وصف الحور العين في الجنة
وأما الحور العين في الجنة وما أدراك ما الحور العين في الجنة! فإن الله يزوج عباده بهؤلاء الجميلات الكواعب الأتراب، قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] والحور جمع حوراء وهي: التي يكون بياض عينها شديد، وسواد عينها شديد أيضاً، والعين جمع عيناء وهي: واسعة العين، وقد وصف القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراباً قال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:31 - 33] والكاعب: المرأة الجميلة الصغيرة، والأتراب: المتقاربات بالسن، والحور العين من خلق الله في الجنة أنشأهن الله إنشاءً، فجعل هؤلاء الحور أبكاراً عرباً أتراباً يتحببن إلى أزواجهن: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:35 - 37] لم يطمثن من قبل قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] أما بياض هؤلاء الحور قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] وشبههن في موضعٍ آخر بالياقوت والمرجان قال تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:56 - 58] وانظر إلى هذا الجمال الذي ذكره الله جل وعلا يخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم هل تجد له في جمال الدنيا نظيراً أو شبيهاً أو مثيلاً؟ لا والله، قال صلى الله عليه وسلم: (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها) رواه البخاري، يصوغ هذه المعاني ابن القيم في نونيته: الكافية الشافية فيقول:
فاسمع صفات عرائس الجنات ثم اختر لنفسك يا أخا الفرقان
حورٌ حسانٌ قد كملن خلائقاً ومحاسناً من أجمل النسوانِ
هذه لكل من آذته زوجه، لكل من أشغلته زوجه، لكل من أراد جمالاً، لكل من أراد لذة، لكل ولكل ولكل من أراد مهما جمعت من الجمال فإنها فترة ثم تزول، ولذة ثم تنقضي، وبرهة ثم تفنى، ولكن اجعل أملك في رضا الله ثم في هذا النعيم المقيم، اجعل أملك فيما عند الله من الحور:
حورٌ حسانٌ قد كملن خلائقاً ومحاسناً من أجمل النسوانِ
حتى يحار الطرف في الحسن الذي قد ألبست فالطرف كالحيرانِ
ويقول: أي العبد الذي في الجنة:
ويقول لما شاهد حسنها سبحان معطي الحسن والإحسانِ
والطرف يشرب من كئوس جمالها فتراه مثل الشارب النشوانِ
كملت خلائقها وأكمل حسنها كالبدر بعد الست ليل الست بعد ثمانِ
والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصانِ
فتراه يعجب وهو موضع ذاك من ليلٍ وشمسٍ كيف يجتمعانِ
فيقول سبحان الذي ذا صنعه سبحان متقن صنعة الإنسانِ
لا الليل يدرك شمسها فتغيب عند مجيئه حتى الصباح الثاني
والشمس لا تأتي بطرد الليل بل يتصاحبان كلاهما أخوان
وكلاهما أي: أنت وحوريتك في الجنة:
وكلاهما مرآة صاحبه إذا ما شاء يبصر وجهه يرياني
فيرى محاسن وجهه في وجهها وترى محاسنها به بعيانِ
حمر الخدود ثغورهن لآلئ سود العيون فواتر الأجفانِ
والبرق يبدوا حين يبسم ثغرها فيضيء سقف القصر بالجدرانِ
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغرٍ ضاحكٍ في الجنة العليا كما تريانِ
يسطع في الجنة نور فيعجب أهل الجنة ويقولون: ما هذا الذي سطع؟ فيقال: أهل المنازل العليا في الجنة، أحدٌ عنده حورية ابتسمت له فسطع نور ثغرها، الله أكبر! هذا ينبغي أن نعتقده عين اليقين، وحق اليقين، وعلم اليقين، ومن شك فيه أو تردد فيه ففي عقيدته خلل، في إيمانه شائبة، في إيمانه نقص، من الناس من تجده يتذبذب ويتردد حينما يأتي الكلام عن الأمور الغيبية، لا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3]، كلما صح من الغيب فيجب وجوباً لا تعذر بتركه أن تؤمن به إيماناً كاملاً حقاً:
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغرٍ ضاحكٍ في الجنة العليا كما تريانِ
لله لاثم ذلك الثغر الذي في لثمه إدراك كل أماني
ريانة الأعطاف من ماء الشباب فغصنها في الماء ذو جريانِ
لما جرى ماء النعيم بغصنها حمل الثمار كثيرة الألوانِ
أيها الأحبة! لا أستطيع أن أقرأ بقية ما وصفه ابن القيم في الحور العين، والله لقد وصف وصفاً عجيباً، ووصف وأنصحكم بشراء الكتاب ويباع بالمكتبات نونية ابن القيم المسماة: بـ الكافية الشافية، كلام عن الحور العين من أول رأسها إلى أخمص قدمها ولكن ابن القيم يستحي رحمه الله رحمة واسعة إذ أنه لما بلغ بعض مواطن الجمال في النساء قال:
وإذا انحدرت رأيت أمراً هائلاً ما للصفات عليه من سلطانِ
ما تكلم رحمه الله ابن القيم! ولولا أننا في مسجد والمسجد مكتظٌ بالشباب لقرأت وأسمعتكم بقية هذه الأوصاف الجميلة، ولكن -أيها الأحبة- ماذا أقول وماذا أقرأ وكلنا وإياكم ننظر شيئاً ولا نستطيع قراءته ولكن أختم بأبياته التي قال فيها:
فاجمع قواك لما هناك وغمض العينين واصبر ساعة لزمانِ
يعني: هذا النعيم الذي ذكرناه، أتريده؟ اجمع! شمر! اجتهد! اعمل! اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله، واصبر على أقدار الله:
فاجمع قواك لما هناك وغمض العينين واصبر ساعة لزمانِ
ما ها هنا والله ما يسوى قلامة ظفر واحدة ترى بجنانِ
ما ها هنا إلا النقار وسيئ الأخلاق مع عيب ومع نقصانِ
همٌ وغمٌ دائمٌ لا ينتهي حتى الطلاق أو الفراق الثاني
طبعاً هذا ليس لكل النساء؛ بل لبعضهن أصلحهن وهداهن الله!
والله قد جعل النساء عوانياً شرعاً فأضحى البعث وهو العاني
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فإن تفعل رجعت بذلة وهوانِ
أيها الأحبة في الله!
يا غافلاً عما خلقت له انتبه جَدَّ الرحيلُ فلست باليقظانِ
سار الرفاق وخلفوك مع الألى قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من ترى متخلفاً فتبعتهم ورضيت بالحرمانِ
لكن أتيت بخطتي عجزٍ وجهلٍ بعد ذا وصحبت كل أماني
مَنَّتك نفسك باللحاق مع القعود عن المسير وراحة الأبدانِ
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
ستعلم يوم ينكشف الغطاء الحقيقي في الآخرة، ماذا فرطت وماذا تساهلت؟ وماذا جنيت وماذا خسرت؟(28/21)
نظر أهل الجنة إلى ربهم جل وعلا
وختاماً: أيها الأحبة! هل يعطى أهل الجنة أفضل من هذا؟ نعم.
هناك فضلٌ أعظم من هذا كله اسمعوه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله بين يديك، فيقول الله جل وعلا: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول جل وعلا: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول تعالى: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) متفقٌ عليه.(28/22)
إحلال رضوان الله على أهل الجنة
وأعظم النعيم: النظر إلى وجه الله الكريم في جنات النعيم يقول ابن الأثير: رؤية الله هي الغاية القصوى في نعيم الآخرة، والدرجة العليا من عطايا الله الفاخرة، بلغنا الله وإياكم منها ذلك، روى مسلم في صحيحه والترمذي في سننه عن صهيب الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى: عبادي تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا ربنا! ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة؟! ألم تنجنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى، ثم تلا هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]).
أيها الأحبة! نعيم الجنة باعه شبابٌ بالمعاكسات، نعيم الجنة باعه شبابٌ بالمباريات! نعيم الجنة باعه الطماعون بالربا! والأسهم الربوية! نعيم الجنة باعه الجشعون بالأموال الحرام! نعيم الجنة باعه الكذابون بالغيبة والنميمة والوشاية والنقل السيئ، نعيم الجنة باعه الذين لا شغل لهم إلا أعراض الخلق والوشاية بالخلق! نعيم الجنة قد باعه مجانين! باعه مساكين! باعه حمقى! باعه غافلون! وما علموا أنهم يبيعون نعيماً عظيماً بلذة عاجلة حقيرة! أرأيتم شاباً يضيع الجنة في لذة لحظة؟! جاء إلي في هذا الأسبوع شابٌ يقول: إني أريد أن أتوب إلى الله فقلت: ومم تتوب؟ قال يتسلط علي شيطاني ونفسي وهواي وجلساء السوء فلا يزالون بي حتى نسافر فنزني -والعياذ بالله- ولا زال هذا الأمر أتردد فيه إلى الساعة فهل لي من توبة؟ وهل إلى خروجٍ من سبيل؟ فقلت: أيها الشاب! إن نعم الله عليك عظيمة والله لو كنت مشلولاً لما وجدت آلة تزني بها! لو كنت مقعداً لما وجدت قوة وصحة تزني بها! لو أخذ سمعك أو بصرك أو طرفك أو كلاك أو عرقٌ من عروقك أو شريانٌ من شرايينك أو شيء من بدنك لتمنيت ثلث العافية! ربع العافية! خمس العافية! عشر العافية! لا أن تزني في هذا الصحة التي أنت تتقلب فيها، ثم إن نعمة الله عليك عظيمة فإن الله قادرٌ أن يرسل إليك ملك الموت فيقبض روحك وأنت على تلك الباغية الزانية، كما حصل لبعض الشباب الذين حملوا جنائز من أحضان الباغيات، حملوا وجيء بهم في التوابيت إلى صالات المطارات، من ذا الذي يبيع هذا النعيم يا إخوان؟! من ذا الذي يضيع حظه من الجنة؟! قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع) أنت تجلس في شاطئ محيط من المحيطات ثم تدخل أصبعك فيه فانظر ماذا يعلق! لا يعلق في الأصبع إلا القطرة التي نزلت، قطرة واحدة، معناه: أن هذه الدنيا، والآخرة هي البحر، فمن ذا يبيع الآخرة بقطرة؟! من ذا يبيع النعيم بلذة لحظة؟! ثم لذة زالت وبقي وثبت وما يزال وزرها مكتوبٌ محسوبٌ وشؤمها ينتظرك في نفسك أو في مالك أو عند فراق روحك واللذة ذهبت:
إن أهنى عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
فاتق الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقاً بطلا إنما من يتق الله البطل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكر لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل
أما كفى ما مضى من العمر؟! أما كفى ما مضى من الغفلة؟! أما كفى ما مضى من الليالي الشخير والنخير من النوم ما قمنا نتهجد فيه لله لحظة؟ أما كفى من تلك الأيام بساعاتها وما فيها ضاعت ما أودعناها أعمالاً صالحة؟! والله إننا مغبونون غبناً عظيماً، فأسأل الله جل وعلا أن يوقظ قلوبنا من رقدة الغافلين، اللهم خذ بأيدينا إلى طاعتك، اللهم خذ بأيدينا إلى مرضاتك، اللهم حبب إلينا طاعتك، وبغض إلى نفوسنا معصيتك.
إلهنا ربنا ومولانا وخالقنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ألا تدع لهذه الوجوه الطيبة في هذا المقام رجالاً ونساءً ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتها.
اللهم لا تدع شاباً أيماً أو أنثى إلا زوجته، اللهم لا تدع أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا رزقته ذرية صالحة، بمنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم ثبتنا واسترنا، واهدنا وكن لنا وأعنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تكشف سترك عنا، اللهم لا تهتك أستارنا، اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الجزائر وفي تونس، وفي أثيوبيا، وفي إريتريا، وفي أرومو وفي فلسطين، وفي الهند، وكشمير، والفلبين وبورما وفي سائر البقاع يا رب العالمين! اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية.
اللهم انصرهم على أعدائهم، اللهم احفظ ذرياتهم، وأقم على الحق والكتاب والسنة دولتهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً.(28/23)
التضحية
لقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير في سبيل الله عز وجل ونشر دينه بين الناس، وكذلك ضحى أصحابه رضوان الله عليهم، منهم صهيب ومصعب بن عمير، وهنا يحدثنا الشيخ عن جملة من صور التضحية التي حصلت في عهد الصحابة والتابعين ومن بعدهم رضوان الله عليهم أجمعين.(29/1)
سمات حزب الله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تبارك سبحانه وتعالى ما عبدناه حق عبادته، وما شكرناه حق شكره، نحمده على حلمه بعد علمه، وعلى عفوه ومقدرته، الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، لا يعلم جنوده سبحانه إلا هو، وسع كرسيه السماوات والأرض، قلوبنا بيده، وبين إصبعين من أصابعه التي تليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، خيره إلينا نازل، ومعاصينا صاعدة تترى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوا الله في السر قبل العلن، تجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية.
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل.
معاشر المؤمنين! أتدرون من هم حزب الله المفلحون؟ أتعلمون من هم حزب الله المفلحون؟ أهم أكثر الناس أموالاً؟ أهم أعلاهم في المراتب والمناصب؟ أهم أكثر الناس ذرية وزوجات ونفيراً؟ حزب الله المفلحون يقول الله فيهم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22].
تلك أعظم سمة لحزب الله، الذين يبذلون الغالي والرخيص والدم والنفيس لوجه الله جل وعلا، ويضحون بالمصالح، وأواصر القربى والعلاقات والروابط، ولو كانت علاقات الآباء بالأبناء، أو الآباء بالإخوان والأخوات، أو الآباء والأهل بالعشائر والأقارب، في سبيل مرضاة الله جل وعلا، وفي سبيل إعلاء دينه، ورفعة كلمته.
معاشر المؤمنين! يوم أن تبين اتجاه الصحابة والتابعين والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وتحدد موقفهم، وتميز مكانهم في أمم الأرض والبشرية، فكانوا صفاً وعوناً، وعدداً وعتاداً لحزب الله، سَعُد الدين بهم، وانتشرت الدعوة، وسمت العقيدة، وحكمت الشريعة، ورفرفت للتوحيد راية.
ولنعلم أيها الأحباب! أنه لن يصلح آخر هذه الأمة التي نحن فيها إلا بما صلح به أمر أولها، يقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله) فهو الحجة والمحجة، والنور والهداية، والمشعل والنبراس، والقوة والقدوة، والشريعة المحكمة.(29/2)
تضحية صهيب ومصعب
معاشر المؤمنين! أسوق هذه المقدمة لأمهد لسؤال أطرحه الآن بين أيديكم، وأقول: إن التضحية هي أساس عزة الأمة، ورفعة الهمة، وعلو الدين، وانتشار الدعوة والعقيدة، فما حضنا من هذه التضحية؟ وما دورنا في هذه التضحية؟ وما بذلنا وعطاؤنا في هذه التضحية التي رأينا أروع المثل، وأجل الصور، وأجمل المشاهد لها في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ تعلمون أن نبينا وجيهٌ في قومه، بل من أشرف العرب أرومة، ومع ذلك يوضع سلى الجزور على ظهره، ويوضع الشوك في طريقه، فيضحي بهذه ويقبل المتاعب في سبيل دعوته، تعلمون أنه صلى الله عليه وسلم يحب مكة حباً شديداً، ومع ذلك خرج منها، وهو يقول: (والله إنك لأحب الديار إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك، ما خرجت).
أنت إلى الخارج أخرجتني لولاك هذا العام لم أخرج
يدع هذه البلاد والأطلال والعشائر والأقارب، والمال والأواصر مودعاً مكة مهاجراً، عليه من ربه نور وهداية، وعصمة وحافظ، حتى يبلغ المدينة صلى الله عليه وسلم، فيضرب المثل الأروع في التضحية، فيلحقه أصحابه، صهيب الرومي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ومضحياً بالأهل والمال والموطن والبيت والمنزل، فتلحقه قريش، قالوا: يا صهيب! ألم تأتنا فقيراً فغنيت بنا؟ فالتفت إليهم ذلك الجهبذ رضي الله عنه، قال: يا معشر قريش! تعلمون أني أنبلكم بالقوس والسهم، ومن لحق بي لا يخطئ السهم قلبه، ولكن إن شئتم شيئاً فأخبروني؟ قالوا: نريد مالك، قال: وإن دللتكم على مالي تتركوني؟ قالوا: نعم.
قال: هو خلف الحائط في ضيعة بني فلان، فذهبوا وأخذوا ماله وتركوه يهاجر لله وفي سبيل الله.
فلما قدم صهيب على النبي صلى الله عليه وسلم، نظر إليه المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ربح البيع أبا صهيب) باع المال والمسكن والموطن لله جل وعلا، قد بعتها لله والله اشترى.
هكذا ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة، تضحية لإقامة الدين، إن صهيباً يوم أن أراد الهجرة، فوقفت له قريش، لم يقل: ما ظننا أن الأمر فيه خسارة ومخاطرة، وأننا سنخرج فقراء عراة مساكين من أرضنا لأجل محمد ودولته ودعوته، بل قال: إن دللتكم على مالي تتركوني؟ لأنه يعلم أن همته أعلى، وهمتهم أخس وأدنى، فدلهم على ما يرغبون من حطام الدنيا ومتاعها الزائل.
وكان مصعب بن عمير أجمل قريش، وأنداهم، وأعطرهم، وأطيبهم، وأترفهم دلالاً، فلما خالط الإيمان بشاشة قلبه، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، بقي مطرقاًَ، جاءت أمه وقالت: يا مصعب! أتريد زوجة حسناء أشغلت بالك؟ شتان بين هم أمه وهم ذلك البطل، لم تعلم أن همه أن يلحق بنبيه، وأن يكون جندياً من جنود دعوته، ولما علموا أن الأمر هكذا، كفر بالطواغيت، وإيمان بالربوبية، كفر بهذه المشاهد والمظاهر والأوثان، وإيمان بالسنة والعقيدة والدعوة.
قالوا: تحرم من نعيمك ومن ترفك، وما أنت فيه؟ فقدمها وبذلها لله، فلبس أخشن اللباس، وبقي زاهداً في ذلك كله، حتى إنه رضي الله عنه لما استشهد لم يجدوا ما يكفنونه به، فكفن بعباءة إذا غطي رأسه بدت رجلاه، وإذا غطيت رجلاه بدا رأسه، وكان من أعطر وأثرى وأجمل وأترف شباب قريش، لماذا ضحيت بهذا يا مصعب بن عمير؟ كي تكون أول سفير للنبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل المدينة، ومن أوائل المعلمين لهم، ضحى بذلك كله، طلباً لما هو خير منه أجمع، ألا وهو الجنة.(29/3)
تضحية وبذل أبي بكر وعمر بن عبد العزيز في سبيل الله
عباد الله! دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأمة، إلى البذل في سبيل الله، وإلى غزو أعداء الله، وكان الأمر يتطلب تضحية بالمال، وتجهيزاً للجيش، وبذلاً للسلاح، فجاء أبو بكر بماله كله، ونثره بين يدي رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ماذا تركت لأهلك وولدك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، نِعم المدخر، ونِعم الكنز الذي أبقيته لهم يا أبا بكر {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} ماذا يفعلون بهم؟ {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
قيل لـ عمر بن عبد العزيز لما حضرته الوفاة: هلا تركت شيئاً للصبية والأولاد والذرية؟ فقال: إن كانوا صالحين فلن يضيعهم الله، وإن كانوا عصاة فلن أضع لهم مالاً يتقووا به على معصية الله، قال الراوي: فوالله لقد رأيت كل واحد منهم حمل على مائة بعير في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها وسلاحها، لأن غناء الله عطاء لا ينقطع، ومدد لا ينتهي، وجود لا ساحل له.
فيا معاشر المؤمنين! هذه صور من التضحيات التي بذل فيها الآباء والأجداد، والقدوة والأسوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابة من بعده بذلوا فيها أروع الأمثلة وأجل المثل، لكي نتعلم نحن التضحية في هذا الزمان.(29/4)
تضحية الغلام المؤمن بنفسه في سبيل الله
تعرفون قصة أصحاب الأخدود، في خلاصتها أن ملكاً من الملوك السابقين ادعى الربوبية، وكان ساحره يسيطر ويوسوس ويزخرف للناس أفعالاً يعتقدون بها أن ذلك الملك إله لهم، فلما أوشك على فراق الدنيا وأحس بدنو الأجل، قال الساحر للملك: إني أشعر بدنو أجلي، فهلا طلبتم لي فتى ذكياً، نابهاً فطناً، أعلمه الصنعة حتى يبقى الأمر لك من بعدي.
فماذا حصل له؟ اختاروا فتى، وكان ذلك الفتى يتردد على الساحر ليتعلم منه السحر الذي يزخرف به على أعين البشر، فيعتقد ألوهية ذلك الملك، وكان في الطريق راهب يعترض لهذا الفتى، فيعلمه الدين الحق والوحدانية السليمة، فأصبح الفتى بين أمرين وتيارين وطرفين يتجاذبانه، فقال: الآن أختبر هذين الأمرين يوم أن مر والناس قد حشروا لسبع قد عاقهم في المضي في طريقهم، فأخذ حجراً، قال: اللهم إن كان ما يعلمني هذا الراهب حقاً، فأمت هذا السبع بهذا الحجر، ثم قال: بسم الله رب هذا الراهب، فرمى السبع بها، فمات، ومر الناس وكبروا.
ثم أعجب الناس والتفوا حوله، وجاءوا إليه، فأصبح يداويهم باسم رب الراهب وهو الله جل وعلا، فلما علم الملك أن سحره بطل.
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر
لما علم أن سحره بطل وانتهى، وأن كيده كشف واضمحل، أمر طواغيته ورجاله أن يأخذوا الفتى فيصعدوا به أعلى شاهق الجبال، فيرموه ليتردى إلى قعرها وقاعها، فلما هووا به، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فنزل على الأرض كأن سحابة حفظته وحملته، وكأن مضلة أو حافظاً قام به حتى وقف على قدميه، فعادوا وقبضوا عليه أخرى، وأخبروا الملك بشأنه، فقال: اذهبوا به إلى لجة البحر، وارموه بها، فلما ذهبوا ليرموه، قال: اللهم اكفنيهم بما شئت، وإنك أنت السميع العليم، فاضطرب البحر بأمر خالق البحر، بأمر رب الأمواج، بأمر رب الأرضين والسماوات، فتقلب الموج بهم، فسقطوا في لجته، وبقي هو على القارب فعاد ناجياً وحده.
فلما أعيت الملك الحيلة في شأن هذا الفتى، قال: أخبرنا كيف الخلاص منك، وكيف القضاء عليك، وكيف فناؤك؟ قال: أتريد أن تتخلص مني؟ أنا أدلك، اجمع الناس في صعيد واحد، ثم خذ سهماً من كنانتي، فإذا وضعته في كبد القوس، فارفع صوتك، وقل: بسم الله رب الغلام، وعند ذلك لن يخطئ السهم فؤادي، وسأخر صريعاً أمامك وأمام الناس.
فظن ذلك المخدوع أنها هزيمة للفتى ونصرة للوثنية والطاغوتية، فجمع الناس جميعاً في صعيد واحد، وصلب الفتى على جذع شجرة، ثم جر الوتر حتى اشتد أنينه، ثم انطلق السهم في كبد الفتى وفؤاده، بعد أن قال الملك بصوت مرتفع: بسم الله رب الغلام، فلما سقط الفتى، صاح الناس كلهم آمنا بالله رب الغلام.
إنها تضحية بالفؤاد وبالدم، وبالروح والنفس، حتى تعيش الأمة، فلابد أن تراق الدماء، وأن تنثر الأشلاء، وأن تذهب الملذات في سبيل رفعة الأمم، ويقظة الشعوب، ونهضة الأمة، ووعي الشباب الذي خدر كثيراً.
فيا عباد الله! هذه كلها أمثال دلت على أن الدين لا ينتشر إلا بتضحية، ودلت على أن العقيدة لا تسمو إلا ببذل، ولا تثبت إلا بإيثار وتفان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(29/5)
تضحية الصحابة والتابعين
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث، الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، الحمد لله على مننه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! لو سردنا الأمثلة على تضحيات الصحابة والتابعين وعلماء الأمة المخلصين، لما وسع ذلك أياماً وليالي، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما يحرك الهمة، ويرفع الأمة من الضعف والخمود والهوان الذي أصاب كثيراً من أبنائها.
معاشر المؤمنين! إن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاوضه سهيل بن عمرو على صلح الحديبية، قال سهيل: يا محمد! إنا نفاوضك على ما يلي، وذكر بنود الصلح والاتفاقية، وكان منها: أن من مفر من مكة إلى محمد من أصحاب محمد يرده محمد إلى قريش، ومن ذهب من المدينة إلى قريش فإن النبي لا يسترده، فرضي بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن الله جاعل له ولأصحابه من هذا فرجاً ومخرجاً، فلما وقعت هذه الاتفاقية، جاء أبو جندل بن سهيل يرسف في أغلاله، فاراً من سجون قريش، فما بلغ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: عد إلى قومك.
قال: يا رسول الله! أتتركني لهم يفتنوني في ديني، فقال صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يعلم أن الفرج من الله له ولأصحابه: (سيجعل الله لك فرجا) ووقعت هذه الاتفاقية، التي ظاهرها هزيمة للمسلمين، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهرب أبو بصير رضي الله عنه إلى النبي من مكة إلى المدينة، فأرسلت قريش رجلين ليحضرا أبا بصير هذا الذي هرب، فلما جاءوا إلى الرسول عليه الصاة والسلام، قالوا: إنا نطلب أبا بصير أن ترده معنا، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (اذهب مع القوم، قال: يا رسول الله! يفتنونني، قال: سيجعل الله لك فرجاً ومخرجاً، وإنا قد أعطينا القوم عهداً وميثاقاً) فلما عاد أبو بصير معهم، والأسى يتبع الأسى، والدمع يتبع الدمع، ليس خوفاً ولا هلعاً ولا جزعاً، بل على فراق النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن أبا بصير من أذكى رجاله، وكان يقول: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه جيش) ذهب السفيران بـ أبي بصير يعودان به إلى قريش، ولما كان في الطريق، إذ بواحد من هذين السفيرين، يهز سيفاً في يده، يقول: والله لأجعلن هذا السيف يشبع من دمائهم طوال الليل واليوم، ينتظر موقعة يقابل فيها النبي وأصحابه.
فالتفت أبو بصير، قال: إن سيفك هذا لجيد، أفلا تريني، فصدق ذلك الرجل، وأراه السيف فاختطفه أبو بصير بخفة قوة المؤمن، وقطع به رأسه، وهرب الآخر، فعاد أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي: (يا أبا بصير! اذهب حيث شئت) فذهب على ساحل البحر، وجلس على طريق قريش، فما مرت قافلة إلا ونال منها غنيمة وحظاً عظيماً، حتى أرسلت قريش مبعوثاً يناشد النبي ويرجوه أن يلغي هذا الأمر من اتفاقية الحديبية.
ضحى ذلك الصحابي، واستجاب لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: هاأنا أهاجر إليك فتردني، أو هاأنا أترك القوم مؤمناً فتطردني، بل ضحى لعلمه أن الله مع نبيه، وأن الوحي حق، وأن الإله لن يضيع أمته وجنود دعوته.
كذلك الإمام أحمد بن حنبل نازعوه على مسألة والله لو فتنا فيها هذا الزمان، لأفتى الكثير ولا أقول الكل، بمئات أمثالها، كيف وقد فتنوا بما هو صريح الدلالة في القرآن والسنة، فأفتوا بما يرضي القوم ويتبع أهواءهم، وفتن الإمام أحمد بالقول بخلق القرآن، هل هو منزل أم مخلوق؟ فقال: منزل، وقال ابن أبي دؤاد: إنه لمخلوق، وثبت الإمام أحمد على الفتنة، وضحى بلذته ونعيمه، وما كان يعيش لذة نعتقدها نحن في المراكب والمفارش والطعام والشراب، بل لذة الأنس والخلوة، ومع ذلك ما زادته إلا أنساً وخلوة بالله.
وعلقوا رجله بالسقف ورأسه يتدلى، تحتقن الدماء في وجهه، وكانوا يقولون له: يا أبا عبد الله! يا أحمد بن حنبل! ما تقول في القرآن؟ فيقول: كلام الله منزل غير مخلوق، فقال الأمير: ألقوه أرضاً واجلدوه بالسياط، يا أبا عبد الله! ماذا تقول في القرآن؟ فيقول: منزل وليس بمخلوق، ولما بلغ الأمر منه مبلغاً، مد يده وقد ألقي على وجهه في الأرض يجلد، فقال الخليفة: أبا عبد الله! أتدعو عليَّ؟ لأنه يعلم أن الإمام أحمد لا يدعو على السلاطين، بل يدعو لهم بالهداية، قال: أبا عبد الله أتدعو عليّ؟ قال: لا.
وإنما أدعو ربي ألا تنكشف عورتي وأنتم تجلدوني.
وصبر على ذلك، إنها تضحية لكي تثبت العقيدة نقية واضحة سليمة من أن تدنسها أفكار المعتزلة، أو أن يدخل بها ما لا يليق أو ينبغي لها.
بعد هذا كله أسألكم أنتم الآن بماذا ضحيتم؟ أي أضحية قدمتم لدين الله جل وعلا؟ هل سمعتم بواحد قدم ذات يوم راتبه كله، وقال: هذا للمجاهدين في سبيل الله، ولو مرة في العمر، هل فعلناها يا إخوان؟ هل سمعنا أن شاباً من طلبة العلم أو من أمثالنا الضعفاء الفقراء، الذين يظن الناس بهم خيراً وهم أضعف الناس إلى الله جل وعلا، جعل شهراً يجوب البلاد يدعو إلى الله جل وعلا في كل سنة؟ جزء من التضحية لا نجده ولا نراه، هل سمعتم أن امرأة تصدقت بمهرها للمجاهدين في سبيل الله، أو لإعلاء كلمة الله، أو لنصرة دين الله، أين التضحيات؟ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أبايعك على الإسلام بشرط ألا أجاهد ولا أتصدق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا جهاد ولا صدقة، فبم تدخل الجنة؟!) الجهاد والصدقة يا عباد الله! والدعوة والبذل، والتضحية والإيثار في سبيل الدين.
إننا نعيش أمناً وثراءً ونعماً لا يحصيها إلا الله، ثمرة تضحيات سلفت، ولأجل دوامها لا بد أن نضحي، وإن كان حجم التضحيات في هذا الزمان لن يبلغ ما بلغه الأوائل إلا ما شاء الله، ولكن أين من يضحي منا؟ أين من يبذل؟ أين من يجعل بذل الجهاد والدعوة هماً يومياً كالطعام والغداء والفطور والعشاء؟ لا والله يا عباد الله! إني أدعوكم بدعوة الله لكم أن تتعلموا التضحية والإيثار بساعة من أربع وعشرين ساعة، اجعلوها لله جل وعلا، بيوم من شهر واحد، اجعلوها لله جل وعلا، بأسبوع من سنة كاملة، فرغوها للدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، واجعلوا صنيديقاً، ولا أقول خزينة، اجعلوه في مجالس بيوتكم، وكلما زل الإنسان بزلة، فليتصدق كفارة عن الزلة، وليتصدق نماءً للمال، وليبذل نشراً للدعوة، وبقاء وعوناً على حفظ العقيدة، وفي نهاية كل شهر كل يقدم خزينة صندوقه لوجه الله.
لو كان المسلمون على هذا المستوى من البذل لدينهم، والله لاستطاعوا أن يغرقوا الأعداء وأن يهلكوهم، ولكن لله في ذلك حكمة {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:112] فما أنتم فاعلون يا عباد الله؟! الدين يحتاج إلى تضحية، والعقيدة تحتاج إلى بذل، وهما خياران إما موت وإما حياة، هما أمران إما حياة بعقيدة، وإما جبن وشح وهوى وبعد عن التضحية، وبقاء على الذلة والهوان، نحن في نعمة نريد أن نحفظها بالتضحيات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.(29/6)
عبادة وليست عادة
إن المنة لله علينا يوم أن شرع لنا عبادات مختلفة تقربنا إلى رضوانه؛ لنبلغ أعلى الدرجات في جناته، وفي هذه المادة تقفون مع عبادة من هذه العبادات وهي صوم رمضان، وبيان فضله، وأحوال الناس في رمضان(30/1)
فضل شهر رمضان
الحمد لله الذي شرع لعباده المؤمنين ما يقربهم إلى مرضاته وجنانه، وحرم عليهم ما يبعدهم عن سخطه ونيرانه، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله تعالى عملاً بأمره ووصيته للأولين والآخرين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: جمعتكم هذه هي الجمعة اليتيمة في شهر رمضان، وبعد أيام قليلة تستقبلون شهراً كريماً وموسماً عظيماً، رحمة من الله بكم، يوم أن كان في سابق علمه أن أعمار هذه الأمة قصيرة، شرع لهم من العبادات ما ينافس فيه أهل هذه الأمة الأمم السابقة فيكونوا أكثر أعمالاً، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هم الأولون الآخرون، هم الأولون في الدرجات والبركات الآخرون في الزمان.
فيا عباد الله! لا أشك أن الواحد منكم لا يعلم فضل هذا الشهر وما فيه من الأجور العظيمة التي منَّ الله بها عليكم جميعاً.
لا أظن أن أحداً منكم يجهل أن من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
ولا أظن أن واحداً منكم يجهل أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
ولا نظن أن مسلماً يجهل أن الصيام لله والله يجزي به، وأن الأعمال مضاعفة والحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لله والله يجزي به، وليس لجزاء الله وفضله عدد ولا حساب، فهو الذي يوفي أجره وفضله لعباده المؤمنين بغير حساب.
ولا نظن أن مسلماً يجهل أن الريان باب من أبواب الجنة، باب عظيم أعده الله للصائمين.
ولا نظن أن مسلماً يجهل أن هذا الشهر فيه ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القدر.
ولا نظن أن مسلماً يجهل أن الجنة تتزين لعباد الله المؤمنين، والله جل وعلا يقول لجنته: (يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة ويتحولوا إليك).
ولا نظن أن مسلماً يجهل أنه إذا دخل شهر رمضان، أغلقت أبواب النيران، وفتحت أبواب الجنان، وصفدت مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه من بني آدم فيما سلف من الزمان.
فيا عباد الله: هذه أمور من الكتاب والسنة كلكم يعلمها، ولا نظن أن أحداً يجهلها، ولكن مع هذا كله لا نجد استجابة ولا نجد فرحاً أو نجد فرحاً يسيراً، والبعض قد يستقبل هذا الشهر وهو على كراهية وبغض لقدومه؛ لأنه يحرمه من ملذاته المحرمة وشهواته الباطلة.
يا عباد الله: اعلموا أن المنة لله عليكم يوم أن شرع لكم في اليوم والأسبوع والسنة عبادات مختلفة تتقربوا بها إلى رضوانه؛ لكي تبلغوا أعلى الدرجات من جنانه، وإلا فإن الله غني عن العباد أجمعين، ما خلقكم ليستكثر بكم من قلة، وما خلقكم ليستعز بكم من ضعف: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [لقمان:26].(30/2)
وقفات مع استقبال الناس لشهر رمضان
معاشر المسلمين: بعد هذا لنا وقفات مع أنفسنا ومع إخواننا وشبابنا ورجالنا؛ لكي ننظر حالنا في استقبال هذا الشهر الكريم، إن كنا نحب هذا الشهر ونصدق دعوى المحبة من غير خداع، فإن الذي يستقبل حبيبه يعد ما يناسبه ويقرب ما يليق به، ويجهز ما يناسبه من الأعمال والأقوال والأفعال، ومن كان يستقبل عدواً، أو يتربص ساخطاً أو شامتاً، فتراه لا يبالي على أي حال نزل، وعلى أي هيئة رحل.(30/3)
وقفة مع الذين أعدوا الشاشات والأفلام لرمضان
فمن الناس من زينوا أفلامهم وهيئوا أجهزتهم، وأعدوا موائدهم ليستقبلوا هذا الشهر بالسهر، ويستقبلوا نهاره بالنوم، هكذا أعدوا سلفاً مائدة استقباله.
ومن الناس من حاسبوا أنفسهم قبل نزوله، وأعدوا أنفسهم تهيأً له، واستعدوا لاستقباله بكل ما يرضي الله جل وعلا، وكل عبادة تليق بهذا الشهر الكريم، فأول ذلك: الاحتساب في صيامه وقيامه.
والاحتساب هو: فعل الشيء وقصد الأجر والثواب من عند الله جل وعلا فرحاً به وغبطة بنزوله، لا تبرماً أو إكراهاً أو في حال من الكراهية أثناء القيام بهذه العبادة، وهذا جلي من قوله صلى الله عليه وسلم: (إيماناً واحتسابا) إيماناً أي: تصديقاً بفريضته، واحتساباً: أي: رغبة وطلباً وحباً واحتساباً للأجر والثواب من عند الله.
لا كما يفعله بعض المسلمين في هذا الزمان، يؤدون كثيراً من العبادات أداء التخلص وليس أداء الاحتساب، فتجده يجعل نفسه أمام الأمر الواقع، فهو مضطر لا محالة لصيام هذا الشهر، ويتمنى لو لم ينزل به هذا الشهر، خلافاً لمن تراه يزيد في صدقاته وطاعاته؛ شكراً لله أن بلَّغه هذا الشهر، وأن جعله بنزول هذا الشهر من الأحياء الذين يدبون على وجه هذه الأرض؛ لكي يفوز مع الصائمين والقائمين بالأجر العظيم.(30/4)
وقفة مع الذين يتعبدون بالصوم عبادة تخلص
أيها الإخوة: عبادة التخلص ليست والله عبادة، بل هي ما يفعله بعض الناس إذ يجد ضغوطاً نفسية أو ضغوطاً اجتماعية فيضطر لأداء العبادة مع سائر الناس الذين يؤدونها، ويصعب عليه أن يخالفهم، وإن كان في حقيقة الأمر مؤمن بفريضته ووجوبه، لكنه يتمنى أن لو لم يبلغ هذا الشهر، ويتمنى أن لو لم يفرض هذا الشهر، ويتمنى أنه لم يحرم من الطعام أو الشراب، أو يتمنى أن لم يشرع القيام في هذا الشهر، فتراه يصوم وقد يقوم لأن الناس أمثاله يفعلون ذلك.
فهذه عبادة تخلص وليست عبادة احتساب، ففرقوا في هذه المسألة فالفرق واضح، والبون شاسع، وشتان بين أجر هذا وأجر أو وزر ذاك، شتان بين من يصوم احتساباً وغبطة وفرحاً، وبين من يصوم كراهية، وإنما يصوم وقوفاً أمام الأمر الواقع، وإن كان التخلص أصبح السمة لبعض المسلمين في عباداتهم، فتراه يكبر في الصلاة ويركع ويرفع ويسجد ويسلم، لا يفقه ولا يدري، ولا يعي ولا يتدبر، ولا يخشع ولا يخضع في صلاته، فهذه عبادة تخلص، وليست عبادة لذة واجتهاد واحتساب إلى ما عند الله.
كذلك الذين يصومون هذا الشهر في نوم طويل في النهار، مع ضياعٍ للمفروضات، وسهر عجيب بالليل مع جلوس أمام الأفلام والشاشات والمسلسلات وتتابع الحلقات، وهذا شأنهم، يعدون مائدة السحور ويتهيئون لمائدة الإفطار وما بينهما فهو نوم أو سهر على ما يسخط الله جل وعلا، والأعجب من ذلك -أيها الأحبة- أن بعضهم يمسك عما أباح الله ويفطر على ما حرمه الله جل وعلا.
