته وتدمير أسرته.
كثيرٌ غشوا زوجاتهم وأولادهم وبناتهم وضيعوهم غاية الضياع، وأهملوهم غاية الإهمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيمن كان هذا حاله: (يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة).
إن غاية الإثم أن يضيع الواحد من يقوت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) وملاك ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] كل واحدٍ منكم من يسمعني الآن، أو يسمع هذا الكلام بالشريط بعد الآن، كل واحدٍ منكم إما أن يكون أباً، وإما أن يكون ولياً، أو سيكون أباً عن قريب لا بد أن يتحمل مسئوليته وأن يستعد لهذه الأمانة التي ثقلت على السماوات والأرض وحملها الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
أخي الحبيب: إنك يوم أن تعتني بصلاح أولادك وتعتني بتربيتهم وتترك كثيراً من حظوظ نفسك وشهواتها من السهر مع أصدقائك وزملائك، وتحرم نفسك من بعضها في سفراتك وذهابك وإيابك، لتجعل أهلك وأولادك أحق بذلك من هذا كله تذكر أنك تساهم في بناء مجتمعٍ صالح، وتسعى في تكوين أمة مسلمةٍ، نحن بأمس الحاجة إلى إيقاظ جذوة الوعي والشعور اليقظ فيها، يقول ابن القيم رحمه الله: وكم من رجل أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء.
اسمع هذه الكلمة من مربٍ فاضل وعالمٍ جليل يقول: وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته: -يعني: أغلب فساد الأولاد- من قبل الآباء، انتهى كلام ابن القيم من تحفة المودود في أحكام المولود.
أحبتي في الله: بعض الآباء الكرام إذا رأى من أولاده تمرداً أو انحرافاً بدأ يتذمر ويشتكي، وما علم أنه هو السبب الأول في ذلك التمرد والانحراف، بل شأنه كما قال الأول:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
بل يجعل ولده كغنمة في قطيع من السباع والذئاب ويقول: من الذي نهشها؟ من الذي تعرض لها؟ من الذي اعتدى عليها؟!
ومن رعى غنماً في أرضِ مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
هذا شيء لا شك فيه، والخلاصة: أن بعض الآباء يدري ما يعمل ابنه لكنه يتعامى وكأنه ما رأى، يقال له: يا فلان! ولدك رئي البارحة ومعه باكت دخان ويدخن في والزاوية الفلانية، يقول: سيهديه الله إن شاء الله، يا فلان! ولدك رئي البارحة مع شباب أكبر منه سناً سيماهم سيما أهل الفجور، يقول: سيهديه الله سيهديه الله، وهو ولد ليس عليه خطر فهو رجل، الخطر على الحرمة -على الأنثى- أما الولد ما عليه خطر، يا فلان! ولدك تغيب عن المدرسة يقول: بكيفه إن نجح فلنفسه، وإن فشل فعلى نفسه، يا فلان! الولد ظهرت عليه العلامات التالية، بل وأقبح من ذلك جريمة الأم التي تتستر على جرائم الأولاد، أم تفتش ثياب الولد تجد سيجارة فتقول: اسكت اسكت وتنتبه أن يعلم أبوه، صبوا عليها سيبون في الحمام وكأننا ما رأينا ولا درينا، لو درى عنه سيذبحه، دعيه يقطعه، دعيه يجلده، هذا أوان التأديب، لكن جريمة من الولد يتبعها جريمة تسترها الأم، ويكملها جريمة غفلة الأب، ثم تكون النتيجة ما يكرهه الإنسان ولا يحمد عاقبته.(78/6)
المجتمع وتعاونه في تربية الأبناء
وينبغي لنا أيضاً أن نكون عوناً لبعضنا في تربية أولادنا، نعم هي مسئولية توجه لكل أبٍ ولكل أم ولكل وليٍ مباشرة، لكن ولنا حقوق متبادلة تجاه بعضنا، فأنت إذا رأيت من أولادي أمراً غريباً فأخبرني، وأنا إذا رأيت من أولادك أمراً عجيباً أنبئك ونتبادل الحديث، وننتبه لهذه المسألة، بل إن بعض الآباء -وهذه سنة حسنة في أحد الأحياء- لاحظوا ملاحظة أن أناساً شباباً كباراً يأتون إلى حيهم وهم ليسوا من سكان الحي، شباب كبار كما يسمون من (الدشر) ينتقلون من أحياء إلى أحياء ثانية، الذي معه السيارة الفخمة، والذي معه سيارة ملونة ويبدءون يغرون الصغار والسفهاء بمختلف الأساليب كما تدور الثعالب على ديكٍ فوق الشجرة، ما الذي يحصل لما رأى رجال ذلك الحي أن غرباء سيماهم لا تنبئ بخير قد جاءوا يترددون في حيهم بسياراتهم وتصرفاتهم، ويأتون في أوقاتٍ مريبة بهيئاتٍ وأشكالٍ عجيبة، قاموا وسوروا أرضاً وسط الحي، واستدعوا رجلاً مربياً فاضلاً من أهل القرآن وقالوا: نعطيك جعلاً، نعطيك مالاً شهرياً، أولادنا هؤلاء الذين يخرجون من البيوت بحجة لعب الكرة، أنت المسئول تجلس معهم من بعد العصر إلى مغيب الشمس، وأول ما تبدأ معهم جلسة الشاي واقرأ أنت وإياهم ولو نصف صفحة من القرآن ثم اجعلهم يلعبون الكرة أمام عينيك أمام هذا السور المسور، أمام أعينكم جميعاً وإذا أراد رجل غريب أن يدخل عليهم فلا تسمح له وامنعهم عنه، ما هي إلا أيام بعد أن نفذوا الفكرة حتى أصبح الحي نقياً سليماً خالياً من تلك الذئاب الزائرة التي تزور لتقتنص من أطفال الحي والمراهقين فيه بين الفينة والأخرى.
إذاً حتى مسئولية إصلاح الأبناء نتبادل التعاون فيها ونتبادل الأدوار فيها، وليس هذا والله بكثيرٍ أبداً.(78/7)
الاعتناء بالأبناء في الصغر له ثمرة في الكبر
أخي الحبيب: إننا حينما نعتني بتربية الأولاد منذ بداية نشأتهم -كما قلت- ندخر جهداً ومالاً ووقتاً كثيراً في التوجيه حال بلوغهم سن المراهقة، الأمر الآخر أننا بأمس الحاجة أن نقطف ثمراتٍ نحن غرسنا بذورها بأيدينا، نحن في أمس الحاجة أن يستمر عملنا الصالح بعد موتنا، أوليس الواحد منا يحز في نفسه وفي فؤاده أنه إذا مات انقطع عمله، فما عاد كما كان في الدنيا يصلي صلاةً ويستغفر ويذكر ويتصدق، ويجاهد ويدعو ويعمل ويعين ويغيث ويناصح، انقطعت الأعمال، إلا إذا كنت ممن اعتنوا بتربية أولادهم منذ نشأتهم فإنك من الذين لا تنقطع أعمالهم بعد موتهم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالحٌ يدعو له، وعلمٍ ينتفع به، وصدقة جارية) فأنت إذا ربيت أولادك تربية حسنة ثق أن الحسنات لا تزال تجري عليك، ولا تزال يوماً بعد يوم في نعيم، وفي سعادة وفي أنس، وفي رفعة درجات، بل تلقى الله يوم القيامة بخيرٍ ما خطر على بالك، وتقول: يا رب! أنا من أين جيء لي بهذا الخير؟ فيقال: بصلاح ولدك من بعدك، لكن إن كنت ممن يهمهم أمر العمل الصالح كما كان السلف رضوان الله عليهم والصحابة، فـ معاذ رضي الله عنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل: [ما يبكيك يا صاحب رسول الله؟ قال: والله ما أبكي على فراق دنياكم هذه، لكنني أبكي على فراق قيام ليالي الشتاء وصيام أيام الهواجر، ومجالسة أقوامٍ ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله] يبكي مع أنه من جبال العمل الصالح، لا يبكي على الموت وفراق ملذات الدنيا، بل يبكي على العمل الصالح أنه سينقطع مع أنهم خلدوا حسناتٍ وصدقاتٍ جارية ماضية، رضوان الله عليهم وجمعنا بهم في الجنة.
فأنتم -يا أحبابي- الواحد منكم عمره أربعون سنة: (أعمار أمتي بين الستين والسبعين وقليلٌ من يجاوز) عمرك خمسون، بقي عشر سنوات، عمرك ستين استعد: (قد أعذر الله لامرئ بلغه الستين من عمره) عمرك أربعون إذاً فقد بلغت أشدك: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [الأحقاف:15] فأياً كان عمرك فاستعد للرحيل.
ومما يحز في خاطرنا جميعاً أن الواحد إذا تفكر في الرحيل تقطع قلبه ويقول: أنا الآن في المقبرة، تخيل نفسك الآن وأنت في المقبرة، من يصلي عنك؟ من يتصدق عنك؟ من يصوم عنك؟ من يعمل صالحاً عنك؟ كما كان أحد السلف يفعل يقول: إذا قسا قلبي وضعفت نفسي عن الطاعة ذهبت إلى المقابر فجلست في اللحد وقلت: يا فلان! هأنت الآن في دار البرزخ فمن يصلي عنك من يصوم من يتصدق عنك من يجاهد عنك من يعمل صالحاً عنك؟ قال: ثم أقول: لا إن لي فرصة في الدنيا فأخرج وأبادر نفسي في العمل الصالح، لكن إذا مات الإنسان وانقطع عمله فالولد من أعظم الصدقات الجارية والحسنات التي تمضي ولا تنقطع بإذن الله عز وجل لمن اعتنى بتنشئة ولده وتربيته، أسأل الله أن يعيننا وإياكم على تربيتهم، وأن يقر أعيننا وإياكم بصلاح ذرياتنا.(78/8)
خطر إهمال تربية الأبناء
أحبتي في الله: لما أهمل الأولاد وضيعت حقوقهم؛ ضاقت السجون بمن فيها، وسائلوا دور الأحداث والإصلاحيات، يأتكم إخوانكم فيها بالخبر اليقين، ويصورون لكم حالة الضياع والمتاهات التي يتخبط فيها كثيرٌ من الشباب والأحداث اليوم، بل تصفحوا أرقام وإحصائيات ما يسمى بجنح الأحداث، تجدون من الأمر عجبا، بل ما نجده في أسواقنا وشوارعنا ومفارق طرقنا من هيئاتٍ عجيبة، وبزاتٍ مقززة، وقصات غريبة، وتسكع ومطاردة للنساء، وإغواء للأحداث ما هو إلا أن التربية والرعاية وأمانة الأبناء قد أهملت عند كثير من الآباء إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم.
اليوم تصفحت أوراقاً فإذا بي أجد قصة ولدٍ حدثٍ عمره ستة عشر عاماً يقتل ولداً آخر عمره خمسة عشر عاماً طعناً بالسكين، ولعل الشيخ -حفظه الله- ممن عملوا أو لا زالوا يعملون الآن في ما يسمى بإصلاحيات أو دور الأحداث، وقد ذكر لي شيئاً وذكر لي بعض زملائه الفضلاء من أمثاله أشياء يشيب لهولها الولدان، أطفال صغار تربوا تربية بين الآباء والأمهات إلا أنهم تخرجوا ذئاباً مفترسة ووحوشاً كاسرة وهم في بيوتٍ قد امتلأت بالذرية والآباء والأمهات والأبناء والبنات، والسبب الإهمال، وللأسف فبعض الآباء يعلم ولده كيف يكون شرساً، وكيف يكون ظالماً، وكيف يكون معتدياً يقول لابنه: افطن، انتبه لا يأكلوك، خذ منهم ولا تعطهم، اسرقهم لا يسرقوك، هذا من الجهل، هذه من الحماقات ومن عادات الجاهلية التي تعود أصحابها النصب وقطع الطرق واللصوصية.
رجل يخبرني يقول: تركت بيتي ورحلت عن الحي الذي كنت أسكنه بسبب أن الدراجة التي تخص ولدي سرقها ولد الجيران، قال: فذهبنا إليهم نريد أن نأخذها، قال: فخرج علينا والده فحييته وسلمت عليه وقلت: أنا جارك فلان ولدي يقول: إن دراجته أخذها ولدك، فاستدعى ولده قال: دراجة فلان عندك قال: نعم.
قال: هل تردها له؟! -يشاوره سبحان الله العلي العظيم! هل يحتاج رد المظلمة ورد المال المغصوب إلى مشاورة؟ - وأقبح من ذلك أنه قال له: إذا تريد أن تعطيه فبكيفك! لا يجوز أن نربي أولادنا على هذه العادات القبيحة السيئة، والبعض هو الذي شجع ولده على السطو والجريمة وعلى الاعتداء بحجة: أريده فحلاً رجلاً أعوده الرجولة، ويمكن أن يتعلم الرجولة بدون أن يتعلم الظلم، يمكن أن يتعلم قوة الشخصية دون أن يتعلم الكذب والخيانة، يمكن أن يتعلم الثقة بالنفس دون أن يتعلم اللؤم وخسة الطباع، لكن للأسف بعض الآباء هداهم الله لا يزال في جاهلية جهلاء.
وبعض الآباء لا يبالون هل الولد في خير أم في شر؟ ربما منَّ الله على ولده بصحبة صالحة انتشلوا ولده فليس بجهده ولا بجهد أمه ولا أخواله ولا أعمامه، بل بفضل الله ثم فضل جلساء طيبين صالحين، في مكتبة المسجد، أو في جمعية المدرسة، أو في المعهد، التفوا حول هذا الولد وانتشلوه، فتجد في البيت الواحد أبناء صالحين، وأبناء فجاراً ضالين ولا حول ولا قوة إلا بالله! والسبب لا يعود إلى الآباء والأمهات بصلة، بل عائدٌ أول شيء إلى هؤلاء الذين أحاطوا به، وبعضهم أحاط بهم أهل السوء فأصبح سيئاً، وبعضهم أحاط به أهل الضلالة فأصبح ضالا.(78/9)
توجيه الأبناء بالتي هي أحسن
أحبتي في الله: لو لم يكن توجيه الأبناء أمراً عظيماً مهماً لما تكرر ذكره في القرآن في مواضع شتى، يقول الله عز وجل وهو يقص علينا وصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] أنا أجزم وأقطع يقيناً أن نسبة (90%) أو (80%) من الآباء قلَّ منهم من نصح ولده نصيحة مباشرة، نعم الأغلبية الساحقة لم يعرف إلا سبابه وشتيمته، يا خسيس يا كلب يا فاجر يالذي فيك ويعوده من العبارات ما يركب الولد شخصيته على ما يسمع، فإذا قال له الأب: يا حمار؛ فعند ذلك الولد مستعد أنه ينهق ويتحمل الأثقال، ويكون غبياً وتافهاً وركوباً وحمولاً.
وإذا قال له أبوه: يا مكار يا مخادع؛ أصبح يتفنن في ابتكار الخدع والأحابيل ونصب الشباك للناس، فبعض الآباء يظن أنه ينصح والحقيقة أنه يسب أولاده، وهذه أيضاً خصلة قبيحة خسيسة! إياك أن تسب أولادك! إياك أن تشتمهم! إياك أن تعطيهم من العبارات السيئة التي لا تليق! فقد تكون سبباً في إحباط وإجهاض الآمال والمعالم التي يطمحون أن يصلوا إليها، بل عودهم أنك تراهم في عينك قمماً ورجالاً وتراهم جبالاً، اجلس معهم وقل لهم: يا أولادي! الصدق منجاة، الصدق سببٌ إلى الجنة، الصدق يهدي إلى البر، والرجل الذي يصدق يحبه الله عز وجل، الصدق كله خير وعاقبته خير، والكذب أمرٌ خسيس ورديء، والكذب من صفات المنافقين، والكذب من صفات أهل النار.
ما تجد إلا القليل منا من يناصح أولاده، اليوم كلمة عن الأمانة، فالأمانة أمرها عظيم، والأنبياء هم أهل الأمانة، والعلماء من بعدهم يتحملون الأمانة، والأمانة لا يحافظ عليها إلا المؤمن التقي، والذي يخون فهو من أهل النار، والخيانة صفة ذميمة، أعطهم قصة أو قصتين، مثلاً أو مثلين، بيتاً أو بيتين عن الخيانة، لا بد بين الفترة والأخرى من أن تعطيهم نصائح عن الصدق عن الأمانة عن الوفاء عن التعاون عن الإيثار عن التواضع عن المحبة، تحذرهم من الكبر من احتقار الناس من أذية الناس من الحسد من الحقد، تارة تحذر من أشياء، وتارة تنصح بأشياء، لكن للأسف كثير منا لا ينصح أولاده أبداً! والأدهى والأمر أن بعض الآباء تجده رجلاً صالحاً، من أهل الصلاة ومن أهل الصلاح، إلا أنه لم يعرف كيف ينصح أولاده، ويظن البعض أنه يحتاج إلى أن يكون كـ سحبان بن وائل في الخطابة، أو ثابت بن قيس، أو حسان في الشعر حتى يؤثر عليهم، لا.
بالكلمة الدارجة وبالعبارة المفهومة وباللغة الطبيعية التي تحدثهم بها في البيت، ناصحهم وحذرهم، ومرهم وانههم وازجرهم فبهذا يتربون وهم لا يزالون صغاراً.(78/10)
الأمهات وإهمالهن للبنات
كذلك الأم، بعض الأمهات لا يعنيها أمر ابنتها، سماعة الهاتف في أذن ابنتها من بعد العصر إلى أذان العشاء، أو من بعد العشاء إلى منتصف الليل، تكلم زميلاتها، كل هذه دراسة؟! كل هذه واجبات؟! كل هذا دراسة ومذاكرة واختبارات تتعلق بالدراسة؟! ما المانع أن تقول الأم: بنيتي! أعطيني زميلتك هذه أسألها عن اسم أمها، أمن آل فلان أو من آل فلان؟ دعيني أتعرف عليهم من أي بيت؟ من أي عائلة؟ من أي قبيلة؟ من أي حمولة؟ على الأقل تتأكد الأم وتعرف.
بعض البيوت البنت لها هاتف خاص في حجرتها، ولا يدري أهل البيت من يتصل بها ومن لا يتصل، وهذه من الأسباب التي أدت إلى ضياع كثير من البنات، والذي يريد أن يتأكد من هذه الحقيقة فليسأل رجال الهيئة، وجود هاتف وخط مفتوح للبنت في غرفة نومها من أسباب انحرافها، نحن لا ندعو إلى الشك، لكن ندعو إلى حماية الأبناء من الشر، بعض الناس يضع كأس الخمر ويقول: والله ما في داعي للشك أنهم يشربون، يا أخي! لا تضع الخمر ولا تشك.
قالوا لرجل من البادية: إذا وطيت الجني قل: باسم الله، قال: لا تطأ الجني ولا تسمِّ من أولها، فما هناك حاجة أنك تجعل في غرفة كل ولد وكل بنت هاتفاً خاصاً، التليفون في الصالة نعرف من المتصل ومن الطالب، المتصل هو داخلٌ إلى داخل البيت بلا استئذان، الذي يطرق الباب على الأقل ويقف في الشارع وأهل البيت يعرفون أن الباب طرق، ومن هو وماذا يريد؟ لكن الداخل عبر الهاتف شأنه عظيم، يدخل إلى البيت بغير استئذان، وربما يأخذ أسرار البيوت ويعرف ماذا يدور فيها بغير رضاً من أهلها أو لا حاجة له في ذلك، بل ربما يخطط لسوءٍ ويدبر مكيدة وشراً عليه، لذا كان من الواجب أن نتخذ الأساليب التي تدعو إلى الحيطة ثم لا نشك.
البعض يقول: أنتم -يا مطاوعة- ما عندكم إلا الشك، إن ذهبت البنت للسوق شككتم فيها، وإن رفعت السماعة شككتم فيها، وإن جاءتها زميلتها شككتم فيها، لا يا أخي الحبيب! نحن منهيون عن التجسس، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولكن مأمورون بالاحتياط والحذر وعدم الإهمال، وهذه من أهم الأمور، أقول: إن بعض الأمهات لم تنصح ابنتها يوماً من الأيام، كثير من الأمهات لم تحدث ابنتها عن النتائج الوخيمة التي حلت بكثيرٍ من الفتيات اللائى أصبحن يتبادلن الغرام مع شباب يعاكسون عبر الهاتف، بل إن البعض تقول: والله أنا لا أدري البنت هذه ليست طبيعية فقط، ليست طبيعية وساكتة على الموضوع؟!! وبعضهم يقول: الولد هذا ليس طبيعياً، والله لا أدري، وساكت عن الموضوع، كذلك وراضٍ ولا حول ولا قوة إلا بالله!! كل هذه المشاكل التي يتضايق منها الكثير من الآباء والأمهات نستطيع أن نتجنبها، فإذا اعتنينا بالأطفال وهم صغار فإننا نستطيع أن نتحاشى وأن نتجنب الكثير من المشكلات العظيمة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) ولا يلزم أن ابن عشر يمكن أن يقرب أخته أو يزني بها، لكن التربية تقتضي أن تجعل الخط واضحاً ومستقيماً، بلغ عشر سنين؛ إذاً يفرق بينه وبين إخوته في المضجع، يكون في حجرة أو هي في حجرة، إذا كان البيت صغيراً جداً فالأم في وسط والأولاد في طرف والبنات في طرفٍ آخر، لا بد من التصرف بحكمة بالغة حتى لا نندم ولات ساعة مندم أو نعض على أصابع الندم ولا ينفع حينئذٍ ندم.(78/11)
تعويد الطفل على فعل الطاعة وترك المعصية
أحبتنا في الله: من المعلوم والمشاهد بالتجربة أن الصغير إذا تعود شيئاً ونشأ عليه اعتاده وسهل عليه كبيراً وكما قال الأول:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجٍ ولكن يعوده التدين أقربوه
ولكن إذا كان الآباء والأمهات ما عودوه على الخير، ولا على التدين؛ الأب يصلي ويتركهم على فرشهم، والأم تفرش السجادة وتصلي ولا تسأل بناتها صلين أم لم يصلين، أما إذا جاء موعد الاختبارات، أو مواسم الدراسة، أو جاءت الساعة السابعة إلا ربع، أو ستة ونصف صباحاً، والله ما أخذت فسحتك؟ والله ما أفطرت يا فلان؟ والله ما أخذت شرابك؟ والله ما لبست الجزمة؟ يتفقدون الولد من رأسه إلى قدمه، كل ما على جسمه يتفقد لكن ما يتعلق بقلبه لا يتفقد أبداً، في حين أن الولد إذا عُوِّد على شيء تعوده، وأخذه يقين بدون الحاجة إلى أي برهان أو دليل، لكن إذا ضيعته وأردت أن ترده من جديد فدبر لك مائة حجة ومائة برهان ومائة دليل، لأجل أن تقنعه بالرجوع إلى الصراط المستقيم الذي تريده أنت.
يقول لي أحد الأحباب وهو رجلٍ صالح قال: إني مما عودت أولادي عليه أن أحذرهم من تعليق الصور على الجدران، وأقول لهم: إن تعليق الصور أمرٌ لا يجوز ومنهيٌ عنه، وقد يكون سبباً في عدم دخول الملائكة إلى هذه المنازل إلى غير ذلك، قال: في ذات يوم حصلت مشاجرة بين أحد الأطفال مع أخيه الأصغر ولعل أمه قست عليه في العقوبة قال: فما كان منه إلا أن تهددها وقال: والله إذا ضربتيني سوف أعلق صورة في الجدار فأدع الملائكة لا تدخل بيتنا، مقتنع تماماً بيقين أن التعليق أمرٌ يعني عدم دخول الملائكة، فأنت إذا علمت الصغار كل شيء منذ الصغر فذلك أمرٌ مهمٌ جداً.(78/12)
التربية على كره أهل المعاصي وحب أهل الطاعة
كذلك من الأمور المهمة في مسألة التوجيه والتربية، وأبناؤنا أمانة في أعناقنا، أن نربيهم على كره المعاصي وأهلها، وحب الطاعات وأهلها، فنعود أبناءنا، حب أهل الخير، وحب العلماء وحب الصالحين، وإكرامهم وتبجيلهم وتقديرهم واحترامهم، وفي المقابل نعودهم على بغض أهل المعاصي، وإذا رأينا أمراً من أمور المعصية أو وقعت أعينهم على صورة مُهَرِّجٍ أو مطربة أو مغنية أو فاجر أو فاسق، لا بد أن يسمعوا منا عبارات هم في داخل عقولهم يحكمون، ويكونون تصوراً، ويفهمون أن هذه صورة مرفوضة منبوذة غير مقبولة لا ينبغي أن يكون الإنسان في مثل هذه الصورة أبداً بل ينكرون إذا رأوا أحداً يفعلها، ولذلك تجد الأطفال الذين تربوا في بيوت الإيمان والصلاح والاستقامة إذا زاروا أقارب لهم ورأوا أطفالهم قد علقوا الملابس التي عليها الصور قالوا: انظر الطفل معلق صورة على صدره!! -لأن الطفل تعود في تربيتنا له في بيتنا أنه لا يلبس هذا الشيء- يا أماه! انظري هذه بنت مظهرة لأرجلها ولا تستحي، ما تسترت؛ لأننا عودناها وإن كانوا أطفالاً لم يبلغوا أن البنت تستر العورة، ولا يخرج من عورتها شيء، الطفل يقول: انظر يا أبي! هذا يشرب الدخان، هذا يفعل كذا! لأنك ربيته على ذلك، كيف ينكر؟ لأنك من قبل ربيته على أن التدخين من أسباب السخط والعقوبة، وأنه محرم ولا يليق ولا يجوز، علمت الأم ابنتها أن التبرج منه أن تخرج المرأة ساقيها أو فخذيها، وأن اللبس الذي يكون فيه شيء من الصور لا يجوز وغير ذلك، فأنت علمته أشياء، لما رأى ضدها صار عنده معادلة داخلية، تعلم من أهله أن هذا لا يليق، ورأى أناساً ينفذون هذه الأمور ويتلبسون بها وهي لا تليق، فكانت النتيجة الصحيحة أن الطفل الصحيح ينكر هذه المشاهد.
الطفل الذي تربى تربية صحيحة، تقول له: تتمنى أن تصبح فناناً؟ يقول: أعوذ بالله، أنا لا أرضى أن أكون فناناً، وقد يقول كلمات طبعاً لا يلزم بالضرورة أن تكون أحكاماً صحيحة، ولكن الصغير يقول: هذا في النار، مباشرة! لأنه تعلم أن هذا أمر لا يليق أبداً، وتسأله تريد أن تصبح أستاذاً؟ يقول: نعم.
أريد أن أصير أستاذاً أصير طياراً أصير إماماً أصير شيخاً ولو قلت لاثنين من الأولاد الصالحين: هذا فنان وهذا شيخ، سيغضب الذي قلت له: فنان، ولا يقبل ولا يرضى؛ لأنه تعود وعنده صورة أن صورة الفنان حقيرة خسيسة تافهة، وصورة الشيخ صورة جليلة مهمة، فهو يتمنى أن يطلق عليه الصورة التي تليق، ويتمناها ويحبها، نحن ينبغي أن نربي أولادنا على مثل هذا الأمر.
صحيح أن الأطفال لا يفهمون الكثير من القضايا الفكرية لكن التربية تختزل أشياء كثيرة جداً جداً وخاصة في مرحلة الطفولة، فمبدأ تبغيض المعاصي وتكريه المحرمات في نفوس الأطفال بحيث يبدأ الطفل يكره الشر والأشرار، ويحب الخير والأخيار هذا يجعله -ولله الحمد- على درجة مهمة جداً، بل وفي القرآن ما يؤكد ذلك، كما قال تعالى على لسان لقمان عليه السلام وهو ينصح ولده: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19] يبغض له الصياح والإزعاج الذي ليس له داعٍ ولا موجب ويقول: هذا الذي يزعق بالصوت مثل الحمار-أجلكم الله- فلنا في هذا حجة قرآنية: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] كل هذا مما يؤكد على أن بيان الصورة السيئة الكريهة، وجعل الطفل يمقتها ويبغضها ويكرهها، أمرٌ في غاية الأهمية.(78/13)
رقابة الأبناء وتربيتهم روحياً
أعود لأكرر -أيها الأحبة- إن بعض الآباء الكرام والأمهات والأولياء يجتهدون في التربية والوعظ والتوجيه لكن دونما رقابة أو متابعة في تطبيق ما ربوا أولادهم عليه، ليس من الحكمة أن نترك للأولاد والبنات الحبل على الغارب.
أين يذهبون؟ متى يأتون؟ من يصاحبون؟ كيف سلوكهم في المدارس؟ ماذا يحملون في حقائبهم؟ ماذا يقرءون؟ ماذا يسمعون؟ ماذا يرون؟ أسئلة جوابها لا يمكن أن نراه أو نجده إلا بالمتابعة والرقابة اللطيفة، والسؤال الحثيث في المنزل والحارة والمدرسة؛ مع المدرس والمدرسة ومع الجيران، نستطيع من خلال ذلك أن نحكم وأن نكتشف إلى أي درجة وصلت شخصية هذا الولد، ولكن أيضاً بطريقة لا تشعر الأولاد والبنات بأنهم جنودٌ في ثكنة عسكرية أو كأنهم متهمون تلاحقهم الجواسيس.
مسألة مهمة تتعلق بالتربية الروحية، كثيرون يعتقدون أن دورهم على توفير الطعام والشراب، والترفيه والدواء والعلاج، والحقيقة أن كثيراً من هؤلاء قد نسوا أن تربية الروح وتهذيب النفس مطلبٌ من أهم المطالب
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ(78/14)
غياب الآباء سبب في ضياع الأبناء
أحبتنا في الله: الغياب والفراغ، وعدم التواجد أو الحضور، بعض الآباء غائبٌ غياباً كلياً، مع أنه حيٌ لم يوسد الثرى بل يمشي على الثرى، بل غياب بعض الأمهات عجيبٌ ومريب، السبت في زواج، والأحد في الملاهي، والإثنين في الحدائق، والثلاثاء مع الصديقات، والأربعاء عطلة الأسبوع وهلم جرا، ليس للبنات من حظها نصيبٌ أبداً، أولئك الذين تيتم أولادهم وهم لا زالوا على قيد الحياة، بل إن الأيتام يلتفت لهم الناس فيرحمونهم ويعتنون بهم، ويحسنون إليهم، ويعينونهم، ويتفقدون أحوالهم؛ لأن الناس قد أيقنوا أن الأب أو الأم قد ماتوا أو ماتوا جميعاً، لكن هؤلاء الأولاد والبنات الذين هم في بيوت آباءٍ وأمهات كلهم قد غفلوا وغابوا ولم يلتفتوا إلى حجم المسئولية، وخطورة المرحلة، وفداحة المتغيرات ذلك الأب الذي اتسعت خارطة أعماله لكل شيء لكنها لم تتسع لفلذة كبده وقرة عينه.
نعم أيها الأحبة! صدق القائل:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
إذا غاب الأب خلف تجارته وعقاراته وشهواته فمن يقوم مقامه؟ إذا غابت الأم خلف الموضات والحفلات والترفيه والصديقات فمن يقوم مقامها؟ يا للأسف! إنهما يسلمان أمر الأبناء للسائق والخادمة ناهيكم عن الذئاب البشرية المتربصة بالشباب.(78/15)
خطر التناقض في شخصية الأب أمام الابن
وختاماً: إن كثيراً من الآباء يأمرون وينهون لكنهم لا يجدون استجابة، والسبب: أنهم يكسرون ما بنوا أمام أعين أولادهم، ويهتكون أستاراً نصبوها أمام أعين أولادهم، ويتناقضون أمام أعين أولادهم، ويعلمون أولادهم النفاق، كيف؟ تجده ينهى عن شيءٍ فيرتكبه، ويأمر بواجبٍ فلا يفعله، حربائيٌ متقلب؛ في بيته له صورة، وأمام الناس له صورة أخرى، فتنطبع هذه الصفات وهذه السلوكيات من الأب إلى الابن فيصبح الابن حربائياً أمام أبيه دين، ووراء أبيه فاجر، لأن أباه طبق نفس العملية، والولد اكتشف مسألة ليست سهلة، لا تتصور أن الولد سهل تفوت عليه التناقضات، هو يرى الصور الصحيحة ويخزنها، فإذا استمرت الصور الصحيحة لا يرى إلا الصحيح والذي ينبغي أن يكون، لكن إذا وجد صورة صحيحة وتناقضها صورة سيئة، وصورة حميدة وتناقضها صورة خسيسة، يقول: إذاً ممكن الإنسان في الحياة أن يجمع بين الصدق والكذب بين الأمانة والخيانة والخسة بين الخير والشر بين البر والفجور بين الصلاح والفساد، ويمكن أن يتعايش تعاشياً سلمياً في شخصيته، ويستمر في هذا الانفصام النكد ولا حول ولا قوة إلا بالله! الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] ازدواجية التربية (تناقض القول والفعل) أمرٌ غريبٌ جداً! في سنن أبي داود وسنن البيهقي عن عبد الله بن عامر قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا فقالت: تعال أعطيك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه؟ قالت: أردت أن أعطيه تمرة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) فكم أعطينا أبناءنا من كذب بحجم لا يخطر على بال، بل كثيرٌ من الناس يقول: انظر هذا الصغير عجيب هذا حجمه ويكذب هذه الكذبة الكبيرة! ما تعلمها إلا من أبيه الداهية مصنع الكذب، هو فقط صدر وحدة من المنتجات، لكن المصنع كان من عند الوالد أو الوالدة، فينبغي أن نلتفت لمثل هذه القضايا.
إياك أن يكتشف أولادك أو أن يروا منك تناقضاً في كلامك وسلوكك وأفعالك وتصرفاتك، وإذا حصل ذات يوم أن رأوا تناقضاً؛ فيلزم عليك أن تعلمهم بأن هذا خطأ، أنا وقعت في هذا الخطأ من حيث لا أشعر، المهم انتبه أن يستقر في أذهانهم أن هذا أمر طبيعي يمكن أن يكون له وجهان وشخصيتان وأمران وحالان ووضعان إلى غير ذلك، وعند الإمام أحمد وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من قال لصبيٍ: تعال هاك؛ ثم لم يعطه فهي كذبة).
إذاً أيها الأحبة! لا بد أن يشعر الوالد وتشعر الأم أنهم الأنموذج الأمثل للقدوة، وأنه يتأسون ويقتدى بهم، وأن الأولاد ينقلون عنهم كل شيء: (كل مولودٌ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) إن كان الأب يهودياً هود أولاده، وإن كان الأبوان نصرانيين نصرا أولادهما بالوراثة بالانتقال بالسلوك بالفكرة بالتعايش، إن كانوا يهوداً نقلوا بمثل ذلك، فالتأثير واضح: يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، والولد -كما قيل- سر أبيه.
لعلنا نكتفي بهذا أيها الأحبة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(78/16)
الأسئلة(78/17)
كيفية تحبيب الصلاة إلى الطفل واحترام الآخرين
السؤال
سائل يقول: بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: كيف أحبب الصلاة إلى ولدي والحرص عليها ولو لم أكن بالمنزل؟ وقال أيضاً: كيف أعلم ابني حب المسجد واحترامه وتعظيمه خاصة إذا كان صغير السن، وكذلك كيف أربيه على بر الوالدين وبر والدي -أي: أجداده- واحترام الكبار سواءً كانوا أعمامه أو أخواله أو معلميه أو مدرس حلقة القرآن والمسلمين عموماً عرباً أو عجماً، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
هذا سؤال جيد أخي الحبيب! كما مر معنا:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
إذا كان ولدك يراك تهتم بالصلاة اهتماماً واضحاً فإذا سمعت الأذان رميت بكل شيءٍ في يدك، وإن كنت تعرف ما تعمد إليه من قصد الوضوء ولكن تبين للأولاد أنه إذا أذن فهذا الوقت الذي بعد الأذان لا بد أن يكون للاستعداد للصلاة.
هيا جهزوا لي كذا من أجل أصلي، جهزوا ثوبي لأني أريد أن أخرج للصلاة، طبعاً الأم والكبار عارفون؛ لكن من أجل الصغار حتى يعرفوا اهتمام الأب عند الأذان هذه مسألة مهمة، إذا رأوك تبادر لها أسفاً غير راضٍ لأن الصلاة فاتت، أو تكبيرة الإحرام فاتت، يتعلمون هذا منك ويسابقونك -بإذن الله- إلى المسجد، أما إذا رأوا أباهم يُؤذن المؤذن ثم يقول: أريد أن أنام، وإذا بقي على الإقامة خمس دقائق فأيقظوني، ويقول مثلك: أنا أذهب أنام وإذا صلوا قوموني، يتعلم منك تماماً.
كذلك إذا وعاك ولدك وأنت تقبِّل أباك يده، فسوف يقبل يدك وسوف يقبل يد جده، إذا رآك تحترم أستاذك ولا تغتاب المدرس، أو تطلق عليه عبارات التنقص أو الاحتقار أو الدونية أو غير ذلك فهو سيحترم الأستاذ، أما إذا رآك أمام المدرس تقدره وإذا غبت عنه قلت فيه كذا وكذا.
هو أيضاً سوف يحتقره، فالولد ينقل ما سمع، ويصف ما رأى، فانتبه أن يقع على سمعه منك أمرٌ بذيء أو ترى عينه منك ما لا يليق، إذا عودت ولدك على هذا الأمر منذ البداية.
أنا أذكر عندما كنا صغاراً هذا الكلام من قبل ثلاثين سنة، كنا نذكر لنا جيراناً يأتي بهم آباؤهم وعيونهم مغمضة لم يصحوا من النوم بعد، ويدخلون دورة مياه المسجد ويتوضئون فيها ويدخلون المسجد، ومرت السنون وكبر هؤلاء وتزوجوا وجاءهم أولاد، وبعد سنين طويلة انتقلنا من الأحياء القديمة إلى الأحياء الجديدة، وسكنوا أيضاً في الحي الذي نحن فيه الآن، هؤلاء الذين كانت أعينهم لا تكاد تفتح عند دورات المياه يتوضئون في المسجد أولادهم نفس الصورة، يؤتى بهم إلى المسجد ويذهبون لدورة المياه خاصة في غير الشتاء، ويتوضئون ويدخلون المسجد، وتلقى الطفل الذي نراه في هذه الأيام بنفس الصورة التي كنا نرى أباه فيها، لأنه عود على خير فنشأ عليه وشب عليه وكبر عليه، وأنجب ذرية ورباهم على ما تعوده من أبيه، وهكذا التربية وراثة.
بعض الإخوة يقول: أنا تفاجأت عندما رأيت بناتي يقبلون رِجْلَ أمهم، مع أنهم ما رأوني يوماً من الأيام أقبل رجل أمي بمشهدٍ منهم، يعني: ربما كان يزور أمه ويقبل رجلها لكن يقول: كيف انتقل فيهم هذا البر إلى هذه الصفة، وهذا يؤكد فيما يتعلق بالبر أنه دين، فمن بر بوالديه بر به أبناؤه: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) ومن عود أبناءه على شيء تعودوا عليه بإذن الله.
من الوصايا أن الولد إذا أصبح يؤمن تلويثه للمسجد، ويعرف عنه أنه ما يشغل والده ولا المصلين في المسجد، ويسكن مع أبيه وأنه يأتي به ويصلي معه في المسجد، وإذا صلى قال: اذهب سلم على الإمام وحب رأسه، أنت بهذا تنمي في نفسه حب الإمام وحب المسجد منذ صغره قبل أن يعرف الإنترنت والكمبيوتر والأتاري وما يتعلق به، اجعله يتعلق بحلقة القرآن وأغدق عليه من الهدايا، إن كنت مشغولاً دع أمه تختبره، إن حفظت جزء عم أعطيتك مائتين ريال، إن حفظت جزء تبارك لك خمسمائة ريال، قد يقول قائل: من أين نعطيهم هذا الشيء؟ يوجد البعض لا يستطيع لكن الكثير ممن يقول: كيف نعطيه خمسمائة على جزء وهو يصرف ألفاً على الملاهي، ويصرف مئات على معاصي، ويصرف الكثير على أمور لا تنفع أبداً.
يا أحبابي: أشعر أولادك أنك تحبهم، حتى وإن كانوا كباراً، التربية بالحب هذا جانبٌ مفقود، بعض الناس عندنا إذا كبر ولده قليلاً لا يعرف يقبله ولا يحتضنه ولا يضمه ولا يشمه ولا يمزح معه، تصبح علاقة جافة ناشفة، لو يدغدغ ولده قال: لا تمد يدك، وجعله شيئاً مستنكراً غريباً، ما تعود المزاح مع أولاده، صحيح أنهم كبروا لكن لا يمنع أنه يكبر بينكم الصحبة والمودة والمزح والترفيه.
يا أخي الحبيب: أنت تدخل البيت وتمسك أصغر واحد الذي عمره سنة، والباقون لا تسلم عليهم ولا تلتفت لهم ولا تصافحهم ولا تقبلهم، لا يا أخي! إذا أتيت إلى البيت من عمره سبعة عشر سنة فأمسكه وقبله، من عمره ست عشرة ونحوها، بل كل عيالك سلم عليهم وقبلهم، واجعلهم يحسون بحنانك وعطفك، والتفت لهذا الصغير الذي لا يفهم شيئاً ولاعبه ووسع صدرك معه، لا كما يقول البعض: الترفيه للولد الصغير فقط، فهذا يجعل الكبير يجد في نفسه حقداً وعداوة لهذا الذي طرده، كما تعرفون في عادات الأطفال، لكن إذا صار الابن يشعر أن والده يحبه يفعل كثيراً من الواجبات تقديراً لمحبة والده، ويترك كثيراً من المناهي تقديراً لمحبة والده، ولا يزال يكبر على هذا الخير حتى يتعبد الله عز وجل بهذا كله.(78/18)
ظاهرة السب عند الأطفال
السؤال
يقول السائل: إذا كان ابني صغيراً ويسب اكتساباً من أقاربه أثناء زيارته مع أمه أو في مدرسته، فكيف أعاقبه أو أزجره أو أمنعه من السب والشتم والسخرية اللعب؟
الجواب
حقيقة بعض الناس -يا أحبابي- لا يفرق بين الأخطاء الطفولية، أي: هناك أشياء الطفل بطبيعته ينقلها وهو لا يدري، فقد يقول أحسن عبارة ولا يدري، ويقول أقبح عبارة ولا يدري، فإذا حصل أن هذا الطفل نقل كلمة سمعها وتلفظ بها من البداية تضربه وتعاقبه مباشرة أم تجلس معه وتقوله له: يا ولدي! هذا الكلام عيب، وهذا لا يليق، وهذا لا يصح، والذي يقول هذا الكلام يصير له كذا تتفق معه على ألا يردد الكلام؟ أسلوب التفاهم عندنا مفقود، أنا سأعطيكم تجربة وقعت لي، كنت ذات يوم في ألمانيا الغربية عند أحد الأصدقاء (مدير مركز إسلامي في فرانك فورت) وكان ذلك الوقت عندي ولد واحد، هو أكبر أولادي الآن، وفي تلك الفترة لم يكن عندي تجربة مع الأولاد، فدخل عندنا في ذلك المجلس أولاد هذا الشخص (مدير المركز) فبينما نحن جلوس أخذ يخاطبهم -وهم صغار لا يفقهون كلام الكبار- أخذ يخاطبهم وكأنه يكلم عمداء كليات أو أساتذة جامعة، أي: يخاطبهم بأسلوب الكبار، يا فلان! كان أحدهم اسمه عمر والثاني سامي والثالث.
يا أولادي! فلان ابن فلان، عمكم فلان وهذا أتى من المملكة العربية السعودية، وعندنا اجتماع مهم، ونريد أن نجلس وحدنا ولا أحد يزعجنا أو يخبط الباب، وقام يكلمهم وهم منصتون يدعون أنهم يفهمون، لكن عرفوا أن المطلوب أن يخرجوا، فما هي إلا لحظات حتى خرجوا، قلت له: يا أخي! ولدي يزعجني إذا قلت له أخرج أو ادخل قال: لأنك متعود على طرده أو زجره بالأمر والقوة، لكن لو أنك تخاطب الصغير كما تخاطب الكبير لأصبح يفهم، ونحن من عيوبنا أننا لا نخاطب الصغار باللغة الفصحى يعني: العادية، لا أقصد بالفصحى أن تخرج لك مسلسلاً، لا.
إنما أقصد أن تخاطبه بالكلام الطبيعي فعندما تريه مثلاً قطاً صغيراً، وتقول: شوف هذا ثعيل، وهو يحفظ أن الصغير اسمه ثعيل، لكن لو قلت: هذا قط صغير هذا قط صغير فإنه يحفظ أن الصغير اسمه صغير، ونحن نظن أننا لو قلنا: (ثعيل) أن معناه تقريب للمعلومة، والحقيقة أنه يحفظ المسميات خطأ، بسبب أننا نجتهد اجتهاداً خاطئاً، فكذلك الخطاب معهم حينما يكون خطاباً راقياً فإنهم يتأثرون بإذن الله عز وجل.
وهنا مسألة أؤكد عليها وهي: تجديد العهد بين الأب والأم باستمرار كما في سؤال الأخ قبل قليل: كيف يحافظون على الآداب إذا كنت غائباً؟ ينبغي أن الأب إذا أراد أن يسافر أن يقول: يا أم فلان! الأولاد أمانة في رقبتك، أنا مسافر ثلاثة أيام مثلاً، فاجعلهم من رقبتي إلى رقبتك، لا أحد يتخلف عن الفجر، لا أحد يسهر بعد صلاة العشاء، لا أحد يخرج بدون إذنك، لا أحد يتغيب عن المدرسة، لا تسكتين عن شيء، وذلك بالأسلوب الطبيعي حتى تشعر الأم أيضاً أنها تحملت هذه المسئولية، أما كما قلنا غيابٌ من الأب وتواطؤٌ وتسترٌ من الأم، وغفلة من الولد وبه ضاعت الذرية، فينبغي أن نتنبه لذلك.(78/19)
مسألة وعد الأبناء بأشياء مستقبلية دنيوية
السؤال
يقول السائل: أحسن الله إليكم، ما رأيكم بمن يعدون الأبناء بأشياء مستقبلية كشراء سيارة وما شابه ذلك؟
الجواب
لا بأس في ذلك، أنا لا أرى في هذا شيئاً إطلاقاً، قل لولدك: إذا حفظت القرآن سأشتري لك سيارة؛ إذا حفظت عشرة أجزاء أعطيك هيلوكس، وإذا حفظت عشرين جزءً أعطيك كامري، -أيقظ همته- وإذا حفظت جزء واحداً هذه خمسمائة ريال، فلا مانع من ذلك، لأنه لا يزال في مرحلة الماديات والمحسوسات، وذلك أبلغ في التأثير على نفسه من أن تقف له عند مسألة الجنة، لا بأس أن تجعل معها قضية الجنة، فإذا حفظ وأكرمته قلت: الآن من حفظ كتاب الله، وكلما قرأت حرفاً لك حسنة، وكل حسنة بعشرة أمثالها، يا ولدي! يوم القيامة الجنة درجات، وأنت سوف تصعد أعلى درجة -بإذن الله- عند آخر حرف حفظته، عند آخر آية وآخر سورة حفظتها أو قرأتها، تبدأ تقرب له هذه المعاني مع التشويق والتحبيب بالأمور المادية، فهذا لا يمنع، بل هو أمرٌ ينبغي للذي يستطيعه أن يفعله، الذي يستطيع أن يعد أولاده بالجائزة المادية ولو كانت كبيرة فينبغي ألا يتردد في ذلك أبداً.(78/20)
والدي يدخن
السؤال
أحسن الله إليكم، والدي يأمرني بشراء الدخان له، وأنا أرفض ذلك إلا أنني أخشى أن يضربني، فما رأيكم حفظكم الله؟
الجواب
اجتهد ألا تحضر ذلك، ولا بأس أن تشرح له إن كنت في سنٍ يسمح لك أن تتحدث ببيان لوالدك، والله يا أبتِ الله قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] والدخان ضار وقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) والله عز وجل قال: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ولا شك أن هذا من الخبائث وليس من الطيبات، ومع استمرار النصيحة لوالدك فأنت على خير بإذن الله.
وبالمناسبة بعض الأسئلة من هذا الجانب أغلبها فرضية؛ لأن كثيراً من الآباء المدخنين هم لا يتمنون أو يرضون أن أولادهم يدخنون، صحيح أن الولد إذا وقع في التدخين والأب يدخن قال: ما لي وجه أنكر عليه وأنا واقع فيه، لكن هذا المدخن في قرارة نفسه لا يتمنى أن ولده يدخن، بل وتجد كثيراً من المدخنين يتوارى عن أولاده ولا يدخن أمامهم إلا ذلك الذي لا يبالي بصلاح أو فساد أولاده ولا حول ولا قوة إلا بالله!(78/21)
والديَّ يمنعاني من حضور المحاضرات
السؤال
هذا يسأل يقول: بعض الشباب يجد مضايقات من الأبوين إذا خرج للمحاضرات والبرامج الجيدة مثل الرحلات التي تكون فيها مصالح كثيرة، فما هي نصيحتكم للآباء؟
الجواب
إذا كان والدك يمنعك بسبب حاجته إليك فإن قضاء حاجته مقدمة على ما ترغب من الذهاب إليه من محاضرات أو رحلات أو غير ذلك، أما إذا كان يريد أن يمنعك رغبة في إضلالك وإفسادك وهذا وإن وقع فهو نادر، فقال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] ولا تقطع نفسك عن الخير وأهله، لا سيما إذا علمت أن في انقطاعك هذا ضلال وانحرافٌ وفتورٌ ووقوعٌ منك في المحرمات والمنكرات.(78/22)
إزعاج الأبناء في الشوارع والمساجد
السؤال
يقول: أحسن الله إليكم، ما نصيحتكم لمن يترك أبناءه يزعجون في الشوارع، ويزعجون المصلين خصوصاً في المساجد؟
الجواب
ننصح هؤلاء بأن يتقوا الله عز وجل وأن يحفظوا أبناءهم، وألا يؤذوا جيرانهم، وألا يكونوا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة) فإن جار البادية يتحول.
فينبغي للإنسان أن يحسن إلى جيرانه: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [النساء:36] وفي الحديث: (ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) من مقتضى الإيمان أن تحسن الجوار: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه).
فعلاً بعض الجيران لا يستطيع أن يغيب عن بيته لخبث جاره وخبث أولاد جاره، بل بعضهم يبيع البيت بنصف ما كلفت لأنه ابتلي بجارٍ -والعياذ بالله- ضال ومنحرف ومؤذٍ هو وأولاده، فليتق الله الواحد منا ولا يكون سبباً في أذية جاره.
وبالمناسبة من أنواع الأذى ما يفعله بعض الجيران، يخرج الزبالة من بيته ويرميها عند باب جاره، بحجة أن برميل الزبالة جانب الباب، اذهب وخذ لك برميلاً وضعه عند بابك، يا أخي! بابك أو جدارك أولى بزبالة منزلك، ولا تجعل جارك مستودعاً للزبالة، وتسن سنة سيئة في جارك يدعو عليك وأنت لا تدري.
كذلك من الأذية أن بعض الجيران بيارة بيته -أجل الله المسجد والسامعين- تفيض على الجيران وتؤذيهم بالنجاسات والروائح الكريهة وهو لا يبالي، ما دام أن ليس عنده مشكلة داخل دورات المياه، وإن الزائد في البيارة -عزكم الله- يفيض إلى الشارع فلا مبالاة، هذا من أذية الجار -والعياذ بالله-.
ومن الناس -والعياذ بالله- من تجده يرى أولاده يسرقون من جيرانه، ويأتون بأشياء ليست من متاع البيت ثم يسكت عليها، وهذا لا يجوز بأي حال.(78/23)
أتعجبون من تأخر الغيث؟
أيها الأحبة: اعلموا أن الذنوب والمعاصي ضررها عظيم وخطرها جسيم، فمن أدرك خطرها وقبحها ساعده ذلك على التخلص منها، ومن تذكر آثارها وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، وأخذ العبرة والعظة من الأمم السابقة، تاب وأناب إلى ربه واستغفره، ودعاه؛ لأن الدعاء مفتاح الفرج.(79/1)
خطر المعصية
الحمد لله الواحد بلا شريك، العليم بلا ظهير، القوي بلا نصير، خلق الخلق لعبادته، وما خلقهم ليستكثر بهم من قلة، أو ليستظهر بهم من قلة علم، أو ليستعز بهم من ضعف، سبحانه وتعالى عن ذلك! فهو القوي وحده لا شريك له.
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، المؤمَّل لكشف كل كرب شديد، والمرجو للإحسان والفضل والمزيد؛ نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لا نحصي ثناءً عليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتوبوا إليه، واعلموا أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك في ضررها على العباد والبلاد، وإن مما يعين العباد على تجنبها أن يعلموا أن عواقب الذنوب أليمة، ومراتعها وخيمة، وأن الذنب الواحد لا بد أن يضر القلب وتوابعه من الجوارح، كما تضر السموم الأبدان بحسب القلة والكثرة، وإذا علم العباد خطر معصية الله، وعظم الذي يعصونه، وتذكروا أن كل شر وبلاء وقع بالعبيد أنفسهم، أو بغيرهم من المسلمين، إنما وقع بسبب الذنوب والتهاون في فعلها كفوا عنها.
عباد الله: إذا أدرك المسلم آثار الذنوب والمعاصي في أمم سادت ثم بادت، وملكت ثم هلكت، وكيف أحدثت لهم من الله أنواع العقوبات والبلاء، أعانه ذلك على اجتنابها، والإقلاع عنها، فاجتهدوا يا عباد الله! اجتهدوا في طاعة ربكم، والبُعد عن معصيته، وتوبوا إلى الله بالعودة والرجوع إليه، فإنه ما تُقُرِّب إلى الله بشيء أحب إليه من ترك معصيته والقيام بأمره.
ذكر الإمام أحمد عن صفية قالت: [زُلزِلَت المدينة على عهد عمر فقال: يا أيها الناس! ما أسرع ما أحدثتم؟ لئن عادت لا تجدوني فيها] وفي رواية أخرى: [أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما زلزلت الأرض على عهده قال: ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبداً].
وذُكر أن رَجْفاً حدث في عهد عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الأمصار: [أما بعد فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله عزَّ وجلَّ به العباد، وقد كتبتُ إلى سائر الأمصار أن يخرجوا في يوم كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق به؛ فإن الله عزَّ وجلَّ قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] وقولوا كما قال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقولوا كما قال نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] وقولوا كما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]].
أيها الأحبة في الله: قد يغتر بعض الناس بفعله للمعصية؛ ولا يجد بعد معصيته فتنة، أو بلية تصيبه، فيظن أن ذنبه يسير، أو أنه لا خطر عليه في فعل هذا الذنب، فهو كما يقول القائل:
إذا لم يُغَبِّر حائطٌ في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبارُ
وقد نسي ذلك المسكين أن الذنب له من الشؤم والآثار القبيحة، المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله.(79/2)
آثار الذنوب والمعاصي
قد عد ابن قيم الجوزية في كتابه الداء والدواء أربعة وسبعين أثراً من آثار الذنوب والمعاصي، لا تخطئ العبدَ المذنبَ واحدةٌ منها إن لم يجتمع عليه جميعها ومن هذه الآثار: وحشة القلب، حرمان العلم، والعلم نور تطفئه المعصية.
ومن آثار الذنوب والمعاصي: أن يحرم العباد الأرزاق بالذنوب التي يصيبونها، كما في الحديث.
ومن آثار الذنوب: أن يجد العباد وحشة بينهم وبين ربهم، وهذا أمر لا يحس به إلا من في قلبه بقية حياة، أما صاحب القلب الميت فهو كما قال القائل:
من يهن يسهل الهوان عليه فما لجرح بميت إيلامُ
ومن آثار الذنوب -يا عباد الله- أنها تولِّد بعضها، وتزرع أمثالها، كما قال بعض السلف: [إن من عقوبة السيئة، السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها] فالحسنة تقول: أختي أختي والسيئة تقول: أختي أختي عياذاً بالله من الوقوع في السيئات.
فآثار الذنوب والمعاصي عظيمة على القلوب والأرواح والأبدان، وهي كما ذكرها ابن القيم على وجه البيان لا الحصر أربعة وسبعون، لا يخطئ المذنبَ واحدةٌ منها، فإذا علم المسلم هذه المصائب التي تحل بسبب الذنب الذي يرتكبه، أعانه ذلك على حفظ نفسه، واجتناب المعصية.
نسأل الله للجميع الهداية.
معاشر المؤمنين: استغفروا الله وتوبوا إليه، واحذروا غضبه ولا تعصوه.(79/3)
أسباب تأخر الغيث
معاشر المسلمين: لا شك أنكم خرجتم من بيوتكم تشكون إلى الله تأخر الغيث، واحتباس المطر، فوالله ما هذا إلا بذنوبنا قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءاً غَدَقاً} [الجن:16] والله ما تأخر ذلك إلا بالذنوب والمعاصي، والفواحش والآثام، والبدع والمنكرات.
أنعجب من تأخر الغيث واحتباس المطر، وصلاة الفجر لا تشهد من المسلمين إلا عدداً يسيراً، ونزراً قليلاً من الرجال، وبقيتهم يتقلبون في فرشهم غافلين عن دعاة الفلاح، وأصوات المآذن، لا يجيبون داعي الله! أفيهم مرض! أفيهم مصيبة! ألا يخافون أن يهلكهم الله بإعراضهم عن ندائه؟! عباد الله: هجر بعض المسلمين الصلاة مع الجماعة، ورأوا أن الصلاة مع الجماعة لا تفارق شيئاً عن الصلاة في البيوت، وبذلك عطلوا بيوت الله التي: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:36 - 37].
معاشر المؤمنين: أتعجبون من عدم نزول المطر، وبعض المسلمين يُسَوِّفُ في أداء الزكاة ودفعها، ولا يؤديها في وقتها، وبعضهم لا يخرج إلا أخبث ماله، وبعضهم لا يخرجها بالكلية، ويستكثر أن يُخرج ربع العشر من ماله، أو النصاب المقدر من الفضل الذي تفضل الله عليه به! معاشر المؤمنين: ألا تشهدون قطيعة للأرحام؟! ألا ترون عقوقاً للوالدَين؟! ألا ترون سباباً وفسوقاً وشتائم؟! ألا ترون قلة ذكر لله؟! ألا ترون إعراضاً عن طاعة الله؟! أتعجبون من تأخر الغيث وقد تساهل كثير من الناس بالربا؟! تجده يصوم ويصلي ويشهد الصلاة مع الجماعة؛ لكن لا يتورع أن يودع المال بـ (4%) أو بـ (5%) أو بـ (7%) في أي بنك من البنوك! من الذي أحل له هذه الفائدة؟! كيف تجرأ واستحل هذه الفائدة، بل هذه اللعنة؟! كيف يجرؤ مسلم على لعنة يشرب بها، ويأكل بها، ويلبس بها، ويتصدق بها -ولا يقبل الله صدقة من ذلك- ويفعل بها من الأمور ما يكون سبباً ووبالاً في هلاكه؟ معاشر المؤمنين: أتعجبون من تأخر الغيث وقد انتهك كثير من المسلمين المحرمات، وتساهلوا بالزنا، وسافر كثير من شباب المسلمين إلى الخارج ولم يبالوا، ولم يراقبوا الله ولم يخشوه، ووقعوا في المعاصي والفجور والبلاء؟! نسأل الله لهم الهداية.
عباد الله! أتعجبون من تأخر نزول الغيث، ونحن نرى بداية الاختلاط في بعض المجالات! ونرى تساهلاً في الحجاب! ونرى سفوراً في الأسواق والمستشفيات والطرقات؟! بل إن بعض السافرات المتبرجات قد قوي لها من الشوكة ما لا نعلم سببه، ولا نعرف مصدره، حتى إنك إذا قلت: تستري، أو احتجبي، قالت: وما لك وما لي، وهل أنت ولي أمري، أو مسئول عليَّ؟! ما الذي رفع الشوكة، وأطال الطائلة لهذه المرأة التي قالت هذا الكلام؟! أترونه إلا ما شاهدته في الأفلام والمسلسلات، علَّمها سنين طويلة؟! وقد رأت من هذه المشاهد التي جرَّأتها على كسر الحياء واقتحام الحشمة، وجعلها تخرج عن هذه الدائرة، التي كانت عفيفة لطيفة فيها.
أتعجبون من تأخر الغيث -يا عباد الله- وكثير من المسلمين لا يخشون الله، ولا يراقبونه في مكسبهم، وأكلوا بعض المال بالباطل؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] جاء في سنن ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (كنتُ عاشر عشرة رهط المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: يا معشر المهاجرين! خمس خصال أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلُوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال إلا ابتُلُوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلاطين، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء؛ ولولا البهائم لم يُمطروا، ولا خَفَر قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم).
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [إن الحَبارى لتموت في أوكارها هُزالى من ظلم الظالم].
وقال مجاهد: [إن البهائم تلعن عُصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية بني آدم].
أتعجبون -يا عباد الله- من تأخر القطر واحتباس الغيث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يظنه بعضُهم موقوفاً على عدد من رجال الحسبة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
بعض المسلمين يرى المنكرات، ويرى المعصية التي يُعصى بها الله جهاراً نهاراً، وكأنه لم يرَ شيئاً من المعاصي والمنكرات.
أين تغير القلوب؟! أين فوران الدماء؟! أين الحمية للدين؟! أين الشيمة والغيرة والإباء؟! أين ضاعت هذه المعاني؟! أين ضاعت تلك الأمور؟! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(79/4)
معصية الغناء والفيديو
عباد الله: هناك معصية ومصيبة لا زالت باقية، وهي من ظاهرها كسائر المعاصي؛ لكن دُعاتها هم الذين فتحوا على المسلمين بلاء عظيماً، أتدرون ما هي؟ إنها محلات الغناء والفيديو! والله لو أعاننا الله عليها، وأعان ولاة الأمر عليها فأغلقوها فإن في ذلك خيراً للأمة عظيماً، ونفعاً للخلق عميماً، نسأل الله أن يعينهم على ذلك، وأن يعجل إغلاقها، وأن يعجل منع المسلمين من شرورها وأضرارها.
ليت الواحد من أولئك الذين يتاجرون بهذه الأفلام يسمع ما شاء في بيته، فمصيبته عليه وذنبه على جنبه؛ لكن المصيبة تكمن في الذي يسهل تأثيراً وعرضاً واستماعاً، ووصلهم من الجديد كذا، وعُرض لهم من الجديد كذا، وما في هذه الأفلام إلا صوت مزمار الشيطان، وصورة امرأة عارية، ورقص خليع، وسباب وشتيمة، وفجور وعصيان، وإغضاب لله، ومحاربة لأمره، واستهزاء بما جاء في كتابه وسنة نبيه.
أخبروني: أي شيء في هذه المحلات مفيد؟ أي نفع للمسلمين فيها؟ اللهم عجل فناءها ودمارها وهلاكها, واهد اللهم أصحابها ليقلعوا عنها يا رب العالمين.(79/5)
العبرة من الأمم السابقة
عباد الله: الحذر الحذر من الذنوب، اعلموا أنه لم ينزل بلاءٌ إلا بذنب، ولن يُرفع إلا بتوبة، ولو لم يغير العباد على أنفسهم لَمَا غيَّر الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ولو لزم العباد أمر ربهم ونبيهم لأكلوا من الخيرات من بين أيديهم ومن تحت أرجلهم.
عباد الله: إن شؤم الذنوب عظيم، وبلاء الذنوب إذا ظهرت على الأمة عميم، إن الأبوين آدم وحواء أُخْرِجا من الجنة بسبب ذنب واحد، فما تنتظرون وقد ارتكبنا ألواناً وأصنافاً وأشكالاً من الذنوب؟! ما الذي أغرق قوم نوح حتى علا الماءُ رءوس الجبال؟! ما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى جعلتهم كأعجاز نخل خاوية؟! ما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة التي قطعت قلوبهم، وماتوا عن آخرهم؟! ما الذي سلط على بني إسرائيل ألوان العذاب، من قتل وسبي وخراب ديار؟! ما الذي سلط على أهل لبنان اثني عشر عاماً حرباً طائفية شعواء، في كل يوم يرون قتلى وجرحى ومشردين، وأرامل، وأيتاماً، وشيوخاً، وعجائز معذبين؟! والله ما كان ذلك إلا بسبب الذنوب! ما الذي غير الأرزاق في بعض البلاد التي كانت مصدراً لتوريد وتصدير النعم والخيرات؛ فأصابها الجفاف، وأصابها الفقر والجوع، حتى إن البهائم لتموت هزالاً من هذا الذي بها؟! والله إنها الذنوب والمعاصي! ألا ترون الجوع في أفريقيا؟! ألا ترون الجفاف؟! ألا ترون الفقر؟! ألا ترون الحرب في العراق وإيران؟! ألا ترون الفتن الطائفية في لبنان؟! ألا ترون المصائب والتسلط في كثير من الأماكن؟! ألا ترون الفزع والخوف والهلع؟! إلا في هذه البلاد -يا عباد الله- فاتقوا الله، وتذكروا نعمته عليكم، فإنكم في نعمة عظيمة، وإن الكثير عن معرفتها لفي غفلة، وإن الكثير عن إدراك مداها لفي لهو.
نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
عباد الله: قد يَبْتَلي الله عباده، كي يضَّرَّعوا بين يديه, ويشكوا ضعفهم وفقرهم إليه، وقد أمرنا الله سبحانه بالدعاء، ووعد بالاستجابة فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وقال سبحانه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56] ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].
اعترفوا بذنبكم وتقصيركم، وقولوا: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، واستغفروا الله فالاستغفار سبب لنزول الغيث.
يقول النبي الصالح: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52] ويقول الله سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] ويقول الله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
ويقول نوح لقومه فيما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10 - 11].
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله من جميع الذنوب والخطايا.
اللهم اغفر لنا ذنوباً علمتَها أنتَ ولم يعلم بها أحدٌ من العباد، اللهم اغفر لنا الجهر والسر والعلن، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونبوءُ لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم ارحم تذللنا.
اللهم إنا عبيد من عبيدك، وخلق من خلقك، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا فضلك، ولا تمنعنا بمعاصينا رحمتك، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الحليم العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، مما نسمعه من الملاهي، ونستغفرك ونتوب إليك مما نراه بأعيننا التي خلقتها من المنكرات والمحرمات، ونستغفرك ونتوب إليك مما اجترحته أيدينا من السيئات، ومشت أرجلنا إلى الخطيئات، نستغفرك اللهم ونتوب إليك.
اللهم اغفر لنا، اللهم تجاوز عنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً طبقاً نافعاً مجللاً غير ضار.
اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اسق البهائم الرُّتَّع، والمُسَبِّحات الرُّكَّع، والأطفال الرُّضَّع، اللهم إن بنا من الجهد واللأواء ما لا يعلمه إلا أنت، وما لا يكشفه إلا أنت، ولا غنى لنا عن فضلك، يا رب العالمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا وأغث قلوبنا، اللهم أغث قلوبنا بالتوبة، اللهم أغث قلوبنا بالإنابة، اللهم أغث قلوبنا بالرجوع إلى أمرك وسنة نبيك.
اللهم أغثنا، واعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، لا إله إلا أنت، لا غنى لنا عن فضلك، ولا طاقة لنا بأنفسنا إن وكلتنا إليها.
ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم إنا مساكين إلا برحمتك، ضعفاء إلا بقوتك، فقراء إلا بغناك، أذلاء إلا بعزتك، اللهم لا تمنع عنا فضلك، واسقنا واستجب لنا واعطنا.
اللهم آتنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، ما تنبت لنا به الزرع وتدر لنا به الضرع، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم اسقنا وأغثنا، وأغث المجدبين أجمعين من أمة محمد يا رب العالمين.
عباد الله: قلبوا أرديتكم اقتداءً بما كان صلى الله عليه وسلم يفعله، وتفاؤلاً بتغيير الأحوال، وغيروا أحوالكم من المعصية إلى الطاعة، ومن العقوق إلى البر، ومن القطيعة إلى الصلة.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية الصحابة أجمعين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(79/6)
أثر القرآن على الفتاة المسلمة
إن للقرآن الكريم أثراً في حياة المرأة المسلمة الصالحة: في إيمانها واعتقادها، وعلمها بالله عز وجل، وفي إخلاصها وعملها لله سبحانه، والدعوة إلى الله وتربية الأولاد التربية الحسنة، وعلى المرأة المسلمة الصبر على الطاعة والدعوة إلى الله وتحمل الأذى كما يعلمها القرآن.(80/1)
معجزة القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فعنوان محاضرتنا كما تفضل المقدم جزاه الله خير الجزاء " القرآن وأثره على الفتاة المسلمة " ولا شك أن كتاب الله جل وعلا من تمسك به لن يضل أبداً، وقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بكتاب الله وسنتي) وهذا القرآن الكريم هو حبل الله المتين من اعتصم به نجا، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكاً، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
وهذا القرآن هو ربيع قلوب المؤمنين، وهذا القرآن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم للبشرية كافة إلى يوم القيامة، وهذا القرآن هو جوابٌ وغذاءٌ ودواءٌ وكنزٌ ثمين، وفيه تلبية لحاجات الأمة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وهذا القرآن قد حفظه الله جل وعلا، فلا خطر أن يحرف أو يزاد فيه أو ينقص: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله:
وإن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى غناءٍ واهباً متفضِّلا
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلا
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطَّلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا
القرآن الكريم ما نزل إلا ليعمل به، ما أنزل الله هذا القرآن لتزين به المجالس، أو لتزخرف به الدور والغرف، أو ليعلق على الرفوف، أو ليكنز في المساجد، وإنما أنزل هذا القرآن لكي يعمل بصغيره قبل كبيره، ولكي يعمل بدقيقه مع جليله، هذا القرآن هو حجة في كل حرفٍ من حروفه، وفي كل سورة من سوره، وفي كل آية من آياته، فهو معجزٌ، ولهذا كان إعجازه شاملاً لكل شيء، إعجاز البيان، إعجاز اللغة، إعجاز الطب، إعجاز الفلك، إعجازٌ في كل أمرٍ من الأمور، ولذا كان معجزةً خالدة إلى يوم القيامة.
كانت معجزة عيسى من جنس ما اشتهر به قومه، وكانت معجزته في الطب، يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، ويحيي الموتى بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، وانتهت معجزته بانتهاء نبوته ورسالته.
كانت معجزة موسى عليه السلام من جنس ما اشتهر به قومه وهو السحر، فجاءت معجزته في يده تخرج بيضاء من غير سوء، جاءته معجزته في عصاه ألقاها فإذا هي ثعبانٌ مبين يلقف ما يأفكون، وانتهت معجزة موسى عليه السلام بانتهاء رسالته.
أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلما كانت رسالته إلى الثقلين الجن والإنس إلى يوم القيامة، وهو المقفي، والحاشر، والخاتم وليس بعده نبي، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، فكانت معجزته متجددة لكل زمانٍ ومكان، إلى أن يقبض الله هذه البشرية، وإلى أن تقوم الساعة.
أيتها الأخوات! القرآن العظيم شأنه عظيم، والذي لا يعرف الشيء لا يمكن أن يتصور حقيقته، وأضرب لكم الآن مثلاً، نتكلم الآن عن القرآن الكريم وبالمثال يتضح المقال، لو أننا نسبح في عرقٍ من شدة الحر والقيظ، قد تضايقنا من انطفاء التيار الكهربائي مثلاً في حر الشمس في النهار، وأصبح الواحد منا يسيح عرقاً على وجهه وجسمه، هل يغني عنه أن نصف له أنه توجد مكيفات من نوع (اسبليت) أو من نوع (كلبنيتر) أو من أي نوعٍ من الأنواع التي من شأنها الهدوء والراحة، والتبريد الجميل، لو أن إنساناً يسبح في العرق من الحر وأخذنا نَصِفُ له ألوان وأنواع المكيفات، وبرودة الغرف التي امتلأت بالمكيفات، لا أظن أن وصفنا هذا وكلامنا سوف يجفف من عرقه قدر قطرة واحدة، لماذا؟ لأن وصف الشيء لا يغني عن الدخول في حقيقته، فكذلك التي نقول لها: إن القرآن كذا وكذا وكذا لن تجد حقيقة ما نصف لها إلا إذا دخلت في سلك الحافظات والمتعلمات والدارسات والطالبات، فهذا الذي ذكرناه مثلاً الذي نقول: إنه يسبح من العرق من شدة الحر، لو أخذنا نصف له ساعة في ألوان المكيفات ما جف عرقه، ولم يجد نوعاً من الراحة، لكن حينما نأخذه وندخله في حجرة فيها مكيف ولو واحداً، سيجد خلال دقائق أنه امتلأ راحة، وبرد جسمه، ووجد الطمأنينة والارتياح الكامل، فكذلك هذا المثل نطبقه على ما نحن فيه الآن، حينما نصف أثر القرآن على أناسٍ لا يعلمون بالقرآن، ونصف أثر القرآن لأناسٍ لا يلتزمون بالقرآن، ونصف أثر القرآن لأناسٍ لا يجعلون القرآن زادهم اليومي يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، فإننا كالذي يصف الحسناء للعميان، ولا حاجة إلى مزيد من التفصيل.(80/2)
أثر القرآن في إيمان الفتاة بالله عز وجل
أثر القرآن على الفتاة المسلمة: أولاً: في إيمانها بالله جل وعلا، فهذه الفتاة المسلمة صغيرةً كانت أم كبيرة، المهم أنها تعرف أن القرآن من عند الله جل وعلا.(80/3)
إيمان الفتاة بالقرآن وأنه كلام الله
إذاً: فالقرآن كلام الله منزلٌ غير مخلوق، تكلم الله به جل وعلا، فنفهم من هذا أن من صفات الله أنه يتكلم كلاماً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، لا يلزم من كلامه سبحانه أن يكون له لسان، ولا أن يكون له حنجرة، ولا أن يكون في الحلق لسان مزمار، لا يلزم من كلامه سبحانه أن تكون أدوات الكلام التي يخرج بها الصوت من البشر موجودة في الله؛ لأن معتقد أهل السنة والجماعة أننا نؤمن أن الله يتكلم، والكلام من صفات الله الذاتية، ومن صفات الفعل فإن الله في الأصل متكلمٌ ويتكلم إذا شاء متى شاء، فنؤمن بأن الله له صفة الكلام، وهذا جلي واضح، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقال تعالى: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] فالله جل وعلا أثبت لنفسه صفة الكلام، فهذا القرآن الذي نحن نقرؤه ونتلوه آناء الليل وأطراف النهار هو كلام الله جل وعلا.
فالواحدة منكن حينما تقرأ كتاب الله جل وعلا فإنها تقرأ كلام رب السماوات والأرض، تقرأ كلام الذي البشرية كلها في قبضته جل وعلا، تقرأ كلام الذي السماوات مطوياتٌ بيمينه، تقرأ كلام الخالق الذي هذه الأنفس على وجه الأرض كلها بيده سبحانه، تقرأ كلام الذي يقدر أرزاق الخلائق في الليل والنهار، تقرأ كلام الذي لا تخفى عليه خافية، تقرأ كلام الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فاعرفي كلام من تقرئين، ربما نجد من بعض الناس من يلقي انتباهاً واهتماماً حينما يقرأ كلام مسئول من المسئولين، أو رئيس من الرؤساء، أو عظيم من العظماء، ولكن حينما يتلو كلام الله جل وعلا لا ينتبه له ولا يتدبره، وهذا لا شك أنه من الجهل، فإن من يعرف عظمة ربه ولو أدنى حقوق المعرفة، فإن هذا سيدعوه إلى أن يتأمل هذا الكلام، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، وصدق الله العظيم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
فهذا القرآن أثره على الفتاة أن تعلم أن هذا كلام الله جل وعلا، تقول عائشة رضي الله عنها، جاءت المجادلة التي ذكر الله شأنها في سورة المجادلة: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] تقول عائشة رضي الله عنها وخولة بنت ثعلبة تشكو زوجها، قالت: يا رسول الله! إن زوجي كبيرٌ وقد ظاهر مني، ولي منه عيال، إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن جعلتهم لديه ضاعوا، تقول عائشة: والله إن المجادلة تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة وما بيني وبينهما إلا الستر -ستارة قماش لطيف- تقول عائشة: الرسول مع المجادلة على يمين الستر في ظاهر الحجرة، وأنا على يسار الستر في باطن الحجرة، والله ما سمعت كلامها، وسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات! فأنزل الله جل وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1].
فأنت أيتها المسلمة! تقرئين كلام الذي يسمع خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، وتقرئين كلام الذي يعلم السر وأخفى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(80/4)
إيمان الفتاة بالله سبحانه وأسمائه وصفاته
أثر هذا القرآن على الفتاة المسلمة أن تعرف الله جل وعلا، فإيماننا بالله إيمان وحي، إيمان غيب، لم ننتظر مجلس الأمن أو هيئة الأمم لكي تعطي بياناً عن صفات الله وأسمائه وذاته، ولا نقبل أن يجتمع هيئة كبار العلماء في أي دولة من الدول أو المجمع الفقهي ليقولوا: لقد اجتمعت الهيئة وقررت أن الله اسمه كذا ومن أسمائه كذا وكذا وأن صفات الله كذا وكذا لماذا لا نقبل من صغير ولا كبير ولا من هيئة ولا من علماء كل ما يتعلق بالله؟ لأن الإيمان بالله إيمان غيبٍ، والغيب لا يمكن أن نعلمه إلا بوحيٍ، والوحي جاء من عند الله في هذا القرآن، فلا يمكن أن نجعل في القلب والذاكرة والذهن معلومة عن الله إلا بوحي من عند الله جل وعلا، ولا يحيطون به علماً: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
فأنتِ مثلاً حينما أقول لك مثلاً: إن الله هو العليم، أو إن الله هو السميع، من أين جئنا بهذا؟ بحثنا فوجدنا في القرآن آية فيها أن الله سميع، فسمينا الله سميعاً، ووصفنا الله بأنه سميع، عرفنا في القرآن آية بأن الله عليم، فسمينا الله عليماً ووصفناه بوصفٍ أنه عليم، لكن مستحيل ثم مستحيل ثم مستحيل أن نصف الله جل وعلا بوصفٍ لم يصف نفسه به، ولم يصفه رسوله صلى الله عليه وسلم.
مثلاً: أقول لك أيتها الأخت المسلمة: هل تشكين من ضيق الصدر؟ هل تشكين من الهم؟ هل تشكين من القلق؟ هل تشكين من الغم؟ هل بينك وبين زوجك مشاكل؟ هل بينك وبين أهلك مشاكل؟ تهجدي آخر الليل (فإن الله ينزل في الثلث الآخر من الليل إلى السماء الدنيا ويقول: هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟) فأنتِ بدلاً من أن تقولي: تعال يا شيخ! من أين جئت لنا بهذه المعلومة؟ تقول: إن الله يتنزل في الثلث الآخر من الليل، أنت تأتي بكلام من عندك؟ أقول لكِ: يا أختي! جزاكِ الله خيراً؛ لأنني لا يمكن أن أنقل شيئاً من أسماء الله أو أصف صفة من أفعال الله إلا بوحي من الله أو كلامٍ من نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في السنة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله ينزل في الثلث الآخر فيبسط يده ويقول: هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟) إذاً: أنا لما تكلمت عن الله ما تكلمت من نفسي، ما نقلت خبراً عن مجلة سيدتي وما نقلت خبراً عن مجلة آخر ساعة وما نقلت خبراً عن مجلة النهضة وما نقلت خبراً عن مجلة من المجلات، أو شريطٍ من الأشرطة.
إذاً: فكل ما يتعلق بالله لا نقبل فيه إلا ما كان النقل فيه عن الله وعن رسوله، قال الله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فالله جل وعلا في مقام وحدانيته لم يرض لنا إلا بالعلم، ما قال: فاعرف أنه لا إله إلا الله؛ لأن المعرفة تزيد وتنقص، المعرفة معرضة للنقض ومعرضة للمحاورة وللإبطال، أما العلم فإنه حقائق لا يمكن أن نرضى في مقام وحدانية الله جل وعلا إلا بذلك.
فالقرآن الكريم أثره عليك -أيتها المسلمة- أن تؤمني بالله جل وعلا، وما هو هذا الإيمان؟ الحقيقة تقول، وليست حقيقة المعلومات والثقافة، بل الحقائق القرآنية؛ لأننا اتفقنا وإياكن قبل قليل أننا لا نتكلم عن الله إلا بدليل من القرآن أو بدليل من السنة، في أي علمٍ من العلوم، أو أي نظرية من النظريات قد نأتي باجتهادات العقول، بتحاليل المعامل، بالتجارب، بالمختبرات، بالبراهين، بالاستقراء، بالأدلة المختلفة، لكن عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته لا يمكن أن نتكلم إلا بموجب الدليل الذي هو عن الله وعن أسمائه وصفاته.(80/5)
إيمان الفتاة بربوبية الله وألوهيته
فإيمانك بالله أنه الخالق المدبر المتصرف، المحيي المميت، أرواحكن بيد الله جل وعلا، آجالكن في علم الله جل وعلا، أرزاقكن في علم الله جل وعلا، كل ما يدور الآن في أذهانكن وخواطركن وما سيدور وما دار من قبل كله في علم الله جل وعلا، لا تخفى على الله خافية.
إذاً: فهذا التوحيد الذي اسمه: توحيد الربوبية وهو أن المسلمة والمسلم يعتقد كل واحدٍ منهم أن الله الخالق المدبر المالك المتصرف، فكل شيء في هذا الكون بتدبير الله وأمره وخلقه وإرادته سبحانه وتعالى، هذا هو توحيد الربوبية، ويفسره العلماء أهل العقائد ويقولون: توحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله، أو توحيد الإقرار يعني: أن نقر ونعترف أن كل تدبير هو من عند الله جل وعلا، فإذا عرفنا هذا أصبحنا ننسب الأمور إلى فعل الله وتقديره، لا نقول: والله حصلت زلازل وبراكين لضعف القشرة الأرضية، بل نقول: بإرادة الله، بأمر الله جل وعلا، حتى الذين يقولون: إن الزلازل والبراكين حدثت بسبب ضعف القشرة الأرضية نقول: من الذي جعل القشرة الأرضية ضعيفة أليس الله جل وعلا؟ إذاً فلا يمكن أن ننسب الأمور إلا إلى الله جل وعلا، نقول: هبت عواصف نتيجة منخفض جوي، بل نقول: بأمر الله، وإرادة الله، ومشيئة الله، فلابد من أن ننسب الأمر إلى الله سبحانه وتعالى.
وهذا الإيمان أيتها الأخوات الذي اسمه: الإيمان بتوحيد الربوبية، هل تظنن أن أبا لهب وأبا جهل وعبد المطلب، وكفار قريش كانوا ينكرونه؟ لا.
كانوا يؤمنون به، قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فكفار قريش يؤمنون بتوحيد الربوبية.
إذاً: فهل هذا هو التوحيد المطلوب منا؟ لا.
مطلوبٌ منا مع توحيد الربوبية توحيدٌ أسمائه وصفاته وتوحيد الألوهية، وهذا التوحيد يعني: أن نصرف جميع العبادة لله، لا نحلف إلا بالله، فلا نحلف: بالنبي والأمانة والكعبة والشرف، ولا نذبح إلا لله، لا يمكن أن نذبح للساحر أو الكاهن أو الشجرة أو الأثلة الفلانية، لا نتوكل إلا على الله، لا نستعين إلا بالله، لا نصلي إلا لله، لا ننحر إلا لله، فكل عبادةٍ صغيرة كانت أو كبيرة لا يجوز صرفها إلا لوجه الله جل وعلا.
أيتها الأخت: خذي مثالاً من واحدة من البنات والفتيات اللائي تربين في حضن الدعوة وفي مجتمع الدعوة، دعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب نور الله ضريحه، وجمعنا به في الجنة.
فاطمة بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت في طريقها إلى الحج، وكانت في الهودج، وكان الذي يقود جملها أو بعيرها خادماً عندهم، فمروا على قومٍ كانوا يعظمون قبراً من القبور، فأنكروا عليهم إلا أن صاحب القبر قال: قربوا قربوا لهذا الولي، قربوا لصاحب القبر شيئاً، فقال خادمها: ما نقرب إلا ترباً في وجهك، بهذه العبارة، فأخرجت -الحصان الرزان المتدينة العالمة الموحدة التي ظهر أثر القرآن عليها- أخرجت رأسها من ستر الهودج وقالت: حتى التراب لا يقرب لغير الله جل وعلا، فدل هذا على أن الفتاة المسلمة قبل أن تكون داعية، وقبل أن تكون مثقفة، وقبل أن تكون أديبة، وقبل أن تكون ذواقة للشعر، وقبل أن تكون قادرة على جمع المعلومات، ونشيطة في التحركات، قبل ذلك كله هي صاحبة إيمان، صاحبة عقيدة، صاحبة توحيد.
ثم كذلك هذا القرآن يجعل الفتاة المسلمة تؤمن بأن الله لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا نظير له جل عن كل ذلك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] فمن أراد أن يشبه الله في جملة أو في وصفٍ أو هيئة أو حالٍ من الأحوال فإن هذا يدخل ويتكلف فيما ليس له به علم، بل ربما يصل إلى حد الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(80/6)
أثر القرآن في استجابة المرأة لله عز وجل
بعد ذلك: أثر الإيمان على الفتاة المسلمة أن تعلم أنها أمرت بالاستجابة لله جل وعلا، أعطيكن مثالاً: أثر الإيمان على الفتاة المسلمة أن تستجيب لله جل وعلا، لأن الله هو الإله الخالق المدبر، وهو كفؤ لأن يستجاب له، بغض النظر هل عرفنا الحكمة أم لم نعرف الحكمة، يعني: ما تأتينا فتاة وتقول: لماذا حرم الله الاختلاط؟ لماذا أمر الله بالحجاب؟ نقول: أولاً: بوسعنا أن نجد العلل والحكم التي من أجلها منع الاختلاط وشرع الحجاب، لكن قبل ذلك كله من أثر القرآن على الفتاة المسلمة أن تستجيب لله عرفت الحكمة أم لم تعرف، عرفت الهدف أم لم تعرف، والله جل وعلا يقول: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
الفتاة المسلمة أثر القرآن عليها أن تستجيب للأوامر الشرعية لأن الله أمرها بها، فمادام أن الله أمر فإننا ننفذ عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، عرفنا العلة أو ما عرفناها، هذه مسألة مهمة يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، ليس هناك خيارٌ في أي حالٍ من الأحوال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
خذوا الآن مثالاً على الاستجابة، تجد فتاة مثلاً متساهلة بالحجاب، تنظر إلى الأفلام والمسلسلات، قد جمعت في بيتها صور النجوم والمشهورين والشهيرات، وفعلت كثيراً من المعاصي، فعندما تنصحها إحدى أخواتها فتقول: أما هذه وهذه وهذه فنعم، أنا معك أفعلها وأطبقها، وأما هذه وهذه والأغاني لا أستطيع أن أتركها، لماذا؟ لا يوجد شيء أمر الله به ننفذه وشيء نتهاون به، جميع الأمور أمر الله بها، فمن واجبنا أن نستجيب.
أثر القرآن أن يعلمنا الاستجابة، والله جل وعلا حينما يأمرنا في القرآن الكريم فليس الأمر للرجال فقط، وكثيرٌ من النساء يجهلن هذه القاعدة ويظنن أن القرآن مقصودٌ به الرجال، بل كل خطابٍ في القرآن فيه: (يا أيها الذين آمنوا) فالمؤمنات يدخلن فيه بالتبع، كل خطاب فيه أمر للمسلمين فإن المسلمات يدخلن فيه بالتبع، وهذه مسألة مهمة جداً ينبغي أن تفهمها الفتاة المسلمة، وإذا جاء خطابٌ أريد به النساء على وجه الخصوص، فهذا فيه دلالة على زيادة الخصوصية لهن أي: للتأكيد على شأن المسلمات والمؤمنات بالرعاية والعناية بهن.
المسألة المهمة التي تلي ذلك، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] فواجبنا الاستجابة وليس واجبنا أن نبحث في التعليل: لماذا، وعلل! وبيّن! واشرح! واذكر! هذا ليس من شأن الخلق مع الخالق، ليس من شأن الضعفاء مع القوي، ليس من شأن الفقراء مع الغني، ليس من شأن الأذلاء مع العزيز المكين الجبار المتكبر، إنما شأن الفقراء مع الغني إذا أمر أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، شأن الأذلاء نحن معاشر البشر مع العزيز الكبير إذا قال الله شيئاً أن نقول: سمعنا وأطعنا، شأن الضعفاء مع القوي سبحانه وتعالى أن نذعن وأن نستجيب له، فمسألة الاستجابة مسألة مهمة جداً جداً، ينبغي أن تفقهها الفتاة المسلمة.
أذكر لما حصلت مشكلة قيادة المرأة للسيارات -تلك الفتنة الخطيرة التي قام بها من أراد بالمسلمين والمسلمات شراً، والحمد لله الذي رد كيدهم في نحورهم- قام بعض الجهلة والسفهاء وبعض المساكين يقول: لماذا؟ وعلل! وبين! واشرح! ولماذا المرأة لا تقود؟ وهلم جراً، نحن أولاً وقبل كل شيء أمام قرارات عامة، أمام توجيهات إدارية، نحن قبل كل شيء أمام أوامر ربانية، ولا يسعنا أمام الأوامر الربانية إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا، ثم بعد ذلك إذا وجدنا عللنا بحثنا فيها.(80/7)
عدم وجود الانفصامية في الأحكام الربانية
كذلك من أثر الإيمان على الفتاة المسلمة: أن تكون مستجيبة لله جل وعلا، فإن هذا الإيمان يدعوها إلى التصديق والانسجام، أعني بذلك أن الفتاة حينما تؤمن بهذا القرآن أنه كلام الله، وواجب كلام الله أن نطبقه وأن نسمع له، ألا يوجد انفصام عند الفتاة المسلمة في عقيدتها وسلوكها؟! لا يمكن هذا ولا يقبل بأي حالٍ من الأحوال، وبالمثال يتضح المقال.
قبل مدة أحد الإخوة كان مسافراً إلى القاهرة يقول: لما هبطت الطائرة إذ بفتاة تتعلق بأمها، ما شأن هذه الأم لما أصبحت الطائرة وشيكة على الهبوط؟ قامت الأم المتمدنة المتطورة التي تشعر بعقدة التخلف -يا للأسف! تلك المسكينة- نزعت حجابها وعباءتها، ثم بدت سافرة كأنما هي أرجوزة من أراجيز السيرك العالمي بمساحيق وجهها وألوانها، وإذ بالفتاة الصغيرة تقول: يا أمي! عيب، يا أمي! تغطي يوجد رجال، يا أمي! استحي، يا أمي! عيب، فتقول الأم لبنتها: اسكتي اسكتي يا بنيه هذا عيب! هذه امرأة مسلمة تؤمن بالله وتؤمن برسوله وتؤمن بالقرآن الكريم؟! لكن المشكلة أنه يوجد انفصام بين النظرية والفكر والاعتقاد، وبين الواقع والتطبيق والسلوك، هذه مشكلة من أعظم المشاكل، فأثر القرآن على الفتاة المؤمنة ألا يوجد عندها انفصام، فكما أنها تصوم رمضان بالكامل من الفجر إلى أذان المغرب فهي تلتزم بالحجاب بالكامل، وكما أنها تؤدي الصلاة فهي تمتنع عن الملاهي، وكما أنها تقوم ببر والديها فهي أيضاً تمتنع عن الوقوع في المكالمات الهاتفية، أو الولوغ في مهاوي هذه الرذيلة وهذا الانحلال، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذاً: فأثر القرآن على الفتاة المسلمة ألا يوجد عندها انفصام، وهذا الانفصام يعني: أن تقول: أنتمي لشيء والواقع يختلف عنه، أنا مسلم وتصرفاتي تصرفات غير مسلم، أنت فتاة مسلمة والسلوك وبعض المعاملات مخالفة، هذا لا يجوز أبداً.
ومصيبة الأمة الإسلامية هي مصيبة الانفصام النكد بين العقيدة والتطبيق وبين النظرية، وتجد الإنسان يعتقد أموراً ويؤمن بها والواقع يخالفها، ومن أجل هذا لما وجد هذا الانفصام ما عادت لنا الهيبة التي كانت موجودة لآبائنا وأجدادنا، لماذا؟ لأننا في هذا الزمان أصبحنا نحمل صورة الإسلام وقد ضيع بعضنا حقيقته، الآن أنتن في هذه المدرسة عدد كبير -ما شاء الله- لو أننا فتحنا البوابة الكبيرة التي خلفكن وأدخلنا عليكن أسداً كبيراً جداً محنطاً، وهذا الأسد قد فتح فمه وبدت أنيابه، كل واحدة منكن -ما شاء الله- ما هذا الأسد! والتي تلمس رأسه، والتي تلمس أنيابه، والتي تنظر من أي شيءٍ حشي هذا الأسد، وستجد الأطفال يركبون على رقبة الأسد ويلعبون بجوار الأسد.
عجيب! أسد والنساء والأطفال حوله لا يخافون؟! تقولون: لأن هذه صورة أسد محنط، ليس أسداً حقيقياً، نقول: لا حرج، وفي هذا الوقت لو تَفلَّت عليكن قط ثم أخذ يمشي مسرعاً، وهذا القط متوحش، لسمعت الصراخ، ولرأيت بعض النساء تهرب والأخرى تنحاز، وأخرى تمسك ولدها وهلم جراً.
لماذا تدرن حول الأسد، وتلمسن أنيابه، ولا تخفن منه، ولما مرت هذه القطة المتوحشة الصغيرة كل واحدة خافت وصرخت، نقول: لأن الأسد صورة والقطة حقيقة، فالناس تخاف من الحقائق مهما كانت تافهة، الناس تخشى من الحقائق مهما كانت صغيرة، ولا تبالي بالصور مهما كانت عظيمة.
فكذلك الإيمان حينما يكون في الفتاة المسلمة إيمان صوري، أو بالأحرى إسلام صوري، وليس إسلاماً حقيقياً ينعكس على واقع الحياة سواءً في معاشرة الأهل والوالدين والزوج وتربية الأولاد وحسن العلاقة والجوار وهلم جراً، فهذا الإيمان لا يكون له أثر، وربما تجد المسلمة مثلاً في الخارج تجلس بجوار الكافرة وتنظر إليها وتحدثها، وتبتسم لها وتتبادل معها السجائر وأشياء كثيرة، ولا تبالي هذه الكافرة أن تنظر إلى هذه المسلمة اسماً نظرة السخرية أو نظرة ازدراء؛ لأنها فتاة مسلمة تعتقد وتدين شيئاً والواقع يعاكس ذلك.
الحقيقة -أيتها الأخوات- أن مسألة الصورة والحقيقة من أصدق وأقرب الأمثلة التي ينبغي أن ننتبه لها حتى تعرف الواحدة أثرها، كم عندنا في المدرسة الآن من فتاة مسلمة؟ كم يوجد من زوجة مسلمة؟ كم يوجد من بنت وأم مسلمة؟ المدرسة مليئة، لكن أين الآثار المرجوة وأين الآثار المطلوبة؟ كم رأينا من الأمهات المسلمات (وأفلام الكرتون) تربي أطفالهن! كم رأينا من الأخوات الملتزمات والبيوت مليئة بآخر مجلات البردة والأزياء! كم رأينا من الطيبات الصالحات وللأسف تجد هناك مخالفات كثيرة! لماذا هذا؟ لأن المسألة غلب عليها جانب الصورة أكثر من الحقيقة.
إذاً: فنحن نريد الفتاة التي أثر القرآن عليها أثراً حقيقياً، لا نريد الفتاة الضعيفة التي تذوب وتنحل أمام حرارة الإغراء، فتجد سمعة الإسلام الشمعية عندها، لكن لو تواجهها حرارة الدعاية والإعلان والإغراء والإرجاف والمديح والثناء، والفتاة السعودية وصلت! والفتاة السعودية نافست! والفتاة السعودية فعلت! لوجدت الشيطان يعبث بها، وأصبح هذا الإطراء أو هذا المديح أو هذا الإغراء يرجف بقلبها؛ حتى تفكر أن تعطي مزيداً من التنازل عن دينها؛ من أجل أن تصل إلى صدارة الصحف وأبواب المجلات وزوايا الإعلام وغير ذلك.
فالواجب أن ننبه الفتاة، ودائماً أعداء الإسلام لا يواجهون الفتاة المسلمة مواجهة مباشرة، ثقوا واطمئنوا أنه لن يأتي يومٌ ما فلم من الخارج أو من الداخل ليقول: أيتها الفتاة! انبذي الحجاب، اتركي الحجاب، مزقيه، أو أيتها الفتاة! اشتغلي راقصة، أو ممثلة، أو اعملي في هذا المجال المهين، لا.
لن يقال لك هذا، لكن الواقع يشهد أنه يمكن أن نقنع واحدة من بنات المسلمين من خلال الدعاية بأن تكون عارضة أزياء، لا يمكن أن تأتي رسالة أو مجلة أو فيلم ليقول: يا بنت! كوني عارضة أزياء، أو ممثلة أو راقصة، أو نريد أن تكوني كذلك، لا يمكن هذا، لكن من خلال الدعاية والإعلان يمكن أن نغريها لتكون عارضة أزياء.
من خلال الدعاية والإعلان ممكن أن تجد الفتاة التي ترغب أن تكون راقصة، من خلال الإغراء والمديح المزيف يمكن أن نجد من فتيات المسلمات من تتمنى أن تكون مضيفة، ومن تتمنى أن تجتمع بالرجال، ومن تتمنى أن تفعل هذا وهذا، لماذا؟ لأن الفتاة التي لا أثر للقرآن عليها ولا إيمان موجودٌ عندها هذه الفتاة فارغة ما عندها شيء.
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعدٌ فلقاء
فاتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبهن هواء
المرأة التي لا أثر للقرآن في قلبها ضائعة، تستجيب عند أدنى دعاية، وأدنى موضة، وأدنى شيء، ولذلك فمن واجب الفتاة المسلمة أن تنتبه لهذه الناحية، وأن تنظر إلى أي درجة بلغ أثر القرآن عليها، نريد أن تعتني بالقرآن، أن تعود إلى كتاب الله جل وعلا، وحينئذٍ سترى الخير يتفجر من ينابيع يديها، وسترى تأثيرها على زميلاتها وأخواتها في كل مجالٍ؛ في مدرستها، في جاراتها، في قريباتها، في كل مكان سترى لها أثراً بإذن الله جل وعلا.(80/8)
أثر القرآن على المرأة في تلذذها بالتزامها لشرع الله
ومن أثر القرآن على الفتاة المسلمة في إيمانها أنها تتلذذ بذلك، أي: لن يكون أثر القرآن على الفتاة المسلمة أن توجد الفتاة الملتزمة التي تتمنى أن تمزق الحجاب، أو توجد الفتاة الملتزمة التي تتمنى أن تعاكس بالهاتف، أو توجد الفتاة المسلمة التي تتمنى أن تخرج يوماً ما إلى الشارع، أو توجد الفتاة الملتزمة التي هي ضائقة من الالتزام، وتتمنى أن يأتي اليوم الذي يفتح لها البوابة لكي تنحل مما التزمت به، لا.
القرآن سيجعلها تتلذذ بالتزامها، تقول: أنا التزمت وأنا استقمت وعلى هدي القرآن مضيت، وسأمضي على هذا الطريق إلى أن ألقى الله جل وعلا، هذا أثر القرآن لأننا ربما وجدنا وسمعنا عدداً من البنات تلتزم الواحدة فترة من الفترات ثم تنحرف بعد شهر، تكون طيبة وتلبس القفاز، ولا تسمع الأغاني، ولا تحضر الرقصات، وتقاطع مجلات الأزياء والبرد التي فيها الصور الخليعة ونحو ذلك، ثم بعد فترة تنتهي لماذا؟ هذا يسمونه: التزام العاطفة، تلتزم بعاطفةٍ بعيدة عن العلم، ثم بعد ذلك تنحرف، لكن التي تلتزم على بركة القرآن وأثره، وتتعامل بالقرآن، وتعرف معاني القرآن من خلال التفسير، وأسباب النزول، ومعاني الآيات، وجمال القرآن ومعانيه الرفيعة الطيبة، فإنما هي فتاةٌ كلما ازدادت بها الأيام مضياً ازدادت في القرآن شغفاً، وبكتاب الله حباً، وفي الدين تمسكاً، وفي الدعوة اجتهاداً.
فأثر القرآن على الفتاة أن يجعلها تلتزم التزام متلذذٍ، التزام المنسجم، التزام المنبسط الذي يعيش غاية الفرح والسرور، ليس التزاماً للفتاة التي تتمنى أن يكون للدين تاريخ صلاحية لكي تلتزم خمس سنوات، ثم تنتهي من هذه المدة لكي تنحل من جديد.(80/9)
أثر القرآن على المرأة أن تعرف أن الله أكرمها
وأيضاً أثر القرآن على الفتاة المسلمة: أن تعرف أن الله أكرمها، والله إن هذا الدين أكرم المرأة كرامة ما حظيت بها من قبل في سابق الشرائع ومختلف الديانات أبداً، لم تحظ المرأة منذ أن وجدت الخليقة إلى يومنا هذا بكرامة أجل وأعظم وأكرم مما نالته في هذا الدين العظيم، وهذا الدين القويم الذي أكرم الله به المؤمنين، وإن الذين يتحللون من هذا الدين أو الذين يتبرمون منه، أو الذين يشعرون أنهم في تعقيدٍ وتشددٍ، وفي حجابٍ أسودٍ من كل جانبٍ يودون التخلص منه، فما تلك إلا واحدة تريد أن تقع فيما وقعت فيه المرأة الغربية التي تجرأت على حيائها، وتجرأت على عفتها، وتجرأت على سمتها، وطبيعة خلقها وتكوينها، ونعومة أنوثتها، فأصبحت مهينة تكلف بأعمالٍ لا يكلف بها الرجال، وماذا بعد ذلك؟ انتهت ولا حول ولا قوة إلا بالله إلى مصيرٍ مظلم، إلى مصيرٍ مزعجٍ جداً جداً! المرأة الغربية، والمرأة الشرقية أيضاً التي أعرضت عن كتاب الله وقلدتها هي امرأة تعيش في ضنك، وتعيش في ضيق، وكما قال سيد قطب رحمه الله: إن المرأة في المجتمعات الغربية كالحمامات الموجودة على ممرات الطرق، كل من لقيها تعرف عليها وبات معها، وكل من عرفها جعلها تحفة في محل أزيائه، وجعلها مادةً للدعاية والإعلان لكي يروج بها بضاعته وما عنده من السلع، وماذا بعد ذلك؟ إذا انتهى منها رماها شر رمية.
أما الفتاة التي تربت في المجتمع القرآني، فإن كانت طفلة فبنية يحوطها العطف والحنان من كل جانب، وإن كانت في عنفوان الشباب فنرتقب لها عريساً يسعدها، ويكون سبباً لحصول الذرية الصالحة لها، وإن كانت أماً فأبشري بكرامة الأمهات والجنة تحت أقدامها، والبر من أقرب أبواب التعبد لله جل وعلا، وإن كانت أماً وجدة فلا تسأل عن الحنان، ولا تسأل عن التواضع، ولا تسأل عن الإكرام والتبجيل والتقدير لها.
وعلى ذلك فإن الفتاة في المجتمع المسلم، التي تأثرت بهذا القرآن، أثر القرآن عليها طيب بإذن الله وبفضل الله جل وعلا.
والله ذات مرة كنت في ألمانيا الغربية في فرانك فورت فرأيت شاباً قد جعل فتاةً في يده يذهب وإياها ويمضي، وفي لحظة من اللحظات إذ به يدفعها على الثلج في الشارع، ويركلها برجله، ويبصق عليها، ويطردها ويبعدها فقلت: سبحان الله! على أقل الأحوال لو كانت هذه فتاة مسلمة في المجتمع القرآني، لو حصل بين رجلٍ وامرأة هذا، لو كانت زوجة مثلاً وحصل شجار لن يفعل بها هذا، فما بالك بهذه المرأة التي عاشت في ذلك المجتمع! فكل من أعرضت عن ذكر الله، فهي تريد أن تعيش في مجتمع الغرب، أو تريد أن تعيش عيشة مماثلة لمجتمع الغرب في مجتمعٍ لا يرحمها أبداً، أي كرامة أعظم للمرأة من مجتمعنا هذا الذي يحوطها ويقوم بواجبها ويكرمها؟!(80/10)
أثر القرآن على المرأة في العمل بهذا الدين
ثم أيضاً أثر القرآن على الفتاة المسلمة في العمل، لا يكفي أن الفتاة المسلمة تؤمن، والفتاة المسلمة تعلم، والفتاة المسلمة عندها تصور، والفتاة المسلمة عندها معلومات، لا.
الله جل وعلا في كثيرٍ من الآيات التي ذكر فيها الإيمان كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] تجد أن العمل الصالح معطوفٌ على الإيمان في كثيرٍ من الآيات القرآنية، وذلك للدلالة على أن العمل هو برهان الإيمان، أما إنسان يؤمن بأن النار محرقة ولا يبتعد عنها، أو إنسان يؤمن بأن السم قاتل وهو يأكله، أو إنسان يؤمن بشيء ثم هو بعد ذلك لا يطبقه أو لا يفعل ما يقتضيه الإيمان به، أظن هذا تمثيلٌ وتضليل وليس إيماناً حقيقياً.
ما أكثر الفتيات اللائي يدعين الإيمان! ولكن لو أردنا أن نبحث عن الإيمان في حجابها، لو أردنا أن نبحث عن الإيمان في سترها، في بصرها وما تنظر إليه، في سمعها وما تنصت له، في خلوتها بنفسها، بماذا تفكر وماذا تفعل؟ لوجدت عند بعضهن -ولا أقول كلهن- لوجدت بوناً شاسعاً بين دعوى الإيمان وبين الواقع.
إذاً: فالإيمان دعوى والعمل هو الحقيقة والنتيجة، قال الشاعر:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء
إذاً: فالعمل هو الأثر الذي يتبع الإيمان، أثر القرآن على الفتاة بالإيمان والعمل هو الأثر الآخر الذي يتبع هذا الإيمان.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [إذا سمعت قول الله: (يا أيها الذين آمنوا) فارع لها سمعك، فإما خيراً تؤمر به أو شراً تنهى عنه] لأن الإنسان ثمرة إيمانه أن يعمل وأن يطبق بذلك.
وينبغي أن نترجم هذا الإيمان إلى واقعٍ عملي ليس في سلوكنا فقط فحسب، بل لا بد أن نترجمه إلى واقع تربيتنا لإخواننا وأخواتنا وأبنائنا، طفل من الأطفال يكذب تقولين له: لا تكذب، وافتحي المصحف أمامه وقولي: هذا كلام الله يقول الله جل وعلا: كذا وكذا وكذا طفل يفعل خطأً تقولين: لا تفعل ذلك؛ لأن الله يقول كذا فلتعظم الفتاة المسلمة والمرأة المسلمة بتأثيرٍ من القرآن وبهدى من القرآن، ففي هذا خيرٌ عظيم، ولو أننا عودنا أطفالنا أن نقول: لا تفعلوا كذا لأن الله نهى عنه، وافعلوا كذا لأن الله أمر به، إذا كبروا وأردنا أن نقول: هذا لا يجوز، لا يمكن أن تجد الفتاة أو الشاب في أي مرحلة من مراحل العمر يتجاوز هذه المسائل.
إذاً: فالعمل ثمرة أو أثر من آثار القرآن، ولا نريد العمل فقط على السلوك، بل أيضاً العمل بالتربية، لا تكذب؛ لأن الله يقول: كذا لا تسرق لأن الله يقول: كذا لا تفعل كذا لأن الله يقول: كذا افعلي هذا؛ لأن الله يأمر بكذا افعلي هذا؛ لأن الله يجزي بالجنة على هذا، تصدقي؛ لأن الله يجزي المتصدقين، والله يقول: وترينها الآية في القرآن؛ ففي هذا أثر طيبٌ بإذن الله جل وعلا.
وبالمناسبة فإن أعداء الإسلام قد استغلوا هذا الجانب ألا وهو غزو عقول الأطفال منذ الصغر، يعني: بعض الأطفال لما تدخل معه في مناقشة ستجد أن معلوماته مبنية على ما ورد في (أفلام كرتون) تجد أن بعض الأطفال معلوماته مبنية على ما ورد في المسلسل المدبلج، والسبب أننا لم نربهم بالقرآن، فتولت هذه الأفلام تربيتهم، وكل من ترك خانة فغيره سينالها ويكون أولى بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والواقع يشهد على براءة الطفولة والفطرة، لكن الذين لم يجعلوا للقرآن أثراً في بيوتهم وعلى أطفالهم وذرياتهم:
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسد
من تركوا أبناءهم ولم يربوهم بالقرآن تربيهم هذه الأفلام والمسلسلات، وعفواً لو تدخلت في شيءٍ من التفصيلات من خلال نوع من الاستقراء الذي أقوم به في بعض الأحيان.
اسألي طفلك عن حبة الفول التي نبتت -هذا الكلام من (أفلام كرتون) - في الأرض، واستمرت حتى شقت السحب، ثم وصلت إلى السحابة السادسة أو السابعة إشارة إلى وجود الله، وانتهت هذه البذرة إلى قصر فيه رجلٌ سمين عنده دجاجٌ يبيض ذهباً، فتسلل الطفل -الآن في هذا المكان نحن في المكتب الذي تلقى عليكن فيه المحاضرة معنا طفل ويهز رأسه متابع الصورة جيداً، معنى ذلك: أن براءة الطفولة حينما لم ترب بالقرآن يتسلل إليها خطرٌ عظيم- فيتسلل هذا الصغير، ويدخل فيسرق الدجاجة، ويعرف صاحب القصر الذي في السحابة السابعة، ثم يلحقه، ويفلت منه، ويقفل الأبواب، وينجو من ذلك، ثم يعصر أشياء كثيرة، فينزل المطر، ثم يضرب بعض الأواني فيظهر الرعد، أين تربية القرآن؟ منذ أيام كنت في مركز صيفي مع أطفال في المرحلة الابتدائية، فجلست أسألهم عن هذا، وسألت أحد الأطفال لعله في السنة الثانية، قلت له: هل رأيت هذا (الفيلم الكرتون)؟ قال: نعم، قلت له: ماذا تفهم منه؟ من هو الذي في السماء السابعة؟ قال: يقولون إن هذا هو الله، وليس بصحيح، الله ليس هنا، يعني: جيد لأنه عاش في بيئة أو في أسرة أو في وسط لا بأس به، فقد تلقى العقيدة تلقياً جيداً لكن هذه المشوشات والمفسدات على صفاء فطرته جعلته يعجب، وربما خلطت عليه في يوم من الأيام، وربما بعض الأطفال الذين تتولى تربيتهم الخادمات، وربما لا توجد أمٌ ولا أبٌ ينبهه، فحينئذٍ يعتقد أن الله في السماء السابعة، وعنده دجاجٌ يبيض ذهباً، وهذا من أخبث وأخطر مفسدات البراءة والفطرة عند الأطفال، إذا كان كفار قريش يعتقدون أن الله هو الخالق المدبر وما كانوا يعتقدون هذا، فنحن في هذا الزمن يصور للأطفال بطريقة خفية، وفي الفيلم ما قيل: هذا هو الله، لم يقال لهم هذا، لكن من خلال ذلك تصور الطفل أن هذا حاصل، وطبقي شيئاً من هذه الأمثلة، وأضرب أمثلة: خذوا البرنامج المدبلج (برنامج سنان) من كم سنة رصدت فيه بعض الحلقات؟ ما هو أثر هذه البرامج على بيتٍ لم يترب بالقرآن؟ في أحد المشاهد حيوان من الحيوانات الذي يقوم بدور، يعني: الذئب يقوم بدور نسيت اسمه الآن، ولما انكسرت رجله أخذوا يدورون عليه ويصيحون بتعويذة: (زعبور يشفي جرجور، جرجور يشفي زعبور) ويدورون عليه؛ حتى قام نشيطاً، فلما اتصلوا بالطبيب، وكان الطبيب هو التيس ويلبس المناظر فقال: كيف شفي الذئب جرجور أو زعبور؟ قالوا: صرنا ندور عليه بالتعويذة حتى شفي.
إذاً: الطفل في البيت الذي لم يتأثر بالقرآن يتعلم أن الشافي هذه التعاويذ، وهذه التمائم والأمور التي تردد، وهذا مفتاح الشرك والوثنية، ومفتاح إفساد العقيدة على الأطفال الذين يتربون على غير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مثالٌ ثالث: الحصان الأبيض، قد تقلن: الشيخ جالس يتفرج (أفلام الكرتون) لكن لا حرج، قولوا ما شئتم، المهم أن تعرفوا ماذا يفعل ويدبر بأبنائكم، الحصان الأبيض تدور فكرة هذا البرنامج على إله النور وإله الظلمة، يوجد أطفال معهم الحصان الأبيض يمر على قوز قزح، وعنده شعاعٌ ذري ينثره فينير الكون بالنور الأبيض، ثم الناس يدخلهم البهجة والسرور وينبسطون ويفرحون، ثم يأتي اللص أو الحرامي أو المعاند، ودائماً يجعلون اللص هو الملتحي يقوم بدور المجرم أو بدور القراصنة، ويأتي هذا ويصنع دخاناً أسود ثم ينشره في الكون؛ فيبدأ الحصان يضعف، والأطفال تصيبهم الكآبة، والابتسامة تزول عن الشفاه، إذاً ما هي النتيجة؟ يستنتج الطفل؛ وهذا يسمونه المخيخ المبدع المخيخ المبدع داخل ذهن الطفل، وهذا المخيخ موجود لدى الرجل والمرأة والصغير والكبير، يستنتج المشاهد أن النور هو سبب الراحة والطمأنينة والسعادة، وأن الظلام هو سبب الشقاء والمصائب، إذاً ليس الذي يسعد الناس الله، وليس الذي يقدر على الناس الخير والشر هو الله، وصرفت الأمور إلى غير الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً: وليس آخراً (عدنان ولينا) يعلم طفلك كيف يحضن بنت الجيران الصغيرة ويقبلها، وربما كشف عن شيءٍ منها، فمن أين جاءت هذه الأمور؟ حينما تركنا الهدى حلت بنا محن، لما أعرضنا عن هذا القرآن، هذا القرآن نزل لكي يستفيد منه الصغير والكبير، هذا القرآن جاء حتى للنطفة قبل أن توضع في الرحم، وحتى للجنين قبل أن يولد، ويوم سابعه، ويوم يسمى، ويوم يؤمر بالصلاة، ويوم يضرب عليها، ويوم يفرق بينه وإخوانه وأخواته في المضاجع، هذا القرآن جاء لهذا الإنسان منذ أن يكون نطفة إلى أن يوضع في القبر، فحينما تركنا التعامل بأثر وتربية القرآن أصبحنا نجد هذه النتائج المزعجة ولا حول ولا قوة إلا بالله!(80/11)
أثر القرآن على المرأة أن تكون داعية إلى الله
ثالثاً: أثر القرآن علينا أو على الفتاة المسلمة أن تكون بما آمنت وعملت داعية إلى ذلك، فإن المسلم الثمرة الطبيعية له أن يكون مؤمناً عاملاً داعياً إلى ما يعمل به.
انظروا الثمرة الطبيعية التي كانت للصحابة والصحابيات، مجرد أن الصحابية تؤمن بالله جل وعلا تذهب إلى جاراتها وصويحباتها هل سمعتن ما جاء به هذا النبي الذي قدم من عند قريش؟ ويقول: كذا وكذا تدعوهن بأسلوب لبقٍ لطيف، حتى ربما جاءت المرأة ببعض النساء يبايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي يبايعهن ولا يصافحهن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة:12] فكانت المرأة بأثرها ودعوتها تؤثر على غيرها؛ فتؤمن بقية النساء ويصبحن من الصحابيات ويجئن لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الصحابي أبو بكر لما آمن، أعتق بلالاً ودعا أبا عبيدة عامر بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، أي: أنه أثر على قومٍ ودعاهم، وكانت هذه هي الثمرة الطبيعية للإيمان.
فنحن نقول: أثر القرآن علينا أن نؤمن بالله كما يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأثر القرآن علينا أن نعمل بما آمنا به، وأثر القرآن علينا أن ندعو الناس، ومن النادر أن تجد بعض المسلمات تدعو صويحباتها لاستماع شريط، أو لقراءة زاوية عن المرأة المسلمة في مجلة من المجلات، أو لمناقشة وضع من الأوضاع المعينة، أو لترتيب زيارة أو دورية أسبوعية بين الجارات يقرأ فيها القرآن، وتفسر فيها آية، ويقرأ فيها حديث وتعرف أحكامه، وتتبادل فيها الأخبار والمعلومات، والأكلات والمشروبات الطيبات لا حرج في ذلك؛ لأن الواحدة مع الأسف أو كثير من أخواتنا إن وجدنا أنها التزمت واستقامت لربما منت علينا وقالت: احمدوا الله، غيري في جمعية كذا، وغيري في النادي الرياضي، وغيري في المسبح الفلاني، وغيري وغيري {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17].
فينبغي للفتاة المسلمة ألا تنظر إلى من هي أسوأ منها، وتقارن نفسها بها، أيضاً السيئة ربما قارنت نفسها بالكافرة، وربما قارنت نفسها بالزانية، ربما قارنت نفسها بالفاجرة ولا حول ولا قوة إلا بالله! فأثر القرآن على الفتاة المسلمة أن تكون داعية، وهذه الدعوة لا نريدها أن تضيع زوجها، ولا تكتب له ورقة: زوجي العزيز! أنا مشغولة بالدعوة، تنام الليلة لوحدك، لن أعود إليك، اشتر طعاماً من المطعم لن أرجع إليك، لا.
لكن نقول: ليس الرجل كالمرأة لا شك، لا في تكوينه وتركيبه وعمله ومهماته ومسئولياته، لكن نريد منها أن تجعل من كل أسبوع ولو ساعة أو ساعتين أو في أيامٍ مختلفة للدعوة إلى الله جل وعلا.
تدعو صويحباتها وقريباتها، ثم تحضر مسابقة ثقافية طيبة، فيها الابتسامة والمرح، وفيها السعادة والسرور بعيداً عن الرقص والطبل، والبردة، والموضة، والأزياء، والكلام الذي وقع فيه كثير من النساء في هذا الزمن، والله إننا نسمع عن بعض البيوت إذا اجتمع النساء أحضرن شريط ورقص وفعلن حلقة، وأصبحت إحداهن ترقص وسط الحلقة، ألهذا خلقت المسلمة؟ {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] المرأة جعل الله لها لساناً وعينين وشفتين، وهداها النجدين من أجل أن ترقص وسط الحلقة؟! {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] سواء كان ذكراً أم أنثى، خلقت في أحسن تقويم لأجل أن تتابع مجلات الأزياء؟! ولقد كرمنا بني آدم من الرجال والنساء والذكور والإناث من أجل أن يصبحوا يتابعوا أخبار قصور الأفراح والولائم والحفلات بآخر الموديلات وآخر ما نزل؟ أستغفر الله لا ينبغي أن يكون هذا من فتاة مسلمة.