نعم.
شرع الله أن نمسك عن المباحات كالنكاح والطعام والشراب وغير ذلك من سائر المفطرات، فالذين يصومون صوم التخلص يمسكون عن المباحات، لكنهم منذ أن يصبحون إلى أن يفطرون وهم على فطر ما انقطعت نفوسهم عن الإفطار على المحرمات خاصة بعد صلاة العصر، وليبلغ الشاهد الغائب ما نراه من خلو المساجد من الصائمين أين الصائمون؟ أين التالون لكتاب الله؟ أين المعتكفون؟ تجد كثيراً من المسلمين أمام الأفلام والمسلسلات والحلقات، أهذه عبادة؟ أهذه فرحة صائم ينتظر بعد لحظات أو سويعات أن يفرح فرحتين، فرحة فطره، وفرحة لقاء ربه؟ أهذه عبادة يا عباد الله من طلوع الشمس إلى زوالها أو إلى قرب العصر، والبعض تجده في نوم عميق وسبات وغطيط، فإذا صلى العصر في بيته أو مع الجماعة سحب أذيال الهزيمة بأقدام ثقيلة يعود إلى بيته لينظر هذه الأفلام والمسلسلات؟ ما هذا التناقض الذي يعيشه كثير من المسلمين في عبادتهم؟ أتصوم عما أباح الله من الطعام والشراب، وتفطر على ألوان صور النساء، وعلى مقاطع الموسيقى؟ أم تفطر على ما حرم الله جل وعلا؟ أي خداع نفسي نمارسه على نفوسنا؟ وأي غفلة نقع فيها؟ وأي استهتار؟ وأي تخلص من هذه العبادة نقضي به وقت الصيام على أي وجه كان، سواء على مرضاة الله أو على سخطه، على ما أحب أو ما شرع، على ما نهى أو ما زجر، لا والله بل إن الكثير منهم يقضون العبادة على ما زجر ونهى، ما الذي يبيح لك وأنت مفطر أو صائم أن تقلب عينيك في صورة امرأة؟ ما الذي يبيح لك وأنت مفطر أو صائم أن تتمتع جهلاً أو شيطنة بمقاطع الغناء واللهو؟ أتظن بعد هذا أن هذه عبادة ترفع؟ أم تظن أنك تنال بها أعلى الدرجات عند الله: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21]؟ أيستوي أهل الطاعة وأهل المعصية، وإن كانوا مع أهل الطاعات في ظاهر شكلهم وألوانهم في وقت الإمساك ووقت الإفطار؟ حاسبوا أنفسكم -يا عباد الله- وقدموا أعمالاً ترجونها عند الله جل وعلا، فلو كنت مديراً عاماً، أو رئيساً لدائرة أو مسئولاً عن قسم، ثم تابعت موظفيك في عمل من الأعمال لتنظر تقارير إنجازهم وأعمالهم، ورأيت عملاً مختلطاً، وعملاً مرتجلاً، وعملاً مزيفاً، أو فيه زيادة ونقص، وفيه تقريب وإبعاد، وفيه ألوان مختلطة لرميت بتقريره في وجهه، وقلت: أهذا عمل يستحق الموظف عليه راتبه، أو يستحق أن يكون في شرف الخدمة المدنية، أو يستحق أن يكون من الذين يحسبون على الطاقات العاملة في المجتمع؟ فلله المثل الأعلى.(30/5)
أمور لا تكون العبادة إلا بها
عباد الله: انظروا ما تقدمون لربكم، انظروا ما ترفعون من أعمالكم بين يدي الله جل وعلا، أهي عبادة احتساب أم عبادة تخلص؟ والمؤسف أن التخلص أصبح سمة في كل أعمال كثير من المسلمين.
أشاهد هذا بعيني في رمضان، وأشاهده في حج بيت الله الحرام، تجد الناس يطوفون كالمجانين، ويسعون ويرمون الجمرات كالمجانين، ويؤدون المناسك على حال عجيبة وغريبة، لا يستشعرون لذة النسك، ولا يستشعرون لذة المشاعر والمناسك، أين عبادة الرضا وعبادة الاحتساب والتقرب إلى الله جل وعلا؟ فتعبدوا إلى الله عبادة خالصة طيبة، واعلموا أن العبادة لا تكون عبادة إلا إذا تحقق فيها أمران: أولها: المحبة.
وثانيها: الذلة.
المحبة لله ولما شرع، والمحبة لعبادته، والمحبة له مع الذلة والانقياد.
يقول ابن القيم في كافيته الشافية:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى دارت الفلكان
عباد الله: صوموا إلى الله صوم المحبين الخاضعين وتقربوا إلى الله تقرب المحبين الذليلين بين يديه؛ لكي تكون عبادة ترون أثرها في نفوسكم وسلوككم، قال صلى الله عليه وسلم: (آمين آمين، قال الصحابة: من يا رسول الله؟ فذكر منها من دخل عليه شهر رمضان وخرج ولم يغفر له) فما أكثر من دخل عليه شهر رمضان وزادت معاصيهم؛ لأن المعصية تضاعف بشرف الزمان والمكان، فليس الذي يعصي الله في سائر الأيام كمن يعصي الله في رمضان، وليس الذي يعصي الله في سائر البقاع كمن يعصي الله في بيته الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(30/6)
من يبني صومه على تربة هشة من المعاصي والذنوب
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، الحمد لله الذي لا يحمد في كل حال سواه، الحمد لله الذي خلقنا من العدم، الحمد لله الذي هدانا للإسلام، الحمد لله الذي بلغنا هذا الشهر الكريم، الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مئوي، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة نرجو بها النجاة، شهادة الموحد له في ذاته وفي أسمائه وصفاته، شهادة الموحد له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبة وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن وجوهكم الرقيقة وأبدانكم الضعيفة على وهج النار لا تقوى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: ما تقولون في رجل أراد أن يبني بناية عظيمة فاختار أرضاً هشة، واختار تربة طينية، ثم بدأ في وضع بنائه، فلما استقام بناؤه، أخذ يجلب المواد اللازمة لإنشاء هذه البناية مواداً منتهية ومخلطة وسقيمة وضعيفة، أتظنون أن بناءً كهذا يثبت على الأرض؟ أم تظنون أن أعمدة لهذا البناء ترتفع شاهقة في السماء؟ لا والله، بل الذي نجزم به جمعياً أن بناءً كهذا ستسيخ قوائمه، وستغوص قواعده في الأرض، ثم يصبح مدفوناً، كذلك هذه الأعمدة الباسقة ستتحطم بعد أيام قليلة وستتهشم؛ لأن المواد التي أحضرت له مواد سيئة رديئة.
فأسألكم الآن بالله ما تقولون فيمن أراد أن يبني عبادة الصوم على تربة هشة من المعاصي والسيئات، وسماع الغناء، وحلق اللحى، والإسبال وترك الأمور من غير غيرة لله ولرسوله، ومن ضياع لأسرته وقلة ذكرٍ لله وارتفاع لأصوات الشياطين في بيته، ثم يدخل رمضان ويظن أن واجبه أن يأتي بسيارة معبأة محملة بألوان الأطعمة ثم يفرغها في بيته يظن أن هذا واجبه؟ هكذا بدأ بناء الصيام والعبادة على تربة هشة من الأفلام والمسلسلات والحلقات المتتابعة، وألوان الغناء وأجهزة الطرب، وسفور وتبرج وإصرار على معصية الله جل وعلا حتى ولو في الصغائر.
البعض يقول: ما هذا التشدد فيكم؟ ما هذا التعقيد فيكم؟! حديثكم عن حلق اللحى وحديثكم عن إسبال الثياب والغناء وكذا وكذا، نعم تكون هذا صغائر يوم أن يتوب الواحد منها، يوم ألا يصر عليها، لكن لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، أليس من جرَّ ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة، وما أسفل من الكعبين ففي النار؟ أليس حلق اللحى من الأمور التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ أليس سماع اللهو والملاهي وأصوات الشياطين من الأمور المحرمة {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] ليجعله مكان كلام الله جل وعلا؟ أليس هذا محرماً؟ ما تقولون فيمن اختار اللهو والغناء والطرب وفضله واشتاقه ومال إليه على كلام الله وكلام رسوله؟ أبعد هذا يكون الغناء محل خلاف؟ إن بعض الناس يقومون ببناء عبادة الصيام على هذه التربة الهشة والضعيفة من ألوان المعاصي والمحرمات والمنكرات في نفسه وسلوكه، وتجارته وأعماله وبيته، وفي زوجه وأولاده وبناته.(30/7)
وقفات مع الأكل الحرام
بعض الناس يأتي بألوان الأطعمة وألوان الأشربة لتكون زاداً في السحر والإفطار، من أين جاء بهذا المال؟ ومن أين استحق هذا المال؟ وما هو مصرف هذا المال؟(30/8)
وقفة مع أصحاب الربا
إن أقواماً وما أكثرهم في هذا الزمان! قد استحلوا الربا بأتفه الفتاوى، وبأتفه الآراء القبيحة السخيفة التي تبناها أقوام لا خلاق لهم في الدنيا ولا حظ لهم في الآخرة، فصاحوا أمام الناس وأخرجوا وسخهم وقذارة عقولهم ليقولوا: إن الربا الموجود الآن ليس هو الربا المحرم، فوقع في ذلك أقوام وأخذوا لا يتورعون عن الوقوع في الربا والأكل منه والاستثمار من خلاله.
وإذا سئل أحدهم جعل وقايته من النار فلاناً أو علاناً، وما ينجيك فلان يوم أن تكب على وجهك في نار جهنم إن مت من غير توبة، وإن لم يرحمك الله بأوبة؟ عباد الله: إن أقواماً يعدون العدة لهذا الشهر بالسحر والإفطار والنفقة من الربا الذي درهمٌ منه أيسر عند الله من ستة وثلاثين زنيه يزنيها الرجل بأمة.
الربا الذي توعد الله فاعله بحرب من الله ورسوله.
الربا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، أبعد هذا يتجرأ مسلم على أن يطعم أولاده ويطعم زوجه وبنيه وبناته وينفق في هذا الشهر من الحرام.(30/9)
وقفة مع صاحب الأفلام والتسجيلات الغنائية
أما ماذا عن أصحاب الفيديو وأصحاب التسجيلات الغنائية؟ عجباً لأمرهم! والله تأملت حال عدد من أصحاب المحلات ورصدت أعمالهم فوجدت أمراً غريباً، إنهم لا يكسبون إلا الآثام والأوزار، تجد أحدهم واقف على طاولة الحساب عند بوابة المحل أو مقدمته، فإذا جمع غلة ذلك اليوم صرفها على فساق موظفيه من الوجوه الذين لا ترى واحداً منهم ساجداً لله أو راكعاً، وجوه قذرة ونتنه وباطلة، والله ما رأيت وجهاً يشرح الصدر في محلات الفيديو من الباعة أو من الموظفين، وأما المسكين صاحب المحل، ذلك المسكين الغرير فهو يجمع الغلة من هذه الغلة يسدد إيجاراً محرماً، ومن هذه الغلة يدفع راتباً على نشاط محرم، وهو العمل والتسجيل والتصوير لهذه الصور الخليعة المحرمة، وما بقي من الغلة التي يجنيها آخر النهار يسدد بها المراكز الكبيرة العظيمة أكبر مؤسسات إنتاج الأفلام والأشرطة، ثم يعود يسحب أذيال الخيبة والهزيمة ليعد بقية من دريهمات هي التي صفت له.
مسكين ذلك الذي يتاجر بهذه الأفلام، تذهب غلته كلها جزء منها لموظفيه، وجزء في إيجاره، وجزء في مصارفه، وجزء للذين يمونونه بالأشرطة والأجهزة ويعود بقليل من الدريهمات ينفقها في حرام، ويلبس من حرام، ويصرف من حرام، ثم يرفع يديه مع المسلمين في رمضان يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له يا عباد الله! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.(30/10)
إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا
عباد الله: ما شاعت فينا هذه الأمراض والمفاسد والمصائب، إلا يوم أن اختلطت اللقم بين الحلال والحرام، يوم أن نبتت الجسوم من الحلال والحرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أيها الأحبة: أنبني عبادة على أرض هشة من المعاصي والسيئات، أم نتزود على عبادة بأموال محرمة؟ أدعوكم ونفسي إلى الأوبة الصادقة إلى الله جل وعلا، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] والله جل وعلا يوم أن يذكر عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68 - 70].
فباب التوبة مفتوح، ولا أقول لكم تقنيطاً أو لنيئس من رحمة الله ومن توبة الله علينا، لا والله، لكن إذا أردنا أن نضع الخطوة الأولى والقدم الأول في هذا الشهر الكريم، فلتكن بدايته التوبة، فلتكن انطلاقتها التوبة من كل ما حرم الله، ومن كل ما زجر عنه رسول الله، والبراءة من أموال الحرام، البراءة من أموال الفيديو المحرمة وأموال التسجيلات الخليعة المحرمة، وأموال الربا، والمكاسب المشبوهة.
أسأل الله جل وعلا أن يجعل حظنا من صيامنا وقيامنا أوفر الدرجات من رضوانه، وأعلى الحظوظ في جنانه.
اللهم اهد المسلمين أجمعين، اللهم تب علينا مع التائبين، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم علينا توبة صادقة بين يديك يا رب العالمين.
اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت ونحن عبيدك بنو عبيدك، نبوء لك بنعمك علينا، ونبوء بذنوبنا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم إنك كنت غفاراً فاغفر لنا يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا إصرارنا وعلمنا وجهلنا وتفريطنا، وحوبنا، وتقصيرنا، وهزلنا وجدنا، وعمدنا وغفلتنا، وما أنت أعلم به منا.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم حبب إلينا ما شرعت، وبارك لنا فيما أحللت، وكرهنا إلى ما حرمت يا رب العالمين.
اللهم خذ بأيدينا واعصمنا عن الحرام ووفقنا إلى الحلال يا رب العالمين، اللهم لا تجعلنا من الذين لا حظ لهم من صومهم إلا الجوع والعطش، ولا حظ لهم من قيامهم إلا التعب والسهر، اللهم اجعل قبول وقدوم هذا الشهر علينا توبة صادقة منا إليك، وتوبة منة ورحمة منك علينا يا رب العالمين.
اللهم اهد شبابنا ورجالنا وبناتنا وزوجاتنا، اللهم اهد أصحاب محلات الفيديو، اللهم امنن على قلوبهم بالتوبة، اللهم اهدهم يا رب العالمين.
يا عباد الله: أمّنوا في هذه الساعة المباركة، والله ما قلنا ما قلناه فيهم إلا شفقة عليهم وعلينا من عذاب الله، وخوفاً علينا وعليهم من سخط الله، ومن دليل محبتنا وإشفاقنا عليهم أن ندعو الله لهم بالهداية، اللهم اهدهم، اللهم كرهم إلى هذه التجارة المحرمة، اللهم بغض هذه التجارة إلى قلوبهم وارزقهم البراءة منها وممن يعمل فيها يا رب العالمين، اللهم اهدهم وأبدلهم يا رب أرزاقاً مباركة وتجارة مشروعة، اللهم اهدهم.
اللهم اهد أكلة الربا إلى الطريق المستقيم، اللهم كره إلينا وإليهم الربا، اللهم حبب إلى الجميع الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا وإياهم من الراشدين، وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان يا رب العالمين.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم اهده وإخوانه وأعوانه، فبهدايتهم هدايتنا، اللهم أصلحه وأصلح إخوانه وأعوانه فبصلاحهم صلاحنا، اللهم فلا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم من أراد بهم سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم وحد صفهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم سدد رصاصهم، اللهم اجبر كسرهم، اللهم فك أسرهم، اللهم ارحم أيتامهم، اللهم تلطف بعجائزهم وشيوخهم، اللهم أبدل خوفهم أمناً، وفزعهم طمأنينة، وجوعهم شبعاً، وعطشهم رياً يا رب العالمين يا أرحم الراحمين.
اللهم حرر المسجد الأقصى من اليهود، اللهم بارك في الانتفاضة المباركة في أرض فلسطين، اللهم اجعل أحجارهم قنابلاً في جماجم اليهود، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انصرهم بنصرك فإن المسلمين لا يعلمون عنهم إلا القليل، اللهم انصر المجاهدين في مورو والفليبين، اللهم انصر المجاهدين في جميع أنحاء الأرض يا رب العالمين.
اللهم صل على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.(30/11)
العبادة الميسرة
إن لكل مادة ما يحركها؛ فللسيارة وقودها المناسب، وللأبدان غذاؤها المناسب، وكذا للقلوب غذاؤها المناسب وهو الذكر.
وقد تحدث الشيخ هنا عن فضل الذكر وأنه حياة القلوب وقد ذكر جملة من فوائد الذكر في الدنيا والآخرة، واستعرض مظاهر غفلة الناس عنه رغم أهميته لكل عبد، وهو رغم سهولته الأجر فيه عظيم والجزاء له جزيل، وقد تكلم أيضاً عن أنواع من الذكر وحثَّ السلف عليه(31/1)
الذكر حياة القلوب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: يا معاشر المؤمنين! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ويقول جل شأنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أيها الأحبة في الله: لكل متحركٍ في هذا الزمان مادته ووقوده الذي يحركه، فمن رامَ تحريك الطائرات بالأحجار ما تحركت قيد أنملة، ومن رام تحريك السيارات بالرمال ما تحركت خطوة، ومن رامَ تحريك السفن بالأطعمة ما تحركت ميلاً، وكذلك الأبدان لو أراد رجلٌ أن يملأ البطون بالحجر أو بالرمل ما تحركت؛ لأن لها وقوداً ومادةً تحركها، فكذلك القلوب، لها مادةٌ لا تتحرك إلا بها؛ فإن وجدت تلك المادة تحركت هذه القلوب يقظةً وإنابةً وخوفاً وخشيةً ومراقبةً واستجابةً لأمر الله، وهي الملوك على الجوارح، فتكسب تلك الجوارح خضوعاً وطاعةً وامتثالاً لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا غذيت القلوب أو رامَ عبدٌ سقي قلبه بغير المادة التي يحيا بها القلب لم يفد ذلك الطعام، أو لم تزد تلك المادة القلب إلا خموداً ومرضاً وموتاً وهلاكاً.
إن حياة القلوب ليست بالطعام، وليست بالشراب، وليست بالقيل والقال، وليست كما يظن بعض المنحرفين في هذا الزمان بالغناء والموسيقى بأنواعها الصاخبة والراقصة والهادئة، وإنما حياة القلوب ذكر الله جل وعلا، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
حياة القلوب، أن تذكر في ملأ الله الأعلى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] حياة القلوب أن تغشاها الملائكة، أن تحفها الملائكة، أن تغشاها السكينة، أن تتنزل عليها الرحمة (ما جلس قومٌ مجلساً يذكرون الله فيه، إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم السكينة، ونزلت عليهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) حياة القلوب ذكر الله جل وعلا، أن يلهج اللسان بالذكر، وأن يستحضر القلب هذه المعاني، فلا تسل بعد ذلك عن إشراقة الوجه، وطمأنينة القلب، وهدوء البال، ولذة الحياة؛ لأن العبد بهذا يوافق مخلوقات الله في توجهها إلى الله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء:44].
أيها الأحبة في الله: ربما وقفنا موقفاً رأينا رجلاً يسمى: (بلبل) -يعني يتحدث بلغاتٍ عديدة- يجيد لغة الألمان والإنجليز والروس وغيرهم، فنعجب به وننظر إليه، وتشتد غبطتنا له؛ فيما استطاع لسانه أن يجمع من ألوان مفردات هذه اللغة، ومعانيها وجملها وتراكيبها، لكن ما أقل ما غبطنا الذاكرين، إن الغبطة كل الغبطة أن تغبط ذاكراً لله في كل أحواله، أن تغبط عبداً يلهج لسانه بذكر الله جل وعلا، ولا يعني ذلك أن نحتقر من وجدناه يجيد لغاتٍ شتى، فذلك علم، وذلك فهم، وتلك منحة، ولكن غبطتنا بمن اشتغل لسانه بذكر الله، ينبغي أن تكون أضعاف أضعاف ما نحن عليه، يوم أن نغبط متحدثاً بمعلوماتٍ سياسيةٍ أو اقتصادية، أو مفرداتٍ لغوية، من لغاتِ شتى، فما هو الذكر يا عباد الله؟(31/2)
المراد بالذكر الشرعي
الذكر زاد المؤمنين وحياة الصالحين، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: والمراد بالذكر الإتيان بالألفاظ التي وردت ترغيباً في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة، يعني: من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله، وحسبنا الله، والاستغفار، -يعني وأستغفر الله- قال: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل، بما أوجبه الله أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة.
وقال معاذ بن جبل: [مذاكرة العلم تسبيح] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما دمت تذكر الله، فأنت في صلاةٍ وإن كنتَ في السوق] وقال سعيد بن جبير: [كل عاملٍ لله بطاعة، فهو ذاكرٌ لله] وقال عطاء رحمه الله: [مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا].
إذا تقرر هذا، أدركنا أن ذكر الله بألفاظٍ مخصوصة، ويدخل في ذكر الله الاشتغال بمعرفة الأحكام، والحلال والحرام، ومعرفة التفسير، ومعرفة السند والمتن والجرح والتعديل والرواية، فذلك داخلٌ في ذكر الله سبحانه وتعالى.(31/3)
الذكر عند الصوفية
أما الصوفية الذين ضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيداً فلم يفقهوا أن الذكر داخلٌ في هذا، بل وعدوا الأذكار نوعين: ذكرٌ يفهمه العوام، وذكرٌ يختص بعلمه الخواص، فأما ذكر العوام فهو سائر الأذكار المشروعة، التي وردت في الكتاب والسنة، كقول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، إلى غير ذلك يقولون: هذه أذكار العوام.
أما أذكار الخواص فهي: إشراقاتٌ تتجلى على القلوب بنطق بعض عبارات الذكر يدرك الذاكر منها معانيَ لا يفهمه العوام، وهذا الكلام كله هرطقةٌ وخزعبلات، يظنون ويقولون ويجزمون بأن ذكر الخواص بدلاً من أن يقول الذاكر: لا إله إلا الله، أي يقول: وهو يهز برأسه يمنةً ويسرةً ويقدم ويؤخر برأسه أن يقول: الله الله الله، ويظن أن هذا من أعلى درجات الذكر!! عجباً لحثالةٍ في دبر هذا الزمان تظن أنها أدرى بالذكر ممن جاء به من ربه جل وعلا! عجباً لحثالةً في دبر القرون المتأخرة، تظن أنها أعلم بحقائق الذكر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي! عجباً لحثالة الصوفية الذين اختصوا أنفسهم بما لم يختص به، أو بما لم يكن وليس في ذلك شرفٌ يخصون به، ولكنهم ادعوه بما لم يكن لأنبياء الله ورسله وأفضل خلقه من الصحابة والقرون المفضلة!! ذكر أن في أيام ولاية الأتراك على الحجاز أن الشريف عون كان في زمنه يجلس الصوفية في الحرم المكي الشريف، فيذكرون الله بهذه الأذكار، يذكرون ذكراً مبتدعاً وذكراً ممنوعاً لا مشروعاً، يقولون: الله الله الله هو هو هو فنهاهم شيخٌ من علماء نجد رحمه الله رحمةً واسعة، فلما شق نهيه عليهم، وكثر إنكاره على فعلهم، شكوه إلى الشريف عون، فاستدعاه وطلبه، ولما مثل بين يديه قال: لماذا تنهى الناس أن يذكروا ربهم في بيت الله؟ فقال ذلك العالم الجليل: يا أيها الشريف! لو أن رجالاً جاءوا بين يديك واسمك عون، فقالوا: عو عو عو أترضى أن تنادى أو تذكر بهذا، قال: لا.
قال: فكذلك الله، قد شرع لنا أن نذكره بأن نقول: لا إله إلا الله، فكيف نرضى أن يذكر ربنا بقولهم: هو هو ونحو ذلك؟!! فاقتنع الشريف بعد هذا، ومنع القوم من هذا النوع من الذكر، صدق الله العظيم: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180].(31/4)
أكمل حالات الذكر
الذكر أيها الأحبة: أكمل أحوال الذاكر فيه أن يكون العبد ذاكراً لله بلسانه، مستحضراً معنى الذكر بقلبه، فإذا انضاف إلى ذلك وقوع الذكر في عبادة، كصلاةٍ وجهادٍ وحجٍ وصيامٍ واعتكاف، كان الذكر في هذه الأحوال أكمل، ولو أن عامياً من العوام ذكر الله ذكراً لم يفقه معناه، فهو على أجرٍ عظيم، وخيرٍ عميم؛ لأن فضل الله واسع: ومن ذا يتحجر رحمة الله التي وسعت كل شيء.
أيها الأحبة في الله: عجباً لنا كيف نحرم حظاً ورزقاً وفضلاً عظيماً من هذا الذكر وهو عبادةٌ أجرها عظيم، ومؤنتها يسيرة؟! الذاكر يذكر ربه باللسان، لو أردت أن تحرك يدك بعدد حركات لسانك في يومٍ وليلة لكلت وملت وسقطت يدك في نصف نهار أو نصف ليلة، أكثر أعضاء البدن حركةً هو اللسان، فلو أردت أن تذكر الله بيدك، أو تمشي بخطىً تمضي إليها، أو تفعل أفعالاً ببدنك لقصرت همتك وقوتك دون ذلك، أما حركات اللسان فكثيرةٌ كثيرةٌ جداً، فسبحان من يحصيها: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وبإمكانك أن تذكر الله هذا الذكر العظيم، بأخف جارحة تحركها، وهي جارحة اللسان.
كم يفوتنا من الأجر؟ -والله- لو عدت كلماتنا في القيل والقال، والمال والسؤال، والعيال والأحوال، لوجدناها ملايين الكلمات، ولو نسبنا مقدار ذكرنا لله إلى اشتغالنا بتلك الأحوال لما وجدنا الذكر بالنسبة لها إلا شيئاً يسيراً يسيراً، كم فاتنا من الأجر؟ كم فاتنا من الخير؟ كم فاتنا من الفضل؟ وسنقدم جميعاً حال نزع الروح ثم فراقها إلى دار جزاءٍ وليست بدار عمل، نتمنى لو ينشق القبر عنا لحظة، لنقول: لا إله إلا الله، لنقول: سبحان الله، أو نقول: الحمد لله.
فالذكر من أيسر العبادات، وأجلها وأفضلها، وحركة اللسان أخف حركات الجوارح، ولو تحرك عضواً من أعضاء البدن في اليوم والليلة بقدر حركات اللسان لشق على البدن ذلك غاية المشقة، بل لا يستطيع ذلك ألبتة، فالذكر يسير، ومن دلائل يسره: أن كثيراً من العبادات لا تستطيع أداءها إلا على هيئة مخصوصةٍ وحالٍ مخصوصة، أما الذكر فلك أن تذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً وعلى جنبك وذاهباً وآيباً، وراكباً وغادياً، وراحلاً وحالاً، ومتنقلاً ومسافراًَ، الذكر عبادة، تستطيع أن تؤديها وأن تقوم بها في كل آنائك وفي كل أحوالك وذلك فضل الله، وذلك خيرٌ من الله لهذه الأمة وهو مشروعٌ لسائر الأمم قبلنا، ولكن كثيراً من الناس عن فضل الله غافلون.(31/5)
دلائل فضل الذكر
أيها الأحبة في الله: ومن دلائل فضل الله بهذا الذكر، وأن الله يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل: عبادة الأذكار، فأنت تقول: الحمد لله، فتكتب لك ثلاثون حسنة، أي جهدٍ أي مشقة؟ أي كلمة؟ أي عناءٍ تعبت فيه وأنت تقول: الحمد لله؟ هذا فيه دلالة على أن الله جواد كريم مفضال، وأن الله ليس بحاجة إلى أعمال العباد، فلو كان الله بحاجة أعمالهم لكان أعلى العبادات أجراً أعلاها كلفة ومشقة ومئونة، فأنت ترى الذكر عبادةً يسيرة عليها فضلٌ عظيم.
قال العز بن عبد السلام رحمه الله: وفي هذا أن الثواب لا يترتب على شكل العمل أو هيئته، قال ربنا جل وعلا: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
فمن هم الذاكرون؟ علنا أن نكون منهم! ومن هنّ الذاكرات؟ علّ بناتنا ونساءنا وأزواجنا يكنّ منهن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منزله ذكر الله] وقال مجاهد: [حتى يذكر الله قائماً وقاعداً] وقال ابن الصلاح: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
ولكن اعلم أنك تنال هذا الأجر بعبادةٍ يسيرةٍ أيضاً، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم (إذا أيقظ الرجل أهله، فصليا من الليل جميعاً، كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) رواه أبو داود والنسائي والحديث صحيح.
والذكر أيها الأحبة! فضله عظيمٌ عظيم جداً، ففي هذا الحديث تعلمون قيمة ما تذكرون بألسنتكم من فضل الله ونعم الله وآلاء الله، وقيمة ما تسألون به الله جل وعلا.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند ملككم وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، والحديث صحيح.
وفي هذا الذكر -كما مر معنا-: أن يكون العبد دائماً في ملأ الله الأعلى، يدل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقةٍ من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟! قالوا: -والله- ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم ملائكته) رواه الإمام مسلم.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله جل وعلا) رواه الإمام أحمد والحديث صحيح.(31/6)
عظم منزلة الذكر في الشرع
أيها الأحبة: وحسبكم دلالةً وبياناً على أن الذكر عبادةٌ عظيمة: أن كل عبادةٍ مربوطةٌ بالذكر بعد الفراغ منها، فالصلاة ذكرٌ وعبادة ثم يشرع بعدها ذكر الله، والحج توحيدٌ وذكر، ثم بعده يشرع ذكر الله، والصيام عبادة، ويشرع بعده ذكر الله، قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:200] وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء:103] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45] {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة:185].
فمن دلائل أن هذا الذكر عظيم: أن العبادة ذات العبادة تختم بعد ذلك وتتوج بذكر الله جل وعلا، وحسبكم يا معاشر المؤمنين! في ذكر الله علواً وعبادةً جليلةً أن كل عبادةٍ تنقطع في الجنة إلا عبادة الذكر فهي باقية!! ليس في الجنة صيام، وليس في الجنة صلاة، وليس في الجنة جهاد، ولكن في الجنة ذكرٌ لله؛ فالتكاليف الشرعية في الدنيا تنقطع عن العباد في الآخرة، إلا ذكر الله فهي باقية، ولكنها باقيةٌ على وجه الكرامة والتشريف، وليست على وجه التكليف.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: فصلٌ في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة: دل على ذلك حديث مسلم في صحيحه، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قال صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاءً ورشحاً كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النَّفس) وفي رواية: (يلهمون التسبيح والتكبير، كما تلهمون أنتم هذه الأنفاس) أي: يلهمون تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس.
الله أكبر: كل عبادةٍ في الجنة ترتفع إلا عبادة ذكر الله، ما ذاك إلا لفضلها، وعظمها وشرفها وعلو منزلتها، فهنيئاً للذاكرين:
عطايانا سحائب مرسلاتٍ ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نورٌ ونورٌ ولكن ما رأينا السالكينا(31/7)
ما يتركه الذكر من أثر في قلب الذاكر
وذكر الله أيها الأحبة! يكسبُ العبد خوفاً وإنابةً وخشيةً ورجوعاً إلى الله، فأنت حينما تقول لرجلٍ غافل: اتق الله، أخوفك بالله، أدعو عليك، أفعل بك، فإنه لا يأبه بك، ولكن يوم أن تقول لرجلٍ ذكّارٍ شكار ذاكرٍ شاكر: اتق الله يوم تلقى الله؛ يضطرب ويهتز ويراجع نفسه ألف مرة حتى وإن لم يظهر على لسانه علامات الرجوع أو التراجع.
هذا كان جلياً واضحاً في سلف الأمة، وخلفائها الراشدين، والمقامُ يضيق بالأمثلة، وحسبكم مثالاً واحداً على أن الذكر يكسب أصحابه الخوف والخشية من الله.
جاء أعرابيٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله، وكان ذلك الأعرابي فقيراً ذا متربة، مسكيناً لا يجد شيئاً، فلما قدم الأعرابي على عمر، قال:
يا عمر الخير جزيت الجنه اكسو بنياتي وأمهنه
وكن لنا في الزمان جنة أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر رضي الله عنه: [وإن لم أفعل يا أعرابي يكون ماذا؟!] فقال الأعرابي:
إذاً أبا حفص لأمضينه
فقال عمر: وإن مضيت فماذا يكون؟ فالتفت الأعرابي إلى عمر رضي الله وقال: يا عمر:
إذاً والله عنهنّ لتسألنه يوم تكون الأعطيات مِنه
وموقف المسئول بينهنه إما إلى نارٍ وإما جنه
فبكى عمر حتى بلَّ دمعه لحيته، واضطرب من هذا الكلام، خوف بالآخرة، فدخل داره يصول ويجول، يبحث عن طعام أو صدقةٍ يعطيها هذا الأعرابي فلم يجد، فعاد إليه ونزع رداءه وقميصه وقال يا إعرابي! خذ: هذا ليومٍ تكون الأعطيات فيه منة
وموقف المسئول بينهنه إما إلى نارٍ وإما جنه
لو قيل هذا الكلام لمن لا يذكر الله، أو ليس لله في قلبه وقار: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] لقال: اذهب، ولو خوف بالسؤال لقال: أنا مستعدٌ للجواب، ولو قيل له ما قيل، لرد بكل إجابةً باردة، أما الذين يخافون الله جل وعلا، فإذا خوفوا بالله خافوا.
كان عمر: إذا قيل له اتق الله، اضطرب وبكى وعرفت الخشية في وجهه رضوان الله عليه.(31/8)
فوائد الذكر
ذكر الله مرضاة لله جل وعلا، مطردةٌ للشيطان؛ لأن الشيطان خناسٌ عند ذكر الله، وذكر الله مزيلٌ للهموم والغموم، وذكر الله سببٌ للفرج: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
وذكر الله يحط من الخطايا وينجي من عذاب الله، وهو غراس الجنة، وذكر الله اشتغالٌ اللسان بالطاعة عن المعصية، وسببٌ لنزول السكينة وغشيان الرحمة، وأمانٌ للعبد من الحسرة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه؛ إلا كان عليهم ترة يوم القيامة).
والذاكر يعطى باشتغاله بالذكر أكثر مما يعطاه السائل باشتغاله في المسألة، والذكر يعطي قوة بإذن الله، وفيه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.(31/9)
الذكر يعطي قوة في البدن
أما أن الذكر يعطي قوة فيدل عليه هذا الحديث: فلقد علم علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جيء إليه بأعبد -بسبي- فقال علي: يا فاطمة! قد تعب صدري من نزح الماء من البئر، قالت فاطمة: -والله- يا علي! وأنا مجلت يداي من الرحى، فقال علي: هلا ذهبتِ إلى أبيك فسألتيه لنا خادماً فإني سمعتُ أن أعبداً أو سبياً جيء به إليه صلى الله عليه وسلم، فذهبت فاطمة، فلما دخلت على أبيها وحبيبنا صلى الله عليه وسلم خجلت واستحت -يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ- ثم عادت أدراجها.
فلما عادت إلى علي رضي الله عنه قال علي: ما فعلتِ يا فاطمة؟ قالت هبتُ واستحيت أن أسأل أبي، فذكر لها مثل ما ذكر الأولى، فعادت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت بين يديه، قالت: يا رسول الله! علي يشكو ما به من نزح الماء من البئر -يسني على صدره- وأنا مجلت يداي من الرحى وقد سمعنا أن أعبداً جيء بهم إليك، فأخدمنا خادماً يا رسول الله! فالتفت صلى الله عليه وسلم، قال: يا فاطمة! والله لا أعطيكِ وفقراء الصفة جياع، ولكن أبيع هؤلاء الأعبد، فأنفق على جياع أهل الصفة، فإن فضل من المال شيء أعطيتكم وأعطيتُ غيركم.
فعادت فاطمة مرةً أخرى أدراجها تمشي القهقري إلى بيتها، فلما قدمت إلى علي يظن أن الخادم يتبعها أو في إثرها، فلم يرَ شيئاً، فانضم الحبيبان إلى بعضهما وأويا إلى فراشهما، ولما جن الليل خرج صلى الله عليه وسلم يمشي إليهما، وفي نفسه صلى الله عليه وسلم من الأثر أبلغ مما في نفس فاطمة كيف لا وهي حبيبته وسيدة نساء أهل الجنة؟ فدخل عليهما فوجدهما ملتحفين في فراشٍ واحدٍ قد بدت رجلاهما من قصر الفراش، وقد غطيا رأسيهما وبدت رجلاهما.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس بينهما، قال علي: فوجدت برد يدي النبي صلى الله عليه وسلم على بطني أو فخذي، فقال صلى الله عليه وسلم: (أفلا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادمٍ وخادمة؟ تسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبرا الله أربعا وثلاثين، فذلك خيرٌ لكما من خادمٍ وخادمة).
قال علي: [فكنت أجد فيها قوة وما تركتها أبداً].
قيل للإمام علي رضي الله عنه: حتى ليلة صفين؟ قال: [حتى ليلة صفين ما تركتها وما شغلت عنها].(31/10)
حث السلف على الذكر
كان السلف رضوان الله عليهم يعلمون أن الذكر سبب قوتهم، يعلمون أن الذكر سبب صمودهم بعد رحمة الله وتثبيته.
قال ابن القيم: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية: مرةً صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [عليكم بذكر الله، فإنه شفاء، ذكر الله دواء، ذكر الله قوة].
قال عمر: [وإياكم وذكر الناس فإن ذكر الناس داء].
وقال عبيد بن عمير: [إن أعظمكم هذا الليل -يعني إن عجزتم وقصِرتُم وقصَّرتم دون اغتنام هذا الليل وما فيه من البركات في الأسحار- إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم على المال أن تنفقوه وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه، فأكثروا من ذكر الله عز وجل].
وقال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه: [علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لم تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره] وهذا مشاهدٌ في بشر هذا الزمان وفي كل زمان، فإن من أحب شيئاً أكثر ذكره.
من أحب الأسهم والسندات أشغل الناس في المجالس بالحديث عنها، ومن أحب العملة أشغل الناس بالحديث عن الدولار والين، ومن أحب العقار أشغل الناس في المجالس بالحديث عن الأسعار والأمتار، ومن أحب المزارع أشغل الناس عن الأدوات الزراعية والسؤال عنها، ومن أحب ربه يقين المحبة لم يفتر لسانه وقلبه عن ذكر الله جل وعلا.
أيها الأحبة في الله: ولا يقولنّ عبدٌ ليتذرع أو يترك الذكر في حالٍ ليظن أن الذكر لا يكون إلا على طهارة، فللعبد أن يذكر الله جل وعلا كما قال النووي رحمه الله: أجمع العلماء على جواز الذكر بالقلب واللسان للمحدث والجنب والحائض والنفساء.