فأثر القرآن على المسلمة الاستجابة والالتزام والدعوة إلى هذا الالتزام بكل ما أوتيت؛ بالهدية والشريط، والكلمة والزيارة واللقاء، وإن هذه المدرسة التي نحن فيها اليوم لهي ثمرة من ثمرات القرآن بإذن الله جل وعلا، القرآن أمرنا بهذا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فهذا من التعاون على البر، وهذا من التواصي بالحق والصبر على ذلك، فياليت أخواتنا يعملن لمثل هذا الدور، ويحرصن على ذلك، وتؤسس كل واحدة منهن كما تفضل المقدم يعني: لو أن كل فتاة اجتمعت مع صويحباتها، وكل واحدة نقلت رغبتها مع زوجها.
والله لا أكتمكن سراً: عندنا في الحي برنامج دعوي، وهو عبارة عن جلسة أسبوعية يجتمع فيها الجيران، ونبحث أمور الحي، نرسل لكل بيت شريطاً وكتاباً، هذا في كل خمسة عشر يوماً، وربما أقمنا ندوة، والثلاثاء القادم عندنا ندوة بعنوان: (أطفال الحي من المسئول عنهم) وهذا النشاط بأكمله له الآن ستة أشهر، أتدرون من السبب فيه؟ فتاة اتصلت بأحد الإخوة وقالت: لماذا لا يكون لكم دور في الحي؟ لماذا نحن معاشر البنات والنساء والزوجات مالنا فائدة منكم في الحي ولا يستفيد منكم إلا الرجال؟ فبدأنا نرتب لهذا الموضوع حتى هدانا الله جل وعلا إلى هذه النتيجة التي أصبح من شأنها أن يصل كل بيتٍ من بيوت الحارة شريط إسلامي، وكتيب إسلامي، ونصيحة إسلامية، وربما واحدة منهن أرسلت بمشكلتها مع ولدها تشكو من زوجها، أو تشكو من أخيها، فربما اتصلنا بالزوج، وربما ناقشنا القضية، أو امرأة فارقها زوجها في لحظة غضب تدخل فيها الأهل وسببوا مزيداً من الفرقة، والفتاة تتمنى أن تعود لزوجها، فنتدخل بطريقة أو بأخرى لإصلاح ذات البين ورجوعها إلى بيت زوجها، وعودة الأطفال إلى المحضن الطبيعي بينهم.
فأقول: إن العمل من ثمرات القرآن الكريم، وهذه المدارس والعناية بها، واجتماع الأخوات فيها، واستغلالها إلى جانب القرآن الكريم بتبادل أمورٍ نافعة، يعني: ما يمنع أن تأتي الأخت بشريطٍ إسلاميٍ نافع، فيحصل تبادل الأشرطة النافعة، والكتيبات النافعة، التواصي بالردود، يعني: منذ مدة قرأت مقالاً في أحد الجرائد تقول فيه فتاة: أيتها الفتاة! ينبغي أن تدخلي غمار الطب ولا تسمعي للذين يقولون: إن في الطب اختلاطاً، وينبغي أن تخوضي هذا المضمار ولا تكوني هيابة خوافة، وعليك بالإقدام وو إلخ، وإن الاختلاط في هذا المجال ليس كالاختلاط الممنوع، بل هو اختلاط الشرف والمهنة وو إلخ، عجيب جداً! حتى اختلاط الطب هل يختلط الرجال مع النساء والممرضين مع الممرضات لشرح البخاري أو تخريج أحاديث مسلم؟! ليس بصحيح هذا، لكن أين الفتاة المسلمة؟! لكن حينما تأتي الفتاة بقصاصة الورق وتعرضها على زميلتها وتقول: ما دامت هذه عاهرة أو فاجرة كتبت فنحن نكتب خمسين رسالة ونرد عليها، ونكتب في أكثر من مجلة وجريدة في (الدعوة) في (المسلمون) في (الاعتصام) في (الرياض) في (الجزيرة) يعني: يا حبذا أن ينشر الرد في نفس المكان الذي ورد فيه الخطر، لكن إذا تعذر ذلك فإنه ينشر الرد في أي جريدة أو في أي مجلة من المجلات الإسلامية، فهذا أمرٌ مطلوبٌ مرغوب، وهذا من ثمار القرآن أن نعمل بما علمنا.(80/12)
أثر القرآن على المرأة الداعية في الصبر على الأذى
أخيراً وختاماً: فإن أثر القرآن على الفتاة المسلمة أن تصبر على ما تؤذى فيه، لا شك أن الفتاة المسلمة سوف تؤذى، ومن اتبع القرآن وعمل به لا بد أن يفتن ولو شيئاً قليلاً: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] لا بد أن تظهر حقيقة الفتاة التي تدعي الالتزام والتي تصدق مع الله في الالتزام، لا بد أن تظهر حقيقة الحجاب هل هو تجمل أو موضة أو تقليد أو تعبد لله واستجابة له، لا بد أن تظهر حقيقة القرار في البيت وحسن المعاشرة للزوج مع التي تدعي ذلك، وربما أرادت أن تصل من خلاله إلى أمرٍ آخر.
فالفتنة ربما وردت، ولكن أثر القرآن أن يثبت الفتاة المسلمة، ربما تلبس القفاز فتقابلها متبرجة سافرة في السوق وتقول: ما هذا التعقيد وما هذا التشدد، والدين يسر؟ نعم.
الدين يسر، لكن الدين ما قال: أخرجي نحرك ورقبتك ويديك وساقيك، وافتحي في هذا الفستان فتحة إلى ركبتك، الدين يسر لكن ما أمرك أن تتكسري بالقول وتخضعين به مع الرجال، نعم، الدين يسر لكن ما قال لك: تجملي في كل لحظةٍ تخرجين فيها إلى السوق، وتعطري حتى يشم الناس هذا العطر، ويفتتن الناس به، وربما فعل بعضهم المعصية وهم بها، الدين يسر لكن ما أمرك أن تتسلطي على المتحجبات والملتزمات، صدق الله العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:29 - 33].
الفتاة المسلمة قد تبتلى من إخوانها، قد تبتلى من أخواتها، قد تبتلى من قريباتها، قد تبتلى من زميلاتها المدرسات، قد تبتلى من أي مصدرٍ من مصادر الابتلاء المتوقع، لكن نقول: أثر القرآن أن يعينها على الثبات: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:11 - 12] امرأة فرعون وزوجة الطاغية تبتلى، لكنها صبرت وكانت من أهل الجنة، وطلبت ودعت أعلى المنازل: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] ربما ابتليت لكن القرآن علمها.
سمية بنت الخياط أم عمار بن ياسر، عذبهم أبو جهل، وأراد أن يردهم عن الدين، وأن يكفروا بمحمد، فأبوا؛ فكان ذلك الكافر النذل، القاسي القلب، الحجر الصلب، كان يجر تلك الصحابية الجليلة في حرارة الشمس، فهددها والحربة في يده، فقال: اكفري ارتدي اكفري بهذا الصابئ دعي دين محمد وعودي إلى دين الآباء والأجداد والأسياد، فأبت واختارت إلا أن تستمر على دين الله، فما كان منه إلا أن رمى بالحربة على فرجها، فتفجر الدم من جوفها، وكانت أول شهيدة في الإسلام.
هكذا صبرت الفتاة! ونحن وأنتن أيتها الأخوات أمام معترك خطير، الواقع الآن سوف يفرز المجتمع فرزاً واضحاً، فإما ملتزمات وإما منحرفات، إما صادقات وإما مداهنات، إما مخلصات وإما متلاعبات، إما فاجرات وإما طيبات عفيفاتٍ صالحاتٍ، فينبغي أن نتحيز وأن نميل إلى دين الله جل وعلا، وأن نكون مع الصالحين ومع الصالحات، ومع الصادقين ومع الصادقات، ومع المؤمنين ومع المؤمنات بإذن الله جل وعلا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(80/13)
الأسئلة(80/14)
حكم من تسافر في الطائرة بدون محرم، وحكم كشف الوجه عند أمن الفتنة
السؤال
ما حكم من تسافر في الطائرة بدون محرم مع وجود استقبال في المطار؟ وما حكم كشف الوجه عند أمن الفتنة؟
الجواب
سافري بدون استقبال ستجدين الفتاة وهذه المرأة تجمع الشر كله من جميع جوانبه، ومن تتبع الرخص تزندق، فما بالك فيمن تتبع الشواذ من كلام العلماء، هذا لا يجوز في أي حال من الأحوال، والعبرة والحجة هو الدليل، ثم إن الذين قالوا بكشف الوجه أيضاً قيدوها بما إذا أمنت الفتنة، ونحن الآن في زمنٍ الفتنة قائمة حتى مع الحجاب، فكيف بكشف الوجه، ثم إن المرأة مطلوب منها أن تكف الشر عن نفسها، فإذا كان كشفها لوجهها ربما علق بعض الذئاب بنظراتٍ متتابعة لها، وجعلهم يعاكسونها ويؤذونها، فينبغي لها بل يجب عليها أن تغطي وجهها حتى لو سلمنا بقولها: إنها تعمل بقول الذين يرون جواز كشف الوجه.
فمسألة كشف الوجه في هذا الزمن هي مسألة الفتن، والتي جمعت كل المصائب في مقام واحد، والوجه كما يقول الشيخ ابن عثيمين: هو مجمع المحاسن، الرجل إذا أراد أن يخطب فتاةً هل نقول: انظر إلى يدها أو انظر إلى أصابع رجليها، نقول: انظر إليها أي: إلى الوجه، ولو أن فتاة أراد أن ينظر إليها خاطبها فدخلت عليه وهي متغطية الوجه ورأى قدميها ويديها قال: ما رأيتها، يريد أن يرى مجمع الفتة والحسن، ألا وهو وجهها.
فالمسلمة ينبغي أن تعتني بما هو أحظى لها بالقبول والرضا والمغفرة عند الله جل وعلا، لا أن تقول: قال فلان وقال علان.(80/15)
نصيحة لمن تحفظ القرآن ثم تنساه
السؤال
ما رأيكم فيمن تحفظ القرآن وتنساه؟
الجواب
الواجب على من اعتنى بكتاب الله جل وعلا أن يردده حتى لا يضيع منه، ومن أكثر ترداد كتاب الله رسخ في قلبه، وليجعل بداية توجهه لحفظ القرآن، وترداده وحفظه، وفهم معانيه إرضاء الله سبحانه وتعالى، حتى يلقى الله به شافعاً، لا أن يكون مزيداً من معلوماته أو ثقافته أو حصيلته أو شهادته، فمن اعتنى بهذا نفعه الله، وثبت القرآن في قلبه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17].(80/16)
حكم من تخرج إلى السوق لغير حاجة
السؤال
أرجو نصح وتوجيه الأخوات من الذهاب إلى الأسواق بدون حاجة؟
الجواب
الأصل في المرأة أن تكون سعيدة القرار في بيتها: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وإذا بدا للمرأة حاجة فلا حرج أن تذهب لقضاء حاجتها مع زوجها أو ذي محرمٍ حتى لا تقع في فتنة، أو حتى لا ينفرد بها السباع الذين يتسكعون في الأسواق من غير حاجة.
ولكن المصيبة كل المصيبة من فتيات يدخلن الأسواق ولا حاجة لهن، أو ربما من أجل حاجة تافهة بإمكانها أن ترسل زوجها أو ابنها أو أخاها أو ابن أخيها مثلاً لهذا الأمر، فتختار هي أن تذهب، وربما تجد الغالب والسمة الغالبة على كثير من اللائي يشتهين التردد والتجوال في الأسواق، تجدها لا تخرج إلا متزينة أو متعطرة، وربما كانت طويلة اللسان عند الباعة، جيدة للمماكسة والمكاسرة، وهذا ليس من خصال المرأة العفيفة ذات الحياء.(80/17)
حكم إقامة وليمة عند ختم القرآن
السؤال
ما حكم إقامة وليمة بمناسبة ختم القرآن حفظاً، هل له أصل عند السلف، وإن كان جائزاً فهل يدخل فيه رياء أم الأحسن أن يكتم الحافظ ذلك؟
الجواب
إذا أقام الإنسان وليمة من أجل أن يعلم الناس به، وكان قصده الرياء، فهنا هذه الوليمة وهذا الفعل حرام: (من سمع سمع الله به) والله أغنى الأغنياء عن الشرك، من كان حفظ القرآن لكي يعلم الناس فالله غني عن عبادته، ولكن إذا أراد الإنسان أو أرادت الفتاة أن تبعث روح المنافسة والاقتداء وروح التشجيع على الخير بين زميلاتها وأخواتها، اليوم فلانة ختمت فحضرنا وليمتها، وبعد أسبوع فلانة تنتهي من الجزء الثلاثين فنحضر وليمتها، وبعد أسبوعين فلانة تنتهي من الجزء الثلاثين أو التاسع والعشرين وهلم جراً، ففي هذه الحالة نقول: هذا خير، أما مسألة: هل له أصلٌ عن السلف؟ فالله أعلم.(80/18)
نصيحة للنساء المستقيمات تجاه هذه الصحوة
السؤال
أنا مسلمة حضرت وسمعت خيراً كثيراً وسؤالي: ماذا تنصح المسلمات المستقيمات في ظل هذه الصحوة؟
الجواب
نقول: نحن بحاجة إلى الملتزمات المستقيمات، إن الصحوة في صفوف الشباب قد وصلت إلى مرحلة جيدة، وأما في صفوف الفتيات والشابات فهي لا زالت تخطو خطواتها الأولى، لا زالت وليدة، وأملنا في الله وفيكن وفي هذه الأخت وأمثالها من الأخوات الصالحات، أن يستعن بالله جل وعلا على ذلك وعلى الترتيب، لو أن كل واحدة جعلت في بيتها أسبوعياً جلسة للصديقات والزميلات والجارات، وملئت هذه الجلسة بالبرنامج الثقافي مبتدئاً بكتاب الله، ثم السنة، ثم المسابقة الطيبة، ثم القراءة، ثم القصيدة الممتازة، ثم البرامج الترويحية، والأكل والمشروب، والأُنس والفرح والسرور، فهذا خيرٌ عظيم، وتوزيع الأشرطة النافعة والكتيبات.
لن نرقب النتيجة ولن ننتظر النتيجة خلال شهر أو شهرين، لكن لو استمرت كل فتاة على هذا المستوى بهذا العمل الجاد المستمر البناء الذي يبتغى به وجه الله لمدة خمس أو ست سنوات، ستصبح الفتيات في الثانويات والجامعات فعلاً مثالاً للجامعات الإسلامية ومثالاً للطالبات والمدارس المسلمة، هذا الذي نريده وهو متيسر بحمد الله جل وعلا؛ لأننا في هذه البلاد ولله الحمد والمنة لن تبدأ الصحوة في وقتٍ الفتاة أصبحت تتاجر بالدعارة وتشرب الخمر، وتخرج مع الرجل عياناً بياناً ممن لا يمت لها بصلة، إذا كانت الصحوة بدأت في مصر مثلاً في زمنٍ البارات فيه مفتوحة، والحانات مفتوحة، وبيوت الدعارة مفتوحة، والاختلاط مفتوح في الجامعات وفي المدارس، فيعني: أن مشكلة الإصلاح عندهم صعبة، لكن نحن هنا الحمد لله الخير كثير، فلا بد أن نستغل هذا، وبداية الصحوة في ظل هذه الظروف قبل انحراف المجتمع بالكلية يجعلنا أقدر على تقويم ماذا حصل من الخطأ أو الاعوجاج.(80/19)
نصائح وتوجيهات لمن أرادت حفظ القرآن
السؤال
فتاة تريد تعلم القرآن وحفظه ولكن حفظها ضعيف، فكلما حفظت شيئاً نسته؟
الجواب
أولاً: ننصحك بترك المعاصي يقول الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتاه عاصي
ثانياً: اختيار الأوقات المناسبة: والمجرب أن وقت ما قبل الفجر وبعد الفجر مناسب للحفظ بإذن الله جل وعلا.
أيضاً لو أن الإنسان اجتهد أن يحفظ ثم ينام بعد ذلك، يعني: لو جعلت هذ الفتاة حفظها في الليل بعد العشاء بأن حفظت صفحتين ثم نامت بعدها، فالغالب أن النوم وعاء الحفظ، لأن هذا مجرب، أيام الامتحانات إذا ذاكرت الفتاة معلومات مثلاً في الفيزياء أول ما تستيقظ وتغسل وجهها فالذي على لسانها آخر معلومة تكون قد دخلت في رأسها قبل النوم، فآخر ما يدخل هو الذي يثبت، فنقول: النوم وعاء الحفظ، لا بأس أن تحفظ قبل نومها، وفي آخر الليل إذا استيقظت، وبعد صلاة الفجر، ونوصيها بأن تتهجد بالقرآن، فإن التهجد بالقرآن يعين على حفظه، ولا حرج أن تقوم الواحدة تتهجد في البداية وتفتح المصحف أثناء التهجد في الليل، يعني: ليس من شرط التهجد أن يقرأ الإنسان من حفظه، بل بإمكان الفتاة أو بإمكان المرء أن يقوم ويتوضأ ويفتح المصحف ويقرأ.
كذلك من الوسائل المعينة: ألا يغير الإنسان المصحف الذي يحفظ فيه، فتجد الإنسان تارة يحفظ في هذا المصحف الطبعة العثمانية وبالرسم العثماني، وهذه الطبعة الفلانية وهذه الطبعة الفلانية، هذا أدعى ألا يثبت في الذاكرة موقع الآيات من الصفحات والأسطر؛ لأن كثيراً من الناس ذاكرته بصرية، يعني: البصر هو الذي يحفظ موقع الآية وموقع الحرف من الصفحة، فننصح إذا أرادت أن تحفظ أن تبدأ بمصحف ولا تغير الحفظ في أي مصحفٍ سواه، ولا حرج أن تجعل عندها ثلاث أو أربع نسخ حتى تستطيع أن تجعله في أكثر من مكان، في مدرستها، في بيتها، في أماكن أخر، بحيث لو أرادت أن تقرأ تقرأ في نفس المصحف الذي تعودت أن تقرأ فيه.
وكذلك من الوسائل المعينة: العناية بالحضور إلى دور القرآن الكريم والحفظ فيها، والمواصلة؛ لأن الحفظ لا يتم بأن الإنسان يحفظ يوماً ويضيع أسبوعاً ويحفظ يومين ويضيع ثلاثة أيام، هذا يتفلت سريعاً، إنما الحفظ لمن تابع.
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ سأنبيك عن تأويلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهادٌ وبلغة وصحبة أستاذٍ وطول زمان(80/20)
نصيحة لفتاة بدأت في طريق الالتزام
السؤال
امرأة تقول: ماذا تنصح الفتاة التي بدأت بطريق الالتزام؟
الجواب
ننصحها أولاً: بترك صديقات السوء، فإن الإنسان يتأثر بصديقه وجليسه، والفتاة تتأثر بصويحباتها وجليساتها أكثر من تأثر الابن بأبيه والبنت بأمها، وهذا مشهودٌ ملاحظ، فمن أراد أن يتوب ويستقيم استقامة طيبة فما تعود عليه فيما مضى من مجالس اللهو والغفلة فليهجره إلى غير رجعة.
والعبرة من قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم سأل راهباً فقال: قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قال: لا.
فأكمل به المائة، ثم ذهب إلى عالم فقال: هل لي من توبة؟ قال: ومن ذا الذي يمنعك عنها؟! إن باب التوبة مفتوح، فأول ما نصحه بعد أن أبدى ذلك رغبته في التوبة، نصحه بأن ينتقل من مكان المعصية إلى مكان الطاعة، فمن أرادت أن تستقيم صادقة فلتنقل نفسها من جليسات السوء إلى جليسات الخير.
المسألة الثانية: أن تودع ما عندها مما يعين على المعصية، الأفلام، المجلات، الأزياء، الموضات، وأشياء كثيرة من الأمور التي تعين على المعصية، فمن واجب الفتاة الجادة في الالتزام أن تتخلص من كل ذلك.
ليس المراد بالالتزام التزام الهوى، التزام الضعف، التزام التشهي والأماني، هذا التزامٌ كلٌ يدعيه، والفتاة البليدة، التلميذة التي تقديرها مقبول أو ضعيف تتمنى أن تدخل أعلى الدرجات، وتنال أفضل الشهادات، لكن البليد يتمنى ولا يحصل شيئاً، لكن الجاد تجده يواظب، يحرص، ثم يتمنى أن يجد النتيجة، فالجادة في طلب الالتزام والتوبة، عليها أن تودع ما كان عندها من أمور المعصية؛ أفلام، مجلات، صور، أشرطة أغاني، أرقام، البوم، أشياء كثيرة، كل هذه الأمور لا بد أن تلغى بتاتاً.(80/21)
كيفية المحافظة على زيادة الإيمان
السؤال
الإيمان ينقص ويزيد، فكيف نحافظ على اتزان الإيمان وحلاوته؟
الجواب
يقول أهل السنة: الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مجرب مشاهد، فلتلاحظ الواحدة منكن نفسها الليلة عندما حضرت هذه الجلسة، وهذه الروضة من رياض الجنة من حلق الذكر، ثم عادت إلى بيتها، ستجدين نفسك هذه الليلة نشيطة وعندك رغبة في الوتر، عندك رغبة في سماع شيء نافع، عندك رغبة في التدبر في المصحف، عندك رغبة في فعل كل خيرٍ تدعين إليه، ولو أن الواحدة عادت من حفلة زواج في ليلة من الليالي، وكانت الحفلة مليئة بالمغنيات والدفافات، والراقصات والمطبلات، فتجد الواحدة نفسها ضعيفة، لو أرادت أن توتر فإنها لا تجد القدرة والعون على الوتر، لو أرادت أن تفتح المصحف ما تجد الهمة التي تعينها ولو على قراءة آية واحدة.
إذاً: فالإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية.
ومن أهم الأمور كما كررت وكما أعدت وأعيد الآن؛ مسألة الجليس والجليسة، الصديقة ربما قربت خيراً فأعانت عليه، وربما قربت شراً فأوقعت فيه، وكم من فتاةٍ ضاعت عفتها، وضاع حياؤها، وفضحت سمعتها، وانتشر عارها بسبب جليسة سوء زينت لها المنكر، ثم نصبت لها كميناً فوقعت في الحبائل والفخاخ، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(80/22)
نفي بدعية وليمة ختم حفظ القرآن
السؤال
بالنسبة لوليمة ختم القرآن حفظاً لو لم يكن في السنة وارداً هل يعتبر إقامتها بدعة، وهل تدخل هذه البدعة في قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة).
الجواب
ما يصل الأمر إلى أن نقول: إنها بدعة، والمشهور أن الكثير يفعلها، ولا حرج في ذلك، بل هذا من الفرح يعني: الإنسان حينما ينزل بيتاً جديداً ويقيم وليمة لا أحد ينكر عليه، المهم ألا يجعل هذه الوليمة من باب التعبد، يعني: أن يشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بهذا، أو أن يفهم فهماً من القرآن أن هذا أمر مطلوب، لكن من الأمور والعادات أو الوسائل الدعوية الاجتهادية التي الباب فيها مفتوح من دون أن يعتقد الإنسان فيها نوع تعبد، وإنما من نوع التهاني والتبريكات الطيبة، من أجل تشجيع الباقيات على قراءة القرآن وحفظه.(80/23)
ضرورة تغطية القدمين والكفين حال الخروج
السؤال
نأمل توجيه نصيحة للأخوات بضرورة تغطية القدمين والكفين ضمن الغطاء أثناء الخروج؟
الجواب
نرجو من الأخوات أن يلتزمن بذلك سترهن الله في الدنيا والآخرة.(80/24)
حكم صبغة الرأس ونتف اليدين والساقين وتشقيرهما
السؤال
ما حكم الصبغة التي توضع في الرأس (الميش) وما حكم نتف اليدين والساقين، وما حكم تشقير شعر اليدين والساقين والوجه؟
الجواب
هذه مسألة فيها كلامٌ، وإذا كان الأمر على حالٍ فيها مشابهة للكافرات وتقليد، فهذا لا يجوز بأي حالٍ من الأحوال.
وأما إن كان الأمر من باب التجمل المحض للزوج وليس فيه تقليد أو إغراء أو إعجاب بالكافرات، فأرجو ألا يكون بهذا بأس.(80/25)
حكم تجعيد المرأة لرأسها
السؤال
بعض النساء يقمن بتجعيد الشعر، بتحويله من الشعر الناعم إلى المجعد، وتنتهي مدة التجعيد مع الاستحمام نرجو إفادتكم؟
الجواب
نقول: الضابط في هذا ما كان فيه تقليد فما ينبغي، وما كان فيه تجمل للزوج فالأمر لا حرج فيه، لكن الواقع يشهد أن هناك فتياتٌ لم يتزوجن ويسعين إلى فعل هذه الأمور، لأجل من يفعلن هذا، إذاً فمثل هذه التي ليس لديها زوج تتجمل له، نقول: ينبغي أن تكون الأمور على ما كانت عليه حتى لا تقع المرأة في مخالفة أو هوى تقليد من حيث لا تشعر.(80/26)
حكم لبس القصير للنساء
السؤال
ما حكم لبس القصير حيث يتجاوز نصف الساق؟
الجواب
لا ينبغي للمرأة؛ لأن هذا ربما عرضها لو انكشفت عباءتها فيظهر ساقها، ولبس الضيق والمفتوح من الخلف كل هذه ليست من سمات ستر المرأة المسلمة؛ المرأة المسلمة ترخي ثوبها ذراعاً ولا حرج في ذلك، ليس في هذا إسبال؛ لأنه جاء في الشريعة بالترخيص فيه، هذه مسألة مهمة أما ما وقع من بعض الفتيات هداهن الله في فتح ما يسمى بالتنورة أو باللباس مع النصف، أو لبس نصف الساق أو شيءٍ من هذا، السنة للرجال إلى نصف الساق وليست السنة للنساء ذلك.(80/27)
حرمة لبس الملابس التي فيها صور
السؤال
أرجو من فضيلتكم بيان حكم الملابس المرسوم فيها وجه إنسان أو قناع من غير جسم؟
الجواب
كل لباسٍ عليه صورة مرسومة فلا يجوز لبسه، ينبغي للمرأة ألا تلبس أطفالها هذه الملابس التي عليها الصور.(80/28)
حكم قراءة القرآن حال الدورة الشهرية
السؤال
ما حكم قراءة القرآن أثناء الدورة الشهرية إن كانت دارسة؟
الجواب
إذا كانت تخشى على نفسها أن تنسى حفظها فلا حرج أن تردد ذلك، وإذا أرادت أن تطلع فلا حرج عليها المهم إذا كان بقصد يعني: تخشى أن يضيع حفظها وأن تنساه.
وبعضهم يقول: تمسه بملحفة يعني: تجعل بينها وبين المصحف حائل.(80/29)
حكم من به سلس بالريح
السؤال
ماذا تفعل من هي مصابة بالريح أكرمكم الله؟
الجواب
المرأة التي يكثر فيها الرياح، ومن بها سلس البول، نقول لها: توضئي ثم بعد ذلك لا يضرك ما خرج.(80/30)
حكم الذهاب إلى المشعوذين لطلب السعادة
السؤال
كثير من النساء إذا حدث بينها وبين زوجها مشاكل ذهبت إلى المشعوذين وتركت العلاج الحقيقي؟
الجواب
هذا سؤالٌ طيبٌ وجيدٌ، وهذا مما ابتليت به كثيرٌ من فتياتنا وبناتنا في هذا الزمن، ربما الواحدة قالت: أنا أعرف لك امرأة تصرفه، والأخرى تقول: أنا أعرف امرأة تجعل الأحوال بينكم سعيدة، وربما من يقول: أنا أعطيكم بخوراً تجعلونه في البيت يطرد الشياطين ويجلب السعادة، وهذا خطيرٌ جداً ربما اعتقدت هذه التي تناولت وأخذت هذا الدواء أن هذه المرأة أو هذا البخور أو هذا الدواء هو الذي يجلب السعادة، والله جل وعلا هو الذي يكتب السعادة، وهو الذي يمنحها الطائعين التائبين من عباده، الله جل وعلا يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21].
لا تستوي المرأة ذات المعاصي مع المرأة صاحبة الطاعة، فصاحبة الطاعة سعيدة كما أن صاحبة المعاصي شقية ولو ظنت أنها سعيدة في بعض الأمر؛ لكن شقاءها الحقيقي دائم ومستمر، تلك التي تستمرئ المعاصي وتتعود على فعلها.
فالواجب على المرأة المسلمة أن تستعين بالله حينما يصير بينها وبين زوجها مشاكل: أولاً: ألا تخبر أهلها، ولا تخبر أحداً من الناس.
ثانياً: أن تتضرع إلى الله جل وعلا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نابه أمرٌ فزع إلى الصلاة) فتتضرع إلى الله وتتوضأ وتتهجد، وتسأل الله أن يرفع الفتنة والمشكلة التي حصلت بينها وبين زوجها، وألا يفرق بينها وبين بعلها، وأن يجمع شملها، وتلجأ إلى الله لجوء الصادق المضطر، الغريق في لجة البحر، ثم بعد ذلك ستجد أن الفرج بإذن الله مع حسن الأدب، وعلى أية حال كل امرأة تعفو عن زوجها، وكل زوجٍ يعفو عن زوجته، وكما قال أبو الدرداء: [احملي عني وأحمل عنك].(80/31)
علاج الضيق والكآبة
السؤال
فضيلة الأخ السلام عليكم أما بعد: مع بدء الإجازة يروج سوق ما يسمى بالملاهي والحدائق النسائية، ولا يخفاكم ما في خروج المرأة من أضرار جسيمة، لا سيما إذا كان خروجها من غير هدفٍ أو حاجة، وقرارها في بيتها هو الأصل، والمشكلة التي تواجهنا في التوعية من خطر هذه الملاهي الاحتجاج بنساء المشايخ وطلبة العلم وحضور النساء الملتزمات لهذه الملاهي، ولما لكم من أسلوبٍ مؤثر على جميع المستويات، فأرجو تناول هذا الموضوع من خلال درسٍ خاصٍ أو خطبة جمعة وتوصية كلمةٍ للمشايخ وطلبة العلم بمنع نسائهم من ارتياد هذه الأماكن، وكلمة خاصة للمسلمات الملتزمات لمحاربة هذه الأماكن، لا يخالكم إلا أن تعطوا الموضوع أهمية؛ لأنه فيه مخاطرة، وجزاكم الله خير الجزاء؟
الجواب
على أية حال هذه من المسائل المهمة، وكما قلنا في بداية هذه الكلمة أو المحاضرة كما قال الشاطبي رحمه الله:
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطَّلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا
العمر يمضي والقبر هو النهاية، والموت لا ندري متى يصل، وكثيرٌ من الأخوات كلما وجدت من نفسها ضيقاً أو من صدرها كآبة قالت: أذهب إلى الملاهي لأجد راحة، إذا وجدنا امرأة جائعة نقول: اشربي قازاً لأجل تشبعين! لا.
القاز ليس هو غذاء الجوع، لو وجدنا رجلاً عطشان نقول له: كل حصى! ليس الحصى هو علاج العطش، فكذلك الذي في قلبه من الكآبة والضيق ليس علاجه الأغاني والملاهي والحدائق العامة، علاج القلب ذكر الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(80/32)
التحذير من لبس ما فيه استهزاء بالدين أو فحش
السؤال
ما حكم لبس البلائز المكتوب عليها كتابة إنجليزية؟
الجواب
ينبغي أن ينتبه من هذه الكتابة، ربما يكون في الكتابة تعظيم للكفار أو تقديس لهم أو سب دين المسلمين، وهذا للأسف حصل في بعض الملبوسات، يوجد فيها نوع استهزاء -والعياذ بالله- وكلمات فيها تفحش، ومخالفة للدين، فلا ينبغي لفتاة أن تلبس شيئاً لا تعرف ما الذي كتب فيه.(80/33)
حسن المعاملة في تربية الأولاد
السؤال
تظن بعض النساء أن التربية الصالحة للأبناء تكون بتعريفهم الحلال والحرام، وتنسى أن هناك أموراً مهمة مثل توفير القدوة، والرفق في المعاملة، والجلوس مع الطفل وتحديثه بما يفهم، والسرور، وسرد القصص الطيبة عليه، فهل من كلمة حول هذا الموضوع؟
الجواب
في الحقيقة نعم، لا بد أن يكون للمرأة دور، والمرأة لها دورٌ طيب، أعرف فتاةً صالحة جزاها الله خير الجزاء زوجها منحرفٌ وأدخل الفيديو والأفلام التي لا تليق في بيته، ولكن بفضل الله ثم بفضل استقامتها جعلت الأطفال يضغطون على والدهم فأخرج الفيديو بحسن التربية، يعني: الزوج يسبها وربما شتمها وآذاها ولا يسمع لها كلاماً، ولكن بحسن تربيتها للأولاد جعلت الأولاد كلما جاء أبوهم يا أبت! أخرج هذا، ما نريده الله يغضب علينا ويعاقبنا، حتى الأطفال هم أنفسهم أزعجوا والدهم حتى أخرجه، وهذا لن يتم لها إلا بطول جلوسها مع أطفالها وما تركتهم للخادمات، وسردت عليهم القصص الطيبة النافعة، وكانت لطيفة بهم، وكانت رقيقة رفيقةً في معاملتهم.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(80/34)
أحوال المسلمين في كوسوفا [1]
مصيبة المسلمين في كوسوفا عظيمة، والمجازر التي يقوم بها أعداء الإنسانية هناك شاهدة على كذب مدعي حماية السلام، وفي هذه المادة تجدد قصصاً من تلك وأعاجيب لعلها تعرفك بمدى الخبث ضد الإسلام والتآمر على المسلمين.(81/1)
حال المسلمين في كوسوفا
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
أيها المسلمون! لم يعد خفياً أو غامضاً ما يلقاه المسلمون من القتل والتصفية الجسدية البشعة، مع التشريد والتهجير والحرق والتدمير الذي يقع على أنفسهم وأسرهم، وذلك على يدِ الكنيسة الأرثوذكسية، على يد نصارى متعصبين أتباع هذه الكنيسة التي لم تكن من قبل معروفةً إلا بشديد العداء والتعصب، ليس على المسلمين فحسب، بل على أتباع الكنيسة النصرانية الأخرى، وليس التفريق هنا بين الأرثوذكس وغيرهم من باب الذم للأرثوذكس والثناء على غيرهم، فالكفر ملة واحدة، وبعضهم أخبث من بعض، فبعض الطوائف والملل الكافرة أشد عداوةً وحقداً، وبعضها أدنى من غيرها في ذلك.
أيها المسلمون! شردت الكنيسة الأرثوذكسية قرابة مليون نفس مسلمة جلهم من الأطفال والشيوخ والنساء، أما الشباب فكانت المقابر الجماعية تنتظرهم على موعد الدفن وهم أحياء، وآخرون في السجون والمعتقلات، ولعل المتأمل والمشاهد للصور التي تعرضها وسائل الإعلام لقوافل المهاجرين والمشردين، لا يظهر فيها إلا الشيوخ والعجائز والأطفال والنساء.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كل هذا الشعب صنفان فقط، أطفالٌ وشيوخٌ وعجائز، أين الشباب؟! هل زاغت عنهم الأبصار؟! أم هوت بهم الريح في وادٍ سحيق؟!
الجواب
لا.
بل هوت بهم أيدي الحقد الصربية الأرثوذكسية في أوديةٍ سحيقةٍ من المقابر الجماعية، بعد أن تمت التصفية والقتل والتمثيل لكل من يظهر عليه أدنى علامات الفهم للدين أو التدين.
أيها المسلمون! الحال في كوسوفا مشهدٌ يترجم مفردات الألم والحسرة والذل والمعاناة، التي يمر بها المسلمون هناك، والحال في كوسوفا مشهدٌ يترجم مفردات الحقد والبغض والعداوة الدينية التي بلغت حد القتل والاغتصاب والتشريد، وكل خطبةٍ وكل كلمةٍ وكل فزعةٍ وكل صيحةٍ وأنة وآهة سمعناها من المسلمين إبان عداوة الصرب، وحرب الصرب لهم في البوسنة، نراها متجددةً متكررةً ولكن على مسرحٍ جديد، وعلى عرقٍ من المسلمين جديد، كانت الأولى صربيةً بوسنية، والآن صربية كوسوفية.
فيا أيها المسلمون! لن أعيد وصف المأساة بكل صورها، فحسبكم أنكم المسلمين هنا، كما يقول شاعرهم:
وإن المسلمين بكل أرضٍ قتيلٌ أو شريدٌ أو طعينُ
أرقٌ على أرقٍ وقلبٌ يخفقُ ودمٌ ينزُّ ودمعةٌ تترقرقُ
هذا واقعهم، وتلك صيحاتهم، وإليكم أناتهم: امرأةٌ تلد مولودها وتضع جنينها ثم يخرجها الصرب من بيتها وهي لم تتخلص بعد من الانفصال من جنينها الذي لا زال مرتبطاً بها، وأُخرى تموت وهي تُنقل، وشيخٌ يئن يموت جوعاً وعطشاً، وذاك يموت مرضاً وسقماً، وأطفالٌ تدور أعينهم حائرة، لا يعرفون إلى أين الرحلة، ولا إلى أين المصير، ولو أنهم علموا ما يدور حولهم، لشابت رءوسهم قبل أن يبلغوا المشيب.(81/2)
كوسوفا في الماضي
أيها الأحبة! إن وصف المأساة ترجمته الصورة والخبر المنقول حياً على الهواء، وتلك أبلغ من الكلمة.
أعود إلى الماضي لأحدثكم قليلاً عن كوسوفا وأهلها، عن حقبة زمنيةٍ ماضيةٍ في التاريخ، لتعرفوا أن من الخطأ أن ننسب العداوة إلى الأعراق والطين، وننسى أن العداوة في العقيدة والدين، يقول سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109].
من هم أهل الكتاب؟ اليهود والنصارى، ومن هم النصارى؟ الكفر بملله، الأرثوذكس والبروتستانت والكاثوليك والأرمن، فكلهم أولياء بعض، ولكن أشدهم عداوةً على طوائفهم وعلى المسلمين خاصة هم الأرثوذكس، وحسبكم أن تعلموا أن الكنيسة الروسية هي كنيسة أرثوذكسية، ويربطها حبلٌ من الولاء الشديد مع الصرب لاجتماعهم واتفاقهم في الملة والمعتقد والديانة، أو في فرع الملة والمعتقد والديانة، فالروس من النصارى الأرثوذكس، والصرب من النصارى الأرثوذكس.
ولذا لا غرابة أن نجد مع بعد المسافة، والبون الشاسع في الرقعة الجغرافية، والفواصل وغيرها إلا أن الروس هم أشد الناس وقوفاً أمام الناس في هذه المعركة، ليست رحمةً بهؤلاء البيض، فالمسلمون أيضاً بيض مثلهم، لكنها رحمةٌ بالأرثوذكس.
أيها الأحبة! تأملوا قول الله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:105]، وتأملوا قول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
فعلى الرغم مما سمعنا وما تردد في كثيرٍ من وسائل الإعلام، أن الحرب بين الإسلام والجاهلية هي حربٌ لن تعود إلى السيف والدم، ولن تعود إلى القصف والقتل، لكنها حربٌ فكرية، وعلى المسلمين بناءً على هذا أن يتركوا الإعداد، وأن يتركوا التدريب العسكري، ومن يتدرب من شباب المسلمين تدريباً عسكرياً في أي رقعةٍ من بقاع الأرض فذلك إرهابيٌ متطرفٌ لا همَّ له سوى التدمير والقتل والتفجير، ولا حاجة إلى هذا النوع من الإعداد في المعركة القادمة لأنها معركة فكرٍ وإعلام، إنها المعركة الحالية، والمعركة القادمة معركة فكرٍ وإعلام، ومعركة كفرٍ وإسلام، ومعركة دبابة، ومعركة بندقية، ومعركة قلمٍ وصحيفةٍ وكتابٍ وجريدةٍ وطائرةٍ وقنبلة، فإنه من الكبائر أن يفصل شباب الإسلام في الإعداد عن الجانب العسكري، ويقال لهم: أعدوا إعداداً فكرياً أو تربوياً فقط.
أيها المسلمون! من الذي سوف يدافع عن المسلمين هناك؟ جوابٌ أدعه لكم، لتضعوا كل ما يخطر على بالكم من الأجوبة، ولتعلموا أن من المقاصد الفرعية الجزئية، عزل المسلمين عن السلاح مباشرة.
أيها الأحبة! إنها عداوة الكنيسة قبل عداوة الدوما، وعداوة الدين قبل الطين، إقليم كوسوفا معظم سكانه ألبان، تبلغ نسبتهم (90%) وينحدرون من قبائل هندو أوروبية، وصلوا إلى هذه المنطقة قبل أن يسكنها أحد حتى اليونانيون، لم يكونوا من قبل في تلك الرقعة الخالية، كما ينازع الصرب ويدعون، وأرض كوسوفا أرضٌ خصبةٌ مليئةٌ بالثروات الطبيعية، ويوجد بها مناجم ذهبٍ وفحمٍ وزنكٍ ورصاص.
ولذا كانت كوسوفا مطمعاً للأعداء، تبلغ نسبة المسلمين في كوسوفا أكثر من (95%) وقد وقعت معركة كوسوفا بين المسلمين والصرب قبل ستمائة سنة، ليست هذه المعركة الثالثة، ولا الثانية، بل قبلها معارك، والأولى كانت قبل ستمائة سنة عام (1389م) وانتصر المسلمون فيها نصراً مؤزراً، وأصبحت هذه المعركة تعتبر منعطفاً في تاريخهم، حتى أصبح التاريخ الصربي يقسم إلى قسمين: ما قبل كوسوفا وما بعد كوسوفا؛ لأن هذه المعركة أنهت نهايةً تامة الدولة الصربية ذلك الوقت، وإحدى المعارك الحاسمة، بين المسلمين والنصارى في أوروبا.
وكان قائد المسلمين فيها السلطان العثماني مراد، وهو أحد سلاطين الدولة والخلافة آنذاك يرحمه الله، وقد بسط العثمانيون حكمهم على كوسوفا سنة (1455م) ومنذُُ ذلك الوقت والصرب يرددون ويروجون دعوى تحرير كوسوفا بزعمهم، وبعد معارك عديدة خلال عشرات السنين اندلعت حرب البلقان عام (1912م) اجتاح خلالها الصرب كوسوفا، وبادر الصرب بالتطهير العرقي وقتل وتهجير المسلمين الألبان، بل أرغمت المسلمين الذين كان عددهم آنذاك (95%) وأرغمت الكاثوليك الذين كان عددهم (5%) على اعتناق الأرثوذكسية، وفعلت صربيا كما يفعل اليهود اليوم في فلسطين، في تطبيق سياسة الاستيطان للصرب، في إقليم كوسوفا، فأخذوا يستقدمون الصرب من مناطق أخرى، ويوطنونهم في كوسوفا، ويهجرون المسلمين ذات اليمين وذات الشمال.
وبعدها اندلعت الحرب العالمية الأولى عام (1914م) وكانت شرارة الحرب العالمية من هذه المنطقة التي تدور رحى الحرب الآن فيها بين الدوما والناتو، نعم.
شنشنةٌ نعرفها من أخزم، وذلك شأن هذه الملة المجرمة التي في النصارى، وكانت المعركة الأولى العالمية، كانت في الأصل بين النمسا وصربيا، اخترقت على إثرها القوات النمساوية صربيا، في نهاية عام (1915م) ومنح النمساويون الألبان في كوسوفا نوعاً من الحكم الذاتي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما دخلت قوات الحلفاء الفرنسية مع الجيش الصربي كوسوفا سنة (1918م) واعتبر الصرب أن ذلك هو التحرير الثاني، وبعدها فقد الألبان في كوسوفا الحكم الذاتي الذي تمتعوا به خلال الحكم النمساوي، وانبعثت من جديد سياسة الاستيطان التي كانت قد بدأت قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أن عملية التصريف توقفت مرةً أخرى، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، عام (1939م) وانضمت معظم كوسوفا إلى ألبانيا وحدثت هجرةٌ مرتدة للمستوطنين الصرب، وبعد وعود من تيتو حاكم يوغسلافيا سابقاً بأن يقرر السكان مصيرهم بأنفسهم إذا حملوا السلاح وشاركوه في تحرير إقليم كوسوفا وغيره من الأقاليم.
وبعد ذلك تأسس حكمٌ ذاتيٌ لـ كوسوفا ولكن في ظل هيمنة صربية عام (1945م) أي: بعد قرابة ست سنوات من اندلاع الحرب العالمية الثانية، واستمر حتى عام (1989م) إلى أن قام مجرم الحرب سلبودان ميلزوفتش ( Melzofetsh Slebodan) بإلغائه عام (1989م) في الوقت الذي منحت فيه بقية الجمهوريات الحكم الذاتي مما تسبب في هذه الأحداث التي ترونها الآن.
أيها الأحبة! ليست العداوات مفاجئة وما يوم حليمة بسر:
قد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي
فإلى كل الأغبياء الذين يريدون أن ينسوا الماضي، وإلى كل الذين يقولون: لا علاقة بين الشعوب إلا علاقة المصالح، لينسوا أن قضايا الدين والعقيدة والملة هي التي تدفع الشعوب وتحركها، وتفني أمماً وتهجر أقواماً وتشتت أجيالاً، إلى أولئك جميعاً نقول: هل تحتاجون بعد الشمس إلى دليل؟! هل تحتاجون إلى برهان لتفهموا وتعرفوا أن العداوة عقدية ودينية؟! والقضية التي يتحدث عنها كثيرٌ من الناس هي الحرب بين الناتو من جهة والصرب من جهةٍ أخرى، وتلك وإن كانت مسألة كبيرة وخطيرة، إلا أنها لا تساوي شيئاً أمام تهجير المسلمين وتشريدهم، وتنصير أطفالهم بعد أن تتقاسمهم الأديرة والكنائس ليتربوا هناك في ملاجئ ومهاجر مشتتة في أنحاء أوروبا، هل يبقى بعد ذلك انتماء، هل تصمد هوية؟ هذا هو الوجه الأخطر للحرب القادمة.
نعم إن دمار المباني والمنشآت الصربية إن كان يسرنا ما نراه، من إيلامٍ وقرحٍ يمس الصرب على يد الناتو من خلال ضرباتٍ عسكرية متتابعة على أم رأس الصرب، لكن بيقين أن حفنة من ملايين الدولارات أو ملياراتها تعيد البناء أحسن مما كان.
فضلاً عن قلة المتضررين بشرياً من الصرب، لكن من يعيد المسلمين الذين تهجروا، هل تردهم المليارات والملايين، من يعيد المسلمين الذين هم المصيبة العظمى -الجيل المهاجر- من كوسوفا إلى أكثر من عشرين دولة أوروبية في كل دولةٍ جزءٌ منهم، وكل جزءٍ منهم مشتت في مدنٍ مختلفة، وكل مدينة ٍتوزعهم في أحياء مختلفة، والأيتام والصبايا يتربون في الأديرة والكنائس.
هل يبقى لمسلمٍ هوية؟ هل يبقى لفتاةٍ مسلمةٍ عرض؟ هل يبقى لامرأةٍ مسلمةٍ عفاف؟ هل يبقى لطفلٍ مسلمٍ دينٌ يرضعه من لبن أمه؟ أو مجتمعٌ أو هويةٌ ينتمي إليها وتمتُ إلى الإسلام بصلة؟!!
الجواب
هذا بعيدٌ جداً إلا أن يشاء الله، لذا نصيحتنا: أن يظل المسلمون حول أتون الصراع، وعلى فوهة البركان، وأن يبقوا ولا يبرحوا ولو حول هذه المنطقة، ولو في المناطق المجاورة لبلدهم ووطنهم حتى لا يُذوب تحت دعوة الرحمة الإنسانية على يد الكنائس التنصيرية التبشيرية التي تشتتهم وتجعل لكل كنيسة منهم جزءاً مقسوماً.
لسنا نقول: عليهم أن يبقوا تحت قصف الطائرات وأزيز الرصاص، لكن لا يبعدوا طويلاً، ولا يسلموا أنفسهم ليستوطنوا هذه الهجرة الطويلة، منذ أشهرٍ قليلة، كنتُ بـ استكهولم piystkhoolm في السويد وفاجأ كل وسائل الإعلام نبأ انهيار مرقصٍ في جوتنبرج Gotonbearg على مئات من الأطفال والشباب والصبايا والفتيات، ولما تبينت الإحصائية وأخبرت أخبارها اتضح أن أغلب الموتى والهلكى هم من أطفال المسلمين الذين تشردوا وأخذتهم السويد لاجئين وقبلت بلجوئهم، لكن لجئوا إلى ماذا؟ وأين عاشوا وباتوا؟ في الكنائس والمراقص وفي الأديرة والنوادي الليلية، وهذا هو المصير المراد بالمسلمين(81/3)
دعوة لإغاثة المسلمين في كوسوفا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، وتذكروا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه) والله عز وجل يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72].
أيها الأحبة في الله! من واجب النصرة، ومن واجب الأخوة، ومن واجب الموالاة بين المسلمين أن نلتفت لإخواننا وأن نشاطرهم كما شاطرنا غيرهم من قبل -من فعل ذلك محمودةٌ سيرته- وأن نشاطرهم ما نلذُ فيه من مطعمٍ ودخلٍ ومأكل ومشرب، فلو أن كل واحدٍ منا جعل لقضية المسلمين في كوسوفا جزءاً معيناً من دخله: (5%)، (3%)، (2%) شهرياً حتى نتبنى ما نستطيع من خلاله أن نحافظ على هوية المسلمين.
أن نتبنى ما نستطيع من خلاله أن نحافظ على دينهم وعلى عقيدتهم، وعلى ملتهم، وأن نحافظ على هويتهم وانتمائهم لبعضهم، فإنهم إن ذابوا في ظلمات أمواج بحرٍ لجي في أوروبا، فما أعسر وأشد عودتهم إلى دينهم إلا أن يشاء الله.
ولذا ومن منطلق الأخوة والولاء ظهر وصدر أمرٌ سامٍ كريم من خادم الحرمين الشريفين، متع الله بحياته على طاعته ونفع به الإسلام والمسلمين، حيثُ أمر بتشكيل لجنةٍ في ظل رابطة العالم الإسلامي، تنفذ أنشطتها هيئة الإغاثة الإسلامية وذلك لجمع التبرعات للمسلمين.
وتظل هذه الهيئة مستمرةً في متابعة ورعاية قضايا المسلمين في كوسوفا والمهاجرين والأيتام والمشردين ومن في الداخل وغيرهم، إلى أن تنتهي القضية كما فعل حفظه الله من قبل بقضية المسلمين في البوسنة، ولقد وصلت ولله الحمد بوادر الدعم في طائرات محملة بالعديد من الخيم والطعام والدواء والشراب واللباس، فالله الله يا عباد الله، فإن ما تبذلونه هو درعٌ يقيكم، وإن ما تبذلونه هو سهامٌ في صدور أعدائكم، وإن ما تبذلونه هو حسناتٌ تقدمونها بين أيديكم، يقول العبد: مالي مالي، قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت).
وأما ما بقي -يا عباد الله- فهو مالٌ للوارث.
فيا أيها الأحبة! الله الله اجتهدوا وتعاونوا، وإننا بإذن الله سوف نجمع تبرعاتٍ لإخوانكم في الجمعة القادمة من خلال شبابٍ عليهم زيٌ معين، حتى لا يتسلل لصٌ في ظل الجمع لإخوانكم ليأخذ شيئاً من حقوقهم ونصيبهم، فإنا نرجوكم أن تجتهدوا في جمع ما تستطيعونه، والجمع ممن تعرفونه، وأن تبذلوا من أنفسكم ما استطعتم حتى تجمع وتُسلم لهذه الهيئة التي شرفتُ أن أكون واحداً من أعضائها، أسأل الله عز وجل أن يقبل ما تفعله هذه البلاد المباركة للمسلمين، وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يدفع بذلك البلاء عنا وعن ولاة أمرنا وعلمائنا وعن المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم أحسن خِتامنا، واستعملنا في طاعتك، وتوفنا على أحسن حالٍ ترضيك عنا، وابسط اللهم لنا في عافية أبداننا وسعة أرزاقنا، وصلاح وإخلاص أعمالنا، وصلاح ذرياتنا، اللهم صل على محمدٍ وآله.(81/4)
أسئلة في العقيدة
في هذا اللقاء أُلقِيَتْ أسئلة على الشيخ، ومنها ما يتعلق بالأسماء والصفات، ومنها ما يتعلق بقضية الخروج على الحكام، وعن الوساوس التي تأتي لبعض الناس في العقيدة، وكذلك قضية الولاء والبراء، وقد تحدث عن الإحسان إلى الكافرين غير المحاربين.(82/1)
سؤال في أسماء الله وصفاته
السؤال
نعرف أن موضوع أسماء الله وصفاته ينبغي أن يورث تعلمه خشيةً لله وأثراً في السلوك، فلماذا لم يتحدث علماء السلف رحمهم الله عن آثار الإيمان بأسماء الله في حين نجدهم يطيلون الحديث وبكل إسهاب في الرد على المخالفين؟ وهل تذكر كتباً تحدثت عن أثر الإيمان بأسماء الله وصفاته نستفيد منها؛ أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
كان الصحابة رضي الله عنه يقرءون القرآن ويتدبرونه ويرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مشتملة على أسماء الله وصفاته، ومعلوم أن القرآن إنما نزل للتدبر، وأخبار الرسول لم تكن أخباراً ليس لها غاية، فكانوا يقرءون القرآن ويتدبرونه ويرون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنه ليس المقصود مجرد العلم، بل يعلمون أن المقصود العمل، أي: المقصود العلم المستتبع للعمل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157] واتبعوا النور: الاتباع إنما يكون بالعمل {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن:8] ولم يكن لهم أحاديث خاصة عن الأسماء والصفات، لم يكونوا يخصونها، بل كان الصحابة يتناقشون ويتذاكرون في مسائل الأحكام أكثر من مذاكرتهم في مسائل الصفات؛ لأن مسائل الأسماء والصفات واضحة بينة مسلمة ليست مجالاً للأخذ والرد عندهم، لكن المسائل العملية في بعضها خلاف وهي مجال للاجتهاد، فكانوا يقرءون القرآن ويتدبرونه.
ومعلوم أن تدبر نصوص الأسماء والصفات إذا صدر عن إيمان فلابد أن يثمر عملاً، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] العلم الذي يكون في القلب ويقترن به الانقياد والرغبة فيما عند الله يثمر الخشية، يثمر التوجه، فكانوا يقرءون القرآن ويتدبرونه يورثهم ذلك إخباتاً، يورثهم تذللاً لربهم وإخباتاً بين يديه، وهكذا درج التابعون من بعدهم.
لكن لما حدثت البدع كبدعة التعطيل؛ وهي جحد أسماء الرب وصفاته، بدس من عناصر الكفر والنفاق، ورفعت البدع رأسها وكان لها أتباع، وأنصار ودعاة، قيض الله من يجابه هذه البدع، ويدحض شبهاتها، ويقيم البراهين والأدلة على الحق، وهذا لون من ألوان الجهاد، وهذا جانب من جوانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا فيه تعقيب لما أخبر الله به من حفظ دينه، فرسالة محمد خالدة، إذاً فلا بد أن يقيض الله لها من يحملها ويذب عنها ويحميها.
إذاً: كلام الأئمة في الأسماء والصفات بذكر الأدلة الدالة على الحق في هذا الباب ورد الباطل الذي قام به ودعا إليه رءوس الضلال والجهلة من أتباعهم ممن تأثر بهم وبدعايتهم، فلم يكن هناك إشكال، ولم يكن هناك اشتباه في أن الإيمان بأسماء الله وصفاته يورث خشية، معلوم أن الإيمان بأن الله سميع بصير إيماناً صادقاً يستحضره المؤمن، كل مسلم يؤمن بأن الله سميع بصير وأنه بكل شيء قدير، لكن الشأن في الاستحضار، الاستحضار لهذه الصفات وهذه الأسماء مع الاستحضار لعظمة الله وشدة عقابه ولجلاله سبحانه وتعالى.
لكن ليس كل من علم وآمن بهذه الأسماء وتلك الصفات يكون مستحضراً لها، فلابد أن يغفل الإنسان: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] الذكر ذكر الله، ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان، هذا يصرف كيد الشيطان ويضاد الوسواس، أما مجرد علم لا يستحضره الإنسان في سائر تصرفاته، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لو كان المقدم على جريمة الزنا أو غيرها مستحضراً لما يعتقده ويؤمن به، مستحضراً له وشاعراً به الشعور الذي ينبغي لما أقدم عليه، لكنه لم يقدم على الزنا أو شرب الخمر إلا عندما يغيب عنه الإيمان ويغفل عن عظمة الله، ويغفل عن أليم عقابه، وعندما يلقي إليه الشيطان بالشبهات يقول له: الله غفور رحيم، والتوبة بابها مفتوح، لا تفكر في التوبة قبل الإقدام على الفاحشة، التوبة فكر فيها وتوجه إليها إذا وقعت، أما قبل الوقوع فالتفكير في التوبة من مداخل الشيطان، أي: أقدم ويمكن أن تتوب، ولكن ما يدريك لعلك لا تستطيع أن تصبر مرة أخرى وأخرى وأخرى، ولعلك أن تعاقب فيحال بينك وبين التوبة، نسأل الله الثبات.
المقصود أيها الإخوة: إن أهل العلم إنما تكلموا وبحثوا وألفوا وناقشوا في باب الأسماء والصفات تقريراً للمذهب الحق ورد الباطل الذي ظهر في الأمة الإسلامية على أيدي المنافقين والجهلة الضالين.
أما مسألة آثار الإيمان بأسماء الله وصفاته فلم يكن محل اشتباه أصلاً، معلوم عند الجميع أن الإيمان بأسماء الله وصفاته يقتضي آثاراً وله آثار بحسب اصطباغ القلب بهذا الإيمان، هذا الجانب الأول في السؤال.
وأما الكتب المؤلفة في هذا الخصوص فأنا لا يحضرني الآن كتاب أستطيع أن أرشد إليه، لكن أصحاب السلوك والتصوف لهم عناية بهذا الجانب، ولعل من أبرز ما أتذكره الآن: مدارج السالكين لـ ابن القيم له عناية؛ لأنه بصدد شرح كتاب منازل السائرين وهو في أثناء الشرح وفي ثنايا كلامه يتعرض لهذا الجانب في مناسبات عديدة، فهو من خير ما يستفاد منه في هذا الباب.
والله أعلم.(82/2)
مسألة الخروج على الإمام الشرعي
السؤال
هناك من يخلط بين مسألة الخروج على الإمام الشرعي وبين عدم طاعته في معصية الله، فلعلكم توضحون للإخوة الفرق بينهما؟
الجواب
إن هذا الاشتباه وهذا الخلط يعتبر عجيباً، وكأن هذا الاشتباه ناشئ عن عدم تصور معنى الخروج على الإمام.
يجب أن نعلم حقيقة الخروج على الإمام وعلى ولي الأمر الذي جاءت النصوص بالنهي عنه والتحذير منه، واتفق أهل السنة على تحريم الخروج على الأئمة، ومن الأدلة في ذلك حديث عبادة بن الصامت الثابت في الصحيحين، قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وفي أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله) أي: بايعناه ألا ننازع الأمر أهله، قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فالرسول صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه على السمع والطاعة لولاة الأمر في سائر الأحوال في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وحتى مع الأثرة ووجود الأثرة من ولاة الأمور، وهي: الاستبداد في الأمور المشتركة، ما داموا ملتزمين بأمر الإسلام، وهذا لا يعني: إقرار أهل الأثرة على أثرتهم، وأهل الظلم على ظلمهم، لا.
الظلم مرفوض وباطل في شرع الله، والأثرة كذلك باطلة، ولكن لا يجوز أن يتخذ منها أحد طريقاً إلى الخروج وشق الطاعة، الخروج على ولي الأمر وشق الطاعة بنزع اليد من البيعة، لا.
وكما أن هذا الواجب أعني وجوب السمع والطاعة وتحريم الخروج لا يبرر الطاعة في المعصية، بل الرسول عليه الصلاة والسلام نص على هذا القيد بقوله عليه الصلاة والسلام: (على المرء المسلم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية) فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، حتى قال أهل العلم: إن ولي الأمر لو أمر أحد خدامه بأن يقتل شخصاً وعلم هذا المأمور بأن المأمور بقتله مظلوم لم يجز له أن يطيع وأن ينفذ وأن يقتل، حتى ولو أدى ذلك إلى قتله، أي لو قال: إن لم تقتله قتلتك وجب ألا يطيع، ألا يطيع في قتل معصوم، في قتل مظلوم، لا يجوز أن يفدي نفسه بقتل المعصوم، لا.
دع هذا الظالم يقتلك فتكون مظلوماً خير من أن تكون ظالماً.
كون الإنسان مظلوماً خير من أن يكون ظالماً، إذا كان مظلوماً فالله تعالى ينتقم له ويعوضه ويجزيه، وإن كان ظالماً كان معرضاً نفسه للعقاب في الدنيا والآخرة، فشتان بين الأمرين.
إذاً: لا يلزم من عدم الطاعة في المعصية الخروج، ففي المثال الذي ذكرته: لو قال هذا المأمور: أنا لا أقتل، أنا لا أفعل، لم يكن بهذا خارجاً ولم يكن بهذا نازعاً يده من طاعة ولي الأمر، ولا يخرج بذلك عن الجماعة، التي قال فيها الرسول عليه الصلاة والسلام: (من خرج عن الجماعة قيد شبر فمات فميتته ميتة جاهلية) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فيجب أن يفرق بين الأمرين، والفرق بينهما معلوم وواضح وبين.
الخروج على الإمام يعني: الخروج المسلح، الخروج لإزاحته عن السلطة، الخروج بالقوة، وهو ما يسمى في هذا العصر بالثورة على الحاكم.
ولكن واجب الرعية أن تناصح ولي الأمر، كل بحسب مستواه وبالطرق المناسبة التي يرجى من ورائها الإصلاح، ومما بايع الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه قال: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم).
من ولاه الأمر في الأمور الجزئية كالقاضي والأمير والمدير وولي الأمر العام: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) فالواجب هو السمع والطاعة والمناصحة والدعاء، وتحرم طاعة ولي الأمر في المعصية، هذا مما لا يحل لمسلم، ولا يدخل ذلك في السمع والطاعة التي أمر الله بها ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] فطاعة أولي الأمر من العلماء والأمراء مقيدة بطاعة الله ورسوله.(82/3)
الفرق بين موالاة الكفار وبين معاملتهم
السؤال
نريد من فضيلتكم بيان الفرق بين موالاة الكفار وبين معاملتهم؟ وكيف يجتمع البغض لهم مع البر والإحسان إليهم خاصة فيما يتعلق بالزوجة الكتابية ونحوها؟
الجواب
إذا علمنا أن المولاة تتضمن المحبة والمعاداة تتضمن البغض، والله تعالى يحب المؤمنين ولا يحب الكافرين، وعلى المؤمن أن يوافق الله في ذلك فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله، والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والحب في الله والبغض في الله هو من آثار محبة الله ومن آثار طاعة الله، فمن أحب الله حقاً أحب ما يحب وأبغض ما يبغض.
ولا منافاة بين ما أمر الله به من البر والإحسان للكفار الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا، كما قال سبحانه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] البر هو الإحسان، بحسب المحسن إليه، وبحسب مقتضيات الإحسان.
(وتقسطوا إليهم) فالإقساط والعدل واجب، لأن العدل واجب بين المسلمين وبين الكفار.
فلابد من العدل: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] هذا الحكم عام بين الناس مؤمنهم وكافرهم.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] الأمر بالعدل واجب، والإحسان يختلف فمنه الواجب ومنه المستحب فهو على مراتب، يكون الإحسان إلى الكافر بالصدقة عليه، بالهدية إليه، جار كافر له حق الجوار كما نص أهل العلم على ذلك، فتكف الأذى عنه، وتحسن إليه الإحسان المناسب، والزوجة الكافرة كما ورد به السؤال والزواج من الكافرة -لا سيما في هذه الظروف وفي هذا العصر- خطر، وقديماً كان الصحابة يكرهون الزواج من الكافرة، ولكن لا شك أن الأصل هو جواز الزواج من الكافرة الكتابية بهذا القيد، فالسائل يسأل: كيف يجتمع البر والإحسان مع البغض؟ أقول: لا منافاة، فإن لكلٍ ما يقتضيه، فالمقتضي للإحسان هو أمر الله بذلك والسبب الذي يوجب ذلك، كالجوار والقرابة، والكفر والمعصية مقتضيان للبغض والكراهية، وهذا أمر معتاد أن الإنسان يمكن أن يقدم الإحسان لمن لا يحبه، يحسن الإنسان إلى الدواب البهائم، وهل يقتضي الإحسان إلى البهائم محبتها؟ لا.
وإنما هي رحمة وطاعة لله ورسوله، إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فلا منافاة فإن البر والإحسان لا يستلزم المحبة، إذاً البر والإحسان لا ينافي البغض، بل يمكن أن يكون الإحسان واجباً والبغض واجباً، كما في حال الأبوين المشركين الكافرين، الله أمر ببرهما وأوصى ببرهما وهما كافران: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] إذاً الوصية ببر الوالدين شاملة للمسلمين والكافرين غير الحربيين، أما الوالد إذا كان حربياً وفي صفوف المحاربين فلا يستحق شيئاً، لكن المقصود غير المحاربين، أن يكون معاهداً.
فهذا واضح.
فمن كان له والد أو والدان كافران يحسن إليهما بمقتضى الشرع، أي: أن الله أمره ووصاه بذلك، ويحسن إليهما ويبرهما أيضاً بمقتضى الطبع، بموجب المحبة الطبيعية، والمحبة الطبيعية يمكن أن تجتمع مع البغض الشرعي، الله يقول لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] هذا في مناسبة عمه أبي طالب، الرسول كان يحب عمه المحبة الطبيعية، ويحرص على هدايته، ولكن الأمر لله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ونعلم يقيناً أنه يبغضه لكفره لأنه عدو لله، فهو يحبه المحبة الطبيعية، وهو حريص على هدايته وعلى هداية الخلق، لكن بحكم القرابة، وهو مع ذلك يبغضه فلا منافاة بين المحبة الطبيعية وبين البر والإحسان الواجب أو المشروع بمقتضى الشرع، والحاصل أيضاً بمقتضى الطبع، لا منافاة بين هذا وبين البغض؛ لأن البغض له مقتضى آخر وهو مقتضى شرعي أيضاً، فالله أمر ببر هذا الكافر وببغضه، ومنابذته ومعاملته على أنه كافر.
وهذا أيضاً يلمسه الإنسان من الواقع، فالمسلم الآن يكون له الابن يحبه لأنه ابنه، ولكنه في نفس الوقت يبغضه لله وفي الله، وإن كان يحبه المحبة الطبيعية، لكن هنا يأتي الامتحان، فإن كان يكرمه ويقربه ولا ينكر عليه فهنا قد طغت محبته الطبيعية على محبة الله ورسوله، أما إن كان يحبه المحبة الطبيعية ويتعامل معه بمقتضى الشرع ينكر عليه ولا يقف معه موقف المسالمة، ينكر عليه ويناصحه ويلح عليه ويدعوه إلى الله، ويهجره إذا اقتضى الأمر، ولهذا قال الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] هذه المحبوبات الخمسة، لا ضير على الإنسان أن يحبها المحبة الطبيعية، لكن يكون الإنسان آثماً إذا قدم محبة هذه المحبوبات على محبة الله ورسوله، فآثر حبها وترك الجهاد وترك الهجرة من أجل الوطن، من أجل الأسرة، من أجل الأولاد، بخل بماله، الإنسان يحب المال المحبة الطبيعية ولكنه إيماناً بالله وتصديقاً لوعده يخرج ما فرض الله عليه فيه، وإن كان يحبه، لعل في هذا القدر كفاية.
يقول أحد الحاضرين: وإذا كان الرجل متزوجاً من كتابيه، وهو يحبها، فما الحكم؟ الشيخ: الزوجة إذا كان يحبها المحبة الطبيعية إذ محبة الرجل لامرأته محبة طبيعية، ولكن في نفس الوقت يبغضها لأنها كافرة، وفي نفس الوقت يدعوها للإسلام ولا يرضى بكفرها ولا يترك لها فرصة تؤثر على أولادها بل يدعوها للإسلام ويعمل على التأثير عليها، ومن أجل ضعف شخصية كثير من المسلمين في هذه الأعصار وقوة شخصية كثير من الكافرات يتوجه التحذير من الزواج من الكافرات؛ نظراً لضعف مقام وموقف كثير من المسلمين، وقوة شخصية كثير من الكافرات.
ولهذا فالغالب أن يتأثر المسلم بالكافرة، في هذه الأعصار نظراً لحال المسلمين، وضعف مقامهم وشخصيتهم، ولأنهم قد بهرتهم الحضارة الغربية، وكثير ممن يتزوجون الكافرات إنما هو لافتتانهم بجمالهن، هذا هو الكثير.
نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من الفتنة.(82/4)
حكم الاستعداد للجهاد في سبيل الله
السؤال
هل المقصود بولي الأمر الحاكم أم العلماء؟ وهل لو أعلن العلماء الجهاد ورفضه الحاكم هل يقام الجهاد أم لا؟ ثم ما حكم الاستعداد والتهؤ للجهاد في سبيل الله في ظل هذه الظروف الراهنة؟
الجواب
ولي الأمر هم العلماء والولاة، أي: السلطان، هكذا فسرت الآية، من المفسرين من قال في قوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء:59] أي: الأمراء، ومنهم من قال العلماء، والصحيح أن الآية شاملة لكل من الفئتين، فهم أولو الأمر، فالله أمر بطاعتهم بهذا القيد ما لم يأمروا بمعصية، فمن أمر بمعصية كائناً من كان فلا سمع له ولا طاعة.
المسألة الثانية: هل للعلماء أن يعلنوا الجهاد؟ نعم، يعلنون الجهاد بالدعوة، العلماء يملكون الكلمة، يدعون يبينون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالكلمة بالبيان بالتعليم، هذا هو الجهاد الذي يملكه العلماء، أما الجهاد الذي يحتاج إلى الإعداد المادي وإلى القوة المادية والسلاح فهذا لا يملكه العلماء، هذا تملكه الأمة في جملتها، ومعظم هذا الثقل هو بأيدي ولاة الأمر الحكام والسلاطين، الملوك والأمراء، إذاً: فليس للعلماء أن يقوموا وأن يسعوا في القيام بهذا الجهاد منفكين؛ لأن هذا يعني الانشقاق، وإقامة جماعة أخرى، لكن على العلماء أن يطالبوا ولاة الأمور بالإعداد للجهاد في سبيل الله على الوجه الذي شرعه الله، ليقوموا جميعاً -علماء وأمراء ورعية- ويكونوا أمة واحدة وصفاً واحداً، أما أن تقوم فئة تريد أن تقوم بهذا الجهاد الذي ليس هو من صلاحيتها، ولا تملك أسبابه، فهذا التفكير وهذا النهج لا يكون له مردود إيجابي.
تريد أن تقوم بهذا الواجب الذي لا تملك أسبابه؛ هذا يعتبر خروجاً عن مقتضى الحكمة والعقل والمسلك الرشيد.
على العلماء أن يدعوا وأن يطالبوا ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويناصحوا ولاة الأمور، ويطالبوهم بالإعداد للجهاد في سبيل الله، أن يهيئوا المجتمع المسلم حتى يكون نقياً؛ لأنه لا يتأتى للمسلم أن يجاهد في سبيل الله على الوجه الذي ترجى عاقبته الحميدة إلا إذا هيء المجتمع المسلم بالإصلاح وبتطهيره من الأمراض الاجتماعية ومن المنكرات، فلا بد من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وسط الأمة حتى تتهيأ ويصح جسم الأمة من علله وأمراضه فتكون مستعدة للجهاد في سبيل الله، فتكون لها العزة التي كانت لها من قبل.
الثالث: حكم الاستعداد، نعم الاستعداد مطلوب، ينبغي للمسلمين أن يستعدوا في حدود مقدورهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] أن يستعدوا للجهاد، يهيئوا أنفسهم، ومن وجوه الاستعداد ما يقدر عليه الفرد، ومنها ما لا يقدر عليه الفرد، ولا يتأتى إلا بالتعاون مع ولاة الأمر، فينبغي لولاة الأمور أن يتيحوا الفرصة لشباب المسلمين ورجال المسلمين أن يعدوا أنفسهم، فيدربوهم ويهيئوهم ليكونوا جنوداً مستعدين لحماية بلاد الإسلام، وصد العدوان، وغزو الكفار إذا تهيأت الأمور في عقر دارهم، فالإعداد مطلوب لكن بالوجوه المناسبة الممكنة التي لا يترتب عليها أضرار ولا مفاسد، فشرع الله قائم على الحكمة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وكما ذكرت آنفاً أؤكد أن الإعداد للجهاد منه ما يقدر عليه الفرد، ومنه ما تقدر عليه جماعة، ومنه ما لا يتأتى إلا بتعاون الأمة وبتهيئة الفرص من قبل ولاة الأمور، وهذا ما نرجوه منهم، وتدريب الشباب أعظم مما حصل ومما يدعى من فتح باب التطوع للنساء للتمريض، التمريض هذا يحتاج إليه إذا حصلت المآسي وحصل القتال فتقديم التطوع أو التوسع بتعليم النساء على ما فيه من المفاسد الملموسة، لكن نتكلم عليه من حيث الأصل، أما التطوع الذي حصل فقد عرف واشتهر، يعني: أن له سلبيات واسعة وكبيرة.
ومن الجوانب التي تؤخذ على فتح باب التطوع للمرأة أنه حصل التوسع فيه دون تدريب الشباب والرجال على ممارسة العمليات الحربية وعلى وسائل الحرب وآليات الحرب، وهذا المنطق غير حكيم وغير معقول، فالبداءة بتدريب الشباب هو الواجب، وتطوع النساء أمر ثانوي، وأمر المرأة ليس كالرجل، المرأة إذا خرجت تعرضتها عقبات شائكة من أوسعها اختلاطها بالرجال عند ممارسة هذا الأمر، مع فساد الأوضاع وفساد الأحوال، فهذا يعني مما يتصل بالإعداد بالجهاد.(82/5)
أيدٍ خفية تعمل على إضلال المرأة
السؤال
هل ترى -يا فضيلة الشيخ- الظاهرة التي بدت أو التي تبناها أو تبنتها وسائل الإعلام في فتح المجال للمرأة وفتحت ذلك بعض الجهات الرسمية ولم يعط الرجال مثلما أعطيت المرأة، ألا ترى أن هذا يوحي بأن هناك أيادي خفية تعمل على إيقاع هذه البلاد فيما لا تحمد عقباه؟
الجواب
قلت: إن هذا الوضع غير طبيعي وغير سديد، ففيه مفارقة كبيرة، وأما أن تكون هناك أيدٍ فلا شك بصفة عامة، والأوضاع تؤيد ذلك بصفة عامة فالمنافقون والفساق كثير، ولا شك أنه يحلو لهم أن تخرج النساء وأن يضعفوا ما في هذه البلاد من التزام المرأة بحجابها وبيتها، ولا شك أن التوسع الذي حصل في فتح الأبواب لتطوع النساء في التمريض أن هذا من حلقات إخراج المرأة من حصانتها والتزامها بحجابها، وإن كان الأصل أن تعلم المرأة لما يمكن أن تقوم به في إطار الشريعة الأصل أنه جائز، لكن ما كل جائز يكون جائزاً بكل كيفية، فالنقد والاعتراض على الكيفية وعلى الواقع، أما الأصل نحن نتكلم فيه أن تتعلم المرأة مع نساء وأن تعلمها النساء، أما أن يفتح الباب من غير ضرورة ومن غير حاجة على نطاق واسع، ثم من بنود ومن فقرات هذا الطريق التطبيق العملي في المستشفيات، والمستشفيات قائمة على الاختلاط، فمن لم تكن ممرضة في المستشفى تكون متطوعة، فكل امرأة تريد حفظ كرامتها نوصيها بعدم المشاركة في هذا السبيل لأنه لم يطبق على الوجه المطلوب ولم تكن هناك الظروف المحتمة لأصل الموضوع.(82/6)
حكم فعل القربات عادة
السؤال
فضيلة الشيخ! قلت منذ قليل: إنه من صلى وصام على أنه عادة فإنه لا يجوز، وقد شككت في خروجي إلى الصلاة فيما سبق هل عادة أم لا.
فكيف أعرف ذلك جزاك الله خيرا؟
الجواب
اطمئن ولله الحمد، أنا أعني الذي يصلي عادة لا إيماناً بالله والرسول، ما عنده إيمان ولا يؤمن بأن الصلاة واجبة يصلي مثل الناس فقط، بحيث لو قيل له: ما هي هذه الصلاة؟ قال: والله لا أدري عنها، ولا يؤمن بوجوب الصلاة عليه نعم.
من المسلمين ممن يؤمن بالله ورسوله ويؤمن بوجوب الصلاة لا يكون عنده الإيمان العميق لكن للعادة دور في أمر الصلاة، لكن أرجو أن هذا لا يضره، ولست أعني هذا النوع، لكن على المسلم إذا أدى الواجبات أن يستحضر أمر الله ورسوله، وأن يفعل ذلك قربة لله وطاعة لله ورسوله، حتى ينال الثواب والأجر موفوراً كاملاً غير منقوص.(82/7)
حكم الوساوس في أمور العقيدة
السؤال
ما حكم الوساوس والخطرات التي تأتي على الناس في أمور العقيدة وغيرها؟
الجواب
فيما تقدم ما يتضمن الإجابة على هذا، وهو أن تعرض عن هذه الوساوس وأن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل: آمنت بالله ورسوله، واغفل عنها ولا تسترسل في التفكير، قاطع هذا التفكير وحاول أن تنساه.
ولا تضرك بعد ذلك مجرد الوساوس، وقد جاء بعض الصحابة وقد وجد في نفسه وسواساً قال عنه: (إني أحب أن أخر من السماء ولا أتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك صريح الإيمان) يعني: كراهته لهذا الوسواس وبغضه الشديد لهذا الوسواس هو الإيمان، لأنه لو لم يكن عنده الإيمان واليقين ما كره هذا الوسواس ولاسترسل معه وتفاعل، ولنال منه الشيطان ما يريد.(82/8)
حكم إتقان الأعمال من أجل الناس
السؤال
هذا السائل يقول: في حديث استماع الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن وقول أبي موسى: (لو علمت -يا رسول الله- أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا) أليس فيه جواز إتقان العمل من أجل البشر، حفظكم الله ورعاكم؟
الجواب
لا شك أن إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وتحقيق ما يحب هو مما يحبه الله ويرضاه، الرسول يعجبه تحسين القرآن ويحب الصوت الحسن بالقرآن، إذاً ما نواه وقصد إليه أبو موسى هو قربة إلى الله، يتقرب إلى الله بتحسين صوته لأنه مما يعجب الرسول عليه الصلاة والسلام، وتحقيق ما يحبه الرسول هو مما يحبه الله، إذاً فلم يفعل ذلك ليجلب ثناءً على نفسه للمدحة؛ مثل من يقرأ أو يزين قراءته لينال ثناءً من الناس ليثنوا عليه رياءً وسمعة، وإنما قصد أن يحسن تلاوته للقرآن تحقيقاً لما يحبه الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن المؤمن عليه أن يحب الرسول وأن يحقق وأن يحرص على تحقيق ما يحبه الرسول.
أقول أكثر من هذا: لو طلب من الإنسان والده أن يحسن له قراءته، فحسن قراءته استجابة لوالده، أو طلب منه والده أن يتلو عليه القرآن ففعل، فهذا برٌ منه بوالده، وكان ذلك عملاً صالحاً أن قرأ عليه القرآن، وأن حسن قراءته؛ لأن والده يرغب في ذلك ويعجبه أن يسمع القرآن من ابنه بصوته الحسن، لأن الوالد الطيب تقر عينه إذا سمع ابنه يتلو القرآن ويحسن قراءة القرآن بصوت حسن، وتحسين الصوت بالقرآن أمر مشروع للحديث الصحيح: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم) وهكذا لو قرأ المسلم وزيَّن صوته بالقرآن ليؤثر على السامعين لينتفعوا بالقرآن، فهذا أيضاً محمود؛ لأنه لم يقصد التقرب إليهم، بل يريد أن ينتفعوا بالقرآن فيفعل ذلك طاعة لله، وجذباً للناس إلى كتاب الله لا جذباً للناس إليه، لا يريد أن يجذب الناس إليه حتى يعجبوا به، ويثنوا عليه، لا يريد أن يؤثر عليهم بالقرآن فيزين صوته لينتفعوا بالقرآن حتى يقبلوا عليه، فكل هذا ليس من الرياء في شيء، وليس من قبيل العمل للمخلوق.(82/9)
حكم الوساطة في القروض الربوية
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يقول: طلب مني شخص أن أتوسط له عند شخص لكي يقرضه مبلغاً من المال، وقد فعلت، وعندما انتهى دوري علمت أنه يقرض الناس بالربا، أي: العشر باثني عشر مثلاً، فندمت على عملي لأني خشيت أن أشترك معهم في الإثم، علماً أنني قد ذهبت إلى الرجل الذي طلب مني هذا الطلب ونصحته وأخبرته بأن عليه ذنباً عظيماً، سؤالي الآن: هل عليَّ ذنب لو لم أنصح الرجل علماً بأني في الأساس لم أسع في الأمر على أنه قرض ربوي.
وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول أولاً: أنت محسن في وساطتك، وساعٍ في أمر خيري، ومن التعاون أن تطلب للمحتاج ممن يقدر على إقراضه، وهذا إحسان منك وأنت مأجور إن شاء الله حيث أنك لم تعلم بما قصد إليه المقترض، أما بعدما علمت فواجب عليك أن تنصحه، وأن تنكر عليه، وأن تبدي أسفك على أن ساعدته في تحصيل هذا القرض، ولو لم تفعل كنت آثماً، أما وقد فعلت فقد أديت ما يجب عليك ولا إثم عليك؛ لأنك محسن أولاً، وقمت بالواجب ثانياً، وعليك أن تعين صاحب المال على استرداد ماله، وأن تلح على المقترض أن يرد المال إلى صاحبه.(82/10)
الفرق بين توكل أولي الألباب وبين الأخذ بالأسباب
السؤال
ما الفرق بين توكل أولي الألباب وبين الأخذ بالأسباب، ونرى من يعيب على الذين اشتروا أكياس الرز والسكر أليس هذا من الأخذ بالأسباب؟
الجواب
لا منافاة بين التوكل وفعل الأسباب، فترك الأسباب عجز، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز) وقال أهل العلم: إن تعطيل الأسباب بالكلية قدح في الشرع، فالشرع جاء بالندب والأمر بالأسباب، بل من الأخذ بالأسباب ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو مباح، أما التوكل فحقيقته اعتماد القلب عليه سبحانه وتعالى وتفويض الأمر إليه، وذلك باعتقاد أن الخير بيده، وأنه سبحانه وتعالى لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، للتحقق بذلك، وأن الأسباب ما هي إلا أسباب، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فتأثير الأسباب في مسبباتها بإذن الله، فهو خالق الأسباب، وهو الذي يجعل الأسباب مؤثرة في حصول مسبباتها، إذاً فعل الأسباب يمارس بمقتضى الشرع والطبع، والأسباب المباحة، والتوكل على الله هو مقتضى الإيمان بالله وبكمال ربوبيته.
وأما المسألة الجزئية التي ذكرها السائل وهي أن من الناس ما إن سمع بأحداث الكويت حتى هرع يشتري حوائجه تحسباً للمستقبل، فأرجو أن هذا من فعل الأسباب وأنه لا بأس به، إذا خاف الإنسان أن الماء يتوقف وظهرت بوادر ذلك فلا مانع أن يملأ خزانه إذا تيسر، لكن بدون أن يعتمد على هذا السبب، وبدون أن يكون هناك لهف ولهث وانفعال واضطراب ولكن بهدوء، فمن ذهب واشترى له حاجات وادخرها وهو متوكل على ربه بدون أن يتحمل في هذا السبيل المشاق بالمزاحمة، ويظهر عليه الانفعال، أو يكون عنده شيء من الاعتماد القلبي على هذا السبب، وأن هذه المشتروات ستكون أماناً له، لأنه يمكن أن يحدث له من الأسباب مثل أن يموت ولا ينتفع بها، قد يحدث من الأسباب ما ينفره عنها حتى يتركها، فالإنسان يفعل الأسباب بهدوء بال وطمأنينة وتوكل على الله.
والله أعلم.(82/11)
قيام بعض العلماء بمشروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
هذا السائل يقول: لقد سمعنا عزم بعض أصحاب الفضيلة العلماء والمشايخ للقيام بمشروع الأمر المعروف والنهي عن المنكر،
السؤال
هل لا يزال هذا الأمر قائماً حتى يتسنى لنا التسجيل لدى أحد المشايخ.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا الأمر بشكل منظم لا يزال قائماً وهو تحت الدراسة، والمسئول الأول عنه سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز، وهو بصدد دراسته إن شاء الله، وأظنه قد عهد إلى بعض المشايخ ترتيب ذلك، وأما القيام بهذا عملياً دون ترتيب فهذا متيسر وحاصل من بعض الإخوان دون ترتيب ودون ارتباط بأشخاص معينين ولله الحمد، فكل طالب علم يمكنه أن يخرج ويأمر وينهى لكن بالطريقة الممكنة الميسرة التي لا يترتب عليها ردود فعل ولا مشاكل، ما هي الطريقة؟ الطريقة: أن تناصح من رأيته يفعل منكراً أو يتعرض لفعل منكر، تناصحه بالكلمة الهادئة الطيبة من منطلق الأخوة في الله، لو رأيت إنساناً يدخن فمن اليسير جداً أن تقف معه وتقول: يا أخي! هذا الدخان حرام يضرك في دينك وفي صحتك وفي مالك، فاتق الله، جزاك الله خيراً، الله يعافيك منه، لن يغضب ولن ينفعل إلا أن يكون لئيماً، أما إن كان عنده بقية من الخلق فسيقول: جزاك الله خيراً، وربما كان لكلمتك أثر بالغ على نفسيته، وربما كان ذلك مبعث تفكير قوي لأن يترك الدخان.
تمر في الشارع وترى امرأة متبرجة تقول لها: يا مسلمة! يا امرأة! اتق الله واحتجبي، وأنت تمشي لأن المرأة لا يتأتى الوقوف معها والتطويل؛ لكن كلمة تعرف بها المقصود هذه فيها إعذار وفيها بيان وإعلام حتى لا ينسى الحجاب.
الحجاب: هناك معاول لرفع حجاب المرأة، وإخراج المرأة من حجابها، ومن هذه المعاول ما حدث في الأيام الماضية من قيام مجموعة من النساء المفتونات أو المغرورات بقيادة السيارات، هذا من جملة الخطوات لإخراج المرأة من بيت حشمتها، وليكون ذلك خطوة في طرح المرأة للحجاب الواجب عليها، والكفرة والفسقة يريدون ذلك، يريدون أن تخرج المرأة سافرة لكنهم لا يستطيعون أن يقفزوا إلى هذه الغاية قفزاً لتخرج عريانة، لا.
يسلكون إلى ذلك شتى الطرق، والآن كما ترون في بلادنا حفظها الله وقطع مطامع الكافرين وأعداء الدين مما يأملونه ومما يريدونه بها، كما ترون الأمور فيها تأخر وتدهور في باب الالتزام؛ التزام المرأة بواجبها وبآدابها الإسلامية، ولكن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(82/12)
ألا إن سلعة الله غالية
إن من علم أنه سيفقد ماله حرص عليه، ومن علم أنه سيفقد ولده أحاطه برعايته، فما بالنا نعلم أننا سنفقد الآخرة إذا ضيعنا دنيانا باللهو ولا نحرص عليها؛ هذا مع ما ثبت لدينا من أخبار صحيحة تثبت المآل في الآخرة، وما أعد الله للمؤمن والكافر، فالبدار البدار إلى جنة سبقنا إليها الأبرار، ولنعمل لآخرتنا كما نعمل لدنيانا.(83/1)
دوام الحال من المحال
معاشر المؤمنين! قد وعد الله عباده المؤمنين المخلصين بالجنة، وتوعد العاصين المعاندين المكابرين بالنار، وبين سبحانه أن هذه الجنة دار نعيمٍ لا يكدرها شيء، وبين سبحانه في هذه الجنة ألواناً من النعم، وألواناً من الخيرات والملذات، جاء عن هذه الجنة على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) الله أكبر! الله أكبر! يا عباد الله! تجولوا في هذه البلدان، وانظروا إلى أعظم القصور، وأكبر المراكب، وأفخم المفارش، واعلموا أن في الجنة ما هو خيرٌ منها، وأعظم منها وأبقى وأدوم منها؛ لأن نعيم الدنيا منتهٍ إلى زوال، فانٍ إلى محال، أما الدار الآخرة فنعيمها دائمٌ لا ينقطع.
ملذاتنا في هذه الدنيا: صحةٌ في البدن، لكن الأمراض تكدرها، اجتماعٌ بالأحباب، لكن الفراق ينغصه، نوالٌ للمال، لكن الفقر يهدده، حصول على العزة، لكن الذلة قد تفاجئه، حصول بكثيرٍ من الأمور، لكنها فانيةٌ منتهية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
الله أكبر يا عباد الله!
وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقباً بزوالِ
وأحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصالِ
ويقول آخر:
أشد الغم عندي في سرورٍ تيقن عنه صاحبه انتقالا(83/2)
من لم يغتنم حاضره فاتت آخرته
أتدرون أن أرباب الدنيا، وأصحاب المال، وتجار الأرصدة ما لم يسلطوا أنفسهم على أموالهم؛ لكي تكون عوناً لهم على الطاعة وشرفاً لهم في العبودية، فاعلموا أنهم والله أندم الناس يوم القيامة، يندمون على ما بين أيديهم من هذه النعم، وما سخروها لوجه الله جل وعلا، لماذا؟ الواحد منهم تحته الزوجات، ويعلم أنه يموت، فتنكحُ نساؤه من بعده، ويعلم أن أرصدته قد ضايقت البنوك ثم يعلم أنه يموت، فيقتسمها الورثة والعصاة وغيرهم، يعلمُ أنه في هذه القصور، وفي هذه الدور، ويعلمُ أنه يفارقها وبعد ذلك يأتي به أحبابه ليرموه في حفرةٍ ضيقةٍ مظلمةٍ محكمة الغطاء، ثم يعودون ينامون في غرفته ويتقلبون على سريره، ويتطيبون بطيبه، وينسونه وقد لا يذكرونه، فليست هذه الدنيا بدار طمأنينة.
والله لو أن القلوب صحيحة لتقطعت ألماً من الحسراتِ
نعم يا عباد الله! الصحة بين أيدينا، والمال في جيوبنا، وسخر الله لنا أشياء كثيرة، لكننا عن طاعة الله بها غافلون وننسى أننا نحتاج إلى حسنةٍ واحدة! ألاحق ولدي وتلاحق ولدك، والأم تلاحق ولدها ولدي تعبتُ عليك حملتك كرهاً وضعتك كرهاً أزلت الأذى عنك بيميني جعلت بطني لك وعاء وثديي لكي سقاء وحرمتني لذيذ النوم ببكاءٍ تتقلب فيه حسنةً واحدة، حسنةً واحدة!! والأب يقول: يا ولدي أتعبتُ النهار، وأفنيت الضياء بحثاً عن لقمةٍ لأجلك، وسهرت الليل:
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني وعيني تهملُ
إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت حقاً مؤملُ
يا ولدي حسنةً واحدة، فيقول: يا أبي إليك عني! إليك عني يا أبي!! إليكِ عني يا أمي!! نفسي نفسي! نفسي نفسي: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] لماذا؟! أنسينا الصداقات؟! أنسينا العلاقات؟! أنسينا التجارات؟! لماذا؟ هل انقطعت المعرفة؟! هل زالت المودة؟! {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] شغل، داهية، واقعة، حاقة، زاجرة، غاشية، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37]، فما بال الناس؟ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:38 - 41] اللهم لا تجعلنا منهم.(83/3)
نعيم الدنيا والآخرة
فيا أيها الأحبة في الله! هو ذاك نعيمُ الآخرة، وهذا نعيم الدنيا، شتان شتان بين هذا وهذا في البقاء والدوام والملذات: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة:25].
الله أكبر يا عباد الله! هذه الجنة يوم أن تتبادرك الحور العين، يزغردن ويصفقن بقدومك، يتقدمنك إلى قصرك اللؤلئي في جنات النعيم، يوم أن يقال: ادخل وارق، ورتل القرآن كما كنتَ ترتل في الجنة، فمنزلتك عند آخر آيةٍ تقرأها.
الله أكبر يا عباد الله! يوم أن تكونوا يا معاشر المؤمنين! يوم العرض الأكبر على الله، فيدخل من نجا إلى الجنة، ويدخل من هلك إلى النار، نسأل الله ألا يكون بيننا أحد من الهالكين، ولا أن نكون منهم، ثم بعد ذلك إذا انتهى الفصل في القضاء والخطاب بين العباد، نادى منادٍ يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت، يا أهل النار! خلودٌ ولا موت {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94].
عباد الله! ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة، ناداهم رب العزة جل وعلا، وقال: عبادي هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ الله أكبر يا عباد الله.
خلقنا من العدم، وآتانا الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأنواع الأرزاق، ثم يغفر لنا برحمته، ويدخلنا الجنة بمنه، ثم يقول: عبادي! عبادي! هل رضيتم عني، من ذا الذي لا يرضى عن ربه بعد هذا؟ فيقول: أهل الجنة، يا ربنا! ألم تغفر ذنوبنا! ألم تكفر سيئاتنا! ألم تدخلنا الجنة؟! رضينا عنك يا رب، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] لمن خاف الله في السر، لمن اتقى الله في خلوته، لمن خشي ربه.
فيقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً، يقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة! ويقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً أنجزكموه، فيكشف ربنا جل وعلا عن وجهه الكريم، فينظرون إلى وجه الله العظيم، فما أوتوا نعيماً في الجنة ألذ من النظر إلى وجه الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] جميلة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] مشرقة، بهية: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:22 - 25].
تخشى الهلاك، وتحقق الظن بالعذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذه الجنة يا عباد الله! لا نتغوط فيها، ولا نتبول فيها، نلهم فيها التسبيح والتهليل كما نتنفس هذا الهواء شهيقاً وزفيراً، وإذا اشتهيت شيئاً من نعيمها، تدنت لك أغصان الجنة: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23]، تتدنى للمؤمنين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
كان الناس يسهرون على الأفلام والمسلسلات، وكان أهل الجنة يراوحون الأقدام قيام الليل أُنساً بالله جل وعلا، كان الناس يسهرون في الورق والعبث، وكان أهل الجنة يقلبون كلام الله جل وعلا في كتابه الكريم، ويتدبرون آياته، كان الناس ضاحكين غافلين مسرفين، أما أهل الجنة فكانوا خاشعين خائفين مخبتين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].(83/4)
أعد الصحابة العدة ففازوا في النزال
هذه الجنة يا عباد الله! كفى كذباً على أنفسنا نقول: إننا عملنا عملاً مناسباً لكي ننالها؛ لأنه لا يدخل أحدٌ جنة الله إلا برحمته، ولا ينال أحدٌ جنة الله إلا بمغفرة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) رسول الله الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أول من ينشق عنه القبر، صاحب المقام المشهود، واللواء المحمود، والحوض المورود، أول من يمسك بحلق أبواب الجنة، فيقول: (من؟ فيقول: محمد، فيقول: لكَ أُمرت أن أفتح أدخل يا محمد).
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا أنا -لا أدخل الجنة- إلا أن يتغمدني الله برحمته) فيا أيها الأحبة في الله! مع هذا الوصف لجنات الله جل وعلا، والقرآن مليءٌ بذكر وصف الجنة، هل أعددنا لها عملاً؟! من سار أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة.
ويوم أن عرف الصحابة رضوان الله عليهم ثمن هذه الجنة، وعظم ثمنها ومنزلتها وما فيها من النعيم، أعدوا لها عدةً وتحملوا البلاء لوجه الله، ثم لأجل نوالها، والفوز بها، إننا ما عبدنا الله إلا طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، هكذا عبده الأنبياء قبلنا، {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
هذه الجنة يا عباد الله! لأجل ما فيها من رضا الله، ولما فيها من النعيم، تحمل النبي صلى الله عليه وسلم ألوان العذاب، والأذى النفسي والعملي، وتحمل الصحابة رضوان الله عليهم كذلك، ولسنا بصدد التفصيل فيما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من وضع الشوك في طريقه، ووضع سلى الجزور وخلاص الناقة بعد ولادتها على ظهره، وطرده من مكة هائماً على وجهه! ووقوف أهل الطائف له سماطين يرجمونه بالحجارة! حتى أدميت قدماه.
وتمالأت قريش في دار الندوة ليثبتوه أو يقتلوه ويمكرون ويمكر الله، ثم كذلك ما لقيه الصحابة، فقد جاء خباب بن الأرت، فكشف ظهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي ظهره من كي الحديد، (يا رسول الله: ألا تستغفر لنا، ألا تدعوا الله لنا) مما يلقون من العذاب، ويصبرون عليه طمعاً في رضا الله وجنته فيقول صلى الله عليه وسلم: (لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به، فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، وينشر بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدمه، ما يصده ذلك عن دينه).
ويجيء الصحابي في المدينة: (يا رسول الله! متى نأمن؟ أحدنا لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، ولا ينام إلا وسلاحه تحت وسادته، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنكم قومٌ تستعجلون، والله ليتمن الله هذا الأمر، وليظهرن الله هذا الدين، حتى يسير الراكب إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه).
أيها الأحبة! أحد الصحابة من رجالات الدولة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعث مفاوضاً إلى الروم فجيء به وقيل له تنصر واترك دينك، قال: ما أنا بمتنصرٍ ولا بتاركٍ ديني، فقالوا له: نعطيك نصف هذا الملك، واترك دينك، وتنصر؟ فقال: لا، قيل: إن لم تفعل لنعذبنك، فقال: لا، فأمر ذلك الملك بأن تضرم النار العظيمة، وتنصب القدور العظيمة، ويوضع فيها الماء والزيت، حتى إذا صار يغلي، جيء بالصحابي رضي الله عنه، ووقف به أمام هذه القدر التي تغلي ليلقى به فيها، فلما رفع ليرمى به بكى رضي الله عنه، فأنزلوه وعادوا به إلى الملك، قالوا: هل تترك دينك؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا بكيت؟ قال: علمتُ أن ميتتي هذه شهادةٌ في سبيل الله أنال بها الجنة، فتمنيتُ أن لي مائة نفسٍ تموت هذه الميتة!! لقد عرفوا الله، وعرفوا نعيمه، فطلبوه، وبذلوا النفس والمال رخيصاً في لقاء ذلك وفي سبيل ذلك.
عباد الله!
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ فلقد عرضت بأيسرِ الأثمانِ
هل منكم من يُصَدُّ عن دينه؟! هل منكم من يُعَذَّب على دينه؟! هل منكم من يُفْتَن في دينه؟! عباد الله! جنةٌ عرضها السماوات والأرض، تنالها بأدنى قليلٍ من العمل، وبأكبر كبيرٍ من العمل إذا كان خالصاً لوجه الله ثواباً على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الذي يردنا أن نتنافس في هذه الجنة؟!
شمسٌ تزف إلى ضرير مقعدٍ يا محنة الحسناء بالعميان
نعيم الجنة يوصف لقلوب غافلةٍ ميتة، أسأل الله أن يوقظ قلوبنا من نومة الغفلات، وأن يرزقنا التوبة الصادقة والاستعداد للقائه، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(83/5)
هل عملنا لأخرانا كدنيانا؟
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أحبتي في الله! تعلمون أن الجنة تريد منا عملاً، فما هو العمل الذي قدمناه لها؟! إن واقعنا يشهد بالغفلات والتقصير والتفريط، ولكن الذي يطمع في الجنة، يحرص أن يبذل في هذه الدنيا عملاً خالصاً مباركاً يرجو به رحمة الله وجنته، ويحرص مع هذا أن يبقى العمل مستمراً بعد موته، إن أناساً الآن في قبورهم وفي لحودهم، لكن ملائكة الحسنات لا زالت تكتب حسناتهم! وإن أناساً أمواتاً في لحودهم وفي قبورهم، لكن ملائكة السيئات لا زالت تكتب سيئاتهم! فيا عباد الله! ما دمنا نريد الجنة والعتق من النار، لا بد أن نجتهد في هذه الدنيا، وأن نبقي عملاً ينفعنا ويمضي لنا، ولو بعد موتنا، ولو بعد أن نلقى في لحودنا وقبورنا.
أيها الأحبة في الله! كل موظفٍ في الخدمة المدنية لو قيل له: إن راتبك التقاعدي سيقطع، إن النسبة التي تؤخذ من راتبك من أجل صرف التقاعد لك بعد انتهاء المدة أو تصرف لك عند حدوث ما يعيقك من العمل، أو تصرف لأولادك بعد موتك، لو قيل له هذا الكلام لزمجر وبعث البرقيات يريدُ أن يمضي الراتب ولو بعد إحالته إلى التقاعد ولو بعد أن تصيبه مصيبةٌ قد تعيقه من العمل، أو بعد موته يصرف راتبه تقاعداً لأولاده! نحن أيها الإخوة! ينبغي أنت نكون أشد فطنةً لأمور آخرتنا من أمور دنيانا، نحن نريد حسناتٍ في التقاعد، نريد حسناتٍ وثواباً بعد انتهاء مدة الحياة، نريد مزيداً من الحسنات تكتب لنا ونحنُ في قبورنا، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقةٍ جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له).
فمن منا ورث علماً أو ترك علماً؟! من منا اعتنى بتربية ولدٍ صالحٍ لعل الله أن ينقذه من النار بسبب دعائه؟! يؤتى يوم القيامة بعبدٍ من عباد الله، في منزلةٍ من منازل الجنة، يقول: ربي كيف نلتُ هذا؟! من أين لي هذا؟! يعلمُ أنه ما قدم عملاً كفئاً لهذه الدرجة، فيقال: بفضل دعاء ولدك الصالح لك!! أو صدقةٍ جاريةٍ يا عباد الله! اعلموا أيها الأحبة! أن الذي يموتُ مرابطاً في سبيل الله، يجرى عليه عمله إلى أن تقوم الساعة، إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من هذه الثلاثة، وكذلك المرابط في سبيل الله، من مات في الرباط أجري عليه عمله، وأمن من فتان القبر.(83/6)
بشرى إلى الدعاة
أيها الأحبة! بشرى أزفها إلى الدعاة إلى الله، إنهم لمن الذين برحمةٍ من الله وفضلٍ، من الذين تمضي لهم الحسنات والدرجات، وهم في قبورهم بعد موتهم.
ألسنا منذُ سنين طويلة ندرس كتب التوحيد والعقيدة النقية، لإمام الدعوة/ محمد بن عبد الوهاب، نور الله قبره وجمعنا به في الجنة؟ هذا بفضل دعوته وفضل علمه وعقيدته، ألسنا نقرأ في صحيح البخاري ومسلم، وكتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية، وكم نفع الله بها خلقاً كثيراً؟ إن ذلك لمما يوضع في موازين أعمالهم، فأنت يا أخي تقدم على دارٍ ليس فيها إلا الحساب ولا عمل، فاحرص في هذه الدنيا، أن تبذل عملاً تمضي حسناته ولو بعد موتك، ادعُ إلى الله؟ ادعُ إلى سبيل ربك، (من دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به، إلى يوم القيامة) لو سألتُ أحدكم عساك بخير؟ نعم بخير عندي أربع فلل، وعشرة دكاكين، وكذا من الأسهم، فأسأل واحداً من طلاب الآخرة، عساك بخير، هل أعددت لما بعد تقاعدك من هذه الدنيا؟ يقول: نعم، هدى الله على يديَّ عشرةً من الضلالة،، هدى الله على يديّ خمسةً من الفساق، آمن على يدي عشرةٌ من الكفار، أين الذي يقول هذا؟! اعلم أن هذا هو رصيد الآخرة، أن تترك علماً، أو ولداً صالحاً، أو صدقةً جارية، أو تموت مرابطاً، أو أن يهدي الله على يديك عاقاً فينقلب إلى البر، قاطعاً فيعود إلى الصلة، فاسقاً فيهديه الله بفضل دعوتك، فاجراً فيتوب إلى الله بفضل دعوتك، من الذي يتاجر بهذه الدعوة؟! التجارة مع الله رابحة، التجارة مع الله رابحة، لا خطر فيها بالخسارة أبداً، من دعا إلى هدىً فله أجره، أنت دعوت هذا فهداه الله على يدك، كان لا يصلي فأصبح من المصلين، كان زانياً فتاب إلى الله، كان مرابياً فأقلع عن ذلك، ثم حسن التزامه واستقام، ثم هدى الله على يدي هذا الآخر شخصاً آخر غيره، وعلى يدي الثاني ثالثاً، وعلى يدي الثالث رابعاً، ثم تأتي يوم القيامة وفي موازين أعمالك حسناتٌ بعدد أعمال عشرةٍ من عباد الله!! بماذا؟ بفضل الدعوة إلى الله، ادعُ إلى الله، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) يا طلبة العلم! يا شباب الإسلام! كثيرٌ منَّا قد آثر الصلاح والاستقامة على نفسه، وليس له دورٌ في إصلاح مجتمعه والدعوة إلى الله، فأين التجارة مع الله بالدعوة إلى دينه؟! أين التجارة مع الله بهداية الناس إلى سبيله؟! أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أولئك.
وفي المقابل يا عباد الله! عبدٌ من عباد الله يموت؛ لعله ترك شراً، نعم.
لقد ترك خمسين ألف شريط من الفيديو، اشتراها الناس من محله، والذين اشتروها دفعوها لغيرهم، فضل أقوامٌ وضل بفعلهم أقوامٌ آخرون، ويوم القيامة يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم إلى يوم القيامة، ليس هذا من عندنا ومن كيسنا! بل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقوله: (ومن دعا إلى ضلالة فعليه وزرها ووزرُ من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقصُ من أوزارهم شيئاً) فيا خيبة المفرطين! الذين اتجروا بالأفلام والأشرطة والغناء! يا خيبة الذين ورثوا فناً أو أفلاماً، أو مسلسلاتٍ أو ما يسمى بنشاط فني! يأتون يوم القيامة، وأحدهم يجر نفسه، عاجزٌ عن أن يجر ذنوبه معه، فإذ به يحمل عليه أوزار أقوامٍ قد ضلوا بسبب بيعه ونشره للفساد، فنسأل الله أن يوقظ بصائرنا، وأن يهدي بصيرتنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا ميتاً إلا رحمته، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه، على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم قرب لهم من علمت فيه خيراً لهم ولأمتهم، وأبعد عنهم من عملت فيه شراً لهم ولأمتهم، اللهم سدد خطاهم على ما يرضيك، اللهم وفقهم لما تحب وترضى، اللهم اهدهم بهدايتك، اللهم أصلح مضغ قلوبهم، اللهم أصلح جلساءهم، اللهم أصلح بطانتهم بمنك ورحمتك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين، وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت؛ أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إن بالأرض والعباد والبهائم من الجهد واللأواء ما لا يعلمه إلا أنت، اللهم أنزل علينا بركاتٍ من السماء، وأنبت لنا بركات الأرض تدر لنا به الضرع، وتنبت لنا به الزرع، اللهم أغثنا، اللهم لا تحجبه بذنوبنا، اللهم لا تحجبه بذنوبنا، اللهم لا سبيل لنا إلا ما أنزلت إلا بمنك وكرمك، اللهم نبرأ من آلاتنا وأجهزتنا وحولنا وقوتنا لا نصل إلى هذا الماء إلا بأمرك وقدرتك، اللهم لو شئت لجعلته غوراً: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].
اللهم ائتنا به، اللهم ائتنا به، اللهم ائتنا به، اللهم اسقنا وأغثنا يا رب العالمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(83/7)
الاستهزاء بالدين
إن التساهل في العبادات والكلام والألفاظ الذي يصل إلى حد الهزل والمزاح الذي لا يليق؛ قد يحدو بصاحبه إلى الاستهزاء بسمات إسلامية، وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، فيخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر، بسبب ذلك المزاح وتلك السخرية، وفي هذه المادة تتعرفون على حكم الاستهزاء بالدين ومظاهره وعواقبه.(84/1)
عاقبة الاستهزاء بالدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وهي وصية الله للناس أجمعين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
عباد الله: إن بعض المسلمين -منَّ الله علينا وعليهم بالهداية والثبات- ليتساهلون في عبارات كلامهم، وما يتلفظون به تساهلاً يصل بالكثير منهم إلى حد الهزل الدائم، والمزاح الذي لا يليق، وقد يحدوهم إلى ذلك حب السخرية، والاستهزاء، وتنقُّص الآخرين، ولو أدى ذلك إلى السخرية بسماتٍ إسلامية، وآياتٍ قرآنية، وأحاديثَ نبوية، ولا شك أن هذا النوع -خاصة- يجر صاحبه إلى الهلاك، ويخرجه من الإسلام، ويجعله في عداد الكافرين، جزاء ما هزل، وسخر به من ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول.
قال أحد أئمة الدعوة، وهو الشيخ/ سليمان في شرحه على كتاب التوحيد لجده/ محمد بن عبد الوهاب، قدَّس الله أرواح الجميع في الجنان، قال: إن من هزل بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول فإنه يكفر بذلك؛ لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك منافٍ للتوحيد.
ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئاً من ذلك، فمن استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو كان هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً.
فانظروا -يا عباد الله- إلى أي مدى يجني المجترئ العابث بالكلام، يُلقيه على عادته، من غير وزن أو تمحيص؛ ليكون بكلمة يلقيها في حال لهوٍ وعبث؛ ليكون بتلك الكلمة من الكافرين، بعد أن كان من المؤمنين، وقد يكون ذلك مصداقاً للحديث الذي جاء في شأن الفتن التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه قائلاً: (إنها ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) وليس من شرط هذه الفتن على كل حال، ليس من شرطها أن يكون فيها نيران وحروب على الإطلاق، بل قد يكون منها ما يفتن الإنسان ولو بالكلام والحديث، ويجعله يتجاوز حد المشروع إلى ما يخرجه من الإسلام، وحسبكم بالكفر فتنة: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] وقد يدعوه إلى ذلك عَرَضٌ من المال، أو متاع الدنيا ليقلد، أو ليسخر، أو ليستهزئ؛ قاصداً جلب الضحك للآخرين، وإن كان لم يرد الاستهزاء قصداً إليه.
فويل ثم ويل لمضحك القوم على سبيلٍ يتعلق بالاستهزاء والهزل فيما هو من ذكر الله، أو كتابه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنتذكر الحديث النبوي الشريف دائماً، والذي فيه: (إن الرجل ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً من سخط الله عليه).(84/2)
قصة المنافقين في غزوة تبوك
يقول الله جلَّ وعَلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (إن رجلاً في غزوة تبوك قال: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألْسُناً، ولا أجبن عند اللقاء -يعني بذلك: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابَه القُرَّاء- فقال له عوف بن مالك: كذبتَ يا عدو الله! ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن والوحي قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) -جاء ذلك الرجل الذي استهزأ وقال ما قال، جاء إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم- (وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب، نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله -أي: بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: يا رسول الله! {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65]، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] ما يلتفت إليه، وما يزيد على قوله).
فتأملوا هذا الأثر العظيم، وانظروا إلى عواقب الهزل بآيات الله وذكره ورسوله.(84/3)
عظم وفداحة الاستهزاء بجناب الربوبية
أما إذا كان الهزل بشيء يصل إلى جناب الربوبية والذات الإلهية، فيا ويل فاعله من الله! ويا مصيبته وحسرته يوم يلقاه! ومن ذا يتطاول على من لا يليق له إلا الثناء عليه بما هو أهله، وتسبيحه وتنزيهه عما لا يليق به؟! ومن ذا يتجرأ على مولاه الذي من العدم أنشأه، وإلى الإسلام هداه، ومن كل خير سخر له وأطعمه وسقاه، ومن كل سوء ومكروه سلمه وعافاه؟! من ذا يتجرأ على رب غفور رحيم كريم؟! فما أحلم الله على عباده! ما أحلم الله على خلقه! سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك! سبحانك ربنا ما شكرناك حق شكرك! سبحانك ربنا لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك! سبحانك ربنا لا نعد نعمك، ولا نحصيها! فسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه غفور رحيم.(84/4)
الاستهزاء بمظاهر الاستقامة والالتزام
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ الحمد لله له على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه، وعن الندِّ، وعن المثيل، وعن النظير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله في كل صغير وكبير، وفي كل قول وفعل، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
معاشر المسلمين: الزموا جماعة المسلمين، ومن ذلك: أن تشهدوا الصلوات معهم في المساجد جماعة، الزموا جماعة المسلمين، وصلوا الصلوات الخمس في المساجد معهم جماعة.
عباد الله: إن كثيراً من الشباب وغيرهم -هداهم الله، ومنَّ عليهم بالتوبة الصادقة النصوح- ليقعون فيما ذكرناه آنفاً، ليقعون فيه على سبيل السخرية والاستهزاء، وقد لا يرون أنهم وقعوا فيه مباشرة، وإنما وقعوا فيه تسبباً وبما يفضي إليه.
فالبعض مَن إذا رأى مسلماً كريماً متبعاً للسنة، موفراً للحيته، أخذ يستهتر بهذه اللحية، ويشبهها بما تنظَّف به الأرض، أو يشبهه بفلان أو علان، أو يشبهه بما لا يليق به.
ومنهم من إذا رأى شاباً قد اتبع السنة في ثوبه أو في ملابسه أخذ يستهزئ به استهزاءً لا يليق بمسلم ولا يليق بمن قاله.
ومنهم إذا رأى امرأة متحجبة قد سترت وجهها، وغطت يديها بقفازَين، أَخَذَتْ تقول -أَخَذَ أو أَخَذَتْ- تستهزئ بها في كلام لا يليق.
ألا وإن هذا مما يفضي إلى الكفر والشرك عياذاً بالله.
وأولئك الذين يستهزئون باللحى! أيستهزئون بالصانع أم يستهزئون بالصنعة؟! هل يعيبون الخِلْقة أم يعيبون المخلوق؟! نسأل الله جلَّ وعَلا ألا نقع في مثل هذا.
وإنه لينبغي لكل مسلم أن يحذر من الحديث ولو على سبيل المزاح والضحك، بشيء يتطرق إلى السنة، أو إلى كلام الله، أو كلام رسوله، أو إلى ما هو من سلوك شاب مسلم مستقيم.
إننا سمعنا كثيراً من بعض الناس حينما يرون شاباً مستقيماً متديناً بعضهم يسميه: مُطَوِّعاً، وبعضهم يسميه: مُتَشَدِّداً، وبعضهم يسميه: مُعَقَّداً، وإذا كان اتباع الإسلام والتمسك بالسنة تشدُّداً وتعقيداً فلا خير فيمن يقول ذلك، وإذا كان التمسك بالسنة في نظر أولئك العابثين الهازلين شيء من الحَجْر والانغلاق فإن هذا لأمر نتشرف به ما دام ثابتًا من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا، وما فقهه السلف الصالح من علماء المسلمين.
معاشر المسلمين: الله َ الله َ معاشر الشباب! الحذر الحذر من الاستهزاء بشيء من الدين! نسأل الله جلَّ وعَلا أن يعافينا وإياكم من ذلك، وألا يوقعنا في ذلك، وإن الإنسان كما سمعتم في الحديث: (لَيَهْوِي بالكلمة لا يُلقِي لها بالاً، تَهْوِي به في النار سبعين خريفاً) نسأل الله جلَّ وعَلا العافية من ذلك.
واعلموا أن عليكم ملائكة: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11] فلا تتساهلوا بقليل القول أو كثيره، أو صغيره أو كبيره: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
نسأل الله جلَّ وعَلا أن يتجاوز عنا سيئاتنا.
ونسأله جلَّ وعَلا أن يغفر لنا، وأن يهدينا، وأن يمنَّ على جميع المسلمين بالهداية والثبات.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وأبطِل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بشباب الإسلام سوءاً، وأراد بولاة أمورهم فتنة، وأراد بعلمائهم مكيدة، وأراد بنسائهم تبرجاً وسفوراً، اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء! اللهم افضحه على رءوس الخلائق.
اللهم أذهِب سمعه وبصره وعقله.
اللهم مزِّق شمله.
اللهم فرِّق جمعه.
اللهم لا تبقِ ممن أراد بنا سوءاً أحداً.
اللهم مزِّقهم بدداًَ، وأهلكهم من على الأرض منهم جميعاً، يا رب العالمين! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هَمَّاًَ إلا فرَّجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره.
اللهم يا فرج المكروبين، يا نصير المستضعفين، يا إله الأولين والآخرين، اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمنا، ومن كل فتنة عصمة، برحمتك يا رحمان يا رحيم، يا قيوم السماوات والأرض! اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعفُ عنهم، وأكرِم نُزُلهم، ووسِّع مُدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله آجالنا، واقرن بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، وعبيدٌ من عبيدك، فلا تحرمنا فضلك بمعاصينا، ولا تطردنا عن رحمتك بذنوبنا، فمهما عَظُمَت ذنوبُنا فإن رحمتك أكبر، ومهما كثرت معاصينا فإن فضلك أكثر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام! عباد الله: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وزِد وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه، وسلِّم تسليماً كثيراً.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنِّك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم؛ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(84/5)
الامتحانات المدرسية
الامتحانات الدراسية بوابة لكل الطلاب، يحددون بها مدى تفوقهم على مدى عام دراسي كامل.
وفي هذه الخطبة تناول الشيخ موضوع الامتحانات مركزاً على أهميتها مع ذكر بعض الوصايا المهمة للطلاب والمدرسين والآباء والأمهات.(85/1)
وقفات مع الامتحانات الدراسية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، وعن الند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام يستقبل شباب هذه الأمة المباركة بجميع مستوياتهم وتخصصاتهم العلمية والمهنية موسماً يستدعي تحصيلاً مثمراً، ليخوضوا غمار الامتحانات غداً، وكل منا أيها المسلمون ينبغي أن يقف وقفة لا بد منها أمام هذه الامتحانات ليرسم لنفسه خطوطاً عريضة تهديه إلى الهدف من تلك الدراسة، وتبين السبيل إلى النجاح فيها إن كان دارساً أو طالباً، وكل واحد منا -يا عباد الله- لا بد أن يكون مدرساً أو متعلماً أو دارساً متعلماً، أو أباً لأولاد متعلمين أو شخصاً له علاقة بمعلم أو بمتعلم.
فأما بالنسبة للطالب الذي يبذل قصارى جهده في هذه الأيام، فينبغي له أن يعي أموراً عديدة من أهمها: أن يخلص النية لوجه الله جل وعلا في دراسته التي سيتقدم الامتحان فيها، وأن يجعل قصده رضا الله سبحانه وتعالى، وذلك لأنه إذا كان بدراسته مستحضراً أمامه الوعد الجزيل الذي رفع الله به المتعلمين في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث يقول جل وعلا في محكم كتابه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] ويقول الله سبحانه وتعالى -أيضاً-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذا إذا كان من طلبة العلوم الشرعية التي بها حياة الأرواح والأبدان وصلاح المجتمعات والأمم.
وإن كان من طلبة العلوم الأخرى؛ فعليه أن ينصب أمام عينه حاجة المسلمين إلى علمه هذا، وتعليم ذلك لأبنائهم، وأنه ينبغي للمسلمين ألا يبقوا عالة على غيرهم في تلك المجالات، وأن ذلك الطالب يقوم بأحد فروض الكافية التي يأثم المسلمون بإجماعهم على تركها والتهاون بها، ويرتفع الإثم عنهم إذا قام بها فرد أو طائفة منهم، وإن كنا نلاحظ في هذه الأيام حرص المجتمع وعنايته بهذا الموسم، فالشاب تراه مكباً على الدراسة، والأب لا يألو جهداً في التشجيع والوعود الجزيلة بعد النجاح، والأم لا تدخر وسعاً في توفير اللازم وتأمين الراحة لابنها، وفي إعداد ما يلزمه من مأكل ومشرب وترتيب دقيق لمواعيد النوم والاستيقاظ، فتراها توقظه في الصباح الباكر وقد أعدت له كل ما يحتاج إليه، وقد اعتنت بمواعيد مذاكرته ومراجعته.
ثم الأب يقوم بنقل ابنه إلى المدرسة وإلى مقر الامتحان، وكل هذه جهود مشكورة للآباء والأمهات، ودليل لا شك على صدقهم وعلى عمق المحبة التي يكنونها لأولادهم وبناتهم، ولكن أمام هذا كله نطرح سؤالاً وهو: هل نرى هذه العناية بالأبناء والبنات في جميع مواسم السنة الحافلة بالخيرات والأجور الجزيلة؟ هل نرى هذا الاهتمام بالأبناء والبنات في أمرهم بالصلوات والحض على المحافظة عليها جماعة، ونهيهم عن المحرمات، ومراقبة جلسائهم وخلطائهم؟ وليسأل الطالب نفسه -أيضاً- وليفسر اهتمامه البالغ بالامتحانات دون غيرها من مواسم العبادات.
واعلموا -يا عباد الله- وخاصة أنتم أيها الشباب المندرجون في مراتب الدراسة أو على أبواب التخرج منها، تذكروا أن شهاداتكم التي تحملونها، تذكروا أنها تأهيل علمي ليؤتمن الفرد بها على أمانة الأمة والمجتمع، وليكون كفؤاً قادراً على خدمة أبناء أمته وإخوانه المسلمين، وتذكروا أن الشهادة والوثيقة ليست هي العلم كله بل هي أبواب العلوم ومفاتيح المعارف، فليحرص كل واحد منا على مواصلة الاطلاع وطلب العلم، فلا تكن الشهادات الدراسية هي أكبر همنا أو مبلغ علمنا، فإن كنا كذلك؛ فقد خبنا وخسرنا.
أنت أيها الشاب المجتهد في دراستك: إن نويت بها دفع الجهل بها عن نفسك، وجلب نور العلم إليها، وخدمة أمتك، ونفع إخوانك المسلمين بما علمك الله، ووفقك له من علم حصلت عليه من دراستك؛ فأنت بهذا ممن أحسنوا النية والعمل، فيبارك الله لك فيما عملت وفي علمك، ويبارك لك في علمك بعد عملك، ويقنعك الله بما رزقك، وتنال بذلك خيري الدنيا والآخرة.
وأما إن كانت الشهادة والوظيفة وما ينجم عنها من مكافئة أو جائزة هي غاية الهم والدراسة، فأنت بذلك ضيعت على نفسك أجر النية العظيمة طيلة حياتك الدراسية، ولن تؤتى إلا ما قسم الله لك من الرزق، فبالنية تنقلب العادات والتكاليف إلى عبادات، وبالنية الصالحة تكتب دراستك في موازين أعمالك وترجو بها أجراً عند الله، وبصرف النية إلى قصد الدنيا وابتغاء حطامها لا تنال إلا التعب والحسرة، وإن واصلت الدراسة، فلن يأتيك إلا ما قُسم لك، ولا تدري هل يبارك لك فيه أم لا، وهل تقتنع بما رزقته أم لا.
فعلينا -معاشر المؤمنين- وعليكم معاشر الشباب أن تحسنوا القصد والنية في جميع الأحوال، أحسنوا القصد في الدراسة تنالوا بذلك خيراً عظيماً، ولو قلبتم النظر -أيها الإخوة في الله- في أصناف الدارسين لوجدتم القاصدين بذلك وجه الله، والذين يقصدون نفع الأمة وتعليم الجهلة، والدعوة إلى الله، تجدونهم مستقيمين في حياتهم، جادين فيها، غير معتمدين على أحد سوى الله.
أما أولئك الذين يطمحون إلى المكافأة والجائزة وحدها، أو المكانة المرموقة والشهرة الاجتماعية، فتجدونهم لا يبالون باستخدام أي وسيلة تؤدي بهم إلى ما يريدونه من نيل الوثيقة والشهادة، وترى بعضهم يفعل الأعاجيب في سلوك سبل الغش والتزوير في الامتحانات، وقد نسي أنه بهذا يخدع نفسه وأمته في المستقبل وهو لا يدري، وقد يعرض نفسه للحرمان من الدراسة عقوبة له على سلوك ذلك السبيل المنحرف.
أسأل الله جل وعلا أن يوفق شبابنا، وأن يفتح على بصائر قلوبهم، وأن يعلمهم ما جهلوا، وأن يذكرهم ما نسوا، وألا يخيب جهدهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(85/2)
عاقبة سوء التربية
الحمد لله منشئ السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، عليه توكلت وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على جماعة المسلمين، ومن شذ شذ في النار.
معاشر المؤمنين: كلنا يعلم فضل العلم وطلبه، وقصد الله سبحانه وتعالى فيه، وأهمية العمل به وتعليمه للناس، والصبر على الأذى فيه، وعلمنا -أيضاً- عقوبة الذين يريدون بذلك أغراض الدنيا وشهواتها الخسيسة، وهم غافلون عن العمل به وتعليمه لمن يجهله، إذ أن من علم علماً ثم خالفه، فهو متوعد عليه بأشد العذاب عياذاً بالله من ذلك.
إذا علمنا ذلك كله؛ فعلينا أن نحسن تربية الأبناء، وأن نعلمهم الهدف والقصد والغاية من تعليمهم، أما أن نقول للواحد منهم: غداً تصبح مديراً تملك بناية فخمة، أو سيارة كبيرة، وكذا وكذا ونعلق آمالهم على الشهوات الفانية والحطام الزائل، فذلك ظلم لهم في تربيتهم، وجهل منا إن نحن دعوناهم للعلم والدراسة لأجل ذلك.
معاشر المؤمنين: إن الأبناء إن شبوا على ذلك لم يبالوا بما ارتكبوا في سبيل نيل الشهادة والحصول على الوظيفة بأي أسلوب كان، بغش أو رشوة أو تزوير أو خيانة؛ لأن المربي علق هذه الآمال العريضة في قلب الابن وعقله، ونحن لا نستغرب يوماً أن نسمع عن شاب يبتعث للغرب ليتعلم علوماً نادرة ينفع بها الأمة، لا يلبث أن يطلب الجنسية الغربية، وينسى أمته خلف ظهره؛ لأن المال والجاه والثروة قد حصلت له، فلا داعي لأن يجهد نفسه أكثر من ذلك.
ومما يؤسف له أن كثيراً من شباب العالم الإسلامي ممن يفضلون بعض الخبرات في دول الغرب في شتى مجالات الطب والهندسة، والفيزياء والذرة والأسلحة النووية وغيرها؛ نلاحظ أن كثيراً منهم في بلاد الغرب، أليست أمة الإسلام هي أولى بأبنائها وفلذات أكبادها؟ نعم، هي أولى ولكن لا يجنى من الشوك العنب، فمن أنشأ الطفل ورباه في مراحل تعليمه على نيل الحطام الفاني، والحطام الزائل من الدنيا ومراتبها؛ فإنه لا يعجب من هذه النهاية السيئة.
وأنتم أيها الآباء والأمهات يوم أن تربوا جيلاً متعلماً، يقصد بعلمه وجه الله ونفع الأمة وسد حاجتها عن وجوه الكفرة وغيرهم، إنما تغرسون في نفوسهم العزة والكرامة، فلا يلينون لأي دعوة تستهويهم بالمال والجاه والمنصب لأجل الاستفادة من خبراتهم بعيداً عن بلادهم وأمتهم، وبئست الرعية رعية لا تتعلم إلا لمصالحها الخاصة من وراء الوظائف التي تعمل بها، ولكن لو انخفضت مرتبات أمة من الأمم أو احتاجت في يوم من الأيام؛ فهل سيتراجع أبناؤها عن القيام بمصالح الأمة والبلاد؟ نعوذ بالله من ذلك.
وإننا لنعجب كل العجب يوم أن نقرأ عن سيرة مشايخ الدعوة وعلمائها في مختلف أنحاء هذه المملكة الطيبة، كان الواحد منهم يعلم العامة، ويجلس للقضاء، ويقضي حاجات المعوزين من دون أن يأخذ أجراً ولا جزاءً ولا شكوراً سوى ما عند الله جل وعلا، وأنعم بذلك من جزاء.(85/3)
وصايا متعلقة بالامتحانات
مما ينبغي أن ننتبه له في هذا الموسم المؤدي إلى الامتحانات والمذاكرة هو أن نبعد فكرة الغش في الامتحانات عن أذهان الأبناء؛ لأن ذلك ارتكاب لمحرم، والغش بجميع أنواعه ممنوع في الإسلام، فإذا كان ممنوعاً في المعاملات فمن باب أولى أن يمنع في العلوم عامة، وعلوم الشريعة واللغة خاصة.
أسأل الله أن يلهمنا وأبناءنا وبناتنا التوفيق إلى العلم النافع، والسداد في الإجابات في الامتحانات.
اعلموا أيها المربون المدرسون! أن عليكم مسئولية عظيمة في طمأنة قلوب الطلبة حال الامتحانات وقبلها، ولا تجعلوا الامتحانات شبحاً يخيف الطلاب، بل اجعلوه أسهل شيء عندهم بكل ما تملكونه من الوسائل التربوية الناجحة.
على المدرس أن يساعد الطالب في أداء الامتحان بتوضيح المطلوب من الأسئلة لا أن يطرحها مبهمة، لا يعرف الطالب كيف يبدأ مفتاح الإجابة، والكل منا كثيراً ما يرى طالباً مندهشاً أو مرتبكاً أمام الأسئلة التي تعرض عليه، وقد يكون طالباً مجداً مجتهداً، فعلى المدرس أن يتلطف في مثل حال هذا الطالب، وأن يفتح له أبواب المطلوب من الأسئلة المطروحة، إذ إنه قد يكون حائراً لا يدري من أين يبدأ الإجابة على الرغم من مواظبته وجده واجتهاده، وأظن أن هذا من صلاحيات المدرسين ولا يعتبر من الغش في شيء.
على المدرس أن يبقى باسماً لطيف الوجه أمام الطالب، لا أن يبدو عبوساً مكشراً أمام عينيه، إذ إن ذلك مما يسبب شرود المعلومات عن ذهنه.
وأنت أخي الطالب استعن بالله جل وعلا واحرص على دخول الامتحان نظيفاً متوضئاً، وقبل أن تبدأ الإجابة لا تنس ذكر الله وحمده والثناء عليه، ثم صل على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واسأل ربك بدعوة نبيه موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27] واستحضر الدعاء المعروف (يا معلم داود علمني، ويا مفهم سليمان فهمني) ثم توكل على الله، وابدأ الإجابة على الأسئلة واحداً تلو الآخر، ولا تنظر إلى جميع الأسئلة في آن واحد فترتبك أو تختلط المعلومات في ذاكرتك، بل ابدأها وكأن كل سؤال هو المطلوب وحده في الامتحان، إلا أن تكون أسئلة اختيارية، فابدأ بحل الأسهل منها متروياً ومرتباً إجابتك، وموضحاً خطك، ولا تعجل بالخروج من مكان الامتحان، وقد بقي عليك شيء لم تكمله لعدم معرفتك به، فلعل الله أن يفتح على قلبك بذكره: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] فلعلك أن تتذكر ما نسيته أو تستنبط ما جهلته.
وفق الله شباب المسلمين وبناتهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
عباد الله: هذه امتحانات يقدمها الأبناء أمام لجان بشرية، ومع هذا نرى الجهود الجبارة والمساعدة الهائلة منا لهم، وما ذاك إلا لمحبتنا لأبنائنا وبناتنا، فهل نقف معهم هذا الموقف، وهل نكون عوناً لنقي أنفسنا وإياهم ناراً وقودها الناس والحجارة؟ هل نقف معهم مذكرين لهم بموقفهم أمام الله جل وعلا يوم لا تخفى عليه خافية، ولا يستطيعون غشاً ولا خداعاً، ولا يملكون فرصة أو دوراً آخر؟ هل نذكرهم بهذا الموقف الأول والأخير الذي لا فرصة بعده تعوض، ولا أمل بعده في شيء إلا في الجنة برحمة الله أو النار عياذاً بالله من ذلك.
إذا كنا نحبهم حقاً؛ فلنحرص على تربيتهم ودعوتهم بالمعروف، وتشجيعهم في كل ما ينفعهم كي نذكرهم بالامتحان الأكبر يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
معاشر الشباب: أوصيكم ونفسي بكثرة الاستذكار والاستفادة من وقت الصباح بعد صلاة الفجر وفي آخر الليل؛ فإنه وقت مشهود لحفظ الأمور والمعلومات؛ ولأنها تبقى في الذاكرة ولا يكدرها شيء، واعلموا أن النوم وعاء الحفظ، فإن الإنسان إذا استذكر شيئاً ودرسه واطلعه، فإنه ينبغي عليه ألا يكدر صفو مذاكرته بمشاهدة تلفاز أو عبث أو انشغال بقصة أو قراءة لا علاقة لها بهذا الأمر؛ لأن الذاكرة تخزن آخر ما يلقى فيها، وتكون أشد استعداداً لبذله وقت طلبه حينما يستدعي الإنسان ذلك بالكتابة، فينبغي لنا -خاصة- إذا كان الكثير من شبابنا يذاكرون في الليل ألا يسهروا سهراً طويلاً، إنما يقرءون بقدر ما يستطيعون من كفايتهم، ثم بعد ذلك يتوجهون إلى فراشهم، ولا يجعلون بعد مذاكرتهم شيئاً من مشاهدة التلفاز أو العبث بشيء من الألعاب والملهيات.
أسأل الله جل وعلا أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، أسأل الله أن يوفقهم وألا يخيب تعبهم، وأن يذكرهم ما نسوا، وأن يعلمهم ما ينفعهم، اللهم انفع بهم أمتهم، اللهم انفع بهم أمتهم، اللهم اجعلهم أبناء بررة لأمتهم ولعلمائهم وولاة أمورهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بهؤلاء الشباب وبهؤلاء الفتيات ومن أراد بالجميع سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا، وأصلح إمامنا، ووفق إمامنا، وارزقه بطانة صالحة، واجمع شمله بمن أحببته وأحبه، ولا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا حيران إلا دللته، ولا ميتاً إلا رحمته.
اللهم اختم بالشهادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى الجنة مصيرنا ومآلنا.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(85/4)
الانتفاضة الفلسطينية
في هذه الخطبة يتحدث الشيخ عن أحقاد اليهود الدفينة، وعن المجازر التي ارتكبوها، وحذر المسلمين من خطر الذنوب والمعاصي وعواقبها؛ إذ أنها سبب لما نحن فيه، فهي أخطر علينا من عدونا، ونادى أبناء الأمة الإسلامية بسرعة الأوبة إلى الله.(86/1)
اليهود وحقدهم الدفين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: كلكم يعلم عداوة اليهود للبشرية، بل هم أعداء الأنبياء والرسل، بل هم الذين تطاولوا على جناب الربوبية الكريم الأعلى، فقالوا -ولعنوا بما قالوا-: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64]، وقالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام فتعب، فاستراح في اليوم السابع، وقال الله جل وعلا وقوله أبلغ وأصدق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:38 - 39].
ولا يخفاكم -عباد الله- أن طائفة خسيسة ملعونة تطاولت على جناب الربوبية، فلا قدر لأي جناب دون ذلك عندها، إذ لا قدر للأنبياء والرسل عندهم، فمن بابٍ أولى ألا يكون عندهم أدنى قدرٍ لبني البشرية أو لبني الإنسانية، لقد قتلوا الأنبياء والرسل: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:181] قتلوا أنبياء الله ورسله، وعاثوا في الأرض فساداً ودماراً، ومنذ زمن طويل وهم يسعون في الأرض تخريباً، وعلى عباد الله تسلطاً وتشريداً.
وما ذاك -يا عباد الله- إلا مؤشر ودليل واضح على أن أمة الإسلام فقدت الجهاد من ميادينها، إذ لو رفعت راية التوحيد خفاقة يرفعها التكبير على أيدي شباب صادقين مخلصين، لما بقي لليهود قائمة في أي دولة أو بلاد من بلدان المسلمين، وكلكم يعلم مأساة الأمة الإسلامية ومصيبتها التي فجعت بها بقرار اليهود في قبلة المسلمين الأولى بيت المقدس الذي لا يشرع أن يشد الرحل بشيء إلا إليه وإلى المسجد الحرام والمسجد النبوي.
لقد تسلطوا على إخواننا المسلمين في فلسطين، وعاثوا في هذا البيت المقدس تخريباً وتدميرا، لعلهم يجدون ما يسمونه هيكل سليمان، ويجتهد علماء الآثار عندهم في أي مستوطنة يدخلونها، أن يحفروا أعمق الأمتار في أرضها، لعلهم يجدون آثاراً تدل على وجود حضارة يهودية، ليحتجوا بذلك على قولهم: إن الأرض أرض اليهود من قبل، وليست للمسلمين، لكن خابوا وخسروا، وباءوا بالفشل المبين في فعلهم هذا.(86/2)
البيت المقدس يشتكي اليهود
عباد الله: إن هذا البيت المقدس الذي هو أول قبلة للمسلمين، ليشكو ويئن بمن فيه ومن حوله من إخوانكم من أهل فلسطين، من تسلط اليهود على أطفالهم، واعتدائهم على نسائهم، وقلة احترام شيخوخة شيوخهم وكبارهم، فلم يرحموا صغيراً ولم يوقروا كبيراً، أليس ذلك دليل على أن أمة الإسلام لا زالت تغط في سبات عميق؟ جاءت إلى القائد المظفر الصالح صلاح الدين الأيوبي رسالة من بيتين فيها:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس
إن بيت المقدس -يا عباد الله- يدنس بهؤلاء الفجرة، الذين ما رعوا حرمات الله وما قدسوها، وما عرفوا قدرها، وما رعوها حق رعايتها، ولن يعرفوا لمثل هذه المقدسات قدراً ولا رعاية ولا حرمة ما داموا تطاولوا على جناب الربوبية، وعلى الأنبياء والرسل، فمن باب أولى ألا يكون لعباد الله عندهم قدر ولا كرامة.
عباد الله: الانتفاضة التي تسمعون عنها في بيت المقدس وأرض فلسطين، وقد دخلت شهرها الرابع، انتفاضة نرجو من الله جل وعلا أن يسدد خطاها، وأن يصوب رصاصها في نحور اليهود، ونسأل الله جل وعلا أن يعين أهلها والقائمين عليها ليعلنوا ويرفعوا فيها علم الجهاد، وأن يقولوا بملء أفواههم: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، وأن يعلنوها صريحةً أثناء انتفاضتهم ألا بقاء للشراذمة الرجس النجس في أرضهم، وألا حاكمية ولا سلطان ولا قيادة إلا لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
عند ذلك -يا عباد الله- والله لن يقف اليهود أمامهم بما أوتوا من قنابل نووية، ومدافع قاتلة، وأسلحة فتاكة، لن يقفوا أمامهم لحظات قليلة، لماذا؟ لعقيدتنا وقناعتنا وعلمنا بما جاءنا في كتاب الله سبحانه وتعالى، حيث يقول في كتابه الكريم عن اليهود: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].(86/3)
اليهود تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى
معاشر المسلمين: تظنون أن دولة إسرائيل مجتمعة بقادتها وأحزابها، كلا والله، بل قول الله واقع فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فـ حزب العمال على ضيق ومضايقة لهم، وحزب الائتلاف نزاع السلطة قائمٌ بينهم، ومصالحهم واقتصادهم في أمور قريبة إلى حد التدني والانهيار، لشدة ما ينفقونه ويصرفونه على التسلح والسلاح والدفاع، خشية من مواجهة طائفة قليلة لهم في عشية أو ضحاها بصيحات التكبير.
معاشر المسلمين: إن اليهود أمة جبن وخوف وخور وضعف، ولا يضركم أن ما لديهم من الأسلحة متقدم أو متطور، ولا يغركم ما تسنده بهم قوى الضلالة وأمم الكفر مهما كبرت وعظم سلطانها في هذا الوجود، إذ إن الله جل وعلا فوق الجميع، إذ إن الله جل وعلا الذي جعل النار محرقة، وجعل السلاح قاتلاً، وركب هذه القوانين في هذه الأمور التي خلقها وأوجدها قادر على أن يجعل النيران برداً وسلاماً، على أمة صادقة تقاتل اليهود لوجه الله، لا تبتغي إلا إعلاء كلمة الله، وسيادة حكم الله، أو الشهادة في سبيل الله.
إن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الحديد، وأنزل فيه هذا البأس الشديد، فهو قادر على أن يجعل هذه العادة، وعلى أن يجعل هذه السنة تتخلف في حالة من الحالات كرامة لعباد الله الصادقين المجاهدين.(86/4)
الخوف ليس من الأعداء بل من ذنوبنا
إذاً -يا عباد الله- ليس الخوف من اليهود والأعداء، أو ممن يسند الأعداء، مهما عظم سلطانه، وكبر رقعة سلطته على المعمورة، بقدر الخوف من ذنوبنا ومعاصينا، إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم أن أرسل أحد القواد أميراً على جيش من الجيوش، قال: [اتق الله فيهم، ولا يرون منك إلا حسناً صالحاً، فإني لا أخشى على الجيش من عدوه، وإنما أخشى عليه من ذنوبه].
نعم يا عباد الله! إن الله جل وعلا هو الذي يمكن عباده، وهو الذي ييسر لهم النصر، ويقرب لهم بشائر الكرامة، لكن لمن نصر الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهيهات أن تتخلف العزة إذا وُجد إيمان صادق، وجهاد مخلص لله، وابتغاء الكرامة لدين الله، أو الشهادة في سبيل الله.(86/5)
إخواننا في فلسطين وحالهم أمام اليهود
عباد الله: لقد تسلطت هذه الأمة الملعونة على إخواننا في فلسطين، فدفنوا مجموعة من الشباب أحياء، قادوهم إلى مكان وأخذت الرافعة تحفر قبورهم أمامهم، حتى إذا تغوروا في عمق الأرض كتفوا أيديهم إلى ظهورهم وأرجلهم مربوطة، الساق مربوط بالساق، ثم قذفوا بالواحد تلو الآخر، ثم أهالوا التراب عليه وهو حي، يصيح بملء فيه: وا إسلاماه! وا إسلاماه! وا إسلاماه! ولكن المسلمين في غفلة، وفي دعة، وفي لهو، وفي بعد عن التفكر والتذكر لما يفعل ويدبر بإخوانهم المسلمين.
يا راكعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌ وسلطان
أعندكم نبأٌ عن أمر إخوتنا فقد سرى بحديث القوم ركبان
لقد سرى بهذا الحديث ركبان الإذاعات، لقد سرى بهذا الحديث جميع وكالات النشر، ولكن:
رب وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
إن صيحات الدعاء بالإغاثة، وطلب النجدة لترتفع مدوية إلى السماء، لكنها ما خالطت قلوباً حية وملتهبة، ومشاعر وأحاسيس تهتم بشئون المسلمين، لقد سمعنا ورأينا بأعيننا في الشاشات وعبر التلفاز ماذا يفعل بهؤلاء الضعفاء، كيف تجر المرأة وتسحب سحب الشاة على وجهها، أيكرمونها إذا سحبوها؟ حاشا وكلا، بل والله أول ما يبدءون بكرامتها وعصمتها، فيهتكون حياءها، ويتجرءون عليها.
وأما إذاعة أورشليم القدس الذي يظهر صوتها أحياناً، فإنك تسمع منها عجباً عجاباً، تسمع كذباً وبهتاناً وزوراً، يدعون أنهم يعاملون هذه الانتفاضة معاملة الشباب الذي يحتاج إلى رقة وعناية بمشاعره المتهورة في مراحل المراهقة، وخابوا وخسروا مادام ذلك قولهم في الله وفي رسل الله، وهذا فعلهم رأيناه بأعيننا في عباد الله وإخواننا المسلمين، فكيف يصدق لهم شأن؟! والعجب العجاب يا عباد الله! أن ترى قائدة الإلحاد في هذه المعمورة، دولة الشيوعية العظمى تشجب أو تندد بما يفعله اليهود بالعزل في فلسطين، أفلا ينظرون ما فعلوا بالعزل في أفغانستان؟ أفلا نظروا إلى ما فعلوه بالأطفال والنساء والأرامل والشيوخ؟ أفلا ينظرون إلى ما أحدثوه من التقتيل والتخريب والتدمير؟ عجباً يا عباد الله! إن المسلمين في فتنة، وفي محنة، نسأل الله أن يرفع عنهم الكرب وأن يرفع عنهم المصيبة.
إن هذه الأمة الخسيسة الملعونة التي لعنت على لسان الأنبياء والرسل ما فتئت تفعل الأعاجيب تعذيباً وتشويهاً وتقتيلاً بإخوانكم في أرض فلسطين، وما هو هذا والله جزاء جنس المعاملة، لقد دخل الملك المظفر والقائد الناصر إلى أرض المقدس، فظن اليهود أنه سيحصد رقابهم، وأنه سيقتلهم، فأمَّن من كان على مكانه، ومن أراد الخروج خرج، فأنشد شاعر الموقف قوله:
حكمنا فكان العدل منا سجيةً فلما حكمتم سال بالدم أبطح
ولا عجب ذاك التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح
إن أمة الكفر والضلالة، إن أعداء الربوبية والألوهية، إن أعداء الأنبياء والرسل، وأعداء الإنسانية والبشرية لم يوقروا ولم يرحموا، ولقد نضحوا بما تحمله قلوبهم حقداً وزوراً، وأي حقد أعظم يوم أن دخلوا بيت المقدس، فقال ذلك الأعور موشي ديان: "محمد مات وخلف بنات" وقالوا بلهجتهم: "حطوا المشمش على التفاح دين محمد ولى وراح".
وقائدهم لما تعمق في أرض الجولان، ووصل إلى مكان أو هضبة فيها قبر صلاح الدين من جهة الأراضي الشامية، وقف على القبر وركله بقدمه ركلة وثانية وثالثة، وقال: قم يا صلاح الدين ها نحن قد عدنا، وقالوا لما دخلوا: يا لثارات خيبر! فهل تسمع الانتفاضة هذه العقيدة الخبيثة الشرسة الوحشية التي يتعلقون ويتمسكون بها، لكي نتمسك بعقيدتنا، ونقاتلهم بعقيدتنا، ونحرر أرضنا وليست أرضهم، ونطردهم من أرضنا بعقيدتنا وسلاح التوحيد والوحدانية والعبودية؟ هذا ما نرجوه، وهذا ما نوجهه، وتوجهه كل جهة إسلامية صادقة، وكل فرد مسلم مخلص، وكل دولة إسلامية ناصحة، توجهه لأصحاب هذه الانتفاضة والقائمين عليها، بأن يعلنوا الجهاد، وأن يعلنوا كلمة التوحيد.
أن يرفعوا راية الإيمان في هذه الانتفاضة، وأن يسموها جهاداً لا هوادة فيه، لا يوضع السيف منه حتى النصر، أو أن يهلك آخر رضيع على ثدي أمه في هذه المعركة الحاسمة، وما يدريكم أنها هي المعركة الحاسمة، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان- وهل نحن إلا في آخر الزمان-: (في آخر الزمان تقاتلون اليهود فينصركم الله عليهم، حتى لا يبقى شجر ولا حجر، إلا يقول: يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله).
كيف ينطق الحجر والشجر؟ لا يكون ذلك إلا لأمة جديرة بأن تخرق لها العادة، وأن تتنزل عليها المعجزة، وأن يكرمها الله بكرامته، كرامة الإيمان والعبودية والتمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وتذكروا أولاً وأخيراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
فإن أمة التوحيد أمة الإسلام الصادقة منصورة بالرعب، والله لو كبرت آلاف من أصحاب هذه الانتفاضة وشبابها ورجالها تكبيرة، واجتمعوا على قلب واحد، لسقط سلاح اليهود من أيديهم خوفاً ورعباً.
نسأل الله جل وعلا أن يرفع المحنة عن إخواننا في فلسطين، وأن يرحم المستضعفين، وأن ينصر المجاهدين، وأن يثبتهم أجمعين، وأن يجمعهم على الحق المبين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(86/6)
فاعتبروا يا أولي الأبصار
الحمد لله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند وعن المثيل والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأصلي وأسلم على نبينا محمد البشير النذير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأصلي على نبيه وآله وأزواجه وصحبه، وأسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعظوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إنه ما من أمة من الأمم غزيت في عقر دارها، إلا ذلت وخسرت إلا ما شاء الله وسلم.
معاشر الإخوة: اعلموا أنه ينبغي لكل مسلم أن يتفطن لواقعه، وأن ينتبه له انتباهاً جيداً، ما يبلغ الأعداء من غافل ما يبلغ الغافل من نفسه ما تسلط عدو على دار إلا لأنه وجد نافذة مفتوحة، أو بوابة مهملة، وما تسلطت أمة على أمة إلا لأنها علمت في داخلها أبواباً من الفساد الإداري أو الاقتصادي، وألواناً من الخيانة، وصوراً من الفرقة والاختلاف وعدم الوحدة.
فالله الله يا عباد الله! خذوا العبرة ممن حولكم: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] اجمعوا قلوبكم على المحبة والولاء لكتاب الله وسنة رسوله، ولأئمتكم وعلمائكم ولعامة المسلمين.
عباد الله: خذوا العبرة ممن حولكم، وليصلح كل واحد منا نفسه، وليتق الله فيما ولاه الله من عمله، الله الله لا يؤتين الإسلام من قبل واحد منا، إن كل واحد منا على ثغرة من ثغور هذه الأمة، وثغرة من ثغور هذه البلاد، وثغرة من ثغور هذه الشريعة، البقية الباقية في أمم العالم التي تحكم شريعة الله.
معاشر المؤمنين: كل واحد منكم على ثغرة في ميدان عمله، وفي جنديته وقيادته، وفي عمله الإداري والتعليمي والوظيفي والميداني والمهني والتقني وغيره، كل واحد منا على ثغرة، فإذا رأى العدو -وأعداؤنا كثير، وحسادنا لا يحصون- إذا رأوا في أمتنا تمسكاً وائتلافاً واجتماعاً على قلوب صادقة مخلصة لله ولكتابه ولسنة نبيه، فإنهم يهابون الأمة.
واعلموا أن مؤشر ضعف الأمم وعزها وانتصارها هم شبابها، فإذا عُلم وعُرف الشباب في أمة من الأمم قد اشتغلوا بما ينفعهم، والتفتوا للأمانة التي علقت في أعناقهم أمانة أمتهم، ممثلة في أعمالهم ووظائفهم، وأمن حدودهم، وأمن بلدانهم وأوطانهم ومجتمعاتهم، إذا حفظوها وقاموا بها، وأشغلوا أوقاتهم وأيامهم بما ينفعهم ويعود بالنفع على سائر إخوانهم.
فهذه أمة مهابة لا يجرؤ الأعداء على الدنو منها، أما إذا وجدوا شباباً لا همَّ لهم سوى التصفيق والتطبيل والتزمير، إذا وجدوا شباباً لا يعرف إلا الأفلام والمسلسلات، إذا وجدوا رجالاً لا يعرفون إلا التجارة بالملاهي، إذا وجدوا أناساً لا يهم كل واحد منهم إلا مصلحته المادية الشخصية، أياً كان ذلك العمل، الذي يدر المال عليه، فيه نفع أو ليس فيه نفع، فيه ضرر على الأمة والمجتمع أو ليس فيه ضرر، فعند ذلك مؤشر واقع الشباب في الأمة يكون نذير خطر بأنها مهددة بغزو من داخلها أولاً، ومن خارجها ثانياً، فالعزة والبقاء والدوام لله، ما دامت أمة وما بقيت أمة من الأمم عالية الراية، خفاقة الكرامة، لها سيادة دامت إلا بقدر تمسكها بكتاب الله وسنة نبيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] والضنك في المعيشة: اختلاف في الداخل، وفقر في الأمور، وقلق وزعزعة في الأمن، وتسلط الأعداء من الخارج.
فيا عباد الله: لا تحققوا بأفعالكم أو بذنوبكم سنة الله فيكم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:124 - 126] فالذين نسوا كتاب الله، ونسوا الصلاة، ونسوا فريضة الله، ونسوا الصلاة مع الجماعة، وتعاملوا بالربا، وأقروا المنكرات، ولم يغيروا ولم ينكروا ولو بقلوبهم، أو بحسب ما بأيديهم من القدرة والإمكانية لعلى خطر عظيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
أسأل الله جل وعلا أن يديم الأمن والأمان والعز والاطمئنان على هذه البلاد خاصة وعلى سائر بلاد المسلمين عامة، اللهم ارفعنا ولا ترفع علينا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، اللهم اجمع شملنا، ووحد على محبتك قلوبنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على أعدائنا، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أسيراً لنا ولإخواننا إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته.(86/7)
هكذا تغزى بلاد المسلمين
عباد الله: قبل أن أختم الحديث: اليوم تعود بي الذاكرة إلى قصة ذكرتها بعض كتب التاريخ، قالوا: إن بلداً من البلدان المتاخمة لحدود الفرنجة من جهة الأندلس وأفريقيا، إن بلدة من هذه البلدان أراد أحد ملوك النصارى أن يغزوها، فأرسل قائداً من قواده ليتفقد الأحوال فيها، وهل بالإمكان الميسور أن تغزى، فأرسل قائده، فلما عبر النهر إليها، وأرست سفينته على شاطئها، جاء فوجد شاباً يبكي، قال: ما يبكيك يا فتى؟ قال: إني أبكي لأني أتيت بالسهم والقوس والوتر، فانقطع الوتر وأنا أريد أن أتعلم به الرمي والرماية، قال: لماذا يا فتى؟ قال: لكي نذهب لقتال الفرنجة، ولكي نطرد النصارى عن بلاد المسلمين.
فعاد ذلك القائد راكباً سفينته، وعاد إلى الملك الذي أرسله قائلاً: والله لا تستطيع قتالهم إذا كان هذا وضع واحد من صغارهم، فارجع إلى مكانك، واجمع جنودك واحفظ ما عندك، فلما مضت السنون، عاد ذلك الملك وأرسل قائده أن اذهب وانظر أحوالهم، هل نستطيع أن نغزوهم، فلما عبر النهر ودخل قليلاً في البلاد، وجد شاباً مراهقاً يافعاً يبكي، قال له: ما يبكيك يا فتى؟ قال: أبكي على خاتم أهدته لي حبيبتي فضاع مني، وإني أبحث عنه، خشيت أن يضيع مني أو أن تراني وليس علي.
فعاد القائد إلى الملك الذي أرسله، قال: الآن تغزوهم، الآن تقتلهم، الآن تستبيح نساءهم وتقتل رجالهم.
عباد الله: هذه القصة شاهدٌ على أن شباب الأمة هم الذين يحددون قوتها، وهم الذين يحددون رفعتها؟ يا شباب المسلمين عامة ويا شباب المملكة خاصة! إن الأمل فيكم كبير أكبر مما أنتم فيه، وإن الآمال المعقودة عليكم عظيمة، أعظم من الأمور التي اشتغلتم بها، فاشتغلوا بأمر يرفع أمتكم، ويجعل الأمن يستتب في بلدانكم، ويديم هذا العز والتمكين لكم ولولاة أمركم.
يا شباب أهل هذه البلاد: احمدوا الله على نعمة ليست لأحدٍ فيها سواكم، المياه وصلت إلى الأبواب والدور، والتيارات متيسرة؛ تيار الكهرباء وغيره، وقديماً كان الآباء والأجداد لا يعرفون إلا الظلمة والفتيل الذي يضيء قليلاً، لا يعرفون إلا آباراً بعيدة يحملون المياه على أكتافهم، لا يعرفون إلا احتطاباً، لا يعرفون إلا القليل القليل من الذين يتعلم منهم، تعليمكم مجاناً، وعلاجكم مجاناً، وكل أمر تيسر لكم، ماذا بقي إلا أن تقوموا برد الوفاء، وأن تقوموا بحسن الصنيع ورد الجميل.
أولاً: بالالتزام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة حاجة الأمة منكم، لا بارك الله في عُمرٍ يحيا ويموت صاحبه ثم لا يخلف أثراً نافعاً في هذا المجتمع، هذا كلٌّ على أمته، وكلٌّ على بلاده.
فالله الله يا شباب الأمة: يا شباب التعليم! يا رجال الجامعات! يا من تولى أمر هذه الأمة في أكبر أمر وأصغر أمر فيها! اتقوا الله واعلموا قدر الأمانة التي ألقيت على عواتقكم.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(86/8)
البوسنة والهرسك
مآسي المسلمين كثيرة، وجروح الأمة دامية، في الشيشان، وكشمير، وفلسطين، وكذلك في البوسنة والهرسك والفلبين، وهنا الحديث عن البوسنة والهرسك ومآسي إخواننا هناك، ثم دعوة للمسلمين بأن يحثوا الخطى إلى الجهاد في تلك البلاد.(87/1)
النصر قادم للإسلام
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن ربكم جل وعلا قد أمركم وأمر من قبلكم بها، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، ويقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: في هذا اليوم أبعث برسالةٍ إلى المتلهفين أن يكونوا طلائع الفتح الإسلامي في أوروبا، أبعث برسالةٍ إلى أولئك الذين يسألون الله أن تدفن عظامهم في وسط أوروبا وهم يغرسون علم التوحيد، وما ذلك على الله بعزيز، إلى أولئك الذين يستبشرون ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم لهم حيث قال: (لتفتحن القسطنطينية وروما، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش، فسُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً؟ فقال: مدينة هرقل) أي: القسطنطينية، وصدقت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم ففتحت الأولى وبقيت روما القابعة في وسط أوروبا، وإنا لنرى هذه الأيام بذور فتح الإسلام من جديد، وسقوط دولة النصارى وكتلتهم يوم أن بلغوا غاية مرادهم، في اقتصادهم وسلاحهم وسياستهم: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
إلى الشباب الذين يقفون على ثغور البوسنة، وإلى الشباب الذين يعدون العدة للرحيل، أبعث لهم بهذه الرسالة من كلام الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ * فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:1 - 13].
معاشر المؤمنين: كل هذه الآيات من بشائر النصر، وبشائر الغلبة والعزة والتمكين؛ لأن الله قال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1]، وقال سبحانه: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، وقال: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]، وقال: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورُ} [التوبة:48] فكل كيدٍ وتخطيطٍ وتدبيرٍ ضد المسلمين إنما نهايته وعاقبته وخيره بأمر الله للمسلمين، وشؤمه ودماره على الكافرين.
والله إن أوروبا اليوم لفي حيرةٍ لا تعلمونها، لا تدري أي الأمرين أنفع لها: أن تترك الصرب يمضون على المسلمين في البوسنة، وهذا يفضي إلى تدفق شباب الإسلام إلى أوروبا من السماء ومن تحت الأرض، ومن كل جهة، وعبر ذرات الهواء وموجات الأثير، سيصل الشباب المسلم لا محالة مهما قامت أجهزة الغرب وأجهزة الكشف والمراقبة برصد الحدود وتضييق المداخل، ولا يدرون هل ترك هذا الأمر أو إيقافه هو في صالحهم أو ضدهم؟(87/2)
حال المسلمين في البوسنة والهرسك
أيها الأحبة: سألني أحد الإخوة: هل ستخطب هذه الجمعة عن الدش واستقبال أجهزة البث؟ فقلت له: اليوم لا.
لكني سأتحدث عما رأيت وسمعت وما تردد على لسان ضحايا العدوان، ووقود المعركة، الأمر الذي لا ينقله دش، ولا تخبرك به صحيفة أو مجلة.
نازلةٌ وصلت إلى المؤتمرين في زغرب عاصمة كرواتيا، وكنت واحداً من المشاركين في هذا المؤتمر، لا بحولي ولا بطولي، ولكن:
خلت الديار فساد غير مسودِ ومن الشقاء تفردِ تفردي بالسؤددِ(87/3)
حال النساء والأطفال في البوسنة
جاءت ورقة من أحد من المعتقلات التي تقبع فيها مئات المسلمات البوسنيات، وفي هذه الورقة استفتاءٌ يقول: يا علماء الإسلام! يا دعاة الإسلام! نحن عددٌ من المسلمات البوسنيات نقبع منذ أشهر في هذا المعتقل الذي يقف الصرب على رءوسنا، ونحن الآن حبالى من الزنا، ويتحرك الجنين في أحشائنا من الزنا، فأفتونا مأجورين، هل ننتحر أم نجهض الجنين، أم ماذا نفعل؟ الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! أيهنأ للمسلمين طعام؟ أيلذ لهم شراب؟ أيطيب لهم سكن؟ وأخواتهم يغتصبن صباح مساء، وقبل أن أفيض في هذا الأمر أعود بالذاكرة إلى الوراء لنفهم قول القائل:
حكمنا فكان العدل منا سجيةً فلما حكمتم سال بالدم أبطح
ولا عجبٌ ذاك التفاوت بيننا فكل إناءٍ بالذي فيه ينضح
أعود بالذاكرة إلى الوراء يوم أن بعث الأسبان النصارى في عهد طارق بن زياد بعثوا إليه رسالة يدعونه أن يفتح بلادهم وأن يخضعها للإسلام، لماذا؟ يوم أن اغتصب الملك لذريق وحاشيته من ملوك النصارى اغتصبوا فتاةً نصرانية أسبانية جميلة، اغتصبوها ولم يسلم ذلك الرجل والدها من بطش الملك وأعوانه، فصاح وصاح من معه المنتظرون تعليق الجرس صاحوا يقولون ويهتفون ويستغيثون: يا طارق بن زياد! خَلِّصْنا مما نحن فيه، فجاء طارق بن زياد ومضى بجيشه إليهم، وفي الطريق لم يجد الناس ماءً واحتاجوا إلى الماء فقام طارق واستسقى وفصل الصغار عن الكبار، والرجال عن النساء، ثم قام يدعو ويستغفر ويخضع وينكسر لله رب العالمين، فقال أحد المصلين: هلا ذكرت أمير المؤمنين، فقال طارق: هذا مقامٌ لا يذكر فيه إلا الله، فانفتحت أبواب السماء بمطرٍ كأفواه القرب، ومضى بجيشه وخَلَّص شعب الأسبان من طغيان النصارى.
أيها الأحبة: يوجد خمس وثلاثون ألف سيدة وفتاة في معتقلات النصارى، في معتقلات الصرب الأرثوذكس، هؤلاء فقط من الذين خُصصن لتسلية الجنود الصرب، خمسة وثلاثون ألفاً في جميع المعتقلات خصصن لتسلية الجنود الصرب، فأين حقوق المرأة؟ وأين جمعيات النساء؟ وأين جمعيات حرية المرأة وكرامة المرأة؟ في معتقل كولي القريب من سراييفو فتحت الأبواب لمائة وأربعين امرأة في الأشهر الأخيرة من الحمل سفاحاً بالزنا من الصرب؛ لأنهن لم يعدن صالحات لمتعة الجنود.
وفي معتقل أمارتكو وتشرلنوبين يجمع الصرب العائلة ويغتصبون الفتاة أمام أهلها، ولا تسأل عن أعمار الصبايا من الحادية عشرة إلى الثلاثين، كل من كان في هذا السن وحوله لا يسلم من الاغتصاب.
أيها الأحبة: أما الأطفال الذين شردوا والذين هجروا وبيعوا وحيل بين المسلمين وبين بعضهم، قطع الطريق على بعض المسلمين أن يراهم مندوب التنسيق للمنظمات الإسلامية الأوروبية يقول: في ألمانيا ذهبنا إلى أحد الملاجئ التي فيها أطفال المسلمين فأردنا الدخول فمُنعنا، ثم أردنا الدخول فمنعنا، وقد علمنا أن قسيساً بالأمس دخل على هؤلاء الأطفال وأخذ يغني لهم عن المسيح والمخَلصْ.(87/4)
خطورة تهجير أطفال المسلمين من البوسنة
أيها الأحبة: إن خطورة تهجير أطفال المسلمين إلى خارج البوسنة أو بعيداً عنها ليتربوا في أي أرضٍ أوروبية تحت عناية ورعاية النصارى إنما هو أمرٌ خطير ويكفي أن تعلموا خطورة هذا، إن واحداً من حكام القارة الخضراء، إن واحداً من حكام أفريقيا كان طفلاً صغيراً منحدراً من أسرةٍ مسلمة غاية ما هنالك أنه ذُهب به إلى فرنسا، وتربى هناك صغيراً وعاد إلى بلاده حاكماً نصرانياً يذيق المسلمين ألوان القتل والعذاب.
القضية خطيرة، وتشجيع المسلمين على الهجرة ليس من باب كرامة الإنسان، ولا من باب الرعاية الإنسانية، بل هو من باب إخلاء الساحة وتصفية المنطقة، والقضية -أيها الأحبة- زوال الملة، يقول الغرب: لا نريد الإسلاميين من جديد، ولا نريد الإسلام من جديد، ولا نريد الأصولية من جديد، وعجباً لأولئك ماذا رأوا من المسلمين إلا العدل، وماذا نقول غير التسامح، وماذا أنتج وجود المسلمين هناك، وفتحهم البلاد إلا خلاص الغرب من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الأديان إلى سعة الإسلام، ومن جور المذاهب إلى عدل الحنيفية.
أيها الأحبة: في أوروبا خمسة عشر مليون مسلم، وهذا العدد الكبير لو نفخنا فيه روح العزة وأعدنا إليه روح الجهاد ومددنا له سبل الدعم لتحول هؤلاء إلى قوةٍ تنكس أعلام الغرب، وتجعل كل ما يملك تحت قدرات المسلمين؛ لأننا بهذا ندعو أقواماً يريدون الموت لمواجهة أناسٍ يشتهون الحياة، وصدق الله العظيم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] الغرب يموت في حب الدنيا، يتفانون في حب الدنيا، وأما نحن فنخاطب أقواماً نريد أن نبعث فيهم العزة، عزة الجهاد من جديد؛ لأن ترك الجهاد ذلة، وما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) يعني: الجهاد في سبيل الله، فترك الجهاد ذلة، والأخذ بالجهاد عزة، ويوم أن نقول هذا الكلام لا تظنوا أنَّا ننتظر غداً أو بعد أسبوع أن ينفجر الوضع في أوروبا عامة، لكن هذه بذرة وعندكم بذور، وعند غيركم شتلات وفسائل عديدة لكي تورق شجرة الجهاد في قلب أوروبا، ووعد النبي حق، ولتفتحن روما بإذن الله.
نسأل الله أن يقر أعيننا وأن تكتحل بقتل اليهود في فلسطين، وعودة المسجد الأقصى إلى المسلمين، وسقوط روما وما حولها وكل بلاد الغرب تحت سلطان المسلمين.(87/5)
هيئة الأمم المتحدة حراس للصرب في البوسنة
أيها الأحبة: كنا نظن وقد انخدع بعضنا يوم أن عقد ذلك المؤتمر في لندن وظن الناس أن وصية العدالة وأن محامية الحرية وولية الكرامة الإنسانية أوروبا الغربية سوف تنصف المظلوم من الظالم، والمقتول من القاتل، والمغصوبة من الغاصب، ظننا أننا سنجد في مؤتمر لندن نتيجةً تحقق للمسلمين، ولكن رأينا وسمعنا وقرأنا شواهد القوم من أهلها، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف:26].
في جريدة فرانكفورت صحفيٌ ألمانيٌ مشهور يقول: إذا رأيتم أن هناك تهديداً بفرض مزيدٍ من العقوبات، فاعلموا أن الغرب لم يلجأ للقوة لإنهاء الأزمة في البوسنة والهرسك، ثم يقول: غاية ما في هذا المؤتمر أنه صفعة للمسلمين، وانتصارٌ وتثبيتٌ لمواقف الصرب؛ لأن قوات الأمم المتحدة التي جاءت إلى مواقع القتال التي استولى عليها الصربيون أعطت الصرب أماناً ألا يضربوا وقوات الأمم المتحدة بجوارهم، هذا أولاً.
ثانياً: إن تلك البقاع التي عسكرت فيها قوات الأمم المتحدة جعلت منهم حراساً لها، الأمر الذي يجعل الصرب يستفيد من كافة الأسلحة الموجودة في تلك المناطق، ومن ثم التقدم بها إلى مناطق جديدة لا يوجد بها قواتٌ للأمم المتحدة.
بالعربي الفصيح: أصبحت الأمم المتحدة حارسةً للصرب، أصبحت الأمم المتحدة وجودها يعني: ألا يضرب الصرب إذ لو أخطأت رصاصة فوقعت في رأس أحد قوات الأمم المتحدة قال الناس: المسلمون يضربون الأمم المتحدة، ونقل الأسلحة من تلك البقاع يجعل المواقع آمنة؛ لأنه لا يمكن للمسلمين الآن أن يغزوا منطقةً يتمركز فيها قوات الأمم المتحدة ليستردوها إلى بلادهم، وليس هذا بغريب، فمكيال هذه القضية هو مكيال فلسطين بالأمس، وقديماً بل وحديثاً قال المسلمون هناك: ليس عندنا ما يحرص الغرب على الدفاع عنه.
أيها الأحبة: كلما تسمعون من تطورات وكلمات وشجب وتنديد، وإخراج هذه العقوبات التافهة واحدةً بعد الأخرى إنما هو من استهلاكٍ محلي، ولقد انزعج الصربيون يوم أن حرم فريق بلجراد الرياضي من المشاركة في الأولمبيات، هذه واحدة من الأساليب التي يقاطع بها العدوان، ألَّا يسمح لفريق المعتدي أن يلعب المباراة مع بقية الفرق، هكذا ترد الحقوق، هكذا تعاد الأراضي؟! هكذا ينتصف للمظلومين؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!(87/6)
الجهاد هو الحل في البوسنة وفي كل بلاد محتلة
أيها الأحبة: الواقع يشهد أن عودة البوسنة والهرسك يحتاج إلى جهاد في سبيل الله، وأقول من قبل والآن ويقول البعض: وهل المسلمون هناك على مستوى الالتزام حتى يذهب أبناؤنا إليهم؟ أقول: اعلم -يا أخي- أن الدعوة إلى الجهاد هناك هي دعوةٌ إلى جهاد الدفاع، الجهاد نوعان: جهاد الطلب والابتداء، وجهاد الدفاع ورد العدوان، فالجهاد الذي نتكلم عنه هو جهاد رد العدوان، لقد علمنا من علمائنا وهيئة كبار العلماء فينا أن القتال ضد العراقيين المعتدين الغاشمين ومعاونة الكويتيين على استرجاع بلادهم وأراضيهم هو نوعٌ من الجهاد لدفع الظالم وعودة حق المظلوم إلى نصابه، فبمنطلق هذه الفتوى نقول: إن الدفاع عن المسلمين في البوسنة هو بنفس الفتيا وبنفس القول والمنطلق ولا غرابة في ذلك، فالله جل وعلا يقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75].
أيها الأحبة: إن هذا النوع من الجهاد هو تمهيدٌ لجهاد الطلب والابتداء، وإن الجهاد هناك ينبغي أن تعلموا أن أقل ما فيه نصرة أقوامٍ كان بوسعهم أن يعلقوا الصليب، وأن يتبعوا القسس وأن يرضوا بما أراده النصارى، ومن ثم لن يجرح فيهم جلد، ولن تنحدر من عيونهم دمعة، ولن يظمئوا يوماً، أو يجوعوا ساعة، لكنهم قالوا: نحن نختار الإسلام، نريد الإسلام ولو اغتصبت نساؤنا، ولو انتهكت أعراضنا، ولو قطعت رقابنا، ولو ذبحت رقابنا ذبح الشياة، نريد الإسلام، فهل بعد هذا يقول قائل: إنهم ليسوا ملتزمين فلا يجوز الجهاد أو القتال معهم؟(87/7)
خطر النظام العالمي الجديد
أيها الأحبة: اسمحوا لي أن أقول: إن بركات النظام العالمي الجديد التي طبل لها الصحفيون، وتكلم عنها العلمانيون، وأخذوا يعدون المظلومين بجنان العدالة وبفردوس الرفاهية، أولئك إن كان لهم عقلٌ وبصر فليعرفوا ما هو النظام العالمي الجديد، تجويع الصومال، وذبح وتشريد البوسنة، واستقلال جمهوريات الاتحاد السوفيتي النصرانية أما الجمهوريات الإسلامية فيعود أركان الحزب الشيوعي في روسيا قبل تفككها يعودون حكاماً للولايات الإسلامية، يستقل القوم، فيفرح النصارى باستقلالهم، ويحكمون بلادهم بطريقتهم، أما المسلمون فيستقلون ليعود على رأس النظام وهرمه، ليعود عليهم شيوعيٌ من جديد، بل بعض الولايات الإسلامية ترأسها من كان يظن أو يراهن على أنه خليفة لـ جورباتشوف، ماذا استفاد المسلمون؟ هذا هو النظام العالمي الجديد.
والنظام العالمي الجديد يسمح للنصارى أن يهددوا المسلمين في منجناو، اثنا عشر مليون فلبيني مهددون، والآن تحشد الحشود على المسلمين في الجنوب، والنظام العالمي الجديد يسمح لأقلية النصارى في جورجيا أن تحكم أربعمائة ألف مسلم تحت زعامة إدوارد شيفرنادزا، هذا هو النظام العالمي، وشكراً يا هيئة الأمم، شكراً يا هيئة الأمم على ما قدمت للمسلمين.
لقد منحتنا هيئة الأمم أن ندفن قتلانا، وأن نداوي جرحانا، وأن نأوي المشردين منا، شكراً وألف شكر، هذه حرية الغرب، وهذه حرية النظام العالمي الجديد، الناس أحرار إلا أن يعبدوا الله، الناس أحرار إلا أن يلتزموا بدين الله، الناس أحرار إلا أن يتبعوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: قضايا المسلمين فرصةٌ للدعاية، وفرصةٌ للمزايدة، وفرصةٌ لتجييش العواطف وإثارة العداوات واستثمار كثيرٍ من الأموال، وهذا ما نراه وما يحمله الغيب.
أمرٌ عجيب أيها القادم ماذا تحملُ أيد بنَّاءة أم معول
ليعلم الغرب أن ديننا لا يدعونا إلى العدوان، وقد قلنا وقيلت هذه الكلمة في مؤتمر زغرب، مؤتمر حقوق الإنسان في البوسنة والهرسك، قلنا: بأننا نعلم أن جواسيس الغرب ومخابراته كانت ترصد ذلك المؤتمر الذي لا نعد الخلاص في ذاته، وإنما نعد الخلاص والفرج -بإذن الله- مما ينجم عنه وهو دعوة المسلمين إلى الجهاد لتحرير هذه البقعة، وذهاب الشباب الذين بعثوا روح الحيوية والقوة ورفع المعنوية في الأفغان أن يرفعوها للقادة البوسنويين على أرض البوسنة والهرسك.(87/8)
العدل والرفق هو منهج الإسلام
يقول الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9] ديننا لا يأمرنا أن نعتدي على أحد، ديننا ينهانا أن نمد يداً على أي أحد، بل قد حُكم ليهوديٍ على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، درع علي بن أبي طالب أخذها يهودي فادعاها علي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (هل لك من بينة -يا علي - أن هذا الدرع لك؟ قال: إنها درعي ولا بينة لي، قال: إذاً لك يمين هذا اليهودي، قال: يا رسول الله! يحلف اليهودي؟ قال: ليس لك إلا يمينه، فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) بالعدل دخلت هذه الشعوب المظلومة إلى الإسلام أفواجاً وزرافات ووحداناً، فلا يظن البعض أن نعتدي، لا والله.
كان أبو بكر رضي الله عنه يرافق القائد بعد أن يعقد له اللواء في السرية، فيقول: [امضوا على بركة الله، امضوا باسم الله، ستجدون أقواماً منقطعين للعبادة في الصوامع، فدعوهم وما انقطعوا إليه، ولا تقتلوا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأةً ولا هرماً أو شيخاً كبيراً، وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم] قتال المقاتلة، قتال المعتدين فقط، أما من لا دخل له في ذلك فلا يعتدى عليه، ولا يؤذى، ولا يجرح، ولا يعذب، بل ويعرض عليه الدين بالرفق لينال كرامة الإنسان.
أيها الأحبة: لا تجزعوا مما يحل ويدور بإخوانكم، أقول: لقد هُزِمَ المسلمون في مواقع عدة، وانتصروا في مواقع أكثر، ولكن هل انتهى الإسلام بهزيمة المسلمين في أحد؟ هل انتهى الإسلام بهزيمة المسلمين في معارك أخرى؟ لا.
بل عادوا مرةً أخرى وسيعود الإسلام وقوة المسلمين من جديد.
أيها الأحبة: لا تظنوا أن الساحة قد خلت، والله رأينا شباباً تدفقوا إلى هناك وكلٌ منهم يسأل ربه الشهادة، بل وبعضهم يتناقلون صور الشهداء من إخوانهم، كلٌ يدعو له، ويتمنى أن يكون مصيره مصيره.
أيها الأحبة: هؤلاء الشباب هم قنبلة انشطارية إذا وجدت على أرض البوسنة ستفجر المعنويات، وهؤلاء الشباب هم الذين قالوا للبوسنيين: لا تتركوا البوسنة، لا تغادروا منها، اجعلوا بيوتكم قبوركم، واجعلوا مساجدكم أخاديدكم، وليكن ما يكن، إن من خرج من فلسطين صعب عليه العودة إليها، فلا تكرروا المشوار والمأساة من جديد، ولكني أقول: رسالة إلى علمائنا وعلماء الإسلام عامة أن حثوا الشباب على الجهاد هناك، وقولوا لهم كما قيل من قبل: إن مجاهدة البعث العراقي الغاشم وطرده من أرض الكويت نوع جهادٍ في سبيل الله، نقول: يا أحفاد الشباب! إلى مثل هذه الفتيا، لكي يشاركوا البوسنيين في طرد الصربيين من أراضيهم، ولكي تعود بلادهم كما كانت.
أيها الأحبة في الله: المأساة أكبر مما نصف، وأضخم مما نتكلم، ولكن إذا أراد الله شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(87/9)
جهود المسلمين تجاه إخوانهم في البوسنة والهرسك
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.
أيها الأحبة: أبشروا وأملوا فلا يزال المسلمون بخير، لا يزال المسلمون بخير، إن معنويات إخوانكم في البوسنة والهرسك هي والله في تصاعد، وفي كل يومٍ يمر تسجل الأرقام أعداداً في قتلى الصرب أكبر من ذي قبل، وصدق الله العظيم: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104]، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ولا زال في المسلمين بقية خير، فتضافروا مع شعوب العالم الإسلامي، رأينا من جاء من فلسطين ومن مصر ومن ماليزيا وإندونيسيا والكويت والإمارات، وجهود السعودية غير خافية في هذه القضية، وغيرهم وغيرهم، بل من إرتيريا، ومن السودان، ومن مواقع شتى ليشاركوا ويقدموا ويبينوا حجم معوناتهم للبوسنيين في قتال الصرب النصارى، وآخذ مثالاً على أن شعوب المسلمين لا تزال بخير: سيدةٌ مصرية لما سمعت ما حل بإخوانها في البوسنة حضرت إلى مقر هيئة الإغاثة الإنسانية المصرية، جاءت بعربة للمعوقين، كرسيٌ أشبه ما يكون بالعربة، أو على هيئة العربة، وقدمت هذه العربة وقالت: لا أملك شيئاً سوى هذا الكرسي، وهو كرسي ابنتي المقعدة المشلولة، خذوا هذا الكرسي لعله يغيث امرأة بسنوية مسلمة، وأنا أحمل ابنتي على يدي.
الله أكبر! لا تزال في المسلمين بقايا الخير، والخير في أمتي إلى يوم القيامة، شكراً لأولئك الضعفاء، شكراً لأولئك الفقراء، شكراً لأولئك المساكين الذين لا يجدون إلا جهدهم، والويل لمن يسخر منهم، وشكراً لأولئك الذين إذا جئت: {قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92]، شكراً لأولئك على مشاعرهم، وعلى دموعهم، ويكفينا دعواتهم، إن عجزوا أن يقدموا شيئاً، والحاجة إلى الدعاء ماسة، إننا نريد منكم -يا عباد الله- أن تَسْتَعْدوا على الصرب دعاء السحر وسهام القدر، وكل أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، ادعوا واطلبوا من العجائز في القرى وفي الريف وفي المناطق، اذهبوا إليهم وقولوا للواحدة: يا أمَة! اسألي الله أن ينصر المسلمين.
واحدٌ من المسلمين الأفاضل الطيبين قابلته منذ يومين، قال: والله ما أجد شيئاً أقدمه غير أني لما ختمت القرآن وكان من الحفاظ يقول: رفعت يدي وقلت: يا الله! إن كان لي في هذه الختمة دعوةٌ مستجابة اللهم اجعلها فرجاً للمظلومين وانتقاماً من الظالمين في البوسنة والهرسك، هذه والله تعدل الملايين، فالله الله بالدعاء يا عباد الله.(87/10)
كلمة للأثرياء وأصحاب الأموال
هذه كلمة للأثرياء، إلى أثرياء المسلمين، إنهم يستطيعون -بعون الله، ثم بحسن نيتهم- أن يغيروا معالم السياسة الأوروبية خاصة والمواقف الغربية عامة، لو وجدت أموالهم طريقاً إلى موقعها الطبيعي، إنها مصيبة أن تجد مسلماً أمواله في بنك منهاتن أو أمواله في البنك الألماني، أو أمواله في جنيف، من أمواله تبنى البارات، ودور الخنا والزنا، ودور العهر والفساد، من أمواله تُستثمر أو تَستثمر مصانع الأسلحة الذي يذبح بها المسلمون، ولو أنه عرف مكان ماله المناسب لعرف أن الطريق لماله الطريق الطبيعي لماله أن يذهب لكي ينفجر الريال قنبلة في رأس كل كافر من أعداء الإسلام، هذا هو الطريق الطبيعي لأرباب الأموال، ولكن ماذا نفعت كثيرٌ منهم أموالهم، مات كثير من الأثرياء، فدفن كالجيفة، وجاء الدود ليقول له: ليس لك حقٌ في كفنك، خلي بيننا وبينه نقرضه ونقزمه ونأكله، وترك الأموال خلفه، وتشاتم الورثة بعده، وربما لعنوه وسبوه؛ لأنه لم يحسن الاستثمار، أو لم يغتنم الفرص التي مرت، الأموال وبالٌ على أصحابها.
أصحاب المليارات أصحاب الملايين أقول لهم: زوروا المقابر، انظروا قبور الملوك، هل عند قبر الملك حارس؟ وانظروا قبور الأثرياء، هل عند قبر الثري شيء؟ وانظروا قبور الوزراء، هل عند قبره موظف؟ وانظروا قبور الأمراء، هل عند قبره خادم؟ لن ينفعك إلا ما قدمت (يقول ابن آدم: مالي مالي مالي، وليس لك يا بن آدم من مالك إلا ما لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فليس بمالك) أقول للأثرياء: تسلطوا على الأموال، أحرقوها في سبيل الله، أطلقوها في السلاح، أطلقوها في القنابل، أطلقوها في المتفجرات.
أتعلمون أيها الأحبة: أن القرن الأفريقي لو تسلطت عليه أموال المحسنين المسلمين لحولت المسلمين إلى قوةٍ عسكرية تطرد جميع القوى الغاشمة، ويحكم بكتاب الله وبسنة رسوله في القرن الأفريقي، وكذلك أوروبا، كل من قابلنا من البوسنيين ومن العرب ومن غيرهم يقولون: نريد سلاحاً، نريد سلاحاً، تمر الدبابة وليس في حوزة الجندي إلا كلاشنكوف، كيف يواجهها؟ يريد سلاحاً وقنبلة وصواريخ، مع أن الصرب الذي يستخدم الجيش الاتحادي عنده الطائرات والدبابات والراجمات والمدافع الثقيلة، وإخوانكم ليس عندهم إلا الكلاشنكوف.
وأبشركم أنهم غنموا غنائم طيبة وقتلوا قتلاً جيداً في رقاب الصرب، ولكن بحاجةٍ إلى السلاح؛ لأن حجم المعركة أكبر مما نتصور.
أيها الأحبة: إننا نريد أن نريق دماءنا باختيارنا، نريد أن نصب دماءنا بإرادتنا، في الزمان والمكان الذي نريده، لا أن نجر كما تجر الشياه من الحظيرة فتذبح في المكان الذي يختاره الجزار، طالما أن الدم مراق، وأن الروح تزهق، وأن النفس متصاعد، نريد نحن أن نختار مكان الموت، وساعة الموت، وطريقة الموت، والقضية التي من أجلها نموت.
ختاماً: أيها الأحبة: قضية البوسنة بحاجةٍ إلى دعايةٍ إعلامية، بحاجة إلى إعلام، أن تتابعوا ذلك، وإني أدعو الشباب المسلم وخاصةً من يجد في نفسه كفاءةً صحفية أن ينسق مع الإخوة هناك في كرواتيا، وفي البوسنة؛ لكي تنشأ مجلةٌ على غرار مجلة المجاهد والجهاد والبنيان المرصوص، تنشأ مجلة اسمها طلائع الفتح في أوروبا، أو بأي اسم آخر المهم أن توجد مجلةٌ أسبوعية أو نصف شهرية، ومن ثم يكون للمسلمين في كل مدينة مكتب متخصص لأخبار وقضايا البوسنة والهرسك، ومن خلاله يكفل الأيتام، وتقدم الكفارات، وإفطار الصائم، وإطعام المساكين.
ثم بعد ذلك -أيها الأحبة- سيأتي فصل الشتاء والبرد القادم، لقد زرنا مخيمات البوسنيين، فوجدناهم يسكنون في ورشٍ قديمة مهجورة، ماذا تفعل هذه الورش إذا بلغت درجة الحرارة خمسة عشر تحت الصفر، وعشرين تحت الصفر؟ ماذا ستفعل هذه المظلات؟ أو أماكن قديمة، والناس بأمس الحاجة إلى معونة الشتاء القادمة، وأحوج منهم الذين هم في براجدة وسراييفو وبعض المناطق التي تشهد شتاءً قارساً قد ظهرت بدايته من الآن.
فيا أيها الأحبة: لا تنسوا إخوانكم، ادعموهم وأعطوهم وابذلوا لهم واسألوا الله أن ينصرهم بنصره، وإنَّا لعلى أملٍ من الله عظيم أن تتحقق سنته في نصرة الإسلام وذلة الظلمة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم آمنا في دورنا، اللهم آمنا في دورنا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تفرح علينا ولا على بلادنا أو علمائنا أو حكامنا حاسداً، ولا تشمت بنا عدواً، اللهم اجمع شملنا على ما يرضيك، اللهم إنا نرى في عبادك صوراً من الفرقة والشتات أورثت جوعاً وفقراً وتشريداً ومرضاً وقتلى، اللهم فجنبنا ذلك كله، وارحمنا برحمتك، وسخر لنا ملائكة السماء وجنود الأرضين بقدرتك.
اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصرهم، اللهم أطعمهم، اللهم اكسهم، اللهم اسقهم، اللهم اجعل شتاتهم دولة، وضعفهم قوة، وتفرقهم اجتماعاً، اللهم أعزهم، اللهم أنزل الرعب في قلوب أعدائهم، اللهم سدد رصاصهم، اللهم عليك بالصربيين، ربنا أهلكهم، واجعلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً، واجعلهم عبرةً لمن بعدهم وحولهم ومن وراءهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
اللهم صلِّ على محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اشف مرضانا، اللهم اشف أمراضنا، اللهم داوِ أسقامنا، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفتيه، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(87/11)
التبرج والسفور
إن تدني الأمة في مستواها العلمي والإيماني، وتركها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له آثار عديدة، ومن أكثر هذه الآثار خروج نساء المسلمين إلى الأسواق والشوارع متبرجات سافرات، فعلى الأمة واجب كبير تجاه هذا المنكر العظيم الذي قد تفشى وانتشر بتأثير أعداء الله فيه، ومن هذا الواجب إقامة الندوات والمحاضرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة الفردية والجماعية وغير ذلك.(88/1)
ظاهرة انتشار التبرج والسفور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وصحبه ومن استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اعلموا أن الله ما خلقكم ليستكثر بكم من قلة، أو ليستعز بكم من ضعف، وإنما خلقكم لعبادته فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
معاشر المؤمنين: لا شك أننا نعيش نعمة عظيمة لا يحيطها وصف، ولا يدركها بيان، نعمة في أبداننا، وأمناً في أوطاناً ومزيداً في أرزاقنا وذرياتنا: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18].
ومن المؤسف حقاً -يا عباد الله- أن نجني على أنفسنا بالسعي الحثيث لزوال تلك النعمة وذلك بما تكسبه الجوارح من الآثام والمعاصي والمنكرات، التي هي أول معول يقوض أطنابها، ويعجل بزوالها، إنا لله وإنا إليه راجعون! معاشر الأحبة: لاشك أن الطاعات برحمة الله أسباب النعم وأن المعاصي جوالب النقم:
وإن كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهود عليهم ولا تتهم
وما كان شيء عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومن قصور وأخرى عليها أطن
صلوا بالجحيم وفاتوا النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
عباد الله: المعاصي التي نرتكبها ونراها ونبصرها كثيرة جداً، ولكن ستر الله وعفوه ورحمته تهون أمرها على كثير من الناس، ومع عفو الله وستره فلا يعني ألا نمعن النظر أو نقلب البصر في لون من ألوان المعاصي الذي يقع فيها بعض المسلمين بإقرارهم، وبعض المسلمات بفعلهن، تلكم المعصية التي كانت سبباً لضلال كثير من الشباب، وانحرافهم عن جادة الصواب، وانحرافهم عن جادة الصلاح، وانحدارهم في ألوان المعاصي والآثام واحدة تلو الأخرى، أتدرون ما تلك المعصية؟ إنها جريمة التبرج والسفور، جريمة اجتماعية وعصيان لله، وكسر للفضيلة والحياء، التبرج والسفور إظهار المرأة للرجال الأجانب الذين ليسوا من محارمها ما أوجب الشارع ستره من زينتها ومحاسنها، وكلكم -معاشر الأحباب- يلحظ هذا الأمر جهاراً نهاراً في الأسواق وغيرها.
ومظاهر التبرج في هذه الأيام أخذت أشكالاً متناقضة، فترى المرأة قد غطت وجهها بغطاء شفاف، وارتدت عباءة شفافة أيضاً على كتفيها، وثوباً يقطع ويفصل مفاتنها من أعلاها إلى أسفلها، مع إبداء النحر والذراعين محلاة بالذهب، أو شق جانب الثوب يميناً أو شمالاً لتلتهب الفتنة بخروج الساق عارية، ثم تجوب الأسواق معطرة مزينة بمشية مائلة متمايلة، وإذا خاطبت صاحب الحانوت كشفت عن وجهها وحدثته بلسان متكسر، وعبارة تفوح منها رائحة العبث والفتنة، هذا من أكبر الذنوب، وأخطر المعاصي فتكاً بالنساء والرجال بل بالمجتمع بأسره، فكم من شاب وقع أسيراً لنظرته المسعورة لامرأة كهذه! وكم من رجل واقع الفاحشة ولم يقلع عنها إلى يومه هذا وقد يكون متزوجاً! وكم من رجل زهد في زوجته وتمنى أن لو لم يرها بفتنة تلك المرأة في بصره وقلبه! عجباً عجباً -يا عباد الله- أن تؤثر امرأة ضعيفة! وهي كما يقول القائل:
وهن أضعف خلق الله إنسانا
أن تؤثر بفتنتها ومشيتها وتكسرها في مجتمع بأسره ولا غرابة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة أضر على أمتي أو أضر على الرجال من النساء فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
عباد الله: إذا كان القرآن الكريم يخاطبنا بقول الله جل وعلا: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ذلك في زمان الصحابة وذلك في عصر النبوة والخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف الحال في زماننا هذا وكيف الأمر في واقعنا هذا الذي تكسرت فيه الأقوال! وتلطف الرجال وتكسروا في مقيلهم وقولهم للنساء! إنا لله وإنا إليه راجعون! فانظروا كم حقق الشيطان من نصر في أولئك بجنديٍ من جنوده وهي المرأة المتبرجة السافرة، ويوم أن نسمع هذا الكلام أو نقوله لا نعني أننا نحكم على النساء قاطبة بالتبرج والسفور؛ بل إن من بينهن من يخرجن لحاجة مقصودة في لبس ساتر، ومشية مستقيمة، قد أسدلت خمارها على وجهها، وأضفت عباءتها على ثوبها الواسع الذي لا يصف مفاتنها، ولبست قفازاً لستر يديها، فهذه لا يجرؤ عابث على ملاحقتها في نظره، ولا يجد الشيطان فيها كميناً ينصبه لفريسته، ولا يملك من رآها إلا أن يدعو لها ولبنات المسلمين بالستر والتوفيق.(88/2)
تحريم التبرج والسفور وآثاره على الناس
نعود إلى مشكلة التبرج والسفور لنرى أن القرآن قد ذكر هذا الموضوع في قوله جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33] فالتبرج من عادات نساء الجاهلية، ولا شك أن امرأة تخرج بهيئة متبرجة فإن الشيطان يستشرفها ويعد بها ولها الفتنة والبلاء بخروجها، ولا يشك مسلم في حرمة هذا الفعل الدنيء، فهو حرام بمقتضى مصالح العباد في تحريمه لو لم يرد دليل ينهى عنه، فكيف وقد جاء الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) فلتعلم النساء، علموهن -يا معاشر الرجال- أن هذا الأمر حرام وشر مستطير، وعلموهن بهذا.
ومن مساوئ هذا التبرج والسفور أن يصاحبه اختلاط المرأة بالرجل وانفراده بها في محله أو معرضه أو في الطابق الثاني من المعرض، فإذا جاءت المرأة متبرجة بالصفة التي ذكرنا، وصاحب ذلك الخلوة والانفراد فقد وقع المحذور إلا ما شاء الله، وكيف لا يقع والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه.
ومما يجرح القلب أن ترى صاحب الحانوت أو المعرض لا يتردد أن يلبس المرأة التي جاءت إلى معرضه، لا يتردد أن يلبسها حلياً أو مصاغاً أو ملبوساً بعد أن مدت يديها له بحجة أنه يساعدها في ذلك، وهو يعبث بيديها ويقلبها بين يديه في صورة المعونة والمساعدة، وهذا واقع في كثير من النساء اليوم، فإن كانت لوحدها فمن الملوم هي أم وليها أو كلاهما جميعاً، وإن كان زوجها بجانبها فهو ديوث على رضائه بما يرى، ولا شك أن ذلك التبرج يشعل فتيل النظرات الجائعة التي أعقبت حسرات وأنات ضائعة، بفعل غافل أو جاهل عن ذكر الله وأمره ونهيه، فلم يقدر عاقبة نظره:
وأعقل الناس من لم يرتكب عملاً قد لا يفكر ما تجني عواقبه
إن التبرج والسفور لو لم يأت من مصائبه إلا أن يجعل الناس لا يغضون أبصارهم، وأن يطلقوا نظراتهم في الحرام، فكفى به بذاءة وخسة ودناءة، يقول ابن قيم الجوزية:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ويقول الآخر:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
ولهذا الجانب من آثار التبرج وهو النظر حديث يخصه إلا أنا ذكرناه بأنه أول مصيبة تنجم عن رؤية المتبرجات السافرات، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني: زانية) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، وفي رواية: (أن المرأة إذا استعطرت فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية) أعوذ بالله من التبرج والسفور، نعوذ بالله ونعيذ نساءنا ومحارمنا وبناتنا من التبرج والسفور، ونسأل الله على ألا يرينا فيهن عورة مهتوكة أو ستراً منكشفاً.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(88/3)
النساء وخروجهن الأسواق لغير حاجة
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، الحمد لله حمداً يرضي ربنا، الحمد لله حمداً ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، وكلنا لربنا عبد، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
معاشر المسلمين! لا شك أن ضعف الإيمان في قلوبنا، لاشك أن تقاعسنا عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلة العلم الشرعي، وسوء التربية والتوجيه من الأمور التي أورثت نوعاً من هذا الجيل يجوب الأسواق والطرقات غاديات رائحات، لا مهمة لهن إلا الفتنة والبلاء، ومن أراد أن يتأكد من هذا فليقف في السوق لحظة ليتأكد أن جميع من في هذا السوق ما جاءوا لقضاء حاجة وإنما النسبة القليلة التي جاءت لقضاء شيء من حاجاتهن أو حوائجهم، والكثير منهن لو دقق الإنسان النظر لوجد أنهن يجبن السوق غاديات رائحات، ولكن الإنسان إذا دخل السوق لحاجة فهو تراه يمشي مسرعاً لقضاء حاجته وللخروج من هذا المكان الذي هو أبغض البقاع عند الله، فيظن أن الناس مثله في قضاء حوائجهم، وفي نفس المقصد في الإتيان إلى هذا المكان، والواقع خلاف ذلك، ومن اتصل أو جالس رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو أخذ حديثاً من رجال الأمن لعرف أن كثيراً من المصائب تدبر وتحاك، ويكون موقع العمليات فيها هي الحوانيت، فإن لم تكن فموقع التخطيط والمؤامرة، إن ذلك لا يكون عبثاً، وإنما هو أمر مدبر، ومصيبة تحاك، نسأل الله جل وعلا أن يرينا فيمن يدبرون لهذا المجتمع عجائب قدرته، وأن يفضحهم على رءوس الخلائق أجمعين.
معاشر الأحباب: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس، وقالت عائشة: أما لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم من النساء أو رأى من النساء ما رأينا -تقوله عائشة في زمانها- لمنعهن المساجد) فتأملوا هذا الحديث وانظروا عظم الفارق بين ذلك وزماننا هذا نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله: إن للمجلات الخليعة والأفلام الماجنة لدوراً عظيماً في حث تلك الفتيات إلى أن يجبن الأسواق غاديات رائحات، ومتى عرفنا النساء يتوسطن الشارع ويزاحمن الرجال بأكتافهن؟! ومتى رأينا النساء يرفعن أصواتهن في مجامع الرجال إلا يوم أن انتشر هذا البلاء، ونحن الآن في نعمة عظيمة مع عظم هذه النعم ومع انتشار هذه المنكرات في الجانب المقابل نسأل الله ألا يكون ذلك استدراجاً ونسأل الله ألا يعذبنا بذنوب غيرنا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].(88/4)
دور الأمة أمام مشكلة التبرج والسفور
معاشر الأحباب: ما هو دوركم أمام هذه المشكلة؟ أيكفي أن تسمعوها أو تحوقلون؟! لا يكفي، فلكلٍ دورٌ ومسئوليةٌ أمام هذا الأمر: أما أول دور: فهو في أنفسنا وأسرنا بالتربية والتوجيه، ومناقشة هذا الموضوع مع محارمنا وبناتنا مناقشة جدية، نبين لألئك الفتيات الغافلات أن هذا أمر مدبر وأن نهايته الانفتاح والإباحية.
الأمر الثاني: أن نبث الوعي بخطورة هذه الظاهرة، وأنها تجني على الأجيال بما تجر عليه من الانحلال والإباحية ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا الدور بالمشاركة في الندوات والصحف والإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام، فلا يترددن مسلم يملك أن يقدم نصيحة في هذا الباب، أو في أي وسيلة من الوسائل يقدمها لينفع المسلمين بذلك.
الأمر الثالث من دورنا: أن ننكر هذا المنكر بأنفسنا أن ننكره بألسنتنا؛ لأن الإنسان حينما تتقد في قلبه نار الغيرة فوالله لا يصبر أن يرى امرأة متبرجة، فإن كانت في سيارة مع زوجها وما أكثر انتشار هذه الظاهرة في هذه الأيام، كثيراً ما ترى المرأة قد كشفت عن وجهها متزينة متجملة في السيارة بجانب زوجها، أفنلوم زوجها أم نلومها هي:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
دورنا أمام هذا أن نلتفت إلى زوجها في سيارته، وأن نحدثه حديث المشفق الغيور، اتق الله في زوجتك هذه لو يراها جائع لم ير جمالاً لأصابها بعين فابتليت بها وابتلاها بتلك العين، ولو رآها مجرم لا يهمه في أي وادٍ هلك لتبعك وتبعها مع أعوانه ليفتك بك وبها في مصير أن ينال منها ما تشتهيه نفسه، ولو رآها إنسان حاسد أو فاسق لشنع بها ولذكرك في مجالس الناس وأن زوجة فلان رأيتها في المقام كذا وكذا وأولاً وأخيراً نذكره بأن هذا أمر لا يجوز، فإن كنت مسلماً ومؤمناً وتقول: الإيمان في قلبي فأرنا قليلاً من الإيمان بأمر سهل تأمر به زوجتك، أما إن رأينا امرأة مع سائق من السائقين وما أكثر هذا الأمر! أن تجد المرأة متبرجة كاشفة وولي الأمر في تلك اللحظة هو السائق، لا يملك أن يرد عنها قليلاً حتى لو ضيق ذلك السائق إلى أضيق الطريق، أو يلجأ إلى أن يقف بسيارته لينال أولئك العابثون من هذه المرأة شيئاً، فإنه سائق مسكين لا يملك حولاً ولا قولاً ولا قوة، وبعد ذلك قد تنتهي هذه المصيبة بهذه المرأة بسبب تفريط وليها في هذا الواقع، علينا إذا أمكننا في ذلك إن رأيناها في سيارته أو رأيناها في سوق أو في مجمع أو في مستشفى أو في أي مكان أن نكلمها عبارة لطيفة لا تكسر فيها ولا خضوع؛ لأن المرأة لا تتحمل ما يتحمله الرجال من غلظة القول وغضاضته، علينا أن نقول لها: اتقي الله واستري نفسك هداك الله، اتقي الله، وأنت بهذا تعرضين نفسك ستر الله عليك، بدعاء قليل، وكلمات طيبة، فإنها لا شك أنها تبادر بالخجل، وقد لا تنقاد في المرة الأولى لهذه النصيحة ولكن بتكرار هذه النصيحة منك ومن أخيك ومن غيرك من أبناء هذا المجتمع، فإن النتيجة في نهاية الأمر تكون ولله الحمد ظاهرة منكرة غيرناها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يستر على نسائنا ونساء المسلمين، اللهم يا فرج المكروبين ويا نصير المستضعفين ويا إله الأولين والآخرين! نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت أن تستر على نسائنا، اللهم لا ترينا فيهن فضيحة، اللهم لا ترينا فيهن عورة مكشوفة ولا ستراً مهتوكاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد المسلمين بسوء، وأراد المسلمين في هذا البلد خاصة وغيرها من البلاد عامة، اللهم من أرادهم بسوء وأراد ولاة أمورنا بفتنة وعلماءنا بمكيدة، وشبابنا بضلال، ونساءنا بتبرج وسفور اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أرنا فيه يوماً أسود، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً اللهم صل وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، نبيك محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وعن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وأهل الشجرة وأهل البيعة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(88/5)
التحليل القرآني للأحداث
إن القرآن الكريم هو منهج المسلم في تفسير الظواهر والأحداث من حوله، وإن فسرها من شاء بما شاء، ولأجل ذلك جاءت هذه المادة موضحة لهذا المبدأ المهم في حياة كل مسلم، ولقد انتقل الشيخ بعد ذكر المقدمة لبيان حقيقة أفكار حزب البعث من الكفر المعلن واتباع مناهج القومية والعلمانية والاشتراكية، وأكد ضرورة الإعداد لمواجهتها.(89/1)
القرآن هو منهج المسلم في تفسير الأحداث
الحمد لله الذي جعل العزة والكرامة والأمن والطمأنينة لمن أطاعه وحَكَّم شرعه، وجعل الذلة والصغار والخوف لمن خالف أمره، وخالف تحكيم كتابه وسنة نبيه، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته وعظمته، الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يعلم جنوده إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم وللأولين وللآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، ويقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
واعلموا أن التقوى مع حسن الخلق أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة، وما ذاك إلا أن التقوى تتضمن مراقبة الله في السر والخفاء قبل العلانية، وفي الباطن قبل الظاهر.
معاشر المؤمنين: يظن كثيرٌ من المسلمين في خضم هذه الأحداث المتلاطمة التي أصبح يتكلم فيها كلٌ في منهجه، وكلٌ بمنظاره، وبطريقه، فالذين يؤمنون بأن الغلبة والقوة لمن ملك القوة المادية والسلطة العسكرية، والآخرون الذين يظنون أن من ألف الشعوب وجيَّش العواطف، أنه سيكسب هذه الجولة، وقليلٌ من أولئك الذين يظنون أو يعلمون أو يتيقنون أن الأمر لمن كان قريباً من الله جل وعلا بصريح قوله سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]، ولقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، ولقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
في خضم هذه الأحداث، وفي هذه الأمواج المتتالية من التحليلات والتوقعات، والأنباء والأخبار وغير ذلك، ليس لدينا إلا منظار واحد، سواء حلل الغربيون بطريقةٍ معينة، أو حلل الشرقيون بطريقة معينة، أو ذهب أرباب الفكر والسياسة إلى منهجٍ معين، اعلموا أن منهج المؤمن وتحليله للأحداث لا يتغير؛ لأنه مرتبطٌ بمرجعٍ واحد ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومتى أصبح هذا الحدث أو غيره من الأحداث أعظم من أن يكون موجوداً في كتاب أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله جل وعلا يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]؟ إن أي واقعةٍ، أو نازلةٍ عسكرية، أو سياسية أو اقتصادية، أو أي ظاهرةٍ من الظواهر كما يسمونها، وإن للمسلم فيها منهجاً واحداً يعود إليه في كل حال، ألا وهو هذا الكتاب الذي حوى كل شيء، وما فرط الله فيه من شيء، ولكن من الذي يستطيع أن يفهم هذا الأمر، ويستنبط هذا التحليل، ويدرك هذه الحقيقة؟ إنهم أولو الأمر منهم كما يقول جل وعلا: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] إن أقواماً عجزت عقولهم أن تدرك استنباط تحليل الحدث من القرآن، فذهبوا يستلهمون استنباط الأحداث وتحليلها من إذاعة لندن أو من رويتر، أو من أي وكالة من الوكالات، وعجزت عقولهم أن تدرك معنى القرآن والسنة ذهبوا ليقبلوا أقوال وتحليلات البشر، وبنوا على هذا كل أمر، وتصرفوا على هذا في كل وجهٍ ومسلك.
إذا كان ذنب المسلم اليوم جهله فماذا على الإسلام من جهل مسلم
إذا تخلفت عقول بعض المسلمين أن يعرفوا كيف يحللون الأحداث، وكيف يفسرونها، وعجزت عقولهم عن تفسير ومعرفة ذلك من القرآن فليس الذنب على القرآن أو السنة، بل العتب واللوم والملامة تقع على هذه العقول المتخلفة التي عجزت عن فهم الأمور القرآنية وقبلت تحليل البشر من كل جانب، نحن لا ننكر أن نتسمع الخبر أو أن نعرف الخبر، فالخبر واقعةٌ ندركها من خلال هذه الوسائل، لكن المصيبة المرة أن نذهب ونقبل تفسير الخبر من كل ناعق، ومن كل ببغاء، ومن كل مقلدٍ ومردد، متى أصبح المسلم يفقد ميزانه؟ متى أصبح المسلم لا يملك ميزاناً يقيس به الأحداث، ويرد إليه الأمور كلها؟ {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:83].
أقول: يا معاشر الأحبة! هذه المقدمة؛ لأن في هذه الأيام راج سوق أجهزة الراديو التي تقرب الإذاعات البعيدة، والتي تصفي الإذاعات المشوشة؛ لكي يسمع الناس الأنباء صباح مساء، فإن سمعوا نبأً وتحليلاً مُطَمْئِنَاً ناموا مطمئنين، وإن سمعوا نبأً وتحليلاً مروعاً ناموا خائفين، وبالصباح مرجفين، وتراهم متقلبين، أي مسلمٍ يعير عقله إذاعةً أو يعير عقله تحليلاً لكافرٍ أو لمسلم؟ ليت عنده ذلك البعد القرآني، والفهم النبوي الذي ورد في الكتاب والسنة.
معاشر المؤمنين: هذه مسألة ينبغي ألا تغيب عن البال، وينبغي أن نعلم أنهم وإن أطبقوا وجمعوا وحللوا وأرادوا، أو توافقت وتواترت تحليلاتهم وتوقعاتهم في أمرٍ من الأمور هل سيكون غداً؟ فإن مسلماً بلغ من الجهل والغباء منزلة أن يظن أن ما توقعوه يتحقق غداً، وحتى أثبت لكم أن بعض المسلمين وقع بهم الغباء والسذاجة، والبساطة والغوغائية إلى حدٍ بعيد، خذوا هذا المثال: لو سمعنا الآن تصريحاً لأربعة من الوزراء، أو الرؤساء، أو من العسكريين، أو من المحللين والإخباريين، توافقت فيه آراء أربعة أو خمسة لانتظرنا نتيجة وتحقق هذا الحدث في الوقت والساعة واللحظة التي حللوا وقدروا أن يكون الحدث فيها، ويوم أن يقال لمسلم: إن الله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] تجده يتردد هل يرفع يديه أم لا؟ وهل يدعو؟ وإذا دعا هل يستجاب له أم لا؟ هنا تخرج العقيدة، وهنا يظهر جهل كثير من المسلمين أن يعتقدوا تماماً أن ما يحلله ويقوله البشر ينطبق لا محالة، وأن ما يقوله الله وإن بيتوا في نفوسهم أنه لا شك في صدق الله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87] تجد أحدهم يتشكك ويتردد هل يقع أم لا؟ لماذا هذا اليقين والاعتقاد والجزم الكامل بوقوع ما تنبأ به البشر؟ وذلك الشك والتردد في حدوث ما حكم به رب البشر، أليس هذا خللاً في العقائد؟ والله إنه لخلل.
والله إننا -أيها الأحبة! - نشهد حالةً من ضعف التوكل على الله، وإن كنا نقول بألسنتنا: نحن متوكلون على الله، لكن حقيقة التوكل لم تظهر جليةً في السلوك والتصرفات والعلاقات.
مثالٌ آخر: لو قلنا لبشرٍ: كل السم، لقال: لا آكله؛ لأن السم قاتل.
ولو قلنا: ادخل النار، لقال: لا أدخلها؛ لأن النار محرقة.
ولو قلنا: ادع ربك حتى يستجيب لك في هذه النازلة والواقعة فإنك تجد الدعاء آخر سلاحٍ يفكر به، لماذا؟ لأنه يعتقد جزماً ويقيناً أن السم قاتل، وأن النار محرقة، وليس اعتقاده بنفس الدرجة في الدعاء، لماذا يا عبد الله؟! أليس هذا دليلاً على خداع النفس وضعف التوكل على الله؟ بلى والله.
وإن مثل هذه الأمور أظهرت خلل بواطن الناس وضعف قوة تنكر العقيدة في قلوبهم، يوم أن التهبت التحليلات والأنباء والأخبار في هذه الواقعة، ولا تجد أحداً إلا وجهازه عند أذنه، يسمع وينصت وإذا تكلم ولده أو زوجه سكته حتى لا يفوت قليلٌ ولا كثيرٌ من الحدث، ولو أن ذلك الوقت الذي صُرف في تتبع الإذاعات والموجات صُرف في التضرع والدعاء والخضوع لله لرد الله هذا البلاء عنهم جميعاً: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] لكن ماذا حصل؟ لم يتضرعوا: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] فقسوة القلوب، وضعف تمكن العقيدة فيها هو الذي جعل كثيراً من المسلمين يتخبطون حيص بيص، ويمنةً ويسرة، ويا أسفاً على أمةٍ رجالها بهذا المستوى من ضعف تنكر العقيدة!! ولا أقول كلهم، بل أقول بعضاً قليلاً حتى لا يعم شؤم الأمر عامة المسلمين.
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نحلل كل واقعة تحليلاً قرآنياً نبوياً قبل أن نسمع تحليل الأنباء والأحداث من مختلف وكالات الأنباء العالمية وغيرها، ينبغي أن نرد الأمور إلى الله، أن نرد الأمور إلى العلماء الذين يدركون العبر، وما ذكر الله في كتابه، ويدركون حقائق الأمور مربوطةً بالقواعد الشرعية، والمصالح العامة التي تضمنها هذا القرآن وهذه السنة.(89/2)
حقيقة أفكار حزب البعث
أنتقل بكم إلى أمرٍ آخر أيها الأحبة! إن تزاحم الأحداث في هذا الزمان، وما نلاحظه من تفاعل الناس مع الأحداث يدعونا إلى أن تكون الخطب متعددة المواضيع حتى تغطي أكثر من أمر، وتعالج أكثر من مشكلة تدور في أذهان الكثير من الناس، يظن بعض السذج والبسطاء أن الحملة التي قامت لتكفير البعثيين إنما هي عاطفةٌ وطنية، يظن الكثير أننا يوم أن قلنا: إن البعث ومن اعتقد أفكاره كافرٌ ملحدٌ لا محالة، أن هذا نتيجة الموجة السياسة، أو نتيجة العاطفة الوطنية التي قادتنا ودعتنا إلى هذا الأمر، كلا والله.
ولكن كما قلنا: إنما ندين القوم من أفواههم (وعلى نفسها جنت براقش) أعيد لكم أفكار حزب البعث، وحقيقتها، وما يظهر جلياً في بعدها عن كتاب الله وسنة نبيه، وبعد ذلك لا أحكم أنا، بل أنتم الذين تحكمون:(89/3)
الكفر المعلن
إذا كان شعار البعث:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
هل يبقى على الإسلام من يعتقد غير الله رباً؟ لا والله.
إذاً ما كفرنا البعثيين عاطفةً وطنية، وما قلنا بكفر البعثيين عن عاطفةٍ أو موجةٍ سياسية، وإنما نقول ذلك من صريح ما عرفناه من العقيدة، وما درسناه من التوحيد، وما عرفناه من الشريعة.
وآخر يقول، وهو من أساطين البعث ورجاله المقدسين: (بلادك قدمها) هذه دعوى القومية في الحزب العربي البعثي.
بلادك قدمها على كل ملةٍ ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوا لي ديناً يجعل العُرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
(فقد مزقت هذي المذاهب) يعني مذاهب الفقه ومذاهب الاتباع للدين.
فقد مزقت هذي المذاهب شملنا وقد أودعتنا بين نابٍ ومنسم
هل يبقى على الإسلام من يقول ويعتقد هذا الكلام؟ لا والله.
إذاً ما كفرنا البعثيين عن عاطفة، أو عن موجةٍ سياسية أبداً.(89/4)
قيامها على فكرة القومية العربية
تقوم أفكار البعث على القومية وهي الوحدة، وعلى الاشتراكية ويسمونها المساواة، وعلى العلمانية وهي الحرية، أما القومية: يريدون -كما قلت- أن يجمعوا العرب في إقليمٍ واحد، في إطارٍ واحد، في نظامٍ واحد، أياً كان أولئك العرب؛ نصارى أو مجوساً، أو بعثيين أو نصيريين أو جرذيين، أو أي فئة كانوا، يريدون أن يجمعوا العرب في مكانٍ واحد، إن البهائم وهي بهائم لا تستطيع أن تجمع أصنافها في حظيرة واحدة، فما بالك بالبشر الذين تتباين وتختلف عقولهم وسلوكهم وتصرفاتهم، كيف تريد أن تجمعهم في إطارٍ واحدٍ اسمه إطار القومية العربية، والوحدة العربية جمعاء؟ ثم أين الوحدة؟ أرونا براهين هذه الوحدة؟ نعم، ظهرت براهين الوحدة في قتل الدعاة من العرب المسلمين، ظهرت براهين الوحدة في قتل أفراد السنة، ظهرت براهين الوحدة في الاجتياح لدولةٍ عربية مسلمة، ظهرت براهين الوحدة في اعتقال وتعذيب كل من عرف بالدعوة إلى الله، والصدق في كلامه، أهذه براهين صادقة، أم براهين على تكذيب دعوى الوحدة والقومية العربية التي يدعونها؟ وهذا الشعار الذي يرفعونه يتضمن ما يتضمنه من الكفر والفواحش، والكبائر والآثام والمصائب العظيمة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فهل بعد هذا يبقى مسلمٌ يظن أن من اعتقد أمور البعث وعمل بها كما هو الحال في هذه الطغمة الباغية، يبقى على الإسلام؟! والله إن النصراني يجوز أن تأكل ذبيحته، وتتزوج أخته، وتأمنه، ولا تستطيع أن تأمن بعثياً ملحداً لا يجوز أكل ذبيحته، ولا يجوز أن تتزوج منه، لا نفرق بين غربيٍ وشرقيٍ، وأوروبي وعربي، الكفر كله ملة واحدة، والعقيدة أمرها واحد؛ سواء كانت محليةً، أو إقليميةً، أو عالمية دولية، لا فرق بين كفر العرب وكفر العجم، لا فرق بين كفر العرب وكفر الأوروبيين وغيرهم، فالكفر ملةٌ واحدة.(89/5)
قيامها على دعوى العلمانية
كذلك أيها الأحبة! في دعوى العلمانية التي يقوم عليها هذا الحزب: لا دخل للدين بالدولة، لا علاقة للدين في الدولة، كلٌ يعمل ما يشاء، كلٌ يتصرف كيفما يحلو له، لا سلطان، ولا أمر ولا نهي، ولا قليل ولا كثير للدين في أمور الحياة، سواء الشخصية أو الاجتماعية، أو الاقتصادية والسياسية والدولية وغيرها، ما فائدة هذا القرآن إذاً؟ إذا كان عمالقة بل أقزام البعث الكفار الملاحدة يعطلون القرآن، وماذا يقولون في القرآن؟ يقول طاغوت البعث مؤسس الحزب، ومن حذا حذوه ممن يسمون بالسنة، وقد خرجوا من الدين، كما يقول أحدهم لما نوقش في أمر البعث، قال: ليس ميشيل عفلق هو مؤسس البعث وحده، بل هناك صلاح البيطار مثلاً، هناك فلان وفلان مثلاً، وهم من السنة، قال: نعم.
صدق هذا سني كافر.
فعلاً، كيف تضيق عقولنا عن رؤية الجبال، ولا تبصر إلا أدنى الأمور، وليست في محلها ولا في موقعها؟!! يقول أولئك من كافرهم وسنيهم الذي يزعم هذه السنية، والسنية منه براء: القرآن تاريخٌ وكتابٌ أدبي جيد.
يعني: أن القرآن كلام الله المنزل من فوق سبع سماوات هذا أمرٌ لا اعتبار به! أن القرآن المعجز في نبئه وخبره، وحكمه وعباراته لا عبرة له! القرآن المتعبد بتلاوته لا عبرة له! القرآن الذي يجب الرجوع والتحاكم إليه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أيضاً هذا لا عبرة له! إنما نعترف بالقرآن، يقول البعثيون: نعترف بالقرآن؛ لأنه عربي اللغة، ولأنه كتابٌ أدبيٌ جيد.
والله إن بعض النصارى لأفضل في معتقدهم من هؤلاء البعثيين؛ لأن بعض النصارى يقولون: الإنجيل كلام الله، والقرآن كلام الله، والتوراة كلام الله، وليس أحدهم أفضل من الآخر.
ونحن ولا شك نعتقد أن القرآن خاتمٌ مهيمنٌ حاكمٌ ناسخٌ للرسالات السابقة، لكن أولئك لا يعترفون حتى بأن سندية هذا القرآن في كونه كلام الله، بل لكونه كتاباً أدبياً جيداً، ويقولون: إن محمداً بطلٌ عربي.
إذاً، ليست الأمة ترفع رأسها بالنبي صلى الله عليه وسلم لأجل نبوته، وإنما لأجل عروبته، إذاً لماذا لا نرفع الرأس بـ أبي لهب؟ لماذا لا نرفع رءوسنا بـ أبي جهل؟ لماذا لا نرفع رءوسنا بأشقى القوم عقبة بن أبي معيط؟ لماذا لا نرفع رءوسنا بـ كعب بن الأشرف اليهودي، وسلام بن أبي الحقيق؟ إذا كان شرف الأمة في محمدٍ بعروبته فليس محمد وحده عربياً، بل هناك من العرب الكثير؛ عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين أيضاً عربي، لماذا لا يرفع به الرأس؟ لكنهم لم يستطيعوا أن يقولوا هذه الأفكار صريحةً، وإنما خرجوا أو ظهروا بشيءٍ يفهمه من يفهمه ويجهله من لا يعلمه: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] والله إن من تأمل أفكارهم وقرأ شيئاً من كتاباتهم علم كل العلم منتهى وإغراق الإلحاد والكفر والمروق والخروج من الدين والشريعة فيما يعتقدونه، فهل بعد هذا يا عباد الله! نظن أن تكفيرنا للبعثيين الملاحدة هو عن موجة عاطفية أو نخوةٍ وطنية؟! لا -والله- نجرؤ على تكفير مسلمٍ إلا بما نطق به، وشهد به على نفسه مما يخرجه من الدين ويظهره من الملة، فقد كفروا ولا شك في كفرهم معاشر المؤمنين.
نعم.
قد يكون معهم من السذج والبسطاء، والجهلاء والغوغاء، لكن إذا أصبح الكافر وزمرته الملاحدة يستخفون بهذه العقول، والنهب والسلب لكي يجتاحوا أرض المسلمين وأموالهم وأعراضهم، هل عند ذلك أكف عن قتالهم لأن في جيش البعث وطغمته عربيٌ مسلمٌ جاهل؟ لا.
بل لا بد من مقاتلة الطاغية ومقاتلة جنود الطاغية وأذنابه، أياً كانوا على علم أو على جهل؛ لأن الذي يصل إليك يريد قتلك، وانتهاك زوجك، وأخذ مالك، وتدمير بيتك ليس من المعقول أو من المنطق أن تقف وتقول: أتأكد هل هو بعثي كافر ملحد حاقد، أو مسلم من السذج والبسطاء، أتناقش معه قليلاً ثم نبدأ السلاح؟ لا.
هذا من الجهل والغباء، وممن يروجه بعض ضعاف العقول في المجالس.
يقول بعضهم: إن في الجيش من البسطاء والضعفاء والعقلاء؟ نعم.
كونهم في جيشهم وعلى أرضهم وفي بساطتهم وعقلهم فهم يتحملون ما يفعلون ويقفون فيه، وأما إذا تحركوا نحوك شبراً واحداً فاقتل مسلمهم وكافرهم، لماذا؟ لأن القاتل يقتل بكفره، وهذا المسلم يقتل لرد عدوانه، واعلم أنك يوم تقاتله وإن كان مسلماً في جيشٍ عراقي إنما تقاتل دون مالك: (ومن قتل دون ماله فهو شهيد) وتقاتل دون عرضك: (ومن قتل دون عرضه فهو شهيد) والله تعالى قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] وقد سماها في الآية التي قبلها من الطائفة المؤمنة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] لم يقل: واحدة مؤمنة وأخرى كافرة؛ بل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات:9] يعني: واحدة من المؤمنين، فإن بغت مؤمنة على مؤمنة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] فهل بعد هذا يبقى مسلم يقول: أنا لا أدري، أخشى أن أقابل عراقياً مسلماً فأقتله، ما دام متوجهاً ومتسلطاً بسلاحه، سواء كان ذَنَباً للبعث، أو طامعاً في مالك أو عرضك، فاقتله ولا تخف، ولا بد من ذلك.
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء رجلٌ يريد مالي، أفأقتله يا رسول الله؟! قال: اقتله) ما قال الرسول قف واسأله: هل هو مؤمن أم كافر؟ هل أحد أرسله أم أنه جاء باختياره؟ بل قال: اقتله، قال: قاتله (قال: فإن قتلته يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو في النار، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت إذاً في الجنة) (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد) وإن من يقاتل هذه الأمة الباغية إنما يقاتلها دِيناً قبل أن يقاتلها عرضاً ومالاً، والله لو حكم العراقيون شبراً من الجزيرة ما رفعوا فيه منبراً، ولا أقاموا فيه مسجداً، ولا حَكَّمُوا فيه كتاباً ولا سنة، فهل بعد هذا يظن بعضنا أن من التساهل والبساطة أن نقف أمام الحدث ضعافاً سذجاً بُسطاء مكتوفي الأيدي؟ لا والله.
تلك مصيبةٌ وفتنة لا شك فيها، ولكن كما جاءت الشريعة بقاعدةٍ جليلة: (نرتكب أدنى المفسدتين دفعاً لأعلاهما) لا بد أن نمشي قدماً مضياً على القواعد الشرعية التي جاءت في الشريعة.(89/6)
قيامها على مبدأ الاشتراكية
ومن أركان البعث أيها الأحبة: الاشتراكية، فما هي الاشتراكية؟ لا يمكن أن يوجد رجلٌ محدود الدخل بجوار رجلٍ غني ثري، ولو كان ذلك المحدود نواماً عاطلاً باطلاً كسولاً، وذلك الثري حركاً نشيطاً جواباً متنقلاً، لا يمكن أن يستوي هذا مع هذا في الدخل.
إن أول ما جاء به أرباب الشيوعية بأفكارهم كـ كارل ماركس، وفردريك إنجلز، ولينين، واستالين وغيرهم، لما قرروا هذه النظرية الشيوعية طبقوها في الاتحاد السوفيتي، قالوا: لا بد أن نأخذ من كل واحد طاقته، وأن نعطي كل واحدٍ حاجته، وما فاض نرده إلى خزينة الدولة فنقسمه على احتياجات الشعب، وإن أغنى فئة وملة وطائفة وفرقة الحزب الحاكم في الاتحاد السوفيتي الذين ينادون بـ الاشتراكية، يملكون قصوراً باللَّونية من أولها إلى آخرها، الذين ينادون بـ الاشتراكية ألا يكون أحد إلا وهو متساو مع غيره، وألا يتفاضل أحد على أحد أبداً.
ما الذي حصل؟ جاءوا لتطبيق هذه النظرية فدخل العمال، وتسمى ثورة العمال وغيرها في المصانع، فإذ بالعامل النحيل الهزيل الضعيف، لكنه قويٌ في العمل، ضعيف في البنية، قليل الشهية، جادٌ في العمل ينتج في المصنع ما يساوي عشرة كراسي أو أكثر من ذلك في يومٍ واحد، ويأتي العامل البدين السمين، الذي يأكل شيئاً كثيراً لا ينتج إلا كرسياً واحداً، فهذا أخذ جهد يومه، وهذا أخذ جهد يومه، هذا إنتاجه عشرة كراسي، وهذا إنتاجه كرسي واحد، وأعطي هذا فقط حاجته، وأعطي هذا فقط حاجته، فضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً، وأوشكت مصانعهم بالخراب، قالوا: لا بد أن ندخل نظام الحوافز، هذا ما ينادي به البعث الآن، يريدون أن يجعلوا أفراد الأمة كلهم خدماً للخزينة العامة، يعملون كلهم ويعود ريع أعمالهم إلى الخزينة، وماذا بعد ذلك؟ يعطى كل واحدٍ منهم حاجته، سواء صرحوا بهذا الآن أم كان مما تدل عليه أفكارهم.
ولذلك نطقوا وأنطقهم الله الذي أنطق كل شيء، ماذا قالوا؟ قالوا: الكويت صغيرةٍ غنية، والعراق كبيرة فقيرة، فلا بد أن نقتسم المال معهم، وسيأتي يومٌ يقولون: السعودية متوسطةٌ أو كبيرةٌ ثرية فلا بد أن نتقاسم معهم الأموال، ثم يأتون إلى بقية دول الخليج بحجة دعوى الاشتراكية.
إن العراق ليس فقيراً، ليس مسكيناً أو ضعيفاً، ولكن الفقر والمسكنة والضعف أصابه يوم أن صرفت أمواله على العدوان والحروب والعداوات مع البشر، ثمان سنوات استهلكوا دخل البلاد ودخل من جاورها معه أيضاً، في حربٍ مع الإيرانيين، من الذي سلب خيرات البلاد؟ إنها القيادة الغاشمة الغوغائية التي سلبت ثوب العاري، وطعام المسكين، وشراب الفقير، وحليب الرضيع، وطعام الكهل والعجوز، صرفت كل هذا لمقاتلة إيران، وماذا بعد ذلك؟ هل قاتلوهم لإعلاء كلمة الله؟ أو للاإله إلا الله؟ لا والله.
ثمان أو تسع سنوات مضت وفي النهاية أعجب بالنصر؛ قتال ينتهي بخضوع القادة المنتصرين، ظن أن العراق خرجت منتصرة على إيران، وإذ بها تقدم أرضاً كلها مخضبة بدماء أبناء العراق وشبابها ورجالها، تقدم أرضاً مليئة بجثث العراقيين، تقدم أرضاً مليئةً بأفئدتهم وجراحاتهم وأشلائهم وتقول لـ إيران من جديد: تفضلي هذه الأرض وفيها منبعان من منابع النفط الكبيرة.
أي أمرٍ يحدث في هذا الكون؟!! إن الشعوب هي المسكينة التي تتقلب في أحوال الجوع والضعف، والهلع والخوف تحت رحمة هؤلاء القادة.
ورحم الله الشيخ/ عبد الله بن حميد يوم أن كان في مقابلة مع الملك فيصل رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته، بعيني رأيتهم في فيلمٍ مصور وهو يحرك لحيته ويلتفت إلى الملك فيصل رحمه الله ويقول: الشعوب فيها خيرٌ كثير، لكن الفساد في القادة، فقال فيصل رحمه الله: صدقت! الفساد في القادة.
نعم.
إن الشعوب هي المسكينة التي يصرف لباسها وكساؤها، وطعامها وشرابها في العداوات، وتبقى جائعة مريضة؛ لا دواء ولا طعام، ولا سكن ولا شراب؛ لكي يصرف على هذا العدوان، ومن هنا احتاجت الأمة إلى صمام الأمان؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يتسلط أحد على رقاب أحد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(89/7)
أهمية التجنيد والتدريب لصد العدوان البعثي
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: عملاً بقوله جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
إن بادرة التجنيد والتدريب التي دعت إليها هذه الحكومة أسأل الله أن يجمع شملها على طاعته، وأن يثبت أقدامها على دينه، وألا يفرح عليها عدواً، وألا يشمت بها حاسداً، إن هذا البادرة العسكرية الطيبة لمن البشارات التي نزف ونتبادل التبريكات والتهاني بها؛ لأن من واجب الأمة أن تكون على مستوى من القوة والإعداد، إن من واجب كل مسلم أن يكون عسكرياً في أي لحظة، خطيباً، أو مهندساً، أو مدرساً، أو ضابطاً، أو إماماً، أو تاجراً، أو موظفاً، أياً كان، لا بد مع كونه مسلماً ومع وظيفته يجمع بعسكريته وجنديته وعمله العسكري، في أي لحظة لا بد أن نكون على هذا المستوى، إن هذا زمن القوة بالله جل وعلا، ثم بإعداد الوسائل وإن من أعد نفسه هابه الأعداء، لو علم اللص أن أهل الدار مسلحون ما استطاع وما تجرأ أن يداهمهم، ولكن يوم علم أنهم ليس عندهم إلا الغناء واللهو والطرب استطاع أن يجتاحهم بلحظاتٍ ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا ما شاء الله منهم وقليلٌ ماهم.
فيا معاشر المؤمنين: هذه بادرة نحييها ونباركها، ونسأل الله جل وعلا أن يوفق ولاة الأمر عليها، وندعو شبابنا إلى أن يتدربوا، ويتجندوا، ويتعلموا كيف يحملون السلاح، وكيف يطلق النار، وكيف يذبون على الأقل عن أعراضهم وبيوتهم وأموالهم، من المصيبة أن تجد أسرةً فيها اثنا عشر شاباً ليس فيهم من يفهم في السلاح وكيف يفكه أو يركبه أو يصلحه، أي رجولةٍ هذه؟!! لا فروسية، ولا سلاح، ولا إطلاق نار، ولا عسكرية، إذاً أي رجولةٍ هذه؟! رجولة في الفرش، مصيبة هذه!! ينبغي أن نتعلم هذا الأمر، وأن ندركه، واعلم أن ذلك لا يقدم من أجلك شيئاً ولا يؤخره؛ لأن الآجال بيد الله، وحينئذٍ تبقى هذه الجزيرة صداحةً بالحق، حاميةً بإذن الله للحرمين، رافعةً لواء الدين والشريعة، والسلاح على أكتاف رجالها وشبابها، والويل كل الويل لمن أراد أن ينال منها قليلاً أو كثيراً، لقد أثبت شبابنا رجولةً وبطولةً وقيادةً في أفغانستان، أغلب الشهداء من هذه المملكة، من المملكة العربية السعودية من شهداء أفغانستان الذين يقاتلون مقبلين غير مدبرين ويستشهدون في ساحة الحرب.
شابٌ يقاتل في أفغانستان حباً للموت، بحثاً عن الموت، هل يعجز الآن أن يتدرب في بلاده والتدريب مفتوحٌ بين يديه؟! لا والله.
بل إن من استطاع أن يصل القمة فهو على ما دونها أقدر، وكلا الأمرين في باب الجهاد قمة.
أسأل الله جل وعلا أن يهدي شبابنا وأن يوفقهم أن ينضموا لهذه المراكز، وأن يعرفوا قيمتها ودورها.
إن مما يحز في القلب ويجعل الأسى يبلغ بالنفس ما تراه من شبابٍ لا يجيدون إلا التفحيط:
عربات تدفقت تشبه الهائج الخضم
وعلى كل ساعدٍ رايةٌ زاحتة علم
ماجت الأرض بالجموع وداء الفحيط عم
تفحيط، مصائب، يفعلون حركات ما وجدت في الخدع السينمائية، أولئك الذين بلغوا هذه الدرجة من الانتحارية في العبث، إن ساحات القتال تبرهن تفوقهم وقدراتهم ومهاراتهم في باب القتال، وليس ذلك على الله بعزيز، وليس ذلك على الله ببعيد، لكن يوم أن ندعو شبابنا إلى التدريب بالحكمة والموعظة والدعوة، وأن يلتفت طلبة العلم من الآن، ولا بد على طلبة العلم أن يشاركوا في مراكز التدريب حتى تملأ بذكر الله والتكبير، حتى تملأ بالصلاة والخشوع، حتى تملأ بالذكر والإرشاد، عند ذلك فعلاً تكون هذه المراكز مراكز دعوةٍ إلى الله، وحراسة لدين الله ومقدسات هذه الأمة، أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين.
معاشر المؤمنين: أعود فأذكر -ولا نمل من الذكرى-: إن ما حل بـ أفغانستان وبـ الكويت، ليس على الله ببعيد أن يحل فينا، كونوا صرحاء مع أنفسكم، إن كان في الكويت من يترك الصلاة فإن هنا من يتركها، وإن كان في الكويت من يفعل الفواحش فإن هنا من يفعلها، وإن كان في الكويت من يفعل المنكرات فإن هنا من يفعلها، وإن كان في الكويت من انشغل عن ذكر الله فإن هنا من انشغل عن ذكره وإن اختلف الأمر، وهذا فارقٌ مهم بين السر والعلانية، لكن إن استمرينا على غفلةٍ مضت، فوالله لندفعن الثمن من زوجتي وزوجتك، ومن ابنتي وابنتك، ومن أمي وأمك، من عرضي وعرضك، ومن مالي ومالك، إذا لم ننتبه لهذا الأمر فإننا سندفع الثمن غالياً، ولكننا نسأل الله جل وعلا أن يهيئ لنا عودةً ورجعةً، وتوبةً وأوبةً صادقةً إلى الله وإلى مرضاة الله، وإلى طاعة الله والخضوع والانكسار بين يدي الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(89/8)
التربية بين المدرسة والبيت [2،1]
إن الناظر في حياة الفرد المسلم بمراحله المختلفة من نطفة، إلى جنين، إلى طفل، ثم شاب، ثم شيخ كبير، يجد أن هناك وسائل عديدة تؤدي دورها في التربية إما سلباً أو إيجاباً، وقد تحدث الشيخ عن ثلاث وسائل مهمة لها دورها الفعال في التربية وصياغة الشخصية عند الأبناء.(90/1)
نعمة الحياة والعيش في المجتمع المسلم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أحمد الله وحده لا شريك له الذي منّ علينا وعليكم بالإسلام، وقد ضل عنه خلق كثير، وكتب لنا أن نولد ونعيش ونتربى في مجتمعات المسلمين، فهذه والله نعمة عظيمة، وما ظنكم بواحد منا لو عاش في مجاهل الصين، أو في أفريقيا، أو في دول الإلحاد والإباحية والكفر، لا ينجو من الكفر إلا القليل القليل، فكانت من أعظم المنن وأجل النعم من الله جل وعلا أن عشنا وولدنا وتربينا في هذه المجتمعات الإسلامية، نسأل الله جل وعلا أن يجعل الإسلام قواماً لها في جميع أمورها دقيقها وحليلها.
ومن نعم الله أيضاً أن منَّ الله على هذه الأمة بنعمة التوحيد، وقد ضلت كثير من الأمم والخلائق عنه، فما أكثر الأمم والدول التي تنتسب إلى الإسلام، وتعد نفسها في قائمة العالم الإسلامي والإسلام منها براء، تحكم غير شرع الله، وتذبح لغير الله، وتدعو غير الله، وتقيم مناسبات بدعية يشرك فيها بالله جل وعلا، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
يظنون أنهم على إيمان، ولكنهم في الحقيقة قد وقعوا في الشرك، ونسبة الإيمان أو الشرك أمر يعود إلى الجملة والفئة العامة، ولا عبرة بالنوادر والقليل، إذ لا تخلو أمة أياً كانت بعيدة أو قريبة من موحد من الموحدين.