فإن بعض الناس إذا أجنب لم يذكر الله، وبعض النساء إذا كانت في حيضٍ لم تذكر الله، وذلك جهلٌ وخطأ، فللعبد أن يذكر الله سواء إن كان محدثاً وجنباً أو كانت المرأة حائضاً ونفساء، وذلك في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قراءة القرآن، وقال رحمه الله: يجوز للجنب والحائض أن يقول عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يقصد بها القرآن، ويقول عند ركوب الدابة: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، أو يقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة إذا لم يقصد القرآن، وإذا سلم على الذاكر استحب له الرد، وإذا عطس عنده أحدٌ شمته، ثم عاد إلى ذكره، وإذا سمع المؤذن قطع ذكره وعاد إلى إجابة المؤذن.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذاكرين الله كثيراً، وأن يجعل أهلينا من الذاكرات، نسأله سبحانه أن يهدي قلوبنا وألسنتنا إلى الاشتغال بذكره.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(31/11)
ذكر طرف من أنواع الذكر
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ؛ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.(31/12)
قول العبد: (الحمد لله)
أيها الأحبة: اسمعوا طرفاً وشيئاً من الأذكار السهلة الهينة اليسيرة على الألسنة، والتي رتب عليها الأجور العظيمة بإذن الله وفضله ومنَّه، فكلمة (الحمد لله) قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة) وكذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) رواه مسلم.
وفي الحديث: (أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون) أي: الذين يكثرون حمد الله جل وعلا.
وإن مما ينبغي أن نتوقف عنده قليلاً عند حديث: (إن الله ليرضى على العبد) أي يأكل الأكلة فيحمده عليها، في مناسبات الأفراح وفي قصور الأفراح إذا دُعي الزوار إلى صالة الطعام أول ما يضعون أيديهم على صحون الأطعمة يسمعون صوت الغناء من النساء بالمكبرات، فكيف يجتمع شكر الله على هذه النعم والموائد الطويلة، وكيف يليق بالقوم أن يتقلبوا في نعم الله بألوان المآكل والمشارب وهم أول ما يضعون أيديهم بعضهم يقول: باسم الله! وفي الصالة المجاورة بصوتٍ مسموع يسمع صوت الغناء، وبعض النساء يستخدمن مكبرات الصوت، ولا تكف الدفوف عن الضرب، ناهيك عما قد يدخل من أجهزةٍ ومسجلاتٍ وموسيقى وغير ذلك!! فهل يليق أن يكون المدعوون مشتغلين على هذه النعم يأكلون منها وواجبهم حالها أن يشكروا الله ويحمدوه في الوقت الذي يسمع فيه صوت النساء بالمكبرات؟! هل هذا من شكر الله؟! هل هذا من الثناء على الله بنعمه؟! هل هذا من القيام بشكر الله؟! لذا فإننا نوصي أنفسنا حال ما نكون مسئولين عن أي مناسبةٍ أو دعوة، أن نمنع النساء من ضرب الدفّ إلا بعد خروج الرجال من صالة الطعام! ونقول: الدف المشروع منه والمسموح منه بنص الشرع، أما ما يحصل في كثيرٍ من الصالات من سماعات ومكبرات وآلات أو موسيقى أو أغانٍ فيها غزل وفيها تشبيب، وفيها ما فيها من الكلام الذي يهيج النساء بعضهن على شهوة، وبعضهم على فاحشة، وبعضهن على فتنة، فهذا لا يجوز ألبتة، حتى لو لم يكن معه إلا الدف وحده هذا أولاًّّ!! الثاني: أن نتناصح: فإذا نزلنا مقاماً أن نتناصح فيه، ونقول لصاحب الوليمة: نحن على نعمةٍ من نعم الله، وموائدٍ لا يحدها البصر، فواجبك أن تمنع النساء من الدف ورفع الأصوات حتى ننتهي من نعمة الله، حتى نسمي الله، ونأكل ونحمد الله، ونقوم عن هذه المائدة، وقد شكرنا الله جل وعلا، ثم حينئذٍ يضربن ما شرع أو سمح لهن من الدف.
الثالثة: نوجهها إلى هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي سلطةٌ قادرة أن تعمم على جميع قصور الأفراح ألا يبدأ بالدف حال وجود الرجال في صالة الطعام، وألا ترتفع أصوات النساء بالأهازيج أو بالدف أو النشيد إلا إذا خرج القوم وقد انتهوا من الأكل والشرب؛ حتى لا نتهاون بالنعم {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] تهاونت، وبطرت، وعبثت، لم ترع للنعمة حقها؛ فأذاقها الله لباس الجوع والخوف وذكر الجوع والخوف بصيغة اللباس، فُصل الجوع كما تفصل الملابس، وفُصل الخوف كما تفصل الملابس، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، نحنُ على خطر إن لم نشكر هذه النعمة:
إذا كنتَ في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم(31/13)
قول العبد: (سبحان الله)
وأما كلمة (سبحان الله) ففضلها عظيم، وأمر الله بها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] وقال تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ} [غافر:55] وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) متفقٌ عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يكسب كل يومٍ ألف حسنة، فقال سائلٌ من الجلساء كيف يكسب أحدنا ألف حسنة، قال: يسبح مائة تسبيحه فتكتب له ألف حسنة، أو يحطّ عنه ألف خطيئة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).
والله ربما جلسنا في الجدال والمراء والحوار والأخذ والرد والقصص والحكايات والروايات ساعاتٍ طوال، فإذا قيل لأحدنا نمكث نذكر الله بعد الصلاة ربع ساعة، أو عشر دقائق، قال: إني مشغول.
لا تذكر الأشغال إلا دبر الصلاة، لا تذكر الأعمال إلا حال استحضار الذكر أو عند هم العبد به، أما يوم أن تغفل النفس فلكثيرٍ من الناس قدرة أن يملأ أشرطة مئات الساعات قيلاً وقالاً دون ذكر الله جل وعلا.(31/14)
فضل الاستغفار
وأما الاستغفار فمن ذكر الله وفضله عظيم، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110].
ما أكثر ما نذنب، وما أكثر ما نزِل، وما أكثر ما نخطئ، فهل نلحق كل ذنبٍ استغفاراً، وهل نلحق كل سيئةٍ حسنة، وهل نتبع كل خطيئة صالحة، إذاً والله بمنٍ من الله، نقدم على الله من الذنوب على خفةٍ من غير ثقل.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قال: يا رب! وعزتك لا أبرح أغوي عبادك، ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال ربنا جل وعلا، وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) وقال صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) رواه أبو داود وابن ماجة.(31/15)
الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني آتٍ من ربي فقال: من صلى عليك من أمتك صلاةً كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، ورد عليه مثلها) والحديث صحيح.(31/16)
الباقيات الصالحات
والأذكار أيها الأحبة كثيرةٌ، فمنها: الباقيات الصالحات: سبحان الله وبحمده، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهي ذكرٌ عظيمٌ قال فيه صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر، كتب له مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله، كتب له مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين، من قبل نفسه، كتب له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة) حديثٌ صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خذوا جنتكم -خذوا دروعاً خذوا وقايةً خذوا حصانةً من النار- خذوا جنتكم من النار قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدماتٍ ومعقباتٍ ومجنبات وهن الباقيات الصالحات) حديثٌ صحيح.
وفضل التهليل والتكبير كثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيٍ قدير، في يومٍ مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب -يعني كأنما أعتق عشرة أعبد- وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت حرزاً من الشيطان يومه ذلك، حتى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٌ عمل أكثر من ذلك) متفق عليه.(31/17)
الذكر في كل وقت وحين
قال سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: ويشرع لكل مسلمٍ ومسلمة أن يقول هذا في صباح كل يوم؛ حتى يكون حرزاً له من الشيطان، فلنداوم على الأذكار، ولنحرص عليها ولا نعرضها بتهاونٍ أو بأعمالٍ أو أشغال.
قال النووي رحمه الله: ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقتٍ من ليلٍ أو نهار، أو عقب صلاةٍ أو حالةٍ من الأحوال، ففاتته أين يتداركها، وأن يأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها، والاقتصار على الوارد المأثور الثابت الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه غنيةٌ وبركة.
قال ابن سعدي رحمه الله:
وكن ذاكراً لله في كل حالةٍ فليس لذكر الله وقتٌ مقيدٌ
فقد أخبر المختار يوماً لصحبه بأن كثير الذكر في السبق مفردُ
وأخبر أن الذكر غرسٌ لأهله بجناتٍ عدنٍ والمساكن تمهدُ
وأخبر أن الذكر يبقى بجنةٍ وينقطع التكليف حين يخلدُ
وينهى الفتى عن غيبةٍ ونميمةٍ وعن كل قولٍ للديانة مفسدُ
ولكننا من جهلنا قل ذكرنا كما قلّ منا للإله التعبدُ
أسأل الله جل وعلا أن يمنّ علينا بذكره، وأن يكرمنا بشكره، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيراً، وأن يجعل أهلينا من الذاكرات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمامنا، اللهم اهد إمامنا اللهم أصلح بطانته واجمع شمله وإخوانه وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين! اللهم سدد أهل الشورى، وارزقهم مراقبتك في القول وفي السر وفي العلن، اللهم سدد أهل الشورى، وارزقهم مراقبتك وخشيتك، اللهم اهد ضالهم، وثبت صالحهم، وأعن عالمهم، ووفق مجتهدهم، وأخلص أقوالهم، وسدد رأيهم يا رب العالمين، اللهم اجعلهم عوناً للإسلام والمسلمين، اللهم اجعلهم عوناً على ما ينفع الأمة في دينها ودنياها، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم احفظ علماءنا ودعاتنا وحكامنا واجمع شملنا ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في أورومو والفليبين وفلسطين، اللهم رد المبعدين إلى فلسطين، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين في كشمير، اللهم عليك بالصرب والهندوس واليهود ومن وافقهم وشايعهم، اللهم أحصهم عدداً واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم أرسل عليهم طيراً أبابيل، وانتقم للأطفال الرضع والعجائز والشيوخ والأبرياء العزل، اللهم انتقم لهؤلاء منهم يا رب العالمين! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته يا كريم الفضل! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته يا قديم الإحسان! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا حاجةً إلا قضيتها، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحة وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا ضالاً إلا هديته، اللهم اهد شبابنا، واستر بناتنا، وأصلح زوجاتنا، وثبتنا على طاعتك إلى أن نلقاك، اللهم نشكو إليك كثرة الذنوب والمعاصي وقسوة القلوب، وهوىً مطاعاً، وشحاً متبعاً، ودنياً مُؤْثرة، اللهم حبب إلينا طاعتك وبغض في نفوسنا معصيتك، واهدنا إلى ما يرضيك يا رب العالمين! اللهم صلِّ على محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(31/18)
المرأة المظلومة
تلبيس الحق بالباطل فتنة، واتباع الهوى فتنة، وما أكثر الفتن هذه الأيام! ومن أعجب الأشياء أن تدعى المرأة المسلمة إلى حرية زائفة، وهي في الإسلام تتبوأ مكانة لم تكن لها قبله ولن تكون بعده!! وكثيرة هي خطط الأعداء التي تستهدف المرأة ومجتمعها، وهنا تجلية لزورها، وكشف لمستورها، وردود على من يحاول إضفاء الشرعية عليها، وتحذيرات مهمة للمرأة المسلمة.(32/1)
التزيين والتلبيس في قضية المرأة
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! إن من أعظم الفتن التي يفتن بها الشيطان العباد فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل واتباع الهوى، ولقد وقع في هذا الشرك الخطير كثير من الناس، وبخاصة في زماننا هذا، زمان الفتن التي تموج موج البحر، زمان الخداع والنفاق والدجل والرياء، التبس الحق بالباطل، والعلم بالجهل، وضلل كثير من الناس، وتمكن الشيطان منهم، وتعاون شياطين الجن والأنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112].
تعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ خادعة، وتسميات للأشياء بغير مسمياتها، وتبرير للمواقف الخاطئة المخالفة للشريعة، وما ذلك إلا بسبب استيلاء الهوى على النفوس، وسيطرة الشهوات على القلوب، وإننا ونحن نرى ونسمع ونقرأ كثيراً من المغالطات والخداع، والحيل المحرمة المفتراة على شرع الله عز وجل، ليتوجب علينا أن نتواصى بالتناهي عن هذه الأساليب الماكرة، التي يستخدمها أهل الأهواء ليشككوا الناس في دينهم وشريعتهم، بتحريفهم الكلم عن مواضعه.
نعم أيها المسلمون! ظهرت وسائل ماكرة ومضللة، لبست على الناس دينهم، وخلطت الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق، وإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وذلك في قضايا عديدة ومن بينها قضية المرأة، فكان لا بد من إزالة هذا اللبس، وكان لا بد من إحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر الجهد المستطاع، والله المستعان على ما ترون وتسمعون.(32/2)
مكانة المرأة في الإٍسلام
أيها المسلمون! لقد حظيت المرأة بجانب عظيم في هذا الدين، حيث أعزها الله سبحانه بكرامة وعزة ما لها مثيل في سائر الأمم وفي سائر الحقب، لقد جاء الإسلام والمرأة مهضومة الحقوق، مهيضة الجناح، مسلوبة الكرامة، مهانة مزدراة، فرفع الإسلام مكانتها، وأعاد لها كرامتها وأنصفها، فمنحها حقوقها، وألغى كل ظلم وقع عليها، واعتبرها شقيقة للرجل، شريكة له في الحياة.
كما ضمن لها الإسلام الكرامة الإنسانية والحرية الشرعية، والأعمال التي تتفق مع طبيعتها وأنوثتها، فيما لا يخالف نصاً من كتاب أو سنة، ولا يعارض قاعدة أو مقصداً من مقاصد الشريعة في محيط نسائي مصون، ولقد رتب الإسلام لها حقوقاً لم تبلغها قبله، ولن تنالها بعده، كان ذلك بغير نضال ولا صيحات ولا مطالبات ولا مؤتمرات ولا قرارات، لكنها شريعة الله التي تعطي كل ذي حق حقه، بغير نقص ولا هضم.
هذه الحقوق تصون المرأة وتحميها، وترتفع بها إلى قمة التكريم، فتمنحها الشعور بالطمأنينة والرفعة: فهي أم، الجنة تحت أقدامها.
وهي أخت، مصونة الكرامة.
وهي بنت، درة مكنونة.
وهي زوجة، تستحق الرعاية والتقدير.
لكن أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم، والنصارى وأتباعهم، ساءهم وأقض مضاجعهم ما تتمتع به المرأة المسلمة من حصانة وكرامة، فسلطوا عليها الأضواء، ونصبوا لها الشباك، ورموها بنبلهم وسهامهم.
ومن الغريب أن يحقق مقاصدهم، ويسير في ركابهم، ويسعى في نشر أفكارهم، أناس من بني جلدتنا، يتكلمون بلغتنا، فينادون زوراً أو جهلاً أو خديعة بتحرير المرأة، ويطالبونها بالانطلاق من قيود المنزل، ويهونون خلوتها بلا محرم، لتتسكع في الأسواق والفنادق كيف شاءت ومتى شاءت.(32/3)
ماذا يريد الأعداء من المرأة
أما يكفي زاجراً وواعظاً لأولئك ما وقعت فيه المرأة في المجتمعات المخالفة لتعاليم الإسلام من الانحطاط والذلة؟ أما يكفي زاجراً ما وقعت فيه تلك المجتمعات التي أطلقت للمرأة العنان، من هبوط في دركات المستنقعات والرذيلة، ومهاوى الشرور، وبؤر الفساد؟ هل يرضى من فيه أدنى غيرة أو رجولة، أن تصير امرأته أو ابنته مرتعاً لأنظار الفسقة، ومائدة مكشوفة، ولقمة سائغة، أمام عديمي المروءة وضعاف النفوس؟ بل إن بعض من تاه رأيهم، وفسد فكرهم، يطالبون باستحداث وظائف جديدة للمرأة، يهدفون إلى تحرر المرأة من أخلاقها وآدابها، وانسلاخها من مثلها وقيمها ومبادئها، وإيقاعها في الشر والفساد، يريدونها عارضة للأزياء، أو دعاية للسلع، يريدونها مختلطة مع الرجال، بغير حشمة أو وقار، تحت مسمى أي وظيفة تخطر على بال.
ألا بعداً وسحقاً لعبيد المدنية الزائفة، الذين يدعون المرأة إلى العبث واللهو، بحجة المدنية والسياحة والمعرفة، يدعون إلى الخلوة بالرجال الأجانب، مدعين أن الظروف قد تغيرت، وأن ما اكتسبته المرأة من التعليم، وما أخذته من الحرية، يجعلها بمنأى عن الخطر، فما هذا والله إلا فكر خبيث دلف إلينا، ليفسد علينا حياتنا، وما هي والله إلا حجج واهية، ينطق بها الشيطان على ألسنة هؤلاء الذين انعدمت عندهم الغيرة والرجولة، وماتت الشهامة فضلاً عن وجود أدنى بقية من كرامة.
إن مثل الذين يتهاونون بشأن المرأة، أو يدعونها إلى الاختلاط الآثم، بدعوى أنهم ربوها على الاستجابة لنداء الفضيلة ورعاية الخلق، مثل قوم وضعوا كمية من البارود شديد الانفجار، بجانب نار متوقدة، ثم ادعو أن الانفجار لا يمكن أن يقع أو يكون، لماذا؟ لأن على البارود تحذير مكتوب عليه إن هذه مادة سريعة الاشتعال والاحتراق، إن هذا خيال بعيد عن الواقع، ومغالطة للنفس، ومخالفة لطبيعة الحياة وأحداثها.(32/4)
خطط الأعداء لإفساد المرأة
عباد الله! إن للأعداء وأتباعهم خططاً عاتية في إفساد المرأة، وإخراجها عن وضعها المستقيم، قد تمكنوا من تنفيذها في بعض البلاد المسلمة ويسعون الآن جادين لتنفيذها أو بعضها ما استطاعوا في بلاد أخرى، فمن هذه الخطط والمكائد افتعال القضية، الناس لا يتحركون بغير قضية تزعجهم، أو تقض مضاجعهم، ومن هنا يحرص هؤلاء أن يوحوا أن للمرأة قضية تحتاج إلى نقاش، وتستدعي الانتصار لها أو الدفاع عنها.
ولذلك يكثرون الطنطنة على هذا الوتر، بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني، وأنها مظلومة، وأنها شق معطل، ورئة مهملة، لا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء وهكذا، حتى يشعروا الناس بوجود مرافعة وقضية وخصومة بينهم وبين المرأة، هي عند التأمل لا وجود لها، أو هي في الحقيقة معركة بلا أعداء.
نحن لا ننكر وقوع بعض الظلم على المرأة، من قبل بعض الأولياء أو الأزواج، لكن هذه الأمور نتاج حقيقي لتخلف الأمة عن عقيدتها ودينها، ومن ثم فالقضية قضية المجتمع الإسلامي الذي دبت فيه الأمراض نتيجة ابتعاده عن أسباب العافية، وهذه المسألة مسألة المرأة واحدة من نتائج ابتعاد المسلمين عن دينهم، واستسلامهم وتبعيتهم لأعدائهم.
ومن هنا فعلاج قضية المرأة، هو في إطار علاج الأمة بأكملها، وإعادة الأمور إلى نصابها، أما الصيحات والنعيق بأنه ليس من العدل أن نعاقب طالبة باعتبارها مخالفة، لمجرد أنها أحضرت نسخة من مجلة، أو علبة من مساحيق التجميل، أو صورة لشقيقتها، أو ما يقال بأن العباءة قد تحولت إلى فخ أو قيد، بل كلبشة شديدة الإتقان، فتلك خطة مدروسة يراد من ورائها تضخيم القضية، لتلفت أعناق الناس إليها، حتى يطرح هؤلاء حلولهم الغبية والمسمومة.
فالحل إذاً في نظرهم، وكما يزعمون ويدعون ترك الفتيات يتحركن بحرية، وأن يعشن مرحلتهن العمرية بشكلها الصحيح، أو الحل في نظرهم ليس في هذه العباءة التي تقيها وتحجبها وتمنعها وتقيد خطوتها، الحل في لبس العباءة الفرنسية، ذات الأكمام الأكثر اتساعا، أو التي قد يمكن التخلص منها، عندما يتعلق الأمر بالحياة والموت.
وليست القضية هي جنسية العباءة، لكن القضية هو التخلص من هذا الحجاب رويداً رويداً، ثم هم يقولون كما يزعمون: وبذلك ننقذ زهرات حياتنا من الموت، أو الحل في أنظارهم إعادة النظر في شكل العباءة، أو إعداد تصاميم تنسجم فيها شروط الحشمة مع شروط النجاح، حتى لا ندفع المزيد من الدم والضحايا مقابل ما لا يستحق، فوا خجلتاه من أقلام محسوبة على المسلمين لم تسخر للدفاع عن الإسلام وأهله.
تبتلى الأمة بالرزايا، وتنحر رقابها، وتسفك دماؤها، وتتطاير أشلاء أبنائها فلا ترى أحداً يكتب عن هذه القضية، يموت آلاف الشباب بالمخدرات، وفي مصائب عديدة، فلا تجد قلماً يكتب، وحينما يتعلق الأمر بهجمة شرسة على الحجاب والفتاة والعفاف والحياء، يترصد الكتبة، وتتحرك الأقلام، فيكتب في ذلك ما يكتب، وأين هؤلاء عن مصائب المسلمين؟ أين هم عن جراحاتهم؟ أين هم عن نكباتهم؟ أين هم عن اغتيال قاداتهم؟ أين هم عن جوعهم وفقرهم ومرضهم وتشريدهم؟ أين هذه الأقلام عن هذا كله.(32/5)
خطة إجهاض مناعة المجتمع
عباد الله! إن من خطط الأعداء، ومكائدهم في إفساد المرأة، إجهاض مناعة المجتمع، أو تخفيف المناعة تجاه كل وافد غريب رويداً رويداً، فالمجتمع المسلم وإن كان له شيء من الضعف، فإنه ينفي الخبث عن نفسه، ويحارب العقائد المنحرفة، ويكره الأخلاق الفاسدة، وهو بذلك يملك مناعة تقيه الانحراف، ولذلك حرص الأعداء على إضعاف مناعة المجتمع المسلم، حتى يفقدوه الغيرة على دينه، والحمية لعقيدته، وحتى يوطنوه على قبول كل جسم وافد غريب.
وعند ذلك يصبوا في المجتمع -وبلا مقاومة تذكر- ما شاءوا من ألوان الفساد، قد كان ذلك الإجهاض من خلال إبراز صور المخالفات هنا وهناك، فالنفوس تقشعر من المنكر أول مرة، وفي المرة الثانية تخف تلك القشعريرة، وفي الثالثة لا تبالي بالمنكر، وفي الرابعة تبحث عن مسوغ له، وفي الخامسة تفعله، وفي السادسة تفلسفه.
ومن صور إضعاف المناعة في المجتمع المسلم، هذه الفضائحيات -وليست الفضائيات- هذه الفضائحيات وأشد ما ابتلينا به من هذه الفضائحيات تلك التي تكلمت بلغتنا، وخبرت مجتمعاتنا وبيئتنا، هذه الفضائحيات الفاضحة والمجلات الماجنة والصحف العارية، التي لا تبالي أن تظهر المرأة بكل صورة مخزية، ولا زالت كثير من البيوت تمتلئ بالبعث المستورد، ولا زالت تلك الفضائحيات الفضائية تمطرنا بوابل من الفساد، وكثير من الناس عن هذا غافلون، أو بهذا راضون.
عباد الله! إن نشر الفكر المنحرف من خلال الحوارات الساخنة، أو المقابلات التي تنشرها تلك الفضائحيات، التي يجمع فيها بين الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والغث والسمين أحيانا، والباطل والضعيف، والغث والجهل المركب في أحايين كثيرة، إن ذلك يعود الناس على سماع مثل هذا الكلام، إن ذلك يعود الناس على جعل قضايا مسلمة ليست محلاً للحوار أو الخلاف أو المناقشة أو الأخذ والرد، يجعل قضايا من أمور العقيدة محلاً للطرق والحوار والأخذ والرد والقبول والامتناع.
إن كسر الحاجز النفسي بين المسلم وغيره من الكفار، مما تصوره تلك الفضائحيات، وتمرره بحجة مصطلحات عجيبة براقة، فتارة باسم التواصل الحضاري، وتارة تحت النوافذ المشرعة، وتارة تحت الحوار في الهواء الطلق، وغير ذلك من المصطلحات التي لم تنضبط بعناوينها، بل تحولت إلى فوضى فكرية تفسد عقائد الناس وأخلاقهم وآدابهم.
ولسنا بهذا ندعو إلى الانزواء والتقوقع، أو أننا ننكر أن لدى الأمم الأخرى حسنات وتقدماً وعلماً، إذ الإسلام لا يمنعنا أبداً أن نأخذ عن غيرنا أحسن وأفضل وأطيب ما بلغوه من مكتشفات ومخترعات، إذ أن العلوم ليست ملك أمة بذاتها، ولا هي مقصورة على شعب بعينه، بل هي ملك جميع الشعوب بكل أممها وجميع أجيالها، وأمتنا لها في ذلك والحمد لله القدح المعلى والنصيب الأوفر، ولذلك فلا مانع في الإسلام من الاستفادة من كل تقدم صالح، أو علم نافع، إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
لكن الذي يمنعه الإسلام ويستنكره بل يحاربه، أن تضيع شخصية الأمة، وأن يذوب شبابها وبناتها، وأن نفقد الذاتية، وأن نتخلى عن الكيان، وأن ننتمي إلى غيرنا وأعدائنا، ونتجرد من صبغتنا {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138] ثم نذوب في الأمم الأخرى، فذاك وايم الله هو العار الذي لا يقبل.
إن الإسلام يفرض على المسلم أن تكون له شخصية مستقلة متميزة، ولا تجيز له أن يقلد الآخرين، أو يتشبه بالكافرين في أمورهم الخاصة بهم أبدا؛ لأنه يريد منه أن يكون هو القدوة والأسوة والمرشد، لا أن يكون ذنباً وذيلاً وتابعاً ذليلا {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].(32/6)
زور دعوى حرية المرأة
ثم إنك لتعجب من هذه الدعوة المزعومة، دعوى المطالبة بحرية المرأة، ولو صدقوا لقالوا: حرية الوصول إلى المرأة، من ذا الذي يكره الحرية ويحب الأغلال والقيود؟! لقد كثر استعمال مصطلح تحرير المرأة، وكأن ذلك يوحي بأن المرأة في مجتمعنا عبد يجب تحريره.
واستعمال هذا المصطلح صوَّر الدعاة إلى إفساد المرأة منقذين رحماء، يريدون أن ينتشلوها من وهدتها، ويرفعوها من سقطتها، ونقول: هل توجد في الدنيا حرية مطلقة بدون قيود؟ لو لم يكن أمام الإنسان من القيود إلا قدراته وإمكاناته المحدودة؛ لكان ذلك كافياً في سقوط مصطلح الحرية المطلقة، وإن البشر جميعا لا يعيشون في مجتمعاتهم إلا بأنظمة وقوانين، فهل البشر كلهم مستعبدون؟ إذاً فليكن البحث في أي هذه القيود أحفظ لكرامة الإنسان، وأصون لعرضه، وأجلب للخير له في الدنيا والآخرة، أما إشاعة الفوضى، والدعوة إلى الإباحية والانفتاح، وسرعة وسهولة الوصول والاختلاط والحديث والخلوة بالمرأة بحجة الحرية، فإن تلك مكيدة يهودية، اليهود أول من جاءوا بها، ثم لا تعجب يوم أن ترى أولئك الذين يدعون إلى حرية الوصول إلى المرأة، كيف يصورون البيت، ومهمة الأمومة والحضانة، وقوامة الرجل بصورة تتقزز منها النفوس.
فالبيت سجن مؤبد، والزوج سجان قاهر، والقوامة سيف مسلط، والأمومة تكاثر رعوي، حتى أوجد ذلك في نفوس طائفة من النساء أنفة واشمئزازاً من الإنجاب والبيوت والطاعة والخضوع للزوج، وأوجد في أنفسهن بحثاً عن الانطلاق بلا قيود.
ونقول: إنه ليس هناك شيء يستطيع تحقيق ذات الأنثى، أكثر من بيتها وحرصها على أطفالها، لقد صرح عدد من النساء الشهيرات، في مجال التمثيل والسينما والمسرح، بأنهن لم يسعدن بشهرتهن كسعادتهن بطفل واحد! أما قوامة الرجل فالمرأة أحوج إليها من الرجل؛ لأن المرأة لا تشعر بالسعادة وهي في كنف رجل ترى أنها تستعلي عليه، لقد أسيء فهم القوامة، أو هكذا أريد أن تفهم.
والحق أن قوامة الرجل على المرأة قاعدة شرعية تنظيمية، بها تستقر أوضاع المجتمعات، والنطاق الذي تشمله قوامة الرجل على المرأة لا يمس حرية كيان المرأة، ولا ينقص من كرامتها، فليس عليها أن تطيعه في معصية بحجة القوامة، وليس عليها أن تطيعه في غير معروف بحجة القوامة، وليس له بحجة القوامة أن يؤذيها بغير حق، بل إن من كمال إيمان الزوج حسن معاملته لزوجته، ومن ولاه الله أمره، قال صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، وخياركم خياركم لنسائهم).(32/7)
أضرار الاختلاط والتبرج
أيها المسلمون! إن للاختلاط والتبرج من المضار الدينية والدنيوية الشيء الكثير، فهو معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو مجلبة للعن والطرد من رحمة الله، وهو بريد إلى الزنا الذي به هلاك الأمة، وهو مساعدة في نشر الفاحشة في المجتمع، وهو تشبه باليهود ومن في حكمهم، الساعين في الأرض فساداً، ثم هو قرين ضعف الأمة وهوانها وتأخرها، وإنما انتشر في الأمة حينما استولى عليها العلمانيون، وتسلط عليها العملاء المتآمرون إلا من رحم الله وقليل ما هم.
ألا وإن التبرج والاختلاط سبب لكثير من المضار الدنيوية، فهو سبب للجرائم الكثيرة، وتحطيم الروابط الأسرية، والإساءة للمرأة بالمتاجرة بها، وسبب لانتشار الأمراض المستعصية، وشيوع الشذوذ الجنسي وغيره من العلل، وإن الحجاب أعظم معين للمرأة للمحافظة على سترها وحيائها، وهو يصونها عن أعين السوء ونظرات الفحشاء، واسألوا إن شئتم الذين جربوا هذا الاختلاط بماذا عادوا؟ تقول عدوة للمسلمين صحفية أمريكية، والحق ما شهدت به الأعداء، بعد أن أمضت عدة أسابيع في دول عربية، ثم عادت إلى بلادها، قالت: إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق في هذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوربي والأمريكي، فعندكم أخلاق موروثة تحكم تقييد المرأة، وتحكم احترام الأب والأم، وتحكم أكثر من ذلك عدم الإباحية التي تهدم اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا.
امنعوا الاختلاط، قيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، وإن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار، قد جعلت منهم عصابات أحداث، وعصابات للمخدرات والرقيق.
هذا قول ومنطق امرأة كافرة، فيا عجباً من منطق أناس يتسمون بالإسلام، ويدعون هذه الفتاة والمرأة إلى الخروج والانفلات والحرية المزعومة.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(32/8)
حقيقة التيسير في الشريعة الإسلامية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها المسلمون! لقد جعلنا الله خير الأمم، حيث قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وجعلنا هداة للإنسانية إذا هي ضلت، ومنقذين للبشرية إذا هم على الهلاك أشرفوا، وموجهين الناس إلى الخير، ومرشدين لهم إذا تفرقت بهم سبل الضلال، أو وقعوا في الانحراف عن الصراط المستقيم، وكذلك يوم القيامة نحن شهود على الخلق، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
فعارٌ علينا أن نتخلى عن هذه المنزلة الرفيعة، التي شرفنا الله بها، أو أن نضيع هذه الوظيفة التي كلفنا بها، أو نهبط إلى مستوى المقلدين والسذج، أو الببغاوات والقرود، إن من رحمة الله عز وجل بنا أن هدانا لهذا الدين الذي جاءت شريعته الكاملة لتحقق مصالح العباد، وتدرأ عنهم المفاسد وتحميهم منها، لقد قامت هذه الشريعة على رفع الحرج والمشقة، وعلى اليسر في الأمور كلها.
لكن الاحتجاج بالتيسير والتسهيل، على التحلل من أحكام الشريعة، أو التحايل عليها واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والغرائب الفقهية الشاذة التي لا تستند إلى دليل صحيح، كل ذلك باطل وتلبيس وتضليل يرفعه أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات ويلوحون به، لتمرير فسادهم وشهواتهم، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد.
نعم إن الله يريد بنا اليسر، لكن الأعداء كما قال تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] إن من رحمة الله أنه عز وجل لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم، بل وضع شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:71].(32/9)
ضوابط التعامل مع القواعد الشرعية
إن الاحتجاج بدعوى التيسير والتسهيل، أو الاحتجاج بضغط الواقع وتغير الأحوال للتحلل من الأحكام الشرعية مرة بتأويل الأدلة وتحريفها، ومرة بحجة الضرورة، ومرة بالاستناد إلى قاعدة تغير الفتوى لتغير الحال والزمان والمكان والعوائد، كل ذلك من التلبيس والتضليل، للتفلت من الشرع المطهر خطوة خطوة، ولو أن كل الذين يطرحون قاعدة الضرورة، ويطرحون تغير الفتوى، لو أن كل من تكلم بهذا من العلماء الأتقياء المشهود لهم بالصلاح الذين يعرفون ويعرفون ضوابط الضرورة وحدودها، ويعرفون متى تتغير الفتوى بتغير الأحوال، لكان لهذا الطرح وجه واعتبار.
ولكن يوم أن يطرح هذه المسائل أقوام قد خلطوا وملئوا عقولهم بأفكار من تلك الحضارات الوافدة، والهزائم المتتالية، ثم يستدلون بهذه القواعد، وليسوا أهلاً للفهم أو الاستدلال حتى ينصب هذه الأدلة لتسويغ ما يريدونه من منكر وباطل.
إن قاعدة الضرورة وقاعدة تغير الفتوى بتغير الحال، قاعدتان معتبرتان شرعاً بضوابطهما الشرعية، وإن المتناول لهذه القواعد مع ما يستجد في الواقع، إذا كان من أهل العلم ومتجرداً لله وطالباً للحق، فإنه يوفق في الغالب للحق والصواب، ولو أخطأ فهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده، أما أن يأتي ملبس مضلل لا يعرف معروفا ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، بلا علم ولا تقوى من الله، ويريد أن يحتج بهذه القواعد للتحلل من الشرع ومسايرة الواقع، فهذا مما يرفضه الشرع ويأباه؛ لأن نهايته السير بأحكام الله عز وجل حسب أهواء الناس وشهواتهم، وما ألفوه في واقعهم.
ولنعلم يا عباد الله! أن إصلاح الناس يقتضي الارتفاع بالبشر إلى مكارم الشريعة، وليس الإصلاح أو التيسير أن ننحط بالدين إلى مستنقع الناس ورذائلهم، وإن هذا التقليد الأعمى الذي يكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، لمن أساليب إفساد المرأة، ومن الأمور التي جلبتها هذه الفضائحيات التي لا تزال تنفث سماً زعافاً في بيوتنا وفي أبنائنا وبناتنا، أولئك الذين بهذا التقليد وبالدعوة إليه يكلفون الناس عنتاً شديداً، ثم لا يجد كثير من الناس لأنفسهم منه مفراً.(32/10)
سلاح الأزياء اليهودي
هذه الأزياء الخليعة التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم ما لا يطيقون من النفقة، تأكل حياتهم، وتفسد أخلاقهم، ومع ذلك تراهم لا يملكون إلا الخضوع لها، أزياء الصباح، أزياء الظهيرة، أزياء المساء، أخرى قصيرة، أخرى ضيقة، أزياء مضحكة، أنواع الزينة والتجميل والتصفيف، إلى آخر هذا الاسترقاق المذل، من الذي يصنعه ويقف وراءه؟ من الذي يصفق له؟ تقف وراءه بيوت الأزياء، وتصنعه شركات الإنتاج، يصفق له المرابون في البنوك الربوية وبيوت المال، يقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها.
ولكنهم لا يقفون بالدبابة والقنبلة، والسلاح المكشوف، إنما يقفون بالحرب الإعلامية، بالتصورات والقيم التي ينشئونها ويدعون إليها، ويؤصلونها بنظريات وثقافات، يطلقونها تضغط على الناس بحجة العرف الاجتماعي وضغط الواقع، يقف وراء هذا النصارى أصحاب الدين المحرف، والعلمانيون رسل التغريب، الذي إن كان له ما يسوغه في بلاد الغرب فليس له ما يسوغه في بلاد المسلمين، يقف وراءه النفعيون الذين يريدون زيادة دخلهم، وكثرة أرباحهم، وإن كان ذلك على حساب المرأة، أو هلاك الشعوب وتدميرها.
يا أولياء النساء والزوجات والبنات! {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] تذكروا أنكم موقفون بين يدي الله تعالى غدا، ومسئولون عن هؤلاء النسوة، قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع على أهله، وهو مسئول عن رعيته) احذروا وحذروا من الخلوة والاختلاط والتبرج، فإنهما والزنى رفيقان لا يفترقان، صنوان لا ينفصمان، واعلموا أن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة.
إن احترام الحدود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو صمام الأمان من الفتنة والعار، احذروا أجهزة الفساد التي تغزوكم في عقر داركم، وهي تدعو نساءكم وأبناءكم إلى الفتنة والاقتتال، وتضعف فيهم الخشية والإيمان، صونوا بناتكم وزوجاتكم، ولا تتهاونوا فتعرضوهن لهذا كله.
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم
إن الأعراض إذا لم تصن بحصون الشريعة وقلاع المبادئ، ستسقط لا محالة أمام هذه الهجمة الشرسة ويقع المحظور، وعندها لا ينفع بكاءٌ ولا ندم، والتبعة كل التبعة، واللوم أولاً وآخراً على ولي المرأة والفتاة، الذي ألقى الحبل على غاربه، وأرخى لابنته العنان.
أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع(32/11)
تحذير للفتاة المسلمة
وأنتِ أيتها الفتاة المسلمة! احذري وبالغي في الحذر، احذري أدعياء التقدم أن يجعلوا فضيلتك ثوباً يوسع ويضيق كيفما يشتهون، احذري فنَّهم الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن، احذري وأنت النجم الذي أضاء منذ فجر النبوة أن تقلدي هذه الشمعة الآفلة، لا تكوني من المتبرجات أو السافرات بلباسك الضيق، أو بعباءتك المبتكرة، أو غطائك الرقيق، أو بلثامك، أو بإبراز عينك المكحلة وحواجبك، أو فتنة وجهك، أو بذارع مكشوفة أو قدم عارية.
احذري أن تكوني سبباً لفتنة مسلم بمشية متكسرة، أو خطوات متكلفة، أو بنظرات مزعجة، أو صوت متغنج، أو ضحكة رنانة أو عطر فواح، احذري ذلك كله لكي لا تكوني سلعة، أو تكوني متبرجة كاسية عارية.
أيتها الفتاة المسلمة! أنتِ الطهر والعفة، وأنتِ الوفاء والأنفة، وأنتِ الصبر والعزيمة، فتمسكي بأخلاق الإسلام، والسير على نهجه القويم، والاقتداء بأمهات المؤمنين، والصالحات السالفات.
وأنتم يا معاشر الرجال!