كانت العرب تقر بأن الله هو الخالق وهو البارئ وهو المهيمن وهو المتصرف، وقد ورد ذلك في كلامهم وفي أشعارهم، يقول أحدهم:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
فالأمر لله نافذ في كل دقيق وجلي، ويقول الآخر منهم:
ألا قبض الرحمن ربي يمينها
إذاً فهو يعرف أن الرحمن هو الذي بيده الأمر النافذ والحكمة البالغة، وإذا قدر أمراً فقدره نافذ سبحانه وتعالى، لكن مع ذلك يشركون مع الله في عبادتهم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ووداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً وغير ذلك من أوثان وأصنام الجاهلية.
ما أشبه الليلة بالبارحة! الكفر الذي مضى والوثنية التي سلفت في الأمم الماضية، هو موجود في هذا الزمان، لكن الذي لا يعلم يظن أن الناس كلهم مثل حاله، ولو قدر له أن يرى ما رآه غيره، لرأى الجاهلية الأولى بل أشد منها؛ لأن أهل الجاهلية الأولى كانوا إذا حزبتهم الأمور، واشتدت بهم الكربات، وضاقت عليهم المذاهب، دعوا الله مخلصين له الدين: وإذا ركبوا في الفلك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22] أما كفار هذا الزمان فالأمر يشتد بأحدهم وبأفرادهم وبأممهم وبجماعاتهم، ومع ذلك يقولون: دعونا نجرب مذهباً رأسمالياً، دعونا نجرب مذهباً اشتراكياً، دعونا نجرب مذهباً بعثياً، دعونا نجرب طريقة بدعية، يجربون ويجربون وما يزيدهم إلا ضلالاً وخساراً وبواراً.
فرغم ما حل بهم من المحن والمصائب، ما فكروا يوماً من الأيام أن يتجهوا إلى الله مخلصين له الدعاء، والله يجيب المضطر {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] فالحاصل أن من نعم الله علينا في هذه الدولة ولله الحمد والمنة أن عشنا في مجتمع مسلم.(90/2)
واقع التربية في مجتمعاتنا
يا أيها الأحبة! إن الحديث في هذه الكلمة المتواضعة يدور حول التربية، والتربية في واقعنا وفي أرضنا، وفي كل مكان وما أجمل الصراحة في الحديث حتى تكون الأدوية على عين المرض! التربية في واقعنا وفي مجتمعنا تتنازعها مؤسسات عديدة، وشأن التربية لا يخلو بين الولد وأمه وأبيه ومجتمع قريته المتواضع الصغير، فلا يمكن أن يوجد شذوذ أو جنوح أو نشاز في طريقة التربية، أو في منهجها ووضعها، لأن الذي يصنع شخصية الفرد كان فيما مضى إمام المسجد، جو المسجد، بيئة المسجد، جو القرية، المزرعة، المدينة المحدودة المتواضعة.
أما الآن فالناس قد انفتحت عليهم السبل، وانفتحت عليهم أمور جديدة، شنّفوا لها الآذان، وفتحوا لها الأسماع، فكان لها دور عظيم في صياغة شخصياتهم، وفي صياغة أنماط حياتهم، ومن ذا يقول: أرى شيئاً فلا أتأثر به؟ ومن ذا يقول: أسمع لهواً فلا أتأثر به؟ ومن ذا يقول: أرى أوضاعاً فلا أتأثر بها؟ والله إن كل واحد منا ليتأثر، سواءً شعر بهذا التأثر أو لم يشعر، لكنه في حقيقة أمره متأثر، لا عصمة إلا للأنبياء، أما سائر البشر فإنهم يتأثرون حتى ولو لم يقارفوا الذنوب والمعاصي، فإن عيشهم في مجتمعٍ تنفتح فيه الذنوب والمعاصي، يؤثر على مدى غيرتهم وإنكارهم للمنكرات.
ذكر أن واحداً من السلف، كان قافلاً من المسجد عائداً إلى بيته، فرأى في طريقه منكراً، فاشتد غضبه، وانتفخت أوداجه، واحمر وجهه، فلما عاد ما طاق أن يبول إلا دماً، من شدة تأثره، من شدة الهزة العنيفة التي أدركت أعماق أجهزته الباطنية من هذا الجسم، ثم رأى ذلك المنكر فتأثر تأثراً دون الأول، ثم رآه مرة ثالثة ورابعة، فأصبح الأمر عادياً طبيعياً.
فالإنسان يتأثر، ولو كان لا يقع في أي شيء مما نهى الله عنه، إلا أن الإنسان بحكم اجتماعيته ويتأثره بمن حوله، لا شك ولا ريب ولا محالة أنه يتأثر بالأوساط التي يخالطها.(90/3)
معنى التربية وجوها
وما دام أن الحديث عن التربية أيضاً، فما هو جو التربية؟ وما الذي نعنيه بقولنا: التربية؟ لن ندقق في التعاريف، فالذي نعنيه في هذه الكلمة بالتربية، هو الجو والحيز الذي يصنع أنماطاً معينة في سلوك الشخص.
ما الذي يؤثر على هذا فيجعله صادقاً، ويؤثر على هذا فيجعله كاذباً؟ ما الذي يؤثر على هذا فيجعله أميناً، ويؤثر على هذا فيجعله خائناً؟ ما الذي يؤثر على هذا فيجعله ورعاً تقياً، وما الذي يؤثر على هذا فيجعله مجرماً لصاً، لا يحلل حلالاً ولا يحرم حراماً؟ الوسط الجو البيئة لها دور في هذه التربية، والتربية -كما قلنا- نعني بها سلوك الشخص وتصرفاته فحينما نرى شخصاً قد اتسم حديثه بالصدق، واتسمت معاملته بالأمانة، واتسمت عهوده ومواثيقه بالوفاء، نقول: هذا رجل تربيته حقاً إسلامية، حكمنا على هذه التربية من واقع سلوكه وتصرفاته، فهذا هو ما نعنيه بالتربية.(90/4)
المسئول عن التربية
إن المعني بالتربية خاصة، وبالدرجة الأولى في هذا التربية هم نشأنا وأبناؤنا وصغارنا، كيف نربيهم؟ من يتحمل مسئولية التربية؟ هل هو الأب؟ هل هي الأم؟ هل هي المدرسة؟ هل هي وسائل الإعلام؟ هل هي الإذاعة؟ هل هو التلفاز؟ هل هي الصحف والمجلات؟ من هو المسئول عن صياغة هذه الشخصية التي هي بمثابة العجينة اللينة الطرية، من خلال ما نسلطه عليها، عبر أي جهاز وعبر أي وسيلة، فإننا نستطيع أن نصنع شخصية بعد مدة، ولو ليست بالكثيرة، وسنراها ماثلة أمامنا.
إن الذي يحكم هذا الأمر ليس الأب وحده، وليست المدرسة ممثلة في المدير أو في المدرس، وليس جهاز الإعلام، وليس التلفاز وحده، وليست الإذاعة وحدها، وليست الجريدة أو المجلة وحدها، إن الذي يتحمل مسئولية التربية هو مجموع هذه الأجهزة مجتمعة، وأذكر في ندوة سلفت، ولعلها حررت وطبعت، ماذا يريد التربويون من الإعلاميين؟ لإدراكهم أن التربية مهمة حساسة وللإعلام فيها دور، ومن هنا وقف التربيون وقالوا: معاشر الإعلاميين قفوا معنا نناشدكم وتناشدونا، نحدثكم وتحدثونا، ماذا نريد منكم؟ إن جميع الأجهزة التي بين أيديكم ينبغي أن تخضع لنا معاشر التربويين.
لا شك أن جميع ما نراه من الأجهزة والدوائر، ومن المصالح والمؤسسات، كلها بمجموعها تسعى إلى إيجاد شخصية صالحة، أو ما يسمى بالمواطن الصالح، وإن كانت كلمة الإخلاص والنصيحة قد تغني، وهي أوسع من هذا الأمر، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، ما دام أن جميع الأجهزة والدوائر والمؤسسات كبيرها وصغيرها معنية بصناعة هذا المواطن وهذه الشخصية.
إذاً فإن التربويين هم وحدهم بما لديهم من علوم شرعية، وليس الأمر في قطار التربية وحدها، الذين يقولون: ينبغي أن يوجه هذا الدرس بهذه الطريقة، وينبغي أن يوجه هذا الإعلام بهذه الطريقة، وينبغي أن توجه المجلة والمسلسل والفلم بهذه الطريقة.
إذاً فالتربية لها دور، ومكانتها والمسئول عنها ليس المدرس وحده، أو الأم أو الأب وحدهما، أو جهاز معين بحد ذاته، لا، الجميع مسئولون عن قضية التربية هذه.(90/5)
دور المجتمع المحيط بالفرد في التربية
حينما نرى جنوحاً أو شذوذاً في تصرفات طفل من الأطفال، هذا التصرف هل هو مولود معه؟ حينما يكون التصرف شاذاً، حينما يكون سلوكه نشازاً بين سائر زملائه وإخوانه، هل يمكن أن نقول: إن هذا التصرف الذي فيه جنوح، ولد مع هذا الطفل الذي بلغ السادسة أو السابعة أو العاشرة، أو دون المراهقة؟ كل مولود يولد على الفطرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة) والفطرة بمعناها الصحيح هي فطرة الإسلام بكل ما جاء به الإسلام من الآداب، الفطرة على توحيد الله جل وعلا، وما ينبني على ذلك من آداب وأحكام (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه) إذا كان يهودياً فالولد ينشأ ويتخرج ويكبر يهودياً: (فأبواه يهودانه أو يمجسانه) إذا كان يعيش في أسرة مجوسية، فالشاب يكبر وينمو مجوسياً (أو ينصرانه) فإذا كان المجتمع نصرانياً؛ فإن هذا الشاب يكبر وينمو نصرانياً، ولم يجئ في الحديث قوله: أو يسلمانه أو يمسلمانه، لأن الإسلام هو أصل الأمر الذي نشأ عليه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
الناس فطروا حنفاء، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (خلقت عبادي كلهم حنفاء) على الحنيفية التي تقر بوحدانية الله ووجوده، وصرف جميع أنواع العبادة له لكن: (فاجتالتهم الشياطين) إذاً الأجواء والأوضاع التي تحيط بمجتمع أو فرد أو أمة من الأمم لها دور في تغيير سلوكها وتصرفاتها {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] في تفسير الحديث، وفي بيان هذه الآية، إن الله جل وعلا أخرج ذرية آدم من أصلاب الرجال كأمثال الذر، واستشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا.
إذاً فكل واحد منا قد شهد سلفاً، وفطر -أيضاً- على وحدانية الله جل وعلا، وعلى هذا الدين، لكن من قدر له أن يعيش في مجتمع المسلمين تكون حياته إسلامية، ومن قدر له أن يعيش في مجتمعات اليهود أو النصارى أو المجوس أو غيرهم، فتكون بيئته وسمته وصبغته مجوسية أو يهودية أو نصرانية.
هذا فيما يتعلق بالأصل، وبالقاعدة العريضة أن الجميع حنفاء وأهل فطرة وموحدون، لكن ما الذي طرأ؟ ما الذي حدث؟ هذه الأسرة التي احتضنت تلك النطفة، إما أن تكون أسرة احتضنت النطفة من أول يوم ألقيت في رحم أم مؤمنة، إما أن تكون وضعت على ذكر لله جل وعلا: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) من تلك اللحظة، وأثر الشريعة والملة والدين يبدو جلياً واضحاً على هذه النطفة التي تنمو في جوف تلك المرأة، والتي وضعها ذلك الرجل حلالاً، قد اتبع ما جاء وما طلب في ذلك من أوراد وأذكار.
ثم ماذا؟ هل غذيت هذه النطفة بالحلال أم بالحرام، فإن غذيت بالحلال، فهي لازالت تسير على خط سليم، فإذا ولدت فأول من يصرخ في وجه المولود الشيطان، ولذا يستهل المولود صارخاً، ثم بعد ذلك لا يترك فقيل في يومه أو في ثالثه، وعلى أكثرها في يوم سابعه، يؤذن في أذنه اليمنى ويسمى، وقضية الإقامة محل بحث ونظر.
إذاً منذ نعومة الشعر والأظفار، وهذا الجنين وهذه النطفة ترعى رعاية دقيقة حتى تكبر رويداً رويداً، والطفل أيضاً يكتسب اللغة اكتساباً، ويكتسب أيضاً جملة من الأمور التي يشاهدها، لذا ترى كثيراً من أبناء المسلمين ليس أمر الصلاة عجيباً أو غريباً لهم؛ لأنه على فطرة في مجتمع مسلم، ومنذ أن ينشأ وهو يرى أمه وأباه وإخوانه في صلاة وعبادة.
إذاً فهو ينشأ على هذا المنوال، وعلى هذا المسلك، فلا حاجة إذا بلغ أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، في حين أن التكليف والمحاسبة والحساب على الذنوب، والحساب على ما يؤمر به وينهى عنه، إنما يكون بالبلوغ، بعلاماته المختلفة بين الذكور والإناث، لكن لا نحتاج في يوم من الأيام أن نقول له: اشهد أن لا إله إلا الله فقد بلغت التكليف؛ لأن هذه الشهادة وجملة من الأمور والواجبات والمنهيات قد اكتسبها وعرفها، وحصل عليها من واقع الأسرة التي يعيش فيها، فإذا عاش حميداً في أسرة مؤمنة صادقة، بدأ يكتسب إلى جانب اللغة الطباع والأخلاق والمعاملة.
اللغة اكتساب: أنتم تلاحظون في أي بيت فيه خادمة، فإنها تحدث الطفل بالإندونيسية فيفهمها، ونحن لا نعلم، كلم أي طفل من الأطفال بالفليبينية أو بالإندونيسية: أغلق الباب تجده يغلق، افتح الباب يفتح، افعل كذا يفعل، لا تفعل كذا لا يفعل.
الطفل لديه اكتساب على أدق دراسة ثلاث لغات في مرحلة واحدة.
إذاً فليس عجيباً أن تكون قدرة الاستيعاب والاكتساب لدى الأطفال قوية، فمادام يكتسب ثلاث لغات في آن واحد، والعجيب أن الطفل حينما يأتي عند أمه وأبيه يعرف ماذا يصلح لهم من اللغات فيكلمهم، وقد تخاطبه الخادمة أو يخاطبه السائق بلغة أخرى معينة فتجده يتخاطب معه، ويعرف أنهم لا يتحدثون إلا بهذا، وهؤلاء لا يتحدثون إلا بهذه اللغة.
إذاً نحن نظن أن هؤلاء الأطفال بلهاء، وأنهم عاجزون عن كثير من الأمور، والله الذي لا إله إلا هو إن الأطفال ليدركون أموراً قد لا يدركها بعض كبار السن، مادام الأمر كذلك ولديهم القدرة على استيعاب هذا المقدار المتباين في الخطاب واللغة والضمير والعبارة، إذاً فالطفل قادر على أن يكتسب ما هو أكبر من ذلك.(90/6)
دور الأب في التربية
إذا شب الطفل رويداً رويداً، تجده يتأثر بأبيه.
صديق لي مؤذن أولاده دائماً في البيت يؤذنون، وآخر والده خطيب ولده دائماً يرقي على كرسي، والآخر يصعد على وسادة، إن الحمد لله إن الحمد لله إذاً الطفل يتأثر بوالده حتى فيما قبل مرحلة الدراسة.
الطفل الذي تجد بيته قريباً من المسجد، تجده أكثر قدرة على الإنصات والمتابعة، والإلقاء وإعادة الأذان من غيره، لما يحيط به.
يهمنا في الدرجة الأولى أن نعرف وضع الطفل مع والده، شخصية الطفل تكتسب التأثير بالدرجة الأولى من شخصية والده، ولذلك فإن أكبر الجرائم أن يسعى أب من الآباء في إفساد أولاده، وذلك بعدم اجتنابه للمعاصي والمنكرات، وعلى أقل الأحوال حنانيك، فبعض الشر أهون من بعض ألا يرتكب المعصية أمامهم إذا كان واقعاً لا محالة، في حين اتفاق الجميع أن المعصية منبوذة ومرفوضة من صغير وكبير.
إن الأب من أكبر المؤثرين على ولده، وله أكبر دور في صناعة شخصية ولده، أتلاحظون أباً في مجتمع لا يهمه إلا التدخين ولعب الورق وأمور أخرى، تجد الأطفال يقلدون هذا السلوك بكل دقة.
يحدثني شاب يقول: كنا صغاراً إذا خرج أبي وأصدقاؤه من المجلس جلسنا وكل واحد منا واضع رجلاً على رجل، واتكأ وأخذ الشيشة، وأخذ بعضنا يتكلم مع بعض، ويضرب الذي بجانبه برأس الشيشة يا فلان! بنفس الطريقة يسترقون الطباع استراقاً شديداً.
والطفل قد يكون أبوه من أهل الطرب والفن، فتجد الطفل يتقن كيف يمسك العود، وانظر إلى شاب والده ذي صناعة معينة، انظر كيف يستطيع أن يحكم طريقة هذه الصناعة وبكل دقة.
أعرف رجلاً صرافاً في مكان ما، رأيت مجموعة من أولاده يعدون عملة معدنية بكميات كبيرة، فيعدون بطريقة عجيبة، أحاول أن أعد معهم بنفس الطريقة فلا أعرف، يمكن أنثر هنا ريالاً وهنا ريالاً، أما أولئك فيعدون بطريقة غريبة وسريعة أيضاً، كان والدهم صرافاً، ومنذ الصغر كان يصحبهم إلى محله أو مكان صيرفته، فتأثروا بأسلوبه وطريقة تعامله.
إذاً أكبر من يصنع شخصية الطفل هو الأب؛ فإذا كان الأب ممن يعتنون بزي معين، ستجد الابن بالضرورة يريد من أبيه أن يعطيه مثلما يلبس، طفل يرى أباه مغرماً بالبنطلون والجاكيت والقميص، يقول: اشتر لي مثل هذا يا أبي، وتجد طفلاً أبوه عالم بطبيعة عمله يلبس المشلح أو شيء من هذا، اشتر لي مثل هذا بالضبط، يأتي له ببنطلون يقول له: لا أريد، أريد مثل هذا الذي أنت تلبسه، ولو أعطيت المشلح الصغير لابن صاحب البنطلون أو العكس، لا أحد من هؤلاء يقبل؛ لأن كل صغير يرى أن صورة والده هي الصورة الأكمل والأسمى والمثلى.
إذاً فنحن لنا دور في صناعة شخصيات أبنائنا وأولادنا، ولذلك إياك أن يراك ولدك ذليلاً فيتعلم منك الذلة، إياك أن يراك ولدك جباناً أو خواراً أو ضعيفاً فيتعلم منك ذلك، إياك أن يراك ولدك خائناً أو مخادعاً فيتعلم منك ذلك، لو رأى الخيانة والخداع من الآخرين لجاء يخبرك مستنكراً، أما وقد رآها منك فسوف يقلدك مفتخراً.
إذاً فللأب دور كبير وعظيم في صناعة شخصية ولده، والكثير منا لا يعرف، وإن كان يعرف لا يبالي أن شخصيته لها دور في صناعة ولده، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
ونتيجة للجهل بهذا الأمر لا تجد الأب حينما يكون لديه رجال في مجلس علم لا يدعه يجلس، بالعكس دعه يجلس، حينما يرى طريقتك في إدارة حوار، أو طريقتك في إمساك كتاب، أو طرح نقاش، أو طريقتك في طرح قضية معينة، وإن كان لا زال صغيراً على الدخول في أعماق الفكرة، لكن حقيقة الأمر أنه يكتسب رويداً رويداً.
وأضرب لكم مثالاً عن نفسي، ودائماً الذي يرزق بأول مولود يحتار لا يعرف كيف يربي، حتى وإن درس التربية، لا بد له من نماذج عملية يقتدي بها ويعرفها، لي ولد صغير أسأل الله له الصلاح، ما كنت أعرف كيف أتعامل معه إذا خرج من البيت بدون إذني، لا زال صغيراً عمره أربع سنوات، وبجوارنا في بيت الجيران لعبة يلعب الأطفال بها، لكني لا أريد أن يكتسب هذا الطفل من الخارج شيئاً.
أعرف أهداف التربية، لكن لا أعرف كيف أتعامل معه، تارة أضرب، وتارة أرفع الصوت عليه، وتارة أهدده بالحرمان، وتارة وتارة، قدر لي أن أزور أحد الأصدقاء في دولة ما، ووجدت أطفاله في سن ولدي بالضبط، فكنت جالساً معه في بحث موضوع لا أريد أن يجلس معنا أحد فيه، فقال لأولاده الصغار: لو سمحتم يا فلان وفلان! أنا عندي اجتماع خاص مع عمكم فلان، ورجائي تتيحوا لنا الفرصة نتحدث لبحث الموضوع بصورة من الهدوء، ولو تكرمتم تفضلوا، فهزوا رءوسهم وخرجوا.
أنا واثق أنهم لم يفهموا شيئاً، لكن أسلوب المعاملة دل على أن هناك نوعاً من الاحترام، لكن المحصلة النهائية نريد منكم أن تتفضلوا مشكورين، ففهموا هذه القضية وخرجوا، أما تفاصيل الكلام ما فهموا منه شيئاً، فقلت له: أنت تتعامل مع الأولاد بالطريقة هذه، قال: بغير هذه الطريقة لا يمكن أن تتعامل مع الطفل، وفعلاً جئت وعدلت أسلوب التربية، الولد مستغرب جداً.
أبي ما هو بصاحي!!
قسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
أحياناً قد تقسو وقلبك كله يتقطع حسرة وشفقة على ولدك، لكن أحياناً تظن أن هذا هو أقرب ما تملك لتوجيه الطفل من مراحل مبكرة، يستغرب ويعجب، خلال فترة معينة استطاع هذا الولد اسأل الله أن يديم علينا وعليكم وعلى ذرية المسلمين الصلاح والهداية والاستقامة، بمجرد الخطاب العادي، يا بني تفضل يتفضل، يا بني نصلي نصلي، اجلس يجلس، اذهب معنا يذهب.
السبب أن البعض لا يستطيع أن يتعامل مع ولده بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، لماذا؟ مادام لك أكبر أثر في صناعة شخصية ولدك، فثق تمام الثقة أن لديه الاستعداد أن يتقبل منك في المراحل المبكرة، ولا يعني ذلك أن الطفل سيكون ملاكاً لا يخطأ، لا، سيكون عنده أخطاء، وستكون عنده نوع من الغرائز التي تنمو مبكرة، غريزة الاعتداء على الأطفال، وأخذ اللعب التي في أيديهم، غريزة الطمع، يريد أن يكون نصيبه أكثر من نصيب أخته، يريد أن يكون الأول في الخروج والدخول قبل إخوانه.
مجموعة غرائز معينة، قضية كونه يريد أن يكون الأول، وإذا ركبت السيارة يريد أن يركب في المقدمة، وإخوانه كلهم في الخلف، هي غريزة حب الشهرة، لكنه في هذه المرحلة يترجمها بهذا الوضع، في مرحلة معينة لها صورة، في مرحلة أكبر لها صورة، لكن أصل الغريزة موجودة، غريزة أخذ ما في أيدي الأطفال، حب التملك، وهذه الغريزة تختلف في صورتها بحسب مراحل نمو الإنسان.
والإسلام بالمناسبة، وهذا كلام جميل قاله الشيخ مناع خليل القطان، في رسالة أنصح الجميع بقراءتها وأسمها تهذيب الغرائز في الإسلام، قال: إن الإسلام لا يكبت الغرائز، ولا يكبح الغرائز، ولكن يهذب الغريزة، توجد غريزة تملك تفصل أبواب التملك في الإسلام مفتوحة، لكن عليها ضوابط، ولها أمور تقيدها، حتى لا تكون حرية التملك سبباً في الاعتداء على حقوق الآخرين، خلافاً للأنظمة الشيوعية التي منعت الإنسان أن يتملك، تقول: أنت إنسان تريد أن تأكل وتشرب، خذ وكل واشرب وأما التملك فليس لك فيه حاجة.
ولذلك في فترة من الفترات، لاقت الشيوعية عنتاً من إضراب العمال؛ لأنها كبتت هذه الغريزة، يأتي العاملان في مصنع واحد، تجد عاملاً سميناً طويلاً يأكل أربع دجاجات، ويستهلك كذا رطل من الماء والعصير، وثلاثة تباسي رز الخ وفي النهاية يصنع كرسياً واحداً في اليوم، ويأتي عامل نحيل، لا يشتهي الأكل، يأكل نصف دجاجة، ويشرب كأساً واحداً من العصير أو الماء، وينتج نفس الكرسي، عجيب! هذا ينتج نفس الإنتاج وهذا يأكل أكثر من هذا! ذلك العامل يرى أنه مظلوم، فأضرب عن العمل، وأضربت طوائف كثيرة من العمال عن العمل؛ لأن قضية التملك مكبوتة، كونك تعطيني آكل واشرب وألبس هذا لا يكفي، عندي غريزة أحب أن أتملك، أريد أن يكون لي رصيد، وأريد أن يكون لي سيارة أملكها، أريد أن يكون لي بيت أتملكه، ذلك ما بدأت تتنازل الشيوعية عنه.
أخيراً ولعلهم -كما يزعمون- في عهد هذا المجرم جورباتشوف هو أوسع من فتح النظم الشيوعية على الإطلاق، ولكن دندنة وشنشنة أخزمية، يراد بها في يوم من الأيام ضربة للمسلمين، أو تصوير جديد للشيوعية بمنطلق أو بصورة جديدة حتى ينخدع المسلمون بها، لكن أما وقد أسفر الصبح لذي عينين، وقد علم الناس وعرفوا مساوئ هذه الشيوعية، وما فيها من كبت للحريات وللحدود وللتملك.
الأنظمة الرأسمالية تملك ما تشاء، وكانت قبل قضية الرأسمالية في أوروبا أنظمة الإقطاع، أي: أنك تملك مزرعة كبر السويدي والبديعة وشبرى بمن فيها من الناس والبشر، البشر مسخرون والإقطاع تملكه، وكل هؤلاء يكونون عبيداً تحت هذا المالك، أما الإسلام فما فتح هذا الباب على مصاريعه، تملكوا الناس وتملكوا الأرض وتملكوا كل ما فيها، لا، وما حجب الناس أن يتملكوا، بل لهم أن يتملكوا، وقد جاء من الصحابة تجار أثرياء كبار جداً كـ عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان وكثير منهم.
الإسلام لم يكبت هذه الحرية ولم يفتحها، بل هذب غريزة حب التملك، الغريزة الجنسية، الرهبنة النصرانية القسس -كما يزعمون- أنهم يحرمون ويتبتلون ذكوراً وإناثاً عن الزواج، وفي المقابل الآخر انفتاح لا أخلاقي وإباحية مطلقة، وأما في الإسلام فنحن لا نطلق هذه الغريزة الجنسية، ولا تكبت كبتاً كما يفعله اليهود والنصارى، لكن تهذب الغريزة الجنسية بالزواج، وبما تملك الأيمان إلى آخر ذلك.
إذاً الإسلام يهذب الغرائز، ولا يكبتها، وثقوا أن هذا الغرائز أيضاً غرائز فطرية، فيولد الطفل ومعه مجموعة من الغرائز، فإياك أن تكبت الطفل من غريزة، لكن ينبغي أن تهذبها وأن توجهها، ولو انطلقت غريزة من غرائزه في وقت مبكر؛ فعليك أن ترعاها بدقة حتى يحين الوقت المناسب لتحقيق رغبته الغريزية في إطار حدود الشريعة.
إذاً ينبغي ألا نتجاهل في قضية التربية أن الأطفال والصغار لديهم غرائز فينبغي أن يكون لهم دور، لو سألت الكثير هل(90/7)
دور الأم في التربية
البنية تتأثر بوالدتها أكبر تأثر، أنا أرى بنيات صغاراً تلبس حجاباً، وعندما يمر رجال تتغطى وهي طفلة صغيرة جداً، لكن أنوثتها مبكرة، ولديها توجه نحو اكتساب صفات الأنوثة، لاحظ هذه الطفلة، إما أن تلف غطاء الرأس بطريقة ما يسمونه الروز، وهي بذلك قد رأت أمها أو أختها تفعل هذه الطريقة، فقلدتها بالضبط، وإما أن تجد الصغيرة تشغل أمها: أعطيني قفازاً مثلما عندك قفاز، وتلبس العباءة بنفس طريقة الحجاب؛ طريقة الستر التي تفعلها أمها.
إذاً الفتاة معجبة بأمها غاية الإعجاب، وتتأثر بأمها غاية التأثر، إذا كانت الأم من ذوات الموضات والموديلات إلى حد يشغل غالب أوقاتها، لا يهمها في كتاب أو مجلة أو جريدة إلا صفحة الأزياء وعروض الأزياء، ستكون هذه الفتاة أيضاً متأثرة بنفس وضع أمها، ولذلك تلاحظ الطفلة تلف فوطة صغيرة وتضعها في السرير هذه بنتي، تقليداً لأمها، الدور الذي مارسته الأم معها، تريد أن تمارس هذه الطفلة ولو في الخيال، استعداداً لاكتساب صفات الأنوثة.
الأمر الآخر: تجد لها تصرفات وسلوكيات مكتسبة من واقع أفعال المرأة أو أفعال النساء، فإذا كان الفعل الذي تراه في بيتها مع أمها فعلاً سليماً؛ رأيت من الفتاة فعلاً سليماً، وإن كان الفعل خاطئاً رأيت تصرفاً من الفتاة خاطئاً، وعلى أية حال:
ربوا البنات على الفضيلة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أيرق أيما إيراق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم والأب كل منهما له أثر على أطفالهما، فإن كانا مثلين ساميين ملتزمين؛ سيكون الأطفال بإذن الله بنفس المستوى، وإن كانا خلاف ذلك، فإنك لا تجني من الشوك العنب.
تريد الأب مطبلاً والأم رقاصة والولد إماماً! لا يمكن إلا بمنّ من الله وهداية، فإن الله يخرج الحي من الميت، لكن بالصورة العامة والطبيعية العامة هذه هي النتيجة المتوقعة، ولذلك يعجب الناس حينما تخرج فتاة متحجبة من بيت منفلت؛ لأن الثمرة الطبيعية أن تكون الفتاة منفلتة، فلما خرجت فتاة محجبة ملتزمة كان هذا أمراً داعياً إلى العجب والدهشة والاستغراب.
ومن العجب أيضاً أن شاباً ملتزماً مستقيماً، محافظاً على الصلاة، في أسرة كلها تفلت وتداخل وفوضى لا انضباط فيها، لا في عبادة ولا في صلاة ولا في مذياع ولا في صوت ولا في موسيقى ولا في غيره، في كل شيء تجد الأمر مفتوحاً على مصاريعه، إذاً تعجب، تقول: كيف خرج هذا الشاب؟! لأن النتيجة المتوقعة أن يكون هذا الشاب كمثل أبيه بلا شك، فلما خرج شخصية أخرى، كان ذلك داعياً إلى الدهشة والعجب والغرابة.(90/8)
دور المدرسة في التربية
قد يوجد الشاب وتوجد الفتاة في أسرة ملتزمة مستقيمة، نستطيع أن نقول: إننا نحكم ونجزم بإذن الله جل وعلا، أن يكون الشاب والذكر والأنثى على أحسن صورة، لكن هذا لو قدرنا أن البيت وحده هو الذي يحكم عملية التربية، لكن هناك متحكم آخر في التربية ألا وهو المدرسة.
المدرسة سواءً كانت مدرسة بنات أو مدرسة بنين، فلا بد أن يكون لهذه المدرسة أثر عظيم.
أولاً: أول من يكون له أكبر الأثر بعد أثر الأب المدرس، والمصيبة العظمى والداهية الدهياء في قضية المدرسة، أن تكون المدرسة صورة مخالفة لما يدرسه الطالب وما يتعلمه وما يتلقاه من التعاليم، الابن الملتزم أو الابن الذي في أسرة مستقيمة صالحة، يجد جل وأغلب أصدقاء أبيه من الملتزمين والمستقيمين وممن عليهم مظاهر السنة، من إعفاء اللحى والالتزام بالزي الإسلامي.
فيجد أن مدرس الدين الذي يدرسهم التوحيد والفقه، هو مدرس حليق، هو يسمع والده يقرأ مع زملائه عن حرمة التدخين وأضرار التدخين، أنتم لا تظنون أن الأطفال لا يفهمون -كما قلنا- حتى الذي في أول ابتدائي في قرارة نفسه أنه يدور موضوع حول قضية معينة، هو لا يفهم القضية كاملة، لكن لو جلس مجلساً مع أبيه ومع أصدقائه فالمحصلة التي يخرج بها هذا الشباب أن التدخين سيئ، لكن أكثر من هذا لا يعرف، فإذا به يجد الباكيت في جيب المدرس، ويا للأسف إنه مدرس المادة الشرعية، ومن هنا يبدأ الانفصام.
الأمر واحد من اثنين، إما أن يفهم الطفل أن المدرس مخطئ، وإما أن يفهم الأمر الآخر وهو أنه يمكن أن نفرق بين ما نتلقاه، وبين ما نطبقه، وهذا عين الانفصام الذي دعت إليه النصرانية، وقالوا: لا مانع لدينا أن نتلقى تعاليم الكنيسة في يوم الأحد، في إطار الأحوال الشخصية، لكن ليس للكنيسة سلطان على الأفراد فهم أحرار يفعلون ما يشاءون.
إذا وجد هذا الانفصام من مدرس المادة الشرعية، فذلك أكبر خطر على الطالب، ومن واجب الآباء والأمهات أن يطمئنوا على قضية التلقي، من هو الذي يلقن ويجعل أولادك يتلقون؟ البنية عندما تكون في المدرسة عندها المعلمة هي أفضل صورة بعد أمها، أي شيء المعلمة، قالت المعلمة، فعلت المعلمة، لا تعرف إلا هذا المدرسة، الابن لو خالفته في قضية معينة، يقول: أستاذي يقول هكذا، من أنت حتى تخالف الأستاذ؟ الأستاذ له مكانة وله دوره في نفس الصغير، له أكبر الأثر بعد دور الأب.
إذاً إذا كان دور المدرس مكملاً لدور الأب، كان الابن بإذن الله إلى درجة سبعين في المائة أو ثمانين في المائة، ينال حظه من الاستقامة والصلاح، وتركت العشرين أو الثلاثين في المائة الباقية لوسائل الإعلام، فلها دور في التأثير وفي التوجيه.
المسألة الأخرى في قضية البنت، إذا كانت ترى من معلمتها سلوكاً وتصرفات جيدة، ترى أن المعلمة حريصة ألا تخرج من المدرسة إلا وقد اعتنت بالحجاب، حريصة ألا يكون منها أي تصرف خاطئ، رأت المعلمة حريصة على الاهتمام بأمور معينة، ولا تعطي الأمور التافهة ذلك الاهتمام، فإن هذه البنت تتأثر بها غاية التأثر، وبالعكس إذا رأت المعلمة بشكل مخالف -لا حول ولا قوة إلا بالله- إذا جاءت المدرسة متغيرة بألوان ومساحيق وأشكال، لا تعجب الصغيرة إلا بهذه المساحيق والألوان، وأول ما ترجع إلى البيت تدخل إلى حجرة أمها، وتجلس عند التسريحة، وهات يا مكياج وعدل وشكل ولون! لأنها أعجبت بهذا المنظر وبهذا الشكل وبهذه الشخصية من معلمتها، ومن ثم فالتقليد طبيعة في الصغار.
ثم أيها الإخوة! المدرسة قد تشاطر، أو يغلب حظها حظ الأسرة من التربية لماذا؟ أنا أسألكم الآن، هل صافي ما تجلس مع ولدك أربع ساعات في اليوم؟ ثلاثة ساعات صافية؟ ساعتين؟ لا أظن، بالأكثر ساعتين وكثر الله خيرك، المدرسة كم يجلس فيها الطفل؟ ست ساعات متواصلة، مدرس يخرج ومدرس يدخل، مدرس يدخل ومدرس يخرج، كذلك البنية معلمة تخرج معلمة تدخل وهلم جرا.
إذاً فللمدرسة دور عظيم في التأثير على صناعة شخصية الأطفال من البنين والبنات، ولذا فإني أدعو كل أم أن تتعرف على من يدرس أطفالها، وأدعو كل أب أن يتعرف على من يدرس أطفاله، إذا ذهبت إلى المدرسة ورأيت المدرس غير ملتزم فليس بيدك أن تعدل أو تغير، هذا هو الذي يدرس ولدك، لا ينبغي أن تقول لولدك: المدرس فيه كذا وكذا، هذا أيضاً خطأ؛ لأنه إذا اتخذ من المدرس موقفاً لم يعد لديه أي استعداد أن يقبل العلم منه حتى واحد زائد واحد، خمسة ضرب اثنين، أ- ب - ت - ما عنده استعداد أن يتقبلها ما دام جرحت في شخصية المدرس فإنه يبدأ ينظر إلى المدرس باحتقار، وليس عنده استعداد أن يتقبل منه.
لكن أنت انظر الأوضاع والصور المخالفة لما ينبغي أن يكون عليه المسلم في شخصية المدرس، والأم تنظر الصور والأوضاع المخالفة لما ينبغي أن تكون عليه المسلمة في شخصية المعلمة، ومن بعيد إلى بعيد تقول: إن الإسلام يأمر بكذا، ويحض على كذا، وينهى عن كذا، ويحث على كذا، يحرم كذا، يوجد كذا، من دون جرح لشخصية هذا الرجل؛ لأن القضية قضية تلقي فهي قضية حساسة، فقد تكون سبباً في حرمان ولدك من قبول العلم والفائدة، لو أسأت تفهيم ولدك هذا الدور المناسب، أو هذا الدور الذي ينبغي أن تقوم به أنت وبكل دقة.
هذه من أهم المسائل التي لها أثر عظيم وكبير، والحمد لله فالكثير منا طلبة علم؛ خاصة لو أن الواحد يدرس مواد شرعية، أو يدرس حتى الأطفال، بقدر ما يكون لك دور في التأثير على شخصية المدرس، فإنك بإذن الله تنال أجر التأثير على مئات الطلاب الذين يدرسون تحت يدك، ولذلك كان الاهتمام بالعملية التربوية، والاهتمام بالتربويين والمدرسين من أعظم ما ينبغي أن توجه إليه جهود الدعاة بالدرجة الأولى؛ لأن أولئك لهم دور عظيم في صناعة الأجيال.
وكم عرفنا من الشباب الصالحين الأتقياء الأبرار، الذين تبوءوا أماكن طيبة في مجالات علمية ومهنية وتقنية وميدانية وغيرها، بسبب دور قام به المعلم فأثر عليهم فاستجابوا له، فمضوا بقية حياتهم على هدى واستقامة، وانقلبوا بنعمة من الله وفضل على أنفسهم وعلى مجتمعهم وعلى أفراد أسرهم.
أما الطفل الذي تراه يقلد من المدرس شكل سيارته، يتمنى أن تكون له سيارة مثل سيارة هذا الأستاذ، مصيبة المصائب إذا كان مثل هذا مدرس، قد يستغرب البعض هل يوجد؟ أقول: نعم، وجد في فترة ما، ولكن ولله الحمد والمنة بدأت هذه الظاهرة تتلاشى، لكن في الحقيقة والله يؤلمك أن يقف المدرس أمام الطلاب، لا ينطق القرآن جيداً، ثوبه مسبل، حليق، الباكيت في جيبه، أشياء كثيرة وكثيرة كلها من المظاهر الخاطئة.
هذا والله يحز في النفس؛ لأن الطفل يرى المدرس هكذا فلا دام المدرس فعل، إذاً لا إنكار ولا غرابة ولا مخالفة فيما فعله المدرس، ومن هنا كان توجيه الدعاة إلى الاهتمام بالمدرسين والمدرسات والمعلمين والمعلمات، وإعطائهم أكبر الأثر وأكبر النصيب من جهود الدعوة، إنهم بذلك يصنعون أفراداً أتقياء أبرار مخلصين لله ولكتابه ولرسوله وللأئمة المسلمين ولعامة المسلمين أيضاً.(90/9)
دور وسائل الإعلام
الدور الأخير في التأثير في العملية التربوية هو دور وسائل الإعلام، فإن وسائل الإعلام لها دور كبير ليس فقط في صناعة السلوك، بل في صناعة المعتقدات.
هناك في فلم كرتون يقول: إنسان زرع بذرة فول ونمت هذه البذرة، وشقت السماء، واخترقت السحب، حتى وجد هناك مكان فيه قصر عامر، وهناك دجاجة تبيض ذهباً، وبين فترة وفترة هذه الدجاجة ترسل الذهب، فحاول أن يسرق الدجاجة ما استطاع، في يوم من الأيام أتى بحيلة واستطاع أنه يسرق الدجاجة.
هذا يكون لدى الأطفال أنه يمكن الذي في السماء إنسان له قصر عامر بهذه الصيغة، وقد يظن أن الشخص صاحب الدجاجة التي تبيض هو الإله، في صورة من الصور.
مشهد من مشاهد أفلام الكرتون: رعود معينة، ثم ينكشف الأمر فوق السحب، وإذ هناك اثنين يمسكون عصيان ويضربون طبول شديدة، والناس يسمعون الرعود.
إذاً الطفل في وقت مبكر، يظن أنه إذا كان هناك رعود، فأكيد أن هناك ملائكة تطبل في السماء، فهكذا يدخل في اعتقاده، قلت: نعم، أو قلت: لا، لا يهم، المهم أن هذا هو ما يوجد فعلاً في تصور هذا الطفل، بعد ذلك يأتي واحد معه صحنان يضرب أحدهما على الآخر، فيكون ذلك هو البرق.
قضية ما يتلقاه الأطفال عبر الشاشات والمسلسلات والأفلام، ليس له دور فقط على سلوكهم وتصرفاتهم، بل له دور على معتقداتهم، وأذكر ذات مرة أنني في خطبة من الخطب، وبصريح العبارة ذكرت اسم المسلسل والحادثة التي حدثت، ذئب أو غيره -كل الحيوانات في الأفلام متكلمة- لما شفي من مرض فيه، قال: تعويذة فلان هي التي شفتني.
وبالمقابل تجد الأطفال إذا وقع أحدهم منكسراً، يدرون عليه الماء، ويعملون له تعويذة من أجل أن يشفى.
إذا الأطفال يتأثرون ويكتسبون، والبيت والمدرسة ووسائل الإعلام أياً كان نوعها هي التي تنازع في قضية التربية، لا أقول: تنازع، أي: تجادل، لكن كلٌ ينال نصيبه وينتزع حصته من قضية التربية، ولهذا ما لم تكن وسائل الإعلام بناءة وخيرة، وموجهة إلى ما يبني الفرد بناءً صحيحاً، وإلا فاعلم أنك لن تجني من الشوك العنب.
ذكرت إحدى المجلات في الكويت أن مسلسلاً فيه أن رجلاً أراد أن يسرق بيتاً، فما استطاع؛ لأن أهل البيت كانوا متيقظين، فأتى ببخاخ مخدر وفي غفلة من أهل البيت استطاع أن يبخ كمية كبيرة عبر النافذة تسللت إلى داخل البيت، حتى نام أهل المنزل، واستطاع أن يدخل المنزل ويسرق ما يشاء.
بعدها بفترة بسطية حدثت جريمة فيها نوع اغتصاب بنفس الطريقة، شاب جاء وبخ هذا المخدر، ونام أهل البيت واستطاع أن يدخل ويفعل ما بدا له ويخرج حتى أذكر أن المجلة قالت: إن التلفزيون يعلمنا الجريمة.
إذاًً الأفلام والمسلسلات العملية لها أكبر الأثر وأكبر الدور في صناعة السلوك والشخصيات، وبالمناسبة ومادام الحديث أيضاً عن التربية، وأوجه هذا الحديث إلى الأستاذة خاصة، وأيضاً يوجه الحديث للطلاب، أنك في أي مرحلة من مراحل تعليمك أنت لا تزال تربي وتتربى، فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان حفظه الله وحفظ علماء المسلمين أجمعين، كنت مرة أسأله في مسألة معينة، قلت له: أنا أدرس في الكلية وأحد الطلاب سألني كذا، وأجبته بكذا وكذا وكذا، فقال لي: ينبغي أن تعلم أنه في أي مرحلة من مراحل التعليم، أن الإنسان يربي قبل أن يعلم، ولذلك لم يكن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في كل سؤال هو الإجابة، بقدر ما يكون للتربية دور في جواب السؤال.
جاء رجل وقال: (يا رسول الله متى الساعة؟)
الجواب
بعد كذا سنة، لا،
الجواب
( وماذا أعددت للساعة؟) توجيه القضية التعليمية إلى تربية في مرحلة من المراحل، قال: (والله ما أعددت كثير عمل، أو صلاة أو صيام، لكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت) إذاً النبي صلى الله عليه وسلم وجه هذا الرجل بجواب تربوي، إذاً فالتربية أمر ينبغي أن يكون موجوداً في أي مرحلة من مراحل الحياة، وكل منا لا يزال يتربى، يبلغ الواحد من العشرينات والثلاثينات، ويظن أنه قد اكتسب خبرة في الحياة، وفي يوم من الأيام يمر لك موقف وتعرف أنك أجهل الناس في هذا الموقف.
إذاً لازلت تتربى، ومن بعد أسبوع يقابلك موقف جديد، فتقول: هذا درس جديد، وبعد أسبوع تأخذ درساً وتقول: هذا درس جديد، وما تزال تتربى حتى يضعك الناس في قبرك، لأن هذه أمور سلوكية، والإنسان لا يمكن أن يحيط بجميع سلوك الناس وتصرفاتهم، ولا يمكن أن يخبر الناس ويحيطهم في إطار التجربة، ولذلك فكل جديد بالنسبة له يمكن أن يستفيد من خلاله قضية أو عملية تربوية.(90/10)
مدى دور المدرسة والبيت ووسائل الإعلام في التربية
أيها الأخوة! لو أردنا أن نحدد إلى أي مدى تؤثر هذه الوسائل الثلاث في التربية فنستطيع أن نقول:(90/11)
مدى دور الأسرة
الأسرة لها أكبر دور في التربية وذلك في مراحل الطفولة، المدرسة تشاطر الأسرة هذا الدور أو تماثلها، وكذلك في مراحل ما قبل المراهقة، وبعد ذلك ما لم يكن للمدرس دور عظيم في توجيه المراهقين، في المرحلة الثانوية ونهايات المتوسطة، فتكون هناك تصرفات غريبة وعجيبة.
أما وسائل الإعلام فلها أثر في قضية التربية منذ الطفولة حتى أكبر سن، الجهات التي تتنازع حصتها في التربية أيضاً دورها محدود في زمن معين، لكن وسائل الإعلام -ولست بهذا أشتم في الإعلام أو أتكلم في الإعلام- لكن أقول: للإعلام دور إما أن يوجه نحو الصلاح، وإما أن يوجه نحو الخراب، إما أن يوجه نحو الخير أو نحو الشر، ودور الإعلام لا يقف عند مرحلة معينة، بل دور الإعلام منذ الطفولة حتى سن متقدمة ومتأخرة.
يحدثني شاب يقول: والله أخي ليس عنده استعداد أن يتزوج، يقول: لازم أحب قبل أن أتزوج، جاءه هذا الحب من فيلم فيديو أو مسلسل رآه، المهم هو لا يرى عملية الزواج تتم إلا بحب، بغرام، باتصالات إلى آخره، وبعد ذلك تحصل قضية الزواج.
يابن الحلال تزوج، يقول: سأصبر وأحب ومن ثم أتزوج، ومن هي شقية الحظ التي ستحبك على هذا الوضع، وقد كبر الرجل في السن، لكن لا يزال للإعلام دور مؤثر في شخصيته.
تصوروا مجتمعاً من المجتمعات؛ مجتمع عفة وطهارة يغزى بالأفلام والمسلسلات، يرى من خلال هذه النافذة العالم المنفتح كما يسمى، وهو العالم المنفلت وليس المنفتح، يرى هذا الوضع المتدهور، يريد أن يقضي هذه الغرائز في إطار معين، يقف أمام أمرين: إما أن يسافر ويفعل ما بدا له، لا أحد يخاف على نفسه ما دام بعيداً، يريد أن يفرغ ما في رأسه، وفي موقعه هنا يخاف، لأن الشريعة مطبقة والحدود تقام.
يا أخي كم تنفق في سفراتك؟ كم تنفق في كذا؟ ينفق الكثير الكثير، يا أخي ألا ندلك على فتاة بلغت ثلاثين سنة من عمرها تتزوجها، يكون لها دور في الحياة، يعطيها الله جل وعلا ذرية بسببك، يكون لك دور في تكثير نسل أمة محمد، يمكن أن يهب الله لك منها بنتين: (من عال جاريتين حتى تبلغا كانتا له ستراً من النار يوم القيامة) يصيبك خير عظيم من جراء تطبيق قضية شرعية، وقضاء الحاجة والغريزة في إطار بناء الأمة والمجتمع.
يقول لك: لا، التعدد! مجنون أنت! التعدد مصيبة! وكل ذلك نتيجة الأفلام والمسلسلات التي رآها.
نقول أيها الإخوة: خلاصة للفكرة أن الجهات التي تتنازع حصتها في قضية التربية من الفرد في المجتمع، البيت والمدرسة والكلية ووسائل الإعلام، البيت له دور محدود، وما لم يضبط هذا الدور بهذه المرحلة، فبعد ذلك لن يستطيع الأب أن يوجه إلا برحمة من الله.
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا يلين إذا لينته الخشب
ما دام هذا الطفل غصناً غضاً طرياً، تستطيع أن تثنيه كيفما شئت، فيمكن أن توجهه، لكن عندما تهمل فإنك ستفاجأ بالجريمة التي حصلت من الولد، لا حول ولا قوة إلا بالله، في هذه المرحلة الوالد فوت قضية التربية، ومن ثم يريد أن يوجهه، ولكن إن شاء الله وهو لا يعطيك وقتاً؛ لأنك ما أعطيته وقته في طفولته، حتى يعطيك وقتاً في شبابه، فهذه مرحلة قصيرة لكنها حرجة وحساسة، ويمكن أن تصنع شخصية الطفل حتى يكون رجلاً أو قائداً عسكرياً أو تاجراً، أي شخصية تريد أن تصنع من الطفل في تلك المرحلة.(90/12)
مدى دور المدرسة والكلية
المدرسة -كما قلنا- لها دور في مرحلة معينة، فإذا جاوز الطالب المراهقة، فمن النادر أن تبقى تلك الهيمنة أو ذاك الدور الذي يملكه مدرس المرحلة الابتدائية يؤثر به مدرس الثانوي أو المتوسط على طلابه، بل إن فتح الله قلبه وسمع منك فذانك، وإلا ما لم يكن المدرس ماهراً في الدخول إلى نفوس الطلاب، وتحسس مشاكلهم؛ خاصة في مراحل المراهقة التي تشهد تقلبات نفسية، يوم فرحان، ويوم غير ذلك، ويوم يضحك، ويوم عنده تصرف معين، ويوم ضد ذلك، ويوم تلقاه مبكراً إلى المسجد، ويومين لا يصلي، ونوع من المراهقة كالجنون.
فإذا وجد مدرساً ماهراً للدخول إلى قلبه في هذه المرحلة الحساسة، واستطاع أنه يستوعبها، عند ذلك ننال خيراً عظيماً، أما إذا كان المدرس غير ماهر فثق تمام الثقة أنه لن يكون للمدرس دور على الطالب في هذه المرحلة، ومن باب أولى ألا يكون للمدرس هذا الدور في الكلية، بما أن الرجل قد شب عن الطرق وأصبح كبيراً، ولم يعد أحد يستطيع أن يقول له اذهب يميناً أو يساراً، أيضاً ما لم يكن المدرس في الكلية ماهراً في الدخول إلى قلوب الطلاب، ومحاولة احتواء مشاكلهم، وتحسس المداخل والمنافذ اللينة التي تصل إلى قلوبهم، وعند ذلك قد يوفق للتأثير عليهم.(90/13)
مدى دور وسائل الإعلام
إن التأثير الذي يدوم ولا ينتهي هو تأثير الإعلام، تجد رجلاً كبيراً في السن، نتيجة لمجموعة من الأفلام والمسلسلات، يأخذ من هذا الفيلم نمطاً معيناً في سلوكه، يقول أحدهم: أنا أتابع الأفلام والمسلسلات بكل دقة، ما رأيت إلا ما لا يجوز، صور نساء، مقاطع موسيقية إلى آخر ذلك، قال: لا، أنا آخذ منها الدرس والعبرة، الله أكبر! متى علمتنا الثعالب النصيحة؟ متى عهد أن المنتج أو المخرج الذي ينتج فيلماً فيه اختلاط وعري وترك للحجاب وسفور يمكن أن يعطيك درساً؟ نعم قد يوجد، لكن: وإثمهما أكبر من نفعهما بمراحل كبيرة كبيرة جداً.
تخاطب رجلاً آخر وقد تجده يتحسر بسبب ظروف معينة لزوجته فهو يريد أن يتزوج، لكنه بين نارين، يقول: أخاف أن يثور المجتمع ضدي، من الذي يثور ضدك؟ إذا كان المجتمع قد تأثر بما يدور في الأفلام فلا شك أنه سيثور ضدك، نتيجة مجموعة أفلام ومسلسلات متتابعة تعرض قضية المرأة، وقد تعرض أيضاً قضية امرأة معينة في ظروف معينة، يتزوجها رجل فتكون زوجة ثانية له، يخفي الأمر في بداية الأمر، أو يتستر عليها في أيام معينة، ثم يكشف فجأة وتقوم القيامة التي لا تقعد.
فحين تعلم الزوجة تسقط على الأرض مغمى عليها، أو تصاب بالشلل النصفي، أو تفقد الذاكرة لمدة كذا يوم، إذاً لدينا شحنات من مجموع الأفلام والمسلسلات ضد قضية التعليم، وأقول وبصريح العبارة، وقد يوجد من لا يعجبه القول: إنه ما لم نؤمن بهذا المبدأ، وإلا فثقوا أننا سنحرم المئات من الطاهرات العفيفات ممن يرغبن في هذا الشيء، ولا يحققنه بالطريقة المشروعة، سيحرمهم من دورهم في الحياة، ومن الذرية الصالحة، وسيحرم الأمة أيضاً من ذرية يمكن أن توجد منه.
ثم يا أخي! استكثر من الولد الصالح ما استطعت، وما دمت قادراً على التربية، لكن الإطار العام لكثير من الناس، أنا أريد سيارة، وزوجة وثلاثة أطفال فقط، هذا المبدأ يا إخوان والله شاع في أوروبا مدة معينة، وأصبحت الآن ألمانيا نسبة الكلاب فيها أكثر من نسبة الأطفال، يوجد لكل أسرة في بلجيكا ما يقارب كلبين ونصف في النسبة، وتموت الأسرة وما تجد من يرثها، ولا تجد من يدعو له، نتيجة مبدأ طفل طفلين ثلاثة.
أفغانستان لما خاضت قضية الجهاد، واعتدي على العقائد وعلى مقدسات العبادة وعلى الأعراض، وقام الجهاد، لو كانت أفغانستان على طفل طفلين، هل تظنون أن يبقى في أفغانستان رجال، الشباب ماتوا وانتهت المسألة، لا يوجد إلا أطفال صغار، وعجائز وشيوخ كبار، لكن لأن الأسرة الأفغانية أقل ما تجد عند أحدهم ثمانية تسعة عشرة أولاد، وبصريح العبارة صرح بهذا جورباتشوف ل نجيب حاكم أفغانستان العميل الشيوعي، في بداية التلميح في قضية الانسحاب، تفعلونها فينا، في البداية نخوض ونقاتل، وفي النهاية تبدءون تعلنون الانسحاب.
قال: لا نستطيع، الوضع في أي ضاحية وفي أي مدينة من مدن الاتحاد السوفيتي، كل أسرة لا تكاد تملك إلا طفل أو طفلين، واحد يكفي، لم يعد هناك هذا يكبر وهناك طفل جديد، لا.
هو واحد، في فترة طفل، وبعد فترة رجل يدخل الجندية، إذا مات، يقول: ليس المأتم يقام في البيت، يقام المأتم في البيت وعند الجيران وتعلق الضاحية الأنوار الخافتة، والحزن والتأبين، وأمور عجيبة جداً، لا يوجد إلا واحد أو اثنين.
لكن الأسرة التي لديها مجموعة من الأولاد إذا كتب الله لهذا قدراً في وفاته: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] والحمد لله على ما قضى وقدر، فبدله في البيت ستة، يموت هذا في الجهاد فيحل الثاني محله، يموت هذا في الجهاد فيحل الثالث محله.
إذاً الأسرة المسلمة هي أكثر عنصر من عناصر قوة الدولة أيضاً، لكن حينما تكون الأسر على واحد اثنين، خوفاً على الدخل القومي، خوفاً على الناتج القومي، خوفاً على قضية من أين نمكن لهم حياة رفاهية معينة، نقول: لسنا نحن الذين نرزق عباد الله، اقسموا مجموع ما في الأرض من خيرات على عدد السكان، في العملية الحسابية النتيجة خسارة، لكن الله الذي يزرق العباد سبحانه.
والله غني عن العباد، وخزائنه ملأى، يده سحاء الليل والنهار، يده لا تغيظها نفقة، إذاً فثق بالله وارتبط بالله، حينما يوجد هذا المبدأ لدى الأسرة المسلمة؛ فسيكون أثره عظيماً.
هذا الاستطراد قادنا إليه البيان في مسألة أن وسائل الإعلام لها دور مؤثر، ودورها لا يقف عند حد الطفولة أو المراهقة، بل لها دور عظيم، ومن هنا فإني أسأل الله جل وعلا أن يمن على العاملين في هذه الأجهزة الإعلامية، أن يوجهوها لخدمة الإسلام والمسلمين، ونفع أبناء المسلمين، وإذا كان قد عرض أو يعرض شيء يخالف شريعة الله جل وعلا، فالذي نقترح أن يقال للخطأ: هذا خطأ، هذه صورة مجتمع غير مسلم، بهذا الوضع تبرأ الذمة، وإلا فإن الجميع مسئولون أمام الله جل وعلا.
وأيضاً أناشد جميع هؤلاء الشباب، أن يساهموا بدورهم الفعال، سواءً في التلفاز أو في الإذاعة أو في الصحافة، في تقديم النافع المفيد، في مناسبات كثيرة الجميع يفتح صدره ويديه، قدموا مفيداً وانظروا من الذي يرفضه، وفعلاً نجح لبيان تقصيرنا، أنه لا تكاد تجد مسلسلاً إسلامياً أو إنتاجاً إسلامياً على مستوى فيلم أو على مستوى أدبي رائع.
بعض الإخوة تفكيرهم كلاسيكي لا يعجبهم هذا الكلام، لكن حقيقة الأمر أنه لا بد أن نواجه أي أمر أمامنا، إما أن نشارك بكل ما نستطيع على مختلف الأصعدة والمجالات، وعند ذلك إذا أثبتنا بالتجربة، أن الخير والدين والشريعة قادرة على استيعاب الجميع، وإلا عند ذلك فسيقول الآخرون: هل يوجد فيلم إسلامي؟ هل يوجد إنتاج إعلامي إسلامي؟ هل توجد صحافة إسلامية؟ فما لم نقدم البديل فنحن محاسبون في هذا الأمر على تقصيرنا، وأيضاً عدم وجود البديل ليس مبرراً للوقوع في المنكرات، أو في استباحة ما حرم الله.
هذه قاعدة ينبغي أن تعرف، ولا أود أن أطيل أكثر من هذا، أسأل الله جل وعلا أن يجعل فيما سمعتموه خيراً لي ولكم، وإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمن نفسي الأمارة ومن الشيطان، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:182].
أود أن أنبه الإخوان جزاهم الله خير الجزاء، إلى قضية الجهاد في أفغانستان، وأنتم تعلمون أن الجهاد في أفغانستان في مراحله الأخيرة، وكابل تستعد لتلقي ضربة حاسمة، لعلها أن تكون فتحاً كفتح مكة في رمضان إن شاء الله، ولا شك أن هذا يحتاج إلى دعم قوي ومضاعف؛ لأن القضية ستكون يا منصور أمت أمت، ليس فيها إلا موت، وسيكون استبسال.
وجميع جهود الحكومة العميلة الآن فقط مركزة في كابل، مع وجود بعض العمليات الاستشهادية في قندهار وفي بعض المناطق، وأبشركم أيضاً باستشهاد بعض إخوانكم من مختلف الدول العربية، ولا زال الشهداء على أرض أفغانستان يروون الأرض بدمائهم، فأسأل الله أن يجمعنا بهم في جناته، لكن لا زالت أفغانستان بحاجة وستظل أفغانستان بحاجة؛ لأن الروس لن يخرجوا منها قصراً عامراً، أو دوحة غناء، أو بستاناً رائعاً، خرجوا عنها إحراقاً للحرث والنسل والزرع، أشلاء متطايرة، أطرافاً متكسرة ومقطوعة، أراضي مزروعة بثلاثين مليون لغم، الآن من أكبر المشاكل التي تواجههم كيف تعود هذه الملايين المهاجرة خارج أفغانستان إلى أرضها، والأرض كلها مزروعة بالألغام.
القضية محتاجة إلى دعم قوي وقوي جداً، ومن فضل الله على هذه الدولة أنها قد كلفت الهيئة العامة لاستقبال تبرعات المجاهدين، وهي لجنة أنا بعيني رأيت مكتبها في بيشاور، ومكتب طيب ولله الحمد والمنة، والتبرعات تصل والله ثم والله ثم والله، لا نشك إن قرشاً واحداً أو ريالاً واحداً يخرج بفضل الله جل وعلا، الأيدي أمينة يا إخواني فاطمئنوا، وهذه الهيئة انتشرت مكاتبها ولله الحمد وجهودها ملموسة، أرجو من الجميع التبرع والدعم لإخوانهم، وجزاكم الله خير الجزاء.(90/14)
الأسئلة(90/15)
نصيحة أخي الذي له رفقة سيئة
السؤال
لي أخ نشأ في بيئة خيرة، ولكن فجأة تغير سلوكه وأخلاقه ومستواه الدراسي، ويبدو أن السبب هو رفقة السوء وهم كثيرون، أرجو التوجيه في طريقة التعامل معه خاصة وهو في سن المراهقة، وإبعاده عن هذه الرفقة، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
غالباً الإنسان لا يتأثر إلا بشيء استحوذ على قلبه، أحب شيئاً، أعجب بشيء، فما لم تكن قادراً على أن تقدم خيراً بأسلوب يأخذ بلبه، ويستطيع أن يكون له أثر طيب في كسب نفسيته، وإلا فلن تستطيع أن تؤثر عليه، أو يكون هناك موقف معين من المواقف قد يكون سبباً في هدايته، وعلى أية حال فالواجب من الجميع: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] المطلوب منك النذارة والدعوة، والباقي بيد الله سبحانه وتعالى، هذه قاعدة.
الأمر الثاني: لن يسمع أحد مني ومنك شيئاً إذا كان يبغضنا أو يكرهنا، الذي يبغضك لا يقبل منك صرفاً ولا عدلاً، لو تقول له: اصبر لأقرأ عليك صفحة من القرآن، يقول: أرجوك ابعد عني، لا يقبل منك صرفاً ولا عدلاً، لكن حينما يكون لك أثر في قلبه؛ فلا بد أن يتأثر منك.
فهذا الأخ الذي ذكرت من حاله، لا بد أن تكسبه بالهدية، وبالتواضع، وبأيضاً السعة في البرنامج، قد يكون بعض الشباب دائماً وقته قراءة وتخريج وبحث، هذا خير عظيم، هذا عمل لا يقوم به إلا علماء الأمة، لكن لا يطيقه عامة الناس، وعامة الشباب، ساعة وساعة بالنسبة لبقية الناس، ليس الجميع يتحمل هذا الأمر.
إذاً فأنت تنظر إلى أي مستوى وصل هذا الشخص، ولذلك ينبغي أن تعامله، أما شاب كان أمس في الشارع، ومن ثم تأتي به أربعة وعشرين ساعة حدثنا حدثنا حدثنا، من هو الذي حدثك حتى تشغلني به؟ فيمل منك، لم يعد يقبل منك صرفاً ولا عدلاً، لا أقول يقال، بل بعيني رأيت، كان يوماً من الأيام يحمل كتب الحديث، ويحسن الرواية، وبعد ذلك انقلب ولا حول ولا قوة إلا بالله، السبب، أصبح منبتاً، إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، شد على نفسه حتى هلكت الناقة في الصحراء، فما استطاع أن يصل بالناقة سليمة ومات في الطريق.
لكن مثل هؤلاء الشباب يأخذون، ويدعون بالتي هي أحسن، ويمكنون ما بين الأوقات فيما فيه فسحة لهم، ولذلك دائماً أدعو إخواني الشباب إلى استغلال الأندية الرياضية؛ لأن فيها أماكن تستطيع من خلالها إذا كنت نشيطاً واعياً بمجموعة من إخوانك وزملائك، تستطيع أن تجد المكتبة فتقرأ، وتجد المسبح فتسبح، وتجد صالة التنس فتلعب، وتجد المسجد فيكون هناك درس في المغرب، ويجتمعون على صلاة العشاء، تستطيع أن تستوعب الشاب بجميع مراحل وقته.
عند ذلك إذا بلغ حداً معيناً، هو نفسه يعرف ما يضره وما يسره، ولا تخشى عليه شيئاً كثيراً، بإذن الله يتوجه، لكن شاب عادي دعوته؛ فاهتدى واستقام، حدثته اليوم يقبل، بعده يقبل، ثم يمل، ولذلك أوصيكم ونفسي يا إخوان! بأن نأخذ النفوس بما تطيق، يقول صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا) أي: لا تضغط على نفسك، وبعض الناس يفهم كلمة لا تضغط نفسك، لا تشدد يا أخي، أن المعنى: اسمع أغاني، واسحب ثوبك، وعدل واصنع، لا، أعني بكلمة لا تشدد على نفسك، أي: أعط نفسك راحة، امرح مع زملائك، العب معهم كرة، يمكن أن تسبح معهم، يمكن أن يصبح بينك وبينهم أنشطة رياضية، وفي نفس الوقت لا يمرن يوم عليك إلا وقد نلت حظك من كتاب الله، من فقه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الأمور النافعة الخيرة.(90/16)
مصادقة من يستهزئ بالمسلم الناصح
السؤال
أنا أرى بعض الناس يستهزئون بأي مسلم إذا نصحهم إلى العبادة، وإذا قلت لهم: هذا حلال وهذا حرام، قالوا: إنك مطوع وهكذا فهل أصادقهم؟ أم أقطع صداقتهم برغم أن بعضاً منهم لا يصلون؟
الجواب
يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] الفاسق لا يرى المؤمن والمستقيم والملتزم فيتركه يمر دون أذية، بل لا بد أن يفلت عليه واحدة أو اثنتين من بضاعته، والألسنة مغاريف القلوب، ولا يأتينك من واد إلا سيل، كل ما في هذا الوادي سوف يصعد، وما في بطن وجوف هذا الرجل سوف يخرج: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] مطوع معقد {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:31 - 32].
دائماً يجد الشاب الملتزم من يتسلط عليه.
وبالمناسبة يا شباب الصحوة! يا أيها الجيل المعاصر! من نعم الله عليكم أنتم ما مررتم بعصر كان الملتحي فيه غريباً، الآن شيء طبيعي أن تجد الشباب الملتزم المستقيم في أي دائرة من الدوائر، والله مر وقت إن الإنسان إذا التحى يتلطم من أجل لا يستمر الناس في السخرية، لا أقول: بتسلط، بالعكس كان الناس فيما يتعلق بعدم انفتاحهم أحسن أحوالاً من الآن، لكن مر بالناس زمن كان الالتزام فيه أمراً غريباً.
أما الآن ولله الحمد، في الزواج تجد الشيخ الفلاني يقوم يلقي كلمة، في مناسبة بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، تجد الحديث يبدأ، في كل مكان الخير موجود معك، الشريط تجده دائماً معك في سيارتك وغرفة نومك، وفي أي محل من المحلات، قديماً كنت لا تجد شريطاً واحداً، والآن تجد الأشرطة بالمحاضرات والندوات والفتاوى والأمور الخيرة.
إذاً لا تعجب، البقية القليلة من المستهزئين، وبحمد الله جل وعلا نحن لا نرى شيئاً يذكر، ما رأيكم بإخوانكم في مصر يستهزأ بهم في الكاريكاتير، ومنكم من سمع أشرطة الشيخ أحمد القطان العفن الفني، والذي لم يسمعها أنصحه أن يسمعها، يقول: من الكاريكاتيرات المعلقة عليهم، يقول: أن هناك مسرحاً، وفيه مجموعة من المطاوعة، وراسمهم رسام وواضع لهم لحى، ويقولون بعبارتهم مستهزئين: ينبغي ألا نكون سطحيين، وينبغي أن يكون البحث في حقائق الأمور، ما حكم اللمبات الحمراء على المسرح، هل هي بدعة أم لا؟ ما حكم الموسيقى الهادئة قبل فتح الستارة؟ استهزاء بالدين إلى حد بعيد، واستهزاء بالشباب الملتزم.
فالحمد لله هنا، هات لي شخصاً يستهزأ بمسلم، لا يستطيع أحد أن يستهزأ بك، بالعكس وأنت ملتزم ترفع رأسك ولا يردك أحد، والخوف على المخالف والذي عنده دخن أو خلل أو معصية، إذاً نحن في هذه البلاد في نعمة وعزة وقوة، أسأل الله جل وعلا أن يزيد الذين اهتدوا هدى، وأن يهدي الضالين إلى الطريق المستقيم.
فينبغي أن نعامل أولئك الذين نرى منهم شيئاً من الاستهزاء والسخرية باللطف، لو مررت فنهق حمار عليك، هل تنهق عليه؟ لا، بل تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو انطلق كلب وعض رجلك فهل تعضه؟ لا أيضاً لأنه غير لائق، معاملة السفيه بمثله.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإذا لم يكن عندك بضاعة جيدة تردها عليه وتقدمها له بخير، فلا أقل من أن تسكت.
يزيد سفاهة وأزيد حلماً كعود زاده الإحراق طيباً(90/17)
جهاز التلفاز عند الجيران
السؤال
كما تعرفون أن جهاز التلفاز قد انتشر في البيوت، وهذه بلوى، وهناك الأفلام الخاصة بالأطفال قد تؤثر على تربية الطفل، وحاولت منع التلفاز ولكن دون جدوى، فقد يذهبون إلى الجيران لمشاهدة هذه الأفلام، فماذا أفعل؟
الجواب
الذي أعرف أن هناك فتوى متعلقة بهذا الأمر من هيئة كبار العلماء فلتراجع.(90/18)
كيفية التعامل بين الصغير والكبير
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حلقة الصلة بين الصغير والكبير مفقودة لعدم التواضع للصغير، والحرص على تفهيمه قبل نومه، كيف السبيل أكرمكم الله؟
الجواب
يا أخي هذا سؤال وجيه وينبغي أن ينال حظاً طيباً من الكلمة، التأثير على الصغار يا إخواني يحتاج إلى تواضع ورقة، وكثير من الناس حتى أولاده فقط ينظرهم من بعيد ويقبلهم وهو ماشي، الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، كان إذا سجد جاء الحسن أو الحسين فركب على ظهره، فربما أطال السجود حتى ينزل الحسن والحسين باختياره، انظر الرقة واللين للصغير: (إن ابني ارتحلني) أي: جلعني رحلاً وركب على ظهري.
جلس النبي صلى الله عليه وسلم وفي حجره أحد أبناء بنته، وكان الأقرع بن حابس التميمي أمامه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل هذا الولد، قال: (أو تقبلون صبيانكم يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجب! أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك، من لا يرحم لا يرحم، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم) يقول أحمد شوقي:
أحبب الطفل وإن لم يك لك إنما الطفل على الأرض ملك
عطفة منك على لعبته تخرج المكنون من كربته
إذا رأيت صغيراً معه لعبة، فبقدر ما تحترمه أيضاً؛ أعط لعبته احتراماً، وامدح لعبته، وسله من الذي أعطاها له، وكيف تفعل بها، وشغلها حتى نراها، ولا بأس.
بعض الناس رسمي في الداخل وفي الخارج، لا.
إذا دخلت بيتك فاترك الألقاب واترك هذه الأمور كلها، وحتى إذا خرجت من بيتك، ولكن كون الناس يطلقون عليك أمراً معيناً هذا ليس بيدك، لكن إذا دخلت البيت فالعب مع الأطفال، اجعل الطفل إذا كان في خاطره شيء يأتي ويلقي بصدره على صدرك، ويقول: يا أبي! عندي كذا وكذا، لا تجعل حاجزاً بينك وبين ابنك.
والله أعرف شباباً يقولون لي: نتطارح نحن وآباؤنا، ونمزح معهم، ونصرعه ويصرعنا، وإذا أمرنا بشيء امتثلنا له، الكلفة منزوعة بين الأب وابنه، لكن أعرف كثيراً من الناس ينبسط آخر انبساط مع الشلة والأصدقاء، ولكن إذا دخل ولده قفلها، فينبغي أن نزيل الكلفة بين الأب وابنه، كثير منا توجد بينه وبين أخته وبناته فجوة عظيمة، لماذا؟ بالعكس أنت أب، هذه خرجت من صلبك، أنت وليها، هي ستر لك من النار برحمة الله جل وعلا.
كثير مما نعرف من المشاكل، فتاة تجيء تقص مشكلتها أو ترسلها في رسالة، أبوها موجود لم تقص مشكلتها على أبيها؛ لأنه يوجد حاجز وفجوة بينها وبين أبيها، قد تضطر إلى شخص بعيد حتى تشكو له المشكلة، بالعكس لو كان منذ وقت مبكر قد عود الأولاد والبنات منذ الصغر على الانبساط ونزع الكلفة بين الأولاد والبنات وبين أبيهم، عند ذلك سيكون هذا الأب قريباً.
إذاً فالتواضع أمر مطلوب، وذكر الحاجات للأبناء أمر مطلوب، وجعل دور للابن في اختيار ما يريد أمر مطلوب، بعض الآباء يدخل ولده عند الحلاق، خذ الماكينة واحلق رأسه أقرع وأخرجه، مسكين الولد الماكينة تشتغل على رأسه والدموع تنهمر، أعطه فرصة يختار الذي يريد، أعطه شيئاً من الحرية، مادام في قضية المباح والمشروع، أما في إطار المحرم فمحل اتفاق أنه لا يمكن، لكن اجعل له حرية الاختيار، لا بد أن تعيطه شخصية واستقلالية، وفرصة يعبر عن رأيه وشعوره في موضوع من المواضيع، ستحقق ما تريد، لكن ما رأيك نفعل كذا؟ أليس الأحسن أن نفعل كذا؟ يقول: نعم.
أحسن، هو يظن أنك عملت بمشورته، وأنت أساساً ستطبق هذا الشيء.
لكن القضية أننا انشغلنا عن أسرنا وأولادنا وبناتنا، ليس عند الواحد استعداد لأن يتفرغ في البيت ولا في اليمين ولا في اليسار، دائماً مشغول عنهم:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همِّ الحياة فخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
هذا والله هو اليتيم.
إن اليتيم الذي تلقى له أماً تخلت: من مناسبات وروحات وعزائم واتصالات وموضات، أو أباً مشغولاً بتجارته وأصدقائه، والولد من الذي يربيه؟ ويا إخوان! نحن لا نزال في خير في أمر التربية، لو خرج أحدكم من المملكة إلى أي دولة كافرة، تجد كيف الناس يعانون في تربية أولادهم، في الجو العام عندنا الولد يسمع الأذان، ويسمع الصلاة ويسمع التكبير، ويعرف التوحيد عموماً من واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لكن في المجتمعات الأخرى، الشخص المسلم والأسرة المسلمة في المجتمع الجاهلي أو الكافر تعاني معاناة عظيمة، فما بالك لو واحد منا على كثر انشغالاته وجد في مثل هذه المجتمعات، والله يتفلت أولاده من بين يديه.
وهناك دراسة نتمنى أن ينتهي إعدادها وتقدم في إحدى الصحف، في كولومبيا في منطقة سانتاماريتا في أمريكا الجنوبية، هناك منطقة معينة يوجد فيها أسماء مسلمين أحمد، نايف، سمير، سارة، أسماء كثيرة موجودة لكن نصارى، ومنهم من هو مسلم، لكن لا يعرف الصلاة ولا يعرف يركع، السبب أن الأب مشغول والأم مشغولة، وقضية الدين آخر قضية يهتم بها.
نحن على انشغالاتنا هذه لو نحن في مجتمع جاهلي، والله يتفلت منا الأبناء والبنات، لكن نعمة من الله أن إطار المجتمع يساهم في بدور التربية، ما هو شعوركم لو أن الابن يخرج فيجد الناس يسكرون في الشارع، ويجد هذا يصاحب من يشاء، ويجد البارة والحانة، كيف تعيش؟! الشاب الذي لا يتلقى أي تربية ينكر الخمر والمظالم، تجده ينكر أموراً معينة، فالمجتمع بدوره العام يسهم بجزء من التربية، والله لو كان هذا الإهمال في المجتمعات الجاهلية لانفلت الأبناء والبنات من آبائهم.(90/19)
نصيحة للمدرس المربي
السؤال
بما أن المحاضرة عن أهمية البيت والمدرسة، لذا أطلب منكم بما أن لكم علاقة بالتعليم، توجيه المدرس أن يكون قدوة؛ بأن يتمسك بالشريعة الإسلامية، وحث الآباء على زيارة المدرسة، وتوجيه المدرسين الذين يراهم لم يتمسكوا بالشرعية الإسلامية، وتطبيق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون ما نعمله مخالفاً للتطبيق من المدرسين اليوم؟
الجواب
والله ها أنت يا أخي الكريم وجهت عنا بالنيابة، ونحن نعيد التوجيه ونكرره، ينبغي أن يكون المسلم قدوة ما أمكن
وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى روح العدالة في الشباب ضئيلاً
وقد لا يكونون عدولاً إلا برحمة ومنة من الله فيما يؤثر فيهم من جانب آخر، لذا فواجب الجميع إن كانوا مدرسين أن يتقوا الله، وليعلموا أن شخصيتهم وهيكلهم وتجسيمهم أمام الطلاب له في حد ذاته تأثير، فينبغي ألا يتلقى الطلاب منهم إلا كل خير، هذه واحدة.
الأمر الثاني: الاتصال بالمدارس، وحسن الصحبة بالمدرسين، وإهداؤهم الكتب والأشرطة النافعة، والأشياء الرسمية المصرحة، لا بد أن يكون هذا النشاط قائماً بين أفراد المجتمع وبين الأسرة، من أجل أن يكون البيت تتمة للمدرسة، والمدرسة تتمة للبيت، ولا يوجد ذاك الحاجز أو ذاك التضايق بين الشباب من مدارسهم، بالعكس يشعرون أنه وضع جميل وطبيعي، أن ينتقل في بيئة فيها من المدرسين الأفاضل، ويمارس فيها نشاطاً إسلامياً، وفي صحبة مسلمة.
اسأل الله للجميع الثبات، وأسأل الله أن يحرم وجوه الحاضرين على النار، اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى والمغفرة، اللهم وفق الجميع لما تحب وترضى.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، ولحمد لله رب العالمين.(90/20)
التفكر في خلق الإنسان
تحدث الشيخ في الخطبة الأولى عن هذه النفس البشرية التي تجادل وتنازع في خالقها وبارئها، مع أنها من أكبر الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته ومشيئته.
وقد تحدث في الخطبة الثانية عن أدلة بدعية المولد النبوي الذي تفعله الصوفية، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولدلنا عليه ولفعله أصحابه من بعده.(91/1)
يا ابن آدم! تفكر قبل أن تندم
إن الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خير سألناه أعطانا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى اتقوا الله تعالى حق التقوى.
معاشر المؤمنين: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16].(91/2)
تأمل في عظم خلق الله
أيها الأحبة في الله: إن المتأمل في كتاب الله جل وعلا خاصة في ما يتعلق بالنفس الإنسانية التي تدب على وجه الأرض، وما جمعت من الصفات والعجائب في دقيق الخَلق والخُلق ومراحل النمو والتطور، وتعدد الغرائز والحواس، ليجد الخضم المتلاطم في بحر عظيم خلق الله وقدرته، وصدق الله العظيم حيث قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
إن هذه النفس البشرية التي تجادل وتنازع في خالقها وبارئها لهي أكبر دليل على ربوبيته ووحدانيته وكمال قدرته ومشيئته:
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أنت أيها الإنسان لم تكن شيئاً يذكر أو يعرف لولا تقدير الله في خلقك وإيجادك {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
تفكر يا بن آدم! من الذي أوجدك من عدم من ماء مهين في صلب أبيك ثم نطفة في رحم أمك ثم يسر لك السبيل إلى هذه الدنيا؟ إنه الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وصدق الله العلي العظيم حيث قال: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22].
يا بن آدم! من الذي هداك إلى ثدي أمك تشرب منه لبناً خالصاً سائغاً؟ ومن الذي هيأ هذا الثدي بهذه الطريقة الملائمة لخلقك، المتلطفة بضعفك وعجزك؟ إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه وقدر فهدى.
يا بن آدم: من يحفظك في صغرك وشبابك وشيبتك وكهولك وهرمك؟ من الذي يحفظك من مصائب الليل والفلق ومن شرور ما خلق من الجن والإنس والبهائم والسباع والهوام؟ إنه الله الذي يحفظك بحفظه وإرادته، ولولاه جل وعلا لتسلط مارد من الإنس على بدنك ومالك أو شيطان من الجن على عقلك ونفسك، أو حية أو هامة أو غير ذلك يؤذيك في بدنك، ولو أصابك شيء من ذلك لما استقر لك قرار، وما تلذذت بنعيم في هذه الدار، وصدق الله العظيم {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4].(91/3)
تأمل في نعم الله
قف متأملاً في هذه اللطيفة من جليل خلق الله ورأفته بعباده خاصة في هذا الزمان الذي تعددت فيه سبل الراحة والأمان، وتنوعت فيه أسباب الهلاك، هذه السيارة التي تركبها في كل ساعة ولحظة، من سخرها لك؟ تحث حديداً كيفما شئت، وتوقف حديداً متى شئت، من هيأ لك أسباب التمتع بها؟ ومن سخرها في حاجتك؟ ولو شاء ربك لانقلبت هلاكاً عليك وعلى غيرك لعطب أصغر آلة فيها.
هذه الطائرة التي تركبها، من يحفظك فيها وأنت بين السماء والأرض؟ ولو شاء ربك لهوت بك في مكان سحيق، فسبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون.
يا بن آدم! هأنت تتمتع بسمع وبصر وجوارح، من آتاك سمعاً تسمع به، وبصراً تبصر به، وعقلاً تعقل به، ويداً تبطش بها، ورجلاً تمشي بها؟ يا بن آدم! كم من عرق ساكن في بدنك والله لو تحرك ما تلذذت بعيش، وما تهنأت بنعيم.
يا بن آدم! كم من عرق متحرك والله لو سكن لتمنيت الفراق عن الدنيا إن لم تكن فارقتها.
يا بن آدم! تصبح وتمسي معافىً في بدنك، آمناً في وطنك، عندك قوت سنيك ودهرك.
يا بن آدم! أطعمك ربك وسقاك وكفاك وآواك وهداك، ومن كل شيء سألته أعطاك، فهل بعد هذا إلا شكر نعمته، وأن تقول: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي إن تبت إليك وإني من المسلمين.
ماذا بعد هذه النعم التي لا تحصيها ولا تدرك منها إلا القليل؟(91/4)
شكر النعم سبب لبقائها
فتفكروا يا عباد الله! وتذكروا هذه النعم التي تتقلبون فيها مصبحين وفي الليل، وبادروها وقيدوها بالشكر والطاعات، فإن النعم يا عباد الله! كالإبل المتفلتة فاعقلوها بذكر الله وشكره، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الذاكرين الشاكرين.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم شهودٌ عليهم ولا تتهم
وما كان شيءٌ عليهم أضر من الظلم وهو الذي قد قصم
فكم تركوا من جنان ومِن قصور وأخرى عليها أُطم
صُلوا بالجحيم وفاتوا النعيم وكان الذي نالهم كالحلم
إذ تأملتم هذا يا عباد الله! فلينظر كل واحد منا إلى نفسه، ولينظر إلى ضعف نفسه، ولينظر إلى عظيم نعمة ربه، ولينظر إلى جزيل فضل خالقه في هذه النفس الإنسانية على ما فيها من الضعف والجزع والهون وسرعة الزوال والفناء والفراق، كيف تشمخر نفس بني آدم؟ كيف ترتفع وتكابر وتفاخر وتدافع وتنازع؟ وكم تبني من الدور والقصور وتزرع الضياء والبور؟ وفي خضم هذا كله يصيبها الكبر في لذاتها، والعجب في ملذاتها؛ فتغمط الناس حقوقهم وأشياءهم، وتحسدهم على أرزاقهم فيها كأن الدنيا لها وليست لهم، وينسى الواحد شكر نعمة ربه عليه في ما هو ماثلٌ واضحٌ أمام عينه، وكأن الإنسان يقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] فإذا مس هذه النفس طائف من قدر الله بمصيبة صغيرة أو مرض أو فاجعة، تذكر الإنسان وصاح: يا الله! {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس:12] عند هذا يعود، وعند هذا تعود كل نفس، وقبل ذلك كم نسيت من الآلاء التي عقدت على حصولها بالطاعة أصدق العهود.(91/5)
وصف النفس من كتاب الله
يا بن آدم! إذا تكبرت نفسك، وتجاهلت حقيقة قدرك؛ فتذكر أصل خلقتك من أي شيء خلقت؟ هل خلقت من جواهر الجنة أم من خالص ذهب الأرض، أم من ماذا؟ خلقت من ماء مهين، من مني يمنى، من نطفة قذرة، وتحمل في جوفك الخراءة والعذرة، وتدميك بقطة وتقتلك شرقة، فعلام الكبر إذاً؟ {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7].
اقرءوا كتاب الله، وتأملوا قوله عن هذه النفس الإنسانية في مواضع شتى من كتابه الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34] {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:19 - 21] {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15 - 16] وغير ذلك كثير في كتاب الله العظيم، فيه من العظة والعبر والدروس والفكر لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فهل بعد هذا أيها الإخوة! هل بعد اطلاع الإنسان على حقيقة نفسه الإنسانية وضعفها وعجزها وقصورها وفنائها وسرعة زوالها وسرعة تغيرها، هل بعد هذا يبقى في النفوس شيء؟ هل بعد هذا يبقى في النفوس شر؟ هل بعد هذا تحمل النفوس حسداً؟ هل بعد هذا تحمل النفوس أحقاداً؟ كلا، لا والله، من أدرك ذلك وعلمه علم اليقين، علم أنه ضعيف إلا بقوة الله، ذليل إلا بعزة الله، مسكين إلا برحمة الله، ضائع إلا بحفظ الله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(91/6)
بدعة المولد النبوي
الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار.(91/7)
أدلة بدعية المولد
معاشر المؤمنين: نحن في شهر ربيع الأول، وهو شهر قد ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد تعلقت طائفة من أهل البدع والمنكرات الذين يحدثون في الشرع ما لم يشرعه الله، وما لم يشرعه نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعلقوا بيوم المولد هذا فأنشأوا حفلات ومناسبات وأهازيج وغير ذلك، يقولون: هذا احتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم:89] لقد افتروا إثماً عظيماً، أهم أعلم برسول الله من سنته؟ أهم أعلم من رسول الله فيما أوحى الله إليه؟ لو كان هذا المولد خيراً، لو كان هذا المولد شرعاً، لو كان هذا المولد صلاحاً، لقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجعلوا لي في يوم ولادتي أو في يوم ميلادي عيداً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك، ونهى من ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي ترويه عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
هذه الموالد التي يقومون ويطيرون ويصفقون ويطبلون ويتأثرون فيها، أهي أفضل من يوم عرفة؟ أهي أفضل من أيام العشر؟ أهي أفضل من يوم الجمعة؟ أهي أفضل من آخر ساعة من يوم الجمعة؟ أهي أفضل من آخر الليل الذي يتنزل الله فيه نزولاً يليق بجلاله، فيسأل عباده: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل هذا المولد خير من هذه المناسبات وهذه الفرص الخيرة للطاعات؟ لماذا يهملون هذه المناسبات الجميلة التي شرعها الله وخصها بمزيد فضل في العبادة؟ ولماذا يخصون هذا الميلاد بيوم؟ إننا تعبدنا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نتعبد بيوم ميلاده، فلو كان الأمر كما يقولون، ولو فرضنا معهم جدلاً أو على حد زعمهم وخرافتهم وشططهم لكان يوم البعثة أولى بالاحتفال من يوم الميلاد، لكن علمنا بردنا الأمور إلى الله وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذا شيء لم يشرعه الله سبحانه، ولم يأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم نفعله ولن نفعله.(91/8)
ظهور البدعة وانتشارها
أول ما ظهرت هذا البدعة ظهرت من ملك الأردن في القرن الرابع أو الخامس، وكان يسمى" كنكبوي "رأى النصارى يقيمون عيد ميلاد لعيسى بن مريم، فقال: نحن أحق بهذا العيد منهم، فقام وأنشأ هذا العيد وتبعه المبتدعة إلى يومنا وزماننا هذا.
أولئك الذين يقيمون الأعياد أحمق وأشد جهلاً وجرأة على الله وعلى رسوله من ذلك: أنهم ينصبون الأدلة على شرع هذه الموالد، أهم أعلم من رسول الله بسنته؟ أأولئك خيرٌ من خلفاء الله الراشدين الذين هم أعلم بنبينا صلى الله عليه وسلم وبسنته، والذين هم أقرب لنبينا صلى الله عليه وسلم، الذين هم أخذوا شرعه وطبقوه وجاهدوا معه حق الجهاد؟ أأولئك المبتدعة خيرٌ وأعلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل جهله الصحابة وعلمه أولئك المبتدعة؟ هل علمه الصحابة وسكتوا عنه أو علمه أولئك ودعوا إليه؟ لقد افتروا شيئاً عظيماً، وتجرءوا على الله وعلى رسوله، إن ربنا سبحانه وتعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقد أتم الله النعمة وأكمل الدين ورسالة النبي خاتمة مهيمنة، فمن جاء بعد ذلك فكأنه يقول: إن هذا شيء جديد في الدين لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وإن أولئك الذين هم من أهل الموالد يضيفون هذا الأمر الجديد إلى شريعة الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، هذا افتراء وجرأة على الله وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
والعجب العجاب أن هذه الموالد تعطل لها مصالح المسلمين في كثير من البلاد المجاورة، ويجعل لها عيداً كاملاً، وإذا عرفتم وأردتم حقيقة هذه الموالد وأنها لا تقدم في دين الإسلام شيئاً ولا تؤخر وأنها لا تثير في المسلمين حماساً ولا جهاداً، بل هي من تضييع عاطفتهم وحماسهم في شيء من هذه الطقوس والعادات التي لم يشرعها الله، إذا تأملتم ذلك، أدركتم أن أعداء الإسلام لا يعترضون على هذه الموالد، في البلاد التي يحارب فيها الدعاة ويحارب فيها المسلمون ويحارب فيها المصلون إذا جاء يوم المولد سمحوا لمن أراد أن يقيموا مولداً بعيده هذا ومولده هذا، لماذا؟ لأنه في الحقيقة حيلة على عامة الناس الذين في قلوبهم شيء من الغيرة والشمم والإباء، وفي قلوبهم شيء من الآمال والآلام التي سرقها الطواغيت في بلدانهم هناك، فيرون في هذه الموالد شفطاً وسحباً لهذه النقمة التي في نفوسهم، فتضيع في وسط هذا العيد، وبعد ذلك تنقلب حماسات المسلمين، وعواطفهم تجاه دينهم تتبلور وتصب في قوالب هذه الطقوس التي لم يشرعها الله ولم ترد عن نبيه.
هذه الموالد التي يطبلون فيها ويزمرون صدق فيها ابن القيم في ما أورد في كتابه حيث قال:
تُلي الكتاب فأطرقت أسماعهم لا خيفةً لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا والله ما طربوا لأجل الله
دفٌ ومزمارٌ ونغمة شاذن فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهمُ لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
ورأوا أعظم قاطعٍ للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي
في هذه الأعياد وفي تلك البدع يهزون الرءوس ويصفقون ويطربون ويتغيرون ويغنون وما ذاك أمر شرعه الله، وما ذاك أمر أقره الله، بل هو مما نهى الله عنه ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فاحمدوا الله يا معاشر المسلمين! يا معاشر المؤمنين! ألا موالد في بلادكم هذه، ولا أعياد في بلادكم هذه، وإن كان بعض أذناب الصوفية يجتمعون سراً وخفية في السراديب ويقيمون شيئاً من هذه الموالد، لكن ما داموا في درجة من الذل والمهانة والخفية والتستر، فإنهم ولله الحمد في ذلة وفي انكسار وفي سقوط، ولن تقوم لهم قائمة، ولن يقوم لهم رأس بإذن الله جل وعلا ما دام فضل الله قائم علينا، وما دامت شريعة الله تحكمنا، وما دام هذا الحب والإخلاص والوفاء بيننا وبين ولاة أمورنا نمحضهم النصيحة، ونخلص لهم الدعاء، وندين الله جل وعلا بمحبتهم وطاعتهم في المعروف.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة أمورنا بفتنة وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرج وسفور اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك.
اللهم عليك بالإيرانيين الفرس، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، اللهم اجعلهم بدداً، واهلكهم عدداً، ولا تبق فيهم أحداً، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم أنزل سوط عذابك بهم، اللهم اضرب بعضهم ببعض، اللهم اضرب آياتهم بآياتهم، وشياطينهم بشياطينهم، وطغاتهم بطغاتهم، وفجرتهم بفجرتهم، اللهم أهلكهم وأخرج أمة محمد بينهم سالمين غانمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم وفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم سددهم، اللهم وفقهم، اللهم ارزقهم العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم اجعل أعمالهم خالصة لوجهك، اللهم وفقهم لما تحبه وترضاه.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أسيراً إلا فككته برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اسق البهائم الرتع، اللهم ارحم الأطفال الرضع، والشيوخ الركع، اللهم لا تعذبنا بذنوبنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، لا إله إلا أنت الحليم العظيم، لا إله إلا أنت رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم.
اللهم إن عظمت ذنوبنا فإن فضلك أعظم، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكثر وأكبر بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(91/9)
التهاون بترك أمور الشريعة
جاءت هذه المادة لترد على القائلين بتقسيم الشريعة إلى قشور ولباب، مما يفتح باب التهاون بأمور الشريعة، وادعاء أن الإيمان في القلب، والتجرؤ على فعل المحرمات، وأوضح الشيخ وجوب الأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه، ثم بين مفهوم سماحة الإسلام ويسره وخطأ الناس في تفسير هذا المفهوم.(92/1)
وجوب الأخذ بجميع عرى الإسلام وشرائعه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم القيامة، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: تعلمون أنه كلما ابتعد المسلمون عن السنن فإن البدع تقترب منهم بحسب ما ابتعدوا عن دينهم، وما تركوا أمراً حسناً إلا وحل محله أمر قبيح، وهكذا النفوس إن لم تنشغل بالطاعات انشغلت بالمعاصي، وإن من الأفكار السامة الخبيثة التي حلت في قلوب بعض المسلمين المغترين ببريق الحضارة دون معرفة لحقيقة خوائها الروحي، وما تنطوي عليه من ألوان الدمار الاجتماعي والاقتصادي والتسلط السياسي، فكرة خبيثة يرددها بعض الناس ومن الشباب على وجه الأخص، تلكم هي فكرة تقسيم أمور الشريعة وأحكامها إلى قشور ولباب، ومظاهر وحقائق، وتراهم يبنون على هذا تهاونهم بترك أوامر الشريعة وتساهلهم بها بحجة أن الأهم والأعظم أكبر من هذا، وقضية الدين هي العقيدة والإيمان الذي هو في القلب، وأن الشريعة سمحة ميسرة، فلو جادلت أحدهم بالتي هي أحسن أَجْلَبَ عليك بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ، بأحاديث أو بكلام يظنه من الحديث ويفهمه فهماً سقيماً، ويضعه في غير مواضعه، فيقول لك: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وإذا ناصحته أو دعوته أشار بيده إلى قلبه، وقال: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا.
وقد تراه حليقاً مسبلاً، متهاوناً بالصلاة مع الجماعة، مداهناً في أمر دينه، أو متساهلاً في أكل الربا، أو نيل المال بالباطل، ولو دار بينك وبينه حوار وأقمت الحجة عليه بوجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع في العقائد والأحكام لانفض النقاش بينك وبينه، متهماً لك بالسطحية والقشورية وعدم الغور في أصول الشريعة أو إدراك مقاصدها.
وهكذا يا عباد الله! تنقض عرى الإسلام وأحكامه عروة عروة، وكثير منهم يردد من حيث لا يدري أو من حيث يدري تلك الحجج الواهية والأفكار السقيمة التي استوردها من أعدائه جهلاً وغفلة، وصدرها الأعداء إليه حقداً وحسداً ومكيدة، تقول لأحدهم: صل مع جماعة المسلمين، وإياك والربا، أو وفِّر لحيتك وارفع إزارك، أو تنكر عليه صوراً يعلقها في بيته، أو تماثيل مجسمة وأصناماً لأشخاص أو أفراد في مجلسه، أو تحذره من سماع الأغاني الماجنة، أو تنهاه عن شرب الدخان ومجالسة جلساء السوء، ومع ذلك تراه غارقاً في كل هذه المعاصي والمنكرات، ويرد عليك مرة أخرى بكل جرأة قائلاً: لا تكن سطحياً متشدداً أو معقداً، الأمر أهم من ذلك، القضية قضية عقيدة، القضية قضية أمة إلى آخر هذا الكلام الذي لم يدرك حقيقته، ولو أدرك حقيقته لانبعث سلوكه طيباً سليماً من هذه العقيدة التي يدعو أن القضية إليها، والأدهى والأمَرّ من ذلك -يا عباد الله- أن ترى بعض أولئك راضياً عن نفسه، ويجعلها في عداد الصالحين رغم تلك المنكرات التي يرتكبها، ويزيده ضلالاً ووبالاً أنه يشعر بالرضا عن نفسه لماذا؟ لأنه يقارن نفسه بأولئك الذين يشربون الخمر ويسرقون ويرتشون، فيرى نفسه أحسن حالاً منهم، وقد نسي المسكين أنهم إنما وقعوا في الكبائر والفواحش يوم أن تهاونوا بالصغائر وأصروا عليها.
أيها الأحبة في الله: لا يخفاكم أن الذين يدعون هذا الأمر ويتساهلون ببعض أمور الدين بحجة أن التقوى هاهنا، أو أن الشريعة سمحة ميسرة، لا شك أنهم هم المحجوجون بقولهم وما يرددونه بأن مقتضى الإيمان والتصديق العمل والتطبيق، وثمار التقوى التي في القلوب العمل بالمأمور وترك المحظور، والدين كلٌ لا يتجزأ، وليس في الدين قشور ولباب، ويوم أن نصغي لقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: هذا أمر من الله لعباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ومعنى قوله تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: في الإسلام جميعاً كما قال ابن عباس.
وقال مجاهد: أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر، أما دعوى أولئك الغافلين بقولهم: إن الدين والإيمان في القلب، لو سلَّمنا بهذا القول -أن الإيمان في القلب- على إطلاقه لجعلنا فرعون وأبا لهب وغيرهما من الطواغيت في عداد المؤمنين؛ لأنهم يؤمنون بالله، ويوقنون بوجوده وتصرفه في الكون، ولكنهم ضلوا وأضلوا يوم أن تكبروا وتجافوا عن عبادة الله والانقياد له، إذاً فلا يكفي في الإيمان أن يدعيه الإنسان دعوى من دون تطبيق وبرهان صادق على دعواه.
ثم إن الحس والملاحظة يشهدان بالارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن، فمن صلحت سريرته استقامت علانيته، ومن ساءت وحادت عن جادة الصواب علانيته كان ذلك دليلاً على فساد باطنه، وهذا أمر ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة في كثير من كتبه حول كلامه عن هذا الموضوع، وفي اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم بين ذلك رحمه الله بقوله: والأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب بالقلب شعوراً وأحوالاً.
فالمشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].
أسأل الله أن يجنبنا وإياكم التساهل بأمور دينه وأحكام شريعته، وأن يجعلنا من الذين يمسِّكون بالكتاب ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(92/2)
بيان مفهوم سماحة الإسلام ويسره
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن جسومكم ووجوهكم على وهج النار لا تقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعملوا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إن التساهل بأمور شريعة الإسلام وقولنا لبعض الأمور: هذا أمر يسير، وهذا أمر ليس من القضايا الأساسية، وهذا أمرٌ من سماحة الإسلام ويسره قد يتهاون به أو قد يجعله في ضمن الأمور المعذور عنها، جهلاً وفهماً خاطئاً من القائلين بهذا الكلام، إن هذا يجر إلى سقوط عرى الإسلام عروة عروة، وما وقع الناس في المصائب العظمى والبلايا الكبرى إلا يوم أن تركوا شيئاً من هذه الأمور، وتهاونوا واستساغوا ترك الواحدة بعد الأخرى، حتى وقعوا في الأمور العظمى وتساهلوا بالأمور الكبرى، ومن ثم ترى الواحد منهم قد أفلت جانباً كبيراً من جانب الدين بحجة اليسر والسهولة والمسامحة، وإن كثيراً من المسلمين ليفهمون سماحة الدين ويسر الشريعة فهماً سيئاً خاطئاً؛ بعض الناس يظن أن سماحة الدين ويسر الشريعة إنما هي أن يترك الإنسان شيئاً من المأمورات، أو أن يتهاون بفعل بعض المحظورات أو أي شيء من هذه الأمور، كلا والله.
ما أنزلت الشريعة وما أنزل القرآن إلا ليعمل به، إلا ليطبق جملة، وليتقي الله سبحانه وتعالى في فعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، أما ترك بعض الأمور بحجة أن الشريعة سمحة ويسيره، فهذا جهل لا حد له.
إن يسر الشريعة وسماحة الدين يرد في أمور: كقصر الرباعية حال السفر، وكالأكل من الميتة حال المخمصة، وكاستعمال التراب حينما يتعذر استخدام الماء، هذا مما يدل على يسر الشريعة، أما أن يتساهل الإنسان بأمور الدين ويظن أن هذا من يسر الشريعة فهذا جهل عظيم، قال مفتي المملكة الراحل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمة واسعة، وأعلى منازله في الجنة، ونور ضريحه: إن يسر الشريعة وسماحتها أي: أن مفردات الشريعة جاءت على السهولة كقصر الرباعية ونحو هذا، هذا معنى يسر الشريعة -ليس معناه ترك الواجبات، أو فعل المحرمات- بل يجب القيام بما أمر الله به من إقامة الحدود، فإن بعض الجهلة يظنون ويجعلون هذا تشديداً، وهذا من خداع الشيطان وما ابتلوا به، فإن ذلك قد بُين في الأحاديث وقد تبين معنى يسر الشريعة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى: عندما يتضايق الحال كالرخص الشرعية كأكل الميتة حال المخمصة.
انتهى كلامه رحمه الله رحمة واسعة.
واعلموا يا عباد الله: أن دين المرء هو ما يملكه ويقدمه يوم القيامة، فمن تساهل بدينه أقبل على ربه ضعيفاً فقيراً إلى الحسنات قد أثقل كاهله، وحمل عبئاً عظيماً من الأوزار والسيئات، وإنه ينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يعلم أن الأمور مقيدة محسوبة مسجلة عليه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، ويقول جل وعلا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]، ويقول سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فإن من تساهل بأمر دينه فإنما ذلك على حساب نقص حسناته وزيادة أوزاره وسيئاته، فاتقوا الله يا عباد الله واحتاطوا لدينكم.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) فأصلحوا مضغ قلوبكم يا عباد الله! وانتبهوا لأنفسكم، وحاسبوا وراقبوا أنفسكم وأعمالكم، فغداً تقدمون على الله جل وعلا إن شاء الله بأعمال يسركم أن تروها في الموازين بمن الله عليكم وفضله، وتوفيقه إياكم في فعل الواجبات، وترك المحرمات، والعناية بأمر الدين والشريعة، لا التساهل بها.(92/3)
حال المجاهدين في أفغانستان
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان.
عباد الله: نسيت أن أنقل وأزف إليكم بشارة عظيمة محبوبة إلى نفوسكم، أذكركم قبلها بما كان منكم جزاكم الله خير الجزاء من تبرعكم ودعمكم، وبذل أموالكم لإخوانكم المجاهدين، والدعاء لهم في صلواتكم، والقنوت لهم أياماً معدودة في الصلوات، أبشركم بأن عدوهم قد أخزاه الله فانسحب من تلك الموقعة خاسئاً ذليلاً، مهزوماً منكسراً، قد خسر في ذلك عدداً من الطائرات والناقلات والدبابات، وقُتل منهم جمع كثير لا يحصيه إلا الله، كان هذا الانسحاب يوم الخميس أو الجمعة الماضية فالحمد لله رب العالمين، وبهذا دلالة عظيمة على أن الله جل وعلا لا يرد عباده خائبين ولا يردهم محرومين.
انظروا يا عباد الله: يوم أن لجأ المسلمون إلى ربهم ثم قنتوا لإخوانهم وألحوا في الدعاء لهم في صلاة تشهدها ملائكة الليل والنهار، وبذلوا سبباً يدل على المشاركة، ويدل على حب الجهاد بالمال والنفس وغير ذلك، استجاب الله ذلك، والله جل وعلا قادر بكلمة (كن) فقط على هزيمة الكفار، ولكن ليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، فالحمد لله على هذه الحال، ونسأل الله أن يكلل نصرهم وفوزهم بعز أولئك المجاهدين واستلامهم سلطة بلادهم، وأن يطرد الشيوعيين من أرضهم إنه جواد كريم، وبالإجابة جدير، وعلى كل شيء قدير.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين، اللهم مسك إمام المسلمين بكتابك وسنة نبيك، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق يا رب العالمين، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم ربنا أصلحهم على كتابك وسنة نبيك، فإن بصلاحهم صلاحنا، وبفوزهم فوزنا، وبنصرهم نصرنا يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أسيراً إلا فككته.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم من كان حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم نور عليه ضريحه، وافسح عليه قبره، وافتح له أبواباً إلى الجنة.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً طبقاً، نافعاً مجللاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك، فلا تمنعنا بمعاصينا فضلك، ولا تحرمنا بذنوبنا رحمتك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(92/4)
التوسل والوسيلة
خلق الله الخلق ليفردوه بالعبادة دون غيره، لذا كانت عقوبة المشرك من أشد العقوبات، لأنه قد خالف الحكمة العظمى من خلقه، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعثه الله عز وجل لكي يزيل هذا الشرك، ولكن ظهر كفار في زماننا يدعون الإسلام وقد وقعوا في أعظم مما كان عليه المشركون من توسل واستعانة واستغاثة بغير الله، وتركوا النصوص الواضحة الدالة على تحريم ذلك، وغفلوا عن التوسل المشروع، والذي ينبغي للعبد أن يتوسل به إلى ربه.(93/1)
القبوريون ومخالفتهم الشرع
الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله ربه إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله جل وعلا فهي وصية الله لكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، ويقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! مر بنا في الجمعة الماضية ما وقع فيه كثير من الضعفاء والجهلة والمصرين على الضلالة أولئك الذين يعتقدون في القبور وسكانها واللحود ونزلائها، أولئك الذين يعتقدون فيهم دفعاً أو نفعاً أو إجابة دعوة أو كشف كربة، وأولئك لا يملكون لأنفسهم شيئاً قليلاً ولا كثيراً، صغيراً أو حقيراً أو كبيراً، فكيف يدفعون عن غيرهم؟ وكيف يجيبون من دعاهم؟ وكيف يسمعون من ناداهم؟ ولكن ضلال القبوريين المنتسبين إلى طائفة القبورية، ومن حذا حذوهم وسار سيرهم يشركون بالله وهم لا يعلمون، وصدق الله جل شأنه حيث قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] هذا في شأن من يدعون الإيمان، ومنهم من يكفرون بالله جل وعلا على بصيرة.(93/2)
ما يستدل به القبوريون والرد عليهم
وحديثنا اليوم عن التوسل والوسيلة وما كان قريباً منها وفي حكمها من الاستغاثة والاستعانة.
فاعلموا يا عباد الله! أن من ضلال أهل الضلالة، ومن جهلاء أهل الجهالة من يحتجون بكتاب الله على باطلهم، فتجد منهم من يحتج بقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، ويحتجون بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] فيجعلون هذه الوسيلة التي وردت في الآية حجة لهم باتخاذ من يتوسلون بهم من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن الأموات الغائبين المغيبين في اللحود والقبور يجعلون هذه الآية يستدلون بها استدلالاً ضالاً ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويوردون الكلام في غير ما يستدل به، ويحتجون بها لأنفسهم، وقد أجمع العلماء وعلماء التفسير رحمهم الله أن المقصود بالوسيلة في هاتين الآيتين: (العمل الصالح) والمعنى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:35] نداء للمؤمنين، أن اتقوا الله، واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: اطلبوا عملاً صالحاً يقربكم إلى الله جل وعلا.
وكذلك ما جاء في الآية الأخرى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] يبتغون العمل الصالح سلماً لرضا الله جل وعلا، وما سوى ذلك من استغاثة المخلوق بالمخلوق الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو استغاثة المخلوق بالمخلوق الميت فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإن ذلك أمر لا يجوز، بل هو شرك لا شك فيه.(93/3)
أنواع من الاستعانة والاستغاثة الجائزة
والاستغاثة والاستعانة إما أن تكون في أمر يقدر المخلوق عليه فهي جائزة، وإما أن تكون في أمر لا يقدر عليه إلا الله فهي شرك لا شك فيه.
ومن أنواع الاستغاثة الجائزة: ما ورد في كتاب الله جل وعلا: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15] فهذا يستغيث بموسى عليه السلام ليعينه على قتل عدوه.
وكذلك استغاثة الإنسان بمن يعينه على رد صائل أو إطفاء حريق ونحو ذلك، فهذا من الاستغاثة ومن الاستعانة الجائزة، وأما ما سوى ذلك كمن يستغيث بحي في شفاء مرضه، أو يستغيث بحي في تفريج كربته، أو يستغيث بحي في حصول خير له، فإن هذا لا يجوز.
نعم.
الأسباب واردة، والله جل وعلا يقول: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) فإن الإنسان إذا نزلت به كربة فسأل الله جل وعلا أن يدفع عنه وأن يسخر له، ثم طلب سبباً من البشر لوجاهته أو لمنزلته أو لأمر يختص به دون غيره، فقال: يا فلان اشفع لنا عند فلان في أمر يقدر عليه الشافع والمشفع عنده أو المشفوع عنده، فليس هذا من الاستغاثة أو الاستعانة المحرمة، لكن المحرم هو أن يستغيث المخلوق بمخلوق ضعيف مثله في أمر لا يقدر عليه الأحياء، أو أن يستغيث بغائب، فترى رجلاً مثلاً في مكة، وآخر في الرياض، فإذا أصاب الذي في الرياض سوءٌ أو مكروهٌ نادى فلاناً وهو بـ مكة وقال: يا فلان ادفع عنا ما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالحي على ما يقدر عليه إذا كان غائباً فإن هذا لا يجوز أبداً، وهو الذي وقع فيه كثير من هذه الأمة، حيث ضلوا وأضلوا كثيراً منهم بغير علم.
فترى أناساً يستغيثون بالأموات في قبورهم، وأناساً يستغيثون بالأحياء الذين عندهم فيما لا يقدرون عليه ولا يقدر إلا الله، أو يستغيثون بالأحياء فيما يقدرون عليه ولكنهم غائبون عنهم، فحينئذٍ أيها الأحبة ذلك مما لا يجوز، إذ إن الاستغاثة من المخلوق بالمخلوق ومن الحي بالحي في أمر يقدر عليه يشترط له أن يكون موجوداً وأن يكون قادراً على فعل ذلك.
فالله جل وعلا يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قدم اللفظ {إِيَّاكَ} لحصر العبادة لله جل وعلا، وقدم لفظ (إياك) لحصر الاستعانة بالله جل وعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: إذا سألت فاسأل الله).(93/4)
ما يفعله من يعرف حقيقة العبودية عند المصائب
وهنا مسألة جليلة أيها الأحبة: فإن من واجب العبد المتعلق بربه، العارف بحقيقة وحق العبودية أن يسأل الله قبل أن يسأل غيره، فإذا نزل بك مرض من الأمراض وأنت تعرف أن المستشفى بجوارك، فاسأل الله جل وعلا قبل أن تلتفت إلى سبب الطبيب الذي قد ينفع وقد لا ينفع، وقد يوفق إلى الدواء الذي يصيب الداء وقد لا يوفق، وإذا نزلت بك كربة مالية وأنت تعلم أن جارك فلان غني ثري قريب حبيب إليك، لا يتردد في بذل ماله، فقبل أن تسأله اسأل الله جل وعلا، حتى ولو كان الذي بجوارك قادراً على أن يقرضك من ماله، أو يهبك من متاعه، أو ينفعك بجاهه، ولكن تعلق بالله قبل أن تتعلق بخلق الله.
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
أيها الأحبة: إننا نرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا إذا نزلت الحاجة بأحدهم أو حلت بأحدهم الواقعة وهو يعلم أن من عباد الله من يقدر على معونته فيها، تجده أول ما يفزع إلى دليل أرقام هاتفه، أو إلى أرشيف معلوماته وصداقاته وعلاقاته، ثم يقلب الأوراق ورقة ورقة، هذا ينفع وهذا لا ينفع، وهذا ينفع قليلاً، وهذا ندعه للمهمات الملمات، ونسي المسكين قبل أن يتناول الدواء، وقبل أن يلتفت للصديق، وقبل أن يتحول إلى الرفيق؛ نسي أن يسأل الله جل وعلا.
فالواجب علينا تحقيقاً للعبودية أيها الأحبة أن نبدأ بسؤال الله، وأن نحتاج إلى الله قبل الحاجة إلى غيره:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضب
ثم إن الله جل وعلا يحب من تضرع إليه، ويحب السائلين بين يديه، أما العباد فإن أعطوا مرة يسأمون الأخرى، ثم يطردون الثالثة.
سألنا فأعطيتم وعدنا وعدتم ومن أكثر التسآل يوماً سيحرم
وإذا رضيت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتفرد المفضال
اسأل الله قبل أن تسأل عباد الله، واسأل الله قبل أن تسأل خلق الله، وتضرع إلى الله، وتملق إلى الله، وقف واسجد واخشع وتضرع ومرغ أنفك وجبهتك على التراب بين يدي الله قبل أن تقدم على واحد من البشر، خاضع الطرف، مطرق الرأس، تمشي على استحياء خجلاً من عرض حاجتك أمام هذا المخلوق الضعيف، لكن أمامك ساحة العزة وفرصة الكرامة، أن تخضع وأن تسجد لله، وما يدريك لعل الله أن يقضي حاجتك قبل أن تذهب أو تحتاج إلى فلان.
أيها الأحبة في الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف) هذا فيما يتعلق بهذه المقدمة.(93/5)
الفرق بين تكفير المعين وتكفير فاعل الفعل
أيها الأحبة! فإذا علم ذلك وأيقنه المسلم، أدركنا ضلال وجهل بل ربما شرك المستغيثين والمستعينين بغير الله، والمتوسلين بغير الله، بل يقع أحدهم في هذا الشرك إن كان عالماً ويقع الكثير منهم بهذا، أو إعراضه عن العمل بالتوحيد بعد بلوغه، يحقق فيه الشرك.
وهنا مسألة أيها الأحبة! فربما رأيت مخلوقاً ضعيفاً عند قبر من القبور يدعو الله جل وعلا، فلا تعجل بتكفيره، ولا تعجل بإطلاق لفظ الشرك عليه، فهناك أحوال: فقد يكون ذلك السائل عند القبر يدعو الله جل وعلا ولا يدعو القبر، لكنه مبتدع باختيار مكان الدعاء عند القبر، واختيار زمان الدعاء في زمن معين بجوار القبر، فهذا مبتدع ومرتكب كبيرة، وفاسقٌ فسقاً عظيماً، لكن لا يكون مشركاً ولا يكون كافراً إلا إذا اعتقد أن الدعاء لصاحب هذا القبر أو أن الدعاء ببركة صاحب هذا القبر ينفع ويدفع الضر ويجلب الخير، وأنه بالبعد عنه لا يستجاب الدعاء فحينئذ يتحقق، ثم إننا أمة لم يطلب منا أن نكفر الناس بأعيانهم، فهناك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فرق بين تكفير النوع والشخص المعين.
فتقول: كل من دعا غير الله فهو كافر، وكل من استعان واستغاث بغير الله فهو مشرك، ولكن إذا رأيت من يدعو عند القبر أو يتوسل، فقبل أن تقول وأن تشير وأن تحدد أن هذا فلان بن فلان بعينه وشخصه كافر لا بد أن تتثبت من ذلك، إذ قد يكون يدعو الله بجوار هذا القبر معتقداً أنه يدعو الله جل وعلا، ولا يدعو القبر لكنه مبتدع ضالٌ ضلالة كبيرة بالدعاء بجوار القبر، فهذا أمر لا يكفره ولا يخرجه من الملة، فواجبنا أن نتثبت، وواجبنا أن نحذر؛ لأن الفائدة العظمى والنصيحة الأولى هي لأنفسنا ولبيان خطر ذلك على أبنائنا ومجتمعاتنا وذرياتنا ومن حولنا، ويا خيبة أولئك الذين يتعلقون بغير الله! ويا ضلال أولئك الذين يستغيثون ويستعينون ويتوسلون بغير الله، أو بغير أسباب التوسل المشروعة! فـ الرافضة مثلاً يرددون في نشيدهم وحدائهم قائلين:
لي خمسة أطفي بهم نار الحطيم الحاطمة
المصطفى والمرتضى وابناهما والفاطمة
يرددون ما معناه: أن خمسة يرجون بهم أن ينجوا من النار ويكونون في الجنة:
لي خمسة أطفي بهم نار الحطيم الحاطمة
أي: نار جهنم.
الحاطمة: الملتهبة.
المصطفى: ويعنون به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمرتضى: ويعنون به علي بن أبي طالب.
وابناهما: الحسن والحسين.
والفاطمة هي الخامسة.
أولئك يدفعون بهم عذاب الله ويدفعون بهم النار، كيف يفعلون ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كام أمره الله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [الأعراف:188].
فالله جل وعلا قد بين على لسان نبيه وجاء هذا في كتابه أن النبي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا، بل يقول صلى الله عليه وسلم: إن هدايته ببركة ما أوحى الله إليه، فقال جل شأنه على لسان نبيه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ فاطمة: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أملك لك من الله شيئاً).
والله جل وعلا قد بين هذا الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم في مواقع كثيرة، فلو كان يملك من الأمر قليلاً أو كثيراً لما قال الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128]، وقال الله جل وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وقال الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113].
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك لنفسه أو لذريته أو لمن يريد هدايته أو لمن يريد الاستغفار له، لو كان يملك في هذا قليلاً أو كثيراً، لنفعه ولم يرد في القرآن ما يدل على أن ذلك ليس له صلى الله عليه وسلم، فدلالة النبي دلالة الإرشاد، وأما دلالة الهداية والتوفيق فهي دلالة من عند الله جل وعلا.
وإذا نوقش بعض هؤلاء الضّلال، قالوا: إنا لا نعبد من نتوسل به، ولا نعبد من نستغيث به، ولا نعبد من نستعين به، وإنما نجعله بجانب الله، وذلك والله هو عين كفر الجاهلية الأولى الذين يقولون في الأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] إن مشركي قريش وكفار الجاهلية ما قالوا: إن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هم الذين خلقوا، وما قالوا هم الذين يميتون، بل قال الله جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ولكنهم يعتقدون شيئاً من بركة ونفع وشفاعة هذه الأصنام عند الله جل وعلا، ومع ذلك ما عصم ذلك دماءهم ولا أموالهم ولا أعراضهم من أن يقاتلوا وأن تسبى ذراريهم وأن تؤخذ أموالهم.
فإذا أدركت ذلك، تأمل قول الله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]، وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] فضعفهم مع اجتماعهم كضعف الذبابة في هوانها وحقارتها.
فإذا تأملتم هذا يا عباد الله! كيف يتعلق مخلوق بمخلوق؟! كيف يتعلق بشر ببشر؟! كيف يتعلق ضعيف بضعيف؟! كيف يتعلق مسكين بمسكين؟! كيف يتعلق حقير بحقير؟! والله إن التعلق بالبشر هو غاية الضلالة والهوان، وأما الكريم الشريف العزيز في نفوسنا حبيبنا الطاهر المطهر نبينا صلى الله عليه وسلم فتعلقنا به هو بحبنا لشخصه صلى الله عليه وسلم، وتعلقنا به هو باتباعنا أمره حيث نهانا أن نعتقد في شخصه نفعاً وضراً بعد موته، وتعلقنا به أن نتبعه استجابة لما أمرنا به: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ومن أحب الله أحب نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة.(93/6)
حماية النبي لأصحابة من الشرك
أيها الأحبة! إن المتأمل في نصوص السنة يدرك أن خطر التعلق بغير الله حتى ولو كان تعلقاً فيه أدنى شبهه يفضي إلى الشرك بل قد يكون شركاً أعظم، فعن أبي واقد الليثي -والحديث في الصحيح- قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون -أي يعلقون بها أسلحتهم- فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط!) أراد الصحابة فقط، أراد أولئك الذين كانوا حديثي عهد بكفر، أرادوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يعلقون بها سيوفهم لاعتقادهم النفع فيها، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ((اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) [الأعراف:138]).
وهؤلاء تكون أعمالهم كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] إن أعمال كثير من الناس في عددها قد تكون أكثر من عمل بعض الصحابة والتابعين، أقول في عددها لكن أعمال كثير من الصحابة والتابعين على قلتها فيها من التعظيم، وفيها من الإخلاص، وفيها السلامة من الشرك، وفيها التعلق بالله، وفيها التوحيد النقي الخالص الذي لا يتطرق إليه ذرة أو شعيرة أو قليل أو كثير من التعلق بغير الله سبحانه، فحينئذٍ بفضل الله وبرحمة الله نفعتهم أعمالهم، وكثير من العباد قد يحبط عمله وهو لا يدري، بل كان الصحابة يتعلقون بالله ويرجون الله ويخشون مع أعمالهم ولا يدلون بها على الله، يخشون من عذاب الله.(93/7)
خوف أبي بكر على نفسه من المعاصي
كان أبو بكر الصديق يبكي وهو يرى عصفوراً يطير من غصن إلى غصن، ويقول: [هنيئاً لك يا طير! تطير من غصن إلى فنن، ثم تموت لا حساب ولا عذاب] وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] ذكره الله في القرآن، وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] سيجنب النار، مبشراً بالجنة، ومع ذلك يبكي ويخشى ويخاف ويرجو رحمة ربه ويخشى عذابه، {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21] أي بشارة ل أبي بكر أن يقول الله له: (ولسوف ترضى يا أبا بكر) إذا أرضاك الله فمن يسخطك؟! إذا أغناك الله فمن يفقرك؟! إذا أمنك الله فمن يخوفك؟! (ويقول أبو بكر لما سمع قول الله جل وعلا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] فيقول أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أسعد من يقال له هذا؟ فيلتفت الحبيب إلى رفيقه الصديق، ويقول: يا أبا بكر! إنك ممن يقال لهم هذا) يا أبا بكر! إنك ممن يقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
وليس الأمر كما نراه الآن في كثير من الصحف والجرائد والمجلات إذا مات ميت، وقد يكون من الفساق، وقد يكون من الفجار، وقد يكون من مستوري الحال، وقد يكون من الصالحين، وقد يكون من الذين لا يشهدون الصلاة، ثم يكتب تحت نعيه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28] وما أدراكم أنها اطمأنت؟ وما أدراكم أنها رجعت إلى ربها راضية مرضية؟ فهذا من الجهل، وهذا من الضلال، وهذا من الخطأ الذي يقع فيه كثير من الناس.(93/8)
النصوص الدالة على تحريم الشرك
أيها الأحبة! أخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد لا بأس به عن عمران بن حصين رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلاً بيده حلقة من صفر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما هذه؟ قال الرجل: من الواهنة، فقال صلى الله عليه وسلم: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ولو مت وهي عليك ما أفلحت).
وأخرج أيضاً عن عقبة بن عامر مرفوعاً: (من علق تميمة فلا أتم الله له، ومن علق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من علق تميمة فقد أشرك).
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: [أنه رأى رجلاً في يده خيط -خيط للحمى- فقطعه وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]] وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه: (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولاً ألا يبقى في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت).
وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك).
وأخرج أحمد والترمذي عن عبد الله بن حكيم مرفوعاً، أي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق شيئاً وكل إليه).
وأخرج أحمد عن رويفع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه).
فانظروا يا عباد الله! كيف جعل الرقى والتمائم والتولة شرك، وما ذاك إلا لكونها مظنة أن يصحبها اعتقاد أن لغير الله تأثير في الشفاء من الداء وفي المحبة والبغضاء، فكيف من توسل بغير الله؟ وكيف من طلب غير الله؟ وكيف من ناجى غير الله؟ ولا يسلم للعوام قولهم: نحن لا نعبدهم وإنما نستعين بهم.
أسأل الله جل وعلا أن يحقق لنا ولكم التوحيد النقي الذي يرضي ربنا عنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا غير مبدلين ولا مشركين ولا مغيرين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(93/9)
الأمور التي يتوسل بها إلى الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
إذا علمنا أيها الأحبة! أن التعلق بغير الله في كبير وصغير واعتقاد أن غير الله يدفع أو ينفع، فهذا من الشرك، آن الأوان للشروع في المقصود وأن نعلم أنه لا يتوسل إلى الله إلا بواحدة من ثلاث:(93/10)
الأولى: أن يتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته
وهي أجل وأسمى وأنفع وأفضل أنواع التوسل، وفيها توحيد المسألة، فتقول: يا رحمن ارحمني.
تتعلق برحمة الله طالباً من ربك الرحمة، فأنت تتوسل بأسماء الله وصفاته، وتقول: يا منان مُنَّ علي برحمتك، ويا غفور اغفر لي، ويا جبار امنعني، واحفظني ممن أراد بي سوءاً، ويا قيوم أسألك الفوز بالجنة، وهكذا أن تسأل الله بأسمائه وصفاته، وإذا سألت ربك مطلوباً فاسأله باسم يوافق هذا المطلوب ليكون أدعى إلى تحقيق المسألة.(93/11)
الثانية: أن يتوسل إلى الله بالعمل الصالح
فتقول: اللهم إني أسألك بصيامي شهر رمضان، ما نظرت فيه إلى محرم، وما استمعت فيه غيبة، واجتهدت في الصلاة خلف الإمام، وما انصرفت من التراويح إلا مع الإمام، أسألك اللهم إني عملت ذلك خالصاً لوجهك أن تحقق لي ما أرجو، تقول ذلك سراً بينك وبين الله، تتوسل إلى الله بعملك، فإن هذا من التوسل المشروع.
ودليله ما جاء في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوا وباتوا فيه، فانحدرت صخرة من الجبل فأطبقت عليهم الغار، فقال بعضهم لبعض: إنه لن يخرجكم ولن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال الأول: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكنت أراودها فتتمنع علي، فجاءتني في عام سنة وجدب وقحط وطلبت مني المال، فقلت لها: لا أعطيك المال حتى تمكنيني من نفسك، فقبلت محتاجة، ثم إني لما دنوت منها، وتمكنت منها تمكن الرجل من زوجته، وقبل أن أفعل بها بكت وقالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها خوفاً منك وخشية لك، اللهم إني إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وخوفاً منك ورغبة فيما عندك فافرج عنا ما نحن فيه، وهي حال عجيبة أن يكون الإنسان في ذروة تلبسه بالمعصية وقبل الشروع المباشر في حقيقتها، يخوف بالله، فينزعج ويضطرب خوفاً من الله ويترك ما هو عليه.
قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك وخوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً عن الغار، إلا أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منه.
فقال الثاني: اللهم إنك تعلم أن لي والدين لا أغبق قبلهما ولداً ولا صاحباً، وإني خرجت عشية في طلب الغبوق فتأخرت عليهما، فجئت ووالدي قد ناما، قد باتا، والصبية يتضاغون يبكون يصيحون يتصايحون من العطش والجوع فقلت: والله لا أغبق قبل والدي ولداً ولا صاحباً، فترك الصبية يبكون براً بوالديه ألا يغتبق أحد قبل والديه.
انظروا بركة بر الوالدين يا عباد الله! وليسمع هذا أولئك الذين يبرون في زوجاتهم ويعقون آباءهم وأمهاتهم، وليسمع هذا أولئك الذين يتهربون عن والديهم ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم، متى؟ في وقت العطاء والخير، حينما يقبل خير الفتى ويدبر شره، ويكثر صلاحه ويقل فساده، يقع في فساد عظيم يدبر عن والديه، ليتخلى ويتفرد بابنة الناس ليعطيها بره وخيره، ويغفل عن والديه الأيام والليالي ذوات العدد، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال: فإني ما غبقت قبلهما ولداً ولا صاحباً، حتى أصبح والدايَّ فاغتبقا وشربا من الحليب، ثم بعد ذلك أطعمت زوجي وولدي، اللهم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.
توسل إلى الله ببره بوالديه، والأول توسل إلى الله بتركه المعصية.
فانفرجت الصخرة شيئاً أكثر من الأول إلا أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منه.
فقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً فولى ولم يقبض أجرته، ثم إني نميتها وحفظتها له، فجاء إليَّ بعد زمن وقال يا فلان: أعطني أجرتي؟ فقلت: أتنظر ما في هذا الوادي من النعم أو من المال؟ فقال: نعم، فقلت: هذه أجرتك فخذها، فقال: أتهزأ بي؟ أتسخر بي؟ لأن الأجير ذهب وأجرته شيء قليل، لكن ذلك نمّى الأجرة وحفظها لصاحبها، وقال: هذه أجرتك خذها واستقها، فأخذ الرجل أجرته داعياً وشاكراً، قال الثالث: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة حتى خرجوا جميعاً.
فانظروا بركة التوسل إلى الله بالعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم قص هذه القصة لأصحابه، ولو كان التوسل إلى الله بالأنبياء أو بالصالحين أمراً مشروعاً لقال: توسلوا إلى الله بي بعد موتي، أو لقال صلى الله عليه وسلم: توسلوا بحبيبي أبي بكر الصديق، وتوسلوا بشهيد المحراب، والإمام الأواب عمر بن الخطاب، ولكنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم أن التوسل يكون بالعمل الصالح، ولو كان التوسل بالأنبياء أو بذاته أو بشخصه أو بجاهه، كما يقول كثير من الناس: أسألك بجاه النبي، أسألك بجاه النبي، أسأل الله جل وعلا، وإن كنت صادقاً في حب النبي فاتبع ما يقول النبي ولا تتقدم عنه ولا تتأخر.(93/12)
الثالثة: أن يتوسل العبد إلى الله بدعاء رجل صالح
فهذا يدخل في أحكام التوسل، وشاهده ما كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما أجدبوا وقحطوا وأصابتهم السنة، قال عمر بن الخطاب وقد خرجوا يستسقون: [اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإن نبينا قد مات، اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبينا، قم يا عباس فادع الله لنا!].
ففي هذا بيان أن الدعاء نوع من الوسيلة، وأن الداعي لا يعطي من نفسه، وإنما يدعو الله جل وعلا، فأنت إذا كانت لك حاجة وعرفت رجلاً من الصالحين، وقلت له: يا فلان ادع الله لي أن يرزقني ذرية، ادع الله لي أن يبارك في مالي، ادع الله أن يرزقني حفظ القرآن، فذلك يدخل في حكم التوسل المشروع، وأما ما سوى ذلك فممنوع لا يجوز أبداً، وقد احتج من احتج بما ذكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وقالوا هذا إمام التوحيد يقول في آداب المشي إلى الصلاة في أن الماشي يقول في طريقه: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، أني ما خرجت بطراً ولا أشراً، فيقولون: إنه ذكر الحديث، مع أن في الحديث ما فيه، أو قد تكلم فيه، ولكن لو صح واستدل به ففي ذلك دلالة على أن ما ورد في الحديث هو توسل إلى الله بأسمائه وصفاته لأن حق السائلين على الله إجابتهم، وإجابة الداعي صفة من صفات الله، وحق العابدين على الله أن يجيب دعاءهم، فحقيقة التوسل هنا هو توسل إلى الله بما يفضي إليه هذا الحق من السائلين وهو الإجابة، فلا حجة لمن أراد أن يستدل بهذا على جواز التوسل ببشر، أو بجاه بشر، أو بحق بشر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً ومناً وغفرانا، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في البوسنة والهرسك، اللهم انصرهم وأيدهم وثبتهم، وانصرهم على عدوهم، اللهم أهلك الصرب أعداءهم، اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم ارحم المستضعفين في كل مكان، اللهم فرج عن أهل الزنازين، اللهم فرج عن المستضعفين والمحبوسين والمأسورين، اللهم فرج لهم، اللهم انقطعت بهم السبل ولا سبيل إلا ما عندك يا حي يا قيوم، اللهم نزل عليهم فتحاً من عندك، وثبتهم بتثبيتك، وأيدهم بتأييدك، وارحمهم وفرج عنهم ما هم فيه يا رب العالمين.
ربنا لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أيماً إلا زوجته وأسعدته، ولا ضالاً إلا هديته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم خذ بأيديهم إلى ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، يا حي يا قيوم.
اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه وسلم.(93/13)
الحزم أو الضياع
الحزم أو الضياع عنوان شمل العديد من الموضوعات المهمة في هذه المادة، منها أهمية الحزم والعمل، وأنه أصل من أصول الدين، وأنه مجلبة لاحترام الآخرين، وأنه مطلوب في جميع الجوانب.
وقد تحدث الشيخ عن كيفية اكتساب الحزم والذي بدونه ستئول الأمة إلى الضياع، وختم هذه المادة بذكر بعض صور ضياع الحزم.(94/1)
سبب طرق موضوع (الحزم والضياع)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك السداد في القول، والإخلاص في الفعل، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، وآتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفي مستهل هذا اللقاء الذي أتشرف بلقياكم فيه -وأسأل الله جل وعلا أن يجعل جلوسكم والقول بين أيديكم خالصاً لوجهه الكريم- أود أن أزجي الشكر مثنى للقائمين على هذا القطاع المهم الحيوي المتعلق بأمور الشباب، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل عملنا وعملهم خالصاً لوجهه، وأخص بالشكر الأستاذ: ناصر المجحج مدير مكتب رعاية الشباب، والمسئول عن هذه الأنشطة وهذا القطاع المهم، أسأل الله جل وعلا أن يجعله من الدعاة إلى دينه، وأن يجعله مباركاً أينما كان، وأن يوفقه وأمثاله وكل مسلم إلى فعل الخير والدعوة إليه وتسهيل أمره.
أيها الأحبة: تعلمون أني لست بشاعر ولكني أحب مداعبة الشعراء والسامعين بشيء من الحديث، وفي الطريق أخذت أهمهم وأنمنم بكلمات تجول بخاطري أقول فيها:
الحزم وسط المعمعة على جبين المجمعة
والجد حال المعضلات يبغي اليقين أجمعه
يا فتية الحق اعملوا وليس فيكم إمعة
إنا نروم وثبة شما بغير جعجعة
فلينأ عن درب الهدى من هاب أرض المسبعه
كل جبان لا يجيـ ـد اليوم إلا الفرقعة
وليرق نحو المكرما ت رضيع مجد أكتعه
بلاؤنا من فارغ في كل جمط لمعه
فحقه يا إخوتي كسوته بالبردعة
والبردعة: كساء يوضع على ظهر الحمار.
فإن أبى معانداً لا بأس في أن نصفعه
أيها الأحبة: أما الحديث في هذه الكلمة فموضوعه: (الحزم أو الضياع) ولعل المعنى واضح من العنوان، والداعي إلى طرق هذا الموضوع: أنني رأيت عدداً لا يستهان به من الشباب لا هم لهم إلا التسكع في الشوارع، والتجوال في الطرقات، والجلوس على الأرصفة، وتبادل الأنفاس المشحونة المليئة بسحب الدخان، واجترار الأحاديث التي لا فائدة منها، وتناقل الأقوال التي لا طائل من ورائها، والحقيقة أن نفس كل غيور حينما يرى هؤلاء الشباب يتسكعون على أقدامهم، أو يتجولون بسياراتهم، أو يجلسون على الطرقات والأرصفة، لا هم لهم إلا الدندنة والطنطنة والحملقة بالأبصار في الغادين والرائحين، والغاديات والرائحات، أن القلب والله ليتقطع أسى، وإن الفؤاد ليتألم من شدة ما يرى من مصيبة الأمة في هؤلاء المتسكعين، ومصيبة الأمة من هؤلاء الضائعين، في مصيبة الأمة من هؤلاء الفارغين، الذين لو كانوا عناصر فعالة، أو مواهب منتجة، أو طاقات واعدة لرأينا فيهم خيراً، لكن البلاء كل البلاء أن بعضاً من أولئك كالأنعام؛ يأكلون ولا ينفعون، ويستهلكون ولا ينتجون، وأمة الإسلام تنحر وتذبح، والجرح نازف، والدماء تسيل، والرقاب تقطع، والحوامل تجهضن، والأعراض تنتهك، والبيوت تدمر، والمدن يشرد أهلها منها، ولا حرمة لمسلم.
وأنتم ترون هذا كله جلياً فيما نسمعه، ونراه ونقرؤه، وينقل لنا عن أحوال إخواننا في البوسنة والهرسك، وهو مثال من الأمثلة، إذ ما هو في كشمير ما هو أفظع وأشد من هذا، لكن وسائل الإعلام لم تلتفت إليه، وفي بورما ما هو أشد من هذا ووسائل الإعلام لم تلتفت إليه، ولا حجة لنا أن نتعلل بأن وسائل الإعلام لم تطرح هذا، وليس بحجة للمسلم أن يقول: إن هذا أمر لم تطرحه الوسيلة الفلانية، إذ أن الأصل في كل مسلم أن يهتم ابتداءً لا أن نطالبه بالاهتمام بعد بلوغ الخبر، إذ بعد بلوغه الخبر عن أحوال المسلمين لا عذر ولا حجة له ولا يقبل منه قول أبداً، لكن المطلوب أن يبدأ الاهتمام ابتداءً، وأن يكون الباعث هو الغيرة على أحوال المسلمين وأعراضهم.
أيها الأحبة في الله:
أتسبى المسلمات بكل أرض وعيش المؤمنين إذاً يطيب
فكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب
وكم من مسلم أضحى سليباً ومسلمة لها حرم سليب
دم الخنزير فيه لهم خلوق وتحريق المصاحف فيه طيب
أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه في الدين النحيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
أيها الإخوة! هؤلاء الذين نراهم يتسكعون ويدورون لو أن مع كل واحد منهم بندقية، أو لو أن في كل منهم نفساً أبية لما وجدناهم بهذه الحال، مسلم يقتل، ومسلم ينتسب إلى الإسلام، ولا هم له إلا المعاكسة والمغازلة!! مسلم يذبح ومسلم آخر لا هم له إلا النوم على الأرصفة!! مسلم ينتهك عرضه وآخر لا هم له إلا أن يلاحق آخر فيلم خرج وآخر تمثيلية خرجت، وآخر نجم اعتزل، وأول ممثلة ودعت أو غيرت؟!! هذه والله بلية ومصيبة، ولكن أيها الأحبة: هو الحزم أو الضياع، النفس الإنسانية بطبعها ميالة إلى الراحة والكسل، وقديماً قال القائل:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصح فافتهم
ولا تطع منهما خصماً ولا حكماً فأنت تعرف كيد الخصم والحكم(94/2)
الحزم في العمل
أيها الأحبة: إننا لا ننتظر أن تقودنا أنفسنا بطبعها إلى الجد والمكرمات، والمعالي والحزم والقمم، والشجاعة والكرم، والتدين والالتزام والاستقامة، هذه درجات لا يبلغها أحد إلا بالمجاهدة؛ فلكي تكون كريماً لا بد أن تجاهد النفس في بذل المال، ولكي تكون شجاعاً لا بد أن تجاهد النفس في الاستهانة بالموت، ولكي تكون طالب علم لا بد أن تجاهد النفس في سهر الليل بالقراءة والكتابة والمراجعة، ولكي تكون نافعاً لا بد أن تفوت كثيراً من الملذات والمباحات من أجل أن تبلغ هذه القمة التي تريدها.
أما أن يريد الإنسان أن يكون قمة بدون بذل، ويريد أن يكون رأساً بدون سعي، ويريد أن يكون جبلاً بدون همة، فذاك كما قال القائل:
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا
أم الوليد امرأة تقول لأحدهم: لو تكرمت انظر لي جملاً يمشي ببطء -مثلما يقال: على أقل من مهله- ولكن يصل أول واحد.
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجي أولا
لا يمكن هذا! تريد كسلاً ونوماً، ومتابعة للنفس؛ النفس تريد مشاهدة فيلم فشاهد فيلماً، النفس تشتهي جلسة مع شباب ضائعين فارغين فتجلس معهم، النفس تشتهي أن تشبع من النوم فتدعها تشبع من النوم، ثم تطالب النفس أن تكون نفس كريم، ونفس شجاع، ونفس داعية، أو نفس معلم أو نفس عالم، هذه مسألة صعبة جداً.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
المسألة: كل يتمنى أن يكون عالماً، لكن من فاز بالعلم؟ أولئك الذين رأوا فيلماً فأعرضوا عنه وسهروا الليل على القراءة، كل يتمنى أن يكون تاجراً لكن من نال التجارة؟ ذاك الذي هجر الفراش وقام مع الطير: قام مع الطيور صباحاً، وأخذ يسعى في طلب الرزق، ولم يؤب إلى بيته إلا حينما أعشاه المبيت.
كل يتمنى أن يكون طبيباً جراحاً، لكن الذي لا يريد من التخصصات إلا أدناها ومن الهمم إلا أقلها، وتجده يغيب في الأسبوع ثلاثة أيام، واليومين الآخرين لا يحضر إلا من الساعة التاسعة والنصف، ويجلس في آخر الفصل، وتقديراته مقبول وأقل من مقبول أو راسب ضعيف، ويريد بعد ذلك أن يكون طياراً، أو أن يكون طبيباً، أو أن يكون أستاذاً، وآخر يريد أن يتفوق في العلوم الشرعية ولكن قد أشغلته المباريات الأولمبية وكأس العالم، لا يا أخي.
المسألة لو كانت بالتمني لرأيت كل من حولك علماء، وسادة، وقادة، وأساتذة، وأطباء، وموجهين، ولكن من فاز بهذه الأماني؟ من أمهر الأمنية عملاً، الأمنية: عروس يبذل مهرها بالجد والاجتهاد، والعمل والمثابرة، فمن حزم أمره، وجمع همته، واجتهد في قصده وجد الخير بإذن الله.
ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد
أيها الأحبة: ينبغي أن نعرف جيداً أن الحزم أصل من أصول الدين، الله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، وقال جل وعلا: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] إذا أردنا أن نكون أمة ملتزمة مستقيمة، وأردنا أن نكون شباباً على مستوى من العلم والفهم والوعي، والتأثير والإفادة، وتحريك طاقات المجتمع ونفع المسلمين لا بد أن نأخذ الأمور بحزم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] فلا نريد مسلماً يأتي يقول: أنا مسلم لكن هذه المسألة يقول الطنطاوي الذي في مصر: إنها مختلف فيها، والمسألة هذه يقول الباقوري الذي في لبنان: إنها مختلف فيها، والمسألة هذه يقول الفاخوري الذي في موزمبيق: مختلف فيها، والمسألة هذه يقول فلان الذي في السلفادور: مختلف فيها، إذاً اختر من الدين أربع مسائل تمسك بها وضيع بقية مسائل الدين؛ لأن هذه فيها خلاف، وهذه فيها أقوال، وهذه فيها سين وجيم، ومن ثم لا تتمسك من دينك إلا بشيء قليل، وضيع ما بقي من دينك بحجة الرخص التي أفتى بها فلان وعلان، وقديماً قال الفقهاء: (من تتبع الرخص تزندق).
وإني أعجب -أيها الإخوة! - من رجال وشباب يوم أن تناقشهم في أمر من أمور الدين، يقول أحدهم: يا أخي! ليس في الدنيا إلا مشيختكم في نجد أو في المملكة؟! هناك شيخ في الديار الفلانية يقول: هذا ليس فيه شيء، وهناك شيخ أفتى أن الربا حلال، وهناك شيخ يقول: المرأة أن تكشف وجهها وتخرج مع السائق حلال، وهناك شيخ يقول: ليس من داعٍ أن تصلي مع الجماعة صلِّ في البيت حلال، وهناك شيخ يفتي أن الربا في القروض الإنتاجية حلال، وهناك شيخ يقول: كذا وكذا،
و
السؤال
افرض أن عندك سيارة من السيارات الفارهة الفاخرة، ولتكن من نوع (لكسز) وحصل في هذه السيارة عطب أو خراب أو خلل، هل تتوقع أن صاحب هذه السيارة التي أعدت وصنعت على أعلى مواصفات التقنية والتطور، والكفاءة والأداء فهل تظنون أن صاحب السيارة يذهب بها إلى بنشري، ويقول: ما هو رأيك في السيارة هل فيها خراب؟ أو يذهب بها إلى إنسان تخصصه دراجات نارية (سوزوكي) أو (هوندا)؟ لا يذهب إطلاقاً، هذه اسمها (لكسز) ولا يمكن لأي مهندس أن يعبث فيها، ولا يمكن لأي واحد حتى ولو كان تخصصه سيارات يابانية أو أمريكية أو سويدية أن يعبث بها محاولاً إصلاحها، لا.
القضية تحتاج أن يذهب بهذه السيارة الثمينة إلى الوكيل المعتمد، إلى الوكالة، فإن الوكالة التي صنعت هذه السيارة أدرى بما يصلح لها، وأدرى بالشيء الذي ينفع لها حين خرابها.
كذلك إنسان لو أصابه تسوس في سن من أسنانه، أو يريد حشو عصب، أو مشكلة من مشاكل الأسنان، هل يذهب ويطرق على ولد الجيران الذي يدرس في المعهد الصحي الثانوي، ويقول: تعال أصلح لي أسناني؟ وهو أيضاً لا يقبل أن يذهب إلى إنسان يدرس في سنة أولى أو سنة ثانية طب أسنان، يقول: لا.
هذا سن مهم، لا بد أن أذهب إلى المركز التخصصي للأسنان، الذي فيه أفضل الخبرات التي استوردت، وتعمل على أحدث أساليب علاج وطب الأسنان.
فلما جئنا إلى السيارة ما قبلنا أن يصلح فيها أي واحد، بل ذهبنا إلى الوكيل المعتمد والوكالة التي صنعت هذه السيارة، ولما جئنا إلى سن من الأسنان ذهبنا إلى مركز متخصص في الأسنان، لكن لما جئنا إلى مسألة الدين تلقى الواحد يقابل له واحداً في سوق الخضرة يبيع فجلاً، يقول له: ما هو رأيك في هذه المسألة: حلال أم حرام؟ يقول له بائع الفجل: لا.
هذه حلال، يقول له: (الله يوسع عليك هذا الشيخ وإلا بلاش).
فتجد من الناس العجب في أمر نفسه، وفي أمر سيارته لا يقبل إلا كلام المتخصصين الوكلاء المعتمدين، وأما في أمر الدين فإنه يقبل قول من هب ودب، هل هذا أمر يقبل؟! سبحان الله! لما كان أمر الدنيا ما قبلت إلا أعلى المستويات خبرة وعلماً في الإجابة عنها، ولما جاء أمر الدين جئت تقول لي: قال فلان الفلاني في مصر، وإلا في السودان، وإلا في البلد الفلانية: هذا حلال! سبحان الله العلي العظيم! لماذا لا تأخذ بقول الشيخ ابن باز، الذي لا نعلم على وجه الأرض أتقى وأعلم بالله ولله منه إلا من لا نعلم، المهم هؤلاء الأتقياء ينبغي أن يؤخذ منهم الدين كما أنك ترجع إلى الوكلاء في أمور دنياك.(94/3)
الحزم أصل من أصول الدين
أيها الأحبة: أقول: إن الحزم أصل من أصول الدين، والله جل وعلا قال: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] أي: اعملوا بالإسلام في كل جوانبه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] والآية الأخرى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] يأخذون شيئاً من الدين ويتركون غيره ثم بعد ذلك يقولون: إن الله غفور رحيم.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد) الرشد والرشاد، والخير والفلاح يحتاج عزيمة، يحتاج قوة، يحتاج نفساً قوية جداً.
وإن كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الأمر أن تترددا(94/4)
الحزم والجد مجلبة للاحترام
أيها الأحبة: إن من سنن الله أيضاً: أن الجد والعمل نتيجته محمودة، فلو أن مائة عامل مسلم كل منهم يصوم الإثنين والخميس ويتهجد الليل؛ لكنه كسول بطال، ومائة عامل بوذي كافر لكن يعملون في الصباح والمساء لأنتج البوذيون عملاً ينفعهم، ولم يستطع ذلك المسلم أن ينفع نفسه بشيء، كثير من الناس يخلط بين قضية التدين والعمل، أو الاستقامة والسلوك والعمل، انظر يا أخي الكريم! فيما يتعلق بسلوكك الشخصي، هذا أمر ترجو به الجنة وتنجو به من النار بإذن الله جل وعلا، وترجو به رضا الله، لكن لا يلزم إذا كنت متديناً أن تفتح لك أبواب السماء ذهباً وفضة.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء رجل يسأله وأعطاه درهمين أو أقل أو أكثر، فقال: (لو أن أحدكم اشترى حبلاً فاحتطب فباع خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) ما قال النبي: أنت من الصحابة ولن يضيعك الله وسيَنزِّل عليك رزقاً من السماء، لا.
القضية قضية العمل، العمل للإسلام مطلوب، والعمل بجدية مطلوب، ومن هنا أطالب كل الشباب المسلم؛ ولا أخص الملتحي وأترك الحليق، أو أخاطب الذي لا يدخن وأترك المدخن، أو أخاطب الذي اتبع السنة في ثوبه وأترك المسبل، أقول: نحن جميعاً يا معاشر الشباب المسلم! سواء فينا السابق بالخيرات؛ المهتم المعتني بالطاعات، أو الظالم لنفسه بالمعاصي، أو المقتصد، أخاطب الجميع بأن يجدُّوا في أعمال دنياهم، وأن يجدوا قبل ذلك في أمر دينهم، لا أن تظن أن كونك تدينت أو التزمت واستقمت فإن المسألة قد انتهت، لا.
ولذلك قال عمر: [إني أرى الرجل فيعجبني فأسأل هل له من عمل فيقال: لا.
فيسقط من عيني] لأنه عنصر مستهلك في المجتمع؛ ولا ينفع ولا ينتج.
لذلك -أيها الأحبة! - ينبغي أن نؤكد جيداً أن مسألة الجد والصبر والعمل ينتج في العامل أياً كان نوعه؛ يهودياً، أو نصرانياً، أو بوذياً، ولا تظن أن السماء سوف تنفتح لك، لا بد أن الله جل وعلا وعد المتقين بالخير لكن مع بذل الأسباب، ولو كان مجرد الإسلام والإيمان والإحسان يحقق النصر ويجلب الخير لكفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم مؤنة القتال في بدر، ومشقة القتل لأصحابه في أحد، وكسرت رباعتيه، وشج وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في رأسه الكريم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا تظن أنك إن تدينت انتهت المسألة، نريد منك عملاً، ونريد من الذي لم يستقم بعد أو لم يتدين أن يستقيم وأن يتوب وأن يعود إلى الله، وأن يستحي على وجهه بكل معانيها التي يعرفها والتي لا يعرفها، نقول: استحِ على وجهك وكفاك ضياعاً أن بلغت العشرين أو قاربتها أو جاوزتها، أو قاربت الثلاثين وأنت لا تزال لا هم لك إلا ملاحقة السيقان العارية عبر الفيلم، ورؤية الوجوه المصبغة الملونة بمساحيق التجميل عبر المجلة، وسماع الآهات والأنات الخليعة الماجنة عبر الأغنية.
نقول: استحِ! إلى متى هذا الضلال؟ إلى متى هذا الضياع؟ إلى متى وأنت في لغوائك وغفلتك وجهلك والمسلمون يذبحون ويقتلون؟ أما يكون لك باعثاً وحافزاً أن ما آتاك الله من النعم في أمن وطمأنينة أن تقابله بالشكر والجد والاجتهاد في مرضاة الله جل وعلا؟ ثم -أيها الأحبة! - إن الجاد والحازم إذا سعى في أمر من أموره بجدية وبحزم لا شك أنه يناله شيء من التعب أو المشقة، ولكنه يجد راحة وسعادة وطمأنينة، ويجد احتراماً لنفسه لا مثيل له، لكن ذلك الجثة القعدة الرقدة الذي هو كالعنز أو كالنعجة لا تجاوز مراحها، لا هم لها إلا أن يلقى بأكوام التبن عند فمها، ثم تأكل ما تأكل ثم يرفع عنها ذلك ويقدم لها الماء، ذاك الذي يضر الأمة ولا يفلح، ويفسد ولا يصلح، وكما قال القائل:
وأنت امروءٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
مصيبة إنسان أنه محسوب على الأمة حياته لا منفعة فيها، ولو جاء خطر فجعنا عليه؛ لو أصابه حادث بحثوا له عن أحد يتبرع له بالدم، لو أصابه فشل كلوي بحثوا له عن أحد يتبرع له بكلية، لو أصابته أي مصيبة بحثوا له عن أحد يساعده، فهذه مصيبة ذلك الشاب الذي لا ينفع.
أقول: إن الجاد مهما ناله من تعب الجد، ومشقة الحزم فإنه يحترم نفسه، فالإنسان هو الذي يحترم نفسه:
أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما
من كانت نفسه عزيزة لا تقبل إلا المعالي؛ أكرم نفسه وأكرمه من حوله، وأما من هان على نفسه وهان عند ربه فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
إن من اختار أن يذل نفسه بالمعصية، وأن يهينها بمخالفة أمر الله، وأن يرى نفسه في ذَنَبِ الركب عصياناً لله جل وعلا، كيف تريد أن تحترمه نفسه؟ ولو قرأتم ما كتبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الجميل الرائع: الداء والدواء أو الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، قال: ومن عقوبات المعصية: أن صاحبها يجد ذلاً في نفسه، وظلمة في وجهه، وهواناً على الناس، ويتجرأ عليه أدنى من حوله.
وكما قال الحسن البصري: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].
هذا الجاد -أيها الأحبة! - وإن ناله تعب من الجد فإنه يشعر بعزةٍ وإكرامٍ لنفسه، وأما ذاك الذي شبهناه بالعنز أياً كانت استرالية أو مصرية، أو سورية أو عنزاً نجدية، سم ذلك الإنسان بما شئت، الكسول تجده يحتقر نفسه، ويرى على نفسه هواناً، ويجد في نفسه ذلة، وإذا عرضت عليه معالي الأمور وأراد أن يرتفع لها جاءه إبليس وجره من رقبته، قال: اقطع عنك هذه الأفكار، أنت لست بكفءٍ لهذه الأمور، اتركها الآن.
الشيطان يعرف صاحبه جيداً، نعم وقت التزيين للمعصية تجد الشيطان يؤز صاحبه أزاً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم:83] تدفعهم دفعاً، لكن لو جاء أمر من الخير عند إنسان صاحب معصية، أو مغرق ومصر على المعاصي، أول ما يأتي صاحب الخير ويريد أن يبدأ، وذلك العاصي سابقاً لم يرد أن يتجه إلى الخير يأتيه الشيطان يقول: مازال وجهك وجه محاضرة؟!! اذهب وانظر لك أناساً يشيشون (معسل باعشن) أو انظر أناساً يتنتنون؛ أو أناساً يفحطون، ابق معهم أفضل لك من أن تجعل نفسك في هذا المقام.
الشيطان يتجرأ عليك ويجرك بتلابيبك من خلف رقبتك، ويجبذك ويجذبك ويدفعك إلى مهاوي الرذيلة والانحراف والفساد، ويقعد بك عن أماكن الخير.
ولذلك نقول: يحتاج أحبابنا الشباب إلى دعوة، يحتاج كثير من الشباب من ينتشلهم من وحل المعصية إلى طهارة الطاعة، يحتاجون من يأخذ بأيديهم من نتن المخالفات الشرعية إلى عز الموافقات الشرعية؛ لأن القليل القليل من الناس من تجده فكر في أمر نفسه من تلقاء نفسه ثم اهتدى بنفسه، وفي الغالب أن كثيراً من الناس كان لهدايتهم سبب؛ إما أن تكون دعوة، أو نصيحة، أو شريطاً، أو معسكراً، أو حجاً، أو أي عمل من الأعمال التي كانت سبباً في دفعه، لكن يأتي شيء يأخذ بيده وينتشله مباشرة، فذاك أمر في النادر والقليل.
أقول: إن الكسول يحتقر نفسه، وزيادة على ذلك يمل من نفسه ويكرهها نفسه، خذ مثالاً على ذلك: شاب مجتهد، وليكن هذا المثل في الشتاء لأن ما بين صلاة الفجر والصباح شيء يذكر: ستجد أن ذلك الشاب الجاد صلى الفجر مع الجماعة ثم عاد وتهيأ وأفطر، ورتب دروسه أو أعدها من قبل، ثم أخذ ما عنده من كتب وكراسات وذهب وجلس طول النهار، عينه في وجه المدرس، وقلبه إلى ما يقول المدرس، وفكره منتبه إلى ما يشير إليه معلمه، ثم جاء بعد الظهر متعباً، لكن قليلاً من التعب أورث كثيراً من العزة، والراحة والكرامة في نفسه فتجده معتزاً معتنياً بنفسه، وفي المقابل ذلك الكسول الذي كان البارحة سهران، لكن سهران على ماذا: أيتهجد؟ لا، وبالمناسبة يقول ابن الجوزي: إن رجلاً كان له جار فاسق فسمعه يبكي في الليل، قال: عجبت من بكاء هذا الرجل هل هو يتهجد أم يقرأ؟!! فلما أصبح طرق عليه، قال: يا فلان! سمعتك البارحة تبكي؟ قال: كنت أقرأ آية وأبكي -قال: إذاً فتح الله عليه لعله إن شاء الله تاب- قال: وماذا كنت تقرأ؟ قال: كنت أقرأ قول الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] المصيبة أن ذلك السهران البارحة لم يكن سهران في طاعة، بل سهران على فيلم أو مسلسل أو مجلة، أو كلام فارغ أو أشياء لا تليق، ثم بعد ذلك نام متأخراً وترك صلاة الفجر، ثم إن كان حوله من يوقظه أو لم يوقظه، المهم لم يعبأ ولم يلتفت لدراسته جاء من يوقظه فانقلب على جنبه بريح وبخر نتن، ثم انقلب مرة ثانية على فراشه ونام حتى أذن الظهر أو بعد صلاة الظهر، ثم استيقظ كالشيطان، ينظر إلى الناس قد عادوا من أعمالهم، من مدارسهم، من جامعاتهم، وهو قام يفرك عينيه وينظر في الغادين والرائحين، والغاديات والرائحات، ويحسد هؤلاء الذين آبوا بجد وعلم، وفهم وحلم ومثابرة، ويجد من نفسه هواناً.
ذلك الجاد تعب؛ من الصباح ذهب وجلس على كرسي قد يكون مريحاً أو غير مريح، وصبر على تعب الدراسة وطلب العلم، أو على الوظيفة، وثابر، لكن هذا كان على فراشه، ذاك عاد بتعب يسير وراحة كبيرة، وهذا قام بعد أن تقلب على الفراش حتى مل الفراش منه، ووسادته لو تكلمت لقالت: قم قبحك الله.
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى أو كان لو علم الكلام مكلمي
شتان بين عنترة وبين صاحب الوسادة، لكن قام وهو يجد لنفسه هواناً، ويجد في نفسه ذلة وامتهاناً بسبب ذلك الكسل.
إذاً: فالجد أيها الإخوة سبب احترام الناس.
والله العظيم إن مثل هذا لمصيبة، كان عند أحد الأوائل ولد أبله؛ لا يفقه ولا يعمل، أراد أن يستفيد منه ذات مرة قال: يا ولدي! اذهب واشتر لنا حبلاً طوله متران، وأعطاه ريالين، وراح الولد وراح وراح وأبطأ وخاف عليه الأب: يا ربي! ماذا أصاب ا(94/5)
مطلوبية الحزم في جميع الجوانب
أيها الأحبة! الحزم مطلوب، الجدية مع النفس، ويكفينا مضيعة الأوقات والساعات، تجد من الناس من إذا أراد أن يحزم في أمر نصف ساعة قال: إيه! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ولكن ساعة وساعة) [إن النفوس إذا كلت ملت] كما قال علي أو غيره، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن لعينك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً) قام يأخذ من هذه الأحاديث، لكن يضيع عشر ساعات لا يذكر أنه مسئول عن وقته، ولا يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) ساعة جد تجد فيها هذا الإنسان يتثائب ويتساقط ويميل ما أكمل نصف ساعة، لكن عشر ساعات من الضياع، ومستعد أن يضيع مثلها وأضعافها، فرحم الله ابن هبيرة حيث كان يقول:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
إذاً الحزم مطلوب في كل مجال وعلى كل صعيد، الحزم مطلوب على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأسرة، الأب لا بد أن يكون حازماً في تربية أولاده، ولا بد في الحزم أن يوجِد نوعاً من القسوة ولا حرج:
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحمُ
بعض الناس الحب العاطفي الزائد عن حده لأولاده جعلهم يضيعوا، وأعرف رجلاً في مدينة الرياض فيه خير كثير يصلي الفجر مع الجماعة لكن (من دلَّع أولاده ودللهم شغل بهم) أصغرهم قال: يا أبي! نريد دشاً، من أجل أن نتابع ألـ ( m b c) وماذا بعد ذلك؟ لكي نتابع قناة القاهرة، وماذا بعد ذلك؟ لكي نتابع قناة كذا، ومازال الولد يصيح عليه ويتعلق به حتى جاء الأب واشترى له دشاً باثني عشر ألف ريال، وركبه على السطح.
أين الحزم في التربية؟ سمها قسوة ولا حرج:
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحمُ
لكن هذا الدش لما جاء أفسد الطفل الصغير، وأفسد الفتاة المراهقة، حتى الأب بعد مدة أصبح يسهر أحياناً، وربما تفوته صلاة الفجر ثلاثة أو أربعة أيام متتابعة، بسبب أنه ما كان يجلس عند التلفاز في ذلك الوقت، لكن عندما وضع هذه القناة أخذ تارة يقلب هذه وينظر في هذه والنفس لا تنتهي من البحث عن الملذات والشهوات تقول: هاه! يمكن في تليفزيون القاهرة صور زينة، دعنا نتفرج عليها، ثم يتحول إلى ألـ ( m b c) يمكن نلقى في القناة الثانية الهوائية صوراً أفضل من ذلك، وتجد الرجل يلعب بعيونه كالتنس على الطاولة، يبحث عن شاشة أو قناة فيها عرض لفتاة راقصة، أو لفخذ عارية، أو لجسد بادٍ، ونحو ذلك.
ولهذا فالحزم مطلوب، ليس فقط على مستوى تعامل الفرد مع نفسه، بل أيضاً على مستوى التربية، يأتيك واحد من أولادك: يا أبي! أعطني مائة ريال؟ ولماذا مائة ريال؟ بل مائة صفعة!! أنا مستعد أن أصرف عليك ألف ريال؛ لكن مائة ريال بلا سبب لا.
قال مثلاً: أريد كتاباً.
فهل أذهب به وأدعه يشتري؟ لا.
بل أسأله: أي كتاب تريد؟ وأشتريه ما لم يكن فيه فساد، يعني: (بيدي لا بيد عمر) لا تجعل ولدك يعبث بدلالك له، ولا تحرمه حرماناً تضطره إلى الآخرين يستجدي منهم، فربما اشترطوا عليه شروطاً في عرضه وفي أخلاقه وفي سلوكه مقابل ما يعطونه من المال، إذاً فسدد وقارب، واحفظ الأمر واجعله بيدك لا بيد غيرك.
كذلك الحزم على مستوى العمل، الإنسان حينما يكون عنده عمل معين ويلاحظ الموظفون من حوله أنه لا يأتي إلا آخر الناس، ولا يهتم، وتتراكم الأعمال حوله -وإن كان هو رئيس هذا العمل- تجد من حوله يعبثون لأنهم يرونه قدوة لهم.
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
المسألة ليست غريبة، فإذا كنت تريد السعادة فكن حازماً في عملك، إذا كان عندك مستودع فكن حازماً مع العمال، عندك مؤسسة كن حازماً في المتابعة، عندك عمل إداري كن حازماً في الانضباط، ستجد أن من حولك يحترمون حزمك، ويحترمون شخصيتك ويحبونك، والناس يحبون الشجاع، ويحبون القوي، فالإنسان حينما يكون حازماً وقوياً جاداً ينعكس ذلك سعادة عليه، وينعكس هذا أيضاً على من حوله وعلى أداء عمله، وهذا الحزم مطلوب في كل مجال وعلى كل صعيد كما قلنا.(94/6)
كيفية اكتساب الحزم
أيها الأحبة يظن البعض أن الحزم كبسولة تباع في الصيدلية، وبعضهم يظن أن الحزم سلعة تباع في السوبر ماركت، أو في المحلات التجارية، لا.
الحزم ليس شراباً يشرب، وليس طعاماً يؤكل، وليس الخلطة السرية (كنتاكي) أو غيرها تُجعل حتى تأكلها، لا.
الحزم مجاهدة للنفس: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الحزم أن تجاهد نفسك، فإن لم تكن حازماً فلا تنتظر أحداً يقول لك: افتح فمك نقطر فيه الحزم، أو أعطنا ذراعك نعطيك إبرة اسمها (فاليوم الحزم) ولا (وريد الحزم) لا.
الحزم مسألة تحتاج إلى مجاهدة، والمجاهدة تبدأ من أول لحظة تعرف أنك مقصر، وأنك متهاون، ثم تبدأ تنطلق في معاملة نفسك معاملة جيدة.
إذاً: لا ننتظر أن تقدم لنا السعادة، أو أن يقدم لنا المجد، أو أن تقدم لنا القمم، أو أن يقدم لنا النصر في أطباق ذهبية وملاعق فضية، هذا لن يأتي أبداً، ولن نبلغ المجد حتى نلعق الصبر:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
فلابد أن تجاهد نفسك وربما تذوق شيئاً من مرارة المكابدة والمجاهدة حتى تصل إلى مقصودك، المودودي رحمه الله، المفكر الإسلامي المعروف، رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان، وكان رئيساً لها في الهند قبل انفصالها، يقول رحمه الله تعالى: إن الحضارة الغربية أنتجت من وسائل الرقي والتمدن الشيء الكثير، لكنها لم تنتج شيئاً يصنع الإرادة في الإنسان، إن الحضارة الغربية أنتجت كثيراً مما يحقق الرفاهية والتمدن للإنسان لكنها لم تنتج شيئاً يوجد الإرادة.
وخذ على ذلك مثالاً: انظر إلى شاب يريد أن يحفظ القرآن وليس عنده إلا مصحف يمكن أن يكون نسخة باكستانية، لكن توجد عنده إرادة الحفظ، فتجده يقلب النظر في هذا المصحف، وتجده أول ما يؤذن يدخل المسجد ويراجع ويقرأ، ويجلس بعد الصلاة يراجع، وقبل النوم يراجع، وبعد النوم يراجع، وتجده مهتماً بالقراءة إلى أن تمر ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فتجده قد حفظ القرآن كاملاً، لكن تعال إلى إنسان مدلع، تجده يأتي بمعمل صوتيات يضعه في البيت، ويأتي بالقرآن المرتل بصوت المنشاوي وعلي جابر، والسديس، والعبيكان، والمحيسني، والخامس والعاشر، ويأتي بأشرطة فيها صدى، ومختلف الآلات لكنه كسول، ذاك ليس عنده إلا نسخة من المصحف بالطبعة الباكستانية، حفظ المصحف في أربعة أشهر لكن مع الإرادة، وهذا مع وجود معمل اللغة عنده، مع وجود الصوتيات والمؤثرات والنسخ المختلفة، وكثير من نسخ القرآن المتعددة، تجد عنده مصحفاً في جيبه ومصحفاً في سيارته، ومع ذلك ما حفظ آية ولا حديثاً.
القضية ليست قضية أن الإنسان يكدس أشياء، القضية قضية إرادة، إذا وجدت عندك الإرادة فإنك ستفعل شيئاً كبيراً، ولذلك الإنسان قنبلة، لو توجه إلى أمر فهو خطير جداً جداً جداً، ولكن هذه القنبلة قد تكون أضعف من النملة؛ لأن النملة جادة، قد يكون أهون من القملة إذا لم يعتن بنفسه ولم يعمل شيئاً يتدارك هذه النفس من الوقوع في الانحراف.
إذاً الحزم مطلوب في مواجهة كل أمر خيراً كان أم شراً، فإن كنت تريد خيراً فاحزم أمرك، وأن كنت تريد أن تدفع شراً فلا بد أن تواجهه بحزم.
خذ مثالاً على ذلك: في استخدام الحزم في مواجهة الشر الوافد على المجتمع؛ المخدرات، بما لا يدع مجالاً للشك أن المافيا والألوية الحمراء وكثيراً من العصابات وتجار المخدرات العالميين قد أصدروا كثيراً من القرارات والاتفاقيات على محاربة الجزيرة ودول الخليج بالمخدرات، كيف نحارب فعلهم هذا؟ نقول: قبحهم الله لعنهم الله، قاتلهم الله يريدون أن يخربونا يريدون أن يفسدونا؟! هذه مسألة (أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل) لكن إذا كنا جادين في محاربة المخدرات، كل مروج يقتل كما صدر قرار هيئة كبار العلماء، ومجلس القضاء الأعلى أن المروج يقتل، لا تظل تقول: هذه المرة الأولى أم الخامسة، ما دام ثبت أنه مروج خلِّ رأسه يتدحرج في ستين داهية، نسأل الله ألا يبتلينا، وأن يعافي من ابتلي منا.
إن هذه القضية قضية تحتاج إلى حزم.
القضية الثانية: آخر عنده مخدرات، لا تقل: هذه والله حبتان أو حبيبات، الحبتان والثلاث تأتي أمامها بنقطتين، ومن الطرائف التي تروى: أن إنساناً أتوا به ليحاكموه، فسأله القاضي: ماذا سرقت؟ قال: سرقت حبلاً، وهل ستقطع يدي لأنني سرقت حبلاً؟ قال: نعم.
لأن في طرف الحبل عنزاً، فالمسألة لا تريد تساهلاً، حبتان ثلاث وبعدها تنتهي القضية، وإذا سجنته فليس عندك مشروع تسمين عجول، فبعض المساجين تقول له: اخرج من السجن، يقول: أبداً عَلَيَّ الطلاق لن أخرج، هذه فرصة لا تفوت، أفوت ثلاثة أصناف من الطعام السبت دجاج، والإثنين سمك، والأربعاء لحم، والله لا أخرج من السجن لو تموتوا، من يجد هذا؟!! لكن إذا سجنت مثل هذا فاجعله يبني جداراً، ويحفر بلاعة، ويليس، اجعله ينجر ويصلح، ويلحم ويشتغل وينقل، لكي يصبح من دخل السجن إنما يدخله تأديباً، ويمسه شيء من العذاب، ليس تعذيباً كراهية أو حقداً، وإنما هو من أجل تربيته لينتفع، فهذه المسألة تحتاج إلى حزم.
كذلك عندما نكون حازمين أيضاً في معالجة المخدرات: أن كل من يخبرنا ويتابع إخباريته بالمشاركة، والجد والمثابرة، حتى يقبض على مروج، أو إنسان متعاطٍ: خذ هذه المكافأة الكبيرة كما يحصل الآن، وزيادة على ذلك حينما نكون جادين أيضاً في مكافحة المخدرات: إذا كان أفلام الكرتون تستهلك من التلفاز ساعة وربع يومياً نريد أن نجعل ربع ساعة في التحذير من المخدرات بمختلف الوسائل، تارة يحذر من المخدرات في دعاية، وتارة يحذر من المخدرات في قصة، وتارة يحذر من المخدرات في قصيدة، وتارة يحذر من المخدرات في كاريكاتير، وتارة يحذر من المخدرات في أنشودة، وبغير ذلك من الوسائل، تُستخدم كل الوسائل التي يمكن أن تجعلها قناة لتوصيل الفكرة من أجل محاربة هذا الشر.
وحينئذ ستجد النتيجة في أن الأمة حينما تتولى هذا الأمر بحزم وعزم، والله إن هذا سوف يقضي بإذن الله على شر وأخطار المخدرات، فالحزم مطلوب في تحصيل خير أو في دفع شر.
كذلك -أيها الأحبة! - الحزم مطلوب أيضاً ليس في معالجة الأمور انتهاءً، بل الحزم مطلوب في تكوين الأمور ابتداءً، فأنت حينما تريد أن تنشىء مؤسسة راقية الأداء، عالية المواصفات والمقاييس في إنتاجها وغيره، لا بد أن يوجد حزمك في اختيار النوعيات التي تحقق لك ما تريد، بمعنى: إذا كنت أريد أن أفتح أو أؤسس شركة متخصصة في بناء قصور، فلا أذهب وآتي بأناس يتعلمون بناء طين أو بناء أخشاب، بل لا بد أن آتي بعمالة راقية جداً، لأني أريد أن أنتج شيئاً راقياً، فلابد أن أجعل هذا الأمر محل الاعتبار في التأسيس.
خذ مثالاً على ذلك حتى لا نكون بعيدين عن المجتمع ومشاكل المجتمع: قضية هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أننا ولله الحمد والمنة نفخر على سائر دول الأرض جميعاً أنه لا يوجد دولة في دستورها: الدولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لكن في دستور دولتنا ولله الحمد نص (بند، قرار، فصل) يقول: الدولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذا بحد ذاته خير عظيم، وكل ما يُنتظر من الخير أو نرجوه أن يكون قادماً وقريباً، وما هو موجود من الخير نسأل الله أن يبارك فيه ويزيد.
لكن مثال على ذلك: حينما أريد أن أكون حازماً في هذا الأمر، أو حينما أريد أن أقدم نتائج راقية وعالية في هذا المجال فينبغي أن أجعل الذين يمارسون الحسبة ويتعاملون مع الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس من هب ودب، إنسان ما لقي وظيفة أدخله في الهيئة!! أنا معاذ الله أن أتهم شاباً من شباب الهيئة، أستغفر الله، بل أحبهم وأذب عن أعراضهم وأدعو لهم بظهر الغيب، لكن أقول كمثال لصورة الحزم في هذه القضية حينما أريد أن أرتفع بمستوى الهيئات إلى أمر راق، أقول: لا ينزل الميدان إلا من كان معه شهادة ثانوية من المعهد العلمي الشرعي، وقد درس دورة متخصصة في الحسبة، وفي الإنكار بالحكمة وغير ذلك، وأجعل الذين يخاطبون الناس في الميدان من الجامعيين، أجعل الوظائف الممتازة؛ وظائف المرتبة السادسة، ووظائف المرتبة السابعة والمرتبة الثامنة للميدانيين، فلا أجعل مركز الهيئة الذي ليس فيه إلا وظيفة واحدة في السابعة والثامنة ثم بعد ذلك أطالب من الذين على بند الساعات وبند الأجور، أو البند الناقص والبند الزائد هم الذين في الساحة، لا، ولست أيضاً أقول: إن القضية تُقَيَّمُ بالشهادات، فإنه يوجد أناس قد درسوا العلم الشرعي على بعض المشايخ عندهم من الحزم، والعلم والحكمة، والقدرة والإدارة ما يفوقون فيه حملة الماجستير والدكتوراه، لكن المهم إذا أردت أن أعطي من جهاز عطاءً نافعاً، وأن أجد منه نتيجة مثمرة، فلا بد أن أقدم عينات على المستوى اللائق.
لو أردت أن تفتح مركزاً لجراحة القلب المفتوح أظنك لن تأخذ خريجي المعهد الصحي الثانوي، لا.
لابد أن تختار الذي يكون قد اجتاز الزمالة البريطانية للجراحين، وإلا لن تقبله في هذه القضية، فكذلك حينما أريد أن أعطي نتائج جيدة وقوية وممتازة لعمل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في أي صعيد ومجال، لا بد أن أوجد الكوادر الممتازة الراقية ذات الشهادات العليا والكفاءات الممتازة، هذا إذاً من صور الحزم في تكوين الأمور ابتداءً بإذن الله جل وعلا، وعلى أية حال كل أمر بدايته تحدده و (من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) والشاعر يقول:
وكل امرئ والله بالناس عالم له عادة قامت عليها شمائلهْ
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمر أوائلُهْ
فالمسألة مرتبطة بالبدايات.(94/7)
من صور ضياع الحزم
أيها الأحبة: إن تسيب وتسكع كثير من الشباب في استهتار، وتهاون كثير من الفتيات بالأخلاق والقيم والتساهل بالحجاب، كل ذلك ما هو إلا صورة من ضياع الحزم الذي نحتاج إليه في هذا اليوم، ما ترى من شاب متسكع متخلف جالس عن المكرمات وعن القيم وعن الخلق وعن الأمور النافعة، وما ترى من فتاة متساهلة بعفتها وحيائها وصوتها، تتكسر مع البائعين، وتعبث بالهاتف مع المتكلمين، فما ذاك والله إلا صورة من صور فقدان الحزم في شيء من هذه المجالات.
وأين ضاع الحزم في أي سلسلة؟ قد يكون ضاع في التربية، قد يكون ضاع في درجة من درجات التعامل والسلوك التي يمر بها ذلك الشاب.
على أية حال: كل حازم وجاد ومثابر يحمد العاقبة في نجاح وصلاح أمره، والجاد يحمد الاستقامة والعاقبة في جده، والعابد والعالم وطالب العلم يحمد خير ما يقدم من أمر يرجو به رضا الله جل وعلا، وكل متهاون سيجد الغبن: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] يوم التغابن: يوم القيامة، سمي يوم التغابن لأن المفرط المضيع المستهتر، المتهاون المتكاسل ضيع فرصة للعمل فوجد الناس يقبضون الصحف باليمين وهو يقبض صحيفته بيساره، ورأى الناس في ظل عرش الله وهو تلجمه الشمس بحرارتها وعرقه بكثرته، يرى أنه مغبون؛ الناس كاسبون وهو من الخاسرين، حتى الذي كان من الصالحين وفرط وتساهل وضيع يشعر بالغبن، كان بوسعه أن يصلي إحدى عشرة ركعة لكنه لم يصل إلا ركعة واحدة، كان بوسعه أن يقرأ جزءاً لكنه لم يقرأ إلا صفحة، كان بوسعه أن يحفظ مائة حديث لكنه لم يحفظ إلا حديثاً واحداً، يشعر بالغبن أنه لم يقدم كل ما بوسعه وكل ما بطاقته.
ختاماً أيها الأحبة: أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن أعانهم الله على أنفسهم، ونصرهم على شياطينهم.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، ونسألك اللهم العزيمة على الرشد، والفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم ثبتنا على دينك إلى أن نلقاك، اللهم حبب إلينا الدين والطاعة والاستقامة، وكره إلينا المعصية والفاحشة والمخالفة، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مباركين أينما كنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(94/8)
الأسئلة(94/9)
كتب وأشرطة ينصح باقتنائها
السؤال
ما هي الأشرطة والكتب التي تنصح باقتنائها؟
الجواب
حقيقة المكتبة الإسلامية عامرة بكثير من الكتب، فأول ما أنصح به كتب الفقهاء والمتقدمين من أهل السنة والجماعة من العلماء كل بحسب قدرته واستيعابه، وإن كان الإنسان مبتدئاً فبالمختصرات، ولا بأس أن يقرأ ما بسط ويسر وسهل مما كتبه سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، وسماحة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأئمة الدعوة وعلماء الدين مثل الشيخ عائض بن عبد الله القرني، والشيخ سلمان بن فهد العودة، وكثير من العلماء والمشايخ الذين لهم كتب وأشرطة نافعة، نسأل الله أن ينفع بهم وأن يثبتنا وإياهم.(94/10)
دعوة للمشاركة
السؤال
نرجو توجيه دعوة للشباب للمشاركة في الأنشطة الثقافية التي ينظمها ويعلن عنها بيت الشباب للاستفادة من هذا المرفق الهام لأنه منهم وإليهم.
الجواب
والله -أيها الإخوة! - أنا أقول للشباب الطيب عامة، وأعتبر كل أبناء أمتنا وبلادنا وأبناء المسلمين الذين نتفاءل بهم خيراً أن فيهم خيراً، لكن أنحى باللائمة على الطيبين الصالحين الملتزمين، لماذا لا نشارك في الأندية؟ ولماذا لا نشارك في بيوت الشباب؟ هي لك أو لأخيك أو للذئب، خذها على البساط والمكشوف: يا أخي الكريم! إن هذه المنشآت التي ترونها إما أن تمتلئ بالصالحين وإما أن تكون للطالحين، هذا المسرح أو هذا المكان أو هذه المنصة المعدة إما أن تلقى عليها المحاضرات والبرامج الثقافية الممتعة النافعة، والأمسيات الشعرية الطيبة، وإما أن تكون مرتعاً لكل منكر لا يليق، لا قدر الله ذلك، لكن إذا حصل منكر، قيل: أين الإخوة والدعاة، وأين العلماء؟ أنكروا عليهم؟ لقد فعلوا، لقد خربوا إلخ.
والمجال كان مفتوحاً لأن نملأه بالخير.
أنا لا أقول: إذا لم يوجد خير فذلك إذن بحدوث الشر، لكن الواجب على كل غيور لم يجد ثغرة يستطيع أن يجعل فيها خيراً إلا أن يبادر بسدها والقيام بها، ومن استطاع وقصر فقد يكون آثماً إذا تعلق به الأمر.(94/11)
نصيحة لأب يعاني من أبنائه
السؤال
والد يعاني من أبنائه الكسل والإهمال، ولقد وقعت الفأس في الرأس، لا حول ولا قوة إلا بالله بسبب تهاونه، ما هي نصيحتك له؟
الجواب
النصيحة: أن تعود من جديد لتوجيههم، أنصح هذا الوالد الحبيب إن كان جاداً في علاج بيته من ذلك المرض الذي وقع الفأس في رأسه كما قال: أن يبادر بالعلاج وألا يتردد في تناول الوصفة، لو قيل لأحدنا: إن ولدك فيه حمى شوكية تجده لا يتردد؛ يذهب ويطرق على الجيران: ما رأيك يا أبا فلان! الولد فيه حمى شوكية؟ تعال غداً إن شاء الله نبحث موضوعك، ونرى هل الحمى من النوع الدائم أو المؤقت، فلا يوجد إنسان يجد مرضاً في ولده ثم يقول مثلما يقول العوام: يقدم رجل ويؤخر أخرى: هل يعالجه أو لا يعالجه؟ تجده أول ما يعلم بالمرض يتجه إلى الإسعاف ومعالجته في العناية المركزة، والمبادرة بإصلاح شأنه قبل أن ينحرف ويفسد، قبل أن يموت من المرض، فكذلك أنت إن كنت جاداً في ذلك فانظر إلى أسباب الفساد الموجودة في بيتك؛ دش، مجلات، فيديو، تلفاز من غير رقيب ولا حسيب، أي: في كل وقت، الليل والنهار يسهرون عنده وقد يضيعون الصلاة بذلك إلى آخره، نقول: انتبه! انتبه انتبه!! حتى لا يقع الفأس لا في الرأس بل يقع الفأس في القلب، وكم من بيت تساهل وليه بشأنه فكان الفساد في البداية في الأولاد، ثم انتقل الفساد إلى الأعراض، انتقل الفساد إلى البنات وإلى -والعياذ بالله- المحارم وذلك بسبب تساهله وهو مسئول عنهم يوم القيامة، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(94/12)
الخروج صورٌ وتاريخ
منهج أهل السنة في معالجة الأوضاع قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن طرق معالجة المنكر: الخروج على الحاكم الجائر، ولكن هذه الطريقة تؤدي إلى فتن ومفاسد عظيمة في أغلب أحوالها.
وفي هذه الخطبة صور تاريخية تبين عواقب الخروج على الحكام، وما نتج عن تلك المحاولات من خسائر، مع بعض أقوال العلماء في حكم الخروج على السلطان.(95/1)
منهج أهل السنة في معالجة الأوضاع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! جرى الحديث من فوق هذا المنبر في جمعٍ ماضية عن منهج أهل السنة في الإصلاح، ومنهج أهل السنة في معالجة الأوضاع وإنكار المنكرات والمحافظة على بيضة الأمة، والعناية بالمجتمع حتى لا تزل قدمٌ بعد ثبوتها، أو يخطئ أحدٌ بقصد الإصلاح، فيكون كمن رام نفعاً فضر من غير قصدٍ، ومن البر ما يكون عقوقاً، وأول مواضيع هذا المنهج ما سبق الحديث حوله في خطبة كان عنوانها (الجور بالقول) ثم لحقه خطبتان الأولى بعنوان: (عندما يختل الأمن) والثانية: (دور الحاكم والمحكوم في الأمن) وهذه الخطبة الأخيرة في هذا الموضوع.
أيها الأحبة! تعلمون أن منهج أهل السنة والجماعة قائمٌ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قائمٌ على الغيرة لله ورسوله، والنصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم قائمٌ على تقدير المصالح، فربما ارتكبت أدنى المفاسد لدفع أعلاها، وربما فوتت أدنى المصالح لتحقيق ما هو أعظم منها، والحديث اليوم عن صورٍ من التاريخ، اجتهد فيها المجتهدون، وكان بعضهم لا شك مريداً وجه الله والدار الآخرة، لأجل الإصلاح وإنكار المنكر، وقطع الشر ودابره، ولكن يبقى منهج أهل السنة والجماعة هو المنهج الذي ينبغي لزومه في كل منشطٍ ومكره، وفي كل عسرٍ ويسر، وفي كل صغيرٍ وكبير إذ أن الخروج عن المنهج مهما كان صلاح الخارجين عنه، ومهما كان قصدهم وتأويلهم في ذلك، سواء علموا أنهم في خروج عن المنهج أم لم يعلموا، سواءً اجتهدوا فأصابوا أو أخطئوا، المهم أن ندرك أن الالتزام بهذا المنهج يحفظ للأمة مصالح عديدة، وإن الإخلال بتطبيقه أو بمفرداته ربما أدى وأفضى بالأمة إلى هلاكٍ وعاقبة لا تحمد، أيها الأحبة، على مر عصور التاريخ بعد انقضاء زمن النبوة على نبينا أفضل الصلاة والسلام، ثم تبعه بعد ذلك منهج الخلافة الراشدة، تولى خلافة الأمة بعد رسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، وقتل إمام المسلمين شهيداً في المحراب، بفتنةٍ سبأية يهودية، ثم تلا الأمر وتولاه بعد ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على فتنة تصيبه، ثم تولى الأمر بعد ذلك علي بن أبي طالب، وكان شهيداً من شهداء أهل الجنة، ثم تعاقبت بعد ذلك على أمم المسلمين خلافاتٌ وقياداتٌ وإماراتٌ متعددة، كان فيها من الفتن بين المسلمين أنفسهم، كان فيها من القتال بين المسلمين أنفسهم، الأمر الذي ما حمدت عاقبته بكلام أئمة السلف وليس بكلام المتأخرين في هذا العصر.(95/2)
السبب في خروج بعض الطوائف
أيها الأحبة! قد يقول قائلٌ وما السبب في خروج تلك الطوائف في العصور الغابرة على قياداتها، وعلى إماراتها، وعلى الولاة في زمنها؟ أيها الأحبة! الجواب في ذلك جليٌ واضح، فالذين أحسنوا المقاصد، وصلحت نواياهم كانت ذكريات الخلافة الراشدة بما فيها من العدل والأمن والطمأنينة وشوكة الدين وغلبة المعروف ماثلةً بين أعين كثيرٍ من المسلمين، كانوا يتمنون أن تعود الأمور كما كانت عليه، وليس هذا بأماني من أراد، فقد ورد في كل عامٍ ترذلون وتنقصون ولا تزيدون.
إن الحنين دائماً إلى النماذج الراشدة، مستمرٌ، إن الحنين دائماً مستمرٌ إلى صور الأمن الذي لا يكدره فزع، والعدل الذي لا يشوبه ظلم، والعطاء الذي لا تقطعه منّة، ولكن سنة الله في العباد {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:118 - 119].
أيها الأحبة! حينما اختل المنهج الشرعي أصيب المسلمون بخيبة أملٍ كبيرة وبمرارة ومعاناةٍ شديدة، حينما بلغ الأمر إلى إماراتٍ ربما أنكر المسلمون منها أموراً كثيرة.
فعلى سبيل المثال: في زمن الدولة الأموية لما حلت الخلافة ونزلت إلى بلاط يزيد بن معاوية، حل في قلوب الناس ما حل، ومن الذين خرجوا ولم يرضوا بواقعهم، ولم يرضوا بإماراتهم ومجتمعاتهم، أقوامٌ رأوا ظلماً أو نوعاً منه أو أنواعا، فقصدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتهدوا في إصلاح ما فسد لا يريدون إلا الخير والإصلاح، ولكن كانت العاقبة وخيمة سيئة عليهم وعلى مجتمعاتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصدهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بـ الحرة وبـ دير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، فالخروج على الولاة كان منذ زمنٍ قديم إما من أقوامٍ رأوا ظلماً وعدواناً أو منكراً فأرادوا تغييره، أو أقوامٍ يرون أن لهم في الخلافة حظاً ونصيباً فيريدون أن يعود الأمر إليهم، وبالجملة فالخارجون على الولاة إما خوارج أو محاربون أو البغاة، وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلباً للملك والإمامة بتأويلٍ سائغٍ أو غير سائغ، فيسمون بغاة.
حتى وإن خرجوا بتأويلٍ سائغ يسمون بغاة، وإن خرجوا بتأويلٍ غير سائغٍ فيسمون بغاة، ومن الذين خرجوا أقوامٌ أهل عدلٍ خرجوا على أئمة جور، كما قال الحافظ ابن حجر: قسمٌ خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، ومن أجل ترك عملهم بالسنة فهؤلاء أهل حقٍ، ومنهم الحسين بن علي وأهل المدينة بـ الحرة والقراء الذين خرجوا على الحجاج، وإن التاريخ لناطقٌ شاهدٌ بما حل بهؤلاء رضي الله عنهم وجمعنا بهم في الجنة.(95/3)
سبب طرق هذا الموضوع
أيها الأحبة! خذوا أول الأمثلة على مساوئ الخروج وما حصل للأمة فيه، وقبل أن أسوق ذلك، أريد أن أنتزع وسوسة شيطانية ربما جالت في ذهن بعض السامعين الآن أو بعد آن ليقول قائلٌ: وهل رأى هذا الخطيب أقواماً يعدون لخروج، أو سمع بهم أو رصدهم؟! أقول ولله الحمد والمنّة ما عرفنا في هذه الجزيرة أقواماً أعدوا للخروج أو دعوا إليه أو خططوا له، وإنما القصد بيان منهج أهل السنة في سلسلة مضى أولها واليوم ختامها، وليس الحديث عن أي شيء بالضرورة يعني أنه خلف الكواليس يخطط أو يدبر له، بل ومن الضرورة أن نتحدث عن مثل هذا وأن نحذر منه، لأن الأمر كما ورد في خطبٍ ماضية أنه ربما نقل بعض الشباب مناهج مستوردة لبلدان ربما صلح لأوضاعها ما فعل فيها، أقول ربما صلح أو لم يصلح، أما هنا فلزوم هذا المنهج الذي مر بنا أوله واليوم ختامه، من الضرورة أن نعتني به وأن نعتقد، وأن نناظر ونجادل بالحسنى كل من خالفنا فيه؛ لأن في ذلك أماناً وضماناً لسلامة المجتمع، وصلاح الأمة وبقاء بيضة هذه الأمة على ما هي عليه، مع القصد في إنكار المنكر فيها وزيادة المعروف فيها.(95/4)
خروج الحسين على يزيد
خذوا نموذجاً من النماذج التي خرجت على يزيد بن معاوية كانت قاصدة الإصلاح لا غير، خرج الحسين بن علي وتعرفونه أنه سيد شباب أهل الجنة لا نسوق هذا الكلام قدحاً في ذات الحسين أو كلاماً في عرضه رضي الله عنه وأرضاه، والحسين بالمناسبة قد غرر به وخُدِع من قبل أهل العراق فكان في تلك الوقعة ما كان، لما نبأ وفاة معاوية إلى المدينة، كان الوالي على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فأرسل الوليد إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير فدعاهما إلى البيعة لـ يزيد، فقالا: بالغداة إن شاء الله نبايع على رءوس الناس، ثم خرجا من عنده، فدعى الحسين برواحله وتوجه نحو مكة، وركب ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه برذوناً له وأخذ طريق الفرع، قرية من نواحي المدينة حتى قدم مكة.
واستقر الحسين في مكة وبدأ الناس يفدون إليه ويلتفون حوله ويعظمونه، وبدأت الرسائل ترد عليه من العراق، من الكوفة، يدعونه إليهم لينصروه ويحاربوا به الدولة اليزيدية، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين، كانت الولاية لـ معاوية ثم تولى الأمر بعد معاوية يزيد، وكان يزيد غير مرضيٍ في نظر الكثير من التابعين والصحابة رضوان الله عليهم.
الحاصل أن الرسائل وردت إلى الحسين رضي الله من الكوفة يدعونه لنصرته ومقاتلة يزيد، وكأن هذه الكتب لاقت أذناً صاغية من الحسين، فأرسل مسلم بن عقيل بن أبي طالب إلى الكوفة لأخذ البيعة له قبل وصوله، وبالفعل وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة وبدأ يأخذ البيعة للحسين، وبايعه ثمانية عشر ألفاً من الرجال الأشداء الأقوياء ذوي الشوكة والسلاح والآلة، فكتب مسلم إلى الحسين: أن اقدم إلينا فقد بايعنا لك ثمانية عشر ألفاً، وفي ذلك الوقت كان يزيد بن معاوية قد ولى عبيد الله بن زياد على الكوفة فقتل عبيد الله بن زياد -والي يزيد - قتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب -رحمه الله- وفي ذلك الوقت كان الحسين في الطريق إلى العراق، ففوجئ الحسين بجيش عبيد الله بن زياد يمنعه من الدخول إلى الكوفة، بل أصر عبيد الله بن زياد يفاوض ويحاور الحسين ويأمره أن يسلم نفسه أسيراً إلى ابن زياد لتسليمه إلى يزيد بن معاوية، وهكذا نشبت على أرض كربلاء معركة غير متكافئة وقاتل الحسين بجيشه الصغير قتالاً شديداً، وكان الحسين رضي الله عنه رجلاً مغواراً شجاعاً ما أقبل على ميمنة إلا فلها، وما أقبل على ميسرة إلا كسرها، وما أقبل على جمعٍ إلا شتته وأباد خضراءه ولكن سنة الله غالبة في كل حال.(95/5)
خسارة آل البيت في هذه المعركة
كانت نهاية المعركة خسارة أليمة لآل البيت رضوان الله عليهم وللمسلمين أجمعين، قتل فيها من آل أبي طالب اثنان وعشرون رجلاً، واستشهد الحسين رضي الله عنه، وقتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفساً، وروي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قُتل مع الحسين سبعة عشر رجلاً كلهم من أولاد فاطمة، وعن الحسن البصري أنه قال: قُتل مع الحسين ستة عشر رجلاً كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض لهم شبه، الله أكبر، والله لا أحد يشك أن الحسين وآل بيت رسول الله أفضل وأجل وأعلى منزلة من يزيد ومن مع يزيد، ومع ذلك فإن سنة الله إذا ولي الأمر إمام فينبغي للقوم أن يطيعوه، سيما وإذا ظهر وثبت أن الخروج عليه مفضٍ إلى فتنة عظيمة، كما كان في هذه الحال، وليس من مقاصد هذا السياق حتى لا يتأوله متأول أو يقوله قائل أننا ننتقد الحسين بن علي رضي الله عنه، وإنما لننظر أن نتيجة الخروج ما كانت مسددة وما كانت موفقة، وستأتي بقية الشواهد لتثبت أن كل خروجٍ على إمامٍ وعلى والٍ انعقدت له البيعة من أهل الحل والعقد، واجتمع الناس عليه، حتى ولو كان في المسلمين من هو خيرٌ منه وأصلح منه وأتقى لله منه وأخشى، أن نهايتها غير محمودة العاقبة.(95/6)
الخروج الثاني على يزيد
وخذوا هذا المثال الآخر وهو وقعة الحرة، وما أدراكم ما الحرة؟ لما عزم بعض أهل المدينة على خلع يزيد بن معاوية ووافقهم على ذلك أكثر أهل المدينة وفيهم القراء والفقهاء والعلماء، ولماذا أرادوا خلع يزيد؟ اتهموه بشرب الخمر أو شيء من أمور اللهو، قال ابن تيمية: لم يكن يزيد مظهراً للفواحش كما يحكي عنه خصومه، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: أكثر ما نقم على يزيد في عمله شرب الخمر، فأما قتل الحسين فإن يزيد لم يأمر به ولكنه لم يسؤه.
اتفق أهل المدينة على الثورة وأمروا عليهم الأمراء، وأخرج أهل المدينة واليهم عثمان فقتلوه، وأخرجوا جميع بني أمية من المدينة، وعندما علم الخليفة يزيد بما حصل قرر على الفور مهاجمة المدينة وإرجاعها خاضعة إلى طاعته، فجهز جيشاً عدته عشرة آلاف جندي وجعل أميرهم مسلم بن عقبة المري، يسميه أهل السنة مسرف بن عقبة لأنه أسرف في الدماء، وأسرف في استباحة رقاب القراء، وأسرف في استباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طلب يزيد بن معاوية من أميره الذي بعثه لإخضاع المدينة، طلب من مسلم بن عقبة أن يدعو أهل المدينة ثلاثة أيام فإن رجعوا إلى الطاعة تركهم وإلا فليقاتلهم، ثم طلب منه أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، وقال له: إذا قدمت المدينة فمن عاقك عن دخولها أو نصب لك حرباً فالسيف السيف لا تُبْقِ منهم، أجهز على جريحهم، واقتل مدبرهم وإياك أن تبقي عليهم، هذه من الفتن التي ربما سعى الواحد فيها بكلمة وهو لا يدري، أو بخطوة وهو لا يدري، وقد جاءنا في منهج نبينا صلى الله عليه وسلم حال الفتن أن من كان ماشياً فليقف، ومن كان واقفاً فليقعد ومن كان قاعداً فليضطجع هروباً وبعداً ونأياً عن مثل هذه الفتن، قدم مسلم بن عقبة، بل مسرف بن عقبة، لثلاثٍ بقين من ذي الحجة سنة 63 هجرية فاقتتل الناس ساعة والنساء والصبيان يصيحون وينوحون على قتلاهم، وجعل مسرف بن عقبة يقول من جاء برأسٍ فله كذا وكذا، ومن جاء بأسيرٍ فله كذا وكذا، وجعل يغري أقواماً لا دين لهم، فقتلوهم إلا قليلاً وقتلوا ما لا يحصى ولا يعد، واستبيحت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، حصل فيها من المآسي والفظائع وجالت الخيل في المدينة يقتلون وينتهبون والخيل تجول في كل جهة قتلاً ونهبا، حتى لم يبق من الناس أحدٌ يرفع سيفاً أو يرمي بسهمٍ أو يلوح بنبلٍ، وقد نقل الواقدي عن عبد الملك بن جعفر قال: سألت الزهري كم بلغ القتلى يوم الحرة قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجهاء الناس فسبع مائة قتيل، وأما سائر من قتلوا غير هؤلاء فقد بلغوا عشرة آلاف، عشرة آلاف وسبعمائة قتيل في فتنة كان باعثها رضوان الله، كان قصدها وجه الله، كان باعثها الغيرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهي متى؟ عام ثلاثة وستين للهجرة، يعني بعد موت النبي بثلاثة وخمسين سنة، وقتل الحسين قبلها بأقل من ذلك، فما بالنا في هذا الزمان بعد موت نبينا، أو من هجرة نبينا (1414هـ) إن الأمر جدُّ خطير يا عباد الله، ولأجل ذا نعيد ونزيد ونكرر ونقول لجميع الشباب خاصة، ولجميع أهل الخير والآمرين وذوي الغيرة الذين ما علمنا في قلوبهم إلا حب الله ورسوله، وما علمنا في قلوبهم إلا الغيرة على دين الله وكتابه وسنة نبيه نقول: من الضرورة أن نستحضر هذه الحوادث، وأن نتذكر تلك الوقائع حتى لا يجرفنا الحماس أو تمضي بنا العاطفة إلى أمرٍ لا نحمد عاقبته، ولو بكلامٍ نقوله في مجلسٍ بمجرد الحديث وتبادل الآراء في تلك الوقعة التي استباح بها مسرف بن عقبة المري مدينة رسول الله أصيب نساءٌ وصبيان بالقتل، وقتل جماعة من وجوه قريش والأنصار وخيار الناس من الصحابة وأبنائهم، عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يروي قائلاً: قتل يوم الحرة ثمانون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد ذلك بدري، وعن ابن وهب بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، من حملة كتاب الله جل وعلا، وعلق شيخ الإسلام ابن تيمية على وقعة الحرة فقال عن يزيد: وهذه من كبائره ولهذا قيل لـ أحمد بن حنبل رحمه الله أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا، ولا كرامة أوليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل، وقال ابن كثير: وقد وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة ما لا يحد ولا يوصف، ومما لا شك فيه أن من قام على يزيد بن معاوية لو كانوا يعلمون أن الأمور ستئول وتفضي إلى ما آلت إليه من قتل بعض الصحابة والقراء ووجهاء المهاجرين والأنصار؛ ما رفعوا سيفاً وما أشاروا بنبلٍ أبداً.(95/7)
خروج ابن الزبير على الأمويين
ثم هذا نموذجٌ آخر عبد الله بن الزبير الفارس الشجاع المغوار، الذي لما مرت أمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وقد دخل عليها ثم قال: يا أماه إني أخشى أن يمثلوا بي -أي يجعلوه مثلة ويصلبوه- فقالت: يا بني! شد عليك سراويلك حتى لا تنكشف عورتك، واعلم أن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح.
لله درها من أمٍ شجاعة مغوارة تعلّم وتغرس في أبنائها الشجاعة، ولكن تأويل ابن الزبير أو ما كان من ابن الزبير رضي الله عنه ما كان محمود العاقبة فيما جرى له رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة.
عبد الله بن الزبير لما حصل ما حصل من شأنه ثم صلبه الحجاج عليه من الله ما يستحق، جاءت أسماء وهي كفيفة قد عمي بصرها تتحسس ولدها مصلوباً فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، تشير وتصور أنه ما زال على حصانه بطلاً مغواراً، فلما علم الحجاج بمقولتها أمر بأن ينزل ابن الزبير من الخشبة ثم أرسل الحجاج إلى أسماء أن تأتي إليه فقالت: والله لا آتيه! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فعرفناه، وأما المبير فلا نراه إلا الحجاج، فلما سمع بمقولتها جاء إليها قال: سمعت يا أم أنك تقولين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في هذه الأمة كذابٌ ومبير) فأما الكذاب فـ مسيلمة وقد عرف، وأما المبير فعرفناه فما هو إلا الحجاج، قال: نعم أنا مبير المنافقين، قالت: كذبت قال: الحجاج يا أم إن ابنك ألحد في بيت الله، والله يقول: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
أيها الأحبة! إن ما قيل وما سطر لا يمكن أن نسمح أن يُنال فيه من عبد الله بن الزبير بكلمة ولو صغيرة أو كبيرة، ولكن ابن الزبير لو علم رضي الله عنه واستقبل من أمره ما استدبر ما كان ليقدم على هذا، ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد.
عندما جاء نعي يزيد بن معاوية، لما مات يزيد سنة أربعٍ وستين قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه أكثر الناس وحكم الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام، ولكن لم يستوثق له الأمر ومن ثم لم يعده بعض العلماء في الخلفاء وعد دولته زمن فرقة، فإن مروان قد غلب على الشام ثم مصر وجرت أمورٌ طويلة وحروبٌ مزعجة، وجرت موقعة مرج راهط وقتل ألوفٌ من العرب وقتل الضحاك، واستفحل وعظم أمر مروان إلى أن غلب مروان على الشام، وسار في جيشٍ عرمرم فأخذ مصر واستعمل عليها ولده عبد العزيز بن مروان، ثم دهمه الموت فقام بعده ولده الخليفة عبد الملك بن مروان فغلب عبد الملك على العراق مع الشام، ثم بعث عبد الملك الحجاج بن يوسف إلى ابن الزبير رضي الله عنه وأرضاه، بعث الحجاج إلى ابن الزبير فحاصر ابن الزبير في مكة ونصب المجانيق على جبل أبي قبيس، وعلى جبل قعيقعان فكان الأمر العجيب الخطير يا عباد الله.
المجانيق تضرب في وسط بيت الله، المجانيق تقصف جدران الكعبة، فلم يكن أحدٌ يقدر على أن يطوف بالبيت من شدة قصف المنجنيق، من شدة تلك الفتنة، فأسند ابن الزبير ألواحاً من الساج على البيت وألقى عليها الفرش والقطائف، فكان إذا وقع حجرٌ وقع عليها ونبا عن البيت وكان الناس يطوفون دون الألواح واستمر حصار الحجاج لـ ابن الزبير في مكة ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة وبيت الله يضرب بالمنجنيق، في تلك الفتنة القديمة، وانتهت تلك المأساة بقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ووالديه وأرضاه.
عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير يوم قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديداً؛ جعلوا يتسللون ويهربون إلى الحجاج، وهكذا شأن الذين يسيرون في الدهماء والغوغاء، أو إذا خرج خارجٌ أو زعم زاعمٌ أن سيخرج تكاثر الناس حوله، فإذا انكشف الأمر وكشفت الحرب عن ساق:
ستعلم حين ينكشف الغبارُ أخيلٍ تحت رجلك أم حمار
حينما تشتد الأمور ما أقل من يصمد ويثبت، ولذا فلكل من ظن أن الكثرة هي سبيل للتغيير أو الإصلاح فليعلم أن الكثرة لا تغني شيئاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
عن المنذر بن جهم قال: رأيت ابن الزبير لما قتل وقد خذله من كان معه خذلاناً شديدا وجعلوا يتسللون إلى الحجاج، وجعل الحجاج يصيح: أيها الناس! علامَ تقتلون أنفسكم؟ من خرج إلينا من ابن الزبير فهو آمنٌ عندنا، لكم عهد الله وميثاقه، ورب هذه البنية ورب هذا البيت لا أغدر بكم ولا حاجة لنا في دمائكم، قال: فقام الناس يتركون ابن الزبير ويتسللون أكثر من نحو عشرة آلاف قال: فلقد رأيت ابن الزبير وحيداً ما معه أحد.
وعن إسحاق بن أبي إسحاق قال: حضرت قتل ابن الزبير وجعلت الجيوش تدخل على ابن الزبير من أبواب المسجد فكان كلما دخل قومٌ من باب حمل عليهم وحده حتى يخرجهم، يقتل من يقتل ويجرح من يجرح ويطرد من يطرد وكان ابن الزبير شجاعاً شجاعاً شجاعاً ربما ضرب الرجل ضرب بصاحبه فقتلهما جميعاً، وربما اخترط بسيفه رجلين في ضربة واحدة، لم يكن له مثيلٌ في الشجاعة، إلا من فاقه من الصحابة وأشجع القوم صلى الله عليه وسلم، قال: فكان كلما دخل عليه قوم حمل عليهم حتى أخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذا وقعت شرفة من شرفات المسجد على رأسه فصرعته وسقط وهو يتمثل
أسماء يا أسماء لا تبكيني
لم يبق إلا حسبي وديني
وصارمٌ قد لان في يميني
يعلق الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء على ذلك فيقول: فيا ليت ابن الزبير كف عن القتال لما رأى الغلبة، بل ليته لا التجئ إلى البيت ولا أحوج أولئك الظلمة والحجاج لا بارك الله فيه، إلى انتهاك حرمة بيت الله وأمنه، فنعوذ بالله من الفتنة الصماء، هذا من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء.
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الخلفاء: صلبوا ابن الزبير منكسا، وأخرج مسلم في صحيحه أن عبد الله بن عمر بن الخطاب مر على عبد الله بن الزبير وهو مصلوبٌ فقال: السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صواماً قواماً وصولاً للرحم، أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.
الله أكبر هذا كلام عبد الله بن عمر وقف على ابن الزبير رضي الله عنه وهو مصلوب فيقول: أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، يعني أنهاك أن تطلب البيعة لنفسك، وآمرك أن تسمع لمن أعطاه المسلمون البيعة.(95/8)
خروج ابن الأشعث
وخذوا نموذجاً رابعاً أو خامساً: خرج ابن الأشعث على عبد الملك بن مروان وبدأت هذه الحركة وانتهت في العراق وهي حركة قوية جداً، كادت بعد استفحالها أن تسقط الدولة الأموية وتسقط الخليفة عبد الملك بن مروان، كان الحجاج قد بعث ابن الأشعث على سجستان فثار هناك وخرج أولاً عن طاعة الحجاج ووافقه جيشه، ثم خلعوا عبد الملك نفسه، وأقبل ابن الأشعث في جمعٍ كبير وقام معه علماء وصلحاء لله تعالى، وسبب خروجهم على الحجاج وعبد الملك لما انتهك الحجاج من تأخير وإماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته، وبايع الناس ابن الأشعث ودخلوا في فتنة جديدة، وكانت بيعته على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعهم، وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث من كل جانب حتى قيل: إنه سار معه ثلاثٌ وثلاثون ألف فارس ومائة وعشرون ألف راجل، ووصل ابن الأشعث إلى العراق وقد قويت حركته جداً، وانضم الناس إليه ودخل البصرة ووافقه على خلع الحجاج وعبد الملك أيضاً جمعٌ من الفقهاء والقراء، ثم بدأت المعارك ونشبت الحروب، بين ابن الأشعث وجيوش الخلافة بقيادة الحجاج، وخرج الحجاج في جنود الشام من البصرة متجهاً لـ ابن الأشعث فنزل تستر ثم التقوا في يوم عيد الأضحى المبارك في نهر دجيل فهزم مقدمة الحجاج وقتل أصحاب ابن الأشعث من جند الحجاج خلقاً كثيراً نحو ألفٍ وخمسمائة واحتازوا ما في معسكرهم من خيلٍ وقماشٍ وأموال، وجاء الخبر بهزيمة أصحابه فقال: ارجعوا إلى البصرة فإنه أرفق بالجند، فرجع الناس وتبعتهم خيول ابن الأشعث لا يدركون شاذاً إلا قتلوه، ولا فاذاً إلا أهلكوه، ووقعت عدة وقائع بين الحجاج وابن الأشعث وكانت أكثر الجولات لصالح الخارج ابن الأشعث، وأشهر الوقائع بينهم وقعة الزاوية، ووقعة دير الجماجم ووقعة مسكن، وفي آخر الأمر انهزم جيش ابن الأشعث وانفلت جموعه وفر ابن الأشعث ومن معه راجعاً إلى سجستان رحمه الله ومن معه رحمة واسعة.
رجعوا إلى سجستان الموقع الذي خططوا فيه للثورة والخروج، وأسرف الحجاج في قتل الناس فلم يقدر على أسيرٍ أو على أحدٍ اشترك في المعركة إلا قتله، وقتل كثيراً من العلماء قتل المحدث العالم الجليل ابن أبي ليلى، وقتل سعيد بن جبير رحمهم الله، وقد نقل أن الحجاج قتل يوم الزاوية أحد عشر ألفاً ما استبقى منهم إلا واحداً، كان ولده في كتاب الحجاج، ونقل أيضاً أن الحجاج قتل أربعة آلاف في موقعة مسكن وعن هيجان بن حسان أنه قال: بلغ ما قتل الحجاج صبراً مائة وعشرين أو مائة وثلاثين ألفاً، هذه نهاية هذه الحركة كنهاية ما سبقها.(95/9)
خروج زيد بن علي على هشام
وإليكم نموذجاً آخر، خرج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك، وكان زيد قد وفد على متولي العراق يوسف بن عمر فأحسن يوسف جائزته ثم أراد زيد الرجوع إلى المدينة، فأتاه قومٌ من الكوفة، فقالوا: ارجع يا زيد نبايعك، وزينوا له البقاء معهم وأنهم سيبايعونه على قتال بني أمية، وأن مائة ألف سيفٍ مصلتٍ مشهرٍ معه، ثم استقر زيد في الكوفة وصدق ما قيل له رحمه الله، وبدأ التنقل من منزل إلى منزل وأهلها يسجلون أسمائهم ويبايعون، وكانت الأرقام بالآلاف، وكاتب المدن المجاورة والأقاليم قد استجابوا له ووعدوا أنهم سيتبعونه ويعينونه إذا خرج وحدد لهم موعد الخروج، في تلك الأثناء علم أمير العراق يوسف بن عمر بما يفعل زيد فأخذ يستعد لمجابهته، وعلم زيد أن أمير العراق قد اطلع على ما يجري في الخفاء، وخشي أن يمسك أو تفشل الحركة فأعلنها قبل أوانها ويفاجئ أهل الكوفة بشعارات زيد بدأت تدوي، واجتمع إليه بعض الناس، وبدأ بهم المعركة ولكنهم فئة قليلة وهو ينتظر الجموع، أين الجموع التي سجلت أسمائها؟ وأين الجموع التي وعدت أن عندها مائة ألف سيف مصلتٍ مشهر؟ أين الجموع التي ظن أنها شحمٌ فإذا هي ورم فقال زيد: سبحان الله! أين الناس؟ فقاتل زيد والقلة الذين معه قتال الأبطال فهزموا أهل الشام عدة مرات، ولكن رماة السهام تكاثروا عليه فقتل رحمه الله، ثم صلب وعلق على الخشبة، وانتهت هذه الحركة بأقصر وقتٍ ممكن.
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله معلقاً على خروج زيد، خرج متأولاً وقتل شهيداً ويا ليته لم يخرج.
ما هي نتائج تلك الحركات التي خرجت متأولة إنكار المنكر؟ ورفع الظلم، متأولة قصد الله ورسوله والدار الآخرة؟ كان نتائج ذلك أن حصل بين المسلمين فُرقة عظيمة وفتنٌ أليمة، وقتلٌ بين المسلمين، وإراقة وسفكٌ للدماء، ورءوسٌ قطعت، وأعراضٌ هتكت، وحقوقٌ ضاعت، وأناسٌ تشردت، وسبلٌ اختلت، ومصالح انقطعت، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولو لم يكن إلا أن أعداء الإسلام من الروم والنصارى، كانوا يرون تلك الفرص التي افتتن بها المسلمون فرصاً ذهبية، لجمع الجموع وإعداد العدد لضرب دولة الإسلام لكفى بذلك فساداً.(95/10)
أقوال العلماء في الخروج على ذوي السلطان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة النبوية: وقل من خرج على إمامٍ ذي سلطان إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، وقال ابن حجر الحافظ المعروف في ترجمة الحسن بن صالح في الرد على التهم التي وجهت إليه قال: قولهم كان يرى السيف، أي كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، ثم قال: لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوا الخروج قد أفضى إلى ما هو أشد منه، ذكره في تهذيب التهذيب.
وقال ابن القيم الجوزية رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكار المنكر من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار بالخروج على الولاة، فإنه أساس كل شرٍ وفتنة إلى آخر الدهر، ويقول ابن القيم: وقد استأذن الصحابة رضوان الله عليهم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعة) ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار من إضاعة وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
ويقول العلامة المعلمي اليماني رحمه الله: وقد جرب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر، خرج الناس على عثمان يرون أنهم إنما يريدون الحق فكان عاقبة الأمر أن قتل ثم خرج أهل الجمل يرى رءسائهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فقتل علي وحصلت الفتنة، ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه، نعم، علي بن الحسين خدعه أهل العراق، الذين تعجب من أنهم يبكون عليه ويقيمون المناحة والصياح عليه، هم الذين وعدوه واستخرجوه فلما خرج خذلوه، فكان أن وقع فيما ليس بحسبانه.
قال المعلمي اليماني: ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المأساة، ثم خرج أهل المدينة على يزيد بن معاوية فكانت وقعة الحرة، ثم خرج القراء على الحجاج مع ابن الأشعث فماذا كان، كان ما تعلمون، ثم كانت قضية زيد بن علي، وعرض عليه من عرض أن ينصروه شريطة أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فخذلوه قتلهم الله فكان ما كان.
أيها الأحبة في الله! إن هذا الكلام لا يعني سكوتاً على منكر ولا تركاً للدعوة إلى الله، إن هذا الكلام يصب في قالبه وفي مواقعه وفي مواضعه وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما لنا عذرٌ في تركه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) إن بعض الناس يفهمون فهماً سقيماً من هذا الكلام، ويقولون ما دام الأمر هكذا وهذه مخاطر الخروج، ثم يستنتج أن إنكار المنكرات يفضي إلى الخروج وهذا فهمٌ عليلٌ سقيمٌ بهيم، إن إنكار المنكر هو حياة الأمة، إن الحسبة هي قلب الأمة، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضمان بقاء الأمة، فلا نفهمن هذا من هذا.
والواجب علينا أن نشتغل بالدعوة إلى الله جل وعلا، إني أعجب من رجلٍ أو شابٍ أو صغير أو كبيرٍ أو ذكرٍ أو أنثى يسمع هذا الكلام فإذا سمع بمنكرٍ قال: اسكت! عليك نفسك فالزم ولا تحدث فتنة! وإنما يعني هذا الكلام أن نجتهد في طاعة ونصيحة، واجتهادٍ على حفظ شوكة أمة ووحدة صفٍ واجتماعِ شملٍ؛ مع إنكار منكرٍ وأمرٍ بمعروف ودعوة إلى الله جل وعلا، قد يرى البعض أن هذا يعني أن تشتغل بمدرستك أو بيتك وعملك ولا عليك من واقعك، لا.
إنما سمعته يدعوك أن تهتم بواقعك، فتدعو إلى الله بكل وسيلة من شريطٍ نافع، أو كتابٍ أو رسالة نافعة، أو موعظة حسنة، أو جدالٍ بالتي هي أحسن، بكل وسيلة مشروعة من وسائل الدعوة إلى الله.
إن هذا الكلام -أكرر وأحذر- لا يعني ترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، ولكن الأمر والنهي بحسب من يوجه إليهم، فإن كان لفردٍ فخذه على انفراد، وإن كان لمجموعة فخذهم بخير طريقة، وإن كان لأميرٍ أو والٍ فاقصده في بيته، فاقصده في مكتبه، فاقصده في مكانه، وكن صريحاً جريئاً قوياً ولا يضرك لو خرجت قتيلاً (سيد الشهداء حمزة ورجلٌ قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(95/11)
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المسلمين! لقد فضلنا الله على سائر الأمم يوم أن كنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] ووصف الله المؤمنين بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] ويقول صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدِ السفيه، أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقابٍ أو بعذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) وإن ترك الأمر وترك النهي عن المنكر لمن شر بلاءٍ ابتليت به الأمة، فطائفة يتأولون في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأنه من الحكمة، والله لا حكمة في ترك الأمر بالمعروف، ولا حكمة في ترك النهي عن المنكر، وربما فهم القوم أفهاماً أو فهوماً أخرى، والحاصل أن من أراد صلاح مجتمعه ومن أراد اجتماع شمله، ومن أراد وحدة صفه، ومن أراد قوة شوكته، ومن أراد تدفق الأرزاق إلى بلاده وأمته فعليه بالأمر بالمعروف لأنه من دلائل التقوى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ} [الأعراف:96].
فيا معاشر المؤمنين! من واجبنا أن نعتني بهذا وأن نجتهد في الدعوة إلى الله.
إن من الناس من فهمه سقيم، إما دعه يقول ما شاء كيفما شاء، بأي طريقة شاء سواءً أنتجت وفاقاً أو فتنة أو فيسكت البتة، وليس هذا بصحيح، فليس كل ما يعلم يقال؛ وليس السامعون يتحملون كل ما يسمع.
فيا خبيراً على الأسرار مطلعاً اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
علينا أن نعبد الناس لله، أن نوجه الناس إلى بيوتهم التي فيها من الملاهي ما الله به عليم، علينا أن نوجه الناس إلى منكراتٍ في كل صباحٍ ومساء، من تبرجٍ أو سفورٍ أو لهوٍ أو بطالٍ، أو رؤية صورٍ ومجلات ومشاهداتٍ لا ترضي الله، علينا أن نناصح كل مجلة وكل جريدة، وكل مسئول بالخطاب الرقيق، وبالمقابلة المؤدبة، فإن في هذا خيرٌ عظيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجمع شملنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، ربنا لا تذر لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مرضاً إلا شفيته، ولا معوقاً إلا أطلقته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم احفظهم من دعايات اليهود وكيدهم، اللهم احفظ نسائهم وأبنائهم وذرياتهم، اللهم رد المسجد الأقصى إلى أيدي المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي رومو وفي الفليبين، وفي سائر البقاع، اللهم اجمع شملهم في سائر البقاع، اللهم انصرهم في طاجكستان، واجمع شملهم في أفغانستان يا رب العالمين، وأقم الصلاة، وصلى الله على نبينا محمد.(95/12)
الخلاف لمن نرده
الاختلاف سنة بين الناس، ولكن قد كثر حتى اختلف الناس فيما لا ينبغي الاختلاف فيه، وبعضهم يجره الخلاف إلى النزاع والشقاق، والمقاطعة والتدابر، وأشقى من ذلك عدم التحاكم إلى مرجعية واحدة، وفي هذه المادة علاج لذلك.(96/1)
المتفيقهون وضررهم على المجتمع
الحمد لله، نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ربي عليه توكلت وإليه أنيب، ما من دابةٍ إلا هو آخذ بناصيتها، أشهد أن لا إله إلا الله ربي وحده هو الذي خلق هذا الكون، وخلق العباد عليه، وجعل الحكمة من خلق العباد عبادته {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أشهد أن لا إله إلا الله ربي ما خلق شيئاً عبثاً، ولا يترك شيئاً سدى، فالأمر والخلق والقدر والتدبير بيده وحده سبحانه فلا يقدر أو يدبر أو يأمر أو ينهى أو يشرع إلا لحكمة فيها تمام العدل، ومعها تمام الرحمة.
أشهد أن لا إله إلا الله ما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطوياتٌ بيمينه، أشهد أن لا إله إلا الله ربي وحده رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها، أشهد أن لا إله إلا الله ربي وحده هو الرازق للخلائق أجمعين، لو أراد الخلائق واجتمعوا وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً، أن يطعموا أهل الكون ساعةً لافتقروا وعجزوا عن ذلك {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58].
أشهد أن لا إله إلا الله ربٌ عظيم، عظيمٌ في علمه وفي رحمته وفي حكمته، وعظيمٌ في حلمه على عباده، العباد يعصونه بنعمه التي خلقها لهم، ويمهلهم لعلهم أن يئوبوا أو يتوبوا يوماً ما، أشهد أن لا إله إلا الله ربي وحده كل شيءٍ هالكٌ إلى وجهه، وأشهد أن محمداً رسول الله بعثه الله رحمةً للعالمين، أرسله الله للجن والإنس بشيراً ونذيراً، نبيٌ وما وطئ الثرى خيرٌ من قدمه صلى الله عليه وسلم.
أشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اعرفوا عظمة الله وقدره واتقوا الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: إن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وقدر المقادير بحكمته، وأجرى الأمور بعدله ورحمته، وجعل للعباد منهجاً وطريقاً وصراطا ًمستقيماً يرجعون إليه عند النزاع والخلاف {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
عباد الله: أليس في هذه الآيات الواردة في مواضع شتى من كتاب الله غنية لمن أراد أن يستغني بكتاب الله عن زبالة أذهان البشر؟ أليس في كلام الله كفاية لمن أراد أن يكتفي بكلام الله وهدي رسول الله عن أنظمة البشر؟ ولكن يا معاشر المؤمنين: حينما تتكلم الرويبضة ويظهر الأوغاد والسفل، حينما يتكلم من لا خلاق له ومن لم يعرف بالتقى أو المحافظة على الجماعات، أو من عرف بتاريخ أسود وسابقة الخزي وماضي الرذيلة، أو من لا حظ له من التقى والمكانة والإحسان والإيمان في دين الإسلام، حينما يتكلم في هذا الدين من ليس من علمائه وفقهائه، حينما يتكلم في هذه الشريعة من عرفوا يوماً ما بالتطبيل والتزمير للقوانين الوضعية والأنظمة البشرية، حينما يتكلم أولئك:
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل
ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني حتى أرى وقفة الأوغاد والسفل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا من قبله فتمنى فسحة الأمل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهم لعينه نام عنهم أو تنبه لي
فإن علاني من دوني فلا عجب لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فيا خبيراً على الأسرار مطلعاً اصمت ففي الصمت منجاةٌ من الزلل
قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
عباد الله: في التلميح ما يغني عن التصريح:
تكفي اللبيب إشارة مرموزةٌ وسواه يدعى بالنداء العالي(96/2)
ليس كل خلاف يعتد به
يوم أن يخرج في المجتمع حالاتٌ متشنجة، وظواهر متهورة، ليس لها دليلٌ من القرآن ولا برهان من السنة، ولا نورٌ من أهل العلم ولا بيانٌ من دعاة الإسلام، حينئذٍ يتكلم من يتكلم ويقول: إن الخلاف الفقهي في دين الإسلام يسع الأمة، وقديماً كان العلماء يختلفون والخلاف لا يفسد للود قضية، والخلاف فيه مساغٌ وفسحةٌ أن يأخذ من شاء برأي من شاء، والخلاف إنما هو من اجتهادات البشر وما دام الأمر اجتهاداً فلكل واحدٍ أن يأخذ ما شاء وليس لواحدٍ أن يلزم غيره بقول غيره -شنشنةٍ نعرفها من أخزم- حينما نتكلم في دين الإسلام فإننا ننطلق من أمورٍ وأركان: أولها: أن الله جل وعلا تعبدنا بطاعته ومن أراد أن يأتي بأمرٍ من عنده فهذه هي البدعة، وهي فعلة تخالف السنة والشريعة إما بزيادةٍ أو بنقص: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود كما يقول صلى الله عليه وسلم.
الحاصل يا عباد الله: أننا ننطلق من هذه الأركان ومن أهمها أيضاً: إن الله لم يأمرنا بأمرٍ إلا لتمام الحكمة وتمام الرحمة والنعمة وتمام العدل والبصيرة واللطف التي يعلمها سبحانه وحده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
نحن أيها الأمة: أمةٌ نرتبط بالعقيدة حتى في إماطة الأذى عن الطريق (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة) هذا الأذى الذي نزيله عن الطريق نرتبط فيه بعقيدة؛ فيوم أن نميط الأذى نعتقد أننا نطيع الله، ونعتقد أننا نثاب على ذلك، ونعتقد أن أجر الإماطة يوضع في الموازين، ونعتقد أن هناك موازين، ونعتقد أن الموازين يوم القيامة، ونعتقد ونعتقد فما من أمرٍ جليلٍ ولا كبيرٍ ولا صغيرٍ إلا ويرتبط بسلسلة من الأمور العقدية التي تنتهي إلى قولنا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فإذا قال الله لنسائنا ولبناتنا وأمهاتنا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وإذا قال الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وإذا قال الله جلا وعلا: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] وإذا قال الله جل وعلا: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] وإذا قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53].
نقول كل هذه الآيات البينات الواضحات شرعها الله وأمر الله بها نساء المؤمنين لحكمةٍ يعلمها سبحانه، فإما أن نقول: يا ربنا أنت حكيمٌ ونثق بحكمتك، فنطيع ونسلم لهذه الحكمة.
وإما أن نقول: لست بربٍ حكيم عياذاً بالله من ذلك، وهذا مؤدى من يقول: إن هذه أمور قد لا تنتهي إلى مصلحة المجتمع، أو تنتهي إلى تعطيل النصف من المجتمع، أو هي إهدار للثروة القومية، أو خنقٌ للمجتمع، أو كبتٌ للبنات، أو قعودٌ بالمرأة بـ السعودية عن مواكبة حال المرأة الغربية المتطورة.
حينما نناقش الذين يدعون إلى التبرج والسفور والانحلال بأي دعوى من الدعاوي فنحن نقول لهم بادئ ذي بدء قبل أن نقول: لا.
هنا دليل يقول: يجوز كذلك، وهنا دليل يقول: يجوز كذلك، ونبدأ في معركة فقهية قبل أن نقرر القاعدة التي ننطلق منها، فلنسلم لحكمة الله أو لا نسلم بحكمة الله.
كل هذا -أيها الأخوة- أريده مقدمة حتى أصل إلى ما أريده الآن؛ لأن بعد ظهور الدعوة إلى تحرير المرأة، وتبرج المرأة، وسفور المرأة جاء من يقول: إن بعض القضايا يحلها الزمن، وجاء من يقول: إن الناس قد أنكروا البرقية يوماً ما، ثم تعاملوا بها، وإن الناس أنكروا تعليم البنات ثم وافقوه، وإن الناس ردوا التلفاز ثم أدخلوه البيوت، فما دام الناس قد أنكروا بلسان الحال أو بالمقال، ومادام الناس قد أنكروا قيادة المرأة للسيارة فسيوافقون عليها في يومٍ من الأيام، من قال إن قيادة المرأة كتعليمها؟ من قال: إن قيادة المرأة كالبرقية؟ من قال إن قيادة المرأة كالتلفاز؟ لا والله، ثم إن كان هناك من معارض في مسائل معينة، فليست كل هذه المسائل، وهم عدد قليل، ولا أشك أن معارضتهم في أسلوب تعليم المرأة، وهم فئةٌ قليلةٌ محدودة، وإذا كان هناك من عارض، فهل يعني: أن الأمة كلها قد وافقت في هذا الزمان على قيادة المرأة؟ لا والله، بل رفضوها رفضاً مطلقاًً باتاً.
ولكن المصيبة -يا عباد الله- أن يقال: إن الإسلام جاء برحابة الصدر في الخلاف في المسائل الفقهية، وإن الإسلام أمرنا ألا ينكر بعضنا على بعضٍ في القضايا الاختلافية، وإن الإسلام جعل لكلٍ أن يأخذ بأي رأي من الآراء، وحينئذٍ أسألكم وأنتم الحكم، ما دمنا نقول: إذا وجد الخلاف في أي مسألة من المسائل فالأمر حينئذٍ واسع كلٌ يأخذ من الأقوال ما يشاء.
أولاً: ما هو الخلاف؟ وخلاف من ذلك الذي يعتد به ويعتبر؟ لو أن عالماً من العلماء أفتى، فمر رجل من النخاسة من الذين يبيعون الدواب والجمال فقال: يا شيخ! أنا أخالفك في هذه الفتوى، نقول: قف لقد خالف بائع الحمير هذا العالم! فالمسألة فيها سعة وكلٌ يأخذ بما يشاء من الأقوال هل يعقل هذا الكلام؟ فإذا خالف باعة البصل والثوم العلماء والأجلاء هل يعتبر خلافهم في هذه المسألة؟ وإذا خالف من لا يعتد بخلافه لعلماءٍ شابت لحاهم في الإسلام وعرفوا بالتقوى والقيام والصيام وقضاء حوائج المسلمين وأجمعت الأمة على صلاحهم وحبهم في الله ولله، هل يعتد بخلاف من خالفهم؟ ولو سلمنا بهذا لقلت لواحدٍ منكم: هناك من خالف في الربا وقال يجوز أن نأكل الربا، اذهب وكل ما شئت من الربا، هناك -أيضاً- من خالف وقال: يجوز ألا تغطي المرأة وجهها، بل إن عورة المرأة إلى ركبتها، أخرج امرأتك سافرة الوجه والشعر والساقين.
وهناك من يقول: إن الصلاة مع الجماعة ليست واجبة فصل في بيتك.
وهناك من يقول: إن مجرد النظر إلى الأفلام والمسلسلات في الشاشات ليس نظرٌ للحقيقة وإنما هو نظرٌ للصورة فانظر إلى ما شئت من الأفلام والمسلسلات.
وهناك من يقول: إن المرأة يجوز لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، يعني: أن تقابل امرأةً فتعجبك فتقول لها: زوجيني نفسك، فتقول: ليس عندي مانع، فتخرج وتذهب أنت وإياها وتجد اثنين من الباطلين العاطلين فيشهدان لك.
أي دينٍ هذا؟ هل يجتمع بهذه الصورة دين مسلم ودين زنديق؟ هل يجتمع بهذه الصورة مسلمٌ قد خاف الله وراقبه في كل ما يأتي ويذر وتلفيقٌ وزندقةٌ وبعدٌ عن طاعة الله جل وعلا؟ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بيَّن، وإن الحرام بيَّن، وبينهما أمورٌ مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، إلا وإن لكل ملكٍ حمى، إلا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة).
هذه المضغة إذا صلحت تتبعت سبل الحلال وابتعدت وجانبت عن سبيل المشتبهات، وعن بنيات الطرق، وابتعدت عن الأباطيل والمضلات: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت) تتبعت الرخص والأقوال والخلافات ومضلات الأمور وبنيات الطرق وأقوال السفلة: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؟ فأوصنا، قال: أوصيكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ، واسمعوا وأطيعوا وإن تولى عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً).
صدقت يا رسول الله والله لقد رأينا اختلافاً كثيراً، ونشهد أن كلامك وحيٌ يوحى وأنك لا تنطق عن الهوى، لقد رأينا اختلافاً كثيراً، وياليته اختلافٌ فحسب بل اختلاف ويقولون: إن الخلاف قد أتى به العلماء ويقولون: إن هذا الخلاف قد قال به العلماء، رأينا تقليباً وتكذيباً وزخرفة للأمور ويقول من يقول: إن الخلاف في الإسلام واسع، ولكل امرئ أن يأخذ ما شاء من الأقوال.
لا والله يا عباد الله: ليس هذا بسبيلٍ إلى قيادة الأمة الواحدة والمجتمع الواحد، نحن لسنا كما قلت في مجتمع حزب العمال والمحافظين والمتبرجين والمنحرفين، لا.
نحن في أمة ليست أحزاباً بل هي أمةٌ واحدة سواءً من كان أتقانا لله، ومن كان واقعاً في معصية الله فنحن في إطار الأمة الواحدة، فمنا ظالمٌ لنفسه ومنا مقتصد ومنا سابقٌ بالخيرات؛ لكن أمتنا واحدة ولا نقبل ولا نرضى بالتقسيم والتفريق، يوم أن يستدل بكلام أهل العلم على جواز الخلاف والافتراق في مسائل هي باب تدهورٍ للأمة وباب هلاك لها حينئذٍ يستخدم الدواء سماً، ويجعل الطعام قاتلاً، ويجعل الشراب سماً زعافاً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم أيها الإخوة: قال علماء الأصول والقواعد الفقهية وعلماء الشريعة: إن لولي الأمر أن يلزم الأمة بطرفي المباح، أي: حينما توجد مسألة ويوجد لها وجهان وكلا الوجهين يفيدان الجواز والإباحة، فإذا رأى ولي الأمر أن يمنع هذا وأن يلزم الأمة بهذا لمصلحةٍ تجمع شمل الأمة على منهجٍ واحد، ونظامٍ واحد، وطريقٍ واحد، فلولي الأمر أن يلزم الأمة بواحدٍ من طرفي المباح، حينئذٍ لا نفتح عقولنا لفقه الجرائد وفقه المجلات وفقه الزوايا، وفقه القصاصات، وإنما الفقه عند أهله، وإنما العلم عند أهله.