ربوا البنات على الفضيلة إنها في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم من أراد بالنساء في مجتمعنا هذا تبرجاً وإباحية وسفوراً وانحلالاً، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم اهتك ستره، وعجل فضيحته، واكفناه بما شئت إنك أنت السميع العليم، اللهم عليك بمن أرادوا بزوجاتنا وبناتنا ونسائنا سوءاً، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم اكفنا شرورهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحفظ اللهم هذه البلاد وولاة أمرها وعلماءها وجميع المسلمين؛ من كل تبرج وانحطاط وإباحية يا رب العالمين، اللهم احفظنا وبارك في جهودنا، وثبتنا على ما يرضيك، وتوفنا على أحسن حال يرضيك يا رب العالمين، اللهم صل على محمد وآله وصحبه.(32/12)
الشريط الإسلامي بين التجارة والدعوة
إن الدعوة إلى الله ضرورية جداً، خاصة تجاه ما ينتشر بسرعة خطيرة من دعوات الهدم والتخريب الفكري والأخلاقي، ومن خير أساليب الدعوة وأكثرها تأثيراً الشريط الإسلامي، ولكنه يعاني من صعوبات مادية، وهجمة كلامية، وفي هذه المادة يناقش الشيخ هذا الأمر، ويقترح حلولاً لعلاج المشاكل في هذا الباب.(33/1)
هم الداعية للدعوة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله! أحمد الله إليكم، ونثني عليه الخير كله، نشكره على آلائه التي لا تحصى، وعلى نعمه التي لا تنسى.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(33/2)
لا تعطى الدعوة فضول الوقت
أيها الإخوة في الله! موضوعنا اليوم قد لا يستهوي كثيراً من إخواننا، ولكنه يهم طائفة حريصة على تلمس أسباب الدعوة، واكتشاف أقرب الطرق والمداخل إلى قلوب البشر، ونشر أعظم قدر من الخير في كل مجال وفي أسرع وقت؛ لأننا في سباق مع الزمن، ولأننا في مواجهة وتحد خطير من قِبل أعداء الإسلام الذين ما تركوا شاذَّة ولا فاذَّة، ولا قليلاً ولا كثيراً إلا وجعلوا منه سبيلاً أو وسيلةً إلى ضرب الإسلام وأبنائه وتشويه الإسلام وأصوله؛ لأجل ذلك كانت الحاجة ماسة إلى عرض الإسلام بصورة ناصعة، وليس هذا أمراً جديداً، والحاجة أيضاً ماسة إلى بيان جوانب الجمال والتألق، وجوانب العز والكرامة، والسعادة والطمأنينة فيما شرعه الله جل وعلا، وأودعه في كتابه وما جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن كنا وإياكم لا يخفانا أن مِن السمات الطبيعية لدين الإسلام: أن هذا الدين حينما يخالط قلباً نقياً فلن تجد صاحب القلب جامداً، وهذا الدين حينما ينزل بفؤاد على درجة من الشفافية والصفاء والنقاء، فلن تجده جُثَمَةً قُُعَدَةً رُقَدَةً، بل ستراه جَوَّاباً، وستجده جَوَّالاً، لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال إلا يوم أن يشعر أن في ساعته بل في دقيقته فضلاً عن يومه وأسبوعه، أنه قدم شيئاً للإسلام والمسلمين.
ولأجل ذلك قلت: إن هذا الموضوع قد لا يستهوي الكثير؛ لأن كثيراً من إخواننا -ولعلي واحداً منهم- عبث بهم الكسل، وظهر عليهم التسيب في الوقت، وتضييع أنْفَس مراحل العمر ألا وهي: الشباب، في أمور قد تكون من باب الاشتغال بالمهمات دون الأهم منها، أو في أمور مباحة، وقد ترك الكثير منا الاهتمام بأصول وفروع ونشر هذا الدين ودعوة الناس إليه، قد جعلناها من فاضل الأوقات، فلو أن واحداً منا كتب على ورقة برامج أعماله في هذا الأسبوع، ستجده: أولاً: ربما كتب إصلاح ما نقص من السباكة في المنزل.
ثانياً: تفقد الكهرباء.
ثالثاً: شراء ملابس موسم الشتاء.
رابعاً: زيارة لفلان وعلان.
خامساً: الدعوة إلى الله جل وعلا.
فنجعل الدعوة هي فيما فَضَل من أوقاتنا، وإذا جعلناها فيما فَضَل من أوقاتنا، فإنا نجعلها في مؤخرة اهتماماتنا.
ولأجل ذلك أيها الإخوة لا غرابة أن نجد تأخر المسلمين حتى في بلادهم، لا غرابة أن نجد تأخر أبناء الإسلام في بلاد الإسلام، وتخلفهم في عرض الدعوة إلى الله جل وعلا، لأنها لم تكن إلا عند الأقلين منهم هماً يشغلهم صباح مساء، ولو أن واحداً جعل الدعوة همه كما يهتم الحبيب بحبيبه، لأدرك قول القائل:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يُداريها
وقول الآخر:
جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مُسَهَّدة وقلب يخفقُ
نعم أيها الأحبة! إن من شغله شيء، لا تراه يصبح إلا وهو يتلجلج ويدور في خاطرة ونفسه وصدره، ولا يمسي إلا وهو يفكر به، ولا يذهب أو يحل ويرحل إلا وتجده ديدَنَه ونشيدَه وهُجَيْراه، أما الكثير منا: نعم لقد تبنا إلى الله، لقد استقمنا على مرضاة الله، نسأل الله أن يكون ذلك خالصاً لوجهه، على ما فينا مما ستره الله علينا وجمَّلنا بإظهار محاسننا وإياكم بين الناس، ولكن.
وقفنا هنا!(33/3)
أهم شيء بعد التوبة: العمل لما بعدها
كنتُ منذ أيام أحدث أحد الإخوة في الكلية، وكان يكلمني عن توبة واحد من الفنانين، فقلت له: يا أخي! توبة الفنان ترك للمعصية لكن ماذا قدم من الطاعة؟ لا تجعل الرجل حينما يتوب إلى الله أنه قد فَتَح القدس بيده، أو حرر كابول بجهاده، أو أنه نشر الإسلام في بقاع كانت الشيوعية ترزح على صدور المسلمين جاثمة فيها، هو فقط ترك المعصية وتاب إلى الله من الفن، تاب إلى الله من الطرب، أما العمل الصالح فهذا شيء آخر.
وكثير منا أيها الإخوة يخلط بين هذا وهذا، يظن أن استقامته تعني بالضرورة -أو الوجه الآخر للعملة- أنه قد خدم الإسلام، وقدم للإسلام أكبر خدمة، ونخشى أن نصاب بالعُجْب {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
أقول أيها الإخوة: إن ما نراه في وجوه إخواننا، وفي سَمْت وسلوك شبابنا من الصلاح والاستقامة والعناية بالسنة أمر محمود؛ لكن الكثير وقف عند هذا، تاب إلى الله واعتنى بمظهره، ووقف عند هذه المرحلة وظن أن هذه هي نهاية الطريق، لا يا أخي.
هل رأيت رجلاً يوم أن أزال الأوساخ عن أرضه قال: هنا انتهى البنيان؟! هل رأيت رجلاً حينما أزال القذى والقذر والقاذورات عن أرض يريد أن يبني عليها، بدأ فأزال كل الأوساخ، وقال: الآن انتهى البيت؟! الحقيقة أنتَ بدأتَ أولاً بتنظيف وبإعداد القاعدة، وهي إزالة الشوائب والقاذورات والأوساخ عن قاعدة الأرض ألا وهي قلبك، أما البناء والعمل الصالح والإنتاج وإقامة هذا المبنى الشاهق المتعدد الأدوار الذي يخدم الناس، ويؤوي المساكين ويكون كنفاً لهم ومأوىً عن الشمس والبرد، والزمهرير والحر وغير ذلك، هذا شيء آخر.
فبعضنا أيها الإخوة يقول: هنا عثر حمار الشيخ في العقبة، هنا استقمنا والحمد لله لن نتعدى هذه المرحلة، وهذا لعله من وسوسة الشيطان، ولعله من باب العُجْب، ولعله من عدم شعورنا بعظمة هذا الدين، لعله من عدم شعورنا بعظمة ربنا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67].
والله لو أن واحداً كلفه أمير من الأمراء، بَشر ضعيف مسكين، لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، لو أن واحداً كلفه أمير من الأمراء، أو مسئول من الوزراء، فضلاً عن حاكم أو ملك من الملوك، لتجده قال: أنت ما تعلم؟! إن هذا الحاكم أو إن هذا الأمير قد أوكل إليَّ مهمةً، وشرفني من بين خدمه وحشمه وأصحابه ووزرائه ومستشاريه بهذه المهمة، فلا غرابة أن تجدني مشتغلاً بها ليلاً ونهاراً، مفكراً بها أعكف عليها، حتى أقدم له ما أراد مني، فإذا علمت أن الله جل وعلا اصطفاك، وجعلك من أمة محمد، وليس بيدك ولا حولك ولا طولك ولا نسبك ولا شرفك أن تكون من أهل الجزيرة، أو تكون في مجتمع مسلم، ما بالك لو أنك بوذيٌّ في أنحاء كمبوديا، أو أنك هندوسيٌّ في أطراف الهند، أو أنك زَرادِشْتيٌّ في أنحاء أدغال أفريقيا أو غير ذلك، ماذا تفعل.
يا أخي الكريم! الله الذي مَنَّ عليك وأكرمك، وبمنه وفضله جعلك من المسلمين، واختارك لتكون واحداً من هذه الأمة، وفضلك على سائر الأمة بالاستقامة، وأودع في قلبك مسئولية الدعوة إلى دينه، وشرف حمل الرسالة، وتبليغ الناس بها، أفليس هذا شرف أي شرف؟! ومنزلة أي منزلة؟!
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرت أحمد لي نبياً(33/4)
الدعوة من أجلِّ الأعمال
إن بعث النار -كما هو في الحديث المعروف- من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة، فإذا كنت من أمة محمد فنسأل الله أن نكون وإياك ذلك الواحد في كل ألف، فهذه نعمة عظيمة؛ واعرف شرف الله لك، واعرف تفضيل الله لك، فوق ما أُكرمت به: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] فوق هذه الكرامات أنك واحد من عباد الله المؤمنين المسلمين الذين نالوا شرف هذه الدعوة إلى الله، ولذلك لما سئل أحد السلف: أي الأعمال أجلُّ أن نشتغل بها؟ قال: اشتغلوا بدلالة خلق الله إلى الله جل وعلا.
وليس هذا كثيراً على الدعوة إلى الله، فالله قد أثنى على الدعاة، نسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم.
قال جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
وقال جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
وقال صلى الله عليه وسلم: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى هدى فله أجره، وأجور مَن عمل به إلى يوم القيامة).
يا إخوان! شتان بين العبادة والدعوة، إن العابد مهما قام الليل كله، وصام النهار كله؛ لا يستطيع أن يضيف إلى رصيد وسجل أعماله إلا أعماله وحده فقط، أما الداعية فهو يضيف في كل يوم وفي كل ليلة سجود الساجدين المهتدين بدعوته، وصلاة المصلين المهتدين بدعوته، وصيام الصائمين المهتدين بدعوته، وبر البارين المهتدين بدعوته، وصلة الذين وصلوا أرحامهم والذين اهتدوا بدعوته، إذاً فأنت تضيف إلى رصيدك أعمالاً فوق ما يضيفه العُبَّاد، ناهيك عما ينبغي لك من عناية واجتهاد في أن تتزود بزاد العبادة: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] لأن الأمر ثقيل، ولأن المهمة شاقة، فالحاجة إلى العبادة ليتزود الإنسان.(33/5)
اقتراح للعمل
أيها الأحبة! المخططون والمنظِّرون قلة -ولستُ منهم- ولكن المنفِّذين في الغالب ينبغي أن يكونوا أكثر، فأنت ترى أن بناءً يتكون من عشرة أدوار، كم يحتاج من المهندسين؟ يحتاج بالكثير إلى خمسة أو عشرة مهندسين في شتى تخصصاتهم، هندسة كهربائية، وهندسة تمديدات، وهندسة منشآت وهلمَّ جرا؛ لكن هل يحتاج المبنى إلى عشرة عمال بعدد المخططين؟ لا، حينما تحتاج إلى عشرة مهندسين فأنت بهذا محتاج إلى ألف عامل، البناء الذي يتكون من عشرة أدوار، يخططه عشرة من المهندسين لكنه يحتاج إلى ألف عامل.
واليوم نحن لا نشكو قلة العاملين والراغبين الذين يبحثون عن المناهج العملية، والنظريات التي تترجَم إلى واقع علمي لكي يخدموا بها دين الله، والدعوة إلى الله جل وعلا؛ لذا وجب تقديم يد المعونة بالمقترحات لهم.
وأدناها البارحة، جاء عدد من الشباب، أسأل الله أن يثبتنا وإياهم جمعياً، يقولون: نحن في كلية كذا، والآخر في كلية كذا، والثالث في كلية كذا، ملتزمون صالحون نريد أن ندعو إلى الله لكن لا نعرف، أين الطريق؟ أين البداية؟ من أين نبدأ؟ فالشباب الملتزم كُثر؛ ولا أظن واحداً يبخل على نفسه أن ينال شرف الدعوة إلى الله جل وعلا؛ لكن يريدون برامج عملية، يريدون أموراً أنت ترسمها لهم، تخططها لهم وتقول: ما دامت هذه النوعية صالحة للتنفيذ والتطبيق فالأمر هكذا: 1/ افعل كذا.
2/ افعل كذا.
3/ كذا.
حدِّد له غاية وهدفاً واختَر له وسيلة مناسبة، أو اجعل أمامه بدائل وخيارات عدة، وهو يختار ما يناسبه منها، أو ما يكون أقرب إلى نفسه، وأقدر تأثيراً عليه مما سواه.
إذاً: لما كانت الحاجة ماسة مع انتشار الصحوة انتشاراً كبيراً، بل أعظم من انتشار النور في الظلام بفضل الله جل وعلا، انتشرت الصحوة وانتشر الخير، حتى في أعالي الجبال، وفي أدنى السهول، وعلى سواحل البحار، وفي القرى، والمدن، بل حتى في كثير من المجالات التي ظن الناس أنها ليست معدة إلا أوكاراً للرذيلة وبؤَراً للفساد، وُجِدَ وظهر فيها النبتة الطيبة، والبذرة الحريصة على أن تقدم للإسلام شيئاً.
إذاً: نحن لا نشكو قلة الملتزمين، فالملتزمون كُثر؛ لكنا نشكو قلة العاملين من الملتزمين، وهذه من مشاكل الدعوة، ولستُ المسكينُ الفقيرُ الذي يتحدث عنها، إنما هي إشارات وإلمامات، ومثل هذا الأمر يحتاج إلى كبار العلماء، وكبار الدعاة الذين يبحثون عن هذه الظاهرة، لماذا هذا الجمود في الصحوة؟ لماذا الملتزمون كُثر؛ ولكن كما قال أبو بكر رضي الله عنه لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [يا بن الخطاب! أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام؟!].
تجد الشاب قبل استقامته يحمل الدنيا على أذنيه، ويرفع بها، ولا يجعلها تعود أرضاً، ويحمل كل أمرٍ على عاتقه، وتجده رأساً مضحياً فدائياً، قمة جوَّالاً حركياً نشيطاً في الفساد، فإذا اهتدى أصبح ظبياً جفولاً، وأصبح حملاً وديعاً، لا يستطيع أن يتحرك يمنة ويسرة، ناهيك لو قلت له: إنك مراقب، أو إنك تحت التحري، أو إنك تحت البحث، فهذه قاصمة الظهر بالنسبة له، وحينئذٍ لن يخرج من بيته، بحجة أنه داعية مراقب، أو أنه رجل قد تُجُسِّس عليه، ونحو ذلك، وما هي إلا أوهام بل وإشاعات، قد تشاع أحياناً وقد يُقصد إشاعتها من أجل أن يشعر الإنسان بجو من القيود والأوهام العنكبوتية التي ينسجها الإنسان حول نفسه، ولا يقدم لدين الله جل وعلا قليلاً ولا كثيراً.
وكما قال أحد الدعاة: إن الإسلام المرغوب في هذا الزمان هو الإسلام الأمريكاني.
الإسلام الأمريكاني: أن تكون مسلماً تطبق استقامتك والتزامك حسب ما يحلو لك؛ لأن قانون الحرية يبيح لك أن تفعل بنفسك ما شئت؛ لكن أن تتعدى بهذا الإسلام إلى جيرانك والحي والمجتمع، والوزارة والمدرسة، والكلية والمستشفى والسوق، والإعلام والتعليم، والاقتصاد والسياسة، لا! هذا إسلام ممنوع، هذا إسلام محظور.
ولذلك فإن أعداءكم لا يمنعون المسلم أن يقوم بممارسة ما يسمونه (بالطقوس)، والذي نحن نعرفه في شريعة ربنا بالعبادات المخصوصة، من ركوع وصيام واعتكاف وسجود وتلاوة قرآن، لا يُمنع أحد من ذلك، لكن أن يدعو الناس إلى ذلك، وأن يتحاكم الناس إلى كتاب الله، وأن يكون الكتاب حاكماً مهيمناً على كل صغيرة وكبيرة، فهذا أمر ممنوع في عرف المستعمرين، وأعداء الله من اليهود والنصارى الذين لهم ثقل جاثم على صدر الأمة ترزح تحته، ويؤيدهم في هذا العملاء والدخلاء والذين يمارسون العمالة المزدوجة على طرفين أو على وجهين في آن واحد؛ لكي يقولوا لقومهم: إنا معكم، ويقولوا لأعدائهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].
وبعد هذا أيها الإخوة ظهرت كثيرٌ من الأطروحات الجميلة، التي قالت لشباب الصحوة: هلموا ألينا، تعالوا، هذه برامج عملية، على سبيل المثال لا الحصر: خذوا مشروعاً مقترحاً تقدم به فضيلة الشيخ الداعية المعروف الدكتور/ ناصر العمر، وكان مشروعاً إيجابياً بنَّاءً، ومنذ أن لامس كلامُ الشيخ أسماعَ الشباب قبل أن يسجل انطلق الشباب يمنة، ويسرة زرافات ووحدانا يطبقون هذا المشروع، لأن الشيخ رسم لهم برنامجاً عملياً.
ولا أزكي نفسي وأستغفر الله، كذلك برنامج مِن أين نبدأ؟ أو مِن هنا نبدأ، بفضل الله لما طرح علمتُ أن عدداً من الشباب كلٌّ قد اجتمع مع إمام مسجده والأخيار في حيِّه وأخذوا يضربون ميعاداً أسبوعياً يتفقون فيه على أن يقدموا للمجتمع شيئاً، فأصبحوا يخططون، أقول: يخططون، وليس في التخطيط شر أو خطر، لأن المسألة أن كل شيء تريد أن تفعله تحتاج إلى تخطيط، حتى ذهابك إلى العمل يحتاج أن تخطط، تسلك الخط الدائري وتخرج مع المخرج [3]، وتمسك الكتف الفلاني حتى تصل إلى مكانك، فكلمة التخطيط أو التنظيم أو التنظير نرى البعض يخاف منها، وما هي إلا أمر طبيعي موجود في أبسط الأعمال.
إن النملة وهي تلك الحشرة الصغيرة تخطط، إن الذبابة تخطط، فهل يحرم على الإنسان أن يخطط؟! هل يحرم على الإنسان أن ينظم؟! إن كثيراً من الناس عنده حساسية المصطلحات، حينما يسمع مثل هذا المصطلح يرتاع، ويظن أنك تعني شيئاً نهايته نسف نظام أو إحداث تفجير، أو إشاعة فوضى وقلاقل وفتن ومحن ظهر شيء منها والباطن أكثر من ذلك.(33/6)
فكرة العمل الدعوي: من أين نبدأ؟
أقول أيها الإخوة: هذا المشروع (من أين نبدأ؟) إمام المسجد مع مجموعة من الشباب، يلتقون في كل أسبوع مرة بعد المغرب ويتفقدون الحي؛ هذا لا يصلي، ثلاثة يزورونه بهدية وابتسامة، والبرنامج مستمر، غداً يزار فلان، بعض الشباب يظن أن سيصلح المجتمع والحارة في شهر أو خلال سنة، أقول: هذا المشروع لن تروا ثماره بإذن الله إلا بعد ثمان سنوات على الأقل، ونحن بحاجة إلى أن نخطط لسنوات قادمة، أما العرف الذي نشأنا عليه كثيراً مثلما يقول العوام: (إن كان عندك شيء نأكله هذا الحين حياك الله) أما كلام فارغ؛ تخطيط بعد خمس سنوات بعد عشر سنوات، فلا.
أقول يا إخوان: لو قرأتم كتاب لعبة الأمم، الذي ألفه أحد رجال المخابرات، أو مسئول مخابرات في سنة من السنوات، واسمه: مايلز كوبلن، قال: إن مجلس اللعبة يخطط لأربعين سنة قادمة، إن مجلس اللعبة الذي سماه أو حدد مكانه في الدور السابع في مجلس الكونجرس، قال: إنه يخطط للدول والحكومات من أربعين إلى خمسين سنة قادمة.
أما تخطيطنا فلو خطط الإنسان لمدة سنة واحدة، منذ أن يبدأ ويمر على هذا التخطيط أربعة أشهر تجد الاعوجاج والانحراف والتناقض والكثير من المواقف الخاطئة، والسبب: عدم الدقة في التخطيط.
إن المهندس حينما يخطئ في قاعدة المبنى، ميل في الأعمدة بنسبة (5) سنتيمتر، فإن ذلك يعني أنه يوجد انحراف قدره (50) سنتيمتر في الدور الخامس، ويعني ذلك أن المبنى يئول للسقوط لو رفعته إلى الدور الرابع أو الخامس، قد لا تظهر أخطاؤك في الدور الأول لأن الانحراف بسيط، في السنة الأولى قد لا تظهر أخطاؤنا؛ لأننا لا نزال قريبي عهد بالانطلاقة وبداية التجربة، لكن حينما نستمر سنوات قادمة، ويكون في التخطيط خلل فحينئذٍ لا غرابة أن تجد الانتكاسة، أو تجد السقوط أو تجد العثرات متتابعة في السنة الخامسة أو في السنة السادسة، كما هو الأمر في البنيان الذي يسقط حينما يبلغ الدور الخامس أو السادس.(33/7)
مقترح لاستمرار المهتدين الجدد على الهداية
أقول: هذه كلها أيها الإخوة مشاريع مقترحة وأضيف عليها الآن مشروعاً.
كان عنوان المحاضرة بعنوان: (الشريط الإسلامي بين التجارة والدعوة)، والحديث في صميم هذا الموضوع؛ لكن هذه مقدمة وفكرة خطرت ببالي في الحقيقة، وتلجلجت في صدري فترة طويلة، فأحببت أن أغتنم هذه الفرصة لطرحها عليكم، ألا وهي من المشاريع العملية الدعوية التي تنفع بإذن الله جل وعلا.
أما عن مقدمة الفكرة فكالآتي: نحن وإياكم كثيراً ما ندعو عدداً من الشباب إلى الاستقامة والالتزام، فنتعرف على فلان وعلان ونسافر به، ويعتمر معنا أو يحج، أو يكون بيننا وبينه سلسلة زيارات فيتأثر ويستقيم، وماذا بعد ذلك؟ لو تردد علينا أربعة أيام قلنا له: يا أخي، مَسَّخْتها، ما إن التزمت حتى أدوشتنا! ما يمكن! ضيَّعتَ وقتنا جزاك الله خيراً!: فعلاً هو لا خيار له؛ إما أن يبقى معك كالظل لك حتى يحافظ على نفسه من جلساء السوء، ومن السهرات التي يتاح له فيها العبث واللهو، والمرأة والخمر والنساء والأفلام مع تباين واختلاف في طبقات الذي يعاقرون هذه الفواحش أو يقترفونها، فهذا الشاب نَمَلُّ منه ويَمَلُّ منا بعد فترة قصيرة؛ لأنك أنت مرتبطٌ بزوجة وأولاد وأقارب، وحاجات أهلك وعملك، ومختلف المهمات التي تعرض لك، ومراجعة أطفالك في المستشفيات، وتعليم أولادك أمام موسم الاختبارات وهَلُمَّ جَرَّا، وهذا شاب مَنَّ الله عليه بالهداية، كيف تحافظ عليه؟ تجد أنك تتحمس، أو تتفاعل أو تغلو أو تشتد عندك العاطفة، تغلي العاطفة عندك في الأسابيع الأولى ثم بعد ذلك تمل منه، فتتركه ثم يرجع من جديد، بعد أن بلغ ذروة ارتفاعه يعود في التدني وفي الهبوط، حتى يعود ذلك الذي استقام يوماً ما إلى درجة الصفر كما لو كان لم يستقم يوماً ما، بل وقد ينزل عن المحور الرئيسي وتحت القاعدة الرئيسية ويقع فيما هو تحت خط الانحراف، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والسبب: أنه لا توجد عندنا دور لرعاية التائبين، ولا توجد أماكن لرعاية الشباب الذين استقاموا.
أقول: هذا جزء بسيط جداً من الحل، ألا وهو: أن يتعارف شباب الحي، مثلاً نحن في منطقة (العلية) أو في منطقة (البديعة) كم عندنا من الخطباء أو الدعاة أو طلبة العلم؟ عندنا عدد كثير، نقول للشباب: إن يوم السبت بيت فلان بن فلان مفتوح، من بعد صلاة العصر إلى صلاة العشاء، فأي شاب يرغب أن يستفيد، يرغب أن يسأل، يرغب أن يجلس، فحياه الله عند فلان بن فلان، المجال مفتوح لمن أراد أن يحضر، وهذه الجلسة تكون مبرمَجة منظَّمة، بمعنى: لا يكون الهدف منها ألوان النعناع والشاي والدارصيني والقهوة ومختلف المشروبات، لا، إنما يكون البرنامج فيها: آية وتفسيرها، حديث وحكمه، سيرة واحد من الصحابة، قراءة في فتاوى بعض العلماء، تقليب في أخبار العالم الإسلامي، وأحذَّر وأحذِّر وأحذَّر ثلاثاً من الحديث في المواضيع السياسية، لا أعني بذلك تخويفاً لكم من السياسة، لا، لكن سأجد من يقول: إن هذه الجلسات ستكون طريقاً للحديث والتدخل في شئون ليست من اختصاص هؤلاء، فأقول: إياكم والحديث فيها، طبعاً الكلام في الأمور هذه نوعين: نوع مفتوح للجميع: مَن الذي يأذن للجريدة أن تتحدث ويُحرِّم عليك الكلام؟! من الذي يأذن للإذاعات أن تطنطن ويُحرِّم عليك أن تتكلم وتتحدث؟! لكن أقصد بذلك: الدخول في العمق والتحليل ونقل الآراء الشخصية، والتحليلات الشخصية، وربما يدخل معك في المجلس من يحدثك لكي ينصب لك كميناً ويسجل حديثك، وليس الهدف تسجيل حديثك، وإنما الهدف أن يشي بك إلى سلطة ما ويقول: إن فلاناً يجلس مع آل فلان وبني فلان ويتحدثون في المسئول الفلاني، أو في الجهة الفلانية، بغية إغلاق هذا المشروع.
أقول: هنا تحفظات، هنا احتياطات، هنا خطة الأمن والسلامة في هذا المشروع الصغير، ألا تتحدث في أشخاص ولا هيئات، ولا مؤسسات معينة، أما القضايا التي طُرِح الحديث فيها للساحة، فالكلام يجوز لك أن تتحدث فيه، كما جاز للجريدة والإذاعة أن تتكلم كيفما شاءت.
بعد هذا أيها الإخوة إذا استطعنا أن نضبط هذه الجلسة بعد صلاة العصر إلى أذان العشاء يوم السبت عند فلان، يوم الأحد عند فلان بن فلان، فأنا مثلاً أكون مسئولاً عن يوم واحد في الأسبوع، أفتح فيه بيتي لمن أراد أن يحضر، وأنت مسئول عن يوم الأحد في الأسبوع تفتح فيه بيتك لمن أراد أن يحضر، والثالث مسئول عن يوم الإثنين يفتح فيه بيته لمن أراد أن يحضر، بمعنى: ألا يدور الشاب التائب أو المستقيم يبحث عمن يجالسه ويخالطه، فيأتي إلى هذا فيراه مشغولاً، ويأتي إلى هذا الإمام فيراه مشغولاً، ويأتي إلى هذا الداعية فيراه مسافراً، ويأتي إلى هذا فيراه يذهب بأولاده، ويأتي إلى هذا فيطرق عليه الباب ويخرج بالقلم يقول: والله يا أخي نحن الآن مشغولون، أما ترى القلم معي؟! فأربعة أو خمسة أماكن يجدها مغلقة، المكان السادس المفتوح: قهوة، أو شيشة، أو مطعم، أو رصيف، أو جلسة لَهْو، أو أصدقاء السوء الأُوَل الذين تعود أن يجد معهم مجلساً مفتوحاً، والبلوت الساخن من بعد العصر إلى الساعة الثانية عشر أو الواحدة ليلاً، لن تُعْدَم أربعة يكملون الفريق، والأوراق جاهزة، واللعبة شيِّقة، وهَلُمَّ جَرَّا.
إذا ذهبتُ إليك فأنت مشغول، وهذا أغلق بابه، وهذا مسافر، وهذا ذهب بأولاده، إلى من أذهب أيها الإخوة؟! أنا شاب تائب، أنا شاب مستقيم، أريد أن أستمر على هذه الهداية، من الذي يؤويني؟! من الذي يحتضنني من جلساء السوء؟! إذا لم يوجد ترتيب للمحافظة على مثل أولئك، وإلا فيستقيمون ثم ينحرفون إلا من رحم الله.
فإذا كنت أنا مسئول يوم السبت، فلن يشغلني الشباب في بيتي، فقط يوم السبت أنا مسئول حيَّا الله من جاء، طبعاً ما أقول: تعالوا، أقول: مثلاً يوم السبت الباب مفتوح، لو زارني أحد أو جاء يوم الإثنين أو الثلاثاء أقول: حياك الله في كل سبت، أهلاً وسهلاً، طبعاً إذا كان هناك أمر مهم أو مسألة خطيرة أو قضية عين لا يقاس عليها، نستطيع أن نقابله ويقابلنا بعد الصلاة، قبيل الصلاة، عند الفجر، قبل الفجر، كما يشاء، ليس في ذلك مشكلة.
فإذا أوجدنا هذا على مدار الأسبوع، استطعنا أن نحافظ على التائبين في كل حي، التائبون في هذا الحي يجتمعون؛ هذا اليوم عند الشيخ/ مَزْيَد، وغداً عند المؤذن، وبعد غدٍ عند الدكتور فلان، وبعد غدٍِ عند الشيخ فلان.
إذاً لا يجد فراغاً يشكو منه.
زيادة على ذلك: ينبغي أن توجد جمعيات أو مكاتب نقليات وسفر وسياحة؛ أعني بذلك: نحن بحاجة إلى رحلات طويلة، لأن من كان حديث عهد بهداية، فإنه يحتاج إلى عزلة لمدة خمسة أيام أو عشرة أيام، أعني بها حمية عن مجالسة السوء والمنكرات وحتى رؤية المنكرات، فإذا وُجِد في الشهر الفلاني رحلة إلى مكة، والقصيم؛ زيارة للشيخ/ العثيمين، والمدينة؛ زيارة لإمام الحرم، والصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أخذ العمرة.
هذه الرحلة لمدة ستة أيام، عدد الشباب الذين يشتركون في هذه الرحلة من ثلاثين إلى أربعين، من المسئول عنها؟ أحد الأئمة، أحد الدعاة، أحد الخطباء، ويسافر بهؤلاء الشباب.
ثق يا أخي أنك بعد هذه الرحلة سوف تعود بمجموعة قد حُجِبَت عن الفساد شيئاً كثيراً؛ لكن المشكلة أن الشاب الذي ندعوه نجلس معه في المغرب ونتحدث معه، وبعد العشاء أول ما تقع عينه على الدعاية، ثم المسلسل ثم فيلم السهرة، أنت تصب كأساً والآخر يريق سطلاً كاملاًَ، لا يوجد هناك أي توازن ولا يقاس الحق بالباطل، فقليل من الحق يغني عن كثير بل يزهق كثيراً من الباطل؛ ولكن أيها الأحبة إذا وجدت مثل هذه؛ مكتب في الشمال، مكتب في الجنوب، مكتب في الشرق، مكتب في الغرب، وتتبنى مثل هذه المشاريع، سوف نحافظ على الشباب.
وأقول يا إخوة: ما يمنع أن تتبنى هذا الأمر؟! يعني يا أخي الحبيب: لا تنتظر أن يقوم بها فلان بن فلان، وفلان وعلان، الأسماء اللامعة أو المشهورة في ذاكرتك، لا، أنت لماذا لا تقُم بهذا؟ لماذا لا تكون واحداً ممن يؤسس مع عشرة أو عشرين أو ثلاثين، إذا كنتم ممن يسَّر الله عليهم، كل واحد يدفع [20.000] × [10] بمائتين ألف ريال، واشترِ لك أوتوبيسين بالتقسيط، ونتوسط لك عند (عبد اللطيف جميل) إن شاء الله، وبعد ذلك تأخذ تصريح مكتب نقليات حج وعمرة، وتساهم في الدعوة إلى الله جل وعلا.
من شروط هذه الرحلات: لا يوجد تدخين.
لا سماع أغاني.
النساء، إذا كان هناك أوتوبيس آخر للنساء، يُستضاف أحد الإخوة بزوجته تكون مع النساء موجهة مؤثرة داعية.
نستطيع يا إخوان أن نؤثر في هذا المجتمع، ولدينا مجالات عديدة للدعوة إلى الله، لكننا لا نتعلق، أو البعض لا يفكر إلا بما يجد فيه المواجهة، أقول: إننا ينبغي أن نتخلى عن أي ثغرة من ثغرات الدعوة إلى الله حينما يوجد فيها مواجهة، لكن نقول: خذ وطالب، اعمل في هذه المجالات المفتوحة، وعاود وحاول مراراً وتكراراً أن يُفتح من المجالات ما أغلق أمامك، إذا كان ثمة مجال أغلق.
هذه فكرة لو أننا طبقناها لاستطعنا أن نحتوي التائبين، سواء احتواءً من حيث الجلسات والأيام المحدودة، أو من حيث الرحلات والمناسبات الطويلة التي تستغرق أوقاتهم بإذن الله جل وعلا، وما الذي يسمح لمكتب سفريات أن يأخذك من هنا على العقبة، على مصر، على سوريا، ويمر بك على شواطئ فيها عراة، ويمر بك على أماكن فيها اختلاط، ويمر بك على أماكن فيها معاصٍ، ويحرِّم ويمنع أن يوجد مكتب سياحة وسفريات يخرج بك إلى مكة، ثم إلى المدينة، ثم إلى القصيم، ثم لزيارة أحد العلماء، ما الذي جعل الحرام حلالاً، والحلال حراماً؟! لا يمكن أن يوجد، لكن كما قلت أيها الإخوة، لم نفكر ولم تكن القضية ساخنة لدى الكثيرين منا، ولأجل ذلك فلا عجب أن ننتظر، أما نحن فلن نفكر، ولو أحوجنا الأمر لحرصنا على تطوير الأمر.(33/8)
مكتبات المساجد الخيرية
أيضاً وهذه الفقرة الثالثة من هذا المشروع المقترح، ألا وهي: المكتبات الخيرية في المساجد:- كانت موجودة من قبل، ولا تزال موجودة في بعض المساجد، ولكنها شهدت انحساراً.
الحاجة الآن تقول: إن المكتبة في المسجد من جديد تعلن دورها، وتثبت جدارتها، ويشق الشباب طريق هدايتهم واستقامتهم والتزامهم عبرها أو من خلالها، فلماذا تغفل هذه المكتبات؟! لا بد أن نحرص على العمل.
لا تنتظر يا أخي أن يقال لك: تعال هنا أو تعال هنا، أو اذهب هنا أو هناك، ابدأ أنت بنفسك، تكلم مع إمام الجامع، إذا وُجِدَت مكتبة فيها شباب يعملون لا يرغبون أن تأتي معهم، ابحث لك عن مسجد ليس فيه مكتبة، نحن لا يوجد عندنا ضيق، لو كان الموجود عندنا فقط مساحة مقدارها: (20×40) لقلنا: من المعقول أن نتنازع عليها، لكن عندك كيلو مترات في كيلو مترات، براري أماكن عديدة تحتاج إلى من يدعو ويتكلم فيها.
الأمر الآخر: لا تنتظر النتائج منذ أن تفتح المكتبة، أو تفتح بيتك، أو تقوم بمشروع الرحلات أن يمتلئ الأوتوبيس من أول مرة، لا يا أخي الكريم، ربما في المرة الأولى عشرة فعشرين فثلاثين، مع دوام التجربة فإن الزمن والتطبيق يصقل ويعدِّل ويقوِّم ويقيِّم جميع الأخطاء التي فيها، ثم ستصبح يوماً ما أمراً عادياً، هل أحد يستغرب المحاضرات الآن؟ لا، مع أنها في البداية كانت نوعاً ما مستغرَبة لدى الكثير من الناس، لكن الآن أصبح الأمر عادياً، كذلك هذا المشروع حينما يطبَّق سيصبح أمراً عادياً بإذن الله جل وعلا.(33/9)
(مَن أهَمَّه شيء طوَّرَه)
الذين صنعوا الهاتف أول ما صنعوه، إن كنتم تذكرون! الذين كان عندهم تليفون أبو طاحونة، تأخذ لك نصف ساعة وأنت تلف الطاحونة، لو كنتَ تنزح ماءً لخرج الماء، لو كانتْ تسحب ماءً من البئر لخرج الماء مِن كَثْرة ما تبرم هذه الطاحونة.
ثم بعد ذلك طوروا الجهاز؛ لأن الاتصال أمر مهم بالنسبة للغرب، فطوروه حتى أصبح بالقرص، ثم طوروه حتى أصبح باللمس، ثم طوروه حتى وُجِد الهاتف الذي يخزن في الذاكرة، ثم طوروه حتى وجد الهاتف الذي يخرج صورة المتكلم.
إذاً مَن أهمه شيئاً طوَّره يا إخوان، حتى يصل به إلى درجة من التقنية العالية.
فنحن هل أهمتنا الدعوة حتى نطور أساليبها؟! كذلك وسائل النقل: لما أهمَّت أصحابها كانت على البخار، ثم كانت على وسائل أخرى، ثم تطورت بعد ذلك إلى أن وجدنا مختلف وسائل النقل: الطائرات، والباخرات، والغواصات، والأسلحة تطورت، من آلات السلاح والصيد القديمة، إلى عابرات القارات، وحرب النجوم، والتسليح طويل المدى، وهَلُمَّ جَرَّا.
إذاً أيها الأحبة! نحن بحاجة إلى تطوير أساليب الدعوة من حيث الأدوات التي نستخدمها في الدعوة، هل نقتصر فقط على الشريط والكتيب؟! الباعة في الأسواق ألا يستطيعون أن يجعلوا من مبيعاتهم أو من أسواقهم وسيلة أو مجالاً من مجالات الدعوة؟! لو فكروا في ذلك لأوجدوا، الذين يشتغلون في سيارات التاكسي مثلاً أو سيارات الأجرة، يستطيعون أن يجعلوا من هذه السيارة إذاعة صغيرة يُسْمِعون فيها كلَّ راكبٍ شريطاً ينفعه ويؤثر عليه، الذين يسوقون الأوتوبيسات؛ خطوط البلدة، أو النقل العام؛ النقل الجماعي، لماذا لا نقدم لشركة النقل الجماعي فكرة أن تجعل في برنامج الرحلة محاضرة أو خطبة أو شريطاً مناسباً، مع وقت الأخبار تذاع الأخبار، يعني: نحن نقدم الخير قبل أن يوجد الشر، ثم نجلس نتشاور في بيتي أو في بيتك: لقد قُرِّر كذا فكيف السبيل إلى رده.