تبقى الأمور بأهل الخير ما صلحت وإن تسوء فبالأشرار تنقاد
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
أن يصبح أمر الشريعة وأمر الدين يتكلم فيه من يتخصص في السيا(96/3)
حكم العمل بالأحاديث الضعيفة والمنسوخة
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بسبب عزكم وأمنكم ورخائكم وثرائكم وطمأنينتكم وسعادتكم، تمسكوا بالإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ في الدين ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: هناك أمور في دين الإسلام دلت عليها النصوص من القرآن والسنة؛ فلا خلاف فيها أبداً، وأمورٌ دلت عليها نصوصٌ من السنة والقرآن ووردت نصوصٌ لم تثبت أو هي في حكم الضعيفة أو في حكم المنسوخة لا يجوز العمل بها، وإنما يجب العمل بما ثبت وبما صح وبما هو راجح، وأمورٌ في أمور الناس لم يشهد الشارع لها باعتبارٍ لها ولا بإلغاء، فهي عامة لم يرد فيها أمرٌ ولا نهي، وهي التي تسمى بالمصالح المرسلة، فحينئذٍ يجوز للناس أن يجتهدوا في أمور المصالح المرسلة بما يخدم مصالحهم، والمصلحة عند من يرى جواز الاستدلال بها دليلٌ حيثما وجدت، فإذا كانت المصلحة في ذلك الزمن مفسدةٌ في هذا الزمن فلا يجوز الاستدلال بالمصلحة، ولذلك ربط أهل العلم لما قالوا: إن مما يجوز الاستدلال به المصالح المرسلة في أمورٍ ليس فيها دليلٌ من القرآن والسنة، قالوا: ومن الذي يقرر في المصلحة؟ يقررها علماء الإسلام فهم الذين يقولون: في هذا مصلحة وليس في هذا مصلحة، أو في هذه نفعٌ وفي هذا مفسدة، فحينما نقول: إن الشريعة جاءت بأمورٍ والاختلاف فيها واسع ولولا الخلاف لما رأينا هذا الفقه بهذه الدرجة وهذه المنزلة وبهذا نكذب على عقول الناس، وبهذا نخدع شبابنا، ونخدع طلاب جامعاتنا، ونخدع رجالنا، ونخدع أمتنا، فنقول لهم: إنا نتكلم معهم بمنطق الدين والشريعة، ولكنا في الحقيقة نحادثهم بمنطق الخداع والعبث على الدين والشريعة، ينبغي أن ننتبه لذلك، فإذا كانت الأمور قطعية الدلالة، قطعية الثبوت، فحينئذٍ لا مساغ للخلاف فيها، وحينما تكون الأمور ظنية الدلالة أو الثبوت، ولكن رجحت أو جاء ما يرجح دلالتها وثبوتها فإنها تعتبر ديناً ندين الله به، وعملاً نتعبد الله به، ونستبعد ما سواها حتى لا يقول قائل: الربا في القرآن محرم، ولكن يقول الدكتور الفلاني: يجوز التعامل بالربا بهذه الصيغة وبهذه الطريقة؛ لأن هناك دليلاً نقول: حتى وإن جاء دليلٌ فقد يكون موضوعاً أو منسوخاً بالذات مسألة الربا كل دلالاتها واضحةٌ قطعيةٌ بفضل الله جل وعلا.
أو مسائل أخرى حينما يأتي من يقول: يجوز للمرأة أن تتبرج أو أن تخرج أو أن تكشف إلى آخره ويستدل بدليل ويأتي الآخر بدليل، نقول: حتى ولو جئت بدليل فإذا كان دليلك منسوخاً أو إذا كان دليلك مرجوحاً أو إذا كان دليلك ضعيفاً وهذا دليلٌ مرفوعٌ صحيحٌ راجحٌ ثابتٌ وأجمعت عليه الأمة، فما الذي يجعلني أترك ما أجمعت عليه الأمة وهو الصحيح الثابت الراجح وأنتقل إلى المرجوح والضعيف رغبةً في تقليد الغرب ومحاكاة أهل الحضارة الغربية.
لا.
أيها الحبيب: ينبغي أن نكون على مستوى العقل، فخذوا مني نصيحة: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تقبل الكلام في أمور الدين إلا من عالمٍ قد وثق بعلمه، وحصلت الطمأنينة إلى تقواه وعبادته، إلى عالمٍ لا تجره الدنيا ويطرده حرمانها، خذوا النصيحة من عالمٍ من العلماء الأجلاء، وهل على هذه البسيطة فيما أعلم أجل وأكرم وأعلم وأتقى وأخوف بالله ولله من سماحة الشيخ ابن باز، وعددٍ من العلماء حوله في هذه البلاد المباركة، أنا لا أقول أن علماء العالم في مصر أو في سوريا أو في أي مكانٍ من الأماكن أنهم فساق أو فجار، أو من لم يكن سعودياً فليس بعالمٍ، لا.
لكن فيما عرفت وعلمت وعرفنا واطمأننا إلى أن هذا العالم وعددٌ من العلماء فيهم خيرٌ وبركة، أولئك الذين نطمئن إلى دينهم وتقواهم فليكونوا مرجعنا فيما تحدث فيه الزوبعة والبلبلة بسبب تشويش من لا علم له ولا خلاق له، هذه نصيحة إن الدين تسألون عنه أمام الله جل وعلا، وأما طاعة فلان أو القناعة بصوت فلان أو برأي فلان، فذلك إن لم تحاسبوا عليه أو تعذبوا عليه فلن يكون سبباً في دخولكم الجنة أو نجاتكم من النار، إن الأمر دين وإن الأمر أمرٌ تموت عليه، ويكون معك في القبر وتبعث به وتحاسب عليه، وبه تدخل الجنة أو النار فلا نتهاون بأمر الدين في حالٍ من الأحوال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين اللهم دمر أعداء الدين اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، اللهم من أراد بالأمة خلافاً وفرقة وشتاتاً وفزعا اللهم أفزعه في قلبه، اللهم آته الجنون والمس في عقله، اللهم من أراد بالأمة فتنة فلا تقم له راية، اللهم ترفع له راية، اللهم من أراد بالأمة فتنة فأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم من أراد أن توجه هذه الأمة على غير وحيٍ من كتابك وسنة نبيك اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، وافضحه على رءوس الخلائق، وعجل خزيه وعاره وفضيحته ومصيبته بين الخلائق أجمعين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم أصلح ذات بينهم واجمع قلوبهم، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بهم حاسداً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، واجمع شملنا وإياهم على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن قال فيهم نبيك: (خير أئمتكم الذين تدعون لهم ويدعون لكم) اللهم اجعلنا من أولئك يا رب العالمين، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا ميتاً إلا رحمته ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم توفنا على الإسلام سعداء واحشرنا في زمرة الأنبياء، اللهم توفنا راكعين ساجدين، اللهم اقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اجعل خير أيامنا يوم نلقاك، واجعل خير أعمالنا خواتمها، اللهم لا تقبضنا على خزيٍ ولا فاحشةٍ ولا معصيةٍ ولا في سبيل معصية يا رب العالمين يا أرحم الراحمين، اللهم خذ بأيدينا، وخل بيننا وبين ما يسخطك، اللهم خذ بأيدينا إلى ما يرضيك، اللهم حبب إلينا شرعك وبغض إلينا معصيتك، وبارك لنا فيما أبحت يا رب العالمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم اجمعنا بهم في جنتك، وفي دار كرامتك، في دارٍ لا يزول نعيمها ولا يتفرق أحبابها، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفلسطين والفليبين وأرتيريا، وفي كل مكان، اللهم انصر المجاهدين واجمع شملهم ورصاصهم ووحد صفوفهم، واجمع قادتهم وأقم دولتهم.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين اللهم أغثنا، اللهم إن ذنوبنا كثيرة وعفوك أكثر، وإن معاصينا كبيرة ورحمتك أكبر، اللهم لا تمنع عنا الغيث بذنوبنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً سحاً طبقاً نافعاً مجللاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، نستغفرك اللهم ونتوب إليك، اللهم اغفر لنا وأجب دعاءنا واسقنا وأغثنا.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(96/4)
الخوف والرجاء
إن تساهل العبد بذنبه مما يدل على عدم خوفه وخشيته من ربه، وإغراقه في الرجاء يدل على الأماني الكاذبة والأحلام الزائغة التي لا تجدي، وهو خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولابد للعبد أن يعيش في هذه الدنيا -كما قال ابن القيم- كالطائر: يعيش بجناح للرجاء وآخر للخوف ورأس هذا الطائر المحبة.(97/1)
خوف عباد الله الصالحين
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن حسن الظن والرجاء بمغفرة الله ومثوبته ينبغي أن يكون لعبد أخلص النية وأحسن العمل واجتهد في العبادة، أما العصاة المصرون على الذنوب والمستهترون بفعلها والمقيمون على الفواحش، فأي عمل صالح يرجونه ويحسنون الظن به، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
أيها الأحبة في الله: إن كثيراً من أبنائنا، إن كثيراً من شبابنا، إن بعض المسلمين -هداهم الله- ليتساهلون بالذنوب والمعاصي إلى حد الإصرار المقيم والعمل المديم على المعاصي والفواحش والسيئات، دون تفكير أن يتوبوا أو يقلعوا أو أن ينيبوا إلى الله منها، فأولئك لو حادثت بعضهم وهو مصر مقيم على معصية الله قال: إني أحسن الظن بالله.
والله لو أحسن الظن لأحسن العمل.(97/2)
خوف النبي صلى الله عليه وسلم من ربه
إن المقيم على الذنب والمصر على المعصية لفي أشد الحاجة إلى ما يخوفه ويزجره عن التمادي، ويردعه عن الوقوع في الغفلة والشهوات المحرمة، ومن خاف ربه وخشي الله حق خشيته ما تجرأ على معصيته، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشد الأمة خشية لربه يقول: (أنا أعرفكم بالله، وأشدكم خشية له) ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن كملت معرفته بربه ظهر خوفه من الله، وأثَّر ذلك على قلبه، ثم انعكس على جوارحه بكفها عن المعاصي، وإلزامها بالطاعات، تكفيراً لما سلف واستعداداً لما سيأتي.
قال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة) ولكن اعلموا يا عباد الله! أن البكاء وحده ليس دليلاً على الخوف من الله، لكن حقيقة الخوف ترك العبد ما حرم ربه مع قدرته عليه، وإذا بلغ الخوف بالمؤمن هذه الدرجة انقمعت شهوته، وتكدرت لذته، فتصير المعصية المحبوبة للنفس مكروهة يبغضها القلب، وتكف عنها الجوارح، وكلما تمكن الخوف من الله في قلب المؤمن زادت مراقبة العبد ومحاسبته لنفسه.
عباد الله! إن كثيراً من المسلمين لا يخافون الله حق خوفه، ولا يخشونه حق خشيته، أيغرهم إمهاله لهم؟ أم يظنون أن الله غافل عما يعملون سبحانه جل شأنه؟ وبعضهم إذا وقع في معصية ولم تصبه عقوبتها، ولم ير أثرها في الحال؛ يظن أن المعصية بعد ذلك لا تضره، وهو بفعله هذا على حد قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعه فليس له بعد الوقوع غبار
وقد نسي ذلك المسكين أن بعض الذنوب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- مما لا يرى العبد أثره وشؤمه إلا بعد عشر سنين أو عشرين سنة أو أربعين سنة، ترى بعضاً منهم لا يخشى ولا يخاف عاقبة السيئة وما اقترف من الخطيئة، والبعض يتقلب في لهوه وغفلته كأنما ضمنت له الجنة وقدمت بين يديه الرحمة والمغفرة، فأين هو من جيل الصحابة الراشدين والسلف الصالحين الذين بلغوا أعلى مراتب الخوف والخشية من ربهم؛ وما ذاك إلا لكمال معرفتهم بخالقهم.
معاشر المؤمنين: تأملوا كتاب الله تروا كيف كان الملائكة المقربون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، كيف كانوا يخافون من الله، كيف كانوا يخافون من خالقهم، يقول الله جل وعلا في وصفهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
أما نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، تقول عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً وريحاً عرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك! فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا) أخرجاه في الصحيحين.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أما والله لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تندبون أنفسكم وتجأرون إلى الله).(97/3)
خوف الصحابة الراشدين من ربهم
أما الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم من شهد له الرسول بالجنة، وهم بالجملة من أثنى الله عليهم في كتابه؛ فخوفهم من جلال ربهم عظيم، لقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: [يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل] وكان رضي الله عنه يقول: [وددت أن أقدم على الله يوم القيامة لا لي ولا علي].
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين) وكان رضي الله عنه يسمع الآية فيمرض فيعاد أياماً، وقرأ ذات يوم في صلاة الفجر: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] فبكى ونشج نشيجاً عجيباً فعاده الصحابة أياماً في بيته من شدة ما أصابه من خشية الله وخوفه، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء.
وكان أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه يقول: [وددت أن كنت كبشاً فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحسوا مرقي] وقال عمران بن حصين: [يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح].
ويقول علي بن أبي طالب: [والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً بين أعينهم أمثال ركب المعز، قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، إذا طال القيام سجدوا، وإذا طال السجود قاموا، فإذا أصبحوا فذكروا الله عز وجل مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين].(97/4)
خوف التابعين من ربهم
أما التابعون لهم بإحسان والسلف الصالح فلهم من خشية الله وخوف عقابه ما تهتز لذكره القلوب والأفئدة، كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلة فأبكى أهل الدار معه، فلما تجلت العبرة عنه قالت زوجه فاطمة: [بأبي أنت وأمي يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟ فقال عمر: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه].
والحسن البصري رضي الله عنه بكى بكاءً شديداً وسألوه فتلى عليهم قول الله جل وعلا: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33] وتلى أيضاً: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
فهذا خوف الملائكة وذلك خوف الأنبياء، وذاك خوف الصحابة والتابعين، ومنهم المعصوم، ومنهم من شهد له بالجنة فنحن أجدر وأولى بالقول منهم، فاخشوا الله حق خشيته، وتذكروا سطوته وأليم عقابه، واصحبوا -يا عباد الله- من يخوفونكم حتى تأمنوا، ولا تصحبوا من يؤمنونكم حتى تخافوا.
معاشر المؤمنين: إن منزلة الخوف من الله جل وعلا قد تقهقرت في النفوس، وتراجعت في الأفئدة إلى حد عجيب جداً، ترى كثيراً من الناس يدفنون موتاهم بأيديهم ثم يخرجون من أبواب المقابر ضاحكين! وترى كثيراً من الناس يرون ما حل بالخلائق حولهم وتراهم في أكلهم وشربهم لاهين غافلين أفأمنوا مكر الله؟ أفأمنوا عقوبة الله؟ أفأمنوا سخط الله؟ إن أمة من الأمم التي سلفت قد عذبت بذنب واحد من الذنوب، فكيف بهذه الأمة التي فيها أناس قد استجمعوا ذنوباً عظيمة، استجمعوا أكل الربا والسكوت على المنكرات، وبيع آلات اللهو والطرب، والتجارة بإفساد العقول والأفئدة، والتهاون بخروج المحارم، والسكوت عن كلمة الحق، وأمور كثيرة نسأل الله جل وعلا ألا يعذبنا بذنوبنا، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.(97/5)
المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: اعلموا أن المؤمن كما أن خوفه من الله عظيم فله رجاء بالله كبير، فالرجاء والخوف جناحان يطير بهما -عباد الله- إلى منازل الخلود والنعيم في الآخرة، والرجاء هو اطمئنان وراحة في انتظار ما يحبه العبد ويشتاق إليه مع قيام العبد بتحصيل أسبابه، والمعنى: أن المؤمن يرجو النعيم في قبره والأمن في محشره، والجنة داراً مقيماً له برحمة ربه، مع بذله أسباب الفوز والفلاح وفعل ما يرضي الله وتجنب ما يسخطه؛ لأن الرجاء مرتبط بالعمل، أما الرجاء الذي لا يصحبه عمل صالح ولا يقترن به عبادة مخلصة فهو تمنٍ مجرد، وما ظنكم معاشر المؤمنين برجل يقول: أرجو أن يوهب لي ولد صالح ولم يتزوج، أو يقول: أرجو أن تنبت هذه الأرض عنباً ورماناً وهو لم يحرثها ولم يبذرها ولم يبذل أي سبب في إصلاحها، فلا شك أنكم تقولون: هذا مجنون لا عقل له.
إذاً: فما تقولون في رجالٍ لا يشهدون الصلاة مع الجماعة، غافلون عن ذكر بهم وعبادة خالقهم، في ملهاة الغناء والطرب والمعاصي واللهو، منشغلون بذلك عن كل خير ومعروف، مجترءون بذلك على حدود الله ومحرماته، ثم إذا كلمهم واحد منكم وقال لأحدهم: أي عمل قدمت بين يديك؟ فرد عليه قائلاً: إني أرجو الجنة وأرجو رحمة ربي، وهو مصر على المعصية مقيم على الفاحشة، فهل يسمى قوله هذا رجاءً؟ لا والله، بل هذا هو التمني رأس أموال المفاليس الذي يصدر من العاجزين، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، ورحم الله القائل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تمشي على اليبس
وعلى ذلك فالرجاء الصادق ينطبق على انتظار الجزاء والثواب بعد تمهيد أسبابه المرتبطة بفعل الطاعة وتجنب المعصية، وبعد ذلك ينتظر العبد التوفيق والهداية والقبول من الله سبحانه وتعالى، لقد ذم الله جل شأنه أقواماً هذا شأنهم، أقواماً يرجون بلا عمل فقال سبحانه وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] وقال سبحانه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف:35 - 36].
وتأملوا قول الله جل شأنه في وصف عباده الراجين رحمته بصدق: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218] فجعل الرجاء بعد الإيمان وبعد الهجرة والجهاد.
واعلموا -يا عباد الله- أن الرجاء محمود ومطلوب من العبد؛ بأنه باعث على العمل ومعين على تحسينه، بخلاف اليأس الذي هو مذموم وصارف عن العمل.
عباد الله! ينبغي لكل مسلم أن يحسن العمل والرجاء والظن، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي -وفي رواية- فليظن بي ما شاء) وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله).(97/6)
سعة رحمة الله ومغفرته للذنوب
اعلموا -يا عباد الله- أن العبد المذنب إذا تاب وأقلع عن الذنوب والمعاصي فإنه يكون بأمس الحاجة إلى رجاء رحمة ربه وعفوه وغفرانه، إذ أن بعض العصاة والمذنبين يردهم اليأس والقنوط عن التوبة والإنابة، ولا شك أن هذا من كيد الشيطان ووسوسته.
حينما يأتي الشيطان إلى العبد فيقول له: أذنبت وعصيت وفعلت ما حرم الله عليه فأنى لك بالتوبة؟! وكيف تدرك التوبة وقد فعلت ما فعلت وجنيت ما جنيت؟! ولا يزال الشيطان بالعبد يجعله يائساً من رحمة الله، ويقنطه من مغفرة ربه حتى يصل به إلى اليأس والقنوط، بل إن بعضهم قد يصل به الأمر مع الشيطان أن يقول له: اكفر بالله ثم أسلم لأن الإسلام يجب ما قبله ويمحو ما قبله.
ومن يضمن للعبد المسكين أن يعيش بعد كفره إلى أن يجدد إسلامه؟ وليس للعبد في هذه المرحلة وفي هذه المعركة الرهيبة مع الشيطان إلا أن يجدد رجاءه وعزمه بالله.
وعلى ذلك فالواجب على كل مسلم مهما كبرت ذنوبه ومعاصيه أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً، ثم يكثر من الحسنات الماحية للسيئات، ثم يعظم رجاءه بربه ويحسن ظنه بخالقه، وليتذكر قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] وقول الله أيضاً: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6] وقول الله جل وعلا: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102] وقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وقول الله أيضاً: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على سعة الله ومغفرته لعباده التائبين الأوابين المقلعين عن الذنوب، النادمين على ما سلف، الكارهين أن يعدوا إلى المعصية كما يكره المرء أن يقذف في النار.
وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل أحدٌ الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله علي وسلم قال: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم! قم فابعث بعث النار، فيقول: لبيك وسعديك والخير بين يديك، يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ يشيب المولود، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم وقالوا: يا رسول الله! وأيَّنا ذلك الواحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، فقال الناس: الله أكبر! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبر الناس فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ليغفرن الله عز وجل يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر].
وفي السيرة في قصة سبي هوازن أن امرأة جاءت تسعى بين السعي فوجدت وليداً لها فأخذته فضمته إلى صدرها، ثم ألقمته ثديها والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، والصحابة ينظرون فقال صلى الله عليه وسلم: (أتظنون أن هذه تلقي بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).
وفي الحديث (إن الله جل وعلا خلق مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة في الأرض؛ فبها يتراحم الناس والوحش والسباع والطير والبهائم، وادخر تسعاً وتسعين رحمةً لعباده يوم القيامة) فأقبلوا على الله -يا عباد الله- وأبشروا بمغفرة الله إن صدقتم العدل والعهد والوعد مع الله، أقبلوا إلى الله وجددوا التوبة واستغفروا الله كثيراً، أنيبوا إلى ربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له، بادروا إلى الأوبة قبل أن تبلغ الروح الحلقوم.(97/7)
التوبة التوبة ياشباب!
عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! يا شباباً سلف منه ما سلف! يا شباباً مضى منه ما مضى! يا شباباً فعل في سفره ما فعل! يا شباباً اجترح في خلوته ما اجترح! أبشر بقول الله في آياته: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فأنيبوا إلى الله، ربكم رحيم غني كريم، وهو غني عنكم يتودد إليكم يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] إن رحمة الله لا يستعصي عليها ذنب، ولا تعجزها معصية، فأين العبد التائب؟ وأين العبد الأواب؟ أين العبد البكاء على خطيئته؟ أين العبد الأواه المنيب؟ عودوا إلى الله يا شباب الإسلام! إن طريق الإسلام كله سعادة ولذة وراحة وطمأنينة، إن الاستقامة إن الالتزام إن الارتباط بالصالحين إن حسن العلاقة بالطيبين الصالحين من أسهل الأمور وأهونها، ومن أعظم الأسباب الميسرة للحياة السعيدة خلافاً لحياة المعصية والفواحش والآثام والكبائر فكلها قلق ونكد وحسرة.
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
فيا شباب الإسلام، ويا أمة الإسلام! عودوا إلى الله الذي هو غني عنكم ويتودد إليكم، ويتقرب إليكم، يقول الله جل وعلا: (إذا تقرب إلي عبدي باعاً تقربت إليه ذراعاً، وإن أتاني العبد يمشي أتيته هرولة، وإن لقيني لا يشرك بي شيئاً بقراب الأرض خطايا لقيته بقرابها مغفرة) ذلك فيما سلف والله يعفو عنه، ذلك فيما مضى والله يتجاوز عنه، فعاهدوا الله من هذا المكان، في هذه الساعة، في هذه اللحظة، عاهدوا الله جل وعلا على ترك الذنوب وترك الإصرار على المعصية فإن الله غفور رحيم.
وهنيئاً لعبد تاب إلى الله، في الحديث أن الله جل وعلا يدني عبداً من عباده يوم القيامة، والخلائق في الحشر واقفون، والناس ينظرون فيدنيه الله جل وعلا، ثم يكشف له سجله يقول الله: عبدي أتذكر ذنب كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: إي يا ربي والله أذكر.
فيقول: إي عبدي أتذكر كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول: إي يا ربي والله أذكر.
فيقول: أي عبدي أتذكر ذنب كذا في مكان كذا في يوم كذا؟ فيقول: أي والله أذكر.
فيقول الله جل وعلا لعبد -تغمده الله برحمته وأدركته التوبة-: يا عبدي! إن غفرتها لك وجعلتها حسنات.
فيقول العبد: يا رب! إن لي ذنوباً ما رأيتها، أين هي؟ طمع العبد أن يراها حتى تجعل مع حسناته، وحتى تقلب من سيئات إلى حسنات، عند ذلك ضحك النبي صلى الله عليه وسلم، أو كما جاء في الحديث.
فيا عباد الله: توبوا إلى الله، إن الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) الجنة قريبة إليكم يا عباد الله، الجنة سهلة ميسرة.
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ ـخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
فكونوا من خطاب ما عند الله، كونوا من أهل الشراء للجنة، كونوا ممن ينالون سلعة الله (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) وثمنها التوبة والإنابة والإقلاع والاستغفار وكثرة المداومة على الصالحات، والبعد عن السيئات بعد فعل الواجبات وترك المحرمات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف:58].
أسأل الله العلي العظيم أن يمنَّ عليَّ وعليكم بالتوبة الصادقة النصوح.
اللهم اهد شبابنا وردهم إلى الحق رداً جميلاً، اللهم أصلح أفئدتهم واهد قلوبهم، واحفظ جوارحهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم احفظ إمام المسلمين، وارفع اللهم إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين! اللهم لا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم اقمع أعداء دينك أعداء الدين، اللهم ثبتنا على ما يرضيك إلى أن نلقاك، اللهم جنبنا أسباب سخطك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.(97/8)
الدجال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر أمته الدجال) ومن تأمل هذا الحديث علم عظم الخطر الذي جعل أنبياء الله ورسله يحذرون أممهم هذا الخطر الداهم رغم بعده عنهم، فمن باب أولى أن نحذره نحن؛ لما نراه من ازدياد الفتن في هذا الزمن مما ينذر بخروجه، ومن يدري؟! فالله على كل شيء قدير.
وقد ذكر الشيخ هنا شيئاً من صفاته وصفة خروجه وفتنته للناس وكيفية العصمة منه.(98/1)
سبب الحديث عن فتنة الدجال
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وهو الذي أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وتفضل علينا بسائر النعم، ودفع عنا الكثير من النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، ولم يعلم طريق خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شرٍ إلا حذرها منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى عملاً بقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
عباد الله: اعلموا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أخبر عن أماراتٍ وعلاماتٍ تظهر في أمته في آخر الزمان، وبيَّن أنها بابٌ من أبواب الفتن التي حذَّر منها، ونهى عن الوقوع والولوغ فيها، وأخبرنا بها لنأخذ الحيطة والحذر، ولكن أكثر الناس عن التذكرة معرضون، وفي جهلهم وغفلاتهم يعمهون.
عباد الله: إن مما يدل على جهل الكثيرٍ من الناس وغفلتهم في هذا الزمان، أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الكثير من الفتن، ومع ذلك ترى الكثير من العباد واقعين فيها، وإن من الفتن التي جاءت فيما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فتنة المسيح الدجال، نسأل الله أن يقبض أرواحنا إليه على الشهادة والسعادة قبل تلك الفتنة، أو أن يثبتنا على دينه إن مرت بنا.
وفتنة المسيح الدجال يا عباد الله! من أعظم الفتن التي سيمتحن بها المسلمون والمؤمنون، وقبل أن نخوض في الحديث عنها أحب أن أقف وقفة لسائلٍ أو قائلٍ أو متعجبٍ بقوله: ما الداعي لهذا الكلام حول الدجال وأمره من الفتن التي لم تقع بعد؟ والجواب على هذا يا عباد الله! واضحٌ فيما يدركه كل واحدٍ منكم في انتشار الفتن التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر منها، ومع ذلك فالكثير منا فيها واقعٌ إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم، لقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الدنيا وزهرتها، والتهافت عليها، وبيَّن فناءها وزوالها، ومع ذلك تكالب الكثير عليها يجرون لاهثين، وحذَّر صلى الله عليه وسلم من فشو آلات اللهو والطرب والغناء، ومع ذلك لا تجد إلا القليل النادر ممن يسلم منها، وحذَّر من تفشي الجهل وانقراض العلم، ومع ذلك نرى الإغراق في الضلالات والبدع والجهالات، ونرى البعد عن العلم والعلماء ومجالستهم، نرى النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر من الربا وبيَّن أنه ممحقٌ للبركة، ولعنةٌ على آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، ومع ذلك ترى الكثير من الناس وقعوا فيه صراحةً أو حيلة يحتالون عليه، فالحاصل أن وقوع الفتن وتفشيها بين الناس من دون علمٍ بها أو استعدادٍ للبعد عنها مظنةٌ للوقوع فيها، والاصطلاء بنارها، فيكونون كما قال القائل:
آتاني هواه قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
فإذا كان صلى الله عليه وسلم بيَّن هذه الفتن، وحذَّر منها، ومع ذلك اغتر الناس ببريقها وزخرفها وركضوا وراءها، فلا غرابة أن يتبع غوغاء الناس وجهالتهم المسيح الدجال بفتنته، ولا غرابة أن يصدقوه لما يرون معه من الفتن والمعجزات التي امتحن الله عباده المؤمنين بها.(98/2)
ذكر الأحاديث الواردة في الدجال
اسمعوا إلى هذا الحديث وأنصتوا له.(98/3)
نزول الدجال إلى الأرض وفتنته فيها
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من خلق آدم إلى قيام الساعة أمراً أكبر من الدجال) وفي زمنه صلى الله عليه وسلم قبل ألف وأربعمائة سنة كان يخبر أصحابه عن الدجال ويحذرهم منه، جاء في الحديث (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال ذات غداة فرفع فيه وخفض حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما عرف صلى الله عليه وسلم ذلك فينا، فقال: ما شأنكم؟ قلنا: يا رسول الله! ذكرت الدجال غداةً فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم) -اللهم صلٍّ على نبينا محمد، اللهم صلِّ على إمامنا وحبيبنا وقدوتنا محمد، اللهم ابعثه المقام المحمود والوسيلة والدرجة العالية الرفيعة لمحبته لأمته صلى الله عليه وسلم- (قال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شابٌ قطط عينه طافئة كأني أشبهه بـ عبد العزى بن قطن، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنه خارجٌ خُلة بين الشام والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله! اثبتوا، قلنا: يا رسول الله! فما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً، يومٌ كسنةٍ ويومٌ كشهرٍ ويومٌ كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله!) وانظروا حرص الصحابة على الصلاة حتى في زمان الفتن إن مرت بهم (أرأيت ذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم واحد؟ قال: لا.
اقدروا له قدره، قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ -ما إسراع الدجال في الأرض؟ - قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم ويؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم -أي: أغنامهم- أطول ما كانت براً وأشبعه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي الدجال القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين، ليس بأيديهم شيءٌ من أموالهم، ويمر بالخِربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه تقطر منه وإذا رفعه تحدر منه جمان اللؤلؤ، فلا يحل لكافرٍ يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى بن مريم قومٌ قد عصمهم الله من الدجال فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) هذا حديثٌ صحيحٌ رواه مسلم.(98/4)
حديث الجساسة
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في سياق إخباره عن وجود المسيح الدجال في حديث الجساسة الطويل الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه رحمه الله، وفي الحديث: (أن قوماً ركبوا البحر فلعب بهم الموج شهراً إلى أن رماهم إلى جزيرةٍ وسط البحر فدخلوها، فإذا بدابةٍ ذكر من خبرها ما ذكر، قالت: أنا الجساسة، قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدِّير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعاً، وفي بعض الروايات: أنهم دخلوا عليه فوجدوه مكبلاً بالحديد من رأسه إلى قدميه، ومما دار بينهم وبينه قوله: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب) انظروا إلى هذا السؤال من قديم وإلى يومنا هذا وإنه لموشك الحدث والوقوع (قال: أقاتلته العرب؟ قلنا: نعم.
قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه ظهر عليهم وعلى من يليهم من العرب، وأطاعوه، فقال: قد كان لهم ذلك، قلنا: نعم.
قال: إن ذلك خيرٌ لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم أنا المسيح الدجال، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قريةً إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة -أي: المدينة - فهما محرمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدةً منهما، استقبلني ملكٌ بيده السيف مصلتاً يصدني عنها) وهذا صحيحٌ أيضاً رواه مسلم.(98/5)
بعض شبهات الدجال
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يأتي الدجال وهو محرمٌ عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينتهي إلى بعض السباغ فيخرج إليه رجلٌ هو خير الناس فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدَّثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأمر الدجال به فيشبح، أي يربط في يديه ورجليه على خشبة، فيقول الدجال: خذوه واشبحوه فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدمه، ثم يمشي الدجال بين قطعتيه، فيقول له: قم، فيستوي قائماً، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، ثم يقول: أيها الناس! إنه لا يفعل بعده بأحدٍ من الناس ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذه بيديه ورجليه، فيقذف به يحسب الناس إنما قذفه في النار، وإنما ألقي في الجنة) هذا أعظم الشهداء عند رب العالمين.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر، معه جنةٌ ونار، فناره جنةٌ وجنته نار) رواه البخاري ومسلم.
وروى أبو داود رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (من سمع الدجال فلينأ عنه -فليبتعد عنه- فوالله إن الرجل ليأتيه ويحسب أنه مؤمنٌ فيتبعه بما بعث به من الشبهات).
وقال صلى الله عليه وسلم: (تعلمون أنه ليس يرى أحدٌ منكم ربه حتى يموت، وإنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه من كره عمله) أي: من كره عمل الدجال، رواه البخاري ومسلم.
ومن الجميل -يا عباد الله- أن تعلموا أن أول زمرةٍ كبيرة عظيمة تتبع الدجال إنما هم اليهود عليهم من الله ما يستحقون، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه الإمام أحمد: (لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على منابر).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ يمتعكم متاعاً حسناً، ويرسل السماء عليكم مدراراً.(98/6)
كيفية العصمة من الدجال
الحمد لله الواحد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، بشريعة الإسلام، واستمسكوا وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن كل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: لقد بين نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم بطلان دعوى الدجال، وصفاته وما معه من الفتن لتحذر الأمة مكره وفتنته، وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع الدخول إلى مكة والمدينة، بل تحول الملائكة دونه في دخولها ويمنعونه.
وعلَّم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة ما يعصمهم من فتنة الدجال، ومن ذلك الاستعاذة من فتنته، فقد ثبت في الأحاديث الصحاح من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من فتنة الدجال في الصلاة، وأنه أمر أمته بذلك أيضاً، فكل واحدٍ يقول في صلاته: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.
وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: الاستعاذة من الدجال متواترةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يعصم من الدجال بإذن الله حفظ آيات من سورة الكهف، روى أبو داود بسنده إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) ومن ذلك الابتعاد منه، كما جاء في الحديث السابق، حديث عمران بن حصين: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن المؤمن ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه لما يبعث به من الشبهات).
ومما يعصم به من فتنة الدجال سكنى مكة والمدينة فقد شرفهما الله تعالى وأدام حفظهما وصونهما كرامةً وطهراً ومثابةً وأمناً للمسلمين، ورفعةً وسيادةً لولاة أمورنا يا أرحم الراحمين! فهل علمنا معاشر المسلمين كل ما يعصم من الدجال؟ وهل علَّمنا أبناءنا وبناتنا ليعتصموا بذلك من فتنته لو خرج في زمنهم أو زمننا، وأن الأحاديث الواردة في شأنه كثيرةٌ وواضحةٌ في صفاته وسيرته، وقد بسطها الحافظ ابن كثير في كتابه النهاية، أو المسمى بـ الفتن والملاحم.
ولكن الذي يؤسف له معاشر الأحبة! أن نشهد من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا غفلةً عميقة عن الدجال وفتنته وما قبله وما بعده من الفتن، وكأن الواحد منا قد أعطي الأمان بأن الموت لا يأتي في عمر الشباب، أو أن الدجال لا يظهر في زمنه، أو غير ذلك من الفتن، فمنذ ثلاثة أعوام أو أكثر إلى زمننا هذا مرت في بلاد المسلمين فتنٌ عظيمة عمت البلوى بها في بلدنا وفي غيرها من البلدان ولا داعي لذكرها، فالكل يعرف، ومع ذلك ما ازداد بعض العالمين إلا بُعداً وجهلاً وضلالاً، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين الهداية والتثبيت.
ولو نظر الواحد منا لوجد الكثير تلهج ألسنتهم في الدعاء في كل صلاة، نعوذ بك من عذاب جهنم ومن فتنة القبر ومن فتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال، ولكن كثيراً من الناس أصبح تعوذهم تعوذ عادةٍ لا عبادة، تعودنا أن نتعوذ من فتنته، ولكن لا يخطر ببال الواحد منا تلك الفتن والشبهات والمعجزات التي تظهر بظهوره، وإذا كان بعض المسلمين قد افتتن بزخارف الدنيا وبهرج الحضارة، وانغمس في مهاوى المادة، وكل ذلك أقل وأكثر قلةً من فتنة المسيح الدجال، فكيف الحال إذا خرج ومعه صورة الجنة والنار، ومعه معجزات القطر والجدب، ومعه كنوز الذهب والفضة، فإذا خرجت كنوز الأرض وذهبها وفضتها أترون ذلك الغافل الذي يجري لاهثاً وراء المادة، أترون ذلك الذي يجري وراء الشهوة والثروة والمنصب، أترونه يعصم نفسه من تلك الفتن المظلة؟ والمتأمل في بعض حال المسلمين يجدهم يجرون وراء المشعوذين والمتطببين، اغتراراً بما لديهم، فكيف لو خرج الدجال على هؤلاء؟! اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القبر، ومن عذاب جهنم، وفتنة المسيح الدجال.
معاشر المسلمين: إن هذا لأمرٌ عظيمٌ وخطيرٌ جداً، وإن كثيراً من الناس لفي غفلة عنه، بل والله ولا أبالغ إن قلت: إن بعض الناس لأول مرةٍ يسمع بتفاصيل أمره، وما ذاك إلا بعد وجهل عن العلم ومجالسة أهله، فينبغي لكل مسلمٍ أن يلم بأمور دينه، وأن يتحقق في أمر عقيدته، وما هو عليه من الدين، وأن يحصن نفسه وإسلامه بكل ما يفضي إليه من سبيل؛ لأن الفتن إذا خرجت عمت وعم بلاؤها البعيد والقريب، فنسأل الله جل وعلا أن يعصمنا من ذلك.
اللهم توفنا إليك من غير فتنة ولا خزايا ولا مفتونين، اللهم ردنا إليك مرداً جميلاً، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم بطانةً صالحة، اللهم جنبهم بطانة السوء، اللهم ما علمت في مسلمٍ خيراً لهم فقربه منهم، وما علمت في نفسٍ منفوسةٍ شراً لهم فأبعدها منهم، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم قنا واكفنا شر الفتن والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد ولاة أمورنا بفتنة وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا ونساءنا بضلالٍ وتبرجٍ وسفور اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه وأدر عليه دائر السوء برحمتك وقدرتك يا جبار السماوات والأرض! اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى الجنة مصيرنا ومآلنا، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، برحمتك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: صاحب نبيك على التحقيق أمير المؤمنين أبي بكرٍ الصديق، وارض اللهم عن الإمام الأواب شهيد المحراب عمر بن الخطاب، وارض اللهم عن مجهز جيش العسرة بأنفس الأثمان عثمان بن عفان، وعن فتى الفتيان ليث بني غالب علي بن أبي طالب، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه التي لا تستطيعون حصرها، وعلى نعمه التي لا تقدرون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(98/7)
ابن باز فقيد الإسلام
تكلم الشيخ في هذه المادة عن فضل العلم والعلماء، ثم عرج بذكر وفاة أحد علماء هذه الأمة ألا وهو الشيخ ابن باز، ثم ذكر لمحات من حياته رحمه الله، وختمها بعزاء ومواساة.(99/1)
بيان فضل العلم والعلماء
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين: إن أعظم شيء حصلته النفوس واكتسبته القلوب هو العلم الشرعي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ العلم حياة القلوب، وبه تنشرح النفوس، وهو نورٌ وهدى، وحاجة العباد إليه أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل ضرورتهم إلى العلم تفوق كل ضرورة، والعلم -يا عباد الله- تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معلم الحلال والحرام، ومنار سُبل أهل الجنة، هو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل في السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والجليس عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم.
أهل العلم ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، والعلماء يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظُلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، التذكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به تُوصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.
يقول عز وجل في بيان فضله ورفعة قدر أهله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] قال القرطبي: أي في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيُرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم.
ويقول تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وتدبروا يا عباد الله! فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء، لقرنه الله باسمه واسم ملائكته ورضي شهادتهم كما قرن اسم العلماء.
يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي عليه رحمة الله: وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء؛ لأن الله خصهم بالذكر دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة، وفي ضِمن ذلك تعديلهم -أي: أنهم عدول- وأن الحق تبعٌ لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يعلم قدره.
وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فنفى التسوية بين أهل العلم والعوام، وفي التسوية بين أهل العلم والعوام ظلم وأي ظلم، وفي هذا دلالة على أن للعلماء من الاعتبار بالشرع والمنزلة بين الخلق ما ليس لغيرهم من البشر، وجاءت السنة أن العلماء ورثة الأنبياء، وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه الإمام أحمد والترمذي.
ولهذا استحق العلماء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها، ووعاها وأداها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه أبو داود والترمذي، وقد أراد الله بأهل العلم والعلماء خيراً، ففقههم في الدين، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سُرجاً للعباد، ومناراً للبلاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه.
وحاجة البشر إلى العلماء عظيمة.
يقول الإمام أحمد، إمام أهل السنة رحمه الله: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرةً أو مرتين، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.
ويقول الإمام الآجري: فما ظنكم رحمكم الله بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لابد لهم من السلوك فيه، فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ انطفأت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ هكذا العلماء في الناس؛ لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يُعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس، واندرس العلم بموتهم، وطم الجهل.
ولولا العلم لفسد عمل الناس، يقول الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح].
إن مثل العالم كمثل الماء والغيث، انتفاع الناس بهم غير محدود بحد، يقول ميمون بن مهران: إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة، يستقي الناس منها ويشربون.
وقال بعض الحكماء: مثل العلماء مثل الماء حيثما نزلوا نفعوا، وإن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلكوا.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) وليس يغني عن وجود العلماء وجود الكتب، حتى ولو كانت كتباً سماويةً، إذ لو أغنت تلك الكتب عن قوم لأغنت عن بني إسرائيل من اليهود والنصارى الذين انحرفوا، فكانوا ضربين في انحرافهم: فمنهم من عبد الله على جهل فكان من الضالين، ومنهم من أعرض عن أوامر الله عن علم فكان من المغضوب عليهم، كل أولئك اليهود والنصارى كانوا أهل كتاب؛ للنصارى الإنجيل، ولليهود التوراة، ولم يغن وجود هذه الكتب عنهم شيئاً عندما لم يكن هناك حَمَلَةٌ لها صادقون في حملها، بعد أن بقوا خُلوفاً غيروا وحرفوا وبدلوا، وكذلك هذه الأمة لن يغني عنها وجود القرآن إذا لم يكن ثمة علماء يحملونه ويبينونه، ويعلمونه ويهدون الناس إليه، إذ لو كان القرآن وحده يكفي من دون علماء ودعاة يبينون، لكفى في هداية البشرية أن تُرسل المصاحف وتراجمها إلى أصقاع الأرض، فيهتدي العباد أجمعين، لكن لابد مع القرآن من علماء وأئمة يهدون ويبينون ويعلمون.
عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خذوا العلم قبل أن يذهب، قالوا: وكيف يذهب العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم! أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً، إن ذهاب العلم أن يذهب حملته).
فذهاب العلم إذاً إنما هو بذهاب العلماء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [أتدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء] وذهاب العلماء معناه هلاك الناس، فعن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيد بن جبير رحمه الله، قلت: يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
وليس للناس عوضٌ ألبتة عن العلماء إلا أن يكون لهم عوضٌ عن الشمس والعافية، قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال الإمام أحمد: يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف؟ أو منهما من عوض؟!(99/2)
وفاة الشيخ ابن باز
لقد علمتم -يا عباد الله- أنه في فجر يوم الخميس الماضي في السابع والعشرين من محرم سنة (1420هـ) قضى الله قضاءه بالحق، فألحق بالرفيق الأعلى الشيخ الإمام، حسنة الأيام، شيخ الإسلام، العلامة، الحبر البحر الفهامة، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، ناصر السنة، وقامع البدعة، العالم السلفي النقي، الورع الزاهد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.
جاءه الأجل فشق إليه الطريق، وأماط عنه حياطة الشفيق، ولظى عنه طب كل طبيب، فقبض ملك الموت وديعته بالأرض، ثم استودع مسامعنا من ذكره اسماً باقياً، ومحا عن الأبصار من شخصه رسماً فانياً، فالحمد لله بارئ النسمات بما شاء، ومصرفها بما شاء، وقابضها حيث شاء، اللهم هذا عبدك وابن عبدك نشأ في المأمور به من طاعتك، ومات على الحق في عبادتك، وعاش ما بينهما مجاهداً في سبيل دينك، ناطقاً بالحق في مرضاتك، ذاباً بقلمه ولسانه عن كتابك وسنة رسولك.
لقد مات القاضي والمفتي، والداعية والمصلح، والرئيس والإمام والمعلم، والمكرم للضيف، والحنون على الأرامل والأيتام، ومطعم المساكين، والواسطة في الأمور الخيرية.
مات الذي بذكره بعد ذكر الله ونبيه صلى الله عليه وسلم تتعطر الأفواه، وبمجالسته تطيب القلوب، وبالأخذ منه تستنير العقول، يقول طلابه: إذا قست قلوبنا جلسنا بين يديه فانجلت تلك القسوة، وزالت تلك الغشاوة، وأحسسنا بروح وإيمان، وقوة في الطاعة والعبادة.
مات الذي أحبه الصغير قبل الكبير.(99/3)
لمحات من حياة الشيخ ابن باز
لقد وهب الله سبحانه وتعالى الشيخ ابن باز القبول في الأرض، يحبه ويجله القاصي والداني، والصغير والكبير، والمرأة والرجل، والعزيز والوضيع، وغيره.
أهكذا البدر تخفي نوره الحفرُ ويذهب العلم لا عينٌ ولا أثرُ
خبت مصابيحُ كنا نستضيء بها وطوَّحَت للمغيب الأنجم الزهرُ(99/4)
اهتمام الشيخ ابن باز بقضايا المسلمين
عرف رحمه الله بأنه كان معطاءً يستقبل الوفود، ويقضي حوائجهم ما استطاع، ويراجع مسائلهم.
ذُكر له في بعض المجالس حالة من واقع المجاهدين الأفغان آنذاك، وما يصيبهم من برد وجوع، فأخذت عينه تدمع حتى قام من مجلسه وهو يبكي، وقد عُرض للشيخ رحمه الله مرةً في مجلسه أن المسلمين في جنوب الفليبين قد أصابتهم مجزرة على يد السفاح النصراني ماركس صُرع فيها عددٌ من المسلمين على يد الطغاة هناك، فبكى الشيخ بكاءً اهتز من كثرته باكياً كل من حضر مجلسه.(99/5)
شجاعة الشيخ ابن باز وصدعه بالحق
إمام يقول الحق ويصدع به، تجلت شجاعته في كثير من المواقف، فبينما هو الرجل السمح السهل القريب الحليم المحب للفقراء سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقامة أمر الله شيء.(99/6)
كرم الشيخ ابن باز
أما كرمه فحدث ولا حرج عن ذلك رحمه الله، بل هو طائي زمانه، لا يمسك قليلاً ولا كثيراً، وربما مرت عليه الأشهر تلو الأشهر يستدين الديون على راتبه لإكرام ضيوفه وقاصديه، وليس يكرم كما يفعل بعض الناس لا يعرف بالإكرام إلا علية القوم، بل كان يكرم الفقراء قبل الأغنياء، والوضعاء قبل الرفعاء، فكرمه عامٌ لكل قاصديه، أما ما نزعمه وندعيه من كرم بعضنا حيث لا يحل موائدنا إلا ذوو المناصب والمراكب والأغنياء والوجهاء، فليس هذا وأيم الله من الكرم، إن الكرم أن تكرم من تعرف ومن لا تعرف، وأن تكرم من ترجو ومن لا ترجو، وأن تكرم الرفيع والوضيع، والغني والفقير.
وفد إليه أحد المجاهدين مرةً من المرات يريد إعانته على حاجة من الحاجات، فما وجد الشيخ رحمه الله إلا غرضاً مهماً من أغراضه فباعه، وأعطاه قيمته في سبيل الله عز وجل، وكرم الشيخ كرمٌ أصيلٌ لا تكلف فيه ولا تصنع، مائدته لا تخلو من الضيف أبداً، يلتقي عليها الصغير والكبير، والغريب والقريب، حتى لكأنه هو القائل:
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخا سفرٍ أو جار بيتٍ فإنني أخاف ملمات الحوادث من بعدي(99/7)
علم الشيخ ابن باز ودعوته
أمَّا عِلم سماحته رحمه الله، فقد طار كل مطار في جميع الأمصار دعوته إلى التوحيد، والأخذ بالدليل والبرهان، والتمسك بالحجة، ونبذ التقليد، قد شهد له بذلك كبار علماء عصره حتى قال الإمام العلامة الألباني -متع الله بحياته على طاعته-: قد ملأ بعلمه الدنيا شرقاً وغرباً.
وبالجملة فإن الشيخ رحمه الله فريد زمانه، ووحيد عصره وأوانه، إمام في كل شيء؛ في العلم والعمل، والدعوة والصبر، والكرم والأخلاق والتواضع.
لقد كان أُمَّةً في رجل، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، كان لسانه رحمه الله رقيقاً رحيماً رءوفاً بزائريه، دخل عليه ذات يومٍ شابٌ قد امتلأت ملابسه من رائحة الدخان، فتأفف أحد الجالسين من رائحة هذا الشاب، فلما دنا من الشيخ وسلم عليه، همس الشيخ في أذنه بكلمات، وأبدى له شيئاً من النصيحة في رفق ولطف، فشتان بين متأفف وبين ناصح بر رءوف.
كان كلامه دائماً وصية الأمة بالتقوى، والتمسك بالكتاب والسنة، واتباع الدليل والحجة، والنهي عن التقليد، والحرص على الأخلاق الفاضلة، والتأدب بآداب السلف، والحرص على طلب العلم.
نعم أيها الأحبة! ولكم أن تعلموا بمكانة هذا العالم أنه يكفل قرابة ألف داعيةٍ في أنحاء الدنيا؛ منهم الفقير، ومنهم خريج الجامعة الإسلامية، ومنهم طالب العلم، كلهم يمدهم ويعطيهم من ماله، ومما يأتيه من صدقات المحسنين ومعوناتهم حتى بلغت نفقاته على هؤلاء الطلبة والدعاة الفقراء وأسرهم قرابة المليون ريال شهرياً، وهذا كلامٌ محققٌ معلومٌ ومعروفٌ.(99/8)
هَمُّ الشيخ ابن باز
أما همه رحمه الله فقد كان يحمل هماً واحداً هو دين الله ونصرته، وإعلاء كلمته في أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، لذا -أيها الأحبة- عاش زمانه وعمره كله لم يأخذ إجازةً ولو يوماً واحداً، ولا يكاد ينام في يومه وليلته إلا قرابة أربع أو خمس ساعات، أما الباقي من هذه الساعات، ففي ذكر وعبادة، ونشر علم وإفتاء، وقضاء حوائج المسلمين، رحمه الله رحمة واسعة، وجعله مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وجمعنا به في ظل عرشه حيث أحببناه في الله يوم لا ظل إلا ظله.
هذي المكارم لا تزويق أبنيةٍ ولا الشبوبُ التي تكسى بها الجدرُ
والعلم إن كان أقوالاً بلا عملٍ فليت صاحبه بالجهل منغمرُ
لكنه العلم يسمو من يسود به على الجهول ولو من جده مضر
زاره رجلٌ من موريتانيا، قال: فأضافني أياماً، وعجبت من دأب الشيخ وجلده على حوائج الناس، والكتابة لهم، وضيافتهم، والجلوس في حلق العلم، وتعليم الطلاب، ومذاكرة المسائل، قال: فسألته مرةً، وقلت: سألتك بالله يا شيخ وأنت قُرب التسعين: كيف تصبر على ما لا يطيقه أبناء الثلاثين والأربعين؟! قال: فأعرض عني، ثم سألته ثانيةً وثالثةً حتى شددت عليه بالسؤال قائلاً: سألتك بالله يا شيخ! كيف تطيق هذا كله؟، فقال: يا ولدي! إذا كانت الروح تعمل فالجوارح لا تَكَلُّ.
إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمه
وموت الفارس الضرغامِ هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمه
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمه
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمه
وباقي الخلق خلق رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(99/9)
عزاء ومواساة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا عليها بالنواجذ وعلى العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها المسلمون: أنتم شهود الله في أرضه، وقد شهد القاصي والداني لسماحة الشيخ ابن باز بالقبول والمحبة، والدعاء والإجلال والثناء، وإنا لنعلم بإذن الله ورحمته ومنّه أن ما عند الله لسماحته خيرٌ مما عندنا، ولكن القلوب تحزن على الفراق، والأعين تدمع على ذلك، ولا نقول إلا ما يُرضي الله عز وجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، يقول صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام، وقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وأن عزه استغناؤه عن الناس).
أمة الإسلام: إنا على ثقة أن في كبار علماء هذه البلاد وغيرها من يخلفون هذا الإمام الجليل بإذن الله عز وجل، ولعل الله أن يبعث من طلبته والمنتفعين بعلمه من يكون علماً يُذكِّر بسماحته رحمه الله في العلم والدعوة، والنفع والكرم.
لقد مات سماحة الإمام: محمد بن إبراهيم رحمه الله رحمةً واسعةً، فكأنما الشمس سقطت، وكأنما النجوم أفلت، وكأنما الدنيا أظلمت يوم مات، فخلف الله للأمة بسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونسأل الله الذي أخلف بهذا عن ذاك أن يخلف على أمتنا وعلى بلادنا خيراً منهم يا رب العالمين، وأن يجمعنا بهم في المهديين، وأن يجعلهم مع النبيين والشهداء والصديقين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بهذه البلاد فتنةً، وبولاة أمرها مكيدةً، وبالمسلمين شراً وبلاءً، اللهم اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم عجل فضيحته، واهتك سريرته، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر المسلمين في كوسوفا، اللهم انصر المسلمين في كوسوفا، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أهلك الصرب أجمعين، وأهلك الظالمين بالظالمين، وسلط عذابك عليهم أجمعين، وادفع شرهم وبلاءهم عن المسلمين يا رب العالمين.
اللهم استعملنا في طاعتك، وتوفنا على مرضاتك، وحبب إلينا كل سبيلٍ يُقرب إلى جنتك، واغفر اللهم لنا ولوالدينا، وأحبابنا والمسلمين، يا رب العالمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وَمَنِّكَ وكرمك يا أكرم الأكرمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم في كل أحوالكم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(99/10)
الدَّين
جعل الله الدَّين بين المسلمن؛ ليعين بعضهم بعضاً في هذه الحياة، وقد جاءت الشريعة بالأحكام والضوابط الشرعية الدقيقة لضمان إرجاع الحقوق ووصولها إلى أصحابها، إذ بدون هذه الأحكام والضوابط والعقوبات يتساهل كثير ممن لا يتقون الله في أموال إخوانهم المسلمين ويماطلون في أدائها والوفاء بها، فاقرأ تستفد.(100/1)
عقوبة من مات وعليه دين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دل أمته عليه، ولم يعلم سبيل شرٍ إلا حذَّر الأمة منه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي سبب النجاة في الدنيا والآخرة {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
عباد الله: اعلموا أن التساهل بالحقوق وعدم الأمانة في أدائها، والمماطلة في الوفاء بها من الأمور التي شاعت وعمت كثيراً بين المسلمين الذين يعلمون وقد لا يعلمون أن هذا من الأمور التي توعد الله ورسوله من انغمس في الوقوع بها وعيداً شديداً، وكلكم يعلم -يا عباد الله! - أن دين الإسلام وشريعته الفاضلة الكاملة جاءت بالأحكام والضوابط الشرعية الدقيقة لضمان الحقوق ووصولها إلى أصحابها، وجعلت لولي الأمر حق التعزير بالجلد والحبس والعقوبة المناسبة لمن تعود أخذ أموال الناس، ولم يف بحقوقهم فيما يقابلها، بل إن شريعة الإسلام جاءت بقطع يد السارق في أقل القليل صيانةً لملكيات الأفراد وأموالهم، وحفاظاً على إشاعة الأمن والطمأنينة في أرجاء مجتمعات المسلمين، إذ بدون هذه الأحكام والضوابط والعقوبات يتساهل كثيرٌ ممن لا يرعون حق الله في أموال إخوانهم المسلمين، ومن ثم تشيع الانتقامات والثارات الشخصية وغيرها لاسترجاع أصحاب الحقوق حقوقهم من المطلة والغاصبين.
واعلموا يا عباد الله! أن التساهل بحقوق العباد خاصةً الديون من الأمور التي وردت بشأنها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين خطورة هذا الأمر وعظم جرم مرتكبه، فمن ذلك ما رواه البخاري وغيره بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وروى الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من أستدان دَيناً وهو لا ينوي أن يؤديه فمات قال الله عز وجل له يوم القيامة: ظننت أني لا آخذ لعبدي بحقه، فيؤخذ من حسناته فيجعل في حسنات الآخر، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات الآخر فيجال عليه) وروى ابن ماجة بإسنادٍ حسن: (من مات وعليه درهم أو دينار قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم).
وتذكروا أن المبادرة إلى قضاء الدَّين مما يجعل العبد يصبح ويمسي قرير العين مطمئن البال، إذ إنه لا يدري هل يعود إلى بيته حياً كما دخل منه، وهل يخلع ثوبه حياً كما لبسه؟ وهل ينهض من فراشه حياً كما نام عليه؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] فكيف للمسلم إذا قبضت روحه أن يخبر بأن عليه أو له دَين، فإذا كان النوم بحد ذاته موتاً لا حياة فيه إلا برد الأرواح إلى أجسادها في مضاجعها، فكيف يهدأ بال مسلم قد تحمل حقوق الخلق، واستدان أموال العباد؟! ولو أن الإنسان منا تفكر وتأمل حق التأمل والتفكر أن الموت قد يخطفه من بين أحبابه وأهله وعشيرته وهو على حالٍ قد جمع فيها من حقوق الناس نصيباً عظيماً، إن من أول ما يخطر بباله في سكرات موته، وفي آخر لحظات عمره هي ديونه التي عليه، من يقضيها؟ ومن يؤديها عنه؟ وهل تركته تكفي لقضاء ما عليه؟ أو تكفي لوفاء حقوق العباد منه؟ ومن وقع له مثل هذا فهو من البلاء والفتنة، إن لم يكن له من ماله ما يقضي به، أو يقوم بقضائه من ورثته، ثم تصوروا حال من مات على ذلك، وقد جاء في شأنه أمرٌ عظيم وخطرٌ جسيم يتبين ذلك مما يرويه الإمام أحمد بسندٍ حسن والحاكم وصححه عن جابر، قال: (توفي رجلٌ فغسلناه وكفناه وحنطناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه يا رسول الله؟ فخطا خطوةً ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملها أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله! فقال: قد أوفى الله حق الغريم وبرأ منهما الميت، قال: نعم.
فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيومٍ: يا أبا قتادة! ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس يا رسول الله! قال: فعاد إليه من الغد، فقال أبو قتادة: قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلدته) وروى مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالميت عليه الدَّين فيسأل هل ترك لدَينه قضاءً فإن حدث أنه ترك وفاءً صلى عليه وإلا قال: (صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال صلى الله عليه وسلم: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من توفي وعليه دَينٌ فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته) وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم سئل أن يصلي على مدينٍ فقال: (ما ينفعكم أن أصلي على رجلٍ روحه مرتهنة في قبره لا تصعد روحه إلى السماء، فلو ضمن رجل دَينه قمت فصليت عليه، فإن صلاتي تنفعه) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لو قتل رجلٌ في سبيل الله، ثم عاش ثم قتل ثم عاش ثم قتل، وعليه دَين ما دخل الجنة حتى يقضى دَينه).
فهل بعد هذا -يا عباد الله- يجرؤ مسلمٌ على التساهل بحقوق المسلمين عنده، وهو لا يدري هل يؤديها أم هل تؤدى أم لا تؤدى عنه؟ فاتقوا الله يا عباد الله! وقوا أنفسكم ناراً بسبب حقوق العباد إن متم وهي عليكم، واتقوا الله في حقوق إخوانكم المسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ وتوبوا إليه؛ يرسل السماء عليكم مدراراً ويمتعكم متاعاً حسناً إلى أجلٍ مسمى.(100/2)
المماطلة في القضاء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والند وعن المثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، كل ذلك تعظيماً لشأنه، أحمده حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله: إن من المسلمين هداهم الله من يجد في أمواله ما يسد قضاء حقوق المسلمين عليه، ومع ذلك يسوف ويؤجل الوفاء برد الحقوق إلى أن يضطر صاحب الحق بشكايته وقيام الدعاوى بينها في المحاكم وغيرها، وما ضر المسلم إذا استدان من أخيه دَيناً أو ابتاع أو استأجر شيئاً أن يبادر برد الجميل والمعروف أداءً وزيادة، فإن ذلك كان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنه إذا استدان من أحدٍ شيئاً وفاه خيراً منه، فعن أبي رافع رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجلٍ بكراً فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فرجع إليه أبو رافع فقال له: لم أجد في الإبل إلا خياراً رباعياً، فقال صلى الله عليه وسلم: أعطوه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) وكلكم يعلم -يا عباد الله! - أن الدين المعاملة، ومن المؤسف المحزن حقاً أن نرى رجلاً صالحاً كثير العبادة والإنابة يماطل في حقوق الآخرين، ومثل هذا عبادته لنفسه، وأما حقوق العباد فلهم، فليؤدِ الحقوق لأصحابها، وليحذر من وفاء أصحاب الحقوق عليه يوم القيامة من حسناته، وأياً كان الرجل الذي عليه الحق صالحاً عابداً أو غير ذلك، فإنه لا يمنع من عقوبته وأخذ الحق منه.
ثم إن هذا الفعل يورث ضعف الثقة بين المسلمين وعدم الأمانة في آحادهم، فقد يجيء الرجل الوفي الثقة في حاجة له إلى صاحبه المليء الغني يريد العون في الحاجة الملحة، ثم قد يتردد صاحبه؛ لأنه رأى من فلانٍ وفلان الذين يحسبهم كذا وكذا من الدِين والعبادة ما رأى من المماطلة وعدم الوفاء إلا بأساليب العنف والشكايات والقوة.
أخرج الشيخان والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مطل الغني ظلم) وفي رواية ابن حبان في صحيحه والحاكم: (لي الواجد -أي: مطل القادر على الوفاء- على وفاء دَينه يحل عرضه وعقوبته) أي: يبيح أن يذكر بين الناس بالمطل وسوء المعاملة، وقال بعض التابعين: يحل عقوبته، أي: حبسه وسجنه حتى يؤدي ما عليه، وروى النسائي وابن حبان في صحيحه والترمذي والحاكم وصححه، والطبراني في الكبير (ما قدس الله أمةً لا يؤخذ لضعيفها الحق من قويها غير متعتع -ثم قال:- من انصرف غريمه وهو عنه راضٍ صلت عليه دواب الأرض ونون الماء -أي: حوته- وليس من عبدٍ يلوي غريمه، وهو يجد إلا كتب عليه في كل يومٍ، وفي كل ليلةٍ وجمعةٍ وشهرٍ ظلم).
عباد الله: أبعد هذا يتساهل مسلمٌ بالحقوق التي عليه، وإن كثيراً من الناس من يتهاون بالحقوق إذا كانت من حقوق الدولة، أو من القروض التي تقدمها تسهيلاً لهم في بنائهم، أو في مزارعهم أو في مشاريعهم، فإن الحقوق والديون الواجب الوفاء بها أياً كانت على الفرد من قِبَل الأفراد أو من قِبَل الدولة، وإن كثيراً من المسلمين الذين عاشوا في الضيق، وعاشوا في ضنك العيش في بيوت الطين الصغيرة، توسعوا وعاشوا ونالوا مما يسَّرته لهم الدولة، ومع ذلك يحل الأجل تلو الأجل ولا يسددون ما حل عليهم، أيظنون أن هذا الحق أهون من غيره من الحقوق؟ لا وربي، فهو دَّينٌ، بل هو موثق؛ لأن المستدين قد رهن عقاره وملكه لصالح الجهة التي استدان منها، فلا يبالي صاحب الحق بأي ساعةٍ أن يبيع ملكه أو عقاره ليستوفي منه.
ثم إن كثيراً من الناس بتساهلهم في أداء الحقوق خاصةً القروض العقارية والزراعية وغيرها، يحرمون غيرهم من الفرصة، ويحرمون غيرهم من الاستفادة مما استفادوا منه، وكلكم اليوم يرى أن من تقدم يريد بناءً لا يصله أجله إلا بعد ثلاثٍ أو أربع سنين، أو أقل أو أكثر، ولو أن الذين حلت عليهم آجال الحقوق وفوا بها لوجدتم أن الأمر عاد يسيراً كما كان، فاتقوا الله في الحقوق، واتقوا الله في أصحابها، فإنكم محاسبون ومؤاخذون عليها.
نسأل الله جل وعلا ألا يميتنا بحق مسلمٍ لا في مالٍ ولا في دمٍ ولا في عرض.
أيها الأحباب: لا تقولوا إن فلاناً وفلاناً لا يؤدون ما عليهم، أو أن فلاناً وفلاناً قد استدانوا ومرت عليهم السنون ولم يُسألوا، فإن الهالك إذا هلك فلا يكن لك فيه قدوة، بل عليك أن تسلك طريق النجاة لنفسك ودينك يوم القيامة، وعليكم -يا عباد الله! - بالمبادرة في رد وأداء الحقوق التي على موتاكم، فقد روى الترمذي بسندٍ حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه).
أسأل الله جل وعلا أن يقضي دَين المدينين، وأن يشفي مرضى المسلمين، وأن يهدي ضال المسلمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مأسوراً إلا فككت أسره، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى فردوسك وجنانك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل إلى النيران منقلبنا وإليها مثوانا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد أئمتنا بسوء، وأراد علماءنا بفتنة، وأراد شبابنا بضلال، وأراد نساءنا بتبرجٍ وسفور، اللهم فاجعل كيده في نحره، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم أدر عليه دوائر السّوء برحمتك وقدرتك يا جبار السماوات والأرض يا سميع الدعاء! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم إن عظمت ذنوبنا فإن عفوك أعظم، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكبر، بقدرتك ورحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمامنا وقدوتنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وارض اللهم عن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا برحمتك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، وأشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(100/3)
الدعوة إلى الله
الدعوة إلى الله عز وجل من أجلِّ الوظائف وأعظم الأعمال، أجرها جزيل، والعمل بها جميل، وهي مهمة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومهمة العلماء والدعاة من بعدهم، ووسائل الدعوة كثيرة منها القدوة الحسنة والكتاب النافع، والشريط الإسلامي وغيرها حول هذا الموضوع يحدثنا الشيخ حفظه الله.(101/1)
تكليف المسلم بالدعوة إلى الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والند، وعن المثيل والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر الأحباب: كلكم يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا من أجل الوظائف وأطيب الأعمال، ولا غرو في ذلك فالله جل وعلا يقول في محكم كتابه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ويقول الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).
أيها الأحبة في الله: لا شك أن كل مسلمٍ يعلم أن الدعوة إلى الله جل وعلا أجرها جزيلٌ والعمل بها جميل، ولكن كثيراً من المسلمين رغم تشوقهم إلى نيل شرف الدعوة إلى الله، ورغم حبهم إلى الدخول في هذا المجال، قد يحرمونه بسبب عدم توفر الشروط التي ينبغي للداعية أن ينالها أو يقوم بها، وليس ذلك من باب القصور الذاتي فيهم، بل إن جبلة البعض تختلف عن الآخرين، وإن الله جل وعلا جعل الخلق درجاتٍ بعضهم فوق بعض، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون، أعني بذلك أن بعض الشباب وبعض المسلمين تجده محباً لأن يكون داعية إلى الله، ويشتاق أن يهدي الله على يده فرداً أو أفراداً من إخوانه المسلمين، ولكن قد يكون لقلة علمه، أو بسبب العلم الذي هو فيه أو بسبب أمرٍ من الأمور عاجزٌ عن تحقيق مطلبه هذا، فهل بعد هذا يمكن أن يكون محروماً من ثواب الدعوة إلى الله؟ هل يحرم من هداية الآخرين إلى صراط الله المستقيم؟ كلا وحاشا؛ لأن الله جل وعلا لم يجعل الدعوة إلى سبيله ولم يجعل الأمر بالمعروف الذي شرعه والنهي عن المنكر الذي زجر عن العمل به، لم يجعل ذلك قاصراً على العلماء، وإن كان ينالهم أوفر الحظ والنصيب من المسئولية في هذا الجانب، لم يجعل ذلك قصراً على حملة الشهادات، أو أرباب المناصب والمراتب، بل إن كل مسلم مسئولٌ مطالبٌ مرغوبٌ منه أن يكون داعيةً إلى الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وذلك لعموم أدلة كثيرة لو لم يرد منها إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (نظَّر الله امرءاً سمع منا مقالة، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغٍ أوعى من سامع) وتواترت الأحاديث لفظاً ومعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: (ربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل علمٍ إلى من هو أوعى منه).(101/2)
أساليب الدعوة إلى الله
أيها الأحبة في الله: ما دام الأمر كذلك، وما دام كل واحدٍ منّا مسئولٌ ومطالبٌ بالدعوة إلى الله.
أيها الأحبة: إليكم جملة من الأساليب التي لا يعجز عنها أي واحدٍ منا مهما كان مستوى تعليمه، ومهما كانت وظيفته، ومهما كان موقعه الاجتماعي:(101/3)
القدوة الحسنة
فأولها بعون الله وتوفيقه: القدوة الحسنة؛ فإن الرجل إذا أراد أن يعمل بعملٍ، أو أراد أن يدعو إلى أمرٍ من الأمور، فعليه أن يطبقه تطبيقاً جيداً، فإن العباد ليرون من فعله، وليرون من تصرفاته، داعيةً إليهم إلى الاقتداء به، ولا عجب في ذلك، فإن النفوس تعجب وتحب من وافق قوله عمله، روي أن الحسن البصري جاءه طائفة من الرقيق الذين لم يعتقوا، فقالوا: يا أبا عبد الله! حبذا لو حدثت الناس يوم الجمعة، أو في أي يومٍ عن العتق وفضله علهم أن يعتقونا، فقال لهم: خيراً، فمكث ثلاثة أسابيع لم يخطب عن هذا الموضوع، فلما جاء الأسبوع الرابع، خطب الناس في فضل العتق، ثم لما انصرف الناس من المسجد، كان كل من لاقى رقيقاً له، قال: اذهب فأنت حرٌ لوجه الله تعالى، فعجب الرقيق وجاءوا إلى أبي عبد الله - جاءوا إلى الحسن البصري - وقالوا نحمد الله على نعمة الحرية، فلو أنك بادرت بهذا الأمر ولم تتأخر فيه، فقال: جئتموني وليس عندي رقيقٌ أعتقه، فصبرت حتى جمعت مالاً فاشتريت رقيقاً، ثم أعتقته، ثم أمرت الناس بالعتق فعند ذلك فعلوا ما رأيتم.
إذاً -أيها الإخوة- إن أول الأساليب في الدعوة إلى الله أن يكون الواحد منا قدوة ما أمكنه إلى ذلك، أن يكون راية، أن يكون نموذجاً صالحاً مطبقاً لكي يقتدي به من حوله من إخوانه المسلمين، وكلكم يعلم أن الإسلام إنما انتشر في دول شرق آسيا وكثيرٍ من المجاهل الإفريقية وغيرها، إنما انتشرت بالقدوة الصالحة من قبل التجار المسلمين، الذين رآهم أهل تلك البلاد فرأوا فيهم ليناً ولطفاً وأمانة في المعاملة، وصدقاً في الحديث والكلام، فتأثروا بأفعالهم قبل أن يتحدثوا بأقوالهم، فأسلموا، فهدى الله أولئك الأمم بفعل أولئك التجار الصالحين من المسلمين.(101/4)
الكتاب النافع
الأمر الثاني: إن الكثير منا قد يرغب أن ينهى صديقاً له عن منكر هو واقعٌ فيه، ويرغب أن ينصح صديقاً لأمرٍ من الأمور النافعة المهمة، ولكن كما قلت لكم: قد يعجز بسبب عدم قدرته على الخطاب والبلاغ المبين، أقول إليك سبيلاً آخر ألا وهو الكتاب النافع، فلوا أردت أن تنصح رجلاً عن التعامل بالربا وكنت عاجزاً عن إقامة الحجة عليه ببيان تحريم الربا، وببيان تحريم الله له، وببيان لعنة الله على آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، فإنك قادرٌ بإذن الله جل وعلا أن تشتري كتاباً مفيداً نافعاً يتحدث عن هذا الموضوع، فتأتي إلى صديقك بكلمة لطيفة وبهمسة خفيفة، دافعها الخوف والنصح، دافعها الوجل عليه من عقاب الله، فتقول: علمت أن عندك كذا وكذا مما لا يرضي الله جل وعلا، وإني والله مشفقٌ عليك محبٌ ناصح، فهذا كتابٌ، أو كتيب، أو رسالة، أو نشرة بقلم سماحة مفتي هذه البلاد الشيخ عبد العزيز بن باز، أو لأحد أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء المعروفين الموثوقين -مثلاً- فتهديه هذه الرسالة فلعل الله أن يفتح على قلبه فيقبل هذه الورقات فيقرأ ما كتب فيها، ويقرأ الوعد والوعيد الذي فيها، عند ذلك تنزجر نفسه ويقلع عن المعصية أو الفاحشة أو الكبيرة التي وقع فيها وتنال بذلك أجر هدايته، في حين أنك لو أردت أن تتحدث معه يوماً ويومين، وأياماً عديدة، ما استطعت أن تصل إلى مكنون قلبه بأسلوبك، ولكن لو قدمت هذه الرسالة أو هذا الكتاب بشرطٍ مهمٍ أعيده وأكرره: أن يكون مؤلف الكتاب أو الرسالة أو كاتب النشرة أو الكتيب رجلاً عالماً معروفاً موثوقاً مشهوداً له بالصلاح وبالعدل والأمانة، عند ذلك فإنك تنال ثواب هدايته وتنال ثواب إقلاعه عن المعصية وتفوز بأجر توبته، وكل عملٍ من الأعمال الصالحة بعد ذلك يكون لك حظٌ ونصيبٌ منها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(101/5)
الشريط النافع
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام.
وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الإخوة: إليكم مزيداً من الوسائل التي تحقق لكم فرصة الدعوة إلى الله بالأساليب المتيسرة بين يديكم، إذا كان الإنسان عاجزاً بلسانه أو بفعله أو بقوله، فمن ذلك: الشريط النافع، وهذه وسيلة نافعة جداً وإن كان أول من ابتكرها واخترعها الكفار، لكن الله جل وعلا قد ينفع عباده المؤمنين بما يفعله أعداؤهم الكفار، فما خطر ذات يومٍ على ذهن أعداء الله الكفار يوم أن صنعوا تلك المسجلات وغيرها، ويوم أن صنعوا الوسائل المرئية والمسموعة ووسائل النشر وغيرها، لم يخطر على بالهم أنها ستكون في يومٍ من الأيام عنصراً أساسياً وركيزة متينة من وسائل وركائز الدعوة إلى الله، فلو أنك أيها الأخ المسلم! رأيت أخاً لك أو شاباً -مثلاً- وقع في جريمة المخدرات، أو في جريمة حب السفر إلى الخارج بكثرة، وتعلمون ما يدور في الخارج عند بعض الشباب وهم قلة بحمد الله، من الذين تولعوا وشغفوا حباً بالسفر إلى بلاد الخارج فلا تراهم في أرضهم إلا قليلاً، فلوا أنك أردت نصيحته وأردت ضرب الأمثلة له، وأردت ضرب القصص والحكايات التي حصلت لأناس سافروا إلى الخارج فكانت نهايتهم دامية أليمة، قد تعجز عن بيان ذلك، ولكن تجد شريطاً مثل أشرطة ندوات الجامع الكبير، أو تجد شريطاً لعالمٍ من العلماء المعروفين الموثوقين المشهود لهم بالمعرفة والصلاح والاستقامة، قد حوى الحديث عن هذا الموضوع أو أي موضوعٍ من المواضيع التي ترغب أن تنصح صديقك أو أخاك أو قريبك فيها فتشتري هذا الشريط بقيمة رمزية متيسرة، فتهديه إليه، وتقول: أهدي لك هذا الشريط، إذ إن البعض لا يسره أن يعلم الناس بحاله، بل إن الكثير إن لم يكن الكل يرغبون ألا يعلم الناس بأحوالهم، والله جل وعلا ستار يحب الستر على عباده، فلو علمت في أحد إخوانك أو أحد أبناء مجتمعك أنه تورط في المخدرات أو المصائب أو الرشوة أو غير ذلك، فاشتريت هذا الشريط الذي يعالج هذه المشكلة، أو هذه القضية، فقدمته إليه هدية من دون سابق بيان علمك لما هو عليه من حال، فلعله أن يسمعه في سيارته، أو في بيته فيتأثر بذلك تأثراً بليغاً كبيراً.
إذاً -أيها الإخوة- هذه وسيلة نافعة من وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي في متناول كل واحدٍ منا ولا يعجز عنها واحدٌ منا، إذاً فلنا فرصة، ولنا مكانة، ولنا دورٌ، وعلينا مسئولية في باب الدعوة إلى الله، ولا نحتج بقلة العلم أو قلة البضاعة، فإن الأمور تيسرت بحمد الله جل وعلا، وإنها لنعمة عظيمة تحسد عليها هذه البلاد دون سائر البلاد الأخرى، فلك اللهم الحمد على ما أنعمت وأتممت، ونسألك اللهم مزيداً، ونسألك اللهم التوفيق للشكر والإنابة إليك.(101/6)
كيف تنال أجر الدعوة
أيها الأحبة في الله: إن هداية الآخرين إلى الصراط المستقيم، ودعوة الضلال إلى صراط الله المستقيم مهمة جليلة، هي مهمة الأنبياء، ومهمة الرسل الدعاة، وهي شرفٌ عظيمٌ جداً، فحققوا لأنفسكم منزلةً في هذا الشرف العظيم، واكتبوا لأنفسكم سجلاً في هذا السجل القويم، واحفظوا لأنفسكم ذكراًَ بعد موتكم بالمشاركة بأساليب الدعوة المتوفرة بحمد الله جل وعلا، فلو أن شاباً كان لا يشهد الصلاة مع الجماعة، ورآك مبادراً سباقاً إلى حضورها مع الجماعة، ثم أهديته كتاباً لأي عالمٍ من العلماء الأجلاء الموثوقين المعروفين، أو أهديت له شريطاً -مثلاً- عن هذا الموضوع، أو نشرةً مأذوناً بتوزيعها وطبعها، أو كتيباً أو رسالةً كذلك، فقرأ الكتاب وتمعن الرسالة وسمع الشريط ورأى فعلته، فإنه لا شك يتأثر، وبعد ذلك تنال مثل أجر كل صلاةٍ صلاها في بيتٍ من بيوت الله، فتدخر لنفسك أجوراً وتأتي يوم القيامة وقد رأيت أعمالاً ما عملتها، يقال لك: هذا بفضل الله عليك يوم أن دعيت عباد الله جل وعلا، وليس هذا من عند أنفسنا بدعة، أو من ذواتنا قولاًَ، بل هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى، فله أجره، وأجور من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئا) فما ظنكم برجلٍ يبعث يوم القيامة وقد نفع الله جل وعلا بشريطٍ أو بكتابٍ أهداه أو طبعه، إنه سيجد فائدة عظيمة وثواباً جزيلاً، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، أو علمٍ ينتفع به) والعلم ليس على الأوراق فقط، بل هو -أيضاً- على الأشرطة، وهو -أيضاً- على كل وسيلة يمكن أن تفيد بها ويمكن أن تنفع بها، وإليكم ضرباً من ضروب أسباب نيل أجر الدعوة إلى الله: لو أن رجلاً ممن أنعم الله عليهم بالمال والثراء اجتهد في طباعة مجموعة من الكتب فوزعها في سبيل الله، وجعلها وقفاً لله تعالى يتداولها المسلمون، فيستفيدون منها، فإنه يأتي يوم القيامة وله أجر كل مصيبٍ في عمله وعبادته، إذا كان ممن استفادوا من هذا الكتاب الذي طبع على نفقته، وأنتم تشهدون بحمد الله جل وعلا كتباً ورسائل عديدة وكثيرة من صدر قيام هذه البلاد إلى يومنا هذا، قد طبعت على نفقة كثيرٍ من الملوك السالفين والأمراء المعاصرين، والعلماء الموجودين، والأثرياء وأرباب المال، يطبعونها ويوزعونها ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فلكل واحدٍ من أولئك أجرٌ عظيم بسبب من وقع في يده هذا الكتاب فقرأه فأصلح من عمله إن كان على خطأ أو أقلع عن ضلالته إن كان على غواية، إنها أجورٌ ميسرة، وأبوابٌ مفتوحة، وإن الخير كثيرٌ وكثيرٌ جداً في دين الإسلام ولله الحمد والمنة، فمن تأمل هذا الدين، قال: عجباً لمن لا يدخل الجنة! إن كل أمور الدين ميسرة سهلة، وكل أعمال هذا الدين عليها الثواب والجزاء المضاعف بالرحمة والمغفرة والدرجات العلى عند الله، فذلك فضلٌ عظيمٌ وخير قويم، وقديماً قال الشاعر:
عطايانا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلين
وكل طريقنا نورٌ ونورٌ ولكن ما رأينا السالكين
إن أبواب الدعوة مفتوحة، وإن أبواب الخير كثيرة، لكن الكثير من عباد الله عنها في غفلة، نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليهم بالعودة والتوبة والأوبة والإنابة، والاستغلال لهذه المواسم والخيرات والفرص العديدة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً وأراد بولاة أمرنا فتنة، وأراد بعلمائنا مكيدة، وأراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنسائنا تبرجاً واختلاطاً، اللهم أرنا به عجائب قدرتك، اللهم أدر عليه دائرة السوء، اللهم اجعل كيده في نحره، وتدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدِ إمام المسلمين، اللهم اهدِ إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أيده بتأييدك، واحفظه بحفظك، ووفقه إلى ما يرضيك، ووفقه للعمل بكتابك وسنة نبيك، اللهم قرب له من علمت به خيراً له ولأمته، وجانب وأبعد عنه من علمت به شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق يا رب العالمين، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً، فمتعه بالصحة والعافية، اللهم من كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، ونور اللهم ضريحه، ووسع عليه قبره مدَّ بصره، وافتح اللهم إليه باباً إلى الجنة.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي، وارضَ اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(101/7)
الزواج من الخارج
إن المجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من كارثة خطيرة تهدد المجتمع والأمة بأسرها، ألا وهي: كارثة الزواج بالأجنبيات، هذه المشكلة التي تفسد المجتمع والنشء، وتسبب العراقيل والصعوبات، وكثيراً من النساء في البلاد تدركهن العنوسة، ويكُنَّ عرضة وفريسة للذئاب الجائعة من أصحاب القلوب المريضة، العابثين بالأعراض الكثير من المشاكل والصعوبات سوف تجدونها في طيات هذه المادة.(102/1)
وسائل الإعلام وصدها عن التعدد المشروع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واسمعوا قوله جل وعلا في مواطن عدة من كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر الأحباب: مر بنا الحديث في جمعة ماضية عن غلاء المهور وما تسبب فيه من كثرة العانسات وبقاء كثير من النساء بلا زواج، ولعل من مكارم الشريعة التي سمت بها على جميع الشرائع؛ فاستحقت أن تكون ناسخة ومهيمنة على ما قبلها هو أمر تعدد الزوجات؛ ليكون حلاً لمثل هذه المشكلة، وفاتنا في الجمعة الماضية أن ننبه على أمر نراه بأعيننا، ونسمعه بآذاننا، ألا وهو أمر يصد عن ذلك، ويبين أن مكرمة الشريعة هذه هي مصيبة في هذا الزمان، وكل ذلك جهل وعدوان وبطلان، وأعني بذلك على وجه التحديد تلك الأفلام والمسلسلات التي يكون المُخْرِج فيها حاذقاً؛ ليبين أن الأسرة السعيدة انقلبت شقية مسكينة تعيسة، وتفرق الأولاد والبنات، وانقلب حال الأم من السعادة إلى الشقاء؛ بسبب أن رب الأسرة تزوج بزوجة ثانية.
ومن الذي قال إن الزواج هو سبب لشقاء البيوت وقلبها من السعادة إلى الشقاء، ومن النعيم إلى التعاسة، هل ورد ذلك في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهل جاء على لسان الخلفاء الراشدين أم الصحابة المهديين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؟! حاشا وكلا، إنما جاء به ضلال جهلة، يريدون أن يحاربوا شرع الله عن طريق إخراج هذه الأفلام، ويريدون أن يقولوا للناس: لا تتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، والله يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] يريدون أن يقولوا للناس: اتركوا بقية المطلقات والعانسات فرصة للذئاب الجائعين، والخبثاء المفسدين، الذين يعبثون بالأعراض يوم ألا تجد تلك الطائفة من النساء الأزواج لهن، يوم لا يجدن أزواجاً وبيوتاً يسكن إليها، وأمناً يطمئن فيه، ورحمة يتقلبن في نعيمها، ألا وإن تلك الأفلام ينبغي أن نعرف كل المعرفة -ولو رأيناها بأعيننا- أنها تصد عن شرع الله وتحارب قوله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
ينبغي أن نعرف حق المعرفة أن دين الإسلام ما شرع شيئاً إلا والسعادة فيه، وما قرر أمراً إلا لمصلحة المسلمين أجمعين، لا لمصلحة طائفة على حساب طائفة، ويوم أن نعرف هذا حق المعرفة نعلم إلى أي مدىً ينشط أولئك الذين ينتجون تلك الأفلام، ليقدحوا وليشككوا الناس في شريعتهم.(102/2)
الزواج من الأجنبيات
نعود إلى المصيبة الثانية التي جرها غلاء المهور ألا وهي الزواج من الخارج، والزواج من الأجنبيات والزواج من النصارى.
والسبب الأول في هذه المشكلة الجزئية المتفرعة عما قبلها، ألا وهي سوء اختيار الزوجة، وسوء اختيار المنبت، ولذلك ينبغي أن نقدم بمقدمة ولو قليلة، نبين فيها أن الله جل وعلا أنزل شريعة الإسلام وجاءت شاملة لكل النظم الضرورية للحياة السعيدة، ومن أبرز هذه النظم، نظامها الاجتماعي الذي يبدأ بتكوين الأسرة واختيار النواة الصالحة والبذرة الطيبة، التي إذا كانت في أصل جذر أسرة مسلمة هي النواة فلا بد أن تُنتقى بعناية فائقة وحرص شديد، كي تنمو على أساس من الاستقامة والصلاح؛ ولكي تنتشر فروعها وأغصانها مورقة مثمرة زاكية كأصلها ومنبتها، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، إذاً: فاختيار الزوجة في بداية الطريق إلى تكوين الأسرة من أهم المراحل، بل هي أخطر مرحلة، إذ إن استمرار الحياة الزوجية على مستوىً من السعادة أو الشقاوة وتحديد واحد من ذينك الاتجاهين، لا شك أنه مرهون باختيار الزوجة الصالحة، ومعرفة بيئتها التي نشأت فيها، ومنبتها الذي ترعرعت فيه، وتلقت الآداب والعلوم، واكتسبت من مخالطة أهلها الأخلاق والطباع، وكلٌ ينال من ذلك، بحسب ما تربى عليه ونشأ فيه:
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه(102/3)
تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس
أيها الأحباب: يقول صلى الله عليه وسلم وهو خطاب نوجهه أيضاً لأولئك الذين يتزوجون من الخارج، بلا قيد أو حساب، يقول صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ويقول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها وجمالها، ودينها وحسبها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك) فلماذا نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) إلا لأن المنابت والجذور إذا كانت فاسدة؛ فإنها تدرك الفروع والأغصان بفسادها، وقد ينقلب الفساد إلى الثمرة، ولو طال البعد وتقادم العهد ولما بين صلى الله عليه وسلم اتجاهات الناس في نكاح النساء، ومقاصدهم من ذلك، وجه إلى خير ما يسر المرء ويسعده وهو نكاح ذات الدين التي قال عنها صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، التي إن نظر إليها سرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) بل إنه صلى الله عليه وسلم حذر من الحرص والتهافت على نكاح الجميلة الحسناء، من دون مراعاة لأي منبت نشأت فيه، فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: (إياكم وخضراء الدمن) ولما سئل عن خضراء الدمن، قال صلى الله عليه وسلم: (هي المرأة الحسناء في المنبت السوء) لأن هذا الجمال الذي يبالغ البعض في تحديده ومواصفات من يرغبون بها، قد يكون سبباً للشر والبلاء إن وافق ضعف عناية تربوية أو مجتمع رديء الأخلاق والمروءة، ولا يعني هذا أن يُغفل الراغب في الزواج أمر الحُسن والجمال ويقول: يكفيني التدين أو الاستقامة والصلاح، بل لا بد مع هذا أن تكون المرأة على قدر يُرضيه ولا يصرفه عنها إلى غيرها.
ولذلك كان من توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لراغب النكاح، أن ينظر إلى مخطوبته، لعله أن يرى منها إلى ما يرغبه في نكاحها، فإن الخاطب إذا نظر إلى مخطوبته وأقدم على الزواج منها، فإنه بإذن الله يكون راضي القلب مطمئناً للنصيب الذي اختاره لنفسه واقتنع به، بدلاً من أن يأخذ في صرف اللوم والعتاب على أمه وأخواته قائلاً: إنكن قلتن: إنها كذا، وليست هكذا، ثم يأخذ في خلاف معهن إلى أن ينتهي الأمر به إلى الفرقة والخلاف، إذا لم يكن بينهم نصيب من التوفيق والرضا، ثم إن مسألة الرؤيا هي من صالح الفتاة أيضاً، وليس للرجل لوحده، إذ إن كلاً من الزوجين يقتنع ويرضى بما هو مُقدم عليه.
أيها الأحباب في الله: لقد آن الأوان أن ننبذ عادة يفعلها بعض الناس، عندما يتقدم أحد الخطاب طالباً ابنته أو أخته أو من هي تحت ولا يته، تراه يقول: هذا فلان بن فلان أهلاً وسهلاً به، أبوه فلان وأمه فلانة، ولقد نسي المسكين أنه سوف يزوج بنته لهذا الشاب المتقدم لا لأمه أو لأبيه.
وهذه مسألة ينبغي أن نقف عندها، وأن نتأملها ملياً فليس بالضرورة أن طباع الآباء والأمهات، تنتقل بالسجية والفطرة إلى الأبناء والبنات، فالواجب على الولي إذا تقدم له أحد، ولو كان يعرف أمه وأباه، أن يسأل عن الخاطب وعن جلسائه، وعن محافظته على الصلاة، وهل هو عاطل باطل أم مكتسب، وإلى أي حد هو في بره بوالديه، فإن الفتاة التي سوف يزوجها أبوها إلى هذا المتقدم أمانة، ومن ضيع أمانة الله في الصلوات والعبادات فهو لما سواها أضيع، ومن كان مضيعاً لحقوق والديه، فهو لحقوق زوجته أضيع وأسوأ حالاً في عدم الرعاية والقيام بالحقوق، وكم من فتاة كريمة صالحة، وقعت في يد شاب ليس بكفء لها ولا القرب من أهلها، تزوجها وطلقها وهي حبلى بولد أو اثنين بعد أن رأت منه المنكر والفساد في نفسه وجلسائه، وكانت تظن أنها قادمة على العيش الرغيد السعيد، بسبب ما وصف لها من صلاحه وأخلاقه.
وسرعان ما تكشفت الأمور على الحقائق أمام تلك المسكينة الضعيفة؛ بوقوعها بيد ذلك الغافل العابث، وغيرها كثير ممن سقطن وفشل زواجهن، بسبب مديح الخطاب والوسطاء في الأزواج المتقدمين لهن، وهذه مسألة يجب أن ينتبه لها، وهي حينما يُسأل أحد عن فلان من الناس، لأجل معرفته وأحواله بغرض تزويجه، فينبغي على المسئول ألا يسكت عن عيب يراه مخلاً بالدين والأمانة، وليتقِ الله فيما يخبر فإن المستشار مؤتمن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(102/4)
الزواج من الخارج مشكلة اجتماعية
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير، كل ذلك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى أزواجه، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الأحباب: سمعتم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) توجيه صريح لأولئك الذين يتزوجون من أي مكان ومن أي منبت، ألا وهو توجيه بالأخص لأولئك الذين يتزوجون من الخارج ولا اهتمام لهم ولا تقدير لهم بأن زواجهم بالأجنبيات أو من خارج بلادهم، أنه زواج غير مبني على علم أو تحرٍ للمنبت والبيئة التي نشأت فيها المرأة، فقد تكون تلك المرأة صالحة في بيئة فاسدة، وقد تكون فاسدة في بيئة صالحة، وقد تكون البيئة فاسدة والمرأة فاسدة، أولئك الذين لا هم لهم سوى البحث عن الجمال والفتيات الصغيرات أياً كانت النتائج والعواقب.
معاشر الأحباب: إن انفتاح باب الزواج من الخارج، يعني أنه بقدر العدد الذي تزوجنا به من خارج بلادنا، نترك نفس العدد عانسات أو مطلقات أو أيامى لا أزواج لهن في بلادنا، ومعنى ذلك أننا نشارك في مشكلة اجتماعية يوم أن نتهاون بالزواج من البلاد ونفتح هذا الباب؛ ولأجل ذلك -يا عباد الله- ينبغي أن نلتفت لهذا الأمر أشد الالتفات، وينبغي أن نحتسب الأمر ولو قليلاً في الزواج من داخل بلادنا؛ حصانة وصيانة لمجتمعنا، وإن من الملاحظ في غالب الأمر أن عدداً كبيراً من الزوجات اللائي هن من الخارج لا تُقدم الواحدة على الزواج من رجل آخر أو رجل بعيد عن بيئتها، وبعيد عن طبيعتها وموطنها وبلدها وأسرتها إلا لأجل إغراء معين، ألا هو إغراء المادة، ذلك الأغراء الذي يجعلها تتنازل عن بيئتها وعن أقاربها وأسرتها، من أجل أن تنال عرضاً من هذه الدنيا مع زوج يجلبها إلى بلد وأسرة غنية، ولا غرابة بما في ذلك أن نرى كثيراً من الأزواج الذين أتوا بزوجات من الخارج، فجاءوا بهن إلى هنا ورأين الغناء بعد الفقر، والسعادة بعد الشقاء وملكن مالاً وحُلياً ومتاعاً كثيراً.
لا غرابة أن نرى كثيراً منهم يشكو سوء معاملتها، وتنكيدها لهذه العِشرة التي عاش بها معها، ولا غرابة في ذلك؛ لأنها جاءت من بلاد فقيرة إلى أسرة غنية فحصلت على مأربها ومقصودها، وستعود إلى بلادها ثانية، إنها يوم أن قبلت بذلك زوجاً لها، لم تجعل في ذهنها أنها ستتزوجه وتبقى معه إلى أن يختم الله للجميع، لا.
وإنما الكثير منهن قد تزوجته إلى أن يتحسن ظروفها المادية، وتجمع منه حُلياً وذهباً، أياً كانت النتائج، وما دام ذلك الزوج لم يفكر في النتائج فمن باب أولى أن نرى المرأة غافلة بعيدة كل البعد عن هذه النتائج، سواء بالنسبة لها أو لأولادها، وإن كثيراً من المشاكل التي نراها اليوم هي بسبب الزواج من الخارج، ولعل من أخطرها أن ترى رجلاً في وسط عمره أو في آخر عمره أو في أي مرحلة من مراحل عمره، يتزوج بفتاة أجنبية أو من الخارج، فيأتي بها تُنجب منه ولداً أو ولدين.
وبعد ذلك قد يكتب الله له الوفاة والفراق من هذه الدنيا، فيبقى أبوه وإخوانه وأقاربه في مشكلة عظيمة مع زوجته التي أنجبت منه، أيجعلونها تعيش في هذه البلاد، ومع من تعيش وزوجها قد مات؟ أيجعلونها تسافر بأولادهم إلى بلادها وهذه مصيبة أكبر من التي قبلها:
فإن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم
والكثير منهن يسافرن بأولادهن بعد وفاة زوجها أو بعد أن يطلقها إن كان عابثاً لا يُقدر أمر النشء والذرية منها، وبعد ذلك تنتقل المرأة إلى بلدها بأولادها وبناتها، ما هو مصير الأولاد؟ في أي بيئة سيتربى هذا النشء؟ في أي مكان ستنشأ هذه الفتاة؟ وفي أي عقيدة يترعرع هذا الولد؟! إنها لمن أعظم المصائب ومن أهمها.
أيها الأحبة: إن أولئك الذين يتزوجون بغير حساب أو تقدير للعواقب، لا يفكرون في هذه الأمور، وما واقع أحدهم يوم أن تترعرع ابنته في بيئة وسخة قذرة، فيجد ابنته راقصة ماجنة أو خادمة في فندق أو مطعم أو في أي مكان من الأماكن، أليس هو الذي جنى هذا بالزواج من الأجنبية؟ أليس هو الذي جنى على نفسه وعلى هذه المسكينة بالزواج هذا؟ وما ذنب شاب صغير ينشأ -بسبب هذا الأب الذي أهمل ووقع في مشكلة سوء الاختيار- جاهلاً أمياً بعيداً عن العلم والتعلم، ينشأ في عقيدة فاسدة، وقد يكون في مكانٍ بعيدٍ عن المدن وغيرها، فيعيش حول القبور ويرى الذين ينذرون لها ويتقربون لها، ويعتقدون في الأموات ويذبحون وينذرون لهم، فينشأ وهو على هذه العقيدة الفاسدة والسبب الأول في ذلك هو ذلك الأب الذي تزوج بدون حساب أو تقدير لعواقب زواجه.(102/5)
المخاطر التي تواجه الأطفال بعد فراق الزوجين
إذاً: إن من أعظم المشاكل ومن أعظم الأخطار التي تواجه النشء بعد فراق زوجي بين أب من هذه البلاد وأم من بلاد بعيدة يواجه هذا النشء ثلاثة أخطار عظيمة: أولها: خطر العقيدة، أن ينشأ في عقيدة فاسدة.
وثانيها: خطر التربية والتعليم فينشأ فاسداً أمياً.
وثالثها: خطر مستقبله إن كان أبوه من الآباء الذين لم يلتفتوا إلى هذه الزوجة بعد فراقها، أو إن لم يكن لأولئك الأولاد من الأولياء من يتابع أمورهم في تلك البلاد البعيدة، يوم ألا يعقبون أمورهم، ويتابعون شأن أولادهم أو شأن أولاد المتوفى بالنسبة لهم، فيحاولون إعادتهم من جديد، فلاهم يكتسبون جنسية تلك البلاد ولا يمنحون جنسية هذه البلاد ما دام الزواج مبنياً على أسس غير سليمة.
والذين يقعون في هذا أكثر وأكثر هم أولئك الذين يتزوجون بغير إذن أو تصريح من السلطات الرسمية، ألا وإن الزواج ولو كان بعد إذن من السلطات الرسمية لمن الأمور التي لا ينبغي أن نحث عليها، وينبغي أن نتجنبها، وأقصد بذلك الزواج من الخارج.
معاشر الأحباب: ينبغي أن ننتبه وأن نقدر هذا الأمر، وأن نعطيه حقه من التفكير والتريث، وأن ننصح كل قريب أو بعيد نعرفه يريد أن يقدم على هذه المهمة، ونبين له أن الأمور لا بد أن يكون لها نتائج وأن هذه النتائج قد تكون سلبياتها ومصائبها وخيمة عليه.
معاشر المسلمين: إن الذين اندفعوا للزواج من الخارج في الغالب هم من كبار السن، تزوجوا بنات صغار يعرضونهن للفتنة، لماذا؟ لعجزهم عن القيام بالحقوق الزوجية كاملة، ويوم أن نعرف عن حالات كثيرة من الخيانات الزوجية والعياذ بالله، من زوجات صغيرات، مع أزواج كبار لا يقومون بحقوقهن ولا يستطيعون إرضاء رغباتهن، نُدرك خطر الزواج من الخارج خطراً عظيماً، ومن الملاحظ إن الذي يتجه للزواج من الخارج بحجة غلاء المهور يقع فيما فر منه وذلك بكثرة السفر والذهاب والإياب عند أدنى مشكلة تُصيب هذه الزوجة، فإذا حملت فلا بد أن يسافر بها قبل أن يرتفع بها حملها إلى الشهر السادس والسابع، فيبقى بعد ذلك مدة أعزباً، ثم إذا أنجب عاد ليُسافر من جديد ليعود بها إلى بلاده، فإن أصاب أهلها مشكلة أو مصيبة سافر بها من جديد إلى بلاده، وهكذا لا شغل له إلا الذهاب والإياب إلى بلادها، ولو فكر ملياً وتزوج من داخل بلاده بامرأة ولو مطلقة أو أم أولادٍ أو بلغت من السن فوق الثلاثين إلى الأربعين، فإنه يهنأ بزوجة في مكانه وفي مستقر عينه وفي مستقر بلاده وبين عينيه لا يفارقها من قريب ولا بعيد.
إذاً: فالذين يتزوجون من الخارج بدون حساب، أولئك لم يقدروا لهذه الأمور قدرها ولم يلتفتوا للعواقب والنتائج، وإن من المصائب التي سمعنا بها وعرفناها حق المعرفة، أن بعض النساء اللاتي تزوج بهن البعض من هنا الذين يحاولون أن يُواقعوا أزواجهم في أمور الصرف والسحر والشعوذة؛ لأنها لا تريد أن يكون زوجها ملتفتاً إلى أم أولاده أو إلى زوجته الأولى، فتحاول صرف حبه ومودته وهوى قلبه، تريد أن تصرف ذلك كله إليها، بعمل أو سحر، أو شعوذة، ولقد عرفت بنفسي أن رجلاً تزوج زوجة كهذه فلم يلبث مدة قليلة إلا أن أخرج أمه وأختاً له مريضة؛ وأبعدها في بيت بعيد عن داره، وبقي لكي يعيش بالسعادة في ظنه هو زوجته هذه الأجنبية، هل بعد هذا صرف، وهل بعد هذا شعوذة؟ رجل يبعد أمه ويبعد أختاً له مريضة لكي يعيش مع هذه الزوجة الأجنبية.
وما ذنب أمه وأخته المريضة، يبعدهما يطردهما بعيداً عن بيته؟ ألا وإنها من أعظم المصائب التي نجهلها ولا نلتفت إليها، ونسأل الله جل وعلا أن يمن على الجميع بالهداية والتوفيق، وأن يرزقنا التفكير والروية والسداد في الأمور؛ لأن الذين لا يفكرون ولا يقدرون، يقعون في مصائب ويُوقعون الجهات والسلطات في مصائب أعظم وبعد ذلك يقعون أمام الأمر الواقع، فمن يا ترى يحل مشاكلهم، أو يكون عوناً لهم نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليهم بالهداية ويهدي الجميع إلى ما يحبه ويرضاه.
معاشر المسلمين: ينبغي أن نلتفت إلى هذه المسألة التفاتاً قوياً، ويوم أن نقرأ البيانات والإحصائيات لعدد الذين يتزوجون من هذه البلاد لعدد الذين يتزوجون من الخارج ندرك أن مشكلة العانسات والأيامى والمطلقات، تزداد يوماً بعد يوم، ينبغي أن نلتفت لهذا الأمر عبر ما نستطيعه من وسائل الإعلام، عبر المنابر، عبر جلساتنا ولقاءاتنا، وينبغي أن نلتفت لهذه الأمور التفاتاً عظيماً وأن نُدرك خطورة هذا الأمر إدراكاً حقيقياً؛ لكي ننعم بهذه النعم العظيمة علينا، وأسأل الله جل وعلا ألا يوقع أحدنا في مشكلة كهذه، وأن يمن على الجميع بالسعادة، ألا وإن كل بلاد غنية بأهلها، وبخيراتها وببناتها وبنسائها فما حاجة أحدنا أن يترك بلاده بعيداً، ولا أقول عصبية أو قومية، فالناس أمام الله سواء لا فضل لأبيض على أسود ولا لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولكن إن لكل أمرٍ حلاً وإن الحلول ينبغي أن توجد من داخل البيئة التي تنشأ فيها هذه المشاكل.
أسأل الله جل وعلا أن يمنّ على الجميع بالهداية والتوفيق.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، وبعلمائنا مكيدة، وبشبابنا ضلالاً وبنسائنا تبرجاً وسفورا، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أدر عليهم دائرة السوء بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم لكتابك وسنة نبيك، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم لا تشمت بهم حاسداً ولا تفرح عليهم عدواً وأرنا فيهم عزك ونصرك وتأييدك وهدايتك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين والمجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء دينك ورفع كلمتك في كل مكان يا أرحم الراحمين، اللهم اختم بالسعادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل إلى جنتك مصيرنا ومآلنا، ولا تجعل اللهم إلى النار مثوانا، ولا إليها منقلبنا برحتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجا، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً.(102/6)
السحر والشعوذة وخطورتهما على الفرد والمجتمع
ما جعل الله من داء إلا وله دواء، وما من شيء في الكون إلا يسير وفق إرادة الله عز وجل، ومهما بلغ الجن والسحرة فهم تحت ملك الله تعالى، ولهم حدود لا يتجاوزونها، وإن كان الله مكنهم من شيء فهو لابتلائنا وتمحيصنا، وقد شرع الله لدفع السحر وعلاجه من الأدعية الثابتة في القرآن والسنة ما إن قام به العبد عافاه الله وحماه وصانه من كل مكروه.(103/1)
السحر ودوافعه وأسبابه
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل أن يجزيكم خير الجزاء على حضوركم واجتماعكم في هذا المكان الطيب الطاهر المبارك، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم السداد في القول، والإخلاص في العمل، وقبل أن نتناول حديثنا اليوم الذي تعلمونه وتعلمون خطره سلفاً، وإنما الحديث فيه من باب الذكرى التي تنفع المؤمنين، أقول قبل ذلك، أشكر لهذا الطالب هذا البرعم المبارك بإذن الله عز وجل تلاوته الطيبة الجميلة الرائعة التي سمعناها من كلام الله عز وجل، وهو أخونا (مرزوق العنيزان) فنسأل الله أن يقر عينه وعيني والديه بتمام ختمه وحفظه كلام الله عز وجل كاملاً وأن يثبتنا وإياكم على دينه وسنة نبيه.
أيها الأحبة! يقول الله عز وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
هذه الآية لو كان في قلوب كل منتسب إلى الإسلام حياة، لعلم وأدرك وفهم من دلالاتها أن السحر خطير، وأن مبدأه ومنتهاه وقطب رحاه ومداره على الكفر بالله عز وجل، فشأنه عظيم، ومن دنا منه يوشك أن يمرق من الدين، وأن يحبط عمله بالكلية.(103/2)
تعريف السحر
أما تعريفه: فالعرب تسمي كل شيء خفي سببه ولطف ودق تسميه سحراً، ولذلك تقول العرب لشيء خفي، أخفى من السحر، وقال أبو عبيد -من علماء اللغة-: أصل السحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره.
وعرفه ابن عقيل من علماء الأحناف بأنه: علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة لأسباب خفية.(103/3)
بواعث السحر
ولهذا السحر الذي هو عُقدٌ ونفث وطلاسم وتعاويذ وشعوذة وحروف يتسلط بها الساحر ليحدث أثراً خفياً في نفس المسحور، أو بفعل خفي ليظهر أثراً جلياً أو خفياً على نفس المسحور، هذا السحر له بواعث، فمن بواعثه: الشر والحقد والأذى: فكثيراً ما سمعنا امرأة سحرت ضرتها وما ذاك إلا من شديد الغيرة وعظيم المبالغة في الحقد والكراهية، وكثيراً ما نسمع أن عاملاً سحر مديره، وأن صغيراً سحر رجلاً أكبر منه في ارتباط بينه وبينه على عمل.
فربما كانت بواعث السحر حب الأذى أو الانتقام أو الكراهية الشديدة.
وكذلك من بواعثه: الرغبة في الثروة والشهرة وجلب الأموال، ففي البلاد التي لا يعتبر السحر فيها جريمة شرعية أو جريمة قانونية نظامية، يقبل طائفة على السحر، فيتعاطونه من أجل جلب الثروة والشهرة والمال، وأيضاً يتعاطاه طائفة ولكن على سبيل الخفية وغير الظهور من أجل جمع الأموال.
وأسألكم بالله: هل رأيتم ساحراً ثرياً، هل رأيتم ساحراً غنياً؟ هل رأيتم ساحراً يملك شيئاً يطمئن إليه ويتلذذ به ويستفيد منه؟
الجواب
إن جميع ما يملكه السحرة من الأموال أو من الثروات، ليس لواحد منهم تدبير فيه أبداً وإنما التدبير فيه لأولئك الشياطين الذين يتسخرون له، بسبب هذا السحر أو مقابل ما يفعل ولا حول ولا قوة إلا بالله، فطائفة ولجوا ودخلوا بوابة السحر يريدون أن يجمعوا من وراء ذلك أموالاً ولكن وكما يخبر رجال الهيئة ورجال الأمن والذين يطلعون على خفايا بعض الأمور أنهم إذا قبضوا على كثير من المشعوذين والسحرة وجدوا بيوتهم أضيق البيوت، وروائحهم أنتن الروائح، وثيابهم أقذر الملابس، وأحوالهم أتعس الأحوال، فلا يغبط ساحر على ما ملك، ولا يغبط على ما جمع وإن ادعى وادعى، أو تزيّا وظهر أمام الناس بمظهر السعادة أو الثراء، فإنه في حقيقة أمره عبد مملوك للشياطين والجن الذين يتعاونون معه، أو يسخرهم أو يتصرفون معه في تدبير المكائد والمؤامرات للأبرياء والضعفاء والمساكين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! وكذلك من بواعث السحر أيضاً: ما يتسلط به بعض الناس لمحاولة إدراك المجهول أو المستقبل.(103/4)
قصة فرعون مع سحرته
ولا تظنوا أيها الأحبة! أن أمر السحر فقط موجود بين المسلمين، بل هو موجود بين الكفرة، بل موجود بين أقوام سالفين، وكلكم يعلم قصة موسى وفرعون، وأن فرعون جمع السحرة أجمعين لميقات يوم معلوم، ثم إن فرعون طلب من موسى معجزة فما كان منه إلا أن سلك يده في جيبه، ثم نزعها فإذا هي بيضاء من غير سوء {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف:107] {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20] فقال فرعون: إن هذا لسحر، وقال وزراؤه وشياطينه وجلاوزته: إن هذا لمكر وهذا سحر يريد به موسى وأخوه أن يصرفا بني إسرائيل عنك يا فرعون، ويذرك وآلهتك أي: يتركك وملكك وسلطانك وقدرتك، ليصرف الناس عنك إلى غير ذلك.
فأمر السحر ليس بجديد وإنما هو قديم وكلكم يعلم أن الله عز وجل ذكر في كتابه الكريم ما كان في تلك المناظرة العملية المشهودة التي اجتمع فيها السحرة وموسى بما آتاه الله من ثبات البرهان وقوة اليقين وعزيمة الإيمان، قال: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس:80] وبين الله عز وجل أن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى، ثم إنهم ألقوا حبالهم وعصيهم وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، فما كان من موسى عليه السلام بتثبيت الله له، وتأييد الله له إلا أن ألقى تلك العصا، فانقلبت تلك العصا إلى ثعبان ضخم كبير عظيم مهيل، ثم التف هذا الثعبان على جميع ما أتى به السحرة مجتمعين فالتهمها ثم عادت إلى سيرتها الأولى، عادت تلك العصا صغيرة بعد أن ابتلعت كل سحر أتباع وشياطين ووزراء فرعون ومن معه، ولا يعرف السحر إلا من كان من أهل الصنعة وأصحابها.
لما رأى السحرة هذه العصا الصغيرة التي رميت على هذا السحر العظيم، على تلك الحبال الكثيرة، على تلك العصي المجتمعة، فما كان من هذه العصا إلا أن تعاظمت وتحولت إلى ثعبان حقيقي، وليست كما يفعل السحرة من تخييل وتصوير ورسوم يظنها الرأي أنها حقيقة، وليست بحقيقة إنما تحولت هذه العصا بأمر الله -الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون- إلى ثعبان عظيم فابتلعت والتهمت كل ذلك، فأيقن أولئك السحرة أن هذا ليس بسحر وإنما هي معجزات؛ لأنهم قد بلغوا في السحر غايته وقد بلغوا في الشعوذة قمتها، وقد بلغوا في الصنعة أعلى أقطابها، فما يظنون ولا يعلمون على وجه الأرض أن أحداً سوف يأتي بسحر أقوى من سحرهم، فعلموا أن هذه إنما هي معجزة ربانية وبرهان إيماني من الله عز وجل لإقامة الحجة على هؤلاء، فما كان من السحرة إلا أن خروا جميعاً ساجدين: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70].
فانزعج فرعون وجن جنونه، وقد كان يجعل السحرة ردأً وحصناً ودرعاً وحزاماً وقوة يلجأ إليها لمواجهة هذا الوحي وتلك الدعوة، فقال: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123] يريد حتى في قضية العقيدة، وقضية العبودية والفكر والاعتقاد ألا يمارس شيء إلا بإذنه وتدبيره وسلطانه، لا بد أن تستأذنوه قبل أن تتركوا الباطل إلى الحق، لا بد أن تستأذنوه قبل أن تدعوا الكفر وتتجهوا إلى الإيمان، لا بد أن تستأذنوا فرعون قبل أن تدعوا ضلالته وتتجهوا إلى الهدى الذي جاء به موسى وهارون.
{إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} [الأعراف:123] فأخذ يدعو بالويل والثبور ويرعد ويبرق ويزمجر ويتوعد: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ} ثم قال: لأصبلنكم أجمعين، ولأقطعنكم، وأخذ يتوعدهم، فانظروا واعجبوا يا معاشر المؤمنين! كيف تبلغ حلاوة الإيمان مبلغاً يجعل الواحد يستحلي العذاب ويصبر على البلاء ويتحدى المواجهات، فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] تقتل، تصلب، تعذب، تجلد، تصادر، تفعل {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ما هذه الحياة الدنيا حتى تتوعدنا وتتهددنا بها في مقابل ماذا؟ في مقابل الإيمان بالله {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] أنت الذي أكرهتنا، وأنت الذي أوردتنا المهالك، وأنت الذي جعلتنا نصل هذه المعاطف، لكنا آمنا بالله الذي سيغفر لنا ذنوبنا وحوبنا {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73].(103/5)
دوافع السحر
الحاصل أيها الأحبة! أن من دوافع السحر حب التسلط والعظمة، من دوافع السحر حب الانتصار، وكان هذا ما يفعله فرعون لكن جعل الله معجزة نبيه موسى من جنس ما برع فيه شياطين فرعون لتكون المعجزة أقوى وأبلغ، كما أن عيسى كانت معجزته من جنس ما برع فيه قومه، وهم قوم مشهرون بالطب، فكانت معجزة عيسى عليه السلام أنه يداوي ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، ويصنع من الطين طيراً فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله.
الحاصل أن حب السيطرة والتسلط والاستطلاع وتدبير كل الوسائل التي من شأنها أن تجعل الترتيبات المستقبلية في صالح هذا الإنسان يستخدمون السحر لأجل ذلك.
ولا غرابة إذا قلنا لكم: إن الرئيس الفرنسي السابق فاليري جسكار كان يستخدم السحرة في كثير من استطلاعات الرأي في معارك الانتخابات، وكذلك رجل البقر الكاوبوي رونالد ريجن الذي كان رئيساً للولايات المتحدة أيضاً كان يستعين بالسحرة في معارك الانتخابات وغيرهم وغيرهم كثير.
والسحر موجود إلى يومنا هذا عند اليهود في بيعهم وصوامعهم، وعند النصارى في كنائسهم، وربما وقع فيه بعض المسلمين جهلاً، وبعضهم يقع فيه والعياذ بالله ويجهل أنه يفضي به إلى الكفر، ومن علم بذلك فأصر عليه فقد وقع في الكفر والعياذ بالله، ونسأل الله عز وجل السلامة.
أيها الأحبة! هذه دوافع السحر: تسلط، وحقد، وكراهية، وتطلع للمستقبل، وشهرة، ولموع، ونجومية بين الناس.(103/6)
طرق السحرة لجلب الناس إليهم
ولكن
السؤال
إن هؤلاء السحرة لو أعرض الناس عنهم لأصبحت سلعهم بائرة وأصبحت بضائعهم كاسدة، فما الذي جعل سوق السحر عامرة؟ وما الذي جعل أسواق السحر ودكاكين السحر يرتادها الناس بين الفينة والأخرى؟
الجواب
يرجع ذلك إلى أمور: إن أهم دوافع اللجوء إلى السحرة يعود إلى الخواء الروحي، ويعود إلى تلك المعاناة، وإلى ذلك القلق، والشرود، والفراغ والجوع الروحي، والظمأ القلبي، كل ذلك من دوافع اللجوء إلى السحرة، فترى الواحد من هؤلاء الذين يشكو كل هذه الأعراض لا يتردد أن يذهب إلى السحرة؛ يظن أن عندهم ما يقلب شروده إلى نبوغ وتألق، وما يقلب ضيقه إلى سعة وأنس، وما يقلب وحشته إلى سرور وسعادة، وهو في الحقيقة كالمستجير من الرمضاء بالنار.
المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
أولئك يلجئون يريدون السعة فيقعون في الضيق، يريدون السعادة فيقعون في الشقاء، يريدون الأنس فيقعون في الوحشة، يريدون العافية فيزدادون ألماً وسقماً وعذاباً ومرضاً، وعند الله للأشقياء الذين يعرضون عن ذكر الله مزيد من أنواع البلاء: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
أيها الأحبة! إن الله عز وجل قد جعل لكل شيء زاداً وقواماً يقوم به، فلو أنا ملأنا الطائرات تراباً لتقلع على المدرجات وتحلق في الهواء ما أقلعت، ولو أننا ملأنا السيارات حصى ورملاً لتتحرك عن مواقعها ما تحركت، فللطائرات وقود معين، وللسيارات وقود معين، وكذلك للبطون شيء يناسبها مما يتحول قوة وعافية في الأبدان، وكذلك للقلوب أغذية معينة فلا تطمئن ولا تنشط ولا تعيش ولا تسعد إلا بتناولها غذاءها الذي شرعه الله لها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] إن الذي خلق القلوب جعل غذاءها ذكر الله، وجعل دواءها كلام الله، وجعل دواءها اللجوء والفزع والتجرد بالعبادة لله عز وجل، فمن طلب دواءً غير ذلك فهو يزداد من الأسقام والأمراض زيادة، ويتداوى بالداء يظن أنه بهذا يحصل الدواء، لا دواء للقلوب إلا بذكر الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] اسأل هؤلاء الشاردين، الذين ربما أصيب أحدهم بما يسمى بالاكتئاب أو بالشرود أو بالقلق فستجد بعضهم -حتى لا نعمم- قد دفع أموالاً طائلة كثيرة وربما ارتكب مخالفات شرعية كثيرة من أجل أن يفضي أو أن يضيف إلى نفسه سعادة ومتعة روحية، لكنه غير وجود ذلك رغم أنواع المهدئات وأنواع المفترات، وأنواع الأدوية والعقاقير، لكنها ما نفعت شيئاً، لكن الذي نفع هو كلام الله عز وجل.
لكن الذي نفع هو القرآن الذي جعله الله شفاء ورحمة وهدىً للمؤمنين وشفاء لما في الصدور.
ولو أن الواحد منا إذا حل به شيء من الضيق أو القلق أو الشرود أو الاكتئاب أحسن الوضوء وتطيب، وتوضأ وأحسن الطهارة في بدنه وثوبه، ثم توجه إلى المسجد وصلى ركعتين وناح إلى ربه، وشكا إلى ربه، وتملق إلى ربه، وعظَّم خالقه، وعفر جبينه وأنفه لله عز وجل، وأطال السجود ليس كسجود الغربان الذين ينقرون الصلاة ركوعاً وسجوداً، وإنما ألح على الله عز وجل والله وتالله وبالله تحقيقاً لا شك فيه، ثقة بوعد الله عز وجل ليخرجن من باب المسجد قرير العين هادئ البال مطمئن النفس، وقد انقلب شروده إلى راحة، وانقلب اكتئابه إلى أنس وانطلاقة بإذن الله عز وجل.
نعم أيها الأحبة! إن الخواء والبعد عن ذكر الله، من أهم الأسباب التي دفعت بعض الناس الذين نالتهم أعراض الاكتئاب وما تفرع عنها ظنوا أنهم مسحورون، وبعضهم قال له قائل أو جار أو قريب أو صديق: إنك مسحور وعليك علامات السحر، فصدق الأمر فلجأ إلى هؤلاء، ولو أنه أحسن اللجوء للجأ إلى الله عز وجل الذي بيده مقادير الأمور جميعاً.(103/7)
ماهية السحر، وهل هو حقيقة أم خيال؟
أيها الأحبة! تكلم أناس في السحر هل هو ضرب من الخيال أم حقيقة باصرة ماثلة للعيان؟ فطائفة قالوا: إنه كله تخيل لا حقيقة له، ومن الطوائف السالفة السابقة المعتزلة العقلانيون الذين قالوا: إن السحر لا حقيقة له، وإنما هو ضرب وأنواع من الخيال.
وطائفة قالوا: السحر كله حقيقة لا خيال فيه.
والحقيقة: أن السحر منه ما هو من الخيال ومنه ما هو من الحقيقة.
فالسحر له حقيقة وضرب من ضروبه، يؤثر على الإنسان من باب التخيل.
قال ابن قيم الجوزية في معرض كلامه وهو يرد على المعتزلة، الذين يقولون: إن السحر كله تخييل، قال: وهذا خلاف ما تواترت الآثار به عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وما يعرفه عامة الفقهاء.
ويقول ابن قدامة وهو من أئمة وكبار أئمة المذهب الحنبلي: وللسحر حقيقة، فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن زوجته، وما يبغض أحدهما للآخر، أو يحبب بين اثنين، وهذا قول الشافعي.
وبالمناسبة على كلام ابن قدامة رحمه الله أن من السحر ما يحبب بين اثنين، فللأسف أن طائفة من شياطين السحرة أخذوا يستخدمون السحر في الدعارة، فتجدهم والعياذ بالله يسحرون امرأة مسكينة ويعلقونها برجل إن كان قريباً أو بعيداً من غير محارمها ثم والعياذ بالله يقع بينه وبينها من الزنا ولا تجد نفسها إلا أسيرة مملوكة في الغالب لا تستطيع أن تخرج عن إرادة هذا الساحر.
واللوطية وأهل الشذوذ والعياذ بالله ومروجو الدعارة وأساطين الفساد والانحلال الأخلاقي كذلك ربما استخدموا هذا السحر من أجل أن يروضوا وأن يجروا من يشاءون ممن يريدون أن يتبادلوا معهم فعل الفواحش أو يفعل بهم الفواحش.
من المؤسف أن بعض الشباب قد بدأ بداية ضالة بدعوى حب الاستطلاع والاطلاع على العالم المجهول، بعضهم إذا سافر إلى بلد مجاورة يباع فيها كل شيء مما يضر ولا ينفع، تجد هذا الشاب يشتري كتب السحر ثم يأتي بها ثم يحاول أن يعزم ويعقد ويطلسم وينفث ويكتب ويضع المعادلات والمربعات والحروف والمقطعات من أجل أن يسخر فتى أو أن يوقع امرأة في حباله وشره.
والحقيقة كما قلنا أيها الأحبة! أن من السحر ما هو حقيقة وبعضه ما هو تخييل.
سُئل الإمام العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين هل للسحر حقيقة؟ أجاب سماحته بأن للسحر حقيقة ولا شك، وهو مؤثر حقيقة لكن كونه يقلب الشيء أو يحرك الساكن أو يسكن المتحرك فهذا خيال وليس بحقيقة، انظروا إلى قول الله عز وجل في قصة السحرة من آل فرعون، يقول تعالى: و {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف:116] وفي الآية: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] يعني السحرة أولئك نثروا ورموا تلك الحبال والعصي وسحروا أعين الناس، فتخيل الناس أن هذه العصي والحبال حيات تسعى وبعضها يلتوي على بعض، فجاءت المعجزة أن حية حقيقة وليست خيالاً وهي التي بأمر الله خلقت وبأمر الله انطلقت ابتلعت ذلك السحر كله.(103/8)
حكم من شك أو نازع في ثبوت السحر
ومسألة السحر من شك أو نازع فيها فقد كفر لأنه ثابت، بل سُحر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحر، من الذي سحره؟ يهودي: ويبقى اليهود وراء الأذى في كل قضية، ويبقى اليهود هم الذين يتجرءون على ذات الله، يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] و {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ويقولون: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم تعب فاستراح في اليوم السابع فأنزل الله قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].
يبقى اليهود هم الذين يقتلون الأنبياء، هم الذين يؤذون الأنبياء إلى آخر نبي وهو صلى الله عليه وسلم، فالمرأة التي وضعت السم في الشاة للنبي صلى الله عليه وسلم هي امرأة يهودية، والرجل الذي سحر الرسول صلى الله عليه وسلم هو رجل يهودي.
فيا معاشر المؤمنين! أيظن من وراء اليهود خيراً أو يرتجى منهم الأمن أو السلامة من شر، هذا ما كان للأنبياء فكيف نريد أن يكون للمسلمين في دبر الزمان وفي حال الضعف للمسلمين.(103/9)
إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر
الشاهد: أن هذا الرجل الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم يهودي يقال له لبيد بن الأعصم، سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر فحل، أي: من النخيل، وعقد ووضعها، ثم أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر، فكان يخيل إليه أنه أتى أهله وما أتاهم، ويخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، لكن الله سبحانه أنجى نبيه من هذا السحر ورقى جبريل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم بالمعوذتين فشفي وأخرج السحر وحل بإذن الله وبمنِّ الله عز وجل.
قد يقول قائل: ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سحر والكفار يقولون: بمعرض احتجاجهم على القرآن {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} [الإسراء:47] وهو يأتي بالوحي فربما جاءنا بوحي أو شرع تشريعاً وهو في حال من السحر؟ نقول: لا.
لماذا لأن الوحي الذي هو من عند الله لا يمكن أن يتسلط عليه الشياطين أو السحرة أو البشر، بل إن سحر النبي صلى الله عليه وسلم فيه إثبات بشريته صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا نعبده ولا نتوسل به من دون الله، وحتى لا نفزع إليه ولا نلجأ إليه بعد مماته صلى الله عليه وسلم أو فيما لا يقدر عليه إلا الله في حياته، وأما جانب الوحي: فإن الوحي معصوم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال شيئاً من الوحي وهو في حال لا يعقل أو في حال سحر أو نحو ذلك، لماذا؟ لأن الوحي من عند الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه) فإذا كان القرآن ينزه أن يكون السحر له تأثير عليه، فكذلك كلامه التشريعي والوحي الذي يقذفه الله إلهاماً وإخباراً وإنباءً من الله لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون سحراً بأي حال من الأحوال.
وطائفة قالوا: لا بد نتكلم أو نرد قضية أن النبي سحر حتى لا يتطرق الكلام أو الشك أو الريب والتردد في مسألة الوحي؟ نقول: لا.
بل نثب ما ثبت في السنة، ونفهم الأمور على حقيقتها، فكما يقول ابن قيم الجوزية وقبله ابن تيمية رحمه الله: إن منهج الأئمة الأعلام والذين آتاهم الله البصيرة والفقه أنهم لا يردون الأخبار بمجرد إيراد تهمة أو شبهة عليها، وإنما يتدبرون ويعقلون ويفهمون ثم بعد ذلك يصرفون الأمور والأحكام وفق ما دلت عليه النصوص، فلا يكذبون بالنصوص ولا يضربون بعضها ببعض.
يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر، وله كتاب قيم جميل عالم السحر والشعوذة، يقول: السحر أنواع: فمنه ما هو حقيقي، ومنه ما هو تخيلي، ومنه ما هو مجازي وهو الذي يعتمد على خفة اليد والألعاب، لكن حتى هذا السحر الذي يظنون أنه يعتمد على خفة اليد لا يخلو من السحر التخيلي، وأنتم تلاحظون أن ساحراً من السحرة يقف أمام الجماهير ثم ينحني راكعاً لهم، وفي الحقيقة يركع للشياطين قبل ذلك ثم يحيونه بالتصفيق وبالصفير والمكاء والتصدية ثم لا يلبث ويأتي بمنديل ويحركه أمامه ثم يدخله في القبعة، ويخرج ثلاثين أرنباً وأربع حمامات وخمسة قطط، وعد من الغرائب والعجائب من هؤلاء الذين يسحرون الناس وهم في الحقيقة سحرة لا شك في أفعالهم.
ويظن ظان أو يقول قائل: إن هذا ضرب من خفة اليد أو شيء من ألعاب السرك ونحو ذلك؟ الحقيقة هي الحقيقة؛ أنه سحر يخيل لهذا الرائي أنه رأى مثل هذه الأمور.(103/10)
ما يبذله الساحر ليمكن من السحر
واعلموا أيها الأحبة! أن السحر لا يمكن أن يتسخر لساحر ولا يمكن أن يستطيع ساحر أن يعمل السحر ليصرف أو يحبب أو يبعض أو يقرب أو يفرق أو يؤذي أو يجعل في البدن بلاء، أو يجعل الإنسان ضعيفاً إما عاجزاً عن جماع أهله أو عاجزاً حتى عن أن يتحرك، أو عاجزاً عن التفكير أو يجعله في غيبوبة فكرية، أو في نسيان وشرود ذهني عجيب، لا يمكن أن يستطيع الساحر أن يصل إلى هذه الدرجة إلا بعد أن يجتاز المخالفات العظيمة الكبيرة التي بها يترقى لدرجة السحر بعد الوقوع في الكفر.
ولا أريد أن أفيض في بعض الأسباب التي يتأهل بها الساحر للوقوع في هذه الدرجات، أو للسيطرة على مثل هذه الحالات، لكن لتعلموا أن السحرة لا يبلغون هذا إلا بكفر عظيم، وأن الشياطين تطلب من الساحر أن يسجد للأصنام أولاً، وتطلب منه أن يتبول على المصحف، وتطلب منه أن يجعل المصحف في دورة المياه ثم يتبرز عليه، وتطلب منه أشياء عظيمة خطيرة جداً، فلا تتصور أن هذا الساحر استطاع أن يصل إلى هذه الدرجة، وأن الجن والشياطين قد وقفوا معه هذا الموقف حباً أو كرامة أو انقياداً أو هيبة أو خوفاً من سطوته، أو لما عنده وعند آبائه وأجداده؟
الجواب
لا.
إنما هي عملية مقايضة: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] أي: عندما تتعلم هذا السحر وتعرفه تكفر؛ ولأجل ذلك فلا نصدق أن هؤلاء الذين يدعون -وهم من السحرة- أنهم يتعاملون مع الصالحين وأنهم يتعاملون مع هؤلاء وهؤلاء.(103/11)
إبطال دعوى السحرة التعامل مع الصالحين
الحقيقة أنهم يتعاملون مع الشياطين، وأذكر في مجلس حضر فيه سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز فسأله سائل قال: أنا رجل أداوي الناس ولي صلة بالجن وهم من الصالحين، ويخبروني عن بعض الأمور ويفعلون ويحققون لي بعض الأمور فما قول سماحتكم بذلك؟ فقال سماحته متع الله به: ما يدريك أنهم صالحون، وهل تعلم أنهم من المنافقين أم من المتقين، وهل تعلم أنهم يصدقون أم يكذبون؟!! فدعوة التعامل مع صالحي الجن أصبحت اليوم معزوفة يغني ويرقص عليها كثير من الذين يأخذون ويتسلقون إلى الجن، إن الطبيب الاستشاري الذي يدرس سبع سنوات طب ثم سنة زمالة، ثم سنة امتياز أو قبلها سنة امتياز ثم زمالة ثم، ثم، ثم، وبعد عمر طويل ويخرج الشيب في لحيته أو في رأسه، وبعد ذلك يكون استشاريّاً أجر كشفيته وأجر فحصه مائة ريال فقط لا غير، لكن يأتي هذا المشعوذ بهذه الدعوى أو يدعي ذلك الكلام كذباً وتطفيفاً على الناس.
وقد يكون بعض الناس هو في الحقيقة لا يتعامل، ما كفر لكنه يدعي أنه يتعامل مع صالحي الجن، ويكذب على الناس كذباً صراحاً ثم يأخذ منهم، والمريض مستعد أن يبذل الشيء الكثير، فإذا جيء وقيل له: ما اسم أمك، ما اسم جدتك؟ هل تفعل، ما تفعل؟ أعطنا فنيلتك، أعطنا، أعطنا، ادفع ألف ريال وغداً تعال وخذ شيئاً من التمائم والعزائم والكتابات والمحو والطلاسم وغير ذلك، فتجدهم ينقادون ويستجيبون ولا حول ولا قوة إلا بالله! فالسحر اتفاق بين السحر والجني على إحداث شيء بالإنسان، وهذا قد يجعل الإنسان إما عاجزاً عن مباشرة زوجته وهو ما يسمى بالربط، أو إحداث نزيف بالمرأة، أو إسقاط للجنين، أو إحداث مرض معين كصداع، أو نوع صمم أو عدم سمع، أو عدم نطق أو شيء من الشلل الجزئي في جزء أو في أجزاء من الشخص، أو إحداث حبٍ أو كراهية ونحو ذلك.
لكن حقيقة السحر الذي يستعين به الساحر على فعل ما يريد فعله بالإنسان الذي يراد سحره هو الكفر؛ ولذلك قال عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وقد تواتر النقل عمن بحث في أحوال السحر والسحرة أن بينهم تلك العلاقة الكفرية الخطرة بين الجن والشياطين، بل إن بعض الشياطين وبعض مردة الجن يأمرون الساحر أن يأكل النجاسة والحيايا والخشاش والحشرات وغير ذلك، ولا يستطيع أن يرفض لهم طلباً بأي حال من الأحوال.(103/12)
ذكر بعض ما مكن الله للجن
فإذا علمنا أن السحر لا يتم إلا بهذا، فهل يبقى في ذهن أحدٍ شك أن السحر مقتضاه ومبدؤه ومعاده وأوله ونهايته مرتبطة بالكفر بالله عز وجل.
إن الجن قد يتسخرون في بعض عمليات السحر، والجن مخلوقات موجودة، فالجن ليسوا جمادات إنما هم موجودون.
وكذلك من أنكر الجن فقد كفر، وكذلك من أنكر أن الجن يعبثون ويتصرفون ويداخلون بني آدم فقد أنكر شيئاً أصبح شبه متواتر أوشك أن يتم الإجماع عليه بين الناس، لكن الجن كما قال الله عز وجل: {إنه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].(103/13)
قدرة الجن على التشكل
الشياطين والجن يروننا ولا نراهم فلهم القدرة على رؤيتنا ولم نعط القدرة على رؤيتهم، وهم يستطيعون أن ينتقلوا انتقالاً سريعاً في أقطار الأرض، ويستطيعون أن يصعد بعضهم على بعض في طبقات الفضاء يسترقون السمع، وربما ضربتهم الشهب التي تفرق جموعهم، ولدى هؤلاء الجن والشياطين القدرة على أن يتشكلوا بأشكال مختلفة، فقد يتشكلون في صورة بشر أو حيوان أو أفعى ونحو ذلك، وبالمناسبة إذا رأى الإنسان كلباً بهيماً أسود أو شيئاً أسود بهيماً من هذه الحيوانات وقد استوحش منها، ورآها فجأة في داره فليعلم أن ذلك من تصور الجن والشياطين، فعليه ألا يبادر بقتلها، بل عليه أن يتعوذ بالله من شرها ثلاث مرات، فإذا لم تزل ولم تخرج ولم تبتعد عنه فحينئذٍ بعد هذا الإنذار فله أن يقتلها، وقد ثبت في الحديث أن أحد الصحابة رضوان الله عليه أقبل على بيته قادماً من الغزو فرأى امرأته عند الباب، فاشتعلت غيرته وسل سيفه يظن أن امرأته خرجت تريد شيئاً آخر فقالت: دونك لا تعجل انظر ما بداخل الدار.
فلما دخل وجد ثعباناً أسود عظيماً على فراشه فما كان منه إلا أن سل السيف مرة أخرى واخترطه على هذا الثعبان ثم التف الثعبان عليه فقتله، قال صلى الله عليه وسلم لما أخبر بالأمر: (لا أدري أيهما أعجل بصاحبه) وقال: (إن لهذه الدور عوامر) والمعنى: أن الإنسان إذا رأى في الدار شيئاً مثل ذلك فلا يستنكر ولا يعجب بل عليه أن يقول: نعوذ بالله من شرك، نعوذ بالله من شرك، نعوذ بالله العظيم من شرك، نعوذ بالله من شرك اخرج عن دارنا، اخرج عن مكاننا، يحذره ويهدده ثم بعد ذلك إذا لم يستجب بعد ثلاث فله أن يقتله ولا يضره بإذن الله عز وجل.
ومعلوم أن الجن والشياطين لديهم القدرة على التشكل بأشكال مختلفة، يتشكلون بصورة بشر أو حيوان أو غير ذلك، وأيضاً قد سخرهم الله عز وجل لسليمان، فكانوا سخرة عبيداً بين يدي سليمان عليه السلام يبنون القصور الشاهقة، ويصنعون الصحاف الكبيرة، والقدور الراسية، ويغوصون في أعماق البحار ويستخرجون اللآلئ من جوفها فإذا خالف أحدهم فإن سليمان -قد أوتي ملكاً عظيماً- يصفدهم في الأغلال والأصفاد ولا يخرجون عن ملكه.(103/14)
تمكين الأنبياء من الجن
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر للصحابة فقال: (تفلت عليّ البارحة شيطان ليفسد عليّ صلاتي ثم إني أمسكت به حتى وجدت برد لعابه على يدي) أي: شيطان تفلت على النبي صلى الله عليه وسلم فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قبض عليه، وخنقه حتى سال لعابه، قال: (فهممت أن أربطه بسارية المسجد ليلعب به الصبيان ويرونه، لكني تذكرت دعوة أخي سليمان عليه السلام {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] فتركه النبي صلى الله عليه وسلم).
ومعلوم أن الشيطان أيضاً يجري من ابن آدم مجرى الدم كما ثبت في السنة، لكن هؤلاء الشياطين لا يستطيعون أن يأتوا بمعجزات الأنبياء، ولا يستطيعون أن يأتوا بكلام الأنبياء في عصمته وإعجازه، ولا يستطيعون أن يأتوا بشيء من كلام الله، ولا يستطيعون أن يتصوروا بصور الأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رآني فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي) ولا يستطيعون أن يأتوا بمثل كلام الله، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:210 - 212].(103/15)
للجن حدود لا يتجاوزونها
وأيضاً لا يستطيعون أن يجاوزوا حدوداً معينة، فلا تظن أن هؤلاء الشياطين يفعلون ما يريدون أو يشتهون، فلهم حدود معينة {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33].
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الشياطين لا تحل قربة أُوْكِيَتْ، ولا تكشف آنية خُمِّرَتْ، ولا تفتح باباً مغلقاً، كل ما عليك أن تقول وأنت تغلق الباب: باسم الله فلا يستطيع أكبر شيطان أن يفتحه.
يقول لي أحد الإخوة وكان مبتلىً بتسلط الشياطين في بيته، قال: إذا وضعت المسجل على سورة البقرة بتلاوة بعض الأئمة -مسجل وجهين- أعود فأجد أنه ينطفئ فوراً، قلت: هل تقول: باسم الله حينما تبدأ؟ قال: لا.
قلت: ارجع وضع السلك في الفيش وقل: باسم الله وأنت تضع الشريط، وقل: باسم الله وأنت تدير الزر الذي يحرك هذا المسجل ثم انظر هل يستطيعون أن يغلقوه أم لا، قال: ففعلت ذلك فوالله أخذ المسجل أياماً تتكرر هذه السورة في صالة المنزل ما انطفأ وما انقطع لحظة واحدة بإذن الله.
كل ما عليك إذا أردت أن تجعل الجن والشياطين في عجز أن يفعلوا معك شيئاً فعليك أن تقول: باسم الله، كثير من الناس يرمي ثيابه ولا يسمي، يتعرى في دورة المياه ولا يسمي، ينتقل من مكانه ولا يسمي قل: باسم الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستر ما بين الجني وعورات بني آدم ذكر اسم الله عز وجل).
لنعلم أن لهؤلاء الشياطين والجن قدرة محدودة لا يستطيعون أن يجاوزوها، ومن ادعى غير ذلك فقد أعطى هؤلاء قدراً أكبر منهم.(103/16)
حكم تعاطي السحر
أما حكم السحر والساحر فالسحر كفر وتعاطيه كفر ولا يجوز.
من الأدلة على ما ذكرناه آنفاً قول الله عز وجل: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] وجه الاستدلال: أن الآية رتبت الحكم وهو الكفر على الوصف المناسب وهو السحر، وهذا مشعر بأن العلة في الكفر هو السحر، ومن الأدلة في نفس الآية قول الله عز وجل: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102] الآية.
وفي الآية التصريح بأن تعلم السحر كفر، قال النووي رحمه الله: عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفراً ومنه ما لا يكون كفراً، بل يعد من الموبقات والكبائر المهلكة العظيمة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام.
والسحر المجازي وإن لم يبلغ مبلغ الكفر إلا أنه حرام لما فيه من إفساد عقائد العامة، فإن العامي إذا شاهد ما يفعله الساحر من أمور غريبة لا يعرف سببها ربما اعتقد في الساحر شيئاً من صفات الربوبية فيهلك بذلك.
أذكر مرة في كوالالمبور في ماليزيا أننا دخلنا سوقاً وكان معنا بعض الإخوة على إثر زيارة في مهمة، فدخلنا سوقاً من الأسواق فوجدنا الناس قد اجتمعوا على امرأة، فرأينا عجباً وقلنا ما هذا التجمع على المرأة، فجئنا لننظر لماذا يجتمعون، فإذا بهم يجتمعون حول امرأة ساحرة تفعل أشياء فقلت: لأحد الإخوة قف أمامها وسأقف بجوارها أو خلفها وليقرأ كل واحد منا آية الكرسي، والله يا إخوان لما بدأنا نقرأ آية الكرسي تلخبط الأمر في يديها وأخذت تهرش وتمرش في جسمها وشعرها وجلدها وأخذت تتلفت وشعرت بأن من حولها ما يفسد ما تقوله وما تدبره على هؤلاء الحضور.
ثم تضاحكنا عجباً من أن هذا الساحر أمره ضعيف، وكيده في تباب، وأمره في ضلال وخسار، لا يستطيع أن يأتي شيئاً بقوة السلاح الذي تحمله وهو أسماء الله وصفاته، آية الكرسي، القرآن العظيم الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحينئذٍ فإنك بإذن الله عز وجل تستطيع أن تسلم وأن تعصم نفسك من شر هذا السحر وأنواعه.(103/17)
عقوبة الساحر
عقوبة الساحر في الإسلام: نوجز مذاهب العلماء في هذه المسألة: القول الأول: بعض أهل العلم بوجوب قتل الساحر من غير استتابة، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة ومالك ورواية عن الإمام أحمد، وهذه الرواية هي المذهب عند الحنابلة، وعزا القرطبي هذا القول إلى جمهور أهل العلم وهو أن الساحر يقتل ولا هوادة، وقال به من الصحابة عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وأبو موسى الأشعري.
القول الثاني: وجوب قتل الساحر كفراً إذا عمل بسحره أمراً يقتضي كفره، فإن كان سحره بغير الكفر ولكنه فعل سحراً قتل به حداً، فإن جعل السحر آلة للقتل فيقتل قصاصاً ويضرب عنقه، وفي غير هاتين الحالتين يعزر ولا يقتل وهذا مذهب الإمام الشافعي وهو قول للإمام أحمد رحمه الله.
والواجب أن نحذر المسلمين عموماً من هؤلاء السحرة وأفعالهم.
ويقول: الشيخ ابن باز: فالواجب على ولاة الأمور وأهل الحسبة وغيرهم ممن لهم قدرة وسلطان إنكار إتيان الكهان والعرافين ونحوهم ومنع من يتعاطى ذلك، والإنكار عليهم أشد الإنكار، وألا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، وألا يغتر بكثرة من يأتي إليهم ممن ينتسب إلى العلم، فإنهم غير راسخين في العلم، بل هم من الجهال لما في إتيانهم من المحذور، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إتيانهم وسؤالهم وتصديقهم لما في ذلك من المنكر العظيم والخطر الجسيم.
ويقول الشيخ ابن عثيمين: والسحرة يجب قتلهم سواء قلنا إنهم كفروا أم لم يكفروا بل لا بد من قتلهم، لعظم ضررهم وفظاعة أمرهم، فهم يفرقون بين المرء وزوجه وبين الزوج وزوجته، وقد يعطفون فيألفون بين الأعداء، ويتوصلون بذلك إلى أغراضهم إلى آخر ما قال.(103/18)
الأسباب التي تجعل الإنسان يقع في السحر
الأول: ضعف التوحيد في قلب العبد: فإن العبد الذي يضعف التوحيد في قلبه، ويضعف التوكل على الله عز وجل في نفسه وفؤاده، تراه مسكيناً ضعيفاً؛ ولذلك فإن الشيطان صرح كما أخبر الله عز وجل: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ} [النحل:99] أي: الشيطان {سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99].
فالمخلص العابد المعتني بالطاعة المتوكل على ربه حقيقة التوكل، ليس للشيطان عليه سلطان، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون، فمن لم يتحصن بالتوحيد وقع في حبائل السحرة والمشعوذين إذا خططوا ودبروا ذلك وأراد الله ذلك أو كان ذلك بمشيئة الله عز وجل.
الثاني: الإسراف على النفس بالذنوب: كذلك أيها الأحبة! كثير ممن يقعون في السحر وحبائله وفخاخه ممن يسرفون على أنفسهم بالذنوب والمعاصي، والله عز وجل يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ويقول عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] وإن كانت الآيات قد نزلت في غزوة أحد، لكن كما في القواعد الشرعية الأصولية: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فالإنسان المضيع للواجبات، المرتكب للمعاصي والمحرمات، والمتساهل بكثير من الأمور؛ فإنه يكون أكثر من غيره وأقرب وأسهل من غيره وعرضة أن يؤثر فيه السحر وأن يقع فيه السحر.
الثالث: كذلك من الأسباب التي توقع في ذلك: التساهل في مجالسة هؤلاء السحرة، فإن هؤلاء السحرة بما وقعوا فيه من الأذى لا يرضون أن يكونوا فقط هم الذين يتسخرون للجن من بين سائر من حولهم من جلسائهم وأقربائهم، فتراهم إما أن يسحروهم ثم يوقعونهم ثم يستدرجونهم لكي يقعوا في ذات السحر الذي وقع فيه الساحر، وإما يؤذونهم بذلك أو ليجعلوهم تحت رحمتهم والعياذ بالله، وإما أن يمهدوا بذلك الطريق لكي يكونوا سحرة.
فمجالسة السحرة ومجالسة المشعوذين والتساهل بذلك ولو بدعوى الاستطلاع فإنه أمر يفضي إلى الوقوع فيه أو الإصابة به، وما كان صلى الله عليه وسلم ينطق على الهوى لما قال: (من ذهب إلى عراف فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) (ومن ذهب إليه وسأله ولم يصدقه -كما في الحديث- لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ذلك من شدة التحذير والتنفير من الوقوع والقرب من هؤلاء السحرة، وما تظنون برجل يجالس السحرة والمشعوذين هل ستكون نهايته أن يحفظ القرآن؟ أو يحفظ الصحيحين؟ أو يفهم مسائل الفقه وأمور الشريعة؟
الجواب
لا، فكل يتعلم من القوم ما عندهم من البضاعة، وكل إناء بالذي فيه ينضح.(103/19)
الطرق الشرعية في الوقاية من السحر والسحرة
أولاً: السحر شرك وعلاجه التوحيد، فمن أراد أن يُشفى أو يداوي مريضاً من السحر فعليه أن يعمق في قلبه قضية لا إله إلا الله، واللجوء إلى الله، والتضرع إلى الله، وأنه لا يكون شيء إلا بتدبير الله، وأنه لا يفعل أحد شيئاً لم يأذن به الله، ولا يستطيع أحد أن يقرب ما بعّده الله، أو يقبض ما بسطه الله، أو يعطي ما منعه الله، أو يدفع ما قدره الله، إذا اشتعل وتألق الإيمان والتوحيد والعقيدة في قلب الإنسان فإنه بإذن الله يكون من أعظم أسباب وقايته وشفاءه من السحر.
ثانياً: ومن السبل أيضاً: الاستعاذة بالله عز وجل: فإن السحر فيه نزغات، والله عز وجل يقول: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97].
ومعلوم أن القواقل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، من أعظم الأسباب التي يدفع بها السحر بإذن الله عز وجل.
ثالثاً: تقوى الله.
رابعاً: الصدق مع الله عز وجل، الصدق مع الله سبحانه وتعالى، وأعجبني قصة فتاة كانت ممبتلاة بألم في رجلها أو في ساقها وفخذها وطلبوا الأطباء وأعيتهم الحيل، فجاءهم رجل عرفوا أنه مشعوذ ساحر فيما بعد، لكنه قال: أريد منكم أن تفعلوا كذا وتأتوا بكذا وتقولوا كذا وتذبحوا كذا، فقالت الفتاة: إن أراد الله أن يشل قدمي الأخرى ولا أفعل ما يقول هذا الساحر، فما أجمل التقوى وما أجمل التسليم، وما أجمل الانقياد لله عز وجل.
وقد يبتلي الله عبداً من عباده ببلاءٍ عظيم كما في الحديث: (لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج من الدنيا وما عليه خطيئة) قد يقدر الله على عبد بلاء من أنواع البلاء أو سقماً من أنواع الداء والسقم ليرفع درجاته وليكفر سيئاته، لمنزلة لا يبلغها بعمله، لكن الله اختار له منزلة، فبلغها بصبره على هذا البلاء، الشاهد أن الصبر والتقوى من خير ما يدفع به السحر {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120].
خامساً: العناية بالصدقة والإحسان فإنها من الأسباب التي تدفع البلاء والسحر والحسد بإذن الله عز وجل.
سادساً: الإكثار من قراءة القرآن والأدعية المأثورة، يقول ابن القيم: ومن أنفع علاجات السحر: الأدوية الإلهية، بل هي من أدويته النافعة بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثير هذه الأرواح الخبيثة السفلية يكون بما يعارضها ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كان أقوى وأشد كان أبلغ في دفع السحر، وذلك بمنزلة التقاء جيشين، مع كل منهما عدته وسلاحه فأيهما غلب على الآخر قهره وكان الحكم له.
ثم يقول ابن القيم كلاماً جميلاً يكتب بماء الذهب: فالقلب إذا كان ممتلئاً من الله، مغموراً بذكر الله، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات ورد لا يخل به، يطابق فيه قلبه لسانه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له.
ومن أعظم العلاجات له بعدما يصيبه، لكي نحمي أنفسنا أيها الأحبة من هذه الشرور علينا أن نلهج بذكر الله، وألا تزال ألسنتنا دائماً لاهجة بذكر الله سبحانه وتعالى، وهناك أذكار بعينها تدفع الشر بأنواعه منه السحر، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب -يعني كمن أعتق عشر رقاب- وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل مثل عمله أو أكثر من ذلك) الحديث متفق عليه.(103/20)
ترك الصلاة مما يوقع في أعمال السحرة
كذلك من الأسباب التي توقع الإنسان أي يكون عرضة لما يراد به من السحر وبضدها تكون حرزاً وحصناً من الوقوع فيه، أو الابتلاء به الصلاة مع الجماعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
فالذي لا يحرص على الصلاة مع الجماعة، ويتهاون بالجماعة، وينقر صلاته في بيته وحده، فذلك عرضة إذا دبر له مكيدة سحر أن يقع.
فيا إخوان! كيد السحرة كثير ومنتشر في هذا الزمان، لكن الكثير من الذين يحافظون على صلاة الفجر ما يؤثر فيهم السحر، الذين يحافظون على الصلوات مع الجماعة ما يؤثر فيهم السحر، الذين يحافظون على الأذكار ما يؤثر فيهم السحر، لا تظنوا أن قلة أو ندرة المصابين بالسحر دليل على أنه أمر نادر جداً! لا، إن كيد السحرة كثير لكن الله عز وجل يدفع كيدهم بالأسباب الشرعية التي شرعها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الأذكار وأداء الصلوات مع الجماعة، فالحديث الذي بين أنه ما من ثلاثة في بدو أو حضر أو قرية لا يؤدون الصلاة جماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان ماذا تريد من إنسان يصلي وحده، ينقر صلاته نقر الغراب، من الساهين عن الصلاة، يصلي الظهر في آخر وقتها أو في دخول وقت العصر، يصلي المغرب في وقت العشاء وهلم جرا، ما تريد من رجل استحوذ عليه الشيطان وقد دبر له مكيدة سحر، كيف تريد له أن يسلم من ذلك؟! يقول صلى الله عليه وسلم: (قل: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء) في معرض خطاب النبي لأحد الصحابة يقول له: (اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء).
أما إذا ابتلي الإنسان بسحر فعليه أن يعتني بصدق اللجوء إلى الله عز وجل وشدة الاضطرار، والفزع إلى الله، والثقة بأن الله تعالى هو الذي قدر الأمور، وهو يكشف أنواع البلاء، ولا يدفع الضراء إلا هو، ولا يجلب السراء إلا هو عز وجل، فمن ابتلي بالسحر عليه أن يجرد التوحيد واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وليعلم أن مسبب الأسباب هو الله عز وجل، وما هذه إلا بمنزلة حركات الرياح بيد محركها وفاطرها وبارائها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه سبحانه وتعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107].
وقال صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) رواه الإمام أحمد والترمذي.
لنعلم من هذا أن من أوائل ما يفزع إليه الإنسان حينما يبتلى بالسحر أن يفزع إلى الله وأن يحقق التوكل واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى.(103/21)
مما يدفع السحر: الرقى الشرعية
كذلك لا بأس بالرقى، قال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) فالرقى والتعاويذ إذا سلمت من أمور، فأولها: ألا يكون فيها شرك ولا معصية، ودعاء غير الله أو الإقسام على الله بغير الله عز وجل، رأيت عند أحد إخواننا القراء بعض الحروز من الجلد وحروز من خرق، وغير ذلك فتحناها وقرأنا الأوراق، إذ بها يا عبدوس يا شيطون أقسمنا عليكم بحق عين سين قاف، بحق حاء ميم إلا أجبتم، افعلوا عاجلاً لا تتركوا هذا العبد المسكين فإنه في كربة، فهذا دعاء للشياطين وشرك بالله عز وجل.
فمثل هذه الرقى ومثل هذه التعاويذ لا تزيد إلا شركاً، فمن شرط الرقية أن تكون سالمة من الشرك ودعاء غير الله، وأن تكون بالعربية وما يفقه معناه، وألا يعتقد المرقي أو المسحور أو المبتلى أنها تؤثر بذاتها، وإنما التأثير بتقدير وتدبير الله، والله عز وجل قد جعلها سبباً مباركاً.
وأنفع الرقى ما كان بالقرآن الكريم، أنفع الرقى ما كان بكلام الله سبحانه وتعالى.
وبالمناسبة فإن أناساً تتقطع قلوبهم على فلان بن فلان يا ليت أنه يحصل من فلان ساعة يقرأ عليّ فأنا مبتلى، يا ليت من يذهب إلى فلان أو يعرف عند فلان واسطة كي يقرأ عليّ لأن ذاك راقٍ ممتاز، يا أخي الكريم! أنت ترقي نفسك، يوشك أن يعتقد بعض الناس أن فلاناً بيده أو عنده أو حوله أمر معين يجعله يؤثر بنفسه أو يستقل بالتأثير من دون تدبير الله عز وجل، من شدة اللغو في الأشخاص الذين يرقون.
يا أخي الكريم! لا بأس أن تذهب إلى راقٍ لكن لا بأس أيضاً أن ترقي نفسك، ولا بأس أن يرقي بعضنا بعضاً، فليس من شرط الرقية أن يكون الإنسان سالماً من كل ذنب، فقد يبتلى الإنسان بمصيبة من المصائب، فلنفرض أنه مدخن والباكت في جيبه، فلنفرض أن إنساناً عنده معصية من المعاصي، يقول: لا، أنا ما يمكن ينفع الله عز وجل برقيته، لا يا أخي! ترقي ابنتك وترقي ولدك وتقرأ على أولادك، ولا تقول: لا والله أنا عندي ذنب أو عندي معصية أو مرتكب فأنا لا يمكن أن أرقي أو أستعمل هذه السبل الشرعية في دفع البلاء ومعالجة هذا السقم؛ لأن هذه الرقى هي دعاء والدعاء من كل عبد كان عاصياً أو مطيعاً، من كل عبدٍ كان مقتصداً أو كان سابقاً بالخيرات، أو مفرطاً يدعو الله عز وجل ويلجأ إلى الله والله سبحانه وتعالى يكفيه.
الشاهد ألا نغلو وألا نغالي في بعض الأشخاص الذين يقرءون ونظن أنه لا يمكن أن يشفي إلا رقية فلان وقراءة فلان، لا بأس قد ينفع الله بقراءة ورقية فلان لصلاحه وتقواه ودينه، وقبل ذلك بإرادة الله الشفاء، ولكن لا نعتقد أن الإنسان إن لم يجد من يرقيه أو يقرأ عليه فإنه لا يمكن أن يستفيد من الرقى، بل أنت ترقي زوجتك وترقي بنتك وترقي أولادك وترقي نفسك، حتى لو كان عندك من الذنوب والمعاصي.
فمن ادعى أن الرقية لا يفعلها إلا من هو كامل فقد أبطل كل رقيه إلا من قليل ممن رحم الله، ولا شك أن الصلاح له نفع بإذن الله سبحانه وتعالى، ولا بد للمريض أن يتيقن أن كلام الله نافع ومؤثر حتى يستفيد لأن من الناس من يقول لماذا؟ نجرب إن نفعت وإلا ما ضرت هذه الرقية، أو ما نفع هذه القراءة من القرآن، لا، إذا كنت تقول نجرب القرآن، إن نفع وإلا ما ضر فاعلم أنك لن تستفيد، لا تستفيد إلا إذا تيقنت تمام اليقين بكمال الاعتقاد أن القرآن شفاء وأنه مؤثر ونافع بإذن الله، كما يقول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].(103/22)
جملة من السبل الشرعية لدفع السحر
من السبل الشرعية: إذا استطاع الإنسان أن يعرف أو يفتش أو يقلب أو يتوهم، ربما الإنسان يتكرر عليه في المنام رؤيا إنسان معين يشك في عداوته، وربما يرى في المنام رؤيا مكان معين تحت أو خلف الدولاب أو جنب السرير فلا بأس لو كشف مثل هذا المكان فربما وجد عقداً أو تمائم أو مشطاً أو مشاطةً أو أي شيء من ذلك تكون هي مادة السحر، وبعضهم يجعله قريباً من مكان المسحور نفسه، بعضهم يجعله قريباً من بيته، أو فرشه، في مكتبه أو أثاثه، فإذا وجد السحر واستخرج وأبطل وكما يقول ابن القيم، فهذا أبلغ ما يعالج به المطبوب، أي: المسحور وهذا بمنزلة إزالة المادة الخبيثة وقلعها من الجسد بالاستفراغ.
كذلك استعمال الأدوية المباحة فإن ذلك ينفع، ومما ينفع أيضاً تناول سبع تمرات عجوة صبيحة كل يوم، ففي صحيح البخاري عن عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اصطبح كل يوم سبع تمرات عجوة لم يضره سحر ولا سم ذلك اليوم إلى الليل).
وكذلك من الأمور المهمة: قراءة سورة البقرة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما) (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) قال معاوية: بلغني أن البطلة هم: السحرة.
وقراءة سورة البقرة معلوم ومجرب ونافع بإذن الله عز وجل، وقراءة آية الكرسي حين تبيت فإنه لا يقربك شيطان كما في قصة أبي هريرة، وقراءة الآيتين الآخرتين من آخر سورة البقرة كما في البخاري من حديث ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه).
كذلك مما عرف بالتجربة في كتب وهب بن منبه وغيره أنه إذا سحر الإنسان سحراً، ربط به عن زوجته، أي: ما عاد يستطيع أن يجامعها، أو ضعف في جماعها بعد أن كان يعلم أن فيه قوة وحيوية في هذا الجانب، فمن الأدوية النافعة في ذلك أن يأتي بسبع ورقات من سدر، ثم يطحنها بين حجرين، ويضعها في إناء، ويسكب عليها ماءً، ثم يضربها ويقرأ عليها آية الكرسي والقواقل: قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس، قل يا أيها الكافرون، ثم بعد ذلك يشرب منها ثلاث حسيات، ثم يغتسل بالباقي فإنه بإذن الله مجرب، وأعرف كثيراً ممن ربطوا عن زوجاتهم فعلوا ذلك فنفع الله به نفعاً، ولا بأس أن يكرر استعماله مرتين وثلاث حتى بإذن الله ينجلي هذا السحر.
ومن الأساليب النافعة في الرقية، رقية المسحور، أن تكرر الآيات التي فيها ذكر بطلان كيد الساحر وأن أمره في تباب، وأنه لا يفلح حيث أتى، كقوله تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118].
وقول الله عز وجل: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119].
وقول الله عز وجل: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وكقول الله عز وجل: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم احفظنا بأسمائك وصفاتك، اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا، اللهم اكفنا شر كل ذي شر، اللهم يا رب الفلق اكفنا شر ما خلقت، واكفنا شر ما ذرأت وبرأت ومن شر كل ذي شر ومن شر ما أنزلت، ومن شر ما كان في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها.
أقول قولي هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وجزاكم الله خير الجزاء.(103/23)
الأسئلة(103/24)
الذهاب إلى من يدعون الصلاح ومعهم جن
السؤال
لدي زوجة قد ابتليت بالسحر، وذهبت بها لعدة مشايخ للقراءة عليها، وعندما يقرأ عليها تقوم بعد القراءة متضايقة جداً ولا ترغب في المنزل ولا الأولاد، وإنني الآن في حيرة، حيث ذكر لي أن شخصاً يفك السحر بمعونة من الجن ولا يسأل عن اسم أم المريض أو أب المريض، وإنما يقول له: قم فتوضأ في هذا الإناء واذكر الله كثيراً، ومن بعدها يقول له: اقرأ المعوذات وبعد القراءة للمعوذات يغطي رأس المسحور ويجعله ينظر في ماء الوضوء ويريه من الذي عمل له السحر، ويحضره في حينه ويحرقه أمام المريض ويشفى بإذن الله، ويوصيها هذا الشخص المعالج بمعاونة الجن بالإكثار من الدعاء لهم، وكثرة قراءة القرآن والأدعية المأثورة في هذا الباب للتحرز من الشيطان، أرجو الإجابة الشافية، وهل ذهابي إلى هذا الشخص يعد من الشرك والعياذ بالله من ذلك، علماً بأن الشخص لا يعمل السحر ولا يشعوذ وإنما يقرأ بعض القرآن ويقول الجن الذين معي خدم لآيات القرآن هل هذا صحيح أرجو توضيح ذلك مشكورين وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما القول بأن هناك جناً خدماً لآيات معينة في القرآن فأقول والله أعلم ولا أدري عن هذا شيئاً، لكن إذا كان الشخص لا يأمرك بفعل شيء يفضي إلى الشرك والكفر، ورجل معروف في دينه وصلاحه، وربما استخدم طريقة معينة لا تتضمن أمراً شركياً وإنما هي من باب الدعاء والرقية والتعويذ، أو بعض الأدوية المجربة والأساليب المجربة، مثل قضية السدر مثلاً هذا سبب من الأسباب المجربة النافعة، فنقول: نرجو أنه مما لا بأس به، وينبغي أن يكون المسلم أصبر من الجن والشياطين، فتجد بعض الناس يقرأ مرة أو مرتين ثم يقول: مللت وكللت وسأذهب إلى ساحر حتى يفك هذا السحر، نقول: لا، اصبر يا أخي الكريم، لا يكون هؤلاء يمشون في سحرهم وفي ضلالهم ويكونون أصبر منك على هذا الكيد الذي يفعلونه، بل عليك أن تصبر على الأساليب والطرق الشرعية حتى يأذن الله بشفائك أو شفاء الأهل.
على أية حال نحن عندنا شرط واضح في هذه المسألة وهو السلامة من دعاء الجن واللجوء إليهم أو الاعتقاد بأنهم يفعلون، نحن نتكلم عن ذات الشخص وذات المريض، نقول: إذا كان هذا الطبيب أو هذا الراقي يفعل أسباباً مشروعة معينة أو أموراً مجربة لم يرد في الشرع ما يحذر منها من غير الوقوع في شرك أو ذرايعها أو ما ينافي كمال التوحيد فلا بأس بذلك، أما قضية دعوى أن هناك خداماً للآيات وإلى غير ذلك فأقول: الله أعلم وما سمعنا وما عرفنا أن ذلك من الأمور المشروعة.(103/25)
حكم تعلم السحر
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله: معظم البيوت تتعرض للإصابة بالسحر وذلك بوجود الشغالات الإندونيسيات أو غيرهن اللاتي يعتبرن هذا الأمر نوعاً من الدين ويقمن بدارسته من سنة مبكرة في مدارس خاصة، والناس هنا فيهم طيبة بحيث يصدقون أقوالهن وأفعالهن، بل إن بعض النساء أصبحن يتعلمن منهن فماذا تنصح أهل البيوت وخصوصاً الرجال، لأنهم هم الذين يتعرضون للسحر من هؤلاء الشغالات لأنهن يعتبرنه في ذلك من التوحيد وأنه لا يخرج من الملة ولا يعرفن أن ذلك حرام؟
الجواب
نصيحتي لأهل البيوت أولاً: أن يعمروا بيوت الله بذكر الله عز وجل، فإذا كانت البيوت عامرة بكلام الله وسنة رسول الله والأمور الخيرة النافعة فلو وجد فيها آلاف من الخدم الذين يعقدون ويفتنون والله ما يضرون مادام البيت معموراً بذكر الله، وأسماء الله وصفاته، هذا أمر.
الأمر الآخر: أن كثيراً من الناس يبالغون في التلطف مع الخادمات، يقول: مسألة الخدم بلوى ابتلينا بها، كما يقول الشيخ السادات الشنقيطي: في بيوتنا ذنب نذنبه كل يوم لا نستغفر الله منه، وهو وجود الخادم.
فعلاً، والله إن هذا ذنب في بيوتنا، وفي أغلب البيوت خدم بلا محارم، وذلك أمر قد عمت به البلوى وكثر به التساهل، فإذا كان ولا بد، فلا بد للإنسان أن يعتني بهذه الأمور.
أولاً: ألا ينطلق في التعامل والتباسط من قبل أهل البيت، وألا يذيبوا الحواجز حتى لا يطمع هؤلاء الخدم في أهل البيت وليعاملهم معاملة العدل، فلا يجعلوهم يطمعوا فيهم، ولا يضيقون عليهم فيحقدون عليهم، لأن هؤلاء إن طمعوا فيك سحروك وآذوك وإن حقدوا عليك سحروك وآذوك، وما كل هؤلاء أيضاً من السحرة حتى لا نعمم، لكن ربما يكون فيهم من يعرف ذلك أو يحاول أن يفعل مثل هذه الأساليب، لكن خير ما يتحصن به الإنسان في أهله وبيته ذكر الله سبحانه وتعالى.
أما البيت الذي لا تجد في الصالة إلا مطرباً، وما في الحجرة إلا دش، وما في الأماكن إلا صور معلقة، يعني مهيأ أن يكون ضيافة خمسة نجوم للشياطين والسحرة، فكيف تستغرب أن يكون أو أن يوجد فيه السحر والشعوذة، لكن الخير أن يكون بيت مؤمنين، بيت إيمان لا صور معلقة، ولا أغاني تفتح، ولا شر يعلن، ومثل ذلك القرآن دائماً موجود.
وبعد ذلك يا إخوان! عندنا فرصة أجمل مما يكون تعلمناها من العجائز، وهي إذاعة القرآن الكريم يتركونها مدة أربع وعشرين ساعة مفتوحة في البيت فلا يستطيعون أن يقعدوا عندك بإذن الله طالما أنت تدخل وتسمي الله، إذا دخلت تقول: باسم الله، قال الشيطان: ارجعوا فلا مبيت لكم ولا طعام ولا غداء ولا عشاء.
وإذا خرجت قلت: باسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلخ كفيت وهديت ووقيت، فالأذكار تحفظ وإنما يقع الناس في هذا البلاء إذا ضيعوا الأذكار، ويا ليت المدارس الحكومية والمدارس الأهلية تفرض حفظ الأذكار على الأطفال صماً غيباً لا يضيعه أحد فإن ذلك من خير ما ينفع ويفيد.
أتمنى أن يكتب عدد من الإخوة الحضور اقتراحاً إلى وزارة المعارف وإدارة التطوير والمناهج أن يُجعل الأذكار من أوائل ما يحفظه الطالب في المرحلة الابتدائية، مع تحفيظ الأسرة أولادهم هذا؛ فإنه بإذن الله ينفع، وهي أذكار بسيطة: الفاتحة وآية الكرسي وآخر البقرة والمعوذات وأذكار معينة من دخول وخروج وتعويد على البسملة، فبإذن الله هذا يجدي وينفع.(103/26)
فضل آية الكرسي ومنعها السحر
السؤال
هل قراءة آية الكرسي صباحاً ومساء هل تمنع من السحر؟
الجواب
نعم بإذن الله عز وجل.(103/27)
كتب تساعد على معرفة السحر
السؤال
نساء يردن أن تشير إلى بعض الكتيبات التي تساعد على زيادة معرفة هذا النوع من السحر والشعوذة من حيث أيضاً ما يتقون به أسباب هذا المرض؟
الجواب
هنا كتاب انصح به اسمه: " الصارم البتار في الوقاية من السحر والشعوذة والأشرار " أو شيء من هذا للشيخ وحيد عبد السلام بالي.
وهذا كتاب من أجمل وأجود وأنفع ما ألف في السحر وعلاجه.(103/28)
حكم طلاق المسحور
السؤال
سؤال مفاده أن زوجين حصل بينهما طلاق بسبب عمل من أعمال السحر وهما يحبان بعضهما ولكنهما لما تزوجا حصل بينهما الكراهية ثم تفرقا، وصدر قرار الفتوى بالتفريق بينهما، فيقول: هل بالإمكان إعادة بعضهم لبعض بعد أن يتم علاجه، وكأنه يقول: هل لهذا الطلاق تأثير أو يلزم أنها لا بد أن تتزوج آخر؟
الجواب
على أية حال نحن لا نعلم الغيب، لكن إذا حصل بينهما طلاق وثبت هذا الطلاق وبقي في رصيده طلاق ما يمكن أن تحصل به الرجعة، يعني لم يكن ذلك الطلاق طلاقاً بائناً مثل أن يكون طلقة ثالثة، وإنما طلق طلقة واحدة ثم انتهت العدة ثم رأوا أن حالهما تحسنت ورغب بعضهما في بعض، فلا بأس أن يرجع من غير خضوع وخوف وضعف أنه تحت رحمة السحرة، وأن السحرة إن شاءوا فرقوهم وإن شاءوا جمعوهم، بل عليهما أن يقدما وأن يمضيا وأن يلتقيا وأن يجتمعا في رعاية ما بينهما من الود والمحبة من سالف عهدهما الزوجي، أو رعاية أبنائهما إن كانت بينهما أبناء ولا يخضعا للضعف، (استعن بالله ولا تعجز ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا).(103/29)
ضعف الإرادة توهم بالسحر
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإني أحبك في الله، ماذا يصنع من يعلم أو يظن أنه مسحور؟
الجواب
كثير من الناس فيهم مرض ضعف الإرادة، يريد أن يذهب في الساعة السادسة والنصف إلى الدوام لكن الوسادة تخبط على وجهه ورأسه فلا يقوم إلا في الحادية عشرة، يريد أن يذهب إلى الجامعة في الساعة السابعة أو الثامنة فلذة النوم لا تجعله يقاوم أن يخرج إلى كليته أو معهده، يريد أن يتوجه إلى وظيفته يريد أن يعمل عملاً يريد أن يتجر يريد أن يذهب إلى السوق فتجده كسولاً جثة راقدة قاعدة لا يتحرك أبداً، ثم إذا مرت الأيام وأصبح ضعيفاً مفلساً متخلفاً قال: أنا مسحور، ما ثمة سحر، إنما هو ضعف الإرادة.
فأيضاً ينبغي أن نتعلم أن الإنسان يعود نفسه على قوة الإرادة، لا تجعل نفسك بشهواتها تغلب على حي على الصلاة حي على الفلاح، إن شهوة النوم تغلب على الدوام في الوقت المناسب، والوقت المحدد، شهوة الراحة تغلب على طلب العلم والدراسة، ثم بعد ذلك نقول: أنا مسحور أنا إلى غير ذلك، لا يا أخي الكريم! ما فيك إلا ضعف إرادة، ولو أنك بت أو ذهبت قوياً منطلقاً شكيم العزيمة قوي الإرادة بإذن الله عز وجل ما يضرك شيء ولا تتوقع أنك مسحور، ولكن إذا تضاعفت وتضعضعت، وتهيأت نفسياً للسحر، يأتيك جني على الطريق ويركب في المكان الخاوي، فالإنسان عندما يهيئ نفسه للسحر ويخضع، كأنه يفتح ضيافة لهؤلاء الشياطين، وبالمناسبة كلما كان الإنسان قوياً في شخصيته، قوياً في ذاته كان الشياطين أبعد عنه بإذن الله عز وجل، فيعود الإنسان نفسه قوة الشخصية، وقوة الإرادة ولا يضعف ولا يتزعزع بأية حال، أنصح الشباب خاصة فيما يتعلق بالإرادة والعزيمة في الدراسة والعمل والطلب، في محاضرة ألقيت في أحد المساجد بعنوان: (الحزم أو الضياع) أنصح بسماع هذه المحاضرة فلعلها تعالج هذا الجانب الذي يعترض بعض الشباب أو ينتابهم من الضعف والفتور والكسل ثم يدعون أن فيهم مساً أو سحراً أو نحو ذلك.(103/30)
ما يفعله من وجد حرزاً
السؤال
ماذا يفعل من يجد في منزله حجاباً أو ما شابهه؟
الجواب
عليه أن يسمي بالله عز وجل وأن يفتفته وإن غمسه في ماء قد قرئ فيه كما يفعل أو كما أخبرني بعض القراء ولا أدري ما الدليل على ذلك وإن أحرقه وأتلفه فلا يضره شيء بإذن الله عز وجل.(103/31)
حقيقة كتاب حوار صحفي مع جني مسلم
السؤال
أفيدونا عن صحة كتاب (حوار صحفي مع جني مسلم) ما صحة هذا الكلام؟
الجواب
هذه الكتب لا ينبغي أن تتداول ولا تنشر ولا تطبع، وهي حقيقة فكرة تسويقية لجلب المال، وقد استطاع صاحب الكتاب بهذه الطريقة، أن يجلب من المال ما استطاع، وإلا من الذي قال لك: إن هؤلاء الجن صادقون، وما الدليل على صدق ذلك، وما هو الدليل على أنك تثير هذه القضايا، وبالإمكان غداً أن يقول لك شخص: والله الشيطان رقم ستة وثلاثين في حوار ساخن على (السي إن إن) وجمع الناس على الصحيفة هذه ونقل مثل هذه المعلومات والأخبار، هذا كلام فارغ ولا ينبغي الإقبال عليه ولا ينبغي تصديقها أبداًَ بأي حال من الأحوال.
بالمناسبة أذكر أن شاباً متلبساً بالجن صلى معنا، وقال: والله أنا معي جني وكذا، ويريد أن يتحدث معك، قلت: انظر يا أخي أنا والله لست متفرغاً للإنس فهل أتفرغ للجن، لكن تعال نسمع ما عندك، فبدأ وأعطاني من هذه القصص والسواليف سمعت أول مرة، ورأيت من أحواله عجباً أغلقت عليه الباب ثم فوجئت أن الباب انفتح، والرجل يصرع في حال خروج الجني، وينفتح الباب وينغلق وكذا.
ثم جاء مرة ثانية فقلت: والله لست متفرغاً وليس عندي استعداد الآن لهذه الأمور، ثم سألته حتى أتأكد من صدق دعواهم في أنهم يعلمون أو يطببون أو يعرفون، بالمناسبة بعض الجن قد يكون عنده شيء من علم الطب الشعبي أو علم الطب ببعض الأساليب الأولية وغيرها، فقلت له: إن رجلاً مبتلىً بكذا وكذا ما عندك من العلاج له؟ قال: يا أخي يكتب الآيات الفلانية ويعلقها على ظهره، قلت: إخسأ يا البعيد! ما يعلق القرآن على الظهر أبداً، هذا من وسائل الشرك لما يفضي إلى الاستهانة بالقرآن الكريم، فتلاحظ أن بعضهم يدعي أنه يفعل ذلك ثم لا يلبث إلا أن يأتي بالخزعبلات والهرطقات التي لا يقبلها عقل ولا يصدقها، فلا بد من قوة الشكيمة والعزيمة في مواجهة هؤلاء، وإن كنت ضعيفاً وتسلطوا عليك فنسأل الله أن يعيننا وإياك.(103/32)
من أنواع السحر ما يقتل
السؤال
هل السحر يقتل، بمعنى هل المسحور يمكن أن يموت بسب السحر الذي به؟
الجواب
نعم ممكن وكما مر معنا في المحاضرة، فإذا ثبت أن الساحر قتل بسحره أحداً فإنه يقتل قصاصاً.(103/33)
نصيحة لمن يسحر الناس ولو كانوا من محارمه
السؤال
هل من نصيحة لأهل الزوجة الذين يسحرون الزوجة -ابنتهم- بسبب مشاكل بينهم وبينه للانتقام منه؟
الجواب
السحر كيد ومكر وخداع، والله عز وجل قال: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] فكل من دبر مكراً، سحراً بمكر أو مكراً بسحر فسوف ينقلب عاقبته وشره على من فعل، والمخادع لا يخدع إلا نفسه، والذي يضر لا ينقلب إلا عليه سعيه والعياذ بالله، فينبغي أن ننتبه وأن نحذر، ولنعلم أن المقة من الله، وفي البخاري باب المقة من الله، والمحبة من الله سبحانه وتعالى، إذا قسم الله المحبة انتهى الأمر، وإذا لم تكن هناك محبة فلا نذهب نأتي له بالشعوذة والطلاسم مثل ما يقول العوام: (المطبق يصيح والملص يطيح) القضية إن لم يُقْسَم بين الزوجين محبة {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130].
ولماذا نجعل الطلاق قضية وكأنما هي قضية انشطار الكون واحد تزوج واحدة وما صار بينهم توفيق فكل يذهب بستر الله وانتهت القضية، ابحثوا لهم، دبروا لهم، هاتوا عمل، هاتوا تحبيب، هاتوا صرف، هاتوا جمع، هاتوا هاتوا إلى آخره، فإن هذا من أخطر الأمور، ثم أيضاً لا تزيد القضية إلا تعقيداً، ولا تزيد الأمر إلا بلاء وشدة وضنكاً.(103/34)
علاج السحر لا يكون إلا بكتاب الله
السؤال
شخص مسحور وقد قيل له لا يفك سحرك إلا ساحر، فهل هذا صحيح أفتونا مأجورين؟
الجواب
قد أفتى من أفتى بذلك واستدل بكلام بعض السلف، الإنسان إذا كان في حالة اضطرار شديد جداً وعلى بلاء عظيم ولا سبيل له إلا ذلك، قد تكلم بهذا، لكن الذي عليه عامة العلماء وأئمة الدعوة ومشايخ هذه البلاد الأجلاء الأكارم أن السحر لا ينبغي أن يلجأ إلى الساحر لفك السحر، لأنه يفضي إلى استمرار السحر والسحرة أعاذنا الله وإياكم، وبالمناسبة فإن مثل هذا الكلام لا يصح أن يكون فتوى عامة، أي: من كان في بلوى خاصة في وضع معين، فله أن يذهب ويذكر جميع ظروفه وأحواله وما يتعلق به، ثم بعد ذلك يأخذ من سماحة المفتي أو الأئمة الكبار ما يطبقه تفصيلاً على واقعته وقضيته.(103/35)
كيف يعرف الإنسان أنه مسحور
السؤال
كيف يعرف الإنسان أنه مسحور؟
الجواب
إذا كان لا يدري أنه مسحور فإنه غير مسحور.(103/36)
نصيحة لمن لا تطيع زوجها
السؤال
وماذا تنصح المرأة التي لا تطيع زوجها؟
الجواب
المرأة التي لا تطيع زوجها نذكرها بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو أني أمرت أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فإذا كان السجود الذي لا يجوز إلا لله، لو جاز لغير الله لكان لامرأة لزوجها من عظيم حق الزوج، وبالمناسبة بعض النساء إذا اختلفت مع زوجها تظن أن هذا يبيح أن تسقط حقوقه، فربما اختلفت معه على النفقة على أمر يتعلق بالأولاد أو على فرش أو على أثاث أو على شيء متعلق بالبيت، ثم تكون حزينة، فيقول لها: يا بنت الناس أعطينا غداء؟ ما في غداء، يا بنت الناس تعالي للفراش؟ لا، يا بنت الناس كذا؟ لا.
فلتعلم أنها إذا دعاها زوجها إلى الفراش ثم أبت وبات عليها زوجها ساخط لعنتها الملائكة حتى تصبح، فلو قلنا لها: يا أمة الله يا فلانة، إن الشيخ فلان وفلان يلعنونك من الآن إلى الصباح قالت: ماذا سويت وماذا فعلت أرجوكم كفوهم لا يلعنونني، إن الملائكة يلعنونك أيتها المرأة التي لا تسمعين أوامر زوجك إذا كان يأمرك بالمعروف أو في أمر تطيقينه، ولا تعجزين عنه، إلا إذا أمرت المرأة بمعصية، فلا طاعة، وإن أمرت المرأة بما لا طاقة لها به فلا طاعة.(103/37)
رد الشيخ على فهم خاطئ من محاضرة سابقة
السؤال
في شريطك: (حاول وأنت الحكم) بداية شريط بارك الله فيك خصصت دقيقة للدعاء الجماعي فهل لك بهذا العمل دليل شرعي أو أثر ترد إليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؟
الجواب
أشكر للسائل هذا السؤال ولكن يا أخي الكريم لقد أوردتها على غير ما تورد.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
ما هكذا يورد السؤال لأنك قلت: إني خصصت دقيقة للدعاء الجماعي! لا، الذي أذكر أنني قلت: ماذا تستهلك منا قراءة سبحان الله مائة مرة، كم تستهلك منا من دقيقة، وليجرب كل واحد في نفسه، فكون والله كل واحد سكت وأخذ يجرب في نفسه، ليعد كم تستهلك قراءة سبحان الله وبحمده، هل هذا دعاء جماعي؟ لا، يا أخي الكريم افهم الأمور، لا تكن كمن ساء فهماً وأساء نطقاً ونقلاً بارك الله فيك، قلت مثلاً في ذلك المجلس، قلت: يا إخوان قال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب ألف حسنة، وتمحى عنه ألف خطيئة، قال الصحابة: وأينا يطيق أن يفعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: من قال: سبحان الله مائة مرة كتبت له ألف حسنة أو محيت عنه ألف خطيئة).
ثم قلت: يا إخوان ليجرب كل واحد منكم كم تستغرق مائة مرة من قول سبحان الله حينما يقرؤها بينه وبين نفسه، فسكت الجميع مدة دقيقة أو دقيقتين أو ثلاث، كل واحد يقول في نفسه: سبحان الله، سبحان الله، يعني كل واحد يسبح الله ويعد لكي يعلم كم تستغرق قول سبحان الله مائة مرة من دقيقة، فإذا بها ما جاوزت الدقيقة ونصف، ويكسب بها ألف حسنة وتمحى عنه ألف سيئة، هل يسمى هذا بدعة؟ إذاً افهم قبل أن تسأل.(103/38)
سداد ديون المتوفى من قبل الورثة
السؤال
رجل توفي وعليه مخالفات مرورية وفواتير هاتفية وكهرباء هل تعتبر هذه من الديون التي عليه وهي تختص بالدولة أو أنها تسقط بمجرد موته؟
الجواب
الأحوط والأحرى أن يجتهد في سدادها، وأن يجتهد ورثته من بعده في براءة الذمة منه، لا شك أن الأصل أن بيت مال المسلمين يقضي دين من مات وعليه دين ولا يوجد في تركته ما يقوم بسداد هذا الدين، فالأصل والواجب في بيت مال المسلمين أن الإنسان إذا مات أو تحمل حمالة أو دية ثم عجز عن أن يدفعها أو لم يكن في عاقلته ما يؤدي هذه الدية شرعاً، فإن بيت مال المسلمين ملزم أن يقضي عن هذا المسلم دينه، وأن يقضي عنه هذه الدية.
لكن فيما يتعلق عليه من مخالفات وأمور ورسوم أو أو إلى آخره فنقول يا أخي الأحوط براءة ذمة هذا الميت، فمن المعروف أنه يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين، والقصة باختصار أن أحد الصحابة توفي، فقدم بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران يا رسول الله قال: (صلوا على صحابكم فقال أبو سعيد الخدري: علي يا رسول الله فقام صلى الله عليه وسلم وصلى عليه، فلما لقيه من غد قال صلى الله عليه وسلم له: ما فعل الديناران؟ -هل سددت؟ - قال: يا رسول الله إنهما ديناران، فلما قضاهما من بعد، قال: قضيتهما يا رسول الله قال: الآن بردت جلدته).
فالذين يتساهلون بالديون ويأخذون أموال الناس وهم لا يريدون السداد أو يأخذون الأموال حتى وإن كان صندوق تنمية عقاري أو زراعي أو نحو ذلك إن وقع على عقد فتوفي، فمن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله، ومن أخذها يريد أن يؤديها أدى الله عنه، فالواجب على كل من اقترض قرضة أو استدان ديناً من الدولة أو من شخص أن يعزم في قرارة قلبه على سداد الدين ورده لأهله ولا يلقى الله عز وجل بدين.(103/39)
تفسير قوله تعالى: (وما ملكت أيمانكم)
السؤال
حول قول الله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36] هل قول الله ينطبق على المرأة إذا اشترت بمالها عبداً وأصبح مملوكاً لها؟
الجواب
لا، إن المرأة قد تشتري رقيقاً تملكه وتبيعه وتشتري رقيقاً عبداً وأمةً فتى وجارية، ثم يكونان رقيقين لها ويتناسلان، ونسلهما ملكاً لها، لكن للرجل إذا اشترى جارية أن يستمتع بها، لكن ليس للمرأة إذا اشترت عبداً أن تستمتع به لأن ذلك لا يجوز ألبتة.
كل الأسئلة التي وردت إلينا يشيرون فيها إلى ذكر محبتهم لك في الله سبحانه وتعالى، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا في دار كرامته.(103/40)
السلاح المعطل
لقد يسر الله عز وجل لنا أسلحة هي أشد قوة وأكثر نفعاً من أسلحة أعداء الله، ولكننا اعتمدنا اعتماداً كلياً على الإمكانات البشرية الضعيفة، وأهملنا هذه الأسلحة وعطلناها بالرغم من فعاليتها الأكيدة، وهذه الأسلحة لو استخدمها المسلمون بصدق وإخلاص لكان لها الدور الكبير في رفع راية المسلمين وتمكينهم في الأرض، وإعادة ما أخذ منهم.
ألا فليعودوا ليسودوا.(104/1)
الطمأنينة لا تكون إلا بالقرب من الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي سبب الفوز والنجاة في الدنيا والآخرة يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وتعلمون أن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وقد بيَّن الله جل وعلا أن من صفات المؤمنين الجميلة الإيثار والإخلاص والبذل والتضحية يقول جل وعلا: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
أيها الأحبة: كل يعرض للنكبات والمصائب، وكل ينال حظاً من الجراح والآلام، ولكل شيء ضد، ولكل وجود فناء، ولكل بداية نهاية، ولكل نهاية غاية، وأحوال البشر في الدنيا متقلبة، هذه الدنيا سميت دنيا؛ لأنها دانية دنية وضيعة،
طبعت على كدر وأنت تريدها صفو من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
واعلموا أنه ليس لأحدٍ من البشر أن ينال حظاً من الاستقرار على وجه هذه البسيطة إلا بقدر قربه وصلته ودنوه من الله جل وعلا، فمن كان إلى الله أقرب كان حظه من التوفيق والطمأنينة والاستقرار أوفر، ومن أعرض عن ذكر الله وكان بعيداً عن شرع الله فإنه يلقى جزاءه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
والحاصل -يا عباد الله- أن البشر لا يمكن أن ينالوا حظاً مستقراً مستمراً أبدياً أزلياً إلا بقدر قربهم من الله جل وعلا: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
معاشر المؤمنين: إياكم والركون إلى الدنيا، إياكم والطمأنينة بها، إياكم والخلود إليها، وإياكم والثقة بما فيها، فإن هذه الدنيا شاهدة على الأمم الغابرة والأمم السالفة أنها قلبت فيها أحوالاً وأوضاعاً ودولاً.
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
يا راتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أمر إخوتنا فقد سرى بحديث القوم ركبان
يا رب طفل وأم حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
وغادة ما رأتها الشمس إذ بزغت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
فيا معاشر المؤمنين: لا شك أن الطمأنينة في هذه الدنيا، وأن القرار والبقاء على عز وطمأنينة لا يمكن أن يكون لأحد أبداً إلا بقدر قربه وحظه من الله، ولكن:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
إن المصائب بعضها أهون من بعض، فهناك من المصائب ما هو في الزلازل والبراكين، وهناك من المصائب ما هو في الأموال والتجارة، ومن أعظم بل أشد المصائب مصيبة كسر الدين:
وكل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
ويليها مصيبة الناس في العرض:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
معاشر المؤمنين: المصائب مختلفة ودرجاتها متفاوتة، لكن إذا حلت جملة واحدة فليس للعباد في قليلها وكثيرها إلا أن يفزعوا إلى الله وأن يتضرعوا إلى الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] الفرار الفرار، والنجاة النجاة، والعودة العودة، والأوبة الأوبة، والتوبة التوبة بالرجوع إلى الله جل وعلا، عند ذلك يكون شأن المسلم أعظم مما هو عليه، وأما من يصاب بمصيبته ولا يلتفت في أمر وقيعته فذلك قد يكون من الذين قال الله فيهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19].(104/2)
واجب الأمة عند نزول الكوارث والمصائب
معاشر المؤمنين! نسوق هذه النصوص والأحاديث عن الأخوة لكي نعرف دورها في أحوال الكوارث، ولنعرف قدرها وفاعليتها وطبيعة فعلها وعملها حال الكوارث والنكبات والمصائب، وعند ذلك -أيها الأحبة- حينما تحل كارثة بأي أمة من الأمم فإن من أول واجباتها أن تضرع إلى الله، وتفزع إليه، وأن تعلم أن هذه الأبدان وهذه الأرواح خلقها الله ورزقها على الله، وآجالها بيد الله، ونواصيها بيد الله وقلوبها بيد الله، فالذي خلقها يحفظها، والذي أحياها يميتها، والذي أماتها يبعثها، والذي بعثها يحشرها، والذي حشرها ينشرها، وهو أعلم بكل أحوالها وأفعالها، فالفرار الفرار إلى الله، ما من أحد تفر منه إلا إلى غيره، إلا الله فإنك تفر منه إليه، تفر من الله إلى الله.
فيا معاشر المؤمنين! حينما تحل كارثة بأمة من الأمم فإن أول واجباتها الفرار إلى الله جل وعلا، والعودة إليه؛ لأن هذا مقتضى العقيدة، ومقتضى التوكل، ومقتضى الثقة بالله جل وعلا، أول ما يصيب المؤمن من أي فتنة أو بلاء من قليل أو كثير، أول ما يلزمه العودة إلى الله، يعود إلى الله بماذا؟ بتفقد حاله، هل هو عزيز على الله أم ذليل على الله؟ إذا أصابتك مصيبة ينبغي أن تفزع وأن تضرع إلى الله.
هل أنت مستهين بشرع ربك؟ وعند ذلك إذا عرفت موقعك من ربك بين العز والذل، وبين الكرم والإهانة، إذا عرفت موقعك من هذه المنازل عليك أن تحاسب نفسك حساباً شديداً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] من أين جاء لنا هذا؟ من أين أصابنا هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] بل إن رحمة الله ومنة الله وفضل الله وسعة جود الله جل وعلا تجعلنا في نعم ونحن لا نستحقها، لكن: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ} [يونس:11] لو حصل لهم هذا ما بقي أحد يدب على الأرض أبداً.
فيا معاشر المؤمنين: اعلموا أن من أول واجبات أي أمة من الأمم حينما يصيبها أي أمر من الأمور والأقدار أن تفزع إلى الله، وأن تضرع إلى الله، وأول درجات الفزع والضراعة إلى الله أن تعرف موقعها هل هي قريبة أم بعيدة من الله؟ فإن كانت قريبة فلتزدد في القرب درجات، وإن كانت بعيدة فلتتب إلى الله من الخطايا والسيئات، ولتتقرب إلى الله بترك المعاصي والمنكرات، فإن ما عند الله لا يستجلب بمعصيته، وإن ما عند الله لا يستدر بمخالفة أمره، وإن ما عند الله لا يستنزل بارتكاب ما نهى عنه، بل إن ما عند الله يستدر ويستنزل ويطلب ويستجلب بطاعة الله جل وعلا.(104/3)
قصة أصحاب الغار
إن التوسل إلى الله يكون بالأعمال الصالحة، وبأسمائه وصفاته، وكثير من البشر يتوسلون إلى الله بالسفر إلى الخارج، ويتوسلون إلى الله بالسهر في الليل، ويتوسلون إلى الله باستعمال نعم الله من بصر وسمع في رؤية وسماع ما حرم ونهى، ويتوسلون إلى الله برؤية الأفلام والمسلسلات، ويتوسلون إلى الله بالسكوت على المنكرات، أم يتوسلون إلى الله بترك الصلوات مع الجماعة في المساجد.
إن التوسل يكون إلى الله بالأعمال الصالحة، ويكون بالصدقات وبالصيام وبالصلوات وبتقوى الله جل وعلا، وبمراقبتة جل وعلا، وبترك ما نهى الله عنه، وبفعل ما أمر به، عند ذلك يكون التوسل مشروعاً.
إن الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فانحدرت الصخرة من الجبل، فانطبق الغار عليهم بهذه الصخرة، التفت بعضهم إلى بعض يدفعون هذه الصخرة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يدفعوها عنهم، هل عندهم اتصالات لا سلكية حتى يقولوا: أرسلوا لنا النجدة فإن الصخرة أطبقت الغار علينا؟ ليس ذلك عندهم، ولم يفكروا في ذلك، بل قال أعقلهم وأنبلهم: (إنه لن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تتوسلوا إلى الله بصالح أعمالكم).
في هذه الكربة وفي هذه المحنة والشدة وفي ظلمة الغار وانطباق بابه وانسداد فوهته، إنه لن ينجيكم إلا أن تتوسلوا إلى الله بصالح أعمالكم، فقال الأول: اللهم إنه كان لي أبوان وكنت لا أغبق قبلهما أحداً، حتى يغتبقان أو يشربان، وإني جئت ذات ليلة والصبية يتضاغون -أي يصيحون من العطش والجوع- فما أردت أن أسقي الصبية قبل والدي، فانتظرت حتى بات الصبية على بكاء وجوع، ولما استيقظ أبواي ولم أشأ أن أوقظهما من نومهما جعلتهما يغتبقان ويشربان فلما شربا ناولت فضلتهما للذرية والولد، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ما عندك ورغبة فيما عندك ففرج عنا ما نحن فيه، تقرب إلى الله ببره بوالديه، البر بالوالدين من أعظم القربات -يا عباد الله- فما الذي كان؟ انفرجت الصخرة شيئاً قليلاً.
وجاء الآخر وقال: اللهم إنه كان لي ابنة عم وكنت شغوفاً بها شغف الرجال بالنساء، وكنت أراودها عن نفسها فتأبى، وإنها أصابتها سنة -أي قحط وجدب- ثم جاءت إلي شاكية باكية محتاجة، فقلت: لا أعطيك من المال حتى تمكنيني من نفسك، ثم إنها تحت وطأة الحاجة والجوع والألم قبلت ورضيت أن تمكنه، فلما أعطاها المال، ثم جلس منها أو دنى منها مجلس الرجل في الجماع من زوجته، وأراد أن يبدأ بفعله، قالت: اتق الله، ولا تفضن الخاتم إلا بحقه، فانتفض وقام عنها وهو يقول: اتقيت الله، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وطلباً فيما عندك، اللهم فرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً أكبر من ذي قبل، إلا أنهم لا يمكنهم الخروج.
ثم جاء الثالث وقال: اللهم إني كنت استأجرت أجيراً فذهب ولم يقبض أجرته، ثم إني نميت ماله فتنامى المال بالشاء والنعم والغنم، ثم جاءني ذات يوم يطلب ماله، فقلت له: أترى هذه النعم التي في الوادي؟ قال: نعم.
قال: هذه أجرتك، فاذهب وخذها، قال: أتهزأ أو تسخر بي؟ قال: لا والله إنما هي أجرتك نميتها لك، وكل هذا من مالك اذهب فاخذ أجرتك، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاءً فيما عندك وابتغاء وجهك، اللهم فرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا أحياء بعد أن عدوا في عداد الأموات.
نعم يا عباد الله! يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وترفع الأكف بالضراعة إلى الله بالعمل الصالح.
فيا معاشر المؤمنين إن أول أمر حينما تحل مصيبة بأمة الإسلام أن نضرع إلى الله، وأن نفزع إلى الله، وأن نتقرب إلى الله، الذي خلقنا من العدم فهو قادر على أن ينجينا وينجي أمة الإسلام مما هي فيه.(104/4)
الدعاء وأثره
معاشر المؤمنين! ثم ماذا بعد ذلك؟ الدعاء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما فعل الدعاء
الدعاء شأنه عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (يرتفع الدعاء وينزل القضاء فيعتلجان في السماء فأيهما غلب على الآخر غلب عليه) ولا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يدفع البلاء إلا الدعاء، ولكن كثيراً من المسلمين تركوا سلاحهم هذا.
سلاح الدعاء تركناه وراءنا ظهرياً، والبعض لا يرفع يديه ألبتة، وبعضهم يظن أو يرفع يديه وهو موقن أنه لم يسمع، أو موقن أنه لا يأبه بدعائه، لماذا هذا اليأس وهذا القنوط؟ لماذا يا عباد الله؟ وأنتم يا من في هذا المسجد لو وقفتم على باب أحد البشر تسألونه شيئاً استحى أن يرد ألفين أو ثلاثة آلاف خائبين أو أن يرد واحداً منهم، والله لو وقف هذا الجمع على باب واحد من الناس يسألونه أمراً من الأمور أو يستشفعون بين يديه في حاجة من الحوائج، ولو في قود الدماء وإزهاق النفس لعفا قبولاً لشفاعة هذا الجمع، فما بالكم لو رفعتم أيديكم إلى الله الذي هو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين يستحي أن يرد عبده خائباً، ويستحي أن يرد يد عبده خاوية أو أن يرده خائباً.
عباد الله!
وإذا بليت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتفرج المفضال
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
يا معاشر المؤمنين: والله إن عندنا سلاحاً من أقوى الأسلحة ما جربناه وما استعملناه، ألا وهو الدعاء، فيا للأسف! ويا للمصيبة! أن يكون أعداؤنا الكفار يثقون بربهم في باب الدعاء أعظم من ثقة المسلمين بربهم.
أقول لكم أمراً من الأمور: في بلد من البلدان وليست بعيدة جماعة من النصارى أصابهم قحط وجدب فاجتمعوا وجمعوا نساءهم وأطفالهم وصبيانهم ودخلوا الكنائس، ثم أخذوا يدعون ربهم أن ينزل عليهم الماء، فما خرجوا إلا وقد سقوا الماء، نصارى كفار يسألون الله الغيث فيغيثهم.
نعم.
إن رحمة الله واسعة ولولا أن رحمته واسعة ما جعل الكافر حياً على الأرض، وما جعل للكافر عيناً ولا سمعاً ولا رجلاً ولا يداً، لكنه سبحانه سنته ماضية: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] أي: مضطر ولو كان كافراً حينما يلجأ إلى الله فإن الله يجيبه، فهل نحن معاشر المسلمين معاشر المؤمنين الموحدين! هل لجأنا إلى الله لجوء الاضطرار؟ هل فزعنا إلى الله فزع المحتاج؟ الذي يعلم أن السبل إذا انقطعت به ليس له سبيل إلا سبيلاً وحبلاً بينه وبين ربه، وهذا قليل في المسلمين هداهم الله.
واعلموا -أيضاً- أن قائداً نصرانياً كان يرسل فرقة عسكرية وقبل أن يرسلها طلب من البابوات والرهبان والقسس أن يجمعوا الناس في الكنائس وأن يدعوا الرب لهذه الفرقة العسكرية المقاتلة، هذا ثقة أعداء الإسلام بربهم، هذه ثقة أمم كافرة بربها، فما حد ثقتكم أنتم بالله جل وعلا؟! إذا كان الدولار مكتوب عليه كلمة إنجليزية معناها نحن نثق بالله، فاعلموا يا معاشر المؤمنين! أن حاجتنا إلى الثقة والفزع والقرب واللجوء، والاضطرار إلى الله أحوج من أولئك الكفار، فيا معاشر المؤمنين! أين حظنا من هذا؟! أين حظنا من الله جل وعلا؟! يوم أن غزا نابليون مصر ماذا حصل؟ قام العلماء بجمع الناس في الأزهر وفي المساجد، وجمعوا طلبة العلم وحفظة القرآن حتى من الصبيان الصغار، وقالوا لهم: اقرءوا القرآن واقرءوا صحيح البخاري، وادعوا الله وتضرعوا حتى انقلبت المصيبة على ذلك الغازي الفاجر ورده الله مهزوماً.
يا معاشر المؤمنين: الدعاء سلاح معطل، الدعاء في الوتر، والدعاء في الفجر، والدعاء في القنوت، وفي السجود، وفي كل الأحوال، لماذا نعطل سلاحنا؟! هل بلغ بنا الهوان إلى حد نجد معنا سلاحاً ثم نعجز أن نرفعه ونحمله؟! هل بلغ بنا الهوان أن نجد في قلوبنا دعاء فلا نرفع أيدينا لنتلفظ به؟! هذه مصيبة عظيمة، أسأل الله ألا نكون من الذين قال الله فيهم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن كفار قريش، وكفار الأمم السالفة كانوا يعرفون صدق اللجوء إلى الله جل وعلا، يقول الله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} [العنكبوت:65] دلت أنهم لما دعوا الله مخلصين نجاهم من أمواج البحر المتلاطمة: (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] مع ذلك استجاب الله فزعهم ولجوءهم واضطرارهم، فهل تفزعون إلى الله؟ هل تلجئون إلى الله؟ هل تدعون الله دعوة المضطر؟! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر:60] الله الذي خلقكم يقول لكم: ادعوني، وأنتم تقولون: لا.
مستحيل! نستحي ندعوك يا رب؟ لا نستطيع أن ندعو، إذا كان الكفار دعوه فأجابهم، أفلا تدعون أنتم يا معاشر المسلمين؟ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فدل على أن من ترك الدعاء خشية أن يكون قد تركه كبراً والعياذ بالله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
ويقول سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] لكن أين من يدعو؟
عطايانا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلين
وكل طريقنا نور ونور ولكن ما رأينا السالكين
عجباً للخلق والعباد في هذا الزمان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(104/5)
بماذا يدفع البلاء؟
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
اللهم يا من بيده مقاليد السموات والأرض، اللهم يا من الأرض يوم القيامة في قبضته، والسموات مطويات بيمينه، اللهم يا من وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما، اللهم يا من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، اللهم يا من يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، اللهم يا فرج المكروبين، اللهم يا نصير المستضعفين، اللهم يا إله الأولين والآخرين، نسألك اللهم أن تدفع البلاء عن أمة المؤمنين، اللهم إنا نسألك ونحن نثق أن مقاليد الأمر بيدك، وأن نواصي العباد بيدك، وأن قلوب العباد بيدك، وأن الأمر إليك أولاً وآخراً، يا من تعز من تشاء وتذل من تشاء، يا من تخفض وتبسط، يا من ترزق وتمنع، يا ربنا يا خالقنا يا مولانا، يا من خلقتنا من العدم، يا من أوجدتنا من العدم وخلقتنا نطفاً ثم مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم إلى هذا الوجود بأمرك خرجنا، وترعرعنا على ما رزقتنا، اللهم إنا خلق من خلقك وعبيد من عبيدك، نسألك اللهم أن تحمي حوزة الدين، اللهم احم حوزة الدين، اللهم احم الشريعة والكتاب والسنة، اللهم احم حوزة الدين، اللهم إنا نسألك أن تديم هذا الدين على قلوبنا رأفة ونعمة، اللهم اجعلنا جنوداً لدينك وأنصاراً لكلمتك وجنوداً لرايتك، اللهم احفظنا بلا إله إلا الله، اللهم إنك تعلم وفي علمك أن تزول السماوات والأرض أهون عليك من أن يسفك دم مسلم، اللهم لا تعذبنا وأنت بنا راحم، اللهم لا تعذبنا وأنت علينا قادر، اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله عدد ما مشى بين الأراضين ودرج، والحمد لله أولاً وآخراً، والحمد لله الذي بيده مفاتيح الفرج، ربنا إليك لجأنا ربنا إليك فزعنا، وعند بابك أنخنا، اللهم لا تسلمنا، اللهم احفظنا، اللهم اكلأنا برعايتك واحفظنا بحفظك يا رب العالمين يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك بمنك وجودك وكرمك وفضلك؛ أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، وأنت على كل شيء قدير، لا يكون في هذا الكون أمر إلا بعلمك وقدرتك ومشيئتك، نسألك اللهم أن تحفظ أعراض المؤمنين والمؤمنات، اللهم احفظ أعراض المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات.
معاشر المؤمنين! تقربوا إلى الله بالبكاء بين يديه، تقربوا إلى الله باللجوء إليه، تقربوا إلى الله بالصدقات وترك المنكرات، يقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام:43] إن من العباد من لا يزال في غفلته، وإن من الشباب من لا يزال في ضلالته، وإن من الناس من لا يزال في لهوه.
عباد الله! نحن نرى المصائب تحل بالمسلمين تترا وما منا من أخرج اللهو عن بيته، والغناء عن بيته، والفساد عن بيته، يا عباد الله! ألا نخشى أن نكون من الذين قال الله فيهم: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88] أو من الذين قال الله فيهم: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].
لا حول ولا قوة إلا بالله! إن من رأى ما يحل بالمسلمين حوله ولا يزال في غفلته وفي ضلالته، فذلك دليل على موت بصيرته وعلى هلاك قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المؤمنين: يقول صلى الله عليه وسلم: (لئن تزول السماء والأرض أهون عند الله من أن يراق أو يسفك دم مسلم) ولكن من هو هذا المسلم؛ أهو الذي يملأ سهره بالعبث ونهاره بترك الصلوات، وتجارته بالربا والمحرمات؟ أم ذلك المسلم الذي يتقرب إلى الله بالطاعات؟ أيها المسلم! قيمتك عند الله غالية: لئن تزول السماء والأرض أهون عند الله من أن يراق دمك، إذاً فارفع يدك إلى الله والجأ إلى الله، واعلموا يا معاشر المؤمنين! أن الصدقة وإطعام الطعام وإفشاء السلام وتصفية القلوب من الضغائن والإحن والحسد والعداوات، من أعظم الأمور التي يدفع بها البلاء، يقول الله جل وعلا في وصف المؤمنين: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] ويقول سبحانه في بيان شأن أولئك الذين دخلوا النار قالوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:42 - 45].
ويقول تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3] فأطعموا المساكين وتصدقوا وصوموا وتوبوا، ومن الليل قوموا وتهجدوا، واسألوا الله أن يرفع البلاء عن الأمة، فوالله ثم والله لو اجتمعت قوى الأرض وكان بعضها لبعض ظهيراً ما استطاعت أن ترد من قدر الله أمراً، إلا الدعاء فإنه بفضل من الله وبرحمة ومنة من الله فإن الله بقدره يجعل الدعاء قدراً يدفع هذا القدر النازل بالبلاء، فادعوا الله وتضرعوا واحرصوا على تفريج كربات المسلمين، وإياكم والشماتة بأحوال المسلمين.
معاشر الشباب! معاشر الرجال! معاشر الآباء والإخوان! لا بد لكل مسلم أن يكون له دور ومجهود في هذا الأمر، فينبغي لكل شاب ولكل رجل وليست هذه مسئولية من يعد نفسه ملتزماً أو متديناً وأن من ليس كذلك معفىً عن المسئولية، إننا نبدأ الحليق والمسبل بهذه المسئولية قبل الملتحي والمتدين، أقول للأول: عد إلى الله وأنت من جنود الله ومن أنصار دين الله، بادر بخدمة المسلمين وتفقد أحوالهم، وعليك بالصدقة والدعاء فإن الله جل وعلا يجعل لهذا أثراً، ولا يكون الكفار أفضل منكم يا عباد الله، الله جل وعلا يقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73].
يوم أن بدأ سور برلين يهدم ثم بدأ الناس يتسللون منه وقف الألمان الغربيون على أبواب الطرقات وأفواه السكك يقفون بالملابس والأطعمة والأشربة والأموال يعطونها الذين يهاجرون من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، فأنتم يا معاشر المؤمنين! تفعلون ذلك لوجه الله، ابذلوه لإخوانكم، وقفوا مع المسلمين في مصائبهم وفي نكباتهم، واعلموا أن لهذه البلاد -أسأل الله ألا يكلها إلى نفسها وألا يكلها إلى جهودها وألا يكلها إلى ما عندها- لهذه المملكة ولله الحمد والمنة، دور طيب في إطعام الطعام وأعمال الإغاثة، نسأل الله جل وعلا أن يجعلها سبباً لدفع البلاء عن المسلمين.
يا شباب الأمة! يا رجال الأمة! إياكم والترف فإنه مصيبة وهو سبب البلاء الهوان، يقول الله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] إياكم والترف والإسراف في الولائم وفي المناسبات، فإن من أسرف وجاوز حده في الطغيان في أي أمر من الأمور كان حرياً بالعقوبة والعقوبات إذا نزلت تعم، نسأل الله أن يدفع البلاء عن المسلمين.
ما رأيكم -يا عباد الله- لو أن المسلمين اقتصدوا في مناسباتهم وأفراحهم وولائمهم وجميع أعمالهم، وما زاد من ذلك يدفع صدقة لله، ولوجه الله جل وعلا، فإننا والله ندفع عن أنفسنا بلاءً عظيماً.
ثم اعلموا يا عباد الله! أن ليس لكم إلا الله، وليس لكم مفر ولا منجى ولا ملجأ إلا إلى الله وحده، فثقوا بالله ثقة حقيقة، ولا تعلقوا آمالكم بشرق أو غرب، بل علقوا ثقتكم بالله، واسألوا الله جل وعلا أن يسخر لكم من هو فوقكم ومن هو دونكم، نسأل الله أن يسخر لنا من هم أقوى منا ومن هم دوننا، وليس هناك أحد أقوى منا إذا كنا آمنا بالله حق الإيمان واليقين.
فيا معاشر المؤمنين! عليكم بالثقة بالله والتوكل على الله، والفزع إلى الله، إن من الشباب هداهم الله من يتتبعون أموراً حينما يحدث في الكون ما يحدث يسألون: ماذا فعل أولئك؟ وماذا قدم أولئك؟ لا.
ينبغي أن تكون ثقتنا بالله، وضراعتنا إلى الله، وفزعنا إلى الله، وعند ذلك -يا معاشر المؤمنين- لن نكون عند الله في حظ من الهوان، بل إن الله جل وعلا لن يخيبنا.(104/6)
إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم
وإني أرجوكم وأطلب منكم من هذا المقام أن تتبعوا كبار السن من العجائز والشيوخ وأن تخصوا بالصدقات المحتاج منهم، ومن ليس محتاجاً، ابحثوا عنهم وتتبعوهم في منازلهم وقولوا لهم: اسألوا الله أن يحمي حوزة الدين.
ابحثوا عن الناس في بيوتهم، ابحثوا عن العجائز والشيوخ، ليس في هذه المدينة فحسب، بل في القرى والحواضر والبوادي، رب عجائز هم أفضل عند الله من خلق كثير، رب شيوخ هم أفضل عند الله من أمم كثيرة، فتتبعوا الناس الذين تعرفون فيهم الصلاح، واسألوا إن كنتم لا تعرفون، هل تعرفون أناساً منقطعين للعبادة من كبار السن من الصالحين والصالحات، من القانتين والقانتات، من العابدين والعابدات؟ تتبعوهم في مختلف مدن المملكة واطرقوا عليهم الأبواب، وقبلوا رءوسهم وما بين أعينهم، وإن كانوا محتاجين فتصدقوا عليهم، واطلبوا منهم أن يسألوا الله للإسلام والمسلمين وأن يحفظ هذا الدين، وأن يحمي حوزة الدين، وأن يحفظ أعراض المؤمنين، اطلبوا منهم ذلك فإن الله لن يخيبنا ولن يخيبهم، وربما أجيب دعاء بعضنا ببركة بعض.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم كما جعلت هذه البلاد آمنة مطمئنة وهي الآن تعيش في طمأنينة قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص:57] وما حولها في تخطف وهلاك، نسأل الله أن يديم الطمأنينة علينا وألا يَجرُؤ الأعداء علينا، وأن يرفع البلاء عن جيراننا وعن إخواننا، اللهم انصر المسلمين، اللهم ارحم المستضعفين، وأجب دعاء المؤمنين، اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، لا حول ولا قوة لنا إلا بك.
نسألك اللهم أن تنصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المؤمنين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المؤمنين، اللهم أهلك الكفار والمجرمين، اللهم عليك بمن أرادوا بالمسلمين سوءاً، نسألك اللهم أن تفرق شملهم وأن تشتت جمعهم، اللهم أرسل عليهم ريحاً كريح عاد وثمود، اللهم إنا نسألك يا من لا يرد أمره شيء، نسألك اللهم أن تعجل البلاء بالفجرة والمجرمين، اللهم اجعل الفرقة والخلاف في دورهم وفي بيوتهم وفي بلدانهم وفي مدنهم وفي أنفسهم، اللهم اضربهم بالرعب، اللهم اضربهم بالفزع، اللهم اضربهم بالهلاك، اللهم خرب بيوتهم بأيديهم، اللهم كما خرب اليهود بيوتهم بأيديهم في زمن نبيك نسألك اللهم أن تسلط على هؤلاء بلاءً يجعلهم يدمرون بيوتهم بأنفسهم، وأن تخرج المؤمنين الصالحين المتقين من بينهم سالمين يا رب العالمين.
اللهم عليك بالفجرة الذين يريدون العدوان على أراضي المسلمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم اجعلهم صرعى ومجانين، اللهم إن زرع الباطل قد نمى ودنا حصاده؛ اللهم هيئ له يداً من الحق حاصدة تستأصل شروره وتجتث جذوره.(104/7)
الشباب اللاهثون
كم سعى أناس ولهثوا وراء الشهوات ليس في أمتنا أو زماننا فحسب، بل في كل الأمم وعلى مر العصور، فما كانت النتيجة؟ إن من لم يتب منهم فحاله كما حكى الله: ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)) فلست وحدك أول من سلك هذا الطريق وراء الشهوات، فلك عبرة بمن سلف، ولك قدوة في نبيك وأصحابه إن أردت الخلاص.
فإلى كل من ضيع أيامه وساعاته في معصية نقول لك: إن الباب مفتوح فسارع إلى مغفرة وجنة.(105/1)
من هم اللاهثون؟
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله على آلائه التي لا تنسى، الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، الحمد لله خلقنا من العدم وهدانا إلى الإسلام ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا ومن كل خير سألناه أعطانا، الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله يا أهل رابغ نشهد الله أنا نحبكم في الله، ونسأله جل وعلا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى، أسأل الله لكم يا أهل رابغ ولنفسي ولإخواني المسلمين أن يجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاجعة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، ربنا لا تدع لهذه الوجوه في هذا المكان الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته.
إلهنا أنت تعلم مقامنا وتعلم يا ربنا أننا اجتمعنا نرجو جنتك ونخشى عذابك، إلهنا جئنا واجتمعنا بأحبابنا وجلس أحبابنا إلينا، والله لا نريد منهم ولا يريدون منا جزاءً ولا شكوراً من عرض الدنيا ومتاعها الفاني وإنما جئنا نستغفرك اللهم لذنوبنا، ونستجديك العون لحياتنا، ونسألك الاستقامة في سبيلنا.
أيها الأحبة موضوع محاضرتنا هو: (الشباب اللاهثون) وقبل أن أخوض في الموضوع فإني أشكر الإخوة الذين يعملون في مكتب الدعوة للتعاون التابع لإدارة أو رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وأسأل الله أن يجزيهم وأن يجزي إمام الجامع هذا خير الجزاء، وأن يوفقه ويعينه على تحمل أعباء الدعوة وإخوانه المشائخ الفضلاء وطلبة العلم النبلاء.
أيها الأحبة الشباب اللاهثون، اللاهثون: جمع لاهث، واللاهث هو الذي يركض يمنة ويسرة، ويرمي ببصره ويلتفت بعنقه ويسارع خطوه، ويحرك يده، ويشرئب ببصره يمنة ويسرة، ومن شدة الجهد والعناء والسير تجده يلهث، يتراد النفس، تجد الزفير والشهيق في نفسه متتابع، ولكن إلى أين؟ ومن أين؟ ولأجل من؟ وفي سبيل من؟ وعلى طريقة من؟ شباب لاهثون هم من أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا وأحبابنا وأقاربنا وقريباتنا، ألم تروا يوماً من الأيام شباباً يملئون الأرصفة والطرقات؟ ألم ترو يوماً من الأيام شباباً يتسكعون في الأسواق؟ ألم تروا يوماً من الأيام شباباً يجوبون الطرقات بسيارتهم ذاهبين آيبين؟ ألم تروا يوماً من الأيام شباباً أضناهم التشجيع وأتعبهم التصفيق والنعيق والتطبيق لكل ما يرونه من زبالات الحضارة الأجنبية وحثالات الفكر المستورد؟ ألم تروا شباباً ضاع وقتهم بين الأفلام والمسلسلات وأشرطة الفيديو ومسلسلات التلفاز؟ ألم تروا شباباً ضاعت أسماعهم في سماع الأغاني والملاهي؟ ألم تروا جيلاً ربما تعب جسده وأضنى بدنه وراء الرقص والطبلة والمزمار؟ ألم تروا شباباً يتابع آخر فريق فاز وآخر دوري نصب، ومن هو الذي نال الكأس، ومن هو الذي رشح للبطولة، ومن الذي تقدم لدوري الأربعة؟ ألم تروا شابات أشغلتهن موضات الأزياء ومجلات البُردَ؟ ألم تروا جيلاً أشغلهم السهر يتبادلون السجائر والأحاديث التي لا فائدة فيها؟ ألم تروا هؤلاء؟ هؤلاء هم شريحة اللاهثين.
أولئك يلهثون ويتعبون، وتجد أحدهم يوم أن تجده قافلاً إلى بيته وتقول: يا فلان تعال معي خمس دقائق.
يقول: أنا الآن تعبان، أنا الآن نفسي يتطاير، أنا الآن نفسي يتصاعد.
تجده يلهث من شدة التعب والمشقة، لكن من أين؟ من الجهاد في سبيل الله؟ من الدعوة إلى الله؟ من مساعدة المنكوبين؟ من إغاثة الملهوفين؟ من طلب العلم؟ لا، جاء متعباً، جاء مضنىً، جاء منهكاً، ولكن من أين؟ جاء من معصية، أو من قضية تافهة، أو أمر لا يليق أن ينشغل به بشر كرمه الله جل وعلا وخلقه الله سبحانه وتعالى، وجعل فيه السمع والبصر والفؤاد، وخلقه في أحسن صورة وأحسن تقويم، وأسجد الملائكة لأبيه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وحمله في البر والبحر، بشر أكرمه الله بهذه النعم ثم تراه بعد ذلك يأبى ويرفض ويرد كرامة الله ويختار النجاسة والزبالة والوحل والوضيعة والنقيصة والهوان!! أولئك هم اللاهثون، اللاهثون وراء الشهرة، اللاهثون وراء الوظيفة، اللاهثون وراء المنصب، اللاهثون وراء اللذة الجنسية والشذوذ الأخلاقي، اللاهثون وراء الفاحشة، اللاهثون وراء المعصية، اللاهثون وراء ما لا ينفع، واللاهثون وراء كل ما يضر هذه ليست صفة كل أبناء مجتمعنا لا، ففي مجتمعنا خير كثير، وأنتم من وجوه الخير الدالة على الخير في مجتمعنا، ولكن في مجتمعنا شريحة محدودة من الشباب والشابات، من البنين والبنات، من الرجال والنساء، هؤلاء يلهثون وراء ماذا؟ وراء ما لا ينفعهم في الدنيا ولا يرفعهم في الآخرة، ولا يسرهم في القبور، ولا يضيء لهم اللحود، ولا يؤنسهم في الوحشة.(105/2)
السبب في وجود شباب لاهثين
أيها الأحبة وقبل أن نعالج أحوال كثير من الشباب اللاهثين وراء المعاكسة، أو اللاهثين وراء الفاحشة، أو وراء السفر للخارج، أو وراء المجلات، أو وراء الأفلام، أو وراء الكرة، أو اللاهثين وراء ما لا ينفع من ما صدرته الحضارة الغربية أو الحضيرة الغربية، أولئك قبل أن نعالج مشكلة كل واحد على حدة فلنسأل: ما هو الخلل الموجود في الدماغ؟ أين الخراب الموجود في الفكر، أو في المخ، أو في المخيخ، أو في طريقة التفكير التي جعلت هذا يتجه نحو الأفلام، وهذا نحو المخدرات، وهذا نحو الشذوذ، وهذا نحو الفواحش، وهذا نحو الآثام والمعاصي؟(105/3)
قدوة غائبة
إن هناك عنصراً واحداً هو الذي أنتج كل هذه المشاكل، فمن العقل أن نعالج سبب المرض لا أن نعالج أعراض المرض، لو أن مريضاً من المرضى جاء إلى الطبيب في المستشفى فقال: عندي ارتفاع في درجة الحرارة، وعندي آلام في المعدة، وعندي شعور بالبرد، وعندي آلام في المفاصل، وعندي صداع في الرأس، وجمع خمسة أعراض.
إن الطبيب الأحمق هو الذي يصرف خمسة أدوية فيعطي الصداع دواءً، وآلام المعدة دواءً، وارتفاع وانخفاض الحرارة دواءً، وآلام المفاصل دواءً، وأوجاع الظهر دواءً، لكن الطبيب الذكي الحاذق هو الذي يبحث عن الشيء الذي سبب هذه الأعراض الخمسة فيعطيك علاجاً يقطع السبب، ثم تنقطع الأعراض، ثم لا تحتاج إلى تلك الأدوية، كل مشكلة لها علاج على حدة.
نعم من الحماقة أن نناقش كل قضية على حدة بمعزل عن مناقشة السبب الذي أوجد لنا هذه الشريحة التي بات اهتمامها وأصبح بعضهم كما قال الله: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] يتعب ويكد وفي نكد ونصب ووصب ومشقة، يلهث، يذهب، يجيء، يروح، يرتفع صوته، ينخفض، يتقدم، يخطو، يرحل، يسافر، لكن إلى أين؟ ومن أين؟ ولماذا؟ ولأجل من؟ ينبغي أن نسأل: ما هو السبب المولد لهذه المشكلة؟ واسمحوا لي -أيها الإخوة- أن نقول: يمكن أن نجعل السبب الذي هو مجموعة عناصر ولدت هذه المشاكل في نقاط: أولها: شعور كثير من أبنائنا وبناتنا بعقدة النقص، فيرون الآخرين جبالاً ويرون أنفسهم أقزاماً، يرون الآخرين عمارات سامقة ويرون أنفسهم حشرات ضئيلة، يرون الآخرين قمماً عالية ويرون أنفسهم ذرات مهينة، ثم بعد ذلك يمتلئون إعجاباً بالغرب، إعجاباً بالآخرين، ويمتلئون احتقاراً لأنفسهم فلا يرى أحدهم سبيلاً إلى إثبات وجوده وتحقيق ذاته، وإيجاد نفسه في مجتمعه، ولكي يقول للناس: إني موجود، وإني أتكلم، وإني صاحب هواية، وإني صاحب فكر، فتراه يختار وسيلة من وسائل الشذوذ أو الانحراف أو المعاصي لكي يلتفت إليه الناس وينظرونه وهذا هو أقرب تفسير لظاهرة كثير من الشباب الذين تجدهم أصلاً لا يعرفون التدخين فيحمل السيجارة ويدخن، ويجبر نفسه على التدخين حتى لا ينظر إليه نظرة نقص، أو حتى يلفت الآخرين إلى نفسه، وهذا هو السبب الذي تفسر به وجود بعض الشباب الذي تراه قد جعل من شعره مجسماً تشكيلياً، صوالين الحلاقة الآن امتلأت بمختلف القصات والموضات، آخر قصة "قصة أزمة الخليج" رأسه في أزمة، ولذلك كانت الحلاقة على شكل أزمة الخليج، ومنهم من قال: هذه "قصة كولن باول " وبعضهم من قال: هذه أزمة أو هذه "قصة شوار سكوف " أو هذه قصة فلان أو علان، المهم يريد أن يثبت للآخرين أنه يعرف شيئاً جديداً ويسلك مسلكاً جديداً حتى يلتفت إليه الناس، فعقدة الشعور بالنقص تجاه الآخرين ولدت في نفسه أن يسلك سلوكاً بموجبه يلبس أو يحلق أو يفعل أو يتصرف بطريقة تجعل الآخرين ينظرون إليه نظرة مستقلة عن سائر الناس.
ولو أنه يعلم أن الآخرين ينظرون إلى هذا بمنظار الازدراء والنقص والهوان لوجدته لم يفعل هذا أبداً، ولكنه رأى ما حوله من المجلات والشاشات والدعايات والإعلاميات وما شئت يجدها تصب في قالب إبراز أولئك الشاذين وغض النظر والإغفاء عن أحوال القدوات الجميلة الراقية في المجتمع.(105/4)
تربية منفلتة ضائعة
أيضاً أيها الأحبة من الأسباب الجوهرية في هذه القضية: مسألة التربية.
نحن نربي أطفالاً بلا هدف، تسمين عجول، تسمين أبقار وأغنام في كثير من البيوت، تجد الطفل يتدحرج من العافية لكن عقله كالطبل لا يوجد فيه شيء، عجبت للطفل الشيوعي أو الطفل الروسي قبل سقوط روسيا تجده شيوعياً من صغره، والطفل العراقي التابع لمدارس حزب البعث تجده بعثياً من طفولته، والطفل المنحرف الفاجر الذي هو في بؤرة فاجرة تجده يحقد على المسلمين منذ صغره، والطفل النصراني تجده عقلاً ممتلئاً بكراهية المسلمين والشعور بالفخر للعنصرية البيضاء تجاه الآخرين.
ولكن طفلنا اليوم اسأله عن انتمائه، اسأله عن اتجاهه، اسأله عن آلامه، اسأله عن آماله، لا يجد شيئاً، طفلنا يعرف أفلام الكرتون، ويعرف مجلة ميكي والوطواط، ويعرف قصة البيضة الفارغة والعصفور المكسور، أما أن تجد عند أطفالنا تربية ذات هدف هذا لا يوجد إلا عند أسر محدودة من الناس، أما البقية الباقية من كثير من هذه الشريحة تجدها -ويا للأسف! - يربون أطفالاً تربية التسمين، بل لو قيل لأحدهم: يا فلان ما ضرك لو أنك مع مجموعة من جيرانك استقدمتم أو استوفدتم مدرساً من إحدى البلاد العربية الإسلامية أو حتى من بلاد العجم من باكستان وغيرها وجعلته يدرس أولادك القرآن براتب شهري قدره ألف ريال إذا قدرنا نحن عشرة بيوت، وعند كل واحد منا طفلان، يعني: عندنا عشرون طفلاً، كل واحد منا يقدم قرابة مائتي ريال شهرياً من أجل أن ندفع مرتباً قدره ألف لمدرس يحفظ أبناءنا بعد العصر ويدرسهم، وبعد المغرب يعطيهم درساً في السيرة، وبعد العشاء ربما راجع مع بعضهم شيئاً من الواجبات لقالوا: وهل نحن مجانين؟ نحن نخسر الأموال بهذه الطريقة؟ هل نحن حمقى؟ إذاً ما دور المدارس؟! يا أخي الكريم إن المدرسة لا تغني عن التربية شيئاً، بل إن الأصل في تفوق الطالب ربما كان صلاح تربيته في أسرته، وفي المقابل تجد كثيراً من البيوت فيها خادمة بستمائة ريال، والسائق بقرابة ثمانمائة ريال، الخادمة دورها تلميع الزجاج والأبواب والنوافذ، ونبذل الستمائة ريال ونحن في منتهى الشعور بالراحة والطمأنينة، لكن أن نقدم ستمائة ريال لمدرس يدرس أولادنا لا، هذا ولد إن نفع فلنفسه وإن أساء فعليها لا يا أخي، هذا الولد يحتاج إلى تربية، ولذلك كثير من الشباب الذين وجدناهم بصفة اللاهثين الذي يجوبون الطرقات، ويملئون الأرصفة، ولا هم لهم إلا آخر أغنية وآخر مقطوعة، ومن الفريق الذي فاز، ومن هي الممثلة التي اعتزلت، ومن هو الفنان النجم الذي مات، ومن هو ومن هو إلخ، أولئك تجدهم لم يتلقوا تربيةً على مستوى علمي أو عقلي أو ثقافي أو ديني، ولأجل ذلك امتلأت عقولهم بالزبالات، أما الذين يتربون تربية راقية يشعر الرجل منهم أن ولده فيه عقل في رأسه، وهذا العقل الذي في الرأس بمثابة الزجاج البلوري الكريستالي اللامع الجميل، فتجد الرجل يقول: أنا لا أجعل عقل ولدي الزجاجي البلوري الناعم مكاناً للزبالة ولا للرمال المختلطة ولا للنفايات، بل أحترم هذا العقل -عقل الطفل أحترمه- وأجعله مكاناً يحفظ القرآن ويحفظ السنة، ويتعلم الشعر، ويعرف الآداب، ويقرأ عن أخبار العرب وعن معارك المسلمين، ويكون لديه اطلاع بأحوال المسلمين في العالم هذا أمر ممكن أيها الإخوة.
منذ أيام كنت في زيارة لأحد الأصدقاء وعنده ولد صغير نجح من المرحلة الخامسة الابتدائية إلى السادسة الابتدائية، فبينما نحن نتحدث إذ دخل معنا الطفل في الحديث، وإذ بي أجد طفلاً يتحدث عن البوسنة والهرسك، ويتكلم عن سراييفو، ويتكلم عن ميتران رئيس فرنسا النصراني الحاقد الذي حال دون المسلمين واستلام المطار ليكون مهبطاً لدعم الأسلحة، ويتكلم عن مؤامرات الصربيين إلى تقسيم البوسنة والهرسك بين الكرواتيين، فجن جنوني! قلت: ما شاء الله! لا إله إلا الله! تبارك الله! هذا الطفل ينجح من خامسة إلى سادسة ابتدائي ويتكلم عن هذه المعلومات؟! فلما تأملت إذ بوالده ووالدته يتحدثان إذا جلسا على الطعام وإذا جلسا للشاي عن هذه القضايا، ويلقنان الولد هذه الأمور فتجد طفلاً يحمل قلباً كبيراً، وتجد صغيراً يحمل عقلاً فذاً، وتجد ناشئاً يحمل هموم أمة، وفي المقابل تجد رجلاً عمره خمسة وعشرون سنة أو سبعة وعشرون سنة لا هم له إلا أن ينتظر حبيبته تفتح النافذة لكي يلقي عليها بنظرة، أو لا هم له إلا أن ينتظر رسالة المعشوقة متى ترسل بالرسالة مع طفل أو مع سفير أو مندوب، أو لا هم له إلا أن ينتظر متى يحين الوقت لخبص البلوت وتعمير الشيشة وهلم جرا! وأين قضايا المسلمين؟ وأين أحوال المسلمين؟ وأين العبادة؟ وأين الخوف من الله؟ وأين الطمع في الجنة؟ وأين الإعداد للموت؟ وأين الإعداد لما بعد الموت؟ وأين الإعداد للسؤال والجواب بين يدي الله؟ لا تجد شيئاً.
إذاً: أيها الأحبة! التربية سبب، فربما ربينا أطفالاً أصبحت أجسامهم أحسن من أجسام البغال، يصلحون للكد والتحميل، ولكن عقولهم -أيضاً- كعقول البغال:
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
بل إن بعض المجانين أصبحوا أحسن من بعض اللاهثين، والشيء بالشيء يذكر، خذوا هذه الطرفة اليسيرة: يقال: إن رجلاً -شاب من الذي جاء يفحط بسرعة- جاء ولف بسرعة عند مكان من الأماكن فمن شدة لف الكفرات صواميل الكفر -البراغي التي تمسك الكفر في السيارة- انقطع، فجلس هذا الشاب المفحط يدور إذ به يدور حول مبنى مستشفى المجانين، وإذ بمجنون يطل على هذا الشاب من النافذة فقال المجنون: لماذا أنت تدور على السيارة، ما بك؟ قال: والله أنت ترى، لفيت بسرعة وانقطعت صامولة الكفر وجالس هكذا.
قال المجنون: فقط، يا أخي فك من كل كفر صامولة وركبها محل الصواميل التي انكسرت.
قال: والله اقتراح جميل وفكرة صحيحة! طيب أنت لماذا أنت جالس في مستشفى المجانين؟ قال: صح، هذا مستشفى المجانين وليس مكان أغبياء.
فالواقع أن عندنا من الغباء ما يتعدى الجنون، بل إن بعض المجانين أفضل حظاً من بعض شريحة اللاهثين الأغبياء، ولا نقول هذا مزيداً لاحتقارهم، ولا نقول هذا مزيداً من هوانهم بل فيهم من الهوان ما يكفي قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
ولكن نقول: إن هوان العقل عند شريحة من أبناء الأمة بلغ حداً مضحكاً عجيباً.(105/5)
تربية بلا هدف
كذلك إذا وجد هؤلاء الشباب وهم في الطفولة تربية بلا هدف، وفي المراهقة أنشطة بلا اتجاه، ولا يجدون قدوة سوية ممتازة، أضف على ذلك الغزو المكثف الموجه إلى أبناء المسلمين، هذه الشريحة -شريحة اللاهثين- كيف أصبح بعضهم يربط على جبينه خرقة حمراء، ويلبس فنيلة قد أبدت كتفيه، وأخذ يستعرض بعضلاته وكأنه يقول للشباب: انظروا إلى رامبو يدور في رابغ، انظروا إلى رامبو يدور على شواطئ جدة، انظروا إلى رامبو يدور في الرياض، ويتمثل هذا الأمر هذا الشاب في الحقيقة فعل هذا، وغيره فعل غيرها من العزف على العود والمنافسة في مثل هذه الأمور الرديئة بسبب النجومية التي وجه الإعلام أسهمه فيها، يعني: الآن أنت ترى، من هو أفضل واحد على مستوى الإعلام الذي يغزى به الناس ويوجه إلى الناس؟ النجم هو اللاعب الرياضي، النجم هو الفنان الكبير، النجم هو المخرج السينمائي، النجم اللامع هو الذي أصبح هداف الدوري، النجم اللامع هو الذي أصبح ممثلاً قديراً، النجم هو الذي أصبح منتجاً سينمائياً رائعاً، لكن لم يعرف الشباب يوماً من خلال الإعلام، ولم يعرفوا من خلال الجرائد، ولم يعرفوا من خلال المجلات، ولا من خلال الداعية أن النجم هو الذي حفظ القرآن بسبع قراءات، ولم يعرفوا أن النجم هو الذي حفظ البخاري ومسلم، وما رأوا أو سمعوا يوماً أن النجومية واللموع لمن دعا إلى الله على بصيرة، ولم يعرفوا يوماً أن النجومية واللموع لمن كان جاداً في متابعة المخدرات.
نعم يوجد أحياناً إشادة بإنسان كان له دور في عمل ثقافي أو اجتماعي، لكن الغالب على الضخ الإعلامي والحرب الإعلامية والجرائد والمجلات والمنشورات أن النجم هو اللاعب والفنان بالدرجة الأولى هذان -المطرب واللاعب- تجدهما يتقدمان السباق في قضية النجومية والشهرة.