كان الأجدر والأولى بنا أن نحل هذا المكان بالخير، قبل أن يحل فيه الشر.(33/10)
نحن بحاجة إلى تطوير أساليب الدعوة في التخصص
خطابنا نوجهه لمن؟ الدعوة وجهت للرجال والشباب، فهل هناك فريق متخصص لدعوة الأطفال، أم الرسوم المتحركة والدعاية هي التي تؤثر عليهم؟! هل يوجد فريق متخصص للتأثير على الأطفال، لاحتوائهم بعد العصر؟! آلاف بل عشرات الآلاف من الأطفال؛ طفلي وطفلك وولدي وولدك يشكون فراغاً بعد العصر، ليس كلهم يدرسون في مدارس تحفيظ القرآن، وليس من العقل أن نقول: إما أن يدخل تحفيظ قرآن، أو إلى حيث ألقَتْ رَحْلَها أمُّ قشعمِ! لا.
إذا لم يكن في هذه الحلقة، فثمة مكان آخر يحتويه ويحتضنه، حتى يخرج إلى المجتمع شاباً مجداً مجتهداً نشيطاً، أقل الأحوال: نوفر على أجهزة الأمن كثيراً من مصروفات المطاردة والمراقبة والملاحقة؛ لأننا أخرجنا إلى المجتمع شاباً عوناً لجهاز الأمن، ولم يكن يوماً ما مجرماً تصرف أجهزة الأمن ميزانيات معينة لملاحقته ومطاردته.(33/11)
دعوة الممرضات في المستشفيات
الآن يوجد آلاف من الممرضات السعوديات، وهل الحل أن نتكلم في التمريض على المنابر والخطب؟! نحذِّر من خطورة هذا الباب! هذا معقول.
نحذِّر من أن هذا الباب إذا لم يُضبط بضوابط شرعية! هذا أمر واجب فوق المعقول أيضاً.
لكن أن نهمل هذه الممرضة وليس لها عندنا إلا أن نتَّهمها أو أن نتكلم عليها! لا يا إخوة.
هل يوماً ما فكرنا أن ننتج شريطاً أو كتاباً أو رسالةً أو أسلوباً نخترعه نوجهه إلى الممرضة المسلمة، أو دور الممرضة المسلمة في المستشفى؟! تصوروا يا إخوان: في أحد المستشفيات فتاة ملتزمة، تعمل ممرضة، بحاجة إلى العمل، وتعمل في قسم النساء، إلا أن التمريض حتى الآن يسمى: تمريضاً منفصلاً وهو لا يزال مختلطاً، فتأتي متحجبة بقفازها، وأغلب وقتها في قسم النساء، لكن لو خرجت أو مرت اضطرت أن تقابل في الممر أو في الطريق رجلاً، فأخذت لوحة وعلقت، لوحة مكتوب عليها: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30] فماذا فعل أحد شياطين الإنس في تلك المستشفى؟ جاء وأزال اللوحة! إذاً توجد فتاة ممرضة ملتزمة مسلمة صالحة تريد أن تقوم بهذا العمل، وتريد أن تُسعد بتحقيق ضوابطه الشرعية بما يخدم مصلحتها ولا يتنافى مع أحكام ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن يوجد من هو لها بالمرصاد، فأين معاشر الدعاة عنها؟ أين تشجيعها؟ أين الثناء عليها والدعاء لها بالثبات على حجابها وانفصالها وعزلتها واختيارها مكتباً مستقلاً بها بدلاً من أن نسكت عنها ولا تسمع منا إلا الهجوم، ثم تتنازل رويداً رويداً حتى ترمي القفاز، ثم تخفف الغطاء، ثم ترمي الحجاب، ثم تكشف الشعر، ثم تقصر اللباس، ثم تكون كسائر المتبرجات الكاسيات العاريات.
كذلك الطبيبة المسلمة: أيضاً الطبيبة المسلمة بحاجة إلى أن يوجه لها الخطاب، وأن تعطى دوراً يليق بها في الدعوة إلى الله جل وعلا، هذا لم يوجد حتى الآن إلا في القليل النادر.
المرأة الكبيرة:- الآن الأشرطة لو قلت لك: عندي شاب منحرف، أعطني شريطاً.
تقول: والله تفضل، هذا شريط للشيخ/ عبد الوهاب الطريري، رسالة من القلب.
أقول: جزاك الله خيراً، وعندي جدتي ملتزمة أعطني شريطاً.
أليس عندك شريط للعجائز؟! لماذا لا يوجد شريط للمرأة المسلمة؟! لماذا لا يوجد شريط للمرأة الكبيرة في السن؟! لا بد أن يوجد! وكنتُ في حوار مع أحد الإخوة، قال: ما رأيك أنت أن تجعل هذا الشريط؟ قلت: هل رأيتني عجوزاً؟! لماذا اخترتني من بينهم؟! فقررنا -وهذه من أساليب الدول العربية- المهم: اتفقنا على أن نوجد أو أن نسجل شريطاً، ولعله أن يُعْلَن عن المحاضرة قريباً بعنوان: عجائز لم يذكرهن التاريخ، واخترنا أن نبدل العنوان من: (عجائز) إلى: نساء لم يذكرهن التاريخ؛ لأنه لو واحد منكم أعطى جدته أو أمه الشريط وقال: تفضلي يا أمي هذا الشريط بعنوان: عجائز لم يذكرهن التاريخ لقالت: خذه -وأنا أمك- وأعطه لأم فلان، لاحظها في رابع بيت على اليسار، تراها عجوزاً أسنانها واقعة، أعطها الشريط هذا، أما أنا فابحث لي عن شريط الفتاة المسلمة.
إذاً قريباً إن شاء الله نتعاون ومن كان عنده فكرة تخدم هذا الشريط فلنتعاون على البر والتقوى، جزاكم الله خيراًَ؛ لكي نخرج شريطاً بعنوان: نساء لم يذكرهن التاريخ، وتكون بداية الانطلاقة لتوجيه المرأة المسلمة.(33/12)
مخاطبة الطفل والرجل الكبير في السن
تصوروا أن بعض الشيبة يجلسون عند الأطفال ويلعبون لهم [9]! ما لهم شغل أبداً! فعلاً: لماذا لا يوجَّه هذا الرجل الكبير؟! لماذا لا يوجد مجموعة من الشباب يهتمون بالكبار؟! إذا كان يوجد مراكز للمسنين والعناية بالمسنين، لماذا لا يدخلها الشباب ويتمكنون فيها حتى لا يُعرض على المسن أغانٍ، وربابة، وفنون شعبية؟ والرَّجُل -مثلما يقولون- (رِجْل في القبر ورِجْل في الأرض)، و (شمس على أطراف العسبان) كما يقال {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15] وكما ورد في البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: (قد أعذر الله إلى امرئ بلغه الستين من عمره).
فبدلاً من أن يكون مركز المسنين يعلم الشائب الذي هو قريب من الآخرة، قد ودع الدنيا، وقريب من الآخرة.
ومن يعش ثمانين حو لا أبا لك يسأمِ
منهم من بلغ السبعين والثمانين بدلاً من أن يتركوا هكذا، لماذا لا ينخرط شباب في مراكز المسنين للعناية بهم، وإخبارهم بآثار كبار السن من الأولين المتقدمين وما كانوا فيه من تنافس في العبادة والطاعة والدعوة إلى الله جل وعلا.
أقول أيها الإخوة: هذه من المجالات المطروحة؛ مخاطبة: الممرضة.
والطبيبة.
والمرأة العجوز، والمرأة الكبيرة في السن.
والعوام.
والشباب الذين يسمَّون بين قوسين: بـ (العرابجة والمفحِّطين) يحتاجون إلى أسلوب يليق بهم ويناسبهم، ويتحدث معهم في صميم مصطلحاتهم، حتى يدركوا أن الذي يتحدث معهم إنسان يعرف ما يدور بينهم.
يا إخوان! لو زرتم دار الملاحظة الاجتماعية لوجدتم مجرماً صُغَيِّراً كهذا القَدْر، عمره سبع سنوات، مسجون في الدار، سبع سنوات يُسجَن؟! هذا مجرم صغير، من أين جاء؟ عنده جنوح أحداث.
ثمان سنوات، تسع سنوات تلقى لك مجرماً صغيراً ما شاء الله، يمكن أن يضرب الأرقام القياسية في أصغر مجرم في العالم.
كذلك أيها الإخوة: ينبغي لنا أن نحرص على احتواء الواقع، بمعنى: أنه إذا وجد شر نازل لا محالة، فلا يكن همنا: أوسعتهم شتماً وساروا بالإبلِ نعم.
البداية أن نحتوي الموقع قبل أن يتنفذ فيه العلمانيون ويطبقوا ما يريدون، أو أن يقع الشر من حيث لا يعرف القائم على هذا الأمر أن هذا شر.
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
ليس بالضرورة أن من كان على الجهاز قد قصد إيجاد الغلط فيه، لكن قد لا يكون من الذين يميزون الخير من الشر، أو من الذين لا يميزون بين خير الخيرين وشر الشرين، أو أعظم الخيرين وأدنى الشرين، ولأجل ذلك لما غاب العقل والضمير الواعي، والمسلم المتميز بفطنته وذكائه وُجِد مثل هذا الشر وترعرع قليلاً قليلاً.
وخذوا مثالاً على ذلك: رئاسة تعليم البنات، لما أنشئت كان المهيمن والجهاز الإداري الموجِّه لها، والحريص على ضوابطها وبرامجها ومنهاجها ثلة من العلماء والقضاة والدعاة وكبار وجهاء الأمة من الصالحين.
فلا يزال تعليم البنات يعطي جانباً طيباً في المجتمع حتى الآن، ويعتبر صورة نادرة في العالم الإسلامي، بل في العالم كله.
فما بالك لو أن هذا الجهاز منذ أن بدأ احتواه الأشرار وتنفذوا فيه وأخذوا ينفِّذون خططهم، لكان في هذا شر عجيب جداً!(33/13)
الشريط الإسلامي وكيفية استغلاله للدعوة
أنتقلُ بعد ذلك إلى صميم المحاضرة: أيها الإخوة! سبق أن مر بنا الحديث في محاضرة بعنوان: (مجالات جديدة للدعوة) وقلنا: إن من المجالات المهيأة والوسائل الطبية النافعة: الشريط الإسلامي، فنحتاج إلى من يتخصص في الشريط الإسلامي، ولا أكتمكم أن سبب طرح هذا العنوان، أو طرح هذه المحاضرة، كان بعد أن وصلتني مجموعة من الرسائل: تسجيلات كذا الإسلامية، صاحبها يقول: أسعفوني وإلا سوف أغلق المحل.
تسجيلات كذا معروضة للبيع.
التسجيلات الفلانية معروضة للبيع.
التسجيلات الفلانية صاحبها يخسر.
لماذا هذا التهاوي؟! لماذا هذا الانحدار؟! ما هذا العقد الذي انفرط نظامه، فتتابعت حباته؟! ما الأمر؟! نحن على خطر في هذا الجانب.(33/14)
دور الشريط في الدعوة ودعمه
يا أخي، إذا قلت لك: إن من أسباب انتشار الصحوة، وعوامل ظهورها وفشوها وشمولها في كثير من المجالات: الشريط الإسلامي، أنت توافقني في هذا.
فإذا قلت لك: إن الشريط الإسلامي الآن ينقرض شيئاً فشيئاً، أو ينضب معينه شيئاً فشيئاً، معنى ذلك أننا سنواجه مجاعة أو عطشاً في الشريط الإسلامي في يوم من الأيام.
مثال ذلك: لو قلنا: إن مياه منطقة (الوسيع) أصبحت قليلة جداً، وإن مكائن تحلية المياه المالحة أصبحت عاجزة عن التحلية، ألا تفكر بأنك يوماً ما ستواجه عطشاً كبيراً أو مجاعةً كبيرةً بعد سنة أو بعد ثمانية أشهر؛ لأن المعين ينضب رويداً رويداً.
فأقول: إذا استمر الأمر، فهذه التسجيلات الإسلامية ستغلق، وهذه مفلسة، وهذه تنادي، وهذه الديون تتراكم على أصحابها، فنحن على خطر عظيم ونحتاج أن ننتبه لهذه المسألة.
لذلك كان الموضوع: الشريط بين التجارة والدعوة، أو وسائل الدعوة بين الجمود والتطوير.
نعم أيها الإخوة! نحن لا نخفي الغرض التجاري -أيها الإخوة- من كثير من التسجيلات {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ليس على الإنسان جناح أن يطلب خيري الدنيا والدين، ولا حرج في ذلك أبداًَ؛ لكن المشكلة أن بعض الإخوة جزاه الله خيراً، حينما يأتي لكي يشتري الشريط، يقول: أنتم طمَّاعون، وأنا ليس عندي تسجيلات إسلامية حتى أُتَّهم بالدفاع عن أصحاب التسجيلات؛ لكن أقول: إن كثيراً من الشباب حينما يأتي لكي يشتري عشرين أو ثلاثين شريطاً، يقول: بكم تعطينا الشريط؟ بِرِيالَين، بِرِيالَين وربع، بِرِيالَين ونصف، وكأنه يكاسر أصحاب الطماطم من السوق! يا أخي الكريم! أنت تشتري شريطاً وتخدم الدين من جانبين: من جانب دعم محل التسجيلات الإسلامية.
من جانب سماعك للشريط، وإسماعه بعد أن تستغني عنه، أو تهديه لمن يستفيد منه بإذن الله جل وعلا.
فإذاً أنا وأنت أصبحنا نقول لهذه لتسجيلات: أنتم عندكم مغالاة في الأسعار، وهذا يقول: هناك عدم قصد لله جل وعلا، هذه التسجيلات هدفها مادي لا أقل ولا أكثر، والرابع يتهم، والخامس يشجب، والسادس يندد، والسابع يتكلم ويغتاب وينم! يا أخي الكريم! من تنتظر يدعم الشريط الإسلامي؟! هل ننتظر مركز توزيع الفيديو الفاسد الخليع لكي يدعم الشريط الإسلامي؟! هل ننتظر مراكز الفساد والفاحشة لكي تدعم الشريط الإسلامي؟! يا أخي الكريم! لو أنك تشتري كل شريط تضيف على سعره نصف ريال زيادة عما يقول لك القائل، أو ريالاً واحداً، وتقول: هذا الريال من أجل دعم الشريط، أو من أجل أن تهدي مَن تراه مناسباً شريطاً مناسباً، فلا حرج في ذلك، وقد يكون هذا أمراً مطلوباً.(33/15)
من مشاكل أصحاب التسجيلات الإسلامية
سألتُ كثيراً من الإخوة أصحاب التسجيلات الإسلامية، وطلبت من بعضهم أن يكتبوا لي كتابة خطية عن المشاكل التي يواجهونها، فكان خلاصة ما كتبوا: قضية المنافسة في سعر البيع، وأحياناً احتكار بعض النسخ، أو ما يسمى بالإصدارات، ننصح إخواننا الذين يعتنون بالإصدارات مع إسداء جزيل الدعاء والشكر والثناء عليهم، نسأل الله أن يوفقهم وأن يعينهم، ننصحهم أن يتلطفوا بأحوال أصحاب التسجيلات الإسلامية الصغيرة، وليكن هناك نوع من التعاون، في حين أن الأمر فيه سعة، وكثير من المشاكل بالذات فيما يتعلق بالإصدار حُلَّت أو انتهت؛ لكن تبقى قضية المنافسة في سعر البيع؛ أنا عندي تسجيلات إسلامية مثلاً فتجدني أبيع بأربعة ريالات؛ لكن بجواري واحد يبيع بثلاثة وربع، ونعيش في حرب الأسعار، كأننا في (منظمة أوبك) وهذا خطر عظيم لأنه سوف ينتهي بالتالي إلى أن أغلق محلي ويبقى هذا وحده، ثم يأتي من ينافس هذا لكي هذا يغلق ويبقى الثالث، ثم يأتي من ينافس الثالث فيغلق ويبقى فقط رابع، فإذا كان يوماً ما عندنا في السوق مائة محل أو دكانٍ للتسجيلات الإسلامية، بعد نشوب حرب الأسعار سوف تصفي العملية على عشرين أو خمسة وعشرين من محلات التسجيلات الإسلامية، ومن الذي أغلقها؟! تنافس أصحابها، وتسلط ألسنتنا على أصحابها، ونستكثر أن نزيد ريالاً أو ريالين ونحن نشتري وسيلة من وسائل الدعوة، ولو أن الإنسان استحضر وجمع في قلبه وتصور بين ناظرَيه أنه لا يدفع في الحقيقة ريالاً، وإنما يقدم في موازين الحسنات حسنات يسأل الله أن يلقاها، سواءً كان السعر غالياً أو رخيصاً فإنه لن يستكثر شيئاً أبداً.
.
وما مع الحب إن أخلصتَ من سأمِ
أيها الإخوة! بعضهم يقول لي -وكان يوماً ما صاحب تسجيلات أغاني، ثم حول محله إلى تسجيلات إسلامية-: عندما كنت أبيع الأغاني لا يمكن أن أبيع الشريط بأقل من عشرة ريالات -وكما قال عمر رضي الله عنه: [اللهم إني أشكو إليك جَلَد الفاسق وضعف الثقة] يقول: يوم كنا على ضلالة كان الواحد يبيع شريط الأغاني بعشرة ريالات، وما تجد شاباً يكاسرك أو يماكسك في سعره.
الآن نبيع الشريط بأربعة أو بأربعة ونصف أو بخمسة، وتجلس ساعة أحياناً مع البعض لكي يشتري منك شريطين أو ثلاثة، بعد مماكسات طويلة، قال: هذا إذا كان الشريط لمطرب واحد، أما إذا كان الشريط منوعاً، فإن تسعيرته تتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسين ريالاً ولا يسألك عن الباقي.
فلماذا أهل الباطل وأهل الشر على خلافنا -ولا نحكم على كل من سمع الغناء أنه من أهل الباطل وأهل الشر، لعل فيه خيراً كثيراً، ولعل الله أن يهديه- نقول: لماذا ذاك الشاب يوم أن كان في ضلالة على سماع الملاهي كان يبذل أموالاً طائلة، ربما بعضهم اشترى يومياً بعشرين ريالاً، تجده يصرف على الأشرطة قرابة ثلاثمائة ريال شهرياً، في حين أنك ربما اشتريت بمثل هذا السعر أكثر من خمسين أو ستين شريطاً.
فلماذا نحن الذين نماكس ونحن الذين نزعج أصحاب التسجيلات الإسلامية؟! ولماذا نحن الذين نشغلهم ونقول: أنتم احتكاريون وأنت ماديون، وأنت مصلحيون، وليس قصدكم لوجه الله جل وعلا؟! هذا مما يفت ويضعف عزيمة صاحب المحل ويقول: لو أنني قلعت هذا الديكور وهذه التسجيلات وسَلِمْت من مراقبة الإعلام؛ هذا ممنوع، وهذا غير ممنوع، والزيارات المفاجئة: ماذا عندك من الأشرطة الممنوعة أو غير الممنوعة، لو أنني بعت دجاجاً؛ (البيض غير ممنوع) والمناقير مسموحة، فلا أظن أحداً سوف يفتش عليك في المحل أبداً، يا أخي، بلا تسجيلات إسلامية وبلا هَم، دعنا نتعاون مع دواجن الوطنية أو الأخوَين، ونبيع دجاجاً وننفك، لا آخر إصدار ولا أول إصدار، دجاجة ذُبِحَت أمس، وبِيْعَت اليوم، ما هناك إشكال! لتجد أن الشاب يميل إلى هذا الأمر ويبتعد عن أن يمارس تجارة بسيطة جداً، في وقت يستهلك عليه أغلب ساعات يومه وليله والمردود المادي أو العائد المادي ليس شيئاً يذكر بالنسبة لمختلف الأنشطة التجارية والمجالات الأخرى، ونكون بهذا قد تسببنا في إغلاق كثير من المحلات.(33/16)
عداوة الكفر للشريط الإسلامي
أقول أيها الإخوة: خذوا على سبيل المثال إن لم ننتبه لقضية الشريط الإسلامي والتسجيلات الإسلامية، لو قلت لكم: إن المخابرات الفلانية الغربية أرادت أن تقضي على التسجيلات الإسلامية في المملكة مثلاً، واختارت الآتي: اشترت واحداً من العملاء الدخلاء الذين يتكلمون بألسنتنا ومن بني جلدتنا ويتزيون بزينا، وقالت تلك المخابرات عبر سفارتها أو عبر مندوبيها: تعال يا فلان نحن نعطيك (10.
000.
000) ريال مقابل أن تغرق السوق بالأشرطة الإسلامية، بمعنى: تسجيلات البيان، افتح بجانبها محلاً كبيراً وبِعْ الشريط بِرِيالَين، تسجيلات التقوى افتح بجوارها محلاً وبِعْ الشريط بِرِيالَين، التسجيلات في مختلف المناطق افتح بجوار أو في كل منطقة تسجيلات، واجعل هناك أداءً وتصويتاً وصوتيات، وهذه ميزانية لإغراق وإفساد العمل -عمل التسجيلات الإسلامية- هذه عشرة ملايين إلى عشرين مليون دولار مثلاً، من السهولة أن نقبل جمعياً على هذه المحلات، ثم ماذا بعد ذلك؟ ستُغْلِق التسجيلاتُ الإسلامية أبوابَها، وإذا تنظف السوق -على حد تعبيرهم، ولم يعد يوجد فيه أي تسجيلات إسلامية- ما الذي يبقى؟ يبقى صاحب تلك التسجيلات التي زرعها مدخولاً أو مدسوساً على المجتمع، ثم أغلق جميع ما عنده من المحلات، وخرج وترك السوق فارغاً من التسجيلات.
نعم، وما خطرت على بال كثير منا، ونظن أن الأعداء قد لا يبذلون مالاً من أجل إغراق أو إفساد الشريط ومحاولة التسلط عليه! يا أخي الكريم! واللهِ لو قيل لمخابرات دول الغرب: إن مائة مليون دولار كفيلة بمحو وقبر الشريط الإسلامي من المملكة لبذلوا ليس (100.
000.
000) دولار، بل (1000.
000.
000) دولار مقابل هذا الأمر، وأنتم لا تدرون إلى أي درجة يزعج هذا الشريط الإسلامي مخابرات الدول العالمية، نحن لسنا جنوداً أو جيوشاً لكي نعاديها، لكن نقول: ما الذي أشغلهم؟ الخوف من الحق يشغل الباطل مهما علت منزلته.
وحسبكم أن يوماً ما مجلة التايم الأمريكية رَسَمت صورة صقر في يده شريط، صقر بين مخلبيه شريط ومكتوب: ( Safar,s Tab)، يعني: أشرطة سفر الحوالي، مجلة التايم الأمريكية! سبحان الله العلي العظيم! وما علاقة أمريكا بـ سفر الحوالي؟! ما الذي أزعج أمريكا من سفر الحوالي؟! ما الذي أزعجها؟! لندن تذيع مقاطع للشيخ/ سلمان العودة! ما الذي أزعجها من الشيخ سلمان العودة؟! إنهم يخافون من الحق حتى ولو كان في نواحي الأرض.
إذاً: فالشريط الإسلامي وسيلة من وسائل الدعوة خوَّفت الأعداء، فلا غرابة أن يتسلطوا لإفسادها والتسلط عليها.
فنحن إذْ ندعم هذا الشريط، وإذ نعتني به ونقبل سعره؛ أربعة ريالات، خمسة ريالات، ونشتري، وأيضاً إذا اشتريتَ شريطاً خُذْ نسختين أو ثلاثة زيادةً من أجل دعم صاحب المحل، ففي هذا خير عظيم، وننتظر أن يوجد تطوير، لا يقف العمل فقط عند هذه المحلات المتناثرة في مختلف الأزقة والطرقات.(33/17)
مقترح لأصحاب التسجيلات من أجل الدعوة
أيها الإخوة: لماذا لا يجتمع أصحاب التسجيلات الإسلامية اجتماعاً شهرياً لمناقشة قضاياهم ومشكلاتهم؟! لو أن أصحاب التسجيلات في كل مدينة يجتمعون في كل شهر مرة، وهذا أمر لا غضاضة فيه، ولا حرج عليهم بإذن الله جل وعلا، ويناقشون مشاكلهم: ما هي المخاطر التي تواجه الشريط الإسلامي؟ ونحن نخاطبهم ليس بصفتهم أصحاب محلات يوجد بيننا وبينهم تعاطف قرابة، بل نخاطبهم قبل ذلك وبعده بصفتهم يقفون على رافد من روافد الصحوة، ويمر بين أيديهم نهر من أنهار المياه العذبة التي تغذي الصحوة والدعوة إلى الله جل وعلا، فإن لم يعتنوا بهذه الأنهار، وهذه الأودية لكي يجري الماء فيها عذباً، ولكي يزيلوا مجتمعين أي صخور تقذف بها البحار المالحة أحياناً في طريق هذه المياه العذبة، وإلا فيوماً ما سيجف النبع، ويموت النخيل، وتعود البساتين قفاراً خالية مهلِكة {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه:107] لا ترى فيها مستفيداً ولا مفيداً أبداً.
دعوة أكررها لأصحاب التسجيلات الإسلامية: أن يجتمعوا وأن يستفيد بعضهم من بعض، ليس بصفتهم من إخواننا أو من أحبابنا فحسب، بل بصفتهم يقفون على نهر من أنهار المياه العذبة التي تغذي الصحوة، فليتقوا الله وليجتمعوا وليتعاونوا وليستفيدوا، ولعل من أبسط ثمار اجتماعهم مثلاً: أن يقترحوا شركة لإنتاج الشريط فارغاً، الآن الشريط الأبيض الفارغ يُشترى من أكثر من شركة أو يستورد، بعضها يستورد ربما من الإمارات أو صيني أو كوري أو ياباني أو غير ذلك.
المهم، لماذا لا يتفق أصحاب هذه التسجيلات ويطرحوا شركة مساهمة صغيرة لإنتاج الشريط فارغاً، ويكون هذا الشريط تحت مواصفات معينة، حسب المدد المطلوبة، (46) دقيقة، ساعة، ساعة ونصف، ساعتين، أو مناسباً لجميع الإصدارات المطلوب إخراجها وإصدارها؟! لماذا لا يحرص الشباب أصحاب التسجيلات على هذا الأمر ففيه خير كثير لهم، بدلاً من أن يستوردوا الشريط بأسعار غالية، سوف تصبح التكلفة بإذن الله رخيصة.
وأظن أنه لا يوجد -في ظني، وليس عندي علم دقيق- مصنع لإنتاج الأشرطة هنا، إلا إذا كان موجوداً أيضاً لا يمنع، نحن لا نريد أن يكون الأمر احتكاراً على (التقوى) ما المانع من أن توجد شركة مساهمة، أيضاً شركة منافسة، ما يمنع من أجل تقديم أفضل العروض وأفضل نوعيات الإنتاج، ففي هذا خير عظيم.
أيضاً يا إخوان، مثلاً أصحاب التسجيلات في (العلية) لماذا لا يكون بينهم نوع من اللقاءات الجانبية، مثل: لقاءات مؤتمر السلام؟! هناك لقاءات كاملة وهناك لقاءات جانبية، ولكن شتان بين هذا وهذا، المهم يكون بينهم لقاءات جانبية لكي يتناقشوا في بعض الأمور، بعضهم ينصح بعض: يا أخي غيِّر محلك، موقعك في زاوية، أو مَزَلٍّ، أو ممر، أو عند مكان ضيق، ننصحك أن تتقدم، أن تتأخر، نبحث لك عمَّن تستدين منه، غيِّر موقعك، غيِّر من إنتاجك، ارفع جودة الإنتاج، المضخمات، المؤثرات الصوتية، حتى تساعده يا أخي لكي ينهض بنفسه، لا أن تفرح، فتجد نفسك في ارتفاع وصاحبك في انخفاض، ومعاذ الله أن يكون هذا بين إخواننا أصحاب التسجيلات.(33/18)
أسلوب دعوي لنشر الشريط الإسلامي
كذلك من أساليب تطوير أن تقوم هذه المجموعة وترسل تصميماً إلى اليابان أو هونج كونج أو أي مكان تريد.
ثم ألا يوجد هذا التصميم -وسبق أن ذكرته في: (مجالات جديدة للدعوة)، توجد في الصناديق الكبيرة؛ تضغط زراً ينزل بيبسي، تضغط الآخر ينزل ميرندا، تضغط الآخر ينزل تيم، تضغط الآخر ينزل مشروب فيمتو، فلماذا لا توجد هذه وتُصَمَّم؟! أنت أرسل التصميم أو اطرح الفكرة وهم يصنعونها ويرسلونها لك، وتأخذ عليها تصريحاً على الأقل بجوار محلك، إذا كان المحل مغلقاً أنت تضع هذه اللوحة عند المحل.
وما المانع أن تتطور الفكرة لكي توجد هذه الآلات على الأرصفة عند الإشارات، مثل: الصرف الإلكتروني كما في الدعاية: لا حاجة أن تنزل من سيارتك، يكفي أن تدخل البطاقة الذهبية ويخرج لك المال عداً ونقداً؟! أقول يا أخي الكريم: لماذا لا نطور ونسعى ونُلِح ونتابع ونطالب حتى يُسْمح بمثل هذه وتوضع على مفترقات الطرق، وعند الإشارات المرورية، بل بمجرد أن تضع خمسة ريالات في هذا الجيب تضغط الزر ينزل لك مجموعة من الأشرطة، الشيخ/ ابن باز، ابن عثيمين، الجبرين، العودة، القرني، الطريري، سَمِّ ما شئتَ من هذه المجموعة، واختَر ما شئت منها، هذا من تسويق الشريط، ومن الجودة في القدرة على نشره في كل مكان، والفكرة حتى الآن لم توجد، ولعل واحداً منكم يستثمرها أو لعل واحداً من أصحاب التسجيلات الإسلامية يستثمرها.(33/19)
مركز معلومات الشريط
أيضاً من المشاريع في باب العناية بالشريط الإسلامي ولم تستثمر بعد: مشروع مركز معلومات الشريط.
مركز معلومات الشريط أمرين: الأمر الأول: أن يوجد مركز معلومات، ليس للبيع، وإنما يكون عنده من كل شريط في أقصى الدنيا، من غربها، أو شرقها نسخة.
وبالمناسبة: يوجد في أمريكا شركة، اطلب منها أي شريط لـ عائض القرني تعطيك إياه، اطلب أي شريط لـ سفر الحوالي تعطيك إياه، اطلب أي شريط لأي داعية تعطيك إياه، ولكن بحسب القرب والبعد والتكلفة.
إذاً العناية بالمعلومات، أو ما يسمى بثورة المعلومات أمر موجود لدى الغرب واستفادوا منه وسخروه، بل إن كثيراً من مراكز التجسس والمخابرات وكثيراً من الأجهزة الأمنية تعتمد على المعلومات، فلماذا لا نعتمد على المعلومات في تطوير الدعوة، في تطوير أساليبنا، ومجالات نشر هذا الخير الذي نحن نتعبد الله جل وعلا به؟! الجانب الآخر منه وهو الأهم: أن توجد شركة تفرز المعلومات: مثلاً: يوجد عندنا عن الجهاد في سبيل الله ثلاثون شريطاً، هذه تفرغ في أجهزة كمبيوتر، يُستقدم لها مفرِّغون، وطابعون على آلات الكمبيوتر، ومبرمجون، بحيث يكون هناك تحليل للمعلومات، أي معلومة تريدها عن الجهاد من هذه الأشرطة نحن مستعدون أن نعطيك الورقة بعشرين ريالاً أو بثلاثين ريالاً.
معلومات عن الجهاد، مَن تكلم عنه؟ عندك ثلاثون محاضراً تكلموا عن الجهاد؛ أساليبه، فرضيته، ميادينه، الجهاد الجهاد فنقدم لك هذه المعلومات.
وجود مركز أبحاث ومركز دراسات يحلل هذه المعلومات بعد تفريغها ويوزعها سواء على عناصر أو على أبواب.
هذا في حد ذاته أيها الإخوة سوف يخدم الدعوة، ونحن وبصريح العبارة في الدعوة إلى الله جل وعلا آخر الناس تفكيراً في مراكز الأبحاث والدارسات.
إن مراكز الأبحاث والدراسات مهمتها أن تقيِّم وتقوِّم التجارب، مثلاً التسجيلات الإسلامية لها ثمان سنوات، هل وُجِد بحث يقيِّم الشريط الإسلامي؟! يقيِّم هذه التجربة؟! يبيِّن العيوب الموجودة في التجربة؟! المجالات التي لم يغطِّها هذا الشريط، المجالات التي أُغْرِقت وزاد الكلام عن حده فيها؟! هذا غير موجود أبداً.
ولأجل ذلك فلا غرابة أن تبقى بعض الجوانب منسية، وأن يبقى الإغراق والفيضان متتابع على بعض المجالات، وبعض المجالات تبقى شحيحة حتى هذه الساعة، ما لم يوجد مركز أبحاث ومركز دراسات.
مثال آخر -والشيء بالشيء يُذْكَر-: هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل توجد مراكز للأبحاث والدراسات؛ أساليب الهيئة، رجال الهيئة، تدريب رجال الهيئة، الرفع من كفاءاتهم، الرفع من مرتباتهم، طريقة تمكين هؤلاء الرجال في المجتمع، حماية أعراضهم، مَن الذي يسعى إلى تشويه صورهم، مَن الذي يسعى إلى نشر الشائعات ويختلق الأكاذيب والافتراءات حولهم.
لا بد حينما توجد مجموعة معلومات ومراكز أبحاث ودراسات سوف نكتشف مواقع الخلل؛ مَن الذين يُوَكَّلون بنشر الإشاعة عن الهيئة.
من الذين يختلقون ويفترون الأكاذيب.
كيف نطور هذا الأسلوب.
هل يوماً ما فكرنا أن نوزع استبيانات على جميع أصحاب الدكاكين: اسمك؟ نوع تجارتك؟ هل تفضل أن توجد الهيئة في هذا السوق؟ إذا كان
الجواب
لا، لماذا؟ هل تحب أن رجل الهيئة يحدثك على انفراد؟ هل ترغب أن يكون كذا، اطرح مائة، أو مائتي سؤال في الاستبيان، وقدمها لمجموعة محللي معلومات ليستخلصوا منها قرارات، هذا غير موجود حتى الآن، وربما يوجد على مستوى محدود، الله أعلم، لكن لو وجد بالقدرة والقوة الفاعلة المؤثرة، لاستطعنا أن نرفع من مستوى الهيئة، لكن:
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجيء أولا
مَن لي بمثل مشيك المدللِ يمشي رويداً ويجي في الأولِ
الهيئة في المرتبة الثانية والثلاثين، بند العمال، بند الأجور، ونريد أن يعطونا أفضل الكفاءات، كَثَّر الله خير العاملين فيها، الواحد منهم راتبه ألف وثمانمائة ريال، ويسهر الليل والنهار، ويشقى بعيداً عن أهله، ويصرف من جيبه، ومع ذلك لا يسلم عرضه من ألسنة المرجفين وبعض المنافقين، حسبنا الله ونعم والوكيل! أقول أيها الإخوة: مركز معلومات الشريط هذا أمر مهم، وأبشِّر أنه مشروع ناجح، والذي يريد أن يتبنى هذا المشروع فأنا مستعد أن أعطيه مجاناً دراسةً لجدوى المشروع، وما يحتاجه، ورأس ماله، وتكلفته، وعدد أجهزة الكمبيوتر، وعدد الموظفين، والآلات الطابعة، أعمل له دارسةً مجانيةً في هذا.(33/20)
أسلوب دعم الشريط بتقديمه للإذاعات
كذلك أيها الإخوة من المجالات التي نستطيع أن ندعم فيها الشريط الإسلامي: اختيار المواضيع الجيدة، وتقديمها إلى الإذاعة: حينما تسمع في الأخبار زار وزير الإعلام الفلاني الدولة الفلانية، وقابل وزير إعلام الدولة الفلانية، وبعد ذلك اتفقا على التعاون الإعلامي بينهما، ما هو التعاون الإعلامي؟ عندنا قليلٌ من الأفلام الساقطة نعطيك إياها، هذا جزء من التعاون.
بعد ذلك ماذا قدمنا للإسلام؟ العمل القليل هو الذي ينفع، بل قد لا يوجد في مثل هذه الاتفاقية شيء يخدم الإسلام في كثير من الأحيان إلا من رحم الله وقليل ما هم، لماذا؟ لا تقدم التسجيلات الإسلامية أشرطة ريل، قد يقولون: الشريط الكاسيت لا يصلح، وهناك مواصفات معينة لما يذاع، نقول: يا أخي الكريم مستعدون أن نصفِّي هذه الأصوات، نجلب مضخمات، نجلب مصفيات، نجلب أجهزة تحوِّل هذا الصوت إلى صوت مناسب إذاعياً ونقدمه، تريد موضوعاً غير حساس لا يضيِّق صدرَك؟ تفضل هذا موضوع بعيد عن الأمور التي أنت تخشى أن يُتَحَدَّث فيها، المهم طور إنتاجك، اتصل بإذاعة الدولة الفلانية، وإذاعة الدولة الفلانية، ابحث لك عن مكتب تجاري في الدولة الفلانية، حتى لا يُقال: إنك اتصلت بدولة أجنبية متخطياً الحدود، نقول لك: ابحث لك عن تعاون تجاري، ممثل تجاري، ممثل تسويق خدمات تجارية، أو خدمات إعلامية، عندي (30) حلقة في التاريخ، عندي (30) حلقة في السيرة، قد سُجِّلت على أشرطة ريل، أو أشرطة عالية الأداء، من الممكن أن تقدَّم كحلقات وبرامج للإذاعة الفلانية، في الفترة الفلانية، ما المانع يا أخي؟! نستطيع أن نطور هذا الجهاز ونجعل التسجيلات الإسلامية والشريط الإسلامي من أوسع مجالات الاستثمار المالي والدعوي، الذي يخدم ويضمن نهراً متدفقاً عذباً زلالاً مستمراً يخدم الدعوة إلى الله جل وعلا.
كذلك من المجالات الممكنة: أن تسجل بعض المحاضرات في الجامعات إذا أُذِن: لأن بعض الأساتذة لا يأذن، وبعض الجامعات لا تأذن، لكن بعضها تسمح، بالذات فيما يتعلق بالدراسات العليا وغيرها فإنها تسمح بذلك فما المانع أن تسجلها كما هي الدروس التي تسجل للشيخ/ ابن باز، وابن عثيمين، متع الله بهم.
فبالإمكان أن عدداً من الذين يرغبون أن يسمعوا وأن يزيدوا من مستوى قدراتهم ومعلوماتهم -وليس بالضرورة أن يريدوا الحصول على شهادة لكن يريد أن يستفيد- من الممكن أن نطور هذا المجال؛ لكن أن نحصر الشريط الإسلامي: وُجِدَت محاضرة! الحقوها يا تسجيلات وسجلوها.