نعم حينما يرى الصغار والشباب أن النجومية واللموع لهاتين الشريحتين؛ يصبح أحدهم يقول: وكيف أكون مشهوراً؟ وكيف أكون لامعاً؟ وكيف أكون معروفاً؟ إذاً الطريق إلى أن أكون مشهوراً، والطريق إلى أن أكون معروفاً، إما أن أنخرط في سلك الرياضة، وإما أن أنخرط في سلك الفن، لكن ما تجد إلا أندر من أندر النادر من يقول: أريد أن أطور جهاز الهاتف الموجود بين أيدينا، أو أريد أن نستفيد كيف نستطيع أن نبث على الغرب معلومات عن الإسلام، أو يقول: كيف أستطيع أن أصنع شيئاً ينفع الإسلام والمسلمين هذا نادر؛ لأن التلميع والدعاية والإعلان والتشجيع في الغالب لا تجده إلا لهاتين الشريحتين، هذا في الغالب، ولأجل ذلك لا غرابة أن تجد بعض الشباب، بل حتى بعض الفتيات من تلك الشريحة يتمنين أن يكن أصدقاء لمطربين أو لفنانين.(105/6)
تلميع لأهل الفن والعهر والفساد
مدرسة من المدرسات قبضت ذات يوم على طالبة من الطالبات وهي تتبادل مع زميلاتها أوتوجراف؛ الأوتوجراف: هو دفتر صغير ربما صنع على شكل القلب أو على شكل العود أو على شكل الكمنجة، وفيه ألوان وورود، ويتبادل به الفتيات العناوين، والأسماء، والأكلة المفضلة، واللاعب الممتاز، والمطرب الذي تهواه، والأغاني فجن جنون المدرسة! وجدت الصفحة الأولى: الاسم فلانة، الهواية: أن تكون مضيفة، كيف دخل على عقل فتاة من بناتنا هواية أن تكون مضيفة؟! لأنها ما سمعت يوماً من الأيام انتقاداً للمضيفة التي تختلط بالرجال ولا تستحي أو يعرف عنها أنها سافرة، قليلة الأدب، قليلة الحياء، قد انكسر حجابها وحياؤها وماتت عفتها؛ ولأجل ذلك لو سمعت انتقادات المجتمع والإعلام من حولها والجرائد من حولها تقدح وتذم وظيفة المضيفة لكرهت الفتاة أن تكون مضيفة، ولكنها لما قرأت المقال ورأت صورة المضيفة وشاهدتها تقف تمنت أن تكون مثلها.
والأخرى ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون عارضة أزياء! والثالثة ماذا تتمنى؟ قالت: أتمنى أن أكون نجمة سينمائية! بل وبعضهن قالت: أتمنى أن أسافر إلى بانكوك! هذا أمر يا إخوان ليس من ضرب القول وإنما هو من أوتوجراف قبضت عليه مدرسة موجود في يد بعض الطالبات، وإذا كانت المدرسة فيها ألف طالبة فإنا لا نقول: كل طالباتنا خربن، لكن نقول: يوجد شريحة من طالباتنا أو من طلابنا هذا مستوى تفكيرهم؛ والسبب: لا توجد تربية حسنة، ولا توجد مثل أعلى في القدوة الحسنة.
وزيادة عن ذلك رأت وقرأت في الجرائد والمجلات والشاشة، وسمعت في الموجات أن المضيفة هي الملاك الطاهر، هي اليد الحنونة، هي التي تبعث الطمأنينة في نفوس الركاب إذا أقلعت الطائرة وأبحرت سفينة السماء في خضم أمواج الهواء، فإذا أصاب الناس ما أصابهم رأوا مضيفة وادعة كلها الأمن والطمأنينة وهذا ليس بصحيح، بل أول ما يتدافع على الأبواب عند مشاكل الطائرات المضيفات، وأول من يخوف الناس المضيفات، وأول من يروع الناس المضيفات، ولكن ما يقال للناس وكل ما يقرأ الناس ويسمعون أن هذه المضيفة هي الملاك الطاهر هذا شيء آخر، زد على ذلك أنها ذات اللباس الرشيق، والمساحيق المختلفة، والصورة من الألوان المجمعة في عينها وخدها وفمها وشفتيها، ثم بعد ذلك إذا زيد هذا الوصف بثناء ومديح عبر كتابة واحد من الكتاب المأجورين أو المسعورين أو المخدوعين أو الأغبياء أصبحت الفتاة تتمنى أن تكون مضيفة.
إذاً: فتاة تلهث كي تكون مضيفة أو لكي تكون عارضة أزياء أو لتكون نجمة سينمائية لماذا؟ لأنها رأت أن التلميع والسطوع والأضواء والثناء والمديح يكال لهذه حتى تكون مثلاً أعلى فتتمنى كل فتاة أن تكون مثلها.
والله لو أننا أعطينا الأمور حقائقها فنقول: إن المضيفة خادمة في الطائرة، مسئولة هذه المضيفة إذا تقيأ رجل أو تقيأت امرأة وأخرج المتقيئ ما في جوفه من الوسخ مسئولة المضيفة أن تفتح الكيس وأن تقف عند فم المتقيئ، وأن تمد الكيس لفمه فتنتظر حتى يمتلئ الكيس قيئاً، ثم تحزمه، ثم ترميه، ومسئولة المضيفة إذا وجد رجل يعجز أن يوضئ نفسه بعد البراز والبول مسئولة المضيفة أن تمسح برازه وأن تمسح بوله، لو أعطينا المضيفة صفاتها الحقيقية بمعنى خادمة، بل أشد من خادمة لما اشتهت فتاتنا أن تكون مضيفة، لكن قلب العرض بدلاً من أن يقال هذه وظيفتها يقال: لا، الملاك الطاهر القلب الحنون الوديعة؛ فإذا رأت فتاتنا أو بنتنا أو أختنا المضيفة -يعني: قد يقدر لواحدة من بناتنا أن تصعد في الطائرة- ثم ماذا بعد ذلك؟ تجد هذا الملاك الطاهر الذي كتب عنه في الجرائد والمجلات ورأته في كثير من الأفلام وغيرها رأت هذا الملاك الطاهر يقف حتى تسمع صوت المزلاج، ثم ارفع اللسان إلى أعلى، ثم يسقط عليك القناع من تحت -أو القناع يسقط من فوق- ثم يسقط عليك القناع من فوق وهم ينظرون إلى حركات المضيفة فتجد الفتاة معجبة بهذه الفتاة التي كأنها تمثل عرض كراتيه بحركات يدها.
ثم إذا سرقت النظر أختنا أو بنتنا أو بنت مجتمعنا إذا سرقت النظرة إلى المضيفة وجدتها تجلس بجوار المضيف، كتفها على كتفه، فخذها على فخذه، ثم وجدت في يدها سيجارة والمضيف يولع لها السيجارة، ثم يتبادلان هذا الشيء ماذا الذي يحصل؟ تزداد إعجاباً بهذه المضيفة، ويؤجج ذلك شهوة الفساد والانحراف التي وجدت في النفس، ولكن لو قيل: إن هذه المضيفة هكذا صفتها، وهذا دورها، يعني: لو قلنا لفتاة من بناتنا: أعطنا مثالاً لفتاة لا تستحي من الرجال.
قالت طفلة: المضيفة.
نقول: الإجابة صح، ومثال لفتاة لا تستحي وتكسر حياؤها وعفتها بين الرجال، هات مثال.
الجواب
المضيفة.
صح، طبعاً المحاضرة ليست هجمة على المضيفات وإنما أقول لكم كيف تغسل الأدمغة؟ كيف تسلط الأضواء على عمل قبيح فيكون حسناً؟(105/7)
غيبة إبراز العلماء ورجالات المجتمع
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وقول الله أبلغ: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] والعياذ بالله، فالشاب كذلك إذا وجد النجم الفلاني هو الذي تصفق له الجماهير، وهو الذي يقدمونه، وهو الذي إلخ، تجده نعم يعجب بهذا المطرب، ويقول: كيف أكون مطرباً؟ ثم بعد ذلك يصدق بعضهم -بعض الشباب يصدق- أنه أصبح فناناً.
وأذكر مرة من المرات -ولا وقت عندي للتلفاز ولله الحمد والمنة فضلاً عما فيه من المغالطات والمخالفات- أذكر أن مطرباً من منطقة ما أجريت معه مقابلة، فقالوا له: الفنان فلان بن فلان ذو الموهبة المتفجرة المعطاءة.
الله أكبر! ما هي الموهبة المتفجرة المعطاءة؟! هل أغنت عن صاروخ باتريوت في رد قذائف الصد؟ هل أغنت عن طائرات أباتشي في قذف الدبابات؟ هل أغنت عن الترنيدو أو ألفا 15 المقاتلة؟ الموهبة المعطاءة ماذا أعطتنا؟ أعطتنا ضياعاً للجيل، وخراباً في الأمة، وتدجيلاً على الناس.
فقيل له: الموهبة المعطاءة، متى بدأت مشوارك الفني؟ سؤال وجيه جداً جداً جداً -جداً تكعيب- فقال وهو يتأوه حسرة والأسى يعصر قلبه قال: لقد كنت بدأت مشواري الفني قبل فلان وفلان وفلان ولكن الحظ ساعدهم ولم يلتفت لي.
مسكين!
أهبت بالحظ لو ناديت مجتمعاً والحظ عني بالجهال في شغل
لعله إن بدا فضلي ونقصهم لعينه نام عنهم أو تنبه لي
لكن هذا كلام يقوله ابن الوردي أو غيره ولا يقوله ذاك.
قلت: والله مسكين يا أخي، حرام تجلس ثلاثين سنة تدقدق وتخرش العود اثنا عشر وتراً ولا أحد يعرفك! والله حرام يا جماعة، أظهروه في الدعاية، اجعلوه قبل البقرات الثلاث، انظر والله مشكلة يا أخي، أظهروه، هذه موهبة حرام ما تطلع في المجتمع، حرام هذا مسكين ما أحد عرفه، قاعد ثلاثين سنة قبل فلان وفلان وفلان ما أحد يعرفه، والله قهر يا ناس! سبحان الله العلي العظيم! هل هي موهبة اختراع؟ هل موهبة سلاح؟ هل هي موهبة فكر؟ هل هي موهبة تعليم؟ هل هي موهبة دين؟ هل هي موهبة دعوة؟ هل هي موهبة عطاء؟ هل هي موهبة قضاء؟ هل هي موهبة طب جراحة وقلب؟ علاج في سكر؟ لا.
موهبة فن، ثلاثون سنة ما أحد يعرفه، ومثل ما يقولون -هناك مثل عند أهل مصر -: قليل البخت يتكعبل في السديرية.
يعني: لو يلبس سدارية يتعثر فيها، قلنا: يمكن هذا حظه كذا ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالشاهد: أن اللاهثين الذين نراهم من أسباب ركضهم ولهثهم وراء هذه المتع والشهوات والملذات الضائعة الفانية التي ما تنفع الأمة أنهم يرون المجلات والجرائد والشاشات والموجات كلها لا تلمع إلا فناناً ومطرباً ولاعباً، وقل بل وندر أن تجد في مقابلة أولئك أن يلمع العلماء أو الدعاة، بل إننا لا نحتاج إلى تلميع، فالعالم علمه يلمعه، وأعجب من هذا أن تسمع من الناس من يقول: والله يا أخي هؤلاء المطاوعة مجانين، مجرد ما الشيخ ابن باز يطلع الناس يلحقونه ويحبون رأسه ويحبون يديه ويسلمون عليه، وبمجرد الشيخ ابن عثيمين يطلع الناس يسدون الشارع وراءه مجانين! إذا لحقوا عالماً يبارك الله بعلمه ويستجيب الله دعوته وليسوا مجانين إذا صفقوا وراء لاعب أو مدرب يحملونه فوق أكتافهم! لا إله إلا الله! أين هذه العقلية والموهبة الوثابة التي جعلتك تكتشف أن الناس إذا تبعوا العالم ودعوا له ومشوا في إثره ولحقوا جادته واقتفوا طريقه صاروا مجانين، ويوم أن كانوا يلحقون الممثل والممثلات ما كانوا مجانين؟ لا إله إلا الله! إن الشيطان يفتح على أوليائه صنوفاً وضروباً من الشر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فشريحة اللاهثين من أبنائنا يحتاجون في الحقيقة مع الدعوة واللطف والكلمة الطيبة والهدية المناسبة والأسلوب والمدخل يحتاجون أن يقال: إن من ترك الفن واتجه إلى الجهاد فهو نجم لامع، إن من ترك الضياع وملأ الفراغ بما ينفع فهو النجم الساطع، إن من ترك الغناء واشتغل بحفظ القرآن هو الكوكب الذي لا ينطفئ، إن من ترك مشاهدة الأفلام واشتغل بمطالعة الكتب هو مفكر الأمة، إن من ترك الفساد وسلك الصلاح هو الذي تحتاجه الأمة، حينئذ يشعر الشباب أن لا شيء يئزهم أو يدفعهم إلى الفساد، وإنما يرون أن كل ما حولهم حتى الداعية والإعلام وكل ما يحيط بهم يدفعهم دفعاً إلى مراقي الفلاح ومدارج الصعود، وما يرفعهم إلى كل خير بإذن الله جل وعلا.(105/8)
دعوى الوسطية ودوافع اللهث
شريحة من الناس تجد بعضهم إذا قلت له: يا أخي الكريم -يعني: تجده من اللاهثين وراء الأفلام، أو اللاهثين وراء المعاصي، ويعد نفسه أنه معتدل وسط- يا أخي الحبيب! لماذا لا تستقيم على أمر الله؟ لماذا لا تستقيم على دين الله؟ يا أخي الطيب، يا أخي المبارك لماذا لا تكون من الهداة المهتدين؟ يقول لك: أنا أريد أن أكون وسطاً، أنا لا أريد أن أكون أصولياً متطرفاً، ولا أريد أن أكون مروج مخدرات وصاحب شذوذ أخلاقي، أنا أريد أن أكون وسطاً.
ما هو الوسط؟ الوسط: أن تقبل التفرج على الأفلام، وأن تطلق بصرك في الشاشة على صور النساء، والوسط: أن يضيع وقتك بلا استفادة، الوسط في نظره: ربما أخرت صلاة الفجر إلى وقت الدوام الساعة السابعة، الوسط: أن تسمع الأغاني وأن تتذوق الفن، الوسط: أن تجامل مع الناس ولا تكون إنساناً جلفاً -يعني: آمراً بالمعروف أو ناهياً عن المنكر حسب مصطلحه- الوسط: ألا تكون فضولياً تتدخل بالنصيحة في الآخرين إذاً أنت أيها الأخ الكريم أنت الوسط؟ أنت المعتدل؟! وأنت يا فتاة لماذا لا تتحجبين؟ لماذا لا تتركين الرقص؟ لماذا لا تتركين اللهو؟ لماذا لا تتركين الغناء؟ لماذا لا تتركين مجلة سيئتي أو سيدتي؟ لماذا لا تتركين المجلات السخيفة مثل " نورا " و" كل الناس " والفيديو والتلفزيون ومجلة كذا وكذا؟ تقول: لا والله، إنني لست بفتاة متشددة، ولا منحرفة -تعني: زانية- أنا بنت وسط معتدلة.
طيب نقول لذلك الشاب الوسط ولتلك الفتاة المعتدلة: أنتم وسط ومعتدلون ماذا تسمون الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الرسول وسط أو متشدد؟ عائشة وسط معتدلة أو متطرفة أصولية؟ سبحان الله! دعوى الوسط والاعتدال أصبح يدعيها الذين يطئون المنكرات، ويصبحون ويمسون على المعاصي بحجة أنهم وسط لا والله، أنا لا أقول: حرام أو لا ينبغي أو لا يمكن أو لا يعقل أن يوجد في المجتمع صاحب معصية أو صاحبة معصية لا، المعاصي وجدت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ووجدت من الرجال ومن النساء، وفي مجتمعنا توجد المعاصي من الرجال ومن النساء، لكن كانوا قديماً إذا عصى أحدهم ما قال: أنا وسط معتدل، قديماً إذا عصى أحدهم قال: أذنبت فأستغفر الله.
إذا عصى أحدهم أو إحداهن قالوا أو قالت: زللت فأستغفر الله، فيعودون إلى الله.
أما نحن فتجد العاصي ما يقول أذنبت يقول: أنا ممتاز، وأنا وسط، أنا أحسن من الذين يروجون المخدرات، أنا أحسن من الذين يروجون الخمور، أنا أحسن من الذين يروجون الأفلام الخليعة وهذه مصيبة: أن العاصي المقصر لا تجده راضياً عن نفسه فقط بل معجب بنفسه، فوق الرضا تجد إعجاباً ولا حول ولا قوة إلا بالله!(105/9)
البحث عن اللذة من دوافع اللهث
ومما جعل شريحة من أبنائنا وشبابنا وشاباتنا يلهثون وراء ألوان المعاصي والشهوات، وبعضهم في ألوان الفواحش والمنكرات أنهم يتعاطون اللذة، فإذا انتهى طعم اللذة بحثوا عن لذة جديدة.
مثال ذلك: تجد إنساناً مدمناً على التدخين، وتجده ما يسمع بلون من ألوان التدخين إلا ويجربه، وتجده مغرماً بأنواع التبغ والدخان الذي -مثل ما يقول- يجعل رأسه يكيِّف، ولست أدري معنى يكيف؟ يعني: يبرد؟ نحن نعرف التكييف أنه يبرد، لكن تجده عند حد معين يأنف، يقول: التدخين هذا ما أصبح يؤثر شيئاً في رأسي، إذاً ما الحل؟ الحل أن ندخن سيجار، السيجار أقوى تركيزاً من السيجارة، فتجده يدخن سيجار وبعد السيجار ينتهي، يعني يستخدم السيجار مدة ثم ينتهي إشباع لذة السيجار فيبدأ يقول: ماذا لو أننا استغنينا عن مشاكل تكييف الدماغ عن طريق الإحراق والتدخين نجرب نوعاً من الحبوب، حبوب سيكونال أو حبوب كابتيجول أو حبوب -هناك حبوب يستخدمها أصحاب المخدرات- اسمها ملكواشيجرا، طبعاً شجرا منطقة في الوشم لكن هذه الحبوب مجرد أن الواحد عندهم يأخذ حبة يصبح يرى شعلة الحرية في نيويورك وهو في مكانه، ويرى برج إيفل في فرنسا، ويرى جسور اليابان، يتوهم أنه يراها وإلا في الحقيقة هو لا يرى إلا وجهه الذي امتلأ بالمعاصي، ويرى يده التي اقترفت الآثام، ورجله التي مشت إلى الخطايا، لكن مثل ما يقول الشاعر العربي قديماً:
وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
الخورنق: هذا قصر كسرى، والسدير: هذا قصر قيصر، يقول:
إذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
إذا صحوت من هذا الشراب أدور عن القصر الذي كنت أتمشى فيه أطيح في البغل الذي قاعد هنا في مربضي، أو أطيح في الجمل أو العنز التي كانت قاعدة بجانبي، هكذا:
فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
فكثير من هؤلاء نتيجة للإشباع المتناهي للذة يستخدم التدخين ثم تنتهي لذة التدخين، ثم يستخدم السيجار فتنتهي لذة السيجار، ثم يبدأ بالحبوب فتقف لذة الحبوب مع التعطيب والإشباع، الدم يستهلك ويطلب زيادة، فبدلاً من أن يستخدم حبة حبتين، وبدلاً من حبتين ثلاث، وبدلاً من ثلاث أربع، حتى تراه كالمجنون، وترى أمامك بشراً لكنه يفكر تفكير البهائم، بل إن بعضهم كما عرض علينا طبيب من الأطباء في إحدى المعامل ويشرح بشرائح البروجكتر يقول: مما يصيب المدمنين على هذه الحبوب أن أحدهم يتوهم القدرة الخيالية، بمعنى يظن أنه يستطيع أن يمد يده هكذا ويلوي العمود لويتين ثم يسقط السقف، يصل إلى درجة والعياذ بالله من الهستريا وهذا الأمر الذي يفسر كثرة حوادث السيارات من الذين يستخدمون حبوب الهلوسة وسائقي الناقلات وبعض عمال المصانع الذين بعضهم ربما انقطعت يده تحت المنشار وهو يظن أن يده بعيدة؛ لأن من آثار هذه الحبوب عدم السيطرة على الجوارح وعدم القدرة في التحكم.
ثم ماذا بعد ذلك؟ تنتهي إشباعات الحبوب فيبدأ إلى إشباع الشم، لأن السيجارة والسيجار والحبوب لم تعد تعطينا لذة، نبحث عن لذة جديدة لأن اللذة متناهية، اللذة انتهت فنريد لذة جديدة فيذهب إلى الكوكايين المسحوق ثم يأخذه ويشمه، فإذا شم أول شمة ضيع، قال: مضبوط هذا هو الذي ينفع، فيشم مرتين وثلاثاً وفي الخامسة تنتهي إشباع الكوكايين فيحتاج أن يزيد الكوكايين أو يخلطه بشيء من الهروين ويحقنه في الوريد، ومع كثرة حقن الهروين في الوريد يصير عند النفس إشباع تريد مزيد، ورأيت بعيني صوراً لشباب من اللاهثين وراء المعاصي والمخدرات أصبح يأخذ الإبرة ويجر جفن عينه ويدخل الإبرة هنا تحت جفن العين حتى تكون أقرب إلى الدماغ وسرعة التكييف؛ من شدة -والعياذ بالله- اللهث والجري وراء اللذة الموهومة.
إذاً: فحينما نتكلم عن اللاهثين لا نتكلم عن إنسان من أول مرة بدأ بالكوكايين والهروين، ولا نتكلم عن إنسان من أول مرة بدأ بالزنا لا، كان لأولئك بدايات بدأت بالتدخين، مرت بالسيجار، عبرت الحبوب، انتهت إلى الكوكايين، وانتهت إلى نهاية الوفاة.
ومن مدة كنت في مدينة من المدن في الفندق فأخبرني أحد الشباب -نزلاء الفندق- قال: منذ يومين وجد شاب في هذا الفندق دخل عليه أهله بعد أن اتصلوا به مراراً ولا يرد، وسألوا الفندق عنه قالوا: والله ليس مفتاح حجرته عندنا حتى نقول خرج.
فاقتحموا عليه باب الحجرة فوجدوه هكذا منكفئاً على وجهه والإبرة -إبرة حقن الهروين- في يده، وجدوه ميتاً على هذه الحال.(105/10)
بداية كل لاهث
إذاً: فاللاهثون لم يبدءوا بالهروين من أول بداية لا، إنما بدءوا بجليس سيئ، بدءوا بأغنية، بدءوا بمعصية، بدءوا بمخالفة، ثم زادوها وزادوها وزادوها وزادوها حتى وصلوا إلى هذه النهاية المريرة.
وحتى هذا يا إخوان موجود في الغرب، الغربيون ليس عندهم حياء ولا خوف من الله، فالشذوذ الجنسي في العلاقات الجنسية عند الغربيين مر قبله بمرحلة الخيانات الزوجية، وعدم احترم الحرمات الاجتماعية، أو ما يسمى بالعلاقات الاجتماعية المفتوحة، أو ما يقال عنه (البوي فريند) تجد الفتاة لها صديق، والفتى له صديقة، ومعنى صديق وصديقة يعني أن يمارس معها كل شيء، ثم بعد ذلك يمل بعضهم من بعض فيستبدل الصديقة بصديق والصديقة تستبدل صديقها بآخر، ومرحلة استبدالات حتى يملون من المعاصي، وجدت شريحة من النساء يمارسون الشذوذ مع النساء، وشريحة من الرجال يمارسون الشذوذ مع الرجال، فمل بعضهم إلى درجة أن إحدى الدول الغربية أصبحت تنتج أفلاماً اسمها "مان آند أنيملز" "وومن آند أنيملز" الرجال والحيوانات والنساء والحيوانات، ماذا يوجد في الأفلام؟ يوجد في الأفلام نساء يفعلن الفاحشة مع البهائم، ورجال يفعلون الفاحشة مع البهائم! اللذة متناهية فيبحثون عن لذة جديدة، لم تقف اللذة عن العلاقات الاجتماعية المفتوحة، ولم تقف اللذة عند تغيير الفرش بين الرجال والنساء والشباب والشابات، ولم تقف اللذة عند اللواط أو عند الشذوذ والسحاق، بل تعدتها في نظرهم، وهي لذات موهومة ليست لذات حقيقية، وبعد أن يصلون إلى هذه الدرجة تنتهي أحوالهم إلى جنون أو إلى انتحار أو إلى ضياع أو إلى اكتئاب أو إلى مخدرات نهايتها الهروين، ثم نهايتها الموت البطيء أو الموت القاتل سواء علم أو جهل بذلك.(105/11)
نهاية المطاف بعد اللهث
ثم أيها الأحبة! نقول لأحبابنا وشبابنا: أيها الشباب اسألوا الفنانين الذين تابوا وتركوا الفن، واسألوا المخرجين الذين تابوا وتركوا الأقذار الفنية والوحل الفني، اسألوهم: ماذا وجدوا في الفن والوسط الفني؟ فنانون يعترفون ويقولون: الوسط الفني وسط قذر، فنانات بعد التوبة يعترفن وتقول إحداهن: لا يمكن أن تكون فتاة نجمة العام أو نجمة الاحتفال أو بطلة فيلم إلا إذا وافقت على شروط مخرج أو صاحب القصة أو بطل الفيلم، ما هي الشروط؟ الفواحش والشذوذ والمعاصي! إذاً: يا إخوان لا تغركم صورة هذا الممثل مع هذه الممثلة على الشاشة، لكن ما الذي حدث قبل أن يخرجا على الشاشة؟ ما الذي حصل وقت بروفات التمثيلية؟ ما الذي حصل قبلها؟ حصل كل ما لا يخطر على بال من السفالة والقذر والوسخ وكل تعدٍ لحدود الأخلاق ولا حول ولا قوة إلا بالله! إذاً: نقول للاهثين وراء هذه الأمور: اسألوا الذين عرفوا هذا وتركوه، اسألوا الذي عرفوا الفن وتابوا منه، اسألوا المطربين الفنانين التائبين، أحد الفنانين جلس عندي في بيتي وأسأله: ما الذي كان يبلغ إليه الفن في جلسات العود والطرب؟ قال: يا شيخ لا تصدق أن الفن هو ريشة ووتر، الفن جلسة بنات وكأس يدور، وفواحش تمر بهذه المرحلة، وتقف عند المخدرات، وتنتهي إلى الانتحار ولولا أن الله مَنَّ علي وهداني وإلا لكنت واحداً من ضحايا المخدرات الذين كنا نجلس في جلسات أولها الوتر وآخرها الخمر والمخدرات.
إذاً: نقول للاهثين وراء شهرة الفن، واللاهثين وراء النجومية نقول: اسألوا الذين سبقوكم وعادوا، إن مجموعة من الفنانين والفنانات تابوا إلى الله ورجعوا ومعهم الراية البيضاء يلوحون بها ويقولون: يا معاشر الشباب، يا معاشر الشابات عودوا فإنا جئناكم من آخر نقطة ينتهي إليها طريق الفن، فلم نجد في هذا الطريق إلا الدعارة والفساد والعهر والانحراف، لم نجد لحظة نخشع فيها، ولا دمعة نبكي خوفاً لله منها، ولم نجد ساعة خشوع، ولم نجد ساعة طمأنينة، بل كنا نصبح في قلق، ونمسي في قلق، ونمشي في هلع، ونتنقل في فزع هذه حياة الفن والفنانين إلا من رحم الله من الذين عادوا وتابوا أو في طريقهم إلى العودة والتوبة.
آخر: قابلته في السجن، أحد الفنانين كان مسجوناً فزرته في السجن، قلت له: يا فلان كيف تجد نفسك؟ لقد من الله عليه بالتوبة وحفظ جزأين من القرآن في السجن، قلت له: يا فلان كيف وجدت نفسك الآن؟ قال: والله لقد عرفت الفن أيام لبنان، أيام بيروت، والآن والله إني لا أستطيع أن أصف لك تلك المرحلة التي مررنا بها مروراً على الجلسات والحفلات حتى ما جمعناه من المال لا بركة فيه، وحتى إن المعجبين والمشجعين حولنا ويصفقون لنا، ويتقدموننا، ويتبعوننا، ويعطوننا بطاقات التعارف، ويدعوننا إلى حفلات اللقاء، ومع هذا كله والله ما كنا نأنس، وما كنا نلذ -وقال كلمته المشهورة-: ولو مت على ما أنا عليه لمت ميتة حمار.
يقوله ذلك الفنان التائب العائد.
فإلى شبابنا اللاهثين نقول: عودوا إلى الله فإن الطريق الذي تسلكونه قد سلكه أناس قبلكم وخبروه وسبروه واكتشفوه، وعرفوا غايته وأبعاده، ثم رجعوا ولكنهم قالوا كما قال رجل لما حضرته الوفاة، رجل من الذين كان لهم جلسات أنس وطرب مع صديق له، مع نديم حبيب له، توفي نديمه وتوفي حبيبه وصديقه، وأوصى هذا الرجل لما حضرته الوفاة أن يدفن عند نديمه أو بجوار قبر نديمه، وقبل موته قال كلمات، قال وهو يشير إلى قبر صديقه يقول:
يا صاحبي قم فقد أطلنا أنحن طول المدى هجود
فقال لي لن نقوم منها ما دام من فوقنا الصعيد
تذكر كم ليلة لهونا في ظلها والزمان عيد
هذا الذي يحتضر قبل الموت يكلم صاحبه الذي في القبر تحت التراب، ويذكره يقول: تذكر كم ليلة لهونا، كم سهرنا، كم فيلم رأينا، كم مجلة قلبنا، كم مرة عاكسنا، كم مرة صلحنا، كم مرة فعلنا
تذكر كم ليلة لهونا في ظلها والزمان عيد
وكم سرور همى علينا سحابة ثرةً تجود
كل كأن لم يكن تقضى وشؤمه حاضر عتيد
يقول: كل هذا كأن لم يكن، كأنما صار وتقضى وانتهى ومضى وانقضى وشؤمه -يعني: شؤم الذنب، وخطر الذنب والفاحشة والمعصية- وشؤمه حاضر عتيد.
كل كأن لم يكن تقضى وشؤمه حاضر عتيد
حصله كاتب حفيظ وظمه صادق شهيد
{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]
يا ويلنا إن تنكبتنا رحمة من بطشه شديد
يا رب عفواً وأنت مولى قصر في أمرك العبيد
ثم مات الرجل ودفن إلى جوار صاحبه.
لو قدرنا لأولئك الذين مارسوا الملذات وهم من اللاهثين وراء الشهوات، وراء الأرصفة، والبنات، والطرقات، والمجلات، والمسلسلات، وراء كثير من الأمور، ثم ماذا؟ إن أهنأ عيشة قضيتها -كما يقول ابن الوردي لولده-:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكرى لأيام الصبا فلأيام الصبا نجم أفل
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل
العنترية والحموشية وقطع الطرق والاعتداء على الناس، والتسلط عليهم ليست بطولة.
وإنما تقوى الله، ومراقبة النفس، وإحكام تصرفات النفس هي البطولة الحقيقية التي ينبغي أن يتربى عليها الشباب وأن يعرفها الجميع.(105/12)
ما يجنيه اللاهث على نفسه ومجتمعه
أيها الإخوة بهذه الأمور مجتمعة: تربية منفلتة ضائعة، وقدوة غائبة، وتلميع للفنانين ولنجوم الكرة ولغيرهم، وغيبة لأن يلمع العلماء ورجالات المجتمع؛ جعلت الشباب هشاً مستعداً أن يقلد أدنى صيحة، ولذلك الآن ما ترى تقليعة توجد في الأسواق إلا ولبسها شبابنا وشاباتنا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
وبالمناسبة يذكر أن أحد الوعاظ أو الخطباء كان ذات مرة يروي هذا الحديث، يقول قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) أخرجه الترمذي، فكان هناك أحد من البادية قال: الترمذي هو الذي طلع الضب، أخرجه الترمذي يعني الحديث رواه الترمذي، وهذا يحسب الترمذي هو الذي طلع الضب! وأقول: هذه الأمور مجتمعة جعلت عندنا شباباً مستعداً للانزلاق عند أدنى تقليعة، وأدنى دعاية، وأدنى صيحة.
وبالمناسبة هناك دراسات أجريت على مجتمعنا فأظهرت أن عندنا مجتمعاً يتأثر بالإعلان والدعاية بشكل غريب جداً جداً، واحد يقول: عندي ولد إذا مسك الصابونة عند الغسالة قعد يناقز ويناقز إلى أن أمسكه.
قلت: لا تلومه، هذا صابون زفت، ما تعرفه.
يعني: عندنا شيء مؤثر جداً على عقول الشباب والشابات بطريقة غريبة وعجيبة! فإذا كانت هذه تأثير الدعايات وتأثير الإعلان فما بالك إذا أصبحت تخاطب المشائخ، وأصبحت المجلات والجرائد والبث المباشر الذي بدأ يأتينا من خلال الدش أو الأطباق التي تنصب على السطوح، وكثير من الناس -يا للأسف! - يشتريها دين، بعضهم يتدين ويركب دش، حتى لو أن عنده مليار ما ينبغي لمسلم أن يضر ببيته.
يا إخوان هل فينا رجل أو هل يعقل أن رجلاً يشتري دشاً لكي يستقبل به بثاً يجعل زوجته تتعلم الخيانة الزوجية؟ هل يوجد رجل يشتري دشاً يستقبل أفلاماً تعلم بناته المعاكسة واللف والدوران، وكيف تخرج وتلعب على أهلها وتصاحب صديقها ومن يعاكسها؟ هل يوجد رجل يختار ويشتهي لنفسه أن يستقبل بث يجعل زوجته تنظر إلى أناس يتصارعون شبه عراة؟ أنا لست أدري أين ضاعت الغيرة وأين ضاعت الحمية وأين فقد الإباء والشمم؟!! عجباً لناس تقول لأحدهم: يا حبيبي يا سيدي يا أخي الكريم هات مدرساً شهرياً بثمانمائة ريال يدرس أولادك الحساب والقراءة ويعلمهم أموراً تنفعهم، ويعلمهم القرآن، ويدرسهم السيرة فترفض، ثم تذهب لتشتري الدش بإثني عشر ألفاً، وإذا كان من الدشوش التي تحضر مائة وستين محطة أو أربعة وستين محطة تجده بأبهض الأثمان وأغلى الأسعار؟؟ والله مصيبة! اللاهثون في مجتمعنا كثر، ولم يقف حد اللاهثين عند الشباب المراهقين بل تجاوزه إلى كبار السن، التي يسمونها مراهقة الشيوخ أو مراهقة الكبار، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذه الأوضاع كلها: بث مباشر، مجلات، تلميع إعلامي، نجومية من هنا، وهلم جرا، جعلت الشاب مثل ما قال: يسكر بزبيبة، ينزلق في أدنى شيء؛ ولأجل ذلك ينبغي أن نعرف كيف ندفع الشر عن هذا المجتمع إن كنا صادقين.(105/13)
ختاماً متى العودة؟ ومتى الرجوع؟
إلى كل شاب ضيع أيامه وساعاته وأوقاته في معصية الله نقول لك: إن الباب لا زال مفتوحاً، إن الباب لا زال مفتوحاً، ونقول لك قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] ونقول لكل شباب: هب وافترض جدلاً أنك تمتعت بكل لذة فهل هذا سيدفع عنك الموت؟ هل هذا سيدفع عنك سكرات الموت؟ هل هذا سيجعل لك إضاءة في القبر؟ أو يجعل لك سريراً أو فراشاً ناعماً في اللحد؟ هل هذا سينفعك عند الله يوم الحشر والنشر؟ إن أردت الهداية فأقبل واسمع النصيحة والتزم الموعظة، وعد إلى الله، وإياك أن تكون بهيمة قولها كما قال القائل:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقي
لست أدري ولماذا
لست أدري لست أدري
بعضهم تقول له: يا حبيبي لماذا خلقت؟ يقول: أنا داري؟ ما دورك في الحياة؟ والله ما أعرف.
ما غايتك؟ ما هدفك في الحياة؟ يقول: اسأل أبي! هذه مصيبة، شاب يبلغ هذا العمر ولا يزال لاهثاً وراء المجلات والأفلام والمسلسلات والطرقات ولا يعرف هدفه وغايته، هذه مصيبة! شباب أشبه ما يكونون بالأغنام التي تسمن ثم تتجه إلى المسلخ فتنحر وتؤكل، بل إن الأغنام والأبقار نستفيد منها، وأما اللاهثون إن لم يهدهم الله وإن لم يتوبوا ويعودوا إلى الله فأولئك شر على المجتمع.(105/14)
التوبة هي الطريق الأسلم من رحلة اللهث
وختاماً: لا نقول للشباب حتى وإن كانوا في السجون الآن، وإن كانوا من أهل المخدرات، وإن كانوا على الأرصفة والمتسكعين في الطرقات، لا نقول لهم: لا يمكن أن نستفيد منكم، أو مستحيل أن نستفيد منكم، بل نقول: نحن نحتاجكم، الصومال تحتاج إلى الإغاثة، فبدلاً من أن تضيع جهدك ونشاطك وصحتك في الأرصفة والطرقات اجعلها في سبيل الله والوقوف مع المسلمين بدلاً من أن يأتي المنصرون وينصرونهم، الفليبين بحاجة إليك، الفقراء في كل مكان محتاجون إليك، الأرامل، المعوقون، المشلولون، اليتامى، الأيامى، كفالة الغزاة، مساعدة المسلمين، دعوة الكفار إلى الإسلام، على الأقل لو تعرف جزء عم أو نصف جزء عم، لو تجلس وتعلم أناساً حديثي العهد بالإسلام لأصابك أجر وخير كثير بإذن الله جل وعلا.
أيها الأحبة! نقول لكم بلغوهم وقولوا لهم: إننا لم نستغن عن شباب المسلمين، ولم نستغن عن شبابنا وأبنائنا، ونقول لهم: إن فيهم خيراً كثيراً إذا أقلعوا عن الذنوب وأنابوا إلى الله واتبعوا سبيل المهتدين، إننا لا نحقر من شأنهم فنقول: لا فائدة منكم أبداً لا، بل فيكم خير كثير، في شبابنا خير كثير جداً، ولكن يوم أن يفتحوا الطريق للخير يتدفق من قلوبهم إلى مجتمعهم، ويوم أن يزيلوا جبال المجلات والمسلسلات ومجالس الأشرار والسيئين عن طريقهم، حينئذ سترى الخير يتدفق منهم، نحن لم يأت اليوم الذي نقول فيه أو قلنا فيه لشاب: ليس فيك نفع أبداً، ولا يمكن أن يقال هذا لشاب، حتى الشاب الذي نزوره في السجن أو في سجن المخدرات ما نقول له: ما فيك نفع، نقول له: فيك خير، ولكن أين الخير؟ له طريق وبداية، الذي يقول: ما فيك خير هذا أمر صعب جداً وربما يحطم.
الشيء بالشيء يذكر، خذوا هذه فهي تحرك الجمود: رجل كان عنده سائق، يبدو أن السائق هذا غير مسلم، فذهب به يصلي الاستسقاء صبيحة يوم من الأيام، وتعرفون أنه من السنة بعد الاستسقاء أن الإمام يقلب رداءه تفاؤلاً بتغيير الأحوال من الجدب إلى المطر، فقلب الإمام رداءه ثم قلب الناس أرديتهم، وهذا السائق ينظر إلى سيده يقلب الرداء والناس كلها تقلب الأردية، وكان الرجل متأثراً جداً من الخطبة -جزاه الله خيراً- فجاءه السائق قال: بابا أنا أيش في أقلب؟ قال: أنت اقلب وجهك! لأنه فعلاً منزعج من هذه الأحوال التي سببت انقطاع المطر والجدب والقحط، فنحن ما نقول للشاب: أنت اقلب وجهك ما فيك نفع.
أو نقول كما قال بعضهم، مجموعة من الشباب كانوا في رحلة، فأحدهم وجد هذا ينزل العفش وهذا ينصب الخيمة وهذا يأتي بالماء، قال: وأنا ماذا أفعل؟ قالوا: أنت اذهب هش الطيور! لا نحن لا نقول للشاب هذا الكلام أبداً، لا نقول له: اقلب وجهك، ولا نقول: هش الطيور، ولا نقول: ما فيك نفع؛ نقول: فيك خير كثير متى؟ إذا صدقت مع الله وتبت إلى الله، وأسدلت ستار التوبة على صفحة مضت، وفتحت صفحة جديدة كلها عودة وأوبة ورجوع إلى الله مهما بلغت ذنوبك.
لا تظن يا أخي الكريم أن التوبة لإنسان معاصيه قليلة لا، التوبة حتى ولو كان الإنسان زانياً، حتى لو كان لوطياً، حتى لو كان تاجر مخدرات أو مروج مخدرات أو كان فاجراً أو كان فاسقاً أو كان ظالماً {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] باب التوبة مفتوح لا يغلق أبداً إلا يوم أن تطلع الشمس من مغربها، أو يغرغر العبد فتبلغ روحه الحلقوم، حينما تصل سكرات الموت، وتبلغ الحشرجة في الصدر، حينما تبلغ التراق حينئذ تقول: الآن أتوب، يا أولادي، يا إخواني عندي عشرون فيلماً أخرجوها من البيت، وعندي ثلاثون شريطاً أحرقوها، وعندي خمسون مجلة مزقوها، وعندي كذا شريط أتلفوه لا، ستحاسب عليها، فالتوبة ما دمت مستطيعاً الآن:
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان
تب إلى الله ما دام البصر الذي نظر إلى الحرام قادر أن يغض عن الحرام، قبل أن يأتي اليوم الذي تزول فيه نعمة البصر فحينئذ تقول: أتوب إلى الله من النظر إلى المسلسلات والمجلات والمعاصي -الصيف ضيعت اللبن- نعم هذا أمر بينك وبين الله، لكن التوبة ما دمت قادراً، ما بتوبة العاجز، تب إلى الله ما دمت قادراً أو يوم أن كنت قادراً على الذهاب إلى مكان المعصية، الآن تتوب وتقول لرجلك: هنا قفي، مكانك قف، لا تذهب إلى المعصية.
أما الإنسان الذي تضربه سيارة وينشل ويصاب بشلل نصفي وبعدين يقول: لا، خلاص أنا الآن لا أذهب إلى المعصية، أصلاً رجلك مشلولة كيف تذهب؟ والناس لا يعصون الله إلا بنعمته، هل رأيت أعمى يتفرج على أفلام فيديو لا.
لأن الذين يعصون الله بالنظر إلى المسلسلات الماجنة يعصون الله بنعمة البصر.
هل رأيت أصم يستمع إلى الأغاني؟ لا.
لأن الذين يعصون الله بسماع اللهو يعصون الله بنعمة السمع.
هل رأيت أبكم يعصي الله بالغيبة؟ لا.
لأن الذين يعصون الله بالغيبة الذين عندهم نعمة الكلام، وما رأيت مشلولاً يعصي الله بنعمة الذهاب إلى الفاحشة لأن الذين يذهبون إلى المنكر يعصون الله بنعمة العافية في الأقدام، وما رأيت مشلولاً يعصي الله بالسرقة لأنه لا يوجد مشلول اليدين يسرق.
إذاً: فلا يعصى الله إلا بنعمة فعيب علينا، استحوا وأستحي ونستحي جميعاً أن نعصي الله بنعمه علينا، يعطينا الله نعمة فنعصيه بها.
اللهم إنا نسألك أن تتوب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم افتح على قلوبنا، اللهم إنا نسألك في هذه المكان الطيب المبارك أن تنزل علينا توبة نقلع بها عن الذنوب وتستر بها العيوب، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، ونبوء لك بذنوبنا، ونبوء لك بنعمك علينا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم يا من سترت القبيح وأظهرت الجميل استر علينا بسترك، اللهم يا من عافيتنا وسترتنا فيما مضى فاعف عنا وأعنا على أنفسنا فيما بقي، اللهم حبب إلينا طاعتك وبغض إلى نفوسنا معصيتك، اللهم نشكو إليك قلوباً ميالة إلى اللهو، اللهم نشكو إليك أنفساً ميالة إلى الغفلة، اللهم نشكو إليك أنفساً تباعة للشهوات، اللهم فاجعل ميل نفوسنا وهوى قلوبنا إلى مرضاتك وطاعتك، حبب إلينا مرضاتك وبغض إلى نفوسنا معصيتك.
يا رب العالمين لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، يا إلهنا، يا ربنا، يا خالقنا، يا مولانا إلى من تكلنا؟ اللهم إنا نشكو إليك قسوة القلوب، وجمود الأعين، وكثرة المنكرات، وتسلط الشهوات، وقلة الناصر، وكثرة المرجفين، وكثرة المثبطين، اللهم فثبتنا على دينك يا رب العالمين، وتوفنا وأنت راض عنا.
إلهنا لا تخزنا يوم يبعثون، واغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا من عبادك الصالحين، واحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(105/15)
الأسئلة(105/16)
انتقاد الجوانب السلبية في الحضارة الغربية
السؤال
يرى بعض الشباب أن انتقاد الحضارة الغربية تخلف، وأن الذي ينتقدها متخلف أو معقد ومتأثر بما يقال من أكاذيب عن الملتزمين، كذلك ما يوجد في المجتمع من نظريات، والمصيبة العظمى جهل الشباب بنعمة الله وفضله عليهم، وجهلهم بعظمة الله وقدرته، فنريد تعليقاً من فضيلتكم يعالج ذلك الأمر.
الجواب
لا يوجد أحد يعجب بالحضارة الغربية إلا إنسان متخلف، نعم يوجد أناس لا يزالون -والعياذ بالله- مفتونين بالحضارة الغربية لدرجة أن شاباً درس في فرنسا سنوات، فلما رجع إلى أهله في القرية وكان عندهم نخل ودجاج وبط وطيور قال: حتى الآن دجاجكم يقوقي؟! سبحان الله على شان أنك درست في فرنسا تريد الدجاج يدرس في السربون ويتكلم فرنسي؟ طبعاً الدجاج منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا وهو يقوقي، هل سمعت بدجاج تطور فأصبح ينبح؟! غريبة والله! درس في بريطانيا ودرس في فرنسا وجاء ينكر على الدجاج البقبقة هذه! فمصيبة بعض المنهزمين أنه لا يرغب في شيء من مجتمعه أبداً، حتى بعضهم جاء وأول شيء حط له ماسة وكرسي يأكل عليها، لم يعد يريد أن يجلس بجانب أبيه وأمه يأكلون على الأرض إن اليابان التي وصلت قمة الرقي في عالم الإلكترونيات والاتصالات لا يزال اليابانيون يأكلون بالطريقة التقليدية، طريقة متعبة: يجلس الواحد على ركبته ويجلس هكذا، يمد ساقه والركبة هكذا والفخذ والجسم كله واقف ويأكلون بهذه الطريقة بالخشبتين، ما تركوا الخشبة التي يأكلون بها، وبعض شبابنا إذا دخل مطعماً يستحي أن يأكل بيده، ولذلك يضطر يأخذ الشوكة ويضغط في الزيتونة تروح هناك، ثم يرجعها مرة ثانية يطعنها فتروح هناك، أخيراً يضطر يمسكها ويضربها هكذا ثم يدخلها فمه، ولهذا ليس بيننا وبين أن نصنع طائرة، وليس بيننا وبين أن نصنع مفاعلاً نووياً، وليس بيننا وبين أن يوجد عندنا قنبلة نووية نهدد بها العالم كما يهددوننا إلا أن نلبس بنطلوناً وقميصاً وكرفتة، وليس بيننا وبين أن نسابق على التسلح الذري وحرب النجوم إلا أن نضع هتفون ونسمع الدسكو في الأذان، وليس بيننا وبين أن ننافس على عالم الاتصالات إلا أن نضع الدش ونستقبل البث وبعد ذلك نصل إلى قمة الحضارة! مصيبتنا أننا استوردنا أخس ما عند الغرب، وقل فينا من استفاد من أفضل ما عند الغرب، ولذلك الآن أغلب الذين سافروا إلى الغرب لو أن كل شباب المسلمين والعرب الذي سافروا إلى الغرب رجعوا مخترعين، صناع قنابل نووية، صناع متفجرات، وأسلحة، وقاذفات، وراجمات، ومخترعين في عالم الإلكترونيات والاتصالات لأصبح عندنا ثورة صناعية نهدد بها الغرب كما يهدوننا لكن للأسف نعود بشهادات كرتونية اسمه فلان بن فلان، يحمل كذا في التخصص النووي أو يحمل كذا في التخصص الإلكتروني ولو يخرب الراديو ما يعرف يصلحه، ولو تريده أن يعطينا مفاعلاً نووياً ما صلح، نريده أن يطور لنا سلاحاً لكي يصبح من أسلحة الدمار الخطيرة ما عرف.
الأمة الإسلامية يا إخوان بحاجة إلى أن تدخل في النادي النووي الذري، هناك نادٍ اسمه نادي النواة أو نادي الذر، ما معنى النادي النووي الذري؟ يعني أي دولة تملك قنبلة نووية تهدد بالسلاح الذي تهدد به، وقديماً كانت روسيا وأمريكا كل منها يملك عشرات الآلاف من الرءوس النووية التي لو أطلقت إحداها على الأخرى عشرة لانطلق في الاتجاه المضاد ما يكفي لدمار العالم، كان الروس يعلمون أنهم لو أطلقوا من بعض الجمهوريات الإسلامية حالياً -التي كانت تحت الاتحاد السوفيتي - بعض الرءوس النووية لكان الرد من نيويورك أو من واشنطن أو من بعض مناطق الصواريخ أو منصات الصواريخ الأمريكية كافياً لدمار الدولتين، ولذلك ما الفائدة من أن تطلق روسيا سلاحاً النتيجة الطبيعية أن تطلق أمريكا في المقابل سلاحاً مثله فتنتهي الدولتان؟ فكانت كل دولة تحترم الدولة الثانية ولا تتجرأ عليها أبداً لأنها تعرف لو قهرتها بالذرة تلك تقابلها بالذرة، لو فجرت فيها قنبلة نووية تلك تقابلها، ولذلك لماذا الضجة على باكستان؟ لماذا الضجة على المفاعل النووي الإسلامي الباكستاني؟ لماذا؟ قنبلة إسلامية يمكن يوماً ما تفجر في اتجاه أوروبا أو أمريكا.
إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تملك القنبلة النووية في منطقة الشرق الأوسط، وتسمى منطقة الشرق الأوسط تباعاً للتسمية الغربية وإلا هي منطقة فلسطين، أرض الآباء والأجداد، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا يقول الغرب: نحن لو قلنا فلسطين لكنا معترفين بأننا اغتصبنا الأرض من المسلمين وبهذا نعيد لهم الرجوع والأماني في استردادها، وتسمى -أيضاً- بمنطقة الشرق الأوسط حتى تكون تسمية متوازنة لا تحرج أبداً، لا فيها اعتراف بحق للمسلمين ولا فيها إحراج للآخرين، والآن أصبحت بعض الدول تسميها إسرائيل صراحة، وعلى أية حال سيأتي ذلك اليوم الذي ترد فيه فلسطين.
يقول أحد المفكرين: كنت ذات يوم أستمع إلى صوت تل أبيب من إسرائيل أو من فلسطين، يقول: كان السائل مسلماً ويقول لمدير البرنامج اليهودي الإسرائيلي: يقول: قلت له: اعلم أننا في ديننا حديثاً يقول: (تقاتلون يهود فتنتصرون عليهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله) فبماذا رد المذيع؟ قال: أولاً: أنا لست من خبراء الأديان، ثانياً: لا أعرف صحة هذا الحديث الذي تقول، ثالثاً: لو قدرت صحة هذا الحديث فلسنا نحن اليهود الذين نقاتل ولستم المسلمين الذين يقاتلوننا؛ لأن المسلمين الذين يقاتلوننا سيكونون مسلمين من نوع آخر، مسلمين همهم الإسلام، قضيتهم الإسلام، الإسلام في عقولهم وأسماعهم وأبصارهم ليل نهار.
فقضية الذين لا زالوا مولعين بالغرب بماذا يولع بعضهم؟ تجده مولعاً بالصرف الإلكتروني، بالخدمات الفندقية، بالريمونت كنترول، بالفيديو، بأشياء من قصور الحضارة، بكماليات تافهة لا تقدم ولا تؤخر، حتى التقنية ربما بعضنا اشتراها ولم يعرف يستخدمها، نحن في تخلف علمي عجيب وغريب جداً، ونسأل ونقول: أين الخلل؟ العالم يتجه إلى تطوير مناهج تعليمه، ونحن نحتاج إلى أن نطور مناهج تعليمنا حتى تكون عقول أبنائنا وبناتنا مواكبة لآخر ما وصل إليه العالم في شأن العلوم والتقنية والصناعة.
أما أن نقول للذين يحتقرون الحضيرة الغربية متخلفين، وأنت يا حبيبي ماذا قدمت أيها المطور المتقدم؟ ماذا قدمت يا صاحب الذرة؟ لا ذرة ولا شيء مثل ما قال أحدهم، فمرة كنا في نادي الهلال في محاضرة قدمت فيها للشيخ عائض القرني، فجاء سؤال للشيخ عائض، يقول السائل: يا شيخ أنتم منذ سنين وأنتم تتكلمون عن صحيح البخاري وفتح الباري والروض المربع وما صعدتم القمر.
فقال له الشيخ عائض: وأنت لا صعدت القمر ولا قرأت صحيح البخاري.
يعني: هؤلاء الذين ينتقدون المتدينين على الأقل المتدين قد حصل دينه، أما هذا الذي ينتقد المتدين فلا دنيا ولا دين، لا صناعة ولا علم، لا شريعة ولا تقنية، لا اتصالات ولا أصول فقه.
فهذه عقدة ينبغي أن تزول من كثير من الذين لا زالوا معجبين بالغرب، لكن مثل ما قال بعضهم، سأله واحد من هؤلاء المعجبين بالغرب قالوا له: ما هي مؤهلاتك يا شاطر؟ قال: أنا والله معي سادسة ابتدائي وأعرف واحد في أمريكا هذه المؤهلات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
ولا أود أن تقولوا جاء الشيخ فأخذ وقت المحاضرة إلى المغرب، ثم جاء يتحدث بعد العشاء، ولولا ما سحبنا منه الميكرفون ما سكت، يا ليته سكت لا، نحن نسكت قبل أن تقولوا هذا، وكان صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، المهم أن نطبق ما سمعناه.
أسأل الله أن يسعدكم وأن يوفقكم وأن يصلح ذرياتكم، وأن يجعل أولادكم وبناتكم قرة أعين لكم، وأن يملأ قلوبكم سعادة وحبوراً وفرحاً وطمأنينة، وأن يتوفانا وإياكم على طاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(105/17)
الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات (1 - 2)
في هذه المحاضرة نحلق جميعاً مع الشيخ في درس نفيس يحوي إجابات كثيرة مفصلة عن: الغرور مكمنه ومظاهره، وأسبابه الاحتقار: أنواعه، وأسبابه، وعلاجه، وفي طيات هذه المادة تجد فوائد تحل كثيراً من مشكلات الشباب.(106/1)
الغرور منبعه القوة
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: فرصةٌ سعيدة، ومناسبةٌ طيبة أن يتكرر اللقاء في مثل هذه الأماكن التي طالما ظمئت إلى الندوات والمحاضرات، والتي طالما التفت بعض الشباب عنها ظناً أن ليس فيها إلا رياضة الأقدام فقط، وما علموا أن الأندية هي مجتمعات لغذاء الأرواح والعقول والقلوب والأبدان، فلا بد أن نعيد النظرة السليمة الصحيحة إلى أنديتنا، ولا بد أن تتميز أنديتنا بما تتميز به بلادنا وأرضنا وأمتنا عملاً بقول الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
أيها الأحبة! حديثنا اليوم هو: الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات، وقد يقول البعض: ما الحاجة إلى هذا الموضوع؟ ولماذا اختير هذا الموضوع من بين آلاف المواضيع المطروحة على الساحة؟ أقول: نعم، اخترناه واختاره الإخوة الذين رتبوا لهذه المحاضرة؛ لأن هلاك وضلال وبعد كثير من الشباب بسبب واحد من أمرين: إما بسبب الغرور وإما بسبب الاحتقار أعاذنا الله وإياكم منهما جميعاً.
أيها الأحبة! الغرور في الغالب يكون منبعه القوة؛ وشعور الإنسان بأنه قوي، وشعور الإنسان بأنه بما يسر الله جل وعلا له قادر على أن يذلل جميع الصعاب، هذا قد يقوده وقد يدعوه إلى أن يقف لحظات موقف المغرورين وهذا خطر عظيم، ولو تأملنا الإنسان لوجدناه أقوى مخلوقات الله قاطبة، فقد تغلب على كثير من المخلوقات، لقد تغلب على الريح، فاستطاع أن يصرفها بما ألهمه الله جل وعلا، فجعلها دافعة موجهة له في البحر، ولقد تغلب على الجبال، فاستطاع أن يشق الأنفاق فيها، ولقد تغلب على الأودية وعلى البحار، فاستطاع أن يتخذ له طريقاً ومكاناً فيها.
إذاً هذا الإنسان الذي لم يقف أمامه شيء بما سخر الله سبحانه وتعالى له، لا شك أنه قوي وحريٌ لمن كان في هذه الدرجة أن يشعر بالقوة، ولكن ما مقدار هذه القوة؟ وما درجة هذه القوة؟ ذلك الأمر الذي تباينت فيه عقول الناس واختلفت فيه أفهامهم ومداركهم.
أيها الأحبة! بعد أن قلنا إن القوة قد تكون سبباً يفضي إلى الغرور، فإن القوة بأنواعها؛ قوة المال، وقوة الشهرة، وقوة المنصب الاجتماعي، والقوة البدنية، وما شئت من أصناف القوة هي داعية في الحقيقة إلى أن يقع الإنسان في الغرور، ما لم يربط هذه القوة بما أوجب الله عليه، وما لم يخضع هذه القوة بما أمره الله سبحانه وتعالى أن يخضعها له، ومن لم يفعل ذلك؛ فإن نهاية قوته ضلال عليه ووبال على نفسه وماله ومجتمعه.(106/2)
غرور قارون
ولقد جاء في القرآن الكريم أمثلة لمن نالوا شيئاً من القوة، فبلغ بهم ذلك إلى حد الغرور، فمن أولئك قارون الذي بلغ قوة مالية عظيمة، حتى {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] مفاتيح خزائنه التي يودع فيها الذهب والجواهر لا تستطيع العصبة من الرجال أن يحملوها، هذا حجم ثقل المفاتيح التي هي مفاتيح الخزائن التي يودع فيها الأموال فما ظنكم بحجم أمواله! ولما نال هذه القوة ولم يسخرها لما أمره الله سبحانه وتعالى؛ أصابه داء العجب والغرور، فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] وخرج على قومه في زينته، وأخذ الناس ينظرون إليه، ويقلبون الطرف فيه، وبعضهم قال: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
إن بعض من ترونهم يتقلبون في جنبات القوة، قد ترى من الناس من يحسدهم ويتمنى أن ينال منزلتهم، ولكن فيما بعد أولئك الذين يتمنون مكانة الأقوياء في جوانب عديدة، يقولون: الحمد لله أن لم نكن مثلهم، وكان نهاية هذه القوة المالية التي لم تربط تسخيراً وإخضاعاً لأمر الله ونهيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] أهذه نهاية القوة التي أفضت بصاحبها إلى الغرور؟!! وبعد ذلك كانت عاقبته وخيمة أن خسف به وبداره الأرض وبكنوزه ومفاتيحه فلم تغنِ عنه شيئاً أبداً.(106/3)
غرور صاحب الجنة
مثال آخر من كتاب الله جل وعلا على أولئك المغرورين الذين كانت نهايتهم الهلاك: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] لاحظوا قول الله جل وعلا: {وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الكهف:35] {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف:35] كيف تفنى هذه الجنان، هذه الحدائق وهذه النخيل والبساتين {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:35 - 36] يقول: وما هي الآخرة التي أنتم تقولون إنها ممكن أن تقوم وتأخذ أموالي وتنهيني عن هذه الحياة {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] وإن قامت {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً} [الكهف:36].
أنا فلان بن فلان، أنا مرتبتي كذا، أن من مدينة كذا، لو رددت لأجدن خيراً من هذه الجنة التي أنا فيها في الدنيا {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً} [الكهف:36].
جاءه من يحاوره ويقول له: اتق الله! لا يجوز، ما هذا الغرور؟ {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37] أنت الآن في قمة الغرور بالقوة التي عندك، أذكرك بأصل ضعفك {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:37 - 38] إلى أن بينت لنا الآيات من خلال السياق أن الله جل وعلا جعل عاقبة هذا الغرور أن هلكت بساتينهم جميعاً كما قال الله جل وعلا: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:42] أُحيط بهذه الجنة والبستان وانتهى الأمر وما عاد له من شيء يعتمد عليه بعد أن كان يغتر ويتقلب في نعيم تلك الجنان.(106/4)
مظاهر الغرور
أيها الإخوة! الغرور داء موجود فينا في الحقيقة، حتى أن طوائف من الضعفاء والفقراء فضلاً عن ذوي المناصب والأثرياء لم يسلموا من داء الغرور، وهذا خطر عظيم جداً، ينبغي أن نصارح أنفسنا، وأن نكتشف داء الغرور من خلال المظاهر التي قد تبدو من معاملاتنا وسلوكنا وتصرفاتنا.(106/5)
احتقار الآخرين
من مظاهر هذا الغرور: احتقار الآخرين، وكما يقولون: الغرور مقبرة النجاح، تجد إنساناً والله لا مكانة له ولا منزلة، ولا مرتبة ولا علم ولا درجة، ومع ذلك تجده يحتقر الآخرين، ولا يعني هذا أن من كان في منزلة ومرتبة ودرجة ومكانة وهيئة أن يحتقر الآخرين، لكن هذا مثلما يقال: عائل مستكبر.
فما هي مقومات الغرور التي عندك؟ نحن قلنا: القوة قد تفضي إلى الغرور، لكن للأسف أنك تجد كثيراً من الناس رغم ضعفهم وفقرهم ومستواهم إلى آخره تجدهم مع ذلك مغرورين.
إذاً يظهر هذا الغرور من خلال احتقار الآخرين، ومعروف أن القليل يسلمون على الكثير، والماشي يسلم على الراكب أو على الواقف، فتجده يمر ويشمخ بأنفه ويلفت برأسه وكأنه لا يرى أحداً، أو كأنه لا يرى إلا الذر أمامه ولا يقيم لمن حوله وزناً أبداً.
يا أخي! لماذا التطاول، ولماذا الغرور، وأي درجة بلغتها حتى تشمخ بأنفك؟ مغتر بنفسك ولا تؤدي التحية للآخرين! احتقار الآخرين في مجالات كثيرة: احتقار الآخرين في آرائهم، احتقار الآخرين في كلامهم، تجده في مجلس، فيتكلم أحد الناس نحوه، وهو لا ينظر إليه، وما عنده استعداد ليسمع له، من هو هذا حتى يفتح فمه في هذا المكان، لماذا يا أخي؟! أحرام عليه أن يقول، وحرام عليك أن تسمع؟ لماذا تحتقره أليس بشراً مثلك؟ أليس له عينان ويدان ورجلان وأنف واحد؟ ما الذي ميزك وفرق بينك وبينه؟ لا فرق بينك وبينه إلا بالتقوى.
إذاً من مظاهر الغرور أن تجد الإنسان محتقراً للآخرين، وكما قلنا في مسألة سماع آرائهم والالتفات إلى كلامهم، فتجده بكل سهولة عنده استعداد لأن يقطع كلامه، وأن يذهب ويتركه يتحدث لوحده، وبكل سهولة تجده ينشغل، هذا غرور عميق جداً في النفس قد لا يشعر به، وإلا لو أعطى محدثه وزنه وقدره، وأعطى نفسه وزنها وقدرها لما اغتر بنفسه لهذه الدرجة من الغرور التي جعلته ينصرف عن سماع كلامه وعن رأيه، وأذكر قصة، قالوا: إن رجلاً صعلوكاً فقيراً وقف لملك من الملوك، فكان ذلك الملك في موكب لا يمكن أن يقف به أمام هذا الصعلوك، فالتفت إليه ذلك الرجل الفقير، وقال: اسمع! لقد وقف الهدهد يكلم سليمان عليه السلام، فاستمع سليمان للهدهد، ومن أنت حتى لا تسمع لي؟ فعجب الملك من بلاغة بيانه وخطابه، وتوقف وسمع كلامه حتى انتهى.
أحياناً أنت تعرف شخصاً، وأنه هذا فلان بن فلان، وقد يجمعك به النادي، أو يجمعك به زواج، أو مسجد أو مكان ما، ومع ذلك: ما عندك استعداد تعترف أن فلاناً موجود أبداً، وهذا مرضٌ خطيرٌ في النفوس من جانبين: جانب حب الشهرة، وجانب احتقار وازدراء الآخرين، وفيه مسة من مس الكبر.
حصل أن هشام بن عبد الملك كان يطوف بالبيت، ورأى زين العابدين بن الحسين بن علي وقد كان من العباد الزهاد الأئمة الأعلام الفقهاء ومن آل البيت، وكان الفرزدق في نفس ذلك المقام، فكانوا يطوفون حول البيت، فقال هشام بن عبد الملك: من هذا؟ وهشام يعرف أنه زين العابدين بن الحسين بن علي إلى آخر شيء، فالتفت الفرزدق قائلاً:
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم
هذا ابن خير عباد الله قاطبة هذا التقي النقي الطاهر العلم
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً فيغضى من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتسم
فتمنى هشام بن عبد الملك أنه ما ازدراه وما التفت إليه، لأن زين العابدين نال بهذا السؤال مدحاً ومكانة ومنزلة، وما كان من الذين يشتهون المدح أو الشهرة، لكن حينما تجد من يزدري في الحقيقة فذلك نابع من الغرور والكبر والحسد، ولله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله، وكما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
حينما يريد حاسد من الحاسدين فيه غرور أن يحتقرك وأن ينزل من مقامك، فيسوقه الله جل وعلا للكلام عنك ازدراءً، فإذ بالمقابل تجد في نفس المجلس من يذود عنك ويدافع، ويذب عن عرضك، فهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، إذاً فالذين يغترون بأنفسهم ويحتقرون الآخرين هم في الحقيقة لا يعودون بالاحتقار إلا على أنفسهم.(106/6)
عدم قبول النصح
ومن المظاهر التي تدلنا على وجود الغرور أن تجد الواحد منا لا يقبل النصح أحياناً، مثلاً: شاب مسبل ثوبه، وإسبال الثياب كما تعلمون الإصرار عليه كبيرة، وفعله لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) والحديث ثابت، فتأتي إلى شاب تقول له: يا أخي! أسعدك الله ومتع الله بك، ثوبك طويل مسبل -وذلك بينك وبينه، دون أن تفضحه على ملأ، بل تنصحه على انفراد- يقول لك: ليس بطويل! يا أخي! ثوبك طويل يسحب على الأرض تحت الكعب (ما أسفل من الكعبين ففي النار) يقول لك: لا، ليس بطويل، أنا خاص بنفسي، هذا ثوبي وأنا أدرى به.
أو تجد الآخر يقول: والله يا أخي! الخياط دائماً يتهاون بالثياب، لكن الخياط ما ألزمك أنك تلبس هذا الثوب بدليل لو لم تدفع له الأجرة إلا بعد أن يعدل هذا الثوب كما ترى لعدل أموراً كثيرة.
وآخر يقول لك: أنا عارف أن ثوبي طويل، لكن أنا ما ألبسه خيلاء ولا ألبسه تكبراً يعني: اطمئن، هذه نصيحة ينبغي أن تقبلها، يجب عليك أن تقبل النصيحة ولا عذر لك في ردها ورفضها، وإن رددتها، فهذا باب من الكبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس، قالوا: وما بطر الحق؟ قال: رده مع من جاء به، وغمط الناس هو احتقارهم) إذاً فرد النصيحة مرتبط بالكبر وباحتقار الآخرين وبالغرور أيضاً.(106/7)
عدم الخضوع للكبير والإجلال للعالم
كذلك أيها الإخوة من مظاهر الغرور الذي نجده كثيراً في أنفسنا وما أجمل الصراحة! كلٌ يسأل نفسه هل هذا يوجد فيه أم لا؛ سواء ما قلناه أو ما سنقوله؟ عدم الخضوع للكبير والإجلال للعالم وطالب العلم؛ تجد البعض يقول: لماذا أنتظر هذا العالم؟ أنا في خير، أنا عندي فلوس وعندي مال وأكل وشراب، في حين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة) هذا رجل شاب في الإسلام، فإن من إجلالك لله سبحانه وتعالى؛ أن تكرم شيبة شابت في الإسلام، بغض النظر عمن شاب في الإسلام على علم وعلى دعوة وعلى جهاد، وعلى الأمور الحميدة التي تشهد لصاحبها بكل خير وفضل وسابقة إحسان، فمن مظاهر وجود الغرور في النفس أن تجد هذا لا يخضع للكبير ولا يجل العالم، ولا يحترم كبير السن، وهذه مصيبة من المصائب.
الناس الذين يحبون لله وفي الله إذا كان لديهم شيخ من المشايخ الكبار الأجلاء، تجدهم هذا يسلم، وهذا يبدي مشاعره، وبعضهم ينظر من بعيد والله أعلم ما الذي في قلبه، كأنه ليس عنده استعداد أن يجل هذا الرجل الذي بلغ خمسين سنة أو بلغ ستين سنة.
وقد تكون المسألة أحياناً مسألة توازن فيما يتعلق بالمستوى الاجتماعي، أو من نفس الأسرة أو المنطقة، لكن ما هو الذي فضله علينا؟ وهذا أمرٌ قاد أبو جهل إلى أن يدفع الحق ولا يقبله، لما قابل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، قال: يا محمد! إني أعلم أن ما جئت به حق، ولكن ماذا نفعل إذا أطعمتم الحجيج وأطعمنا، وسقيتم وسقينا، وأكرمتم وأكرمنا، حتى إذا كنا وإياكم كفرسي رهان وتجافينا على الركب قلتم منا نبي! من أين نأتيكم بنبي؟ فبالمقابل نحتقره حتى يظهر من أسرتنا واحد، وفي تلك الساعة نرفع الرأس بأمر واحد، ومن خالط الناس ودقق في أحوالهم، وجد أن هذا موجود.(106/8)
كلام العامة
ومن الأمور التي فيها شيء من الغرور والكبر: كلام العامة يقولون: من عرفك صغيراً احتقرك كبيراً، وهذه عقدة موجودة عندنا، أما عند الغرب وليس إعجاباً بهم، إذا رأوا فيه منذ الصغر شيئاً من النباهة والفهم والذكاء، فتجد له عناية ومعاملة خاصة.
يوجد في أمريكا برنامج اسمه رعاية النابغين، النابغون وفيه من الذين يقيسون قدرات الذكاء العقلي في المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة المتوسطة، وفي المرحلة المتقدمة، فمثلاً: المرحلة الابتدائية فيها مائة ألف أو مليون طالب فيختار على عدد الأصابع من كل مدرسة من جاوز مقياس الذكاء العقلي عندهم حداً معيناً، وبالتالي يعطونهم عناية معينة خاصة بالنابغين، ثم بعد ذلك يفرغون لأبحاث تخص هذا المجتمع وتخص هذه الأمة، مكفيين في شأن أكلهم وشربهم ومعاشهم، والدولة مستعدة أن تقدم كل شيء، فالمهم أن نرعى هذا النابغ منذ الصغر رعاية خاصة؛ حتى ينتج لنا في المستقبل أمراً نستطيع أن نستفيد منه، وما القمر الصناعي الذي أطلقته إسرائيل قريباً ولا شك هو قمر تجسس ومحاولة جديدة لنقل المعلومات بأساليب متقدمة ومبتكرة، ولم يولد هذا القمر بين عشية وضحاها، بل ظلوا عشرين سنة في الأبحاث؛ ولد فيها علماء ومات علماء، ودخل أجيال وخرج أجيال في هذه الأبحاث، حتى خرجت إسرائيل بهذا القمر التجسسي الذي أطلقته.
والمسألة مسألة اعتراف بالآخرين وليست احتقاراً للآخرين، طائفة معينة من المجتمع ينظر إليها نظرة معينة فتعزل وحدها، ليست عزلة مقاطعة، تغزل في منهجها التعليمي؛ في معاملتها ودخلها في أمر معين من أجل أن تخدم مصالح الأمة خدمة متقدمة متطورة مبتكرة، فنحن أيها الإخوة! إذا استمرينا على مشكلة الغرور التي تفضي وتؤدي إلى احتقار الآخرين، فإننا لن نرعى نابغاً في مجتمعنا، ولن نقدم أحداً لكي يأتي يوماً ما فيعلو منبراً أو يقدم اختراعاً، أو يأتي بنظرية جديدة، وهذا خطر الغرور لا يعود على الفرد فحسب، بل ينقلب على المجتمع بأسره، لذلك فإن من علامة سلامة النفس من الغرور: أن يتمنى الإنسان الخير للآخرين ولو كانوا يفوقونه في سبيل خدمة أمته ومجتمعه، المهم أن الناس تقدم إلى الخير، أن الناس يرتقون بالأمة، أن الناس يقدمون أشياء نافعة للجيل والمجتمع، فهذا دليل صادق على عدم وجود الغرور المرتبط بالاحتقار والكبر وغمط الناس حقوقهم ودرجاتهم.
من الصور التاريخية الجميلة التي تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء بصفاء السيرة ونقاء السريرة والسلامة من الغرور: أن كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم ومعه ثلة من الصحابة يمشون في الطريق، فأوقفته عجوز فخضع برأسه وطأطأ وقال لها: ما حاجتك يا أمة الله؟ قالت: أنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وبالأمس يدعونك عمير، كنت ترعى إبل الخطاب.
انظروا عمق النصيحة وصدق المواجهة، وقوة قبول الحق في النفس وعدم الغرور، فسمع لها وطأطأ، ثم كلمته كلاماً طويلاً حتى شق ذلك على أصحاب عمر الذين وقفوا ينتظرونه، فلما انتهت وقضت حاجتها منه، عاد إلى أصحابه فكأنه وجد في وجوههم شيئاً، قال: [كأني أجد في وجوهكم ما أرى! أما تعلمون من هذه؟ هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا أسمع لها، هذه خولة بنت ثعلبة التي جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]] سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات، تقول عائشة: [جاءت المجادلة تحادث النبي صلى الله عليه وسلم، والله ما بيني وبينها ورسول الله إلا الستر، والله ما سمعت لها كلاماً وسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات] يقول عمر: [هذه المجادلة أفلا أسمع إلى امرأة سمع الله كلامها من فوق سبع سماوات] والحاصل أن عمر قد خضع وطأطأ برأسه لها وسمع كلامها.
قمة إذابة الغرور من النفس، لا يوجد غرور ولا يوجد احتقار للآخرين مهما كانت منازلهم ودرجاتهم، وبالمناسبة الذين يُقيّمون الناس بالسيارات والمظاهر، والأسر والمال والمراتب والمناصب تقييمهم فاسد، العبرة من حيث القرب والدنو والبعد من الله جل وعلا، وبمقدار التقوى والحسنات والصالحات: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) رب أشعث الرأس، أغبر الجسم، ذي طمرين: ثياب بالية أطمار ممزقة، مدفوع في الأبواب، يدق الباب فلا يقال له: تفضل، مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره.
إذاً أيها الإخوة: الناس لا يقدرون بملابسهم ولا بمظاهرهم ولا بمراتبهم ولا بمناصبهم، التقدير الحقيقي للناس هو بحقيقة مدى قربهم وبعدهم من الله، نعم إنزال الناس منازلهم أمر مطلوب، لكن التقييم الدقيق الشديد ليس فقط في هذه الملابس والمراتب والمناصب والأسر وغيرها.
في الحقيقة أيها الإخوة: يوجد احتقار من كثير من الناس لبني جنسه، والدليل على ذلك أن تجلس في مجلس ما، واطرح موضوعاً معيناً، تكلم في السياسة مثلاً، يقول لك: هؤلاء السياسيون أهل دجل وكذب لا يفهمون شيئاً، ولا يقضون حاجة، يكذبون على الناس؛ احتقار الآخرين وعدم تقدير الجهود بأي حال من الأحوال، اطرح موضوعاً آخر، تكلم مثلاً عن طائفة معينة، يقول: هؤلاء يتأخرون، لا يعطون الناس وجهاً، لا يتلفتون إلى آخره.
تعجب في كثير من المجالس أن تجد من الناس من لا يرضى عن أحد، أينما اتجهت بالحديث عن طائفة معينة في المجتمع، فهو ليس راضياً عن أحد أبداً كما يقولون: (لا يعجبه عجب، ولا الصيام في رجب) فهو ليس راضياً عن أحد أبداً، فمثل هذا الذي تجده دائم الاحتقار والانتقاد لكل فئة وطبقة من طبقات المجتمع، هذا في الحقيقة مصاب في قرارة نفسه بداء الغرور الذي جعله يحتقر الآخرين ولا حول ولا قوة إلا بالله.(106/9)
اعتزاز الإنسان بنفسه
كذلك أيها الإخوة من علامات الغرور: أن تجد الإنسان سريع الاعتزاز بالنفس، وتجده دائماً معتزاً برأيه ومعتزاً بنفسه، ويهمه أن يطبق الناس ما يقول، ويهمه أن تكون المشورة مشورته والقول ما يقوله والذي يُنَفَّذ هو ما رآه.
تجد الإنسان الذي هو مصاب بداء الغرور دائماً عنده اعتزاز شديد وقوي إلى درجة أنه لا يود الاستشارة ولا يستشير أحداً أبداً؛ لأن في الاستشارة شيئاً من طأطأة الرأس لمن تستشيره، والاستشارة أمر مطلوب، وقد مدح الله سبحانه وتعالى الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم بأن أمرهم شورى بينهم، وأمر الله نبيه أن يشاور أصحابه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] والنبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي، لكن لكي تتعلم الأمة أن المسألة ليست غروراً بالرأي ولا بالذات، وليست اعتداداً بالشخصية دون الآخرين، بل إذا كنت موجوداً فالآخرون موجودون، إذا كنت تسمع فالآخرون يسمعون، إذا كنت تبصر فالآخرون يبصرون، إذاً فلا بد أن يكون لهم نصيب من هذا القرار الذي سيكون منك، ولابد من الشورى، وبدون الشورى فإن هناك مظاهر أو إشارات تدل على وجود الغرور ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تجد الإنسان المصاب بداء الغرور لا يستشير إلا نفسه، أما الآخرون فلا يرى وجودهم، أما من سلم من هذا الأمر، فإنه يستشير في كل أمر يقول ابن الوردي:
لا تحقر الرأي يأتيك الحقير به فالنحل وهو ذباب طائر العسل
فلا تحتقر أحداً، ولو كان هناك أمر من الأمور وأردت بنفسي أن أعتد برأيه فبه، قد أحصل نسبة الصواب فيه (10%) لكن لو أنني اجتمعت بعشرة من أصدقائي وأصحابي، وقبل أن أقرر عملاً من الأعمال استشرت وأبعدت الغرور والاعتداد بالنفس بعيداً وجانباً، ما الذي يحصل؟ فلنقدر أن كل واحد منا تكلم لمدة عشر دقائق، نفرض أن نسبة اثنين إلى عشرة من الدقائق كلام سليم وما سوى ذلك ليس بصحيح أي: أن كل واحد أصاب الصواب أو وفق إلى الصواب في دقيقتين من مجموعة عشر دقائق ونحن عشرة إذاً فقد حصلنا عشرين دقيقة من الصواب، ولو قررت في نفسي فإني لا أملك إلا دقيقتين صواب، إذاً فالمشورة دلالة على عدم الغرور، والاعتداد بالنفس هي في الحقيقة من أعظم دلالات وجود الغرور بالنفس.
أيها الأحبة: القرآن الكريم كثيراً ما يتناول هذا الداء والمرض لكي يشعر الإنسان ألا قيمة له ولا وزن إلا بخالقه الذي أوجده من العدم، وهداه إلى الإسلام، وآتاه السمع والبصر والفؤاد، والعقل والقوة، ولولا ذلك لكان جماداً من الجمادات أو بهيمة من سائر الحيوانات، يقول الله جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ليست من قوتك ولا من ذاتك ولا رصيدك: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] إذاً بأي شيء نغتر؟ الأمر كله لله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] لا تعجب بنفسك:
فقل لمن يدعي في العلم معرفة علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
بعض الناس يغتر إذا عرف مسألتين أو ثلاثاً، وقد يصاب بالغرور لأنه يحدث عامة الناس، لكن لو جلس أمام العلماء وطلبة العلم الكبار لم يجد إلا كلمة صواباً وكل كلامه أصبح خطأً، إذاً فلا يغتر الإنسان أبداً: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] هناك من هو أعلم منك، وهناك من هو أقوى منك في هذا الجانب العلمي فلا تغتر بنفسك أبداً، ثم أيضاً: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] فلنفرض أنك نلت العلم، فهل نلت العلم كله؟ لا، ما أوتيت من العلم إلا قليلاً.
ثم لو عرجنا أيضاً وعدنا إلى شيء من الصور الجميلة التي ذابت فيها قضية الغرور ذوباناً عجيباً بحيث لا وجود له بتاتاً، أو لم يوجد هذا الغرور أساساً على الإطلاق، تعرفون أنه في مراحل النصر العسكري يكون الإنسان مزهواً غاية الزهو بالنصر، خاصة إذا كان عدوه صلب المراس شديد القتال والعداوة طويلة، كم دامت العداوة بين رسول الله وبين قريش؟ منذ أن نزل عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وصدع بالدعوة إلى أن فتح مكة وهو في حرب مريرة ومكائد وتدبير من قومه وأهل أرضه وتربته، فلما أن فتح الله له ذلك الفتح المبين ودخل مكة صلى الله عليه وسلم، هل سل السيف وأخذ يقول: إني أرى رءوساً قد أينعت وحان قطافها؟ لا ما قال ذلك صلى الله عليه وسلم، دخل مكة مطأطأً رأسه قال الرواة: حتى أن رأسه ليكاد يمس قتب الرحل من شدة خضوعه صلى الله عليه وسلم لله سبحانه وتعالى وعدم الزهو أو الغرور أو الإعجاب.
والناس في أمر عظيم لقد ملك أمرهم محمد الذي قاتلوه عشرين سنة، ترى ماذا سيفعل بهم؟ فلما وقف الناس وكلهم لا يدري من سيقتل، من سيأخذ ماله أولاً، التفت إليهم صلى الله عليه وسلم، قال: (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً يا محمد! أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) وهذا أمر ربما تظنونه سهلاً، لكن جرب أخي نفسك في عداوة مع أحد البشر، تجد أنك تتمنى اللحظة التي يقع فيها بين يديك، تقول: يا ليت القرار هذا بيدي حتى أنفيه من الخدمة المدنية تماماً، وأسحب منه الجنسية بالكلية، وأخرجه خارج المملكة.
لكن الحمد لله أن أمر البشر بيد رب البشر وفي أيدي أمة عادلة وإلا فالبشر ظلمة:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلم
من ذا الذي يسلم من الغرور خاصة في لحظة قمة النصر مع عدو طال مراسه، أنت تلاحظ أن هذا إنسان تكرهه وتبغضه، تجد الدنيا ما تسعك وما تسعه، وقديماً قيل: القبر يسع متحابين والدنيا لا تسع متباغضين، تجد قلبك يضيق عليه وإن ذكر في بلاد وأنت في بلاد أخرى.
إذاً فيا أيها الإخوة! هذه صورة جميلة من الصور النبوية التي علمنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ألا نغتر حتى وإن ظفرنا بأعدائنا أو كنا في أعلى مراحل ودرجات الانتصار على الأعداء.
كذلك أيها الإخوة من المواقف النبوية الجميلة التي تعود الإنسان على عدم الغرور وتعوده على لين الجانب وخفض الجناح للآخرين: موقفٌ حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان ذات يوم يوزع غنائم حنين، وكانت كثيرة جداً من السبي والإبل والغنم، فأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس التميمي مائة من الإبل، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة من الإبل، وكان إعرابياً من الأعراب ينظر إلى الغنم لها ثغاء في واد من الأودية، وذلك الأعرابي يقلب النظر والطرف معجباً بهذه الغنم في الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيسرك أن لك مثل هذا الوادي غنماً؟ قال: أي نعم يا رسول الله! قال: فهو لك) كاد يجن هذا الأعرابي، وأخذ يصيح بأعلى صوته: يا قومي اسلموا فقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
وجاءه أعرابي وكان على النبي برد نجراني غليظ الحاشية، فجذب النبي صلى الله عليه وسلم جذبة شديدة حتى أثرت في رقبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فما الذي حصل من النبي صلى الله عليه وسلم؟ التفت إليه مبتسماً، فقال الإعرابي: يا محمد! أعطنا من مال الله الذي آتاك، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مال أبيك، ومع سوء التصرف فأنت ترى العبارة الجافة، وهكذا كان شأن الأعراب الحاصل أنه التفت إليه صلى الله عليه وسلم وأرضاه بكلام وأعطاه ما أعطاه، وقال: (لو كانت الدنيا كلها بين يدي ما وجدتموني بخيلاً عليكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(106/10)
تمييز النفس عن غيرها
كذلك أيها الإخوة من الأمور التي يلاحظ فيها الغرور عند كثير من الناس: أن تجده يحاول تمييز نفسه بشيء معين، وتجد حب الكلام عن الأنا والذات، وبعضهم تمل مجلسه من كثرة ما يتحدث عن نفسه، ويحاول أن يتكلم بطريقة فيها مبالغة لكي يميز نفسه عن سائر الناس، فنقول: ما الذي يدعوك إلى هذا؟ أنت بشر من سائر البشر، إن كنت تتكلم عن خير وعبادة فحديث الإنسان عن نفسه في العبادات مدخل إلى الرياء، تكلم عن الحق، تكلم عن الخير، تكلم عن مكارم الأخلاق، لكن تمييز نفسك حتى تنظر إلى الآخرين وتضعهم في درجة غير لائق، تجد مثلاً بعض الناس يقول: والله أنا ما أعالج إلا في تخصصي، ونحن ما نشتري ملابسنا إلا من المكان الفلاني، وأنا ما أفصل إلا عند الخياط الفلاني، أنا بصراحة ما يعجبني إلا البنز فقط، أي سيارة ثانية لا أستطيع أن أقودها، فهو مغرور بنفسه غروراً عجيب جداً، ويحاول أن يميز نفسه بطريقة ممقوتة، وإن كان الجالسون يهزون رءوسهم أمامه إعجاباً ظاهرياً وهم في حقيقة الأمر يحتقرونه ويمقتونه.
إذاً محاولة تمييز النفس بشيء دون سائر الناس من علامات الغرور ولا حول ولا قوة إلا بالله، النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل، فقال: (يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: أبوك في النار، فولى الأعرابي يبكي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا أعرابي! أبي وأبوك في النار) يعني: المسألة أني وإياك في أمر واحد، فمحاولة تميز الإنسان بشيء من أجل أن يظهر وضع نفسه، أو مكانة نفسه بدرجة معينة عن الآخرين هذا في الحقيقة من قمة الغرور، وهذا والله ملاحظ وموجود عند كثير من الناس.(106/11)
أسباب الغرور
ما هي أسباب الغرور أيها الإخوة؟ من أسباب الغرور: الشهرة، والشهرة الرياضية بالذات من أسباب الغرور، نجم الكرة الفلانية لا يلتفت ولا يريد أحداً يسلم عليه.
هداف الدوري لهذا العام فلان بن فلان، لماذا لا يسلم، وما هو الذي ميزه عن عباد الله أجمعين؟ أليس سيقف مع سائر الخلائق يوم القيامة؟ أليس الموت سيأتيه كما سيأتينا؟ فما الذي ميزه؟ فالشهرة سواءً كانت في الجانب الرياضي، والحديث يكون عليها مناسباً ما دمنا في نادي النصر.
الشهرة المالية: إنسان مشهور بالمال والثراء، تجد كثيراً من الناس وهذا للأسف موجود بكل صراحة، ومن خالط الناس لاقى منهم نصباً، يعرف هذا الأمر الذي يخالط طبقات الناس على مختلف مستوياتهم الفكرية والعلمية والمادية والاجتماعية والوظيفية، فتجد الإنسان الذي في الطبقة الرابعة عشرة أحياناً لا يريد أن يسلم، لأن هذا في السادسة والخامسة، وكأنه لا يعلم أن الله قادر على أن يميت كل ليلة واحداً، وأن الطبقة الرابعة عشرة سيحل فيها شخص محل الثاني، أقصد أنه: ينبغي للإنسان ألا يغتر بشيء زائل، وإن كان هناك من شيء نرتفع به ونرتقي به، فهو أمر باق، ولا يبقى للإنسان ذكر إلا ما كان بالدعوة إلى الله والطاعة والانقياد والخضوع لله سبحانه وتعالى.
شهرة المنصب، شهرة المستوى الاجتماعي، كونك من أسرة معينة من جهة معينة تنظر للناس، لكن: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) أتدرون من أغنى الناس؟ أتدرون منهم الملوك؟ الذين يقنعون بما آتاهم الله ويستغنون عن الناس، يستوي أغنى الناس وأفقر الناس إذا كان هذا الفقير غنياً عن هذا الغني ولا يمد يده إليه.
لماذا ساد الحسن البصري أهل البصرة؟ قالوا: احتاجوا لما عنده من العلم واستغنى عما عندهم من المال، فكن غنياً عن الناس تكن أغنى الناس، وإذا احتاج الناس إلى علمك وفقهك ومشورتك وفزعتك ونحو ذلك، فستكون سيداً عليهم وإن كنت من أفقرهم.
إذا أيها الإخوة: كل شهرة زائلة إلا ما كان مرتبطاً بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وبالفقه في دين الله، فكم نجم رياضي مر علينا في تاريخ النجوم والرياضة ولكنه يلمع شهراً شهرين ثم ينتهي، وكم نجم مالي لمع فقيل: فلان بن فلان رأس ماله ملياران، ولكن مات وانتهى، والناس تشمت في ورثته حين يتقاتلون على قسمة المال.
كم رجل تولى منصباً كبيراً ثم انتهى.
إذاً كل مظاهر الشهرة تنتهي وقد تعود وبالاً وضلالاً على صاحبها:
إن أهنا عيشةٍ قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
يبقى الحساب والعقاب ويبقى الموقف بين يدي الله جل وعلا على هذه الشهرة التي وقفت بها هل سخرتها في طاعة الله؟ هل سخرتها لدعوة إلى الله؟ هل بذلتها لله سبحانه وتعالى أم بذلتها لكي تفتح لك السيارات، وتعطيك الكرة توقع عليها، وتعطيك الفنيلة تختم عليها وإلى آخره؟ الشهرة التي تبقى في الحقيقة هي الشهرة المرتبطة بدين الله، فبإمكانك أن تكون لاعباً مشهوراً في دنياك وبعد مماتك إذا ربطت هذه الشهرة بطاعة الله، يأتي لاعب في دولة معينة، فيؤذن ويصدح ويقول: الله أكبر في تلك البلاد الكافرة، نعم هذه شهرة أوجبت له ذكراً حميداً في حياته وبعد موته، يأتي لاعب يصلي في الملعب والناس يقفون ويصلون معه، فيقتدون بصلاته، هذه أوجبت له ذكراً حميداً في حياته وبعد مماته، هذه هي الشهرة الباقية، أما الشهرة الزائفة الزائلة والضعيفة المؤقتة فسوف تنتهي ويبقى عليك حسابها.(106/12)
احتقار الذات
الشق الثاني وهو الاحتقار: الشباب بين غرور النفس واحتقار الذات: كما أننا نجد في مجتمعنا صوراً كثيرة متعددة من شباب وشيب وصغار وكبار على اختلاف أعمالهم الإدارية والميدانية والوظيفية من أصيب بدار الغرور ففي المقابل نجد عينات كثيرة، بل أعداداً كبيرة من الذين ابتلوا ولا حول ولا قوة إلا بالله باحتقار الذات، ولا شك أن أصل الإنسان مجرداً عن الكرامة الإلهية حقير، الذي يغتر ينبغي أن يذكر بأصل الحقارة؛ لأنه اغتر بجانب مادي بحت، فإذا اغتر بالجانب المادي، فنقول له: أين منشأ هذا الجانب المادي؟ {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات:20 - 21] {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7] نذكره أيضاً بأصله من حيث التكوين والخلقة؛ لكي يعرف إذا كان يغتر بهذا العظم واللحم والجسم، والطول والعرض والمال؛ نذكره أيضاً أنك مرتبط بماء مهين، فما خلقت من يواقيت الجنة، ولا من جواهر الفردوس، ولا من لآلئ العطش، أنت مخلوق من ماء مهين، ما هو الأمر الذي تجد لنفسك به علاوة على الناس؟ يا بن آدم تقتلك الشرغة، وتدميك البقة وهي بعوضة وحشرة ضعيفة جداً تقع على يدك، ثم تدخل هذا الأنبوب الماص في جسدك وتمص الدم، ثم فجأة تلتفت فلا تجدها وتجد الدم على يدك.
تقتلك الشرغة وتدميك البقة، وتحمل في جوفك العذرة، إذاً فلا تتكبر، أنت تحمل في بطنك مثلما يحملون إذا كنت تنظر إلى مقياس نفسك من هذا الجانب المادي البحت.
وأنت بعد ذلك جيفة قذرة، بعد الموت لولا أن الله شرع الدفن لكان أحبابك يتضايقون من وجودك بينهم، تصبح جيفة قذرة فعلام الكبر إذن؟(106/13)
أنواع الاحتقار
الاحتقار قد يكون مباشراً وقد يكون بسبب، ومن الناس من يكون عنده ضعف نفسي عجيب جداً مع ضعف الإرادة، تجده دائماً يحتقر نفسه احتقاراً عجيباً جداً، إذا قيل له: احضر هذه المحاضرة، قال: أنا لا أقدر، أي: لا يقدر أن يقف بين الناس، من أنا حتى آتي هذه المحاضرة؟!! يا أخي ادع الله جل وعلا.
أنا إنسان ضعيف مسكين مغلوب على أمري لا أستطيع.
يا بن الحلال تسبب في هذه الدنيا المباركة {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15].
ما أصلح لشيء.
تجده دائماً يحتقر نفسه احتقاراً مباشراً.
وأحياناً قد يكون الاحتقار بسبب أنه أعمل جهده وجوانب من نفسه في أمور رديئة خبيثة سببت له احتقاراً عظيماً.
وتلاحظ أن كثيراً من الذين يحتقرون أنفسهم عندهم تحطم في الأعصاب، الإرادة مسلوبة، تعطيه أملاً معيناً ولو مدة أسبوع أو شهر أو ستة أشهر أو سنة، ما عنده أدنى أمل أبداً، وبعد ذلك تجده لا يدرك دوره في الحياة إطلاقاً، يقول: أنا ما لي مكانة، أنا ما لي منزلة، والشيطان يغذي وينمي هذا الاحتقار نماءً عجيباً إلى أن يصل الإنسان إلى أن يقول: ما دوري أنا في الحياة؟ لماذا لا أرتاح؟ لماذا لا أنتحر؟ تجده دائماً في قلق وفي شرود وفي عذاب عجيب جداً جداً، وهذا الشيطان يحقر من نفسه وينقص من نفسه تجاه نفسه، وفي النهاية تجده يقتل نفسه وينتحر.(106/14)
الإسلام يزيل احتقار الذات
مرض الاحتقار خطير جداً، وإذا بليت الأمة به بلاءً، فذلك يجعلهم يعجبون بالأعداء ويتمنون القرب منهم والذلة بين أيديهم والخضوع والخنوع لهم، وفي المقابل لا يريدون أن يقدموا أو يؤخروا بالنسبة لهم في أي حال من الأحوال.
إن دين الإسلام قد بعث هذه الأمة بعد أن كانت أمة تأكل خشاش الأرض، بعد أن كانت جاهلة فقيرة مريضة، أعزها الإسلام، فإذا بك تجد من نفسك احتقاراً للذات! انظر ما الذي رفع أمة حقيرة، ففتحت قصور الأكاسرة والقياصرة، أمة سيوفها مثلمة، خيولها قصيرة، ملابسها بالية، هددت وروعت العالم وبنت حضارة في مدة قياسية، وحطمت حضارات كان لها من العمر القرون الطويلة، إذاً ما السر الذي رفع هذه الأمة؟ فالحق به وأدركه، وابحث عنه وتأمله، وقم به لعلك أن تصل إلى ما وصلت إليه تلك الأمة.
والقرآن الكريم يرفع من شأن هذه الأمة لكي يشعر الإنسان بالعزة في النسبة إليها، فأنت لا تحتقر نفسك وأنت تنتسب إلى الله الذي خلقك وتنتسب إلى هذه الأمة الإسلامية وتنتسب إلى الرسالة التي أنت مكلف بأوامرها ونواهيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] كنتم خير أمة وهذا شرف ما بعده شرف، فضلنا الله وجعلنا من أمة محمد وجعل لنا الخيرية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ومعنى وسطاً أي: عدولاً {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
قد رضي الله شهادتنا على سائر الأمم {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] قد رفع الله من مكانتنا ومن مكانة أمتنا.
النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يحرص على أن يشعر الإنسان باستقلاليته الشخصية وألا يحتقر نفسه، (لا يحتقرن أحدكم نفسه) كما جاء في الحديث، وفي الحديث الآخر: (لا يكون أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساء الناس أسأت، ولكن عليه أن يحسن إذا أحسنوا، وألا يسيء إذا أساءوا).
الحاصل أن النصوص النبوية والآيات القرآنية كلها تحث الإنسان أن يستقل بشخصيته، وفي الحقيقة لا يوجد في الإسلام احتقار للذات، كما لا يوجد في الإسلام العبارة المشهورة عند كثير من الناس فناء الذات أو تناسي الذات أو تجاهل الذات، هذا غير موجود في الإسلام على الإطلاق، بعض الناس يقول لك: فلان متجاهل لذاته يمدحه، أو يقول لك: فلان شمعة يحرق نفسه ليضيء للآخرين، المسلم يضيء طريقه ويضيء للآخرين طريقهم، المسلم ينفع نفسه؛ لأن الذي يحرق نفسه من باب أولى ألا يقدم للآخرين نوراً، الذي يحرق نفسه لا يقدم للآخرين إلا إحراقاً، فاقد الشيء لا يعطيه، إذاً لا يوجد في الإسلام إلا تحقيق للذات، واعتراف المسلم بدوره ومكانته في الحياة، ولا يوجد اعتداد بالذات ولا يوجد تجاهل أو نسيان للذات، بل يوجد تحقيق للذات، ومن حقق ذاتها؛ فإن تحقيق الذات هذا يودي به في نهاية المطاف إلى أن يكرم أمته ومجتمعه وأن ينفعهم، هذا نوع من الاحتقار المباشر وتكلمنا عنه قبل قليل.(106/15)
أسباب الاحتقار
الاحتقار له أسباب عديدة منها:(106/16)
ابتذال النفس
أن يبتذل الإنسان نفسه، تجد بعض الشباب عنده احتقار عجيب لنفسه؛ لأنه ابتذل نفسه ابتذالاً عجيباً في جوانب عديدة، فقد يكون ابتذل نفسه في الجانب الجنسي، فتجده فتح على نفسه المراهقة وبلا حسيب ولا رقيب، فوقع في الفواحش والمنكرات والآثام إلى الحضيض، وتجده لا يتورع في سفره إلى الخارج فيفعل فيه كل ما يفعله الشاذون والزناة وغيرهم.
وإذا وجد فرصة للمعصية والفاحشة والشذوذ واللواط لا يفوتها أبداً.
هذا أيها الإخوة يورث صاحبه احتقاراً للذات، فلا يستطيع أن يرفع رأسه، تجده دائماً يطأطئ ويطنن برأسه؛ لأنه هو الذي احتقر وابتذل الجانب الجنسي في نفسه، فهذا الابتذال سبب له احتقار نفسه، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [إنهم وإن هملجت بهم البغال وطقطقت بهم البراذين؛ إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] فتجد الذين يبتذلون أنفسهم ابتذالاً رخيصاً شاذاً في الجنس والفساد واللواط وغيره، والله لو ركب أطيب مركب وسكن أكبر مكان، فإنك حينما تقابله تجد في وجهه ذلة.
فمن ابتذل نفسه فإنه يحتقرها ولا يعرف لنفسه قيمتها، ومن ثمَّ فإن الإنسان يشعر باللذة والسعادة والعلو إذا رفع نفسه عن الابتذال.
وأدنى درجات الابتذال ابتذال النظر: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس مسموم، من تركه مخافتي أورثته إيماناً يجد حلاوته في قلبه) لأنه لم يبتذل النظر، وفي المقابل عزة وحلاوة وطمأنينة عالية في النفس.
فيا أيها الإخوة: اعلموا وأدركوا هذا الأمر إدراكاً جيداً لكي تخبروا به من يقعون في هذه الفواحش والمنكرات، قولوا لهم: إن انفتاح الإنسان على ما يشتهي من الملذات والمنكرات لا يعني أن يكون محققاً للسعادة، وكونه محققاً لشهوات الذات، فهو يحفر لنفسه قبراً تحت قبر تحت قبر يهين نفسه في قاعه.(106/17)
ابتذال الوقت
كذلك -أيها الإخوة- من أسباب احتقار النفس: أن يبتذل الإنسان وقته، تجد الإنسان يبتذل وقته، فيلعب ليلياً البلوت من الساعة الثامنة ونصف إلى الساعة الواحدة، يقول ابن هبيرة:
والوقت أعظم ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
الوقت ثمين جداً، وهذا مسكين عنده ابتذال شديد للوقت، ويضيق صدره إذا لم تجتمع (الشلة) ذاك اليوم، يذهب يبحث عنهم فلا يجدهم، ينادي فلاناً ببوق السيارة، ويدق بابه، ويذهب إلى فلان ويذهب إلى فلان، وأخيرًا يعود إلى البيت وصدره ضيق، ونفسه منكسرة، لقد وجد احتقاراً حقيقياً في النفس؛ لأن الإنسان إذا كان في لحظات العزة يجد سعادة، وفي لحظات الأنس يجد رفعة، لكن في لحظات احتقار الذات يجد انكساراً وضعفاً، فهذا مسكين ابتذل وقته، فمن ثم أفضى إلى أن يحتقر ذاته فعاد منكسر البال، وهذا شأن كثير من شبابنا نسأل الله أن يمن عليهم بالهداية.(106/18)
ابتذال العقل
كثير من الناس تفكيره سطحي حتى وإن بلغ ثلاثين أو أربعين سنة، أو حتى ولو كان جامعياً، عندما تناقشه في مدركات عقله وفي أمنياته، يقول: أتمنى سيارة بورش تأتي من ألمانيا.
ثم ماذا؟ وأتمنى قطعة أرض.
ثم ماذا؟ وأتمنى زوجة.
ثم ماذا؟ ما أريد شيئاً! أماني ضعيفة وهابطة، العقل مبتذل في الحقيقة، ولذلك أصبحت الأماني على قدر هذا الابتذال، لكن الإنسان الذي همته عالية وكبيرة، تقول له: ماذا تتمنى يا أخي؟ فيقول: لا تكفيني سيارة بورش، أتمنى أن يسخر الله هذه الأموال في خدمة الجهاد والمجاهدين.
أتمنى أن أكون غنياً عن الناس بما آتاني الله، مستغنياً بعلم الله وفضله، نافعاً لهذا المجتمع، مؤدياً دوراً مهماً يذكرني الناس به بعد موتي، لا حباً في الثناء والشهرة، بل طلباً للدعاء والذكر الصالح؛ لأن الخلق هم شهود الله في هذه الأرض:
إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
وأتعب الناس من جلت مطالبهم وإنسان همته علية ما يكفيه:
ولو كان ما أسعى لأدنى مذلةٍ كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
المسألة لست مسألة عَرَضٍ قليلٍ من الدنيا، فالمسلم الذي لا يحتقر ذاته ولا يبتذل عقله؛ تجدون همته عالية، ليست الهمة محدودة، وكثير من الناس للأسف همته ضعيفة ومحدودة جداً، وذلك يدلك على حجم التفكير.
أذكر أن شاباً كنت في مقابلة جادة معه، قلت له: يا أخي الكريم! ما هي أمنيتك؟ قال: أفتح سوبر ماركت، آخر ما يفكر فيه أن يفتح سوبر ماركت! هذه همة شاب؟! لا أقول: إنه عيب أن تفتح سوبر ماركت، لكن ينبغي أن تكون الهمة أعلى، قد تفتح سوبر ماركت، تفتح متاجر، تفتح محلات، تفتح مؤسسات، مباني، إنشاء، تعمير، لكن هذه وسيلة لغاية أعلى وأسمى ينبغي أن ترفع نفسك إليها، إذا لم تجعل لنفسك غاية وهدفاً تسعى وتتمنى أن تحققه في يوم من الأيام؛ فما هو دورك في هذه الحياة؟ الناس في هذا العالم كثر ولكن وكما قال إبراهيم بن أدهم:
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
وباقي الخلق هم همج رعاع وفي إيجادهم لله حكمه
فأنت إذا لم يكن لك شأن ومكانة وعلو منزلة فلا تحتقر نفسك، اعترف بوجودك، وحقق ذاتك في هذا الوجود؛ لكي لا تكون من الذين هم من سقط المتاع أو من الذين لا يعدون بأي حال من الأحوال.
إذاً أيها الإخوة الاحتقار من جانبين: احتقار مباشر؛ نتيجة إحباط أو نتيجة ضعف نفسي، وهذا قد يقول له إبليس: يا أخي لماذا لا تريح نفسك وتنتحر وتريحنا منك؟ وقد يفعلها، وقد فعلها كثير من الناس.
وفي الجانب الآخر يكون الاحتقار بسبب ابتذال النفس جنسياً، وبسبب ابتذال الوقت، وبسبب ابتذال الفكر.(106/19)
علاج الاحتقار(106/20)
شغل الوقت بالنافع
من الأمور التي ترفع هذا الابتذال: أن يحرص الإنسان على إشغال وقته بالنافع، والحقيقة أنه لا حد لإشغال النفس بالنافع، الأمور النافعة كثيرة جداً، وانظر هوايتك فوجهها توجيهاً نافعاً، وتقدم وانفع بها، أنا أعرف شاباً تخصصه فيزياء، لكنه أشغل وقته بالأمور النافعة في مجال الكمبيوتر لأنه هوايته، وبعد ذلك أخرج برنامج المواريث عبر جهاز الكمبيوتر، فأنت يا أخي الكريم لابد أن توجد عندك همة، ولا بد أن توجد عندك موهبة، وتجد في المقابلات الفنية إذا سئل أحد الفنانين: الأخ الفنان الموسيقار الكبير! لو سمحت من الذي اكتشف الموهبة الفنية الموجودة فيك؟ قال: في الحقيقة كان محمد عبد الوهاب أو كان فلان أو فلان هو الذي اكتشف هذه الموهبة فيَّ، أي: أنه كان يجهل الموهبة الموجودة فيه، وهذا في الحقيقة قد يصدق، ونقولها لكثير من الشباب: فيكم مواهب دفينة ومطمورة، ويوجد في جنباتكم طاقات معطلة، لو بحث الإنسان عن نفسه لاستطاع أن يكتشف أن لديه جانباً سيبرز فيه وسينتج فيه، وسيحقق فيه ما لا يحققه غيره، ولذلك فإن الله فاوت بين الناس في المدركات والدرجات والمستويات؛ لكي تكتمل البشرية بهذا التسخير المتبادل.(106/21)
حسن اختيار الصحبة
كذلك من الأمور التي تجعل الإنسان يبعد عن نفسه احتقار الذات: أن تبحث لنفسك عن صاحب لا يحييك بلعنة، ولا يكلمك بكلام خبيث، ولا يحدثك بعبارات ساقطة، ولكن هذا شأن الكثير من الشباب في مجالسهم للأسف، فلا تجد أسباب الاحترام في مجالسهم أبداً.
فعليك أن تبحث من جديد عن صحبة طيبة تبعد جانب الاحتقار، فتجد الفرد فيها حينما يقابلك، يقابلك بالبشاشة، يصافحك، يلتزمك، يعانقك، يسأل عن أحوالك؛ ماذا قرأت البارحة؟ رأيت الخبر الجميل في المجلة الفلانية عن الجهاد؟ تجده يحدثك بأمور عالية جداً، ليس عن آخر أغنية، وكم سجلوا من هدف؟ وأنا لا أعترض بهذا على الرياضة على أية حال، لكن أقول: تجد الاهتمامات محصورة في هذه الجانب فقط؛ سمعت الشريط الفلاني، ما سمعت الشريط الفلاني، ما خرج الفيلم الفلاني، وهذا غاية مسعاهم من العمل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فحينما يكون لك جلساء صالحون فإنهم يرتقون بمستواك، وأنا ألاحظ هذا جيداً، تجد شاباً عادياً أو من الشباب الذين أسرفوا على أنفسهم بالذنوب والخطايا، ثم يمن الله عليه بالجلساء الطيبين الصالحين، وبعد مدة تلاحظ مشيته تعجبك، ومظهره وملابسه وطريقته، تجد الرجل تغير حتى في أسلوب كلامه، لأن الرجل وجد من يرتقي به، ووجد من يطرد عنه احتقار الذات، وفي الحقيقة حتى هو وإن لم يشعر باحتقار الذات إلا أن سلوكه وتصرفاته دالة على احتقار ذاته، لكن لما منَّ الله عليه بالهداية وبالجلساء الصالحين الصادقين، وأكرمه بهذه الدرجة العلية تغير أسلوبه، وتغيرت هيأته وطريقته في ذهابه وإيابه وخطابه إلى آخر ذلك.(106/22)
عاقبة إضاعة طاقات الإنسان
الذين يضيعون الطاقات الموجودة في النفس الإنسانية هم بهائم.
الذين يصرون على إهدار الطاقة الجنسية والطاقة العقلية والأوقات، ومختلف الطاقات الموجودة في هذا البدن؛ الذين يضيعونها هم والله لا يكونون إلا كالبهائم، ولذلك تجد في مواضع كثيرة من كتاب الله مثل قول الله جل وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] هناك سمع راقٍ ولكن لا يوجد عقل وتدبر على مستوى، إذاً ما هي محصلة الأمر؟ {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} [الفرقان:44] وكذلك قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] وقول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12] وقول الله جل وعلا: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:18] الذين يعطلون وسائل العلم والمعرفة بالنفس وقد قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] سمعك وبصرك وفؤادك وعقلك هي آلات التعلم والتعليم والإنتاج والابتكار فلا تضيعها، فمن ضيعها وأصرَّ على ابتذالها في جوانب ناقصة وهابطة، فوالله ليكونن كالبهيمة، بل إن البهائم قد تنفعنا ولا تضر، وذلك قد يضر ولا ينفع ولا حول ولا قوة إلا بالله!(106/23)
سبب احتقار الشباب للنفس
ختاماً أيها الإخوة نقول لبعض الشباب: لماذا تحتقر نفسك؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها أمر دينها).
لماذا لا يكون أحدكم هو المجدد وليس ذلك أمراً عجيباً، ولا على الله بعزيز أن يكون من بينكم مجدد، ليس على الله بعزيز أن يكون أحد لاعبي نادي النصر هو مجدد الأمة في يوم من الأيام.
إذاً أيها الإخوة: لماذا نحتقر أنفسنا؟ لماذا أولئك يعجبون بأنفسهم إعجاباً بليغاً وهم كفار، والمسلم وهو على حق يذل نفسه ويحتقرها ولا يرى لنفسه دوراً ولا مكانة؟ والبعض قد تحدث له صدمة تهزه حتى يبتعد عن الاحتقار إلى تحقيق الذات، ومن أولئك الإمام الطحاوي الذي كان في حلقة مجلس، وكان شيخ تلك الحلقة هو خاله أخو أمه، فكان يجلس بجوار خاله، وكان خاله يشرح ثم يسأله: فهمت يا ولدي؟ قال: ما فهمت، فضرب على كتفه ذات يوم، وقال: قم، أنت لا تصلح لشيء، فقام ذلك العالم النحرير، قال: أنا لا أصلح لشيء؟ ثم طلب العلم حتى انتهت إليه إمامة الدين في زمانه، وجلس ذات يوم في حلقة خاله، وقال: أين خالي ليرى ذلك الذي لا يصلح لشيء.
فأنت يا أخي قد يقابلك من يقول لك: أنت لا تنفع في شيء، أنت لا تصلح لشيء، أنا أذكر شاباً قابل مدير مدرسة أو شيء من هذا، وقال: أنت ما تصلح حتى خباز (طردة شنيعة للأسف!) أخبرني بها وأدركها جيداً، فاستمر حتى أنهى دراساته العليا كاملة عقب هذه الكلمات.
فيا إخواني: ينبغي ألا تكون عبارات الآخرين المسلطة علينا سبباً في احتقار ذواتنا، أنت أدرى بنفسك: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] مهما حاول الآخرون أن يحتقروك، أو أن يغضوا من شأنك، فأنت أدرى بنفسك درايةً عجيبةً دقيقة، ولكن إياك والغرور، ولا تحتقر نفسك بأي حال من الأحوال.
أيها الإخوة! أقول: ينبغي ألا نحتقر أنفسنا، وينبغي أن يظهر من هذه القاعة عدد من الدعاة والخطباء والمصلحون في هذا النادي وفي المجتمع وفي أماكن عديدة، ينبغي ألا نستسلم للشيطان، وينبغي أن نحقق ذواتنا في مجتمعنا، ينبغي أن نعرف دورنا في الحياة، نحن -أيها الإخوة- ما خلقنا لكي نأكل ونشرب: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] جهاز هضمي، وجهاز عقلي، وجهاز تنفسي، وعروق وشرايين، وقلوب وأفئدة، هذا الإنسان قد أودع الله فيه أعجب مخلوقاته ودقيق صنعه سبحانه! ما أودع الله فيك هذا الأمر إلا لسرٍ عظيمٍ جداً ألا وهو أن تكون عامراً لهذه الأرض، وأن تقوم بعمارتها على الوجه والجانب الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فينبغي ألا يحتقر أحد نفسه، ومن ابتلي بشيء من هذا، فليتذكر قول القائل:
دواؤك منك وما تشعرُ وداؤك فيك وما تبصر
وتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الكبير
لا تحتقر نفسك، بل أنت كل شيء إذا منَّ الله عليك بالهداية وأكرمك بالاستقامة والملازمة واتباع كتابه وسنة نبيه، ولا أود أن أطيل أكثر من هذا، فإن الإخوة قد أرسلوا لي كرتاً أصفر أو أحمر ما أدري ماذا تسمونه، المهم أنه حان وقت الصلاة بعد قليل.
وأختم هذه المحاضرة بأن أسأل الله جل وعلا أن تكون خالصة لوجه، فهذه نفثات من محب لكم في الله، ومن محب للأندية الرياضية خاصة أن تعود على أنشطة اجتماعية وثقافية ورياضية، وأن يعود التوازن إليها من جديد، وأن تتميز أنديتنا تميزاً، فهذه نفثات ميسورة إن وافقت فيها حقاً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان فيها خطأ فمن نفسي والشيطان.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(106/24)
الأسئلة(106/25)
حكم التعصب للأندية
السؤال
هناك بعض الإخوة هداهم الله متعصبون لبعض الأندية لدرجة أنهم يطلقون مثلاً على نادي الهلال: الاتحاد السوفيتي، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنا أعرف حقيقة لماذا كتب هذا السؤال، لأننا في نادي النصر والكلام يتعلق بنادي الهلال، لكن وليكن ما يكن، الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
يا إخواني! ليس هناك شيء يمنع الإنسان من أن يمارس الرياضة، الرياضة في الإسلام كما تعلمون وسيلة لا غاية، ما هناك شيء يمنع، لكن أن تصل ممارسة الرياضة إلى حد التعصب للأندية تعصباً يوقع الشحناء والعداوات والبغضاء والفراق إلى آخره، فهذا لا ينبغي ولا يليق بأي حال من الأحوال، وما يضيمك إن كنت من محبي نادي النصر مثلاً لأن اللاعبين يعجبك لعبهم، أو من محبي نادي الشباب أو الهلال أو أي نادٍ من الأندية، هذه رياضة معينة، والناس بين نوعين: بين من يمارس هذه الرياضة، وبين من يشجعها ولا يمارسها، ولا نطلق عبارات التحليل والتحريم على الفريقين، لكن نقول: الأمر مشروع بحدوده، أما أن يرمي الإنسان غيره من مشجعي الأندية أو من أصحاب الأندية بمثل هذه العبارات، فهذا لا ينبغي ولا يليق بأي حال من الأحوال، وأنا أظن أنه من وصل به التشجيع إلى هذه الدرجة التي أصبح بموجبها يسب ويشتم ويفرق ويغير فقد احتقر نفسه احتقاراً ينبغي أن يبعده عن نفسه؛ لأن المسلم لا يصل إلى درجة الاحتقار (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره) إلى آخر ما جاء في الحديث.
فكل عبارة فيها بغضاء أو شحناء أو عداوات، فينبغي أن تزول، نحن نريد أن تعود الجماهير الرياضية من جديد عوداً على بدأ والعود أحمد، فقد مرت حقبة من الزمن عرف الناس عن الرياضة والرياضيين الكلام السيئ والسمعة الرديئة، نريد أن نبعث هذا الأمر من جوانب جديدة، نريد أن يعرف الناس أن الأندية فيها مدارس تحفيظ القرآن وهي محاضن للدعوة والدعاة وهي أماكن لتربية العقول والأبدان والأجسام، وفيها فرص مناسبة لممارسة الرياضة بأنواعها، وحينما ننظر إلى هذه الأندية بهذه النظرة الشمولية ونعرف الهدف من هذه الأندية الرياضية، عند ذلك لن نجد هذه العبارات ولن نجد الجنون في التشجيع، الذي نراه من بعض الشباب، يفوز نادٍ على نادٍ فيخرجون في الأسواق بالأعلام وبالطبول والكلام الذي لا يليق، وبإزعاج الآخرين بالليل، أذكر أن المنتخب في المملكة منذ مدة فاز، والحاصل أن خرج الناس بأعلام المملكة يتجولون في الشوارع، هذا علم دولة رسمي تهينه وتعلقه على رفرف دراجة.
وفي الحقيقة حينما تحصل مظاهرات في جامعة أمريكية بين الليبيين والإيرانيين أو بين العراقيين والإيرانيين، يقوم الإيرانيون بإمساك العلم الإيراني فيمزقونه ويعلقونه على صدامات المواتر وفي المقابل كذلك، فالذي يفعل هذه القضية يمارس إهانات رسمية ممنوعة نظاماً، قبل هذا كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله كلمة التوحيد والوحدانية والرسالة، فيسقط العلم، فتظؤها السيارات في الشوارع والناس هذا جنون، ونوع من احتقار الذات حيث لا يشعر الإنسان بقيمة نفسه ولا بقيمة دينه، ولا بقيمة هذه الراية التي يحملها، ولا بالكلام الذي في طياتها وجنباتها.
إذاً فالمسألة ليست مسألة جنون، فنريد أن تعود الجماهير ٍمن جديد بكل عقل وروية وبكل قناعة، شاب يسأل، يقول: حرام عليّ أن أرى المباراة في التلفزيون؟ الحقيقة المسألة ليست مسألة حلال أو حرام، قد نقول: ليس هناك ما يمنع، لكن لا تكون الرياضة هي شغلك الشاغل أربعاً وعشرين ساعة؛ ترى السعودية والكاميرون في الفيديو، السعودية والإمارات في الفيديو، وتجده يشغل أفلام فيديو للمنتخب ومباريات على الشاشة، هذا وقته ضائع، فابتذاله للوقت سبب لاحتقار الذات، فنحن نريد ممن كان رياضياً أن يحترم الرياضة، وأن يحترم نفسه أمام الرياضة، فلا تطغى عليه ولا يطغي نفسه فيها.(106/26)