وماذا بعد ذلك؟ هذا آخر من عندنا، نصفيه وننقله من فيديو إلى كاسيت، ومن كاسيت ننسخ منه ونوزعه.
ثم أيضاً من نعم الله على أصحاب التسجيلات التي ينبغي أن يحرصوا على العناية بها: أنهم لا يطالَبون بحقوق، وهذه لا نقولها مِنَّة مِنَّا لهم، لا؛ لأننا لم نقدم شيئاً يُذْكَر وليست بأفضل المواد التي نقدمها؛ لكن حقيقة الأمر بالنسبة لنا لا يجوز أن يتاجر الإنسان بالآية والحديث، قَلَّ الأمر أو كثُر، لكن بالنسبة لهم فإن ما يستثمرونه في هذا المجال هو نشر للخير واستثمار للمال في مجال جديد أو في تربة جديدة لم يستفَد منها أيضاً.(33/21)
أهمية دعم مجال المرأة
من مجالات الدعوة، أو من المجالات التي تحتاج إلى تطوير ولا تزال حتى الآن شحيحة أو ضحلة من حيث المعلومات والأفكار والتجارب: مجال الفتاة المسلمة، أو مجال المرأة المسلمة:- الآن يوجد داعيات مسلمات، ليست فقط ملتزمة بل داعية؛ لكن تريد من يتحدث لها عن مجال الدعوة: كيف تعمل؟! لماذا فتاة تأثرت بالغرب أو تأثرت بـ هدى شعراوي أو درية شفيق من هؤلاء العلمانيات الذين جروا على الأمة مصيبة التحرر، أو ما يسمى بحرية الوصول إلى المرأة، أو الذي يسمونه: حرية المرأة، لماذا لا يُفْتَح المجال لها؟! كيف تستغلين الجمعيات الخيرية النسائية للدعوة إلى الله جل وعلا؟! ما معنى أن الجمعية الفلانية يجتمع فيها فلانة وفلانة وفلانة؛ عرض أزياء، وطبق خيري، وعشاء خيري، والنهاية فيها بلاء؟! بعيني رأيت مجموعة رجال ونساء في مجلس واحد -صورتهم- لمناقشة الطبق الخيري، أو السوق الخيري، وآثار انعكاسه على مساعدة الفقراء والمحتاجين.
(إن الله جل وعلا طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيباً) اجتماع رجال مع نساء، وفيه من الابتسامات، وفيه من الدياثة، وفيه من العهر ما الله به عليم، وأي عهر أعظم من أن الرجل لا يمت إلى المرأة بصلة يجلس معها! هذا في الصورة، كان فريق هنا وفريق هنا؛ لكن بعد ذلك وُجِدَت الفضيحة، سواء كان اختلاطاً أو غيره.
والله ما كل ما يُعْلَم يُقال، وحسبنا الله ونعم الوكيل! أقول: ما الذي يمنع الفتاة المسلمة أن تكون جريئة؟! ما الذي جرأ المرأة الفاسدة، أو المرأة المنحرفة على أن تجتمع بالرجال وأن تختلط بهم، وأن تطرح فكرة الاختلاط عبر السوق الخيري، والطبق الخيري، وعبر هذه الأفكار؟! هذا مشروع، يمكن أن يُستغل السوق الخيري في خير، ويمكن أن يُستغل لاختلاط، ويمكن أن يستغل لشر، ويمكن أن يستغل لأمر تافه.
فأقول: ما الذي يمنع الفتاة المسلمة، أو يمنعنا أن نوجد من هذا الشريط الإسلامي أفكاراً دعوية عملية حركية، توجه الداعية المسلمة: كيف تستغل مدارس البنات في فترة المساء؟ كيف تستغل الجمعيات؟ كيف تستغل بعض المنتديات التي تكون مخصصة للنساء؟ أو فقط هذا والله منتدى للنساء، معنى ذلك: لا يحضره إلا المتبرجات العاهرات وليس للطيبات فيه نصيب؟! لا، لا بد أن توجد المنافسة وأن توجد المقارعة، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] لماذا نظن أن الحق الذي عندنا متخلف وضعيف؟! ثم بعد هذا أيها الإخوة أقول: ما الذي يمنع أن نجمع أصحاب العقول المتميزة؛ أساتذة جامعات، رؤساء أقسام، أصحاب استثمارات عالية من كبار الأثرياء الذين عُرفوا بالذكاء في الاستثمار والشركات، وفتح مختلف المجالات لجلب المال واستثماره وتوظيفه بطرق سريعة ودورة مالية سريعة جداً، لكي نتدارس معهم كثيراً من المجالات التي من شأنها أن تخدم الدعوة، ومن شأنها أن تخدم هذا الشريط الإسلامي الذي هو من أعظم الوسائل والأساليب.
هذا ما عندي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان.
وأستغفر الله لي ولكم.(33/22)
الأسئلة
فضيلة الشيخ: وصلت إلينا أسئلة كثيرة كما ترى وأكثرها صُدِّرت بقولهم: إنا نحبك في الله، فليجبكم الشيخ على ذلك.
أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، وأسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجمعني بكم في جناته بمنه وعفوه وكرمه، إنه أرحم الراحمين.(33/23)
أهمية توزيع الأشرطة رغم المنازعات
السؤال
إني في كل مناسبة وخاصة مع الأقارب أقوم بتوزيع الأشرطة، وأجد في ذلك الهجوم وعدم القبول لهذه الأشرطة، فهل أستمر على ذلك أم ماذا؟ علماً أن لديهم منكرات مُجاهَرٌ بها؟
الجواب
نعم، ننصحك بأن تستمر على هذا، بإذن الله جل وعلا يوماً ما ستجد أن هذا الذي يرمي الشريط في وجهك، أو يرمي به عرض الحائط سيسمع ولو مقطعاً منه يشده ويكون باباً إلى هدايته، وأذكر -وسبق أن ذكرتُ هذا- أن فتاة كانت هدايتها بسبب شريط في طريقها، لعله رُمِي إليها، أو رماه أحد، أو سقط من أحد، فرمته برجلها أو أبعدته برجلها، ثم قالت: ماذا يكون هذا الشريط من أشرطة الأغاني؟! كل فنان جديد وعندي من أشرطته، قالت: ما يمنع أن آخذه، فأخذته، وسمعت منه مقطعاً، فتأثرت بهذا المقطع، وتابعت القصة، وأعادت الشريط، فكان سبباً لتوبتها وهدايتها.
يا أخي الكريم إنك لا تدري في أي طعامك البركة، هل هو في أول شريط وزعته، أو في عاشر شريط وزعته، المهم استمر وحسبك أنك تؤجر، وأنت سبب والله هو الذي يقدر الهداية سبحانه.(33/24)
كسر حاجز الحياء للداعية
السؤال
أنا رجل ملتزم بحمد الله، ودائماً أفكر في الدعوة إلى الله حتى وأنا في الفراش، حتى وأنا جالس، فكلما أردت أن أتكلم في الميكرفون استحييت، فأرشدني إلى فعل الصواب وجزاك الله خيراً؟
الجواب
ننصحك أن تشتري ميكرفوناً في البيت وتتحدث أولاً.
أخي الكريم: (لا ينال العلم مُسْتَحٍ ولا مُستكبر) ولكل جواد كبْوَة، ولكل فارس نبْوَة؛ لكن يا أخي الكريم نقول: إن إخوانك من الخطباء، أو ممن يبذلون ما يقدرون عليه في باب الدعوة إلى الله جل وعلا ما نزلوا من بطون أمهاتهم خطباء، وما تخرجوا من الابتدائية دعاة، وإنما كان الأمر محاولة حتى وصلوا إلى ما ترى على ما فيهم من الخلل والقصور.
أخلِق بذي اللب أن تقْضَى حوائجَه ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
حاول وردد هذه المحاولة، المرة الثانية، المرة الثالثة، المرة العاشرة، وستصيب بإذن الله جل وعلا.
ومن قال لك: إن هذه المحاضرة الآن التي ألقيتُها عليك سَلِمَت من الأخطاء أو العيوب؟! أنا الآن وأنا أحدثكم أتجاوز الكلمة فأعرف أن فيها خطأ، وأعود أسمع الشريط أحياناً فأجد أن عندي عشرين، أو ثلاثين خطأً في هذه المحاضرة؛ لكن أعالجه في المحاضرة اللاحقة فيبقى عندي خمسة وعشرون وفي التي تليها عشرون.
ويا أخي الكريم! أنت لست متعبداً بأن يكون العمل (100%) خالياً من النواقص، أنت اجتهد، عليك أن تسعى إلى الخير جهدك.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه أن تتم المقاصدُ
فإذا بذلت ما في وسعك بإذن الله جل وعلا، سيتحقق هذا.
أيضاً ننصحك بالدُّرْبة والمِرَان، بمعنى: ابحث عن مساجد على أطراف المدينة، مسجد فيه مجموعة من العمال، استعن بالله وتعلم فيه، لا حرج، قد يكونون ممن لا يتحدثون إلا الأردية أو البنغالية أو شيئاً من هذا، المهم في آخر كلامك ارفع يديك وادعُ الله لنفسك ولهم فسيؤمِّنون، وهذا خير منك لهم، جزاك الله خير الجزاء على ما فعلت.
ولا أكتمكم أننا كنا نفعل ذلك، أعرف بعض الإخوة كنا وإياهم نفعل ذلك، حتى أقول: المسجد الفلاني اتركه لي ذاك اليوم، فأنا ذاهب إليهم إن شاء الله.
فالمسألة وما فيها أخي الكريم: تدرَّب وتعوَّد، ابدأ بالمساجد التي في نواحي البلاد، في الهِجَر، في البوادي، بقدر ما عندك، وإياك والإطالة، ولا تبدأ مرتجلاً، ابدأ بورقة، ابدأ بعناصر، ابدأ بالحديث؛ اكتبه في ورقة معينة، ثم علق عليه بجملتين، ومراراً وتكراراً، أيضاً قد تردد موضوعاً معيناً عشر مرات، مثلاً: تكتب لك موضوعاً بما فيه من الآيات، والأحاديث، وبعض أبيات الشعر، وأقوال السلف، ثم تلقيه في مسجدٍ ناءٍ في طرف مدينة الرياض شمالاً، وآخر جنوباً، وتردد نفس الموضوع مراراً، هذا يعطيك مَلَكة، ثم تكتب موضوعاً آخر وتعيده، يعطيك مَلَكَة أخرى بإذن الله، وكل واحد فيكم فيه موهبة، ولكن إما احتقار الذات وإما أن الشيطان يخزيه ويخسيه، ويقول: أنت لست بكفء أن تفعل شيئاً، أو أن تقول شيئاً، فيستجيب لهذه الوسوسة، فاستعذ بالله، وابدأ من هذه الليلة، صلاة الفجر إن شاء الله ابحث لك عن مسجد وحدث فيه.(33/25)
دعوة شباب الأرصفة
السؤال
كما تعلمون أن من أنجح وأعظم وسيلة للدعوة إلى الله الجلسات الإصلاحية التي تقام على الأرصفة، فما هي أخبارها؟ وهل ستُعاد كما كانت؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
والله يا إخوان، هذه من أطيب وأجمل الأساليب التي رأيتها، وأكرمني الإخوة بدعوة للمشاركة فيها، وحضرت ذات ليلة، وشَرُفْتُ كثيراً لما علمت أن فضيلة الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين كان ممن جاء تلك الليلة، وألقى كلمة قلت: سبحان الله! كأن هذا الشيخ ليس في عمره الذي أراه، دخل إلى قلوب الشباب بأسلوب وبعبارات وبحديث من الروح إلى أعماق الروح، كان مؤثراً جداً، أتدرون مَن الحضور يا إخوان؟ هناك شريحة من الشباب لا يدخلون المساجد إلى الآن، هناك شريحة من الشباب لا يمكن أن تجده إلا على الرصيف، أو ستجده في السجن، فكيف تصل إليه؟! الله جل وعلا قال لموسى وهارون: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:16].
يا أخي الكريم: الأصل أن الداعية يأتي إلى أهل الفساد، ويأتي إلى المقصِّرين، وإلى العصاة والمذنبين، في أوكارهم وأماكنهم؛ لكن أنا أقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله أن تعود هذه الجلسات عاجلاً غير آجل.
وأيضاً ما الذي يمنع أن تعاد هذه الجلسات وتزوَّد بمجموعة من رجال الأمن المدني، ومجموعة من خبراء علم النفس والاجتماع والباحثين التربويين؛ لكي يعرفوا أثر مثل هذه الجلسات؟! ولو كان ثمة شر يُراد من هذه الاجتماعات ما أقيمت علناً، الذي عنده شر تجده دائماً يتدسدس أو يختبئ أو يتحدث وراء الكواليس؛ أما رجل على الرصيف يقول: هذه بضاعتي فانظروها، هل تظن أن وراءه شر؟! ما يمنع إذا أقيمت مثل هذه الجلسة أن يحضرها عدد يكفي من رجال الأمن العلني والمدني والسري وغيره، ويحضرها عدد من الباحثين التربويين وأساتذة جامعات؛ ليقيِّموا التجربة، يقولوا: هذا أسلوب صالح، هذا أسلوب غير صالح، المهم أن يُتْرَك المجال لهؤلاء الشباب الذين قدَّموا من جهدهم ووقتهم وأفكارهم، وتعب وعرق جبينهم ما يدعون به ضالاً أو منحرفاً أو شاباً لا يعرف الطريق إلى المسجد.(33/26)
الغلول
في هذه الخطبة يحذر الشيخ من الغلول، مبيناً صور الغلول في عصرنا هذا.
كما نبه الشيخ إلى خطر أخذ أموال الناس بالباطل، وإن عصرنا هذا مليء بالاعتداءات على أموال الناس وأعراضهم وحقوقهم العامة والخاصة.(34/1)
معنى الغلول
الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له كان على كل شيء قديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا لله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161].
نزلت هذه الآية يوم أن فقد الصحابةُ رضوان الله عليهم قطيفة بعد غزوة من الغزوات، فقال بعضهم: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها؟ فنزل قول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161].
والأصل في الغلول: الأخذ من الغنيمة قبل أن تُقسم، ويدخل فيه كل أخذ من بيت مال المسلمين، ويدخل فيه كل أخذ أو كل أثرة من مصالح المسلمين دون رضى الأمة بذلك.
معاشر الأحبة: قال الإمام أحمد رضوان الله عليه فيما يرويه في (مسنده): استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: [هذا لكم، وهذا أُهدي إلي] فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: (ما بال العامل! نبعثه على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي؟ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيُهدى إليه أم لا، والذي نفس محمد بيده، لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة لها ثغاء، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) قالها صلى الله عليه وسلم ثلاثاً.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل شاةً لها ثُغاء، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رُغاء، يقول: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً، قد بلَّغْتُك، ولأَعْرِفَنَّ أحدَكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدَمٍ، ينادي: يا محمد! يا محمد! فأقول: لا أملكُ لكَ من الله شيئاً).
وقال أبو عيسى الترمذي: عن معاذ بن جبل قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في إثري، فرددتُ، فقال: أتدري لم بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]).
معاشر المؤمنين: الأحاديث في شأن الغلول عظيمة وكثيرة جداً، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جُملة من الأحاديث الصحيحة فيها، مما يعظم شأن الغلول وعِِظَم خطره، وشؤم ذنبه في الدنيا والآخرة.(34/2)
من صور الغلول اليوم التهاون في الأموال العامة
و
السؤال
هل يوجد غلول في هذا الزمان؟ نعم -أيها الأحبة- إن كثيراً من المسلمين يتهاونون بمصالح الأمة التي هي بين أيديهم، فتجد موظفاً تحت يده مصلحة، يستخدم أوراق دائرته في كتابة أولاده وأطفاله، ويستخدم أوراقاً وأقلاماً لعمله لمصالحه الشخصية، ويستخدم سيارة لا يؤذن له أن يتصرف فيها إلا في مهمات عمله، وإنجاز ما وُكل إليه، فتراه يجد هذه السيارة فرصة للذهاب والإياب، للسفر والتنقل، لكل متعة ونزهة برية، من الذي أحل لك هذا؟! ومن الذي جوَّز لك هذا؟! ومن أين لك هذا؟! كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل الولاة في زمنه، إذا جاء أحد ومعه مال وفير، قال له: [من أين لك هذا؟] إذا كان ذلك المال يختص به لنفسه.
أيها الأحبة: إن كثيراً منا قد تساهل بهذا الأمر تساهلاً عظيماً في هذا الزمان، فتراه يستخدم آلة التصوير ليصور الأوراق لأولاده وبناته في مكتبه، وتراه يستخدم الورق والأقلام والسيارة وبطاقات البنزين، أقول: وبطاقات البنزين؛ لأن كثيراً من الناس يأخذها من مرجع عمله، فيوزعها على أولاده؛ كي لا يخسروا من جيوبهم شيئاً، ولكي يحمل هذه الأوزار على نفسه وحده يوم القيامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! أين الورع في أموال المسلمين؟! وأين الزهد؟! وأين المراقبة والمحاسبة يا عباد الله؟! رحم الله زماناً وأهله مضوا يوم أن كانوا يحاسبون النفس عن القليل والكثير.
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذات يوم وقد جاء غلام له بتمر، فأكل منه تمرة، وكانت عادة الصديق ألا يأكل طعاماً من يد خادمه إلا بعد أن يسأله: من أين لك هذا؟، فأكل الصديق ذات مرة من ذلك الطعام قبل أن يسأله، فلما ابتلعها سأل خادمه وقال له: [من أين لك هذا التمر؟ فقال: تلك كهانة كنت تكهنت بها في الجاهلية لرجل فأعطاني عليها هذا، فأدخل الصديق رضوان الله عليه أصبعه في حلقه، فأخذ يستجرها ويخرجها -يتقيأ- حتى كاد يهلك من شدة ما جهد نفسه بذلك، حتى خرجت تلك التمرة، وخرج سائر ما في بطنه، فقال له الغلام: لقد شققت على نفسك، فقال: والله لو لم تخرج هذه التمرة إلا مع روحي لأخرجتُها] الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا عباد الله! أين المسلمون في هذا الزمان عن تلك الصورة الإيمانية الرائعة؟! أين المسلمون في هذا الزمان الذي لا يبالي أحدهم أي مال وقع في يده, وأي لقمة وضعها في فمه، وأي متاع أدخله بيته؟! أيدري أنه حلال أو حرام؟! فيا عباد الله: راقبوا الله جل وعلا فإنه: (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) فتباً لدنيا حلالها حساب، وحرامها عذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله! معاشر المؤمنين: إننا نرى رأي العين في هذا الزمان بعض المسلمين يظنون أن من الذكاء، ومن الحنكة، ومن القدرة العقلية، أن يخدع دائرة ما، أو محكمة ما، أو جهة ما، لينال منها صكاً يتقوى به على مال أخيه بالحرام، أو ليزور طريقة لكي ينهب ويسلب شيئاً من متاع أخيه بالحرام.
ألا يظن أولئك أن الخصومات تُعاد يوم القيامة؟! من ظن أن الخصومة في الدنيا منجية منتهية فظنه خطأ، وعلمه جهل.
وليتذكر وليعلم أن الخصومات ستُعاد يوم القيامة، وسيقف الناس بين يدي الله للقصاص حتى يقاد للشاة القرناء من الشاة الجلحاء.
فما بالكم برجل خَصِيْمُه أمة محمد أجمع، من تناول سيارة أو متاعاً أو مالاً أو أرضاً بغير حق، فاقتطعها دون سائر الأمة أتظنون أن خصمه واحد؟! لا والله، بل نحن وكل أمة محمد خصيمه يوم القيامة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا يَتَجَرَّأَنَّ أحدٌ على مال لم يتأكد أنه حلال له، ولا يتسلطن أحد على مال قل أو كثر، وإلا فليعلم أنه سيُحاسب حساباً شديداً، سيجده محمولاً على رقبته: (من غل شاة جيء به يوم القيامة تيعر وهي على كتفه، ومن غل بعيراً جاء يحمله يوم القيامة وله رُغاء يسمعه أهل الموقف على كتفه، ومن غل غرساً جاء يحملها يوم القيامة ولها حمحمة معلومة) ومن غل شيئاً قليلاً أو كثيراً إلا جُعل ناطقاً أمامه، حتى الذهب والفضة، من غل صامتاً، أي: ذهباً أو فضة جاء به يوم القيامة يحمله.
فاتقوا الله يا عباد الله، وخففوا الحمل في هذه الدنيا، لا تثقلوا كواهلكم بحقوق الناس وأعراضهم ودمائهم، فحسب ابن آدم أن يغدو بما اجترح من الذنوب والسيئات، عسى الله أن يتجاوز، وعسى الله أن يتدارك الجميع برحمته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(34/3)
أخذ حقوق الناس بالباطل
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد شبر طُوِّقَهُ يوم القيامة من سبع أرضين) هذا شأن من ظلم شبراً فأدخله في أرضه وهو يعلم أنه ليس له! فما بالكم بمن ظلم متراً؟! أو كيلو متراً، أو أقل أو أكثر من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن الواقع في هذه الأيام يشهد نزاعات عظيمة، وخصومات كبيرة، وإحداثات ممنوعة، كلها من اعتداء بعض المسلمين على أراضي البعض.
فهذا يدخل في أرض جاره خمسمائة متر أو أكثر، وهذا يدخل أكثر ويدَّعي أنه صاحب الملك، وهذا يستشهد الناس بالزور، ويدفع رشوة لكي يقيم الحق لصالحه؛ ولكي يطرد صاحب الحق من مكانه.
أين الله؟! أين الله؟! أين الله يا عباد الله؟! أين الله عن قلوب أولئك الذين لا يبالون بما ظلموا في هذه الأرض، من قليل أو كثير؟! ألا يخشون أن يُطَوَّقُون من سبع أرضين يوم القيامة؟! ألا يعلمون أن هذا غلول؟! ألا يعلمون أن الغلول يؤتى به يوم القيامة؟! ألا يعلمون أن هذا عذاب ونار وسعير وجهنم ونارٌ تلظى؟! والعجب العُجاب من ذلك يا عباد الله: أن ترى غنياً له من العقار ما له! وله من الضِّياع ما له! ومع ذلك يظلم فقيراً في أرض ليس له إلا هي! أما يخشى الله في ظلم الضعفاء؟! أما يخشى الله في ظلم الأبرياء؟! أما يتقي الله جل وعلا في شبر أو أقل أو أكثر في هذا الظلم؟! سبحان الله العلي العظيم! إذا انعدمت التقوى، وغابت المراقبة، فحدث ولا حرج عن الظلم والطغيان والجرائم والغلول، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيا عباد الله: اتقوا الله جل وعلا، ومن كان معتدياً على شيء ليس له؛ فليرجع إلى حده، ومن كان قد غصب شيئاً ليس له؛ فليتق الله وليرده إلى صاحبه، ومن كان في نفسه شيء من مالٍ؛ فليراجع صاحبه حتى يُمضي معه صلحاً؛ فإن الصلح تبرأ به الذمم؛ ما لم يكن صلحاً متفقاً فيه بالباطل على الباطل؛ فإن الصلح على الباطل باطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله! عباد الله: ما شأن الناس في هذا الزمان يتخاصمون، ويتنازعون، ويحلفون, ويشهدون الزور، ويرتشون، وكلٌّ يقول: هذا لي.
وأحدهم والله يعلم أنه كاذب فيما يشهد، ويحلف ويدعي ويرشي؟!(34/4)
السلف ومراقبة الله
أين الناس من مراقبة الله في هذا الزمان؟! أين الناس من زمان مر فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات ليلة، فسمع أمَّاً تقول لبنتها: [يا بُنَيَّة! قومي فامذُقي اللبن بالماء، قالت البنت: يا أماه! إن هذا لا يجوز، ,إن أمير المؤمنين قد نهى عن هذا! فقالت الأم: إن عمر لا يرانا الآن، فالتفتت البُنَيَّة إلى أمها صائحة، وقالت: يا أماه! إن كان عمر لا يرانا، فإن رب عمر يرانا].
وكان ابن عمر ذات يوم في برية، فوجد راعياً، وأراد أن يمتحنه، فقال: [اذبح لنا شاة من هذه الشياة، قال: لا.
إنها ليست لي، وإن شئتَ حلبت لك شاة منها، فتشرب لبناً قال: لا.
أعطنيها وخذ قيمتها من الدنانير، وإذا جاء صاحبها قل: إن الذئب افترسها وماتت، فالتفت الراعي إلى ابن عمر، وقال: فأين الله؟! فأين الله؟! فأين الله؟! -صاح ثلاثاً، وهو يقول: فأين الله- إن غاب الراعي، فإن ربي ورب الراعي موجود، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض].
فما بال الناس في هذا الزمان يعتدون تحت سمع السلطة وبصرها بعضهم على بعض، ويعلمون أن الله رقيب حسيب؟ لكن
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دُنْيا لمن لم يحي دينا
والله لا لذة ولا هناءة ولا سعادة ولا استقرار إلا بالإيمان ومراقبة الله جل وعلا.
فاتقوا لله يا عباد الله.
جاءت امرأة إلى الإمام أحمد، وقد كان محبوساً في زمن المحنة، فقالت: يا أبا عبد الله! إن السلاطين يخرجون بالمشاعل على سطوح قصر الخليفة، أفيجوز أن أنسج الصوف في ظل نور قصر السلطان؟ قال: رحمكم الله! إنكم من آل بيت تقىً وزُهد، أنتم من آل فلان؟! قالت: نعم.
قال: فذاك أمر لا يخرج إلا من عندكم.
تسأل أبا عبد الله أحمد بن حنبل، تقول: أيجوز أن أنسج الغزل تحت أنوار قصر الخليفة؟ فيعجب أحمد بن حنبل: هذا كلام ليس من سائر الناس، هذا لا يكون إلا في بيت بني فلان، بيتٌ عُرف بالورع، وعُرف بالزهد، وعُرف بالتقى والمحاسبة.
عباد الله: لن نكون متشائمين إذا قلنا: إن لقمة الحلال في هذا الزمان نادرة! والله ثم والله ما أصاب الناس من الأمراض ومن المحن والمصائب وقلة الغيث وقلة الإجابة والبلاء والفتن، ما أصابهم إلا من لقم الحرام، من طعام الحرام، من شراب الحرام، كلهم لا يبالي إلا ما قل وندر في هذا الزمان، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمضي على الناس زمان، لا يسلم فيه أحدٌ من الربا، من لم يأكله صراحة أصابه من غباره) والله إنه لهذا الزمان، إن لقمة الحلال أندر من النادر في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فلنراقب أنفسنا يا عباد الله، ولنحاسب أنفسنا فيما نركب، فيما نصْيَف، فيما نعمل في دوائرنا.
ثم انظروا عِظَم التساهل! كم يوجد عندنا في هذه المملكة من موظف؟ مليونا موظف -مثلاً- على وجه التقريب؟ لو كل موظف أتلف ورقة واحدة في يوم من الأيام لكان حصيلة التلف والإسراف وإهدار مال الأمة: مليوني ورقة في يوم واحد، فما بالك إذا غصب دفتراً، وهذا أخذ قلماً، وهذا أخذ سيارةً، وهذا صرف وقوداً، وهذا فعل، وهذا ترك، إن الناس لا يحاسِبون فيما يفعلون في هذا الزمان.
فراقبوا الله يا عباد الله، راقبوا الله في أنفسكم، وفيما ولاكم الله عليه.
يقول أحدهم لي: أنا مسئول دائرة من الدوائر، فيأتي موظف يقول: لو تسمح! تصوِّر لي هذا المخطط في هذه الآلة، فأقول: هذا ليس لك، وليس لي، وليس من حقنا؟ فيتهمني بالتعقيد والتشديد والتضييق.
نعم.
فليقل لك ما يقول، ما دامت ذمتك بريئة.
إذا أذن لك المسئول المفوض بالأمر والنهي في هذا، فعند ذلك برئت ذمتك، أما إذا كنتَ مسئولاً فلا تصرف قلماً، ولا تصرف ورقةً، ولا تصور قرطاساً، ولا تؤدِّ لتراً، إلا إذا كان مأذوناً لك فيه، وما سوى ذلك، فحسبك وذنوبك ونفسك أن تتحملها، فضلاً عن أن تحمل ذنوب الآخرين يوم القيامة.(34/5)
أعظم الغلول
فيا عباد الله: فلنتق الله جل وعلا.
روى الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعظم الغلول عند الله: ذراع في الأرض، تجدون الرجلين جارين في الأرض أو في الدار، فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً، فإذا قطعه طُوِّقَه من سبع أرضين يوم القيامة) ولا حول ولا قوة إلا بالله! وليعلم أولئك الذين يظنون أن من الشجاعة ومن الذكاء ومن الحنكة، الذين إذا تنازعوا على أرض من الأراضي، ولَّجوها لرجل أقوى منهم.
تجد إنساناً يملك قطعة يسيرة، فيمتد عن يمينها وشمالها ومن قدامها وخلفها، فإذا بلغ حداً ما، فتنازع مع جيرانه ذهب إلى رجل أقوى منه، وقال: أبيعك هذه الأرض بما فيها من المشاكل والقضايا والدعاوى، فيتولاها ذاك القوي، فيعجز الضعفاء أن ينالوا حقهم عند ذلك.
ألا فليعلم أولئك أن الله جل وعلا قد نهى عنه بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
لا تظنن أن بيعك لهذه الأرض، وما حولها وما جاورها من المشاكل والمصائب والخصومات منجيك من التبعية في الدنيا والآخرة، بل أنت موقوف ومسئول بين يدي الله جل وعلا.
أيها الأحبة: لا تظنوا أن هذا الكلام بعيد عن واقعنا، في كل صقع وأرض وشبر من أرضكم يوجد نزاع وخصومات بين الناس، بنو فلان يعتدون على بني فلان، وفلان يعتدي على أرض فلان، وهَلُمَّ جَرا، وكأن المسألة قوة وغلبة وسيطرة واستعلاء.
أفلا يحاسبون أنفسهم أمام الله؟! أفلا يراقبون أنفسهم أمام الله؟! أفلا يتقون الله؟! ثم هذا الذي يغصب أرضاً كبيرة عريضة والله ليس لك من هذه الأرض إلا قبراً توضع فيه.
فاتق الله يا عبد الله، واتق الله فيما أنت فيه، واقطع باب الخصومة، واقطع دابر النزاع، إن كان حق الناس عندك؛ فاردده، وإن كنت مغتصباً فعد إلى حدك.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم إلى الحلال طعاماً وشراباً وكسباً ونفقة.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا باغياً إلا قطعته، ولا تائباً إلا قبلته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وارضَ اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(34/6)
إحباط الأعمال
لقد حذرنا الله عز وجل على لسان رسوله من كل ما يكون سبباً في إحباط أعمالنا الصالحة، وأخبرنا أن من هذه الأعمال ما يكون مخرجاً من الدين كالشرك بالله، ومنها ما يكون محبطاً للأعمال كالرياء والسمعة، وعقوق الوالدين، وهجر المسلم، ونشوز المرأة من زوجها، ولكن المخرج من هذه كلها التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والتزام كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(35/1)
الصحابة وخوفهم من محبطات الأعمال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: عباد الله! اتقوا لله تعالى حق التقوى، واسمعوا قول الله جل وعلا في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
معاشر المؤمنين! إن كثيراً من الناس في هذا الزمان قد يعملون أعمالاً شتى، وإن كانوا يريدون بها وجه الله جل وعلا، إلا أنهم يحدث منهم ما يكون سبباً لبطلان أعمالهم، وإحباط ثواب ما اكتسبته أيديهم من الخيرات، وذلك لأسباب عظيمة؛ وذلك لأمور كثيرة متعددة؛ ولكن أكثر الناس عن هذا غافلون.
تجد رجلاًَ صواماً قواماً، أو عابداً، أو مصلياً، أو صائماً؛ ولكن يحدث منه أعمال يجهل أنها قد تكون سبباً لبطلان عمله، وإحباط ثواب عمله، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم على أكبر درجات الخوف والوجل من الله جل وعلا من هذه المسألة الخطرة جداً.
لما سمعت عائشة قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:59] إلى قوله جل وعلا {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! أهم الذين يزنون؟ أهم الذين يسرقون؟ أهم الذين يشربون الخمر؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، أولئك أقوام يصلون ويصومون ويقومون ويتصدقون؛ لكن قلوبهم وجلة، يخشون ألا يتقبل الله منهم).
فانظروا إلى عظم عناية الصحابة رضوان الله عليهم بالإخلاص والمتابعة، ومع ذلك كل واحد منهم يده على قلبه، يرجو ثواب ربه، ويخشى حبوط عمله.
فما بال الكثير منا في هذا الزمان، عند أدنى حسنة، أو عند أدنى صالحة من الصالحات يظن أنها قد شقت عنان السماوات، وبلغت أعلى الدرجات، وكُتبت لا شك ولا محالة في سجل الحسنات، ولم يتفقد حسنته تلك، ولم يدقق ويتأمل فيما قدم.
إن كثيراً من الناس يرفعون أعمالاً تسقط عند أقدامهم، وما السبب؟ السبب هو عدم الإخلاص، أو وقوع سبب محبط.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك الشهيد الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، كان يسأل أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان، ويقول له: [سألتُك بالله، هل عدَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟].
إذا كان الفاروق إذا كان ابن الخطاب إذا كان عملاق الإسلام يخشى على نفسه من النفاق، فما بالنا نحن؟! وما موقعنا؟! وفي أي درجة نكون يا عباد الله؟! إن الكثير ليركع ويسجد ويخرج وكأنه قد ضمن الجنة، وكأن صلاته قد قُبلت، بلا تضرع وبلا خشوع وبلا سؤال ملحٍّ على الله أن يتقبل عمله، بل الكثير منهم يعمل العمل، وكله إدلال وعُجب، وكله بطر وإدلال بأن عمله لا شك قد وُضع في عداد أعمال الشهداء! من ذا الذي يمن على الله بعمله؟! ومن ذا الذي يستكثر على ربه حسنة من الحسنات، أو صالحة من الصالحات؟! معاشر المؤمنين! قال عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: [أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق] وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم الله جل وعلا في كتابه الكريم بالفضل وعلو الدرجة، واختارهم ثلة طيبة لصُحبة نبيه، أولئك الذين لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه.
وكان الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة يقول: [يا ليتني طائراً يطير من فَنَن إلى فَنَن، وألقى الله جل وعلا كفافاً، لا لي ولا علي].
ذلك العملاق، ذلك الجبل الشامخ، ذلك القمة السامقة في تاريخ الإسلام، وفي صدر الدعوة، الذي صدق النبي يوم كذبه الناس، وآزر النبي يوم خذله الناس، يبكي خوفاً وجزعاً بين يدي الله جل وعلا، ويقول: [يا ليتني أقدم على الله يوم العرض الأكبر كفافاً، لا لي ولا علي].
وبعضُنا في هذا الزمان إذا ساءل نفسه، أو ناقش نفسه، أو حاسبها، قال: أنا فلان بن فلان، قدَّمتُ، وفعلتُ، وجاهدتُ، ورأيتُ، وقرأتُ، وحاضرتُ، وخطبتُ، وأتيتُ، ودعوتُ، وكل تاء الفاعل ينسبها إلى نفسه من الأعمال! فيا عجباً يا عباد الله! أين هذه النسبة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن التابعين؟! إياكم ونفسي من الغرور بالأعمال! إياكم والعُجب بالعمل! فإنه محبطة مهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(35/2)
الأسباب المحبطة للأعمال(35/3)
الشرك بالله تعالى
معاشر المؤمنين! لا شك أن الشرك بالله جل وعلا من أعظم الأسباب المحبطة للأعمال جميعاً، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة:217] ويقول الله جل وعلا في بيان أن الكفر محبط مهلك متلف للأعمال وثوابها جميعاً، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5].
بل وأعظم وأجل من هذا: أن الله جل وعلا يحذِّر نبيه من الشرك، والله يعلم أن الأنبياء لا يشركون؛ لكن لبيان خطورة هذه المسألة.
إن من الناس قد يشرك وهو لا يدري، وقد يقع في الكفر من حيث لا يشعر، فالحذر الحذر من أسباب الكفر، ومن وسائله ومقدماته، يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
ويقول الله جل وعلا في شأن الرسل جميعاً: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88].
إذاً: فيا عباد الله! إن الله لا يقبل عملاً فيه شرك، مهما كان الإنسان صوَّاماً قواماً متصدقاً منفقاً، ما دام يفعل عملاً أو أمراً من أمور الشرك، فإن هذا كافٍ في إحباط العمل مهما بلغت درجتُه، ومهما علت منزلتُه، ومهما ظن به الناس الظنون, ومهما توقع لنفسه أعلى الدرجات؛ لأن الله جل وعلا يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركتُه وشركه).
وأنتم تعلمون -يا عباد الله- أن الله خلقنا لعبادته: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولم يقبل عبادةً مطلقة، بل قبل عبادة خالصة لوجهه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] ولا تكفي العبادة مع الإخلاص، بل لابد من المتابعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لـ مسلم رحمه الله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فالعمل لا بد أن يكون خالصاً، ولا بد أن يكون صواباً صحيحاً سليماً على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! مهما بلغ ما تسمعون عنهم من الطوائف المنحرفة، والملل الضالة، مهما تظاهروا بالإسلام، ومهما طبقوا أحكام الإسلام في ظاهر معاملاتهم، وفي محافلهم ومؤتمراتهم، وفي أماكن اجتماعاتهم، أعني بذلك: الرافضة الاثني عشرية؛ فإنهم في حقيقة الأمر يصدق عليهم قول الله جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].
إن كثيراً من شباب الإسلام يوم يرون سفيراً من سفرائهم، أو رجلاً من رجالهم، أو تاجراً من تجارهم يطبق أحكام الإسلام، ويطبق القواعد التفصيلية الفرعية في ظواهر أمره وفي ذهابه وإيابه، يرون واحداً منهم يتقدم الناس يصلي بهم، ويرون الآخر يخطبهم، ويرون الثالث يدعوهم، يقولون: هذا هو الإسلام لا غير، وقد جهلوا أن أولئك ضيعوا أموراً كثيرة أوقعتهم في الشرك، وأوقعتهم في الكفر والعياذ بالله فكانت سبباً لإحباط أعمالهم.
إن الله جل وعلا لا يقبل إلا عملاً خالصاً صواباً، لا يقبل إلا إيماناً كاملاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208].
لا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، لا تطبقوا شيئاً وتتركوا شيئاً.
إن الله أمرنا أن ندخل في دينه جُملة وكافة.(35/4)
الرياء والسمعة
معاشر المؤمنين! ومن الأمور المحبطة للأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله: الرياء، والسمعة، والمراءاة، والنفاق، يقول الله جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4 - 7].
توعد الله أولئك بويل، وهو وادٍ في جهنم، والله بريء من الرياء والشرك صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، يقول الله جل وعلا في شأن المرائين: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264].
ومن الأمور المحبطة لثواب الأعمال: المن والأذى، يقول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262].
ويقول الله جل وعلا محذراً من المنة، ومحذراً من الإدلال، ومحذراً من تكرار ذكر المعروف على الذين يُسدى إليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] فهذه الآية دلت على أن المن والأذية سبب لبطلان ثواب الصدقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ورحم الله القائل:
أفسدتَ بالمن ما أسديتَ من حَسَنٍ ليس الكريم إذا أسدى بمنانِ
ويقول الآخر:
أحسن من كل حَسَن في كل وقت وزمن
صنيعة مربوبة خالية من المنن
عباد الله! إن الأمور التي هي سبب لإحباط ثواب الأعمال كثيرة وكثيرة جداً، وحسبنا في هذا المقام المناسب أن نذكر شيئاً منها، أو من أهمها، فمنها أيضاً:(35/5)
التألِّي على الله
والتألي على الله أيها الإخوة: هو أن يتألَّى الإنسان، وأن يستكثر، وأن يستدرك أن يكون فلاناً بن فلان الذي بلغ من المعصية شأواً، ومن الفجور حداً، ومن الذنوب مقداراً، يظن أن الله لا يهديه، وأن هذا لا يدخل الجنة، وأن هذا لا يضل أبداً، هذا مستقيم لا يضل أبداً، وهذا ضال لا يستقيم أبداً.
كلا والله، إن التألِّي سببٌ لإحباط الأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فما رأيتَ من ضال فادعُ له بالهداية، وما رأيتَ من مستقيم فاسأل الله له الثبات.
روى مسلم رحمه الله بسنده إلى جندب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن رجلاً قال: (والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله: من ذا الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان، قد غفرتُ لفلان، وأحبطت عملك).
هذا بسبب التألِّي قد غفر الله لذلك الذي ظن أنه لا يُغفر له، وأحبط عمل ذلك المتألِّي، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإنني أحذر نفسي وكثيراً من المسلمين الذين يقعون في هذا، ظناً منهم أن فاسقاً من الفساق، أو فاجراً من الفجار لا يمكن أن يهتدي (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فلا تظنن مستقيماً يموت على استقامته؛ إلا إذا عصمه الله ومن عليه بذلك، ولا تظنن مذنباً وفاجراً يموت على فجوره، إن الله قد يتداركه برحمته: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] من ذا الذي يستكثر على الله أن يهدي فاجراً أو فاسقاً أو مجرماً؟! فإذا رأيت مبتلىً فاحمد الله، ولا تتألَّى على الله، ولا تسخر به، فلا تهزأ بأخيك، فيعافيه الله جل وعلا ويبتليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(35/6)
البدع والخرافات
أيها الأحبة! ومن الأمور التي قد تكون سبباً، بل هي سبب والله في إحباط العمل: ذلك عمل البدعة، البدعة التي إذا فعلها فاعل لم يشهد لها الشرع باعتبار، لم يكن لها سند وعمل من كتاب الله وسنة نبيه فيما يتعلق بأمر العبادة؛ فإنه عمل مردود مردود مردود، كما يفعله الذين يحتفلون بالموالد النبوية، والمدائح النبوية، والأشعار التي قد يصل الأمر فيها إلى حد الشرك، في المبالغة والإطراء في المديح، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فتلك بدع وأعمال مردودة على أصحابها، يضرب بها وجوه أصحابها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فمن ابتدع في أمر الدين شيئاً، فهو يظن أن الدين لم يكمل، وأن النعمة لم تتم، فكان لا بد أن يضيف بدعتَه إلى رصيد العبادات في الدين، وهذا عين التألي، وهذا عين الاستدراك على الله.
فمن ذا الذي يستدرك على ربه؟! ومن ذا الذي يلاحظ على خالقه؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وسمعتم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود على صاحبه.
أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالثبات والاستقامة، والعبادة والقبول، وأن يوفقنا إلى قبول أعمالنا، وأن يهدينا للصالحات، إنه لا يهدي لأحسنها إلا هو جل وعلا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(35/7)
انتهاك حرمات الله في الخلوة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكمْ مِمَّن لا كافي له ولا مئوي؟! ومن كل خير سألناه أعطانا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراًَ.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتُها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! شنفوا آذانكم، وأطربوا أسماعكم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور التي هي من أعظم الأسباب المحبطة للأعمال، المتلفة للأجور والحسنات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لأعْلَمَنَّ أقواماً من أمتي، يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، فيجعلها الله عزَّ وجلَّ هباءً منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله! صِفْهُم لنا، جَلِّهِم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم) اسمعوا إلى كلام الصحابة: صِفْهُم لنا، جَلِّهِم لنا، يخشون أن يكونوا منهم وهم لا يعلمون، وهم في زمن النبوة، وهم في صحبة النبوة، وهم في جنبات الوحي، وهم في القرون المفضلة، يقولون: صِفْهُم وجَلِّهِم، يخشون أن يكونوا منهم وهم لا يشعرون! فيا عجباً لغيرهم من هذه النفوس المريضة، وهذا القلوب السقيمة التي تمن على الله بأعمالها، والتي تدل على الله بأعمالها! عجباً والله من هذه النفوس! قال ثوبان: (يا رسول الله! صِفْهُم لنا، جَلِّهِم لنا، ألا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون؛ ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(35/8)
التكذيب بالقدر
معاشر المؤمنين! ومن الأمور التي هي سبب لإحباط الأعمال، وإتلاف الثواب: التكذيب بالقدر، فإن من الناس قد يستهزئ ويستهتر، وقد يكذب بالقدر وهو لا يدري، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق لوالديه، ومنَّان، ومكذب بالقدر).
وعن زيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم.
ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله، ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن لصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار).
فليسمع هذا الحديث أولئك الذين يعترضون ويتسخطون ويدعون بالويل والثبور من أقدار الله جل وعلا.
إذا أصيب أحدهم ببلية، أو نزلت به نازلة، قال: لماذا فُعِل بي هذا؟! وما الذي فعلتُ؟! أين المجرمون؟! أين الفجرة؟! أين الفساق؟! لماذا يتنعمون وأنا الذي أُبتلى؟! لماذا يصِحُّون وأنا المريض؟! لماذا هم أغنياء وأنا فقير؟! لماذا هم أحرار وأنا أسير؟! لماذا لماذا لماذا يكرر التسخط والتشكي، ولا يلبث المخلوق إلا أن يشكي الخالق إلى المخلوق، مسكين من فعل هذا! إن الشيطان يدعوه إلى أن يضيِّع عليه أجر المصيبة.
إن الله جل وعلا ما أصاب عبداً من عباده إلا وجعل له في المصيبة أموراً كثيرة: الحمد لله أن لم تكن المصيبة في دينك، الحمد لله أن لم تكن أعظم، الحمد لله الذي جعل لك بها طهوراً وتكفيراً ورفعة في الدرجات والحسنات، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من هَمٍّ ولا نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، حتى الشوكة يُشاكها الرجل إلا كفَّر الله بها عن سيئاته).
فما أصابك من أمر من أمور الدنيا في نفسك أو مالك أو ذريتك أو أحبابك فاحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، واحمد الله الذي يُحمد على كل حال، ولا تكن ساخطاً، لا تكن جزعاً، لا تكن متشكياً، فتلبث أن يضيع أجر المصيبة عليك، والشيطان كثيراً ما يجعل الإنسان يُوَلْوِل ويصيح ويهرول ويدعو بالويل والثبور، ظناً أن هذا تعبير عن المصيبة؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النياحة، وعن شق الجيوب، ولطم الخدود، وعن الاعتراض والتسخط عند المصيبة، وبين صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فاصبر لكل قدر من أقدار الله، وارضَ بما قسم الله: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، أو قد قسمه الله لك، جفت الأقلام وطويت الصحف).(35/9)
هجر الأخ المسلم
أيها الأحبة في الله! إن الأعمال التي تكون سبباً لإتلاف الصالحات، وإتلاف ثواب الدرجات كثيرة جداً، ونختصرها في هذا المقام، فمنها: هجر المسلم: إن هجر المسلم عند الله عظيم، ما بال إخوان يقابل بعضُهم بعضاً فلا يسلم أحدهم على الآخر؟! ما بال جيران إذا خرج هذا صدَّ وانصرف بوجهه عن وجه جاره؟! ما بال أقارب يتقاطعون في أرحامهم؟! ما بال أبناء يعقون والديهم؟! إن الهجر خطير جداً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تُفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا، أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا، أنظروا هذين؛ حتى يصطلحا ثلاث مرات) رواه الإمام مسلم.(35/10)
نشوز المرأة عن زوجها
ومن الأمور الخطرة التي هي سبب لإحباط الأعمال، ولا حول ولا قوة إلا بالله: نشوز المرأة عن زوجها؛ فإن المرأة إذا خرجت ونشزت واستعلت وتكبرت عن طاعة زوجها؛ فإن الله لا يقبل عملاً حتى تعود إلى طاعته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ففي الحديث: (اثنان لا تجاوز صلاتُهما رءوسهما: العبد الآبق؛ حتى يرجع إلى سيده، وامرأة عصت زوجها؛ حتى ترجع) ولا حول ولا قوة إلا بالله!(35/11)
عقوق الوالدين
ومن الأمور المحبطة أيضاً: عقوق الوالدين يا عباد الله! عقوق الوالدين الذي بلغ في هذا الزمان حداً كنا نقرؤه كالأساطير والخرافات، أما الآن فقد أصبح عقوق الوالدين عند بعض المسلمين أمراً ملموساً، وواقعاً حسياً، وأمراً مشهوداً.
ألا فليعلم العاقُّون، القاطعون لوالدِيهم، الهاجرون لأمهاتهم وآبائهم، فليعلموا أن العقوق من أعظم الأسباب التي تحبط الأعمال، وأن الله لا يقبل من العاق عملاً، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً: عاق، ومنَّان، ومكذب بالقدر).
فانظروا كيف قدم العقوق على هذه جميعاً، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: (الإيمان بالله، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله.
أيها الأحبة! لستُ بهذا المقام مفصلاً في شأن أحوال الناس عن العقوق؛ ولعلنا أن نفردهم في مناسبة قادمة؛ لكن أنقل لكم قصة ممن أدركها وأحسها، ومن لسانه إلى أذني هذه، قال: إن شاباً تزوج فتاة، وكان أبوه عنده، وكان كبيراً مسناً طاعناً في السن، فأنِفَت زوجة الشاب هذا أن تخدم أباه، وقالت: لا أقعد عندك حتى تخرج هذا العجوز من البيت، فأطاعها وعقَّ أباه، فقبل منها وعقَّ بوالده، فما كان منه إلا أن قال: سنخرج يا أبتي إلى مكان ما، فطيب أباه وغسله، وكأنه يكفنه ويحنطه، ثم ألبسه، وذهب به إلى دار العجزة، وألقاه عندهم، وقد كان أبوه في تلك الحالة في حالة مرض لا يفيق ولا يدري ما يُفعل به، فلما أفاق في تلك الدار، قال: أين أنا؟ وفي أي مكان؟ وأين ولدي؟ قالوا: جيء بك إلى هنا، أنت في عِداد أولئك العجزة الذين لا مأوى ولا راعي لهم، قال: حسناً، اذهبوا بي إلى مكان كذا وكذا، فذهب إلى محكمة عدل، ووكَّل صديقاً له، وباع بيته الذي يسكنه الولد والزوجة، فلما جاء المشتري قال للولد: اخرج، ليس هذا بيتك، قال: كيف؟! قال: هذا بيت أبيك، وقد وكلني على بيعه، وقد بِيع البيتُ وشُري، ولا مكان لك في هذا البيت.
فانظروا يا عباد الله لو حدثكم أحدٌ بهذا لقلتم: من الأساطير والخرافات؛ لكنها وقعت في هذا الزمان؛ لكنها حصلت في هذا الدهر المعاصر.
فيا عباد الله! كيف بلغ العقوق بأبناء المسلمين لآبائهم وأمهاتهم؟! من ذا الذي يتهاون بشأن أمه وأبيه؟! الجنة تحت أقدام الأمهات، الآباء والأمهات بابان من أبواب الجنة، فمن شاء فليلزم، ومن شاء فليترك.
وفي الأثر: [إذا ماتت أم العبد نادى منادٍِ من السماء: ماتت التي كنا نكرمك لأجلها، فاعمل صالحاً تُكرم به].
فانظروا -يا عباد الله- شأن الناس في هذا الزمان مع العقوق والقطيعة، وليس هذا مقام التفصيل.(35/12)
المجاملات والمداهنات في العلاقات
أيها الأحبة في الله! إننا نفوت أجر كثير من الأعمال على أنفسنا بالمجاملات، وبالمقابلات، وبأمور تضيع، ليست دنيوية محضة، وليست أخروية محضة، تجد أحداً من الناس يُدعى إلى وليمة أو إلى مناسبة يقول: أزور فلان بن فلان؛ لكي أسلم من لسانه؛ لكي لا يقول فيَّ كذا وكذا، لا يقول: أزوره؛ لكي أحتسب على الله عملاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا دعاك فأجبه) لا يقول: أزوره صلة لرحمه، لا يقول: أزوره في الله، فيضيع عليه الشيطان ثواب الحسنة وثواب العمل، حيث يقول ويدور في خلده: أنه ذاهب؛ لكي يسلم من لسانه، وهذا شأن كثير من الناس، دققوا ولاحظوا كثيراً من الذين تعاملونهم.
إن المجاملات والمداهانات والمراءات قد عمت وطمت كثيراً من العلاقات البشرية في هذا الزمان، فلا تجد العبد قدم عملاً خالصاً يرجو به ما عند الله، واحتسبه لله؛ ولا تجده قدم تجارة نافعة، قدم بضاعة وتلقى نقداً، فضاعت أمور الناس لا هي في دنيا، ولا هي في دين، ورحم الله القائل:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقعُ
ولا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم دمر أعداء الدين.
اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين.
اللهم من أرادنا بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق، يا رب العالمين! اللهم مسكهم بكتابك، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، بمنك وكرمك، يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مُبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أيِّماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تكلنا إلى أعمالنا.
اللهم إنا نبرأ من التوكل إلا عليك، ومن الفقر إلا بين يديك، ومن الحاجة إلا لك، ومن العز إلا بك، ومن القوة إلى بقوتك، يا رب العالمين! اللهم إنا نبرأ إليك من أن نتكل على غيرك، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى مخلوق عز أو ذل، اللهم لا تكلنا إلى ذلك طرفة عين، ولا أقل منها يا رب العالمين! اللهم عاملنا بعفوك، اللهم عاملنا بمنك، اللهم عاملنا بكرمك؛ ربنا إن من نوقش الحساب عُذب، اللهم رحمتك التي سبقت غضبك، اللهم رحمتك التي وسعت كل شيء، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(35/13)
اختلاف الأماني بين الناس
لو نظرنا في سيرة الرعيل الأول من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لوجدنا فرقاً كبيراً، وبوناً شاسعاً بين همة السلف وهمة الخلف، فقد جاوزوا النجوم علواً في الهمة، وإننا إن لم نتبعهم فلن نكون معهم يوم القيامة، ولكي نكون على شاكلتهم فعلينا مراجعة ديننا والاستعانة بالنظر في سيرة السلف الصالحين وقد ذكر الشيخ صوراً مشرقة ومُثُلاً عالية رفيعة في علو الهمة(36/1)
الصحابة وعلو همتهم ورفعة أمنياتهم
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! لا شك أن لكل مخلوق في هذا الوجود أمنية يرجو نوالها، ويخطط لتحقيقها، ويعد ويرتب للحصول عليها، ومن المعلوم أن الآمال والأماني تختلف بين شخص وآخر، تختلف بين الناس بحسب علو هممهم، ورفعة مقاصدهم، فمن كانت همته عالية وجدت أمانيه غالية عزيزة رفيعة، ومن كانت همته هابطة وجدت أمانيه لا تبعد كثيراً عن هبوط همته، ورحم الله القائل:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
أيها الأحبة في الله! لو سألت كثيراً من الناس عامة، أو سألت بعض الشباب خاصة، عن همته وغايته في هذه الحياة، وما يؤمل فيها، لهالك الأمر مما ترى، من دنو الهمة، والقناعة بالنزر اليسير، والقدر القليل من حظوظ الكرامة والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن الناس من ترى همته انحصرت في أرض صغيرة، أو دويرة عامرة، أو زوجة حسناء، أو دريهمات في الحساب الجاري في البنك، أو سيارة فارهة، وليس طلب الإنسان أو سعيه لتحصيل شيء من هذه الأمور معيباً، ما لم يرتكب في سبيل ذلك إثماً أو حراما.
لكنما المعيب والعجيب أن ترى الهمة والأمنية محصورة عند هذا الحد من حطام الدنيا وحظوظها الفانية، لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يمنحون الفرص الكثيرة، ليسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء، وإذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أجيبت دعوته، وإذا وعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً بموعد تحقق وعده، وحينئذ كان بوسع أحد الصحابة أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم آلاف الجمال والأباعر والنوق، أو قطعان الغنم، أو المال العظيم من الذهب والفضة، ومع هذا كله ما سأل أحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطام إلا عدد قليل من الأعراب، وما جعلوه فرصة للإثراء.
إذاً حينما تتاح الفرصة للصحابة رضوان الله عليهم، ماذا كانوا يسألون؟ وماذا كانوا يتمنون؟ وماذا كانوا يطلبون؟ اسمعوا الجواب من خلال هذه القصة وغيرها.(36/2)
ربيعة بن كعب وسؤاله مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة
عن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: (كنت أبيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته، فقال: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) تفرد به مسلم.
فانظروا إلى سؤال ربيعة، وأمنيته وغايته، ما قال: أسألك نوقاً أو إبلاً أو جمالاً أو ذهباً أو فضة، وهي فرصة يجاب فيها أي سؤال، حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: سل، فقال: أسألك مرافقتك في الجنة.(36/3)
أعرابي يطلب راحلة وعجوز بني إسرائيل تطلب الجنة!!
وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء، فأراد أن يفعله، قال: نعم، وإذا أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشيء: لا، فأتاه أعرابي فسأله، فسكت، ثم سأله فسكت، ثم سأله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل -كهيئة المنتهر؟ - سل ما شئت يا إعرابي -كأنه يريد منه أن يسأل شيئاً عظيم الهمة والغاية- فقال الصحابة رضوان الله عليهم: لقد غبطناه، وقلنا: الآن يسأل الأعرابي رسول الله الجنة، فقال: أسألك راحلة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذلك.
ثم قال للأعرابي: سل، فقال الأعرابي: ورحلها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذاك.
ثم قال: سل، قال: أسألك زاداً؟ قال: وذاك لك، فعجبنا من ذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطوا الأعرابي ما سأل، قال: فأعطي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كم بين مسألة الأعرابي وعجوز بني إسرائيل).
وملخص هذا، أن العجوز سألت موسى عليه السلام أن تكون معه في الدرجة التي يكون فيها في الجنة، فقال موسى: سلي الجنة، فقالت العجوز: لا أرضى إلا أن أكون معك في الدرجة التي تكون فيها في الجنة، فأوحى الله إلى موسى أن أعطها ذلك، فإنه لا ينقصك شيئا.
رواه الترمذي في الأوسط عن علي.(36/4)
حارثة وأمنيته في الشهادة
ومن الأماني الغالية والهمم العالية، ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، إذ استقبله شاب من الأنصار، واسمه حارثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمناً، قال: انظر ما تقول فإن لكل قول حقيقة، قال حارثة: يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: أبصرت فالزم) -عبد نور الله الإيمان في قلبه- (فقال حارثة: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة؟ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودي يوماً في الخيل، فكان أول فارس ركب، وأول فارس استشهد، فبلغ ذلك أمه، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن يكن حارثة في الجنة لم أبك ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيت ما عشت في الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أم حارثة! إنها ليست بجنة، ولكنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى، فرجعت وهي تضحك وتقول: بخ بخ يا حارثة).(36/5)
خيثمة يسأل رسول الله بأن يدعو له بالشهادة
فأين أمانينا في هذا الزمان من أماني أولئك الرعيل الأول والركب الأول والصحب الأجل، عليهم من الله كل رضوان ورحمة، قال خيثمة الصحابي رضي الله عنه، وكان ابنه قد استشهد وهو يغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: (لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله حريصاً عليها، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، يقول: يا أبت! الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعد ربي حقا، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقة ولدي في الجنة، وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقتل بـ أحد شهيداً).(36/6)
عمرو بن الجموح يريد أن يطأ بعرجته الجنة
وهذا عمرو بن الجموح الأنصاري كان أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك، والله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيداً).
فيا شباب الإسلام! ويا عباد الله! انظروا إلى الهمم العالية، والمطالب الغالية التي تمنوها فأدركوها، تمنوها خالصة لوجه الله جل وعلا، فاجعلوا همتكم رضا الله، واجعلوا سعيكم في مرضاة الله جل وعلا، عند ذلك يحقق الله لكم الدنيا والآخرة (من أصبح والدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ووكله إلى نفسه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة، تكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته).
فارفعوا الهمم يا عباد الله! واصدقوا ربكم الوعد، وارفعوا الهمة والأمنية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(36/7)
السلف وهمتهم العالية
الحمد لله منشئ السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، لا إله إلا الله عليه توكلنا وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضو بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثة بدعة؛ وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! إن مما يكدر البال، ويسوء الخاطر، أن ترى فئاماً من شباب المسلمين قد دنت همتهم، وانحصرت مطالبهم في حظوظ قليلة، وأمتعة رخيصة زائلة، من حطام هذه الدنيا الفانية، بل وإن منهم من حصر همه في ذلك على سبيل محرمة، وجاوز بها كل سبيل مباح، ولا حول ولا قوة إلا بالله! إن من الشباب من عرفناه، وقال بعظم لسانه: أتمنى أن أفتح محلاً للفيديو؛ لأبيع ألواناً وأشكالاً وأصنافاً من الأفلام، عجباً لهذه الأمنية، أمنية رخيصة، وهمة دنيئة، ومع ذلك أسلوبها وسبيلها حرام من كتاب الله وسنة نبيه، فيه أذى وإفساد.(36/8)
أحد السلف يتمنى أن يطيع الخلق ربهم ولو مُزِّقَ لحمه إرباً
فيا عباد الله! تأملوا أحوالكم، وقلبوا أعمالكم، وانظروا هل هممكم عالية؟ وهل هي مرتبطة بالله؟ هل هي مرتبطة بالدعوة إلى الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول أحد السلف: وددت أن الخلق هذا أطاع الله ولو مزق لحمي إرباً، انظروا إلى هذه الهمة العالية، التي بلغت حد أمنية أن يهدي الله العباد، حتى وإن كان تحقيق هذه الأمنية على سبيل بدنه وتمزيق جسمه، شهادة في سبيل الله جل وعلا.
فارفعوا هممكم، وقلبوا أحوالكم، واجعلوا الهمة عند الله جل وعلا عالية، وإذا سألتم فاسألوا الله الذي بيده الخلائق، وبيده الأرزاق، فإن من الناس رغم دنو همته لا يجعل السبيل إليها إلا عن طريق البشر، فتراه ملحاً لحوحاً في سؤال عباد الله!، في سؤال الفقراء والضعفاء، وينسى أن يسأل ربه خالق الضعفاء والفقراء، ينسى أن يسأل ربه خالق الأغنياء والأثرياء.(36/9)
تابعي يرفض أن يطلب شيئاً من هشام بن عبد الملك
فيا عجباً لنا يا عباد الله! كيف تنحصر الهمم في مطالب رخيصة، ومع ذلك نسألها أناساً لا يملكونها، دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فوجد رجلاً من التابعين جالساً فيها، فقال: سلني حاجتك؟ فقال: أما إني أستحي أن أسأل غير الله وأنا في بيته، فلما خرج من الكعبة، قال: سلني حاجتك؟ قال: من الدنيا أم من الآخرة؟ قال: بل من الدنيا، فقال: إني ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها! انظروا يا عباد الله! عظم هذه الهمة التي جاوزت سؤال هذا الحد، وانظروا يا عباد الله! كيف يرتبط السلف في سؤالهم ودعائهم بالله جل وعلا، إن من الناس من لو بلغت به جائحة أو مصيبة تلفت إلى الضعفاء والفقراء، وإلى المساكين الذين لا يدفعون ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، يسألهم حاجته أو تفريج كربته، ولو قلت له: أسألك بالله، هل قمت ليلة في حالة نزول ربك جل وعلا في الثلث الأخير من الليل يوم ينزل الجبار جل وعلا يسأل العباد حاجاتهم، وهو أعلم بها منهم (هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأجيبه؟) هل سألت ربك حاجتك؟ يقول: لا والله ما حصل، إنما ذهبت إلى فلان واسطة إلى فلان، وذهبت إلى فلان شفاعة لفلان، وذهبت إلى علان شفاعة عند المسئول أو الجهة أو المكانة الفلانية، وقد نسي المسكين أن يسأل ربه الذي بيده نواصي الخلق أجمعين.
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيب
وإذا بليت ببذل وجهك سائلاً فابذله للمتفرد المفضال
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
عباد الله: اسألوا الله الجنة، اسألوا الله الفردوس، اسألوا الله الشهادة في سبيله، اسألوا الله أن يفرج عن المكروبين، اسألوا الله واجعلوا من هممكم أن يخرج السجناء تائبين من سجونهم، اسألوا الله أن يهدي شباب المسلمين، اجعلوا هممكم عامة وعالية، انظروا إلى الكون بآفاقه الشاسعة، ولا تنظروا نظرة الأنانية أو نظرة الذاتية والفردية، تلك النظرة التي لا يجاوز فيها صاحبها حد نفسه ومصالحه القاصرة.
ويا للأسف! ما أكثر الذين لا ينظرون إلا إلى أنفسهم، وإلى أرصدتهم، وحظوظهم ونصيبهم فقط، وقد يرى الناس من حوله يجوعون أو يتضورون ويتضوغون جوعاً، ومع ذلك لا يفرج كربة وهو قادر عليها، من كرب العباد التي يستطيع العباد تفريجها، لا يشفع بوجه وهو قادر على الشفاعة، لا يبذل جاهاً وهو قادر على بذله، لا يقدم معروفاً وهو قادر على تقديمه.
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان
مادام الإنسان قادراً ومستطيعاً، ومادام الإنسان مطيقاً، فليبادر وليقدم وليجعل الهمة عالية، وليرفع نفسه بهمة تنفعه عند الله، وتنفع الخلائق أجمعين، إن الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله.
فانفعوا عباد الله! واجعلوا همتكم لهم جميعاً، لا تجعلوا همتكم فردية لا تجعلوها أنانية، ولا تجعلوها ذاتية.
أسأل الله جل وعلا أن يهدي شباب المسلمين، وأن يفرج كربات المكروبين، وأن يمن على المذنبين بالتوبة.
يا شباب الإسلام! إن من أهم الأمور التي تستطيعونها، وتقدرون عليها، هي أمر الدعوة إلى الله جل وعلا، ومن كانت أمنيته أن يكون داعيةً إلى الله فليبذل أسباب وسائلها بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يهتدي الخلق على يديه، فيقفون يوم القيامة يشهدون ويشفعون له، وتوضع مثل أعمالهم في موازين أعماله، تلكم هي الهمم العالية.
اجعلوا همتكم تربية الأبناء وتربية الأجيال، ونفع المسلمين، اجعلوا همتكم حفظ الأمن والأمة والمجتمع والبلاد، اجعلوا همتكم كل خير شمل وعم أبناءكم وإخوانكم وعامة المسلمين، واسألوا الله جل وعلا، واجعلوا ذلك فوق الهمم جميعاً، أن يختم الله لكم بالشهادة والسعادة، وأن يثبتكم الله على دينه، وأن يأخذ بنواصيكم إلى مرضاته، وأن يحيل بينكم وبين أسباب سخطه، هذه هي الهمم.(36/10)
عروة بن الزبير وهمته في سؤال الله وطلبه
إن كثيراً من الناس يدخل المسجد، ثم يخرج منه ما سأل ربه همة عالية، يركع ويسجد ويكرر كلمات بعضهم لا يتأمل معناها، فقد ذكر أن رجلاً صلى وراءه عروة بن الزبير، فقال له: [يا ابن أخي! أما لك حاجة عند ربك؟ فالتفت ذلك الرجل إلى عروة، فقال: أما لك حاجة عند ربك؟ إني أسأل ربي كل شيء، حتى الملح لطعامي] فاسألوا الله الدقيق والجليل، واجعلوا الهمة العالية، والدعاء والحظ الأوفر والنصيب، والقدح المعلى من الدعاء، اجعلوه لسؤال الله الجنة، اسألوا الله جل وعلا النجاة من عذاب النار، والنجاة من فتان القبر، اسألوا الله الأمان يوم فزع الخلائق، اسألوا الله الطمأنينة يوم هول المحشر، اسألوا الله العبور على الصراط.
ينبغي أن يتذكر الإنسان هذه الأحوال، وأن يسألها ربه، وأن يجعلها من أعلى هممه، لا أن يجعل همته محل بيع أغاني، أو محل بيع أشرطة فيديو، أو سيارة من بلد كذا، أو فلة على شارعين، أو رصيداً قدره كذا وكذا، لا بأس لو سأل ربه مباحاً من المباحات، لكن ليست هذه هي الأمنية، وليست هذه هي الغاية، ولا تقف همة مسلم عند هذا الحد.(36/11)
الرسول صلى الله عليه وسلم وهمته في نشر دين الله
إن أمة ذللت الأكاسرة، وكسرت القياصرة، ما كانت همتها عند الدنيا، إن نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو طالب، فقال: يا ابن أخي! إن القوم قد أشغلهم أمرك، فإن كنت تريد جاهاً سودوك، وإن كنت تريد مالاً أعطوك، وإن كنت تريد جمالاً زوجوك أحسن نسائهم، وإن كان الذي بك رئي من الجن عالجوك، فلما انتهى، قال: (انتهيت يا عم؟! قال: نعم، فقال: أما والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، والله ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه، وتندق هذه السالفة).
تلكم هي الهمة العالية، أن ينشر دين الله، وأن يبلغ أمر الله وكلام الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فبلغوا دعوة الله يا شباب الإسلام! والله يعصمكم ويحفظكم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] ولا تهابوا قليلاً ولا كثيراً، ولا تخافوا صغيراً ولا كبيراً، إن الله جل وعلا يحفظ عباده المتقين.
اللهم اجعلنا من عبادك المحسنين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللهم اجعلنا على حوض نبينا واردين، ولكأسه من الشاربين، وعلى الصراط من العابرين، وآتنا صحفنا باليمين، وبيض وجوهنا يوم تسود وجوه الكفرة والمجرمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وافسح اللهم له في قبره مد بصره، ونور عليه ظلمة لحده، وافتح له اللهم باباً إلى الجنان يا رب العالمين! اللهم اهد شبابنا، وارفع هممهم إلى ما يرضيك يا رب العالمين! اللهم جنبهم الفساد، اللهم جنبهم الزيغ والعناد، اللهم افتح على البصيرة قلوبهم، اللهم اجعل نفعهم وحظهم لأمتهم، ولا تجعل فعلهم وجهدهم للشيطان وللأعداء، يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم قرب له بطانة الخير، وجنبه بطانة الشر يا رب العالمين! اللهم اجعل جليسه من خافك وأرضاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، ربنا لا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ولا تفرح علينا ولا عليهم عدواً، وخذ بنواصينا أجمعين إلى ما يرضيك يا رب العالمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم أغثنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً، سحاً نافعاً طبقاً مجلياً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين، ربنا اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل رحمة من رحماتك، وبركة من بركاتك، ترحم اللهم بها العباد، وتنفع بها البهائم والبلاد بمنك يا أرحم الراحمين، اللهم اسق المسبحات الركع، والبهائم الرتع، والأطفال الرضع، والشيوخ الركع، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إن عظمت ذنوبنا، فإن عفوك أعظم، وإن كبرت معاصينا، فإن فضلك أكبر، وإن تعددت ذنوبنا، فإن فضلك أعظم يا رب العالمين! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(36/12)
طرق الدعوة والدعاة
إن الدعوة إلى الله تعالى شرف عظيم، لكن بقدر شرفها هي تحتاج إلى من يحملها وهو كفء لذلك، على أنها واجب كل مسلم بقدر علمه وقدرته، وكل ميسر لما خلق الله، وهذه المادة تبين كثيراً من المسائل التي تهم المسلم وتتعلق بدعوته إلى ربه.(37/1)
أهمية الدعوة إلى الله وعظم أجرها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يرضى ربنا ويشاء، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيءٍ بعد، الحمد لله الذي خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا، نحمده سبحانه وحده لا شريك له على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والندِّ والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] ربنا واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في ذاته، واحدٌ في ألوهيته، واحدٌ في أسمائه وصفاته: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، كان بأمته رءوفاً رحيماً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، في يومٍ لا ينفع ولدٌ والده شيئاً، ولا يجزي والد عن ولده شيئاً: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! كلكم قد قرأ في كتاب الله جل وعلا قوله الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] ويقول جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ويقول جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
أيها الأحبة في الله! الأمر بالدعوة إلى دين الله، والنداء بالدعوة إلى صراط الله المستقيم، أمرٌ عامٌ لجميع المسلمين أجمعين، وكلكم يعلم ما فيه من الأجر والثواب العظيم، ولو لم يكن فيه إلا أن يموت الداعية ويبقى أجره بعد موته ماضياً لكفى، وإن الدعوة إلى الله لمن أجل الأعمال وأفضلها: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى فله أجره، وأجر من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص من أجورهم شيئاً) وأمام هذه الآيات القرآنية، والنصوص النبوية، يقف جملةٌ من الشباب، يتحرقون ويتعطشون، يريدون أن يدعوا إلى الله، يرغبون في الدعوة إلى الله جل وعلا، فيأتي الشيطان لكي يحصر عملاً إسلامياً، أو دعوةً خالصة، لكي يحصرها في سبيلٍ ضيق، فيقول: لست من أهل الشهادات! ولست من أهل المؤهلات! ولست من ذوي المراتب والمناصب والهيئات! ويظن بعض الشباب أن الدعوة إلى الله منحصرةٌ في المنابر والمحاضرات والندوات، وأنما سوى ذلك فليس بعملٍ للإسلام، أو أن الإسلام ليس في حاجةٍ له.(37/2)
مميزات الدين الإسلامي(37/3)
شموليته للحياة
اعلموا معاشر المؤمنين أجمعين، واعلموا يا معاشر الشباب خاصة، أن دينكم هذا عامٌ شامل، دينٌ عظيم يتناول أدنى أمور الخير ويبلغ أقصى درجاتها، يبدأ من إماطة الأذى والابتسامة في وجه الصديق، وينتهي إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله، بل لا ينتهي ويمضي إلى ما هو أعظم من ذلك في ابتغاء مرضات الله ورحمة الله، كثيرٌ من الناس ترى عليه سمات الخير، ومن سلوكه حرقةً وتعطشاً ورغبةً في الدعوة إلى دين الله جل وعلا، ولكن يقف مكتوف الأيدي يظن أنه ليس من الذين يقدرون أن يعملوا شيئاً، لا والله يا أخي المسلم! إنك لقادر على أن تعمل الكثير الكثير! ولكن الشيطان يوم أن يغرس في ذهنك، أن الدعوة محصورةٌ بالكلمات في المساجد، أو بالخطب، أو بالمحاضرات، وأن ما سوى ذلك ليس من الدعوة، فهذا من باب ضيق الأفق، وقلة الفهم لهذا الدين الواسع الشامل.(37/4)
أن الدين الإسلامي متعدد الجوانب والمجالات
أحبتنا في الله! اعلموا أن هذا الدين متعدد الجوانب والمجالات، في شتى مناحي الحياة، وعلى ذلك سيكون العلم لهذا الدين في شتى المجالات، وفي شتى نواحي الحياة، ومن الظلم أن يطلب من الناس كلهم أن يكونوا خطباء، أو أن يكونوا محاضرين، أو أن يكونوا علماء، أو أن يكونوا مجاهدين، لكن الله جل وعلا قد يسر العباد كلٌ لما خلق له، فمن فتح له باب الجهاد فليجاهد في سبيل الله، وليبتغي بذلك وجه الله، وجنةً عرضها السماوات والأرض، وليس من العدل أو العقل أن نقول لمن نراه مشتاقاً إلى الجهاد، أن نقول: إن عملك هذا ليس بدعوة، إنما الدعوة أن تحضر إلى حلقات العلم، فقد فتح له باب الجهاد فليمضِ إلى فوزٍ من الله ونصرٍ ورحمةٍ وشهادة، ومن الناس من فتح له مزاحمة العلماء بالركب في مجالس العلم، فمن الظلم أن نقول له: إن العمل الإسلامي هو الجهاد.
وهذا قد يسر لطلب العلم، وقد فتح له باب البحث والقراءة والرواية والدراية، فمن الظلم أن نقيمه من حلقة علمه، لنقول له: اذهب وجاهد في أفغانستان، أو في أي مكانٍ من الأماكن، قد فتح له باب العلم والبحث والاستنباط والتنظير، فهذا ينبغي أن يدعى له، وأن يؤيد في هذا المجال، فلنعلم ذلك جيداً -أيها الأحبة في الله- ومن الخطأ أن يثرب أو أن نسمع الملامة من بعضنا على بعض، يوم أن نرى مجاهداً فنقول: هذا لا يعمل عملاً كاملاً، إنما العمل في الحلقات، أو أن نرى طالب علمٍ في مسجده وحلقته وحلقة شيخه، فنقول: هذا لا يعمل شيئاً، إنما العمل في الجهاد تحت الرصاص والنار، والبعض قد ينال من حظ أو من مكانة أخيه فيقول: شتان شتان ما بيني وبينه، أنا مجاهدٌ هناك عند الدبابات والطائرات، وهذا تحت مكيفه عند الورقات والكتب ونحوها، هذا من وسوسة الشيطان، ومن باب العجب الذي هو محبطة العمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(37/5)
بيان أن الدين شامل وأن العمل فيه واسع ومتعدد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! إن تضييق مجالات العمل لدين الله جل وعلا لهو إما نتيجةٌ لوسوسةٍ شيطانية، ليصد الشيطان بعض العاملين إلى الله عن مزيدٍ من مجالات العمل لدين الله، أو هو قلة فهمٍ لأبعادٍ وشمولية وسعة نطاق هذا الدين، وكل ذلك مرفوضٌ مردود، فإذا علمتم ذلك -يا معاشر الشباب- فاعلموا أن العمل لهذا الدين بعد التوبة والاستقامة والالتزام، وبذل الحسنات والصالحات، اعلموا أن العمل لهذا الدين متعدد المجالات، فما الذي يمنع أن يكون من بين الشباب من يهتم بأحوال المعوقين في مستشفيات النقاهة، ومتابعة أحوالهم، وحوائج أسرهم، وتأمين احتياجاتهم، هذا والله بابٌ من أعظم أبواب الدعوة! وما الذي يمنع أن يكون من بين شباب الإسلام الصادقين الملتزمين من يهتم بأحوال السجناء والمعسرين، فيجمعون لهم التبرعات، ويفاوضون غرماءهم، لكي ينقص من الديون التي في ذممهم؛ حتى يعتقوا رقاباً من السجن؛ لتعود إلى زوجاتها وأطفالها وآبائها وأمهاتها، هذا أيضاً من باب الدعوة إلى الله! وما الذي يمنع طائفةً من الشباب أن يجتهدوا في العناية بالمساجد وجمع التبرعات لها، وإصلاح شئونها، ومرافقها ودورات المياه فيها، ومكبرات الصوت التي لها، هذا أيضاً من العمل لدين الله جل وعلا؟! إن العمل للإسلام بابٌ واسعٌ شامل، ما الذي يرد بعض الشباب أن يزوروا مستشفيات الأمل لكي ينظروا ويتعرفوا ويتلطفوا بأحوال إخوانهم الشباب، الذين وقعوا ضحية المخدرات والأفيون والمسكرات! ما الذي يمنع بعض الشباب أن يزوروهم وأن يجعلوا جزءاً عظيماً من أوقاتهم متخصصاً لهؤلاء الشباب في زياراتهم ودعوتهم والتعرف بهم؟ حتى إذا جاء يومٌ من الأيام وخرج ذلك المتعاطي للمخدرات، وقد تماثل للشفاء سليماً معافى من ضربة هذا الأفيون والمخدر، يجد صحبةً صالحة تتلقاه بعد خروجه من السجن؛ لأنه من المعلوم أن الذين يقعون ضحية المخدرات ويذهبون إلى السجون أو إلى مستشفيات الأمل، أول من يتجهمهم، وأول من يتبرأ منهم، وأول من يقاطعهم جلساء السوء الذين أكلوا وشربوا وقعدوا وباعوا واشتروا منهم، فلا بد أن يكون من الشباب من يزور أولئك في المستشفيات وفي السجون، ويتعرف عليهم، ويحبب إليهم التوبة، والإقبال على الله، فإذا خرجوا من السجن إذا لهم رصيدٌ من الأخوة الصالحة، والعلاقة الطيبة، والمتابعة والرعاية اللاحقة، التي تمنعهم من الوقوع مرةً أخرى في المخدرات والمسكرات.
ما الذي يمنع البعض أن يزوروا مدارس الجنح والأحداث؛ لكي ينظروا أحوال الشباب، خاصةً من الصغار فيهم الذين حصل لهم جنوحٌ مبكرٌ في سلوكهم أو تصرفاتهم، فيربط بهم علاقةً طيبة، فإذا خرجوا من السجن ربطوهم واتصلوا بهم، ربطوهم بكتاب الله وسنة رسول الله، وحلق الذكر في المساجد، والندوات والمحاضرات! أبواب العمل لهذا الدين كثيرة ما الذي يمنع بعض الشباب أن يجمع من كثيرٍ من الناس أشرطة الغناء، فيمسحها ويمحو ما فيها، ثم يردها إليه مليئةً بكلام الله، والخطب والندوات والمحاضرات؟! ما الذي يمنع بعض الشباب أن يزوروا أصحاب محلات الفيديو في محلاتهم، ومعهم الهدية، وعليهم الابتسامة، وملؤهم الرحمة والمحبة، فيدعونهم إلى الله، ويحذرونهم مغبة ما وقعوا فيه، هذا أيضاً من أبواب العمل لدين الله جل وعلا؟! ما الذي يمنع البعض أن يتطوع لكي يسافر إلى أطراف هذه المملكة، ولو مرتين أو ثلاث مرات، أو على الأقل مرةً واحدةً في السنة، لكي يزور بعض المناطق والقرى والهجر التي فيهم من لا يعرف الفاتحة، ولا يعرف شروط الصلاة، ولا يعرف شروط الطهارة وأركان العبادة؟! هذا أيضاً من أبواب الدعوة إلى الله.
إذاً أيها الأحبة! لا يأتي الشيطان إلى بعضنا حينما يرى من أحدنا حماساً وشوقاً ورغبةً للعمل في دين الله، لكي يقول: من أنت؟ وهل بلغت مرتبةً فلانية؟ وهل حملت شهادةً فلانية؟ لا والله إن العمل لدين الله لا يحتاج إلى شهادةٍ عالية، بل يحتاج شرطاً واحداً: (نضر الله امرأً سمع منا مقالةً فوعاها، فبلغها، فرب مبلغٍ أوعى من سامع) إذاً شرط الدعوة أن تكون عالماً واعياً بما تدعو إليه، ثم بعد ذلك انطلق في كل مجالات ومناحي الحياة.
ما الذي يمنع الكثير أن يتعاونوا مع إخوانهم في مدارسهم وفي جامعاتهم لكي يعينوهم على الإقبال على دين الله جل وعلا، ولكي يحذروهم من مغبة الأفكار الهدامة، والتيارات الوافدة المهاجمة؟! ما الذي يمنع البعض أن يفتح له باباً في فضح خطط الأعداء والمبشرين والمنصرين، والغزاة المفسدين بأفكارهم وأقلامهم، لكي يتابعوا ذلك؟! هذا أيضاً من أبواب العمل.
ما الذي يمنع بعض الشباب أن يتتبعوا الجرائد والمجلات فينظروا ما فيها من الأخطاء العقدية والمخالفات الشرعية! سيما هذه الجرائد والمجلات التي تفد إلينا من الخارج، فينبه على ما فيها من الخطأ، ويتصل بالمسئولين ويقول: ورد في العدد الفلاني الصادر من الدولة الفلانية، أو من الجهة الفلانية، خطأ وخطرٌ وخلل في العقيدة أو في الأخلاق والسلوك!(37/6)
فكل ميسر لما خلق له
اعملوا يا شباب الإسلام! فكل ميسر لما خلق له، إن الشيطان ليرد البعض ويقول: ما بلغت شهرة فلان، أو ما بلغت منزلة فلان، أو ما بلغت مكانة فلان، فيحقره ويثبطه، ويجعلك قاعداً ضعيفاً، وأنت تستطيع أن تفعل شيئاً كثيراً، والله لو لم يجد الإنسان سبيلاً، ولو لم يكن يحفظ إلا جزء عمَّ من القرآن فيقعد في المسجد ليعلم أطفال الحي هذا الجزء من القرآن، لكان هذا عملاً وخيراً عظيماً، فلا تحرموا أنفسكم سبل الدعوة، ولا تضيقوا على أنفسكم أبواب الخير، واخدموا لله في كل حالٍ بما يناسب وظيفةً ترضي الله جل وعلا، قال ابن القيم رحمه الله، في إعلام الموقعين: واختلف أناسٌ أي العبادة أفضل، فمنهم من ذهب إلى أنها الصلاة، ومنهم من ذهب إلى أنها الجهاد، ومنهم من ذهب إلى أنها كذا ثم قرر رحمه الله كلاماً جميلاً كالشمس في نقائه ووضوحه، قال: إن خير العمل أن تقوم لله في كل حالٍ بما يناسب مرضات الله جل وعلا، وقد يكون العمل الفاضل مفضولاً في بعض الأحيان، أليس قراءة القرآن هو أفضل الذكر على كل حال؟ ولكن إذا قدمت الجنازة فيكون القيام لها والصلاة عليها أفضل من قراءة القرآن في هذه الحالة، فكذلك العمل لدين الله جل وعلا، أن نعتني به في كل حالٍ بما يناسب وظيفةً مرضيةًَ لله جل وعلا، في ذلك الوقت، أو في كل وقت.
فاعلموا يا شباب الإسلام، واعلموا يا معاشر المسلمين أجمعين أن العمل ليس محصوراً أو مقصوراً على الشباب، ووالله لو فقه كل مسلمٍ دينه، وفقه كيف يعمل لدينه، لكان من أيسر الأمور أن ينتشر الصلاح في المجتمع، وأن تنعدم الجريمة، وأن يظهر الخير، وأن تفتح بركات السماء والأرض من الله جل وعلا، لكن المصيبة أن يكتفي بعضنا بمعرفة بعضٍ أو بالإشارة إلى بعض، والبقية يبقون لا يعملون، فالعمل واجبٌ على الصغير والكبير، وكل من علم في دين الله شيئاً.
جاءت امرأةٌ إلى سعد بن أبي وقاص تريد أن تشارك في الجهاد، وليس على النساء جهاد، فقطعت ضفيرة شعرها، وقالت: يا أمير الجيش! لا أستطيع أن أشهد معكم هذا الغزو في سبيل الله، فخذ هذه ضفيرة شعري، اجعلها عناناً لفرسك في سبيل الله!! الله أكبر يا عباد الله! ينبغي أن نفهم الدين والعمل والجهاد فهماً نستطيع من خلاله أن نقبله من الحداد ومن النجار ومن الضابط ومن المهندس ومن المعلم والقاضي والعالم وطالب العلم، ينبغي أن نفهم هذا الدين فهماً يجعلنا نقبل كل عملٍ متيسرٍ من كل شخصٍ أياً كانت مرتبته، أو أياً كان وظيفته، فنيةً في الصناعة والعمل، أو مهنيةً أو علميةً أو ميدانيةً أو نحو ذلك، إذا فهمنا ديننا هذا الفهم الواسع الشامل استطعنا أن نعمل لدين الله، فما عليك يا أخي المسلم إلا أن تستعين بالله، ثم بإخوانك، وتقرر عملاً يرضي الله جل وعلا، سواءً كان مع السجناء أو مع الذين في مستشفيات الأمل، أو مع الفقراء، أو كفالة الأيتام، أو رعاية الأيامى والمقطوعين ممن لا قريب لهم ينفعهم أو يقوم بحوائجهم، المهم أن تقرر عملاً في مرضات الله جل وعلا، ولا تظنن أن العمل لدين الله، إنما هو في حالةٍ واحدة.
لقد سرني ما عرفته من شبابٍ، علمتُ أنهم اجتمعوا جزاهم الله خير الجزاء، وسدد خطاهم، فاهتموا واعتنوا بمرضى مستشفى النقاهة الذي في طريق الخرج، يجمعون التبرعات لهم، ويأخذون عناوين بيوتهم، ويذهبون إلى أسرهم، ويحضرون لهم الأرز، والسمن والدقيق في نهاية كل شهرٍ وما يحتاجونه من الطعام، فإذا أقبل الشتاء بذلوا لهم مئونة الشتاء، وما يحتاجون من لحافٍ وكساء، فإذا أخذوا فترةً قدموا لهم مالاً حتى لا ينفتح على أسر أولئك المعوقين أو أسر أولئك المرضى الذين أخذوا سنين طويلة في المستشفى بابٌ من الفساد، لأن بعضاً من ضعفاء الإيمان من المجرمين الشرسين، يتسلطون على أسر المرضى، فيساومونهم في أعراضهم، وفي بناتهم، وفي بيوتهم، أتريدون مالاً افتحوا لنا الباب، احضروا من يقعد معنا، اجلسوا وافعلوا هكذا، فإذا قام أولئك الشباب برعاية أولئك المرضى، الذين يمكثون سنين طويلة في المستشفى ولا دخل ولا عائل لهم، فإنهم يدفعون ويسدون باباً من الفساد عظيماً.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم بأن نعمل لدين الله في شتى المجالات التي ترضي الله، ونسأل الله أن يرزقنا فهماً شاملاً واسعاً عريضاً لهذا الدين والعمل لجميع جوانبه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بناء سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم أقبل الشتاء بجليده وثلجه وبرده القارس، اللهم إنهم جياعٌ إن لم تطعمهم، اللهم إنهم عطشى إن لم تسقهم، اللهم إنهم عراةٌ إن لم تكسهم، اللهم أنزل عليهم سكينةً وثبتهم بمنك ورحمتك، وسدد رصاصهم في نحور أعدائهم، اللهم انصرهم على عدوك، اللهم عجل نصرهم، اللهم قد ملّ كثيرٌ من الناس من المجاهدين وسئموا التبرع لهم وضاقوا ذرعاً بما يطلب منهم، اللهم فإن انقطعت أسباب الأرض فافتح اللهم عليهم أبواب السماء، اللهم إن ضاق الخلق بهم ذرعاً اللهم يا خالق الخلق أجمعين فافتح لهم أبواب مددك وعونك، ومنك وتأييدك، يا رب العالمين!(37/7)
طوبى للغرباء
لقد بدأ الإسلام غريباً، وكان أتباعه يعدون بالأصابع لقلتهم، فهم غرباء في مجتمع الشرك بالله والجاهلية، ولم يكن لهؤلاء الغرباء من ينصرهم أو يعينهم إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك حال الغرباء الذين في آخر الزمان، وفي هذه المادة تسلية للغرباء، وتوجيهات نافعة تزودهم حال غربتهم.(38/1)
الغرباء الحقيقيون
الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراٌ بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً، نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، ونشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له جل في علاه، تبارك اسمه وتقدست أسماؤه، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) في روايات أنهم: (الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون إذا فسد الناس) معاشر المؤمنين! معاشر الأحبة في الله! لو تأملتم هذا الحديث لوجدتم مصداقه من الواقع دليلاً من دلائل معجزات نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالغرباء في هذا الزمان هم المؤمنون حقاً، وغربة المؤمنين من بين سائر الناس واضحة جلية فالمسلمون غرباء من بين سائر أمم العالم وشعوبه، المسلمون الذي هم على دينٍ صحيح وعلى ملة نقية، وعلى عقيدة واضحة، وعلى محجة صالحة، وهم غرباء من بين سائر الأمم والشعوب في هذا الزمان، ولا يغركم كثرة الإحصائيات؛ لقول الله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] تعداد الملايين من المسلمين ولو نقبت ودققت وكشفت أحوال الكثير منهم لوجدت عجباً عجاباً، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تعبد الله بغير ما شرع، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن القبور والأضرحة تنفع وتضر من دون الله، ستجد طوائف تدعي الإسلام وهي تظن أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال منازل لا يدركها الملائكة ولا المرسلون، أين حقيقة الدين من تلك الأمم؟ أين حقيقة الإسلام في تلك الشعوب؟ إذاً: فالإسلام النقي الصافي غريبٌ بين شعوب الأرض، وهذا أمرٌ واضح، وإذا تأملت تعداد المسلمين وجدت الذين يحافظون على الأركان والفرائض غرباء من بين سائر المسلمين، فما أكثر أن تلقى أناساً ينتسبون إلى الإسلام بجوازاتهم أو بحفائظ نفوسهم أو بهوياتهم ولكن انتسابهم إلى الإسلام انتساب الصورة لا الحقيقة، انتساب الشكل لا المضمون، انتساب القالب دون القلب.
فيا عباد الله! كم رأينا من المسلمين يدعون الإسلام وهم يتعاطون الربا، وكم رأينا من المسلمين الذين يدعون الإسلام وهم يفعلون الزنا، كم رأينا من المسلمين ينسبون إلى الإسلام وهم يشربون الخمور، كم رأينا من بعض شباب المسلمين ينتسبون إلى الإسلام والصلوات لا يعرفونها إلا قليلاً، كم رأينا من المسلمين من ينتسب إلى الإسلام وهو لا يراعي الحلال والحرام في بيعه وشرائه، في إنفاقه واكتسابه.
إذاً يا عباد الله: المسلمون المطبقون لأحكام دينهم ولأركان ملتهم هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه البسيطة، وإذا تأملت هؤلاء الغرباء وجدت فئة هم أخص منهم بالغربة، أولئك الذين يعملون بهذه الأركان وهذه الفرائض على وحي من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى نهج وهدى من شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمتمسكون بالسنة العاملون لها المقدرون لجلالها هم غرباء من بين سائر المسلمين على وجه هذه البسيطة، وإذا تأملت أولئك وجدت الذين يدعون إلى الله بما عملوا وعلموا غرباء من بين سائر المسلمين.
وإذا تأملت أولئك وجدت طلبة العلم والعلماء غرباء من بين سائر المسلمين، ثم إذا دققت وفحصت وجدت الدعاة إلى الله بما يعلمون هم غرباء من بين سائر أولئك العلماء، وإذا تأملت أكثر وجدت الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في الله لومة لائم غرباء من بين سائر الدعاة، وإذا تأملت أحوال الأمم والدول وجدت الأمم التي تحكم شريعة الله أو وجدت الأمة التي تحتكم إلى كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم، تنتقد إذا قطعت رقبة القاتل، وينالها من الكلام إذا قطعت يد السارق، وينالها من التعليق والتشويه إذا قتلت المفسدين المخربين، إذاً فالأمة التي تحكم كتاب الله غريبة من بين سائر الأمم في هذا الزمان، وصدق الحسن البصري رحمه الله حين قال: [الناس هلكى إلا العالمون فهم غرباء بينهم، والعالمون هلكى إلا العاملون فهم غرباء بينهم، والعاملون هلكى إلا المخلصون فهم غرباء من بين سائر الذين يعلمون، والمخلصون على خطرٍ عظيم].
نسأل الله لنا ولكم الثبات على دينه وتوحيده إلى أن نلقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(38/2)
أجر المتمسك بالسنة في آخر الزمان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! إن كانت غربة المؤمنين العالمين العاملين المخلصين الصادقين في هذا الزمان واضحة، إلا أن بقاءهم حقيقة نبوية ومعجزة من الله لنبيه، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فأبشروا يا عباد الله! أبشروا يا إخوة الإسلام! أبشري يا أمة محمد! مهما ادلهم ظلام الباطل، ومهما تلاطمت أمواج الضلالة، ومهما اكلولح الظلام في هذه الدنيا المتخبطة بالفتن والشهوات، إلا أن وردة عطرة وريحانة فواحة تظهر في هذه الأرض، تلكم طائفة من الدعاة، طائفة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يلقون الله جل وعلا.
أيها الأحبة في الله: إن الدعاة إلى الله بعد علمٍ وعمل وصدق وحق في هذا الزمان غرباء، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل الإنسانية (أل) في كلمة الإنسان هي (أل) الاستغراق، وقد استغرقت جنس الإنسانية: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] كل الإنسانية في خسارة وفي تباب وفي هلاك {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أولئك والله هم الغرباء في هذا الزمان، وحسبكم بغربة الدعاة إلى الله وغربة المتمسكين بشريعة الله المطبقين لسنة رسول الله، أن ترى ألواناً من التعليق أو الشماتة أو الاستهتار أو الاستهزاء تنال بعضهم في بعض الأماكن والمجالس.
نعم يا عباد الله! (القابض على دينه كالقابض على الجمر) وإن كان قل في هذا الزمان المستهزئون في المجالس إلا أن المؤمن لا يزال يقبض على الجمر؛ مما يراه من فتنٍ في الأسواق والطرقات وكثيرٍ من الأماكن، ولكن الله يثبته بالاستغفار والذكر والدعاء وغض البصر، والبعد عن الباطل ومجافاة أهله.
يقول ابن القيم رحمه الله في نونيته الشافية الكافية:
فروى أبو داود في سننٍ له ورواه أيضاً أحمد الشيباني
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ للعاملين بسنة العدنان
(المتمسكون بالسنة عند فساد الأمة لهم أجر خمسين، قال الصحابة: يا رسول الله منا أم منهم؟ قال: بل منكم، ما ذاك إلا لأنكم تجدون على الحق أعواناً وهم لا يجدون على الحق أعواناً).
فروى أبو داود في سننٍ له ورواه أيضاً أحمد الشيباني
أثراً تضمن أجر خمسين امرئ للعاملين بسنة العدنان
ما ذاك إلا أن تابعهم هم الـ غرباء ليست غربة الأوطان
فسل الكليم المستهان عن الذي يلقاه من جمرٍ بلا نيران
القابض على دينه -يا عباد الله- كالقابض على الجمر، المتمسك بالسنة، المتمسك بالشريعة، يجد نفسه في غربة بين كثيرٍ من الأمم، وقد يجد الإنسان نفسه في غربة حتى بين أهله وذويه، فيستغربون السنة في ثوبه، ويستغربون السنة في وجهه، ويستغربون السنة في صلاته، ويستغربون السنة بحركاته وتصرفاته.
فيا عباد الله! عودة إلى السنة وتمسكٌ بالشريعة، فذلكم والله هو سبيل العزة، وهو سبيل المنعة، وهو سبيل الرفعة، وهو سبيل السيادة، وهو سبيل الرضا والطمأنينة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم من أراد ولاة أمرنا بفتنة، وأراد علماءنا بمكيدة، وأراد شبابنا بضلالة، وأراد نساءنا وبناتنا بتبرجٍ وسفورٍ واختلاط، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رأس الخلائق، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، اللهم اخزهم على رءوس الأشهاد، حسبنا الله ونعم الوكيل! حسبنا الله ونعم الوكيل! حسبنا الله ونعم الوكيل! اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم وسع لحده، اللهم افسح في قبره، اللهم افتح له أبواباً إلى الجنان، اللهم افتح له سبيلاً من روحها وريحانها ونعيمها يا رب العالمين، يا من لا يعجزه شيء، آمنا بك وبقدرتك التي لا يردها شيء وأنت على كل شيء قدير.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر وارفع وأكرم وأعز من ساعدهم وعاونهم وبذل ما عنده لهم برحمتك يا رب العالمين، اللهم أعز من أعزهم، اللهم ارفع من رفعهم، اللهم أكرم من بذل ما يستطيعه معهم، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم وحد صفوفهم، واجمع شملهم، وثبت أقدامهم وانصرهم على أعدائهم، اللهم وفقهم للصالحات وجنبهم السيئات برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(38/3)
حق الله على العباد
دين الله ماض إلى قيام الساعة، وذلك مربوط بالجهاد في سبيل الله، وبغيره لن يكون للأمة الإسلامية عزة وسلطان وكرامة.
في هذا الدرس يتحدث الشيخ عن أهمية الجهاد في حياة الأمة ويتطرق إلى أحوال المجاهدين في أفغانستان بالإضافة إلى الوضع في فلسطين الحبيبة.(39/1)
دين الله ماض إلى قيام الساعة
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
معاشر المؤمنين! في هذه الأيام وكل مسلم غيور، وكل مسلم يهمه أمر إخوانه المجاهدين، يترقب ويتصنت بلهف وشوق إلى أخبار النصر والفوز والسؤدد بالنسبة لإخوانه المجاهدين في أفغانستان، وقبل أن نخوض فيما يبشركم أود أن نبين أمراً لابد لكل مسلم أن يعيه تمام الوعي، وأن يعرفه حق المعرفة، ذلكم أيها الإخوة أن دين الله وحده ماض لا يرده ظلم ظالم، أو طغيان طاغوت، أو جبروت متجبر، أو فسق فاسق أو تدبير مدبر.
إن دين الله ماضٍ إلى يوم القيامة، وإن شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة، وليس الجهاد بحاجة لنا، بل نحن بحاجة إلى الجهاد، كلنا بحاجة إلى العزة والرفعة والسؤدد والسيادة، وذلكم يا عباد الله لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله، وبغير الجهاد فلن يكون لأمة المسلمين عز ولا سلطان ولا كرامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وتبعتم أذناب البقر -أي: اشتغلتم بالزراعة وغفلتم عن الجهاد- وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم إلى يوم القيامة).
يقول الله جل وعلا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] قال بعض الصحابة من الأنصار: إنا ذوي حرث وزرع وقد أعز الله رسوله ودينه، فلو اشتغلنا بشيء في زروعنا وحرثنا فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] أي: لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترككم الجهاد، وترككم الإنفاق في سبيل الله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].(39/2)
سنة الاستبدال عند التولي والتقاعس
معاشر المؤمنين: لا تظنوا أننا لو تخلينا عن الجهاد، أو تركناه أو وقفنا منه موقف الضعيف أو المنهزم، أو موقف المثبط أن هذا الجهاد سيفتر، سواءً في أفغانستان أو في غيرها؛ لأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً * وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [الإسراء:76 - 77] فسنة الله ماضية باقية، أن تكون الأمة المنصورة موجودة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] إن الله غني عنا، وإن شريعة الله في غنىً عنا، وإن الجهاد في غنىً عنا، وإنا لفي حاجة ماسة إلى الجهاد في سبيل الله وإلى شريعة الله.
فمن تولى أو تولت أمة من الأمم: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وهي شهادة لهم بالولاية والمحبة: {وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] باتباعهم أمره واجتنابهم نهيه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] جناحهم مخفوض لإخوانهم المؤمنين، ولا يشعرون بالمنة في العطاء أو بالعزة وشعور مزيد من الدرجة والمكانة على إخوانهم المؤمنين، بل أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ويقول الله جل وعلا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
معاشر المؤمنين! عياذاً بالله أن نتولى أو نتقاعس أو أن نثبط، أو أن نقف موقف المهزومين الجبناء الضعفاء أمام إخواننا المجاهدين، فإن الله جل وعلا قد توعد الذين يتولون عن دينه، أن يستبدلهم بغيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، بل يكونون على شجاعة وجرأة وقوة وفداء وتضحية، وأولئكم والله بهم ترتفع الأمم وتعود الكرامة وترفرف رايات الأمن والاطمئنان في ربوع البلدان بمن الله وفضله وكرمه.(39/3)
قيام الطائفة المنصورة بواجبها
معاشر الإخوة! يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة) والطائفة المنصورة كما قرر العلماء، ليست في نجد وحدها، أو في أفغانستان وحدها، أو في الشرق أو في الغرب، بل قد تكون هذه الطائفة مجتمعة في كل مكان، وما يدريكم أن هذه البلاد بأسرها بأولها وآخرها إن شاء الله من جنود ومن أفراد هذه الطائفة المنصورة التي يأمل من فيها أن تكون داعية قائدة إلى رفعة المسلمين وسؤددهم وليس ذلك على الله بعزيز، وما ذاك على بلادكم وأمتكم بغريب، أليست مهبط الوحي؟ أليس فيها مسجد رسول الله؟ أليس فيها كعبة الله؟ ألم تظهر منها دعوة تجديد العقيدة دعوة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب نسأل الله أن يشرفنا بهذه الكرامة، وأن يجعل أمتنا ممن ينالون هذه الشرف والسؤدد.(39/4)
مواقف المملكة مع الجهاد الأفغاني
معاشر المؤمنين! كلمة حق نقولها، ويقولها كل منصف: إن هذه المملكة لها مواقف طيبة مع الجهاد الأفغاني، مواقفها طيبة حكاماً وشعوباً وأفراداً، مواقفها مشرفة بحمد الله سبحانه وتعالى، فالدعم مستمر منذ إحدى عشرة سنة، منذ أن قام الجهاد، التبرعات جارية ونهرها جارٍ متدفق إلى أفغانستان سواءً تبرعات عينية أو نقدية، والجهات الحكومية الكبيرة وفق الله القائمين عليها، قد سخروا عدداً من الطائرات والإمكانيات والأطباء وغير ذلك لخدمة المجاهدين وإيصال التبرعات.
وها أنتم معاشر المؤمنين شكر الله لكم جهودكم وبذلكم وتضرعكم وقنوتكم في هذه الصلوات هذه الأيام، في هذه المحنة الشديدة تقفون مع إخوانكم موقف الداعين لهم، الداعين على أعدائهم، الراجين ربكم أن يكسر كيد أعدائهم وأن يرد كيد الأعداء في نحورهم.(39/5)
أخبار المجاهدين في أفغانستان
معاشر الإخوة! أما عن أخبار إخوانكم المجاهدين؛ فإنهم الآن على أتم حالات الأهبة والاستعداد والتعبئة العامة لدخول معركة حاسمة على جميع الأصعدة والثكنات والمناطق، إنها المعركة الحاسمة وستكون قريباً بإذن الله سبحانه وتعالى، يعدون ويستعدون لها على جميع الأصعدة والمناطق والأماكن، فأكثروا من الدعاء لهم، خاصة في الصلوات، وأمنوا أثناء القنوت في صلاة الفجر وغيرها، أمنوا وأنتم تتذكرون حالهم في شدة البرد وقلة العدد والعتاد، وضعف أحوالهم إلا ما أعانهم الله به من قوة النفس والعزيمة وثبتهم به بكلمته وحده لا شريك له، وحسبكم بهذا عوناً ونصراً.
أيها الإخوة! التقيت بالأمس بأحد الذين جاءوا من أفغانستان، ومن الذين جاءوا من المنطقة الواقعة على خط النار سألته عن أحوال المجاهدين فقال: والله يا أخي لقد رأيت شباباً أحقر نفسي عندهم، ورأيت همماً ونفوساً تهد الجبال الراسيات، ورأيت رجالاً يتمنون الموت ويبكون على الشهادة ويسألون الله ألا يعودوا إلى أرضهم، بل يريدون أن يموتوا في ساحات الجهاد في حال جهادهم مع الشيوعيين والكفار.
قلت: ثم ماذا وحدثني عما رأيت؟ قال: دخلت معسكراً فيه ما يقارب أربعة آلاف من المجاهدين، وإذا بشيخ قد وقف فيهم خطيباً يتلو عليهم قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] فأخذوا يبكون وضج ذلك المعسكر بالبكاء، كل يسأل ربه الجنة، ثم ثنى عليهم بقول الله جل وعلا: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة:39] فزاد بكاؤهم ونشيجهم وأخذ يتلو عليهم من سياط القلوب وأعظم المواعظ ما يحرك الهمم والقلوب الميتة.
ثم بعد ذلك يقول: خرجنا من هذا المعسكر فإذا بقافلة خيالة، منهم سبعون فارساً على الخيل عليهم عمائم بيضاء وثياب بيضاء، فقلت لمن معي: من هؤلاء؟ قال: هذه كتيبة الأكفان، لا يخرجون إلى المعركة إلا وقد لبسوا الكفن وتغسلوا وتحنطوا واستعدوا للقاء الله جل وعلا، خرجوا يريدون الموت لا يريدون غير ذلك.
قلت: ثم ماذا؟ قال: وفيهم رجل يقول: من يبايعني على الموت لا يبايعني على العود أو الغنيمة؟ فيصيحون ويبكون يقولون: بايعناك وعيونهم تذرف دمعاً شوقاً إلى جنات الله ورضوانه، كلهم يشتاق أن تُغفر ذنوبه عند أول قطرة تراق من دمه، وكلهم يشتاق أن يُشفع في أمه وأبيه وسبعين من أهل بيته، كلهم يشتاق أن يرى منزله من الجنة حين قتله، كلهم يشتاق أن يرى الحور العين تتهافت وتتوافد عليه؛ لتطير بروحه إلى أعلى عليين.
قلت: ثم ماذا؟ وحدثني ولن أمل حديثك؟ قال: وفي هذا المعسكر شيخ قد جيء به على عربية مقعد معوق قد بترت واحدة من رجليه في إحدى المعارك، وحينما تكلم وحثهم على الجهاد والنفرة، كان أول من رفع يده ذلك الشيخ، فقال: أما أنت فقد أعذرت أمام الله، قد أعذرك الله جل وعلا يقول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [الفتح:17] فصاح ذلك الشيخ: أتحتقرني؟ فقال: لا والله لا أحتقرك، ولكنك معذور أمام الله.
فقال: والله لأدخلن برجلي هذه الباقية في أرض المعركة.
قال: إنك لن تستطيع أن تُقدم شيئاً.
قال: اجعلني خبازاً لهم إذا عادوا يأكلون من صنع يدي! انظروا إلى هذه المعنويات العالية، والنفوس الشجاعة والأرواح الباسلة، والله لو دخل فلسطين يوماً واحداً أو عشرة أيام كتائب من هذه الكتائب؛ لطردوا اليهود الجبناء الذين قال الله في شأنهم: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] فنسأل الله جل وعلا أن يثبتهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يوحد صفهم، وأن يسدد رصاصهم، وأن يعينهم بعونه إنه أرحم الراحمين.
أيها الإخوة! ومن الأحداث العجيبة القريبة أن نجيب الشيطان حاكم كابول، عميل الروس طلب من جلال الدين حقاني أحد زعماء المجاهدين أن يقابله وذلك بمكاتبات ورسائل بينهم، فأرسل نجيب الشيطان رسالة يقول فيها: إننا نريد الهدنة معكم معاشر المقاتلين، ومقابل ذلك سنخرج جميع سجناء منطقة بكتيا، وسوف أصدر أمراً بالعفو عنك يا جلال الدين، وسوف أسلمك مائة رهينة من الروس أو من الأفغان مقابل ضمان صدق هذه المفاوضات.
فأرسل له جلال الدين رسالة قال فيها: إن الشهادة في سبيل الله أحب إليّ من هذا العفو الذليل الذي تعفو به عني حكم الإعدام، ثم اعلم أن الموت والحياة بيد الله، وليست بيدك يا نجيب الشيطان، واعلم أنني إن قبلت أن أفاوضك؛ فلن أرضى إلا بإطلاق جميع السجناء في بكتيا وفي جميع محاور القتال وجبهات الجهاد.
أما الجلوس والتفاوض معك فلا بأس بذلك بشرط -وليس ذلك بتفاوض الضعفاء أو تفاوض المهزومين، لا- أن نختار مائة رهينة نحن معاشر المجاهدين وبعد خروج الروس وطردهم من البلاد، وألا يمثل هذه المفاوضات واحد منهم، ثم بعد ذلك ننظر ما تطلبون منا.
انظروا عزة المسلمين في المواقف، انظروا عزة المجاهدين؛ لأنه لا حلول دبلوماسية، لا مفاوضات دبلوماسية؛ هما أمران: إما أن تُخرجوا الروس الأجانب من البلاد، وتذعنوا لراية التوحيد وحكم الإسلام، وإما أن نقاتلكم حتى آخر طفل رضيع منا، وآخر كهل مقعد فينا، وآخر أرملة جريحة من نسائنا.
تلكم أيها الإخوة مشاعر المجاهدين أبشركم بها، وأخبركم أن إخوانكم بحمد الله جل وعلا من يوم أن رأوا تبرعاتكم متدفقة إليهم وجهودكم بالدعاء لهم، فياضة المشاعر في كل حين ولحظة، إن ذلك مما زاد ثباتهم بعون الله سبحانه وتعالى وتوفيقه.(39/6)
واقع الجهاد في فلسطين
وأنظر أيها الإخوة! نظرة أقارن بها واقع إخواننا في فلسطين، إن طائفة من اليهود وشراذمة المجرمين الخونة الذين ساموا إخواننا الفلسطينين في أرض فلسطين ألواناً من الطرد والإبعاد والإيذاء والقتل: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].
نحن نسأل ونقول: منذ متى دخل اليهود في أرض فلسطين؟ حتى الآن ستون عاماً واليهود بعد وعد بلفور -عليه لعنة الله- وهم في أرض فلسطين لم نظفر بمعركة واحدة نخرجهم منها، أتُرى ما هو السبب؟ هل في ذلك لغز؟ هل في ذلك معجزة؟ كلا والله، أقولها صريحة وفي كل مكان: إن راية التوحيد لم تدخل المعركة حتى الآن، أيلول الأزرق، أيلول الأسود، حزيران، غُصن الزيتون، الأرض السليبة، الشعارات العقيمة لا ترد شيئاً أبداً من أرض دخلها اليهود وقتلوا رجالها وأبناءها واستباحوا نساءها، إن الشعارات لا ترد حقاً أبداً، لا يرد الحق إلا حق يقوم به وجهاد.
إن اليهود دخلوا فلسطين بالدماء، فلابد أن تراق دماؤهم في فلسطين حتى يخرج الجبناء وأذنابهم منها، وبغير ذلك لن يخرجوا، وبغير هذا الحل لا تنفع معهم المفاوضات، صوتت أمريكا منذ يومين ضد القرار الذي اتخذه اليهود، ما تظنون في هذا القرار؟ تصويت ضد طرد ستة أو سبعة من الفلسطينيين، هل صوتت يوم أن دخلوا في فلسطين؟ هل صوتت يوم أن استباحوا الجولان؟ هل صوتت يوم مذبحة دير ياسين؟ يوم أن قاد " مناحن بيجن " ذلك الفاجر مذبحة جمع فيها جميع الفتيات وكل واحدة منهن حبلى جنينها في بطنها، ثم أخذ المدية وأخذ يشق بطن الفتاة حتى يسقط جنينها وهي ترى، ثم تموت متشحطة بدمها، والله لن يرد فلسطين إلا جهاد وتوحيد وراية حقة، وما سوى ذلك فإننا نكون عاجزين، ونعترف بكل هذه الصراحة أن نرد فلسطين من أيدي اليهود.
إذا كنا نقاتل بالعُدد والعَدد والعتاد؛ فإن الله يكلنا إلى هذه القوى المادية، أعداؤنا يملكون ونحن نملك، عندهم دبابات والذين يقاتلون عندهم دبابات، عندهم أسلحة وأولئك عندهم أسلحة، تساوت الأمور لكن حينما نقاتل في سبيل الله ونحمل راية التوحيد والله لو دخلنا كلنا عزلاً من كل سلاح؛ فإن الله يضربهم بالرعب لقوله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(39/7)
التربية على الجهاد وبذل المال في سبيل الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وتفكروا في عواقب الذين نبذوا كتاب الله وراءهم ظهرياً، تفكروا في عواقبهم وكيف تجرأ الأعداء عليهم وكيف دخلوا ديارهم وبلادهم، وكيف غيروا أمنهم خوفاً، وعزهم ذلاً، وغناهم فقراً، تمسكوا بشريعة الإسلام فهي سبب أمنكم وعزكم واطمئنانكم، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى.
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أيها الإخوة! لستم بحاجة إلى مزيد الحث والحض على أن تتبرعوا، وأن تشاركوا إخوانكم بالدعاء لهم، والتبرعات لهم، لا يكفي من واحد منكم أن يُخرج ريالاً أو عشرة، ولا نستقل قليلاً، إن الريال مع الريال قد يجلبان رصاصة في نحر كافر يموت، فلا تحقروا شيئاً من الأموال، لكني أقول: ليس يكفي من كل واحد أن يخرج شيئاً قليلاً ثم يرمي به، بل لابد أن تسأل الله أن يتقبله منك، وأن ينفع به، وأن تكون أنت بنفسك داعية نشيطاً لجمع التبرعات لإخوانك المجاهدين.
إن هذه الحرب لا يخوضها المجاهدون وحدهم، إننا نخوضها معهم بتضرعنا إلى الله، بسؤالنا ربنا، بدعمنا، وليس ذلك بحولنا أو طولنا أو قوتنا، بل بفضل الله ومنه وكرمه الذي وفقنا وهدانا وأعاننا على أنفسنا، وشرفنا أن نقوم ولو بعملٍ يسير لصالح المجاهدين، وهذه العبارة ليست للخطباء أو المهتمين وحدهم، بل هي لكل مسلم فيكم.
عودوا نساءكم وأولادكم الاهتمام بروح الجهاد، أعط ولدك مائة ريال أو خمسين ريالاً ثم قل: يا ولدي كم تعطي إخوانك المجاهدين هناك؟ أشعل فتيل الجهاد في قلب هذا الفتى، يشب نشطاً قوياً مقداماً شجاعاً، قل لامرأة أو أختٍ كم تبيعين من هذا الحلي الذي ادخرتيه سنين، لكي نقدمه لأخواتك المجاهدات ولنساء المجاهدين وزوجاتهم عوناً وكرامةً وزيادة؟ ينبغي أن نشعر بالجهاد في بيوتنا وفي أنفسنا وفي كل دائرة من دوائرنا، ينبغي أن نشعر أن المعركة حاسمة، وأن الدقائق فاصلة، وما هي إلا أيام قليلة نسأل الله جل وعلا أن يُعجل بشائر النصر، وأن يرفع رايات التوحيد خفاقة على جماجم الروس الفجرة، والملاحدة وعملائهم من الذين قعدوا وقبعوا ونابذوا الجهاد في كابول.
نسأل الله جل وعلا أن يُعجل بشائر النصر، واعلموا أيها الإخوة! أنه حينما تنطلق صيحات التكبير فإن القوى العالمية الكبرى تخاف من ذلك.
صرحت دار الإذاعة اليهودية البريطانية منذ يومين أو ثلاثة قائلة: صرح جورباتشوف زعيم الاتحاد السوفيتي قائلاً: إن هذه الحرب وإن كانت لا تحظى بقناعة شعبية لدى الشعب الروسي؛ فإننا لا نرضى بقيام حكم ديمقراطي في أفغانستان.
هل يقصد بقوله: حكم ديمقراطي حكومة أمريكية؟ لا، إنما يخشى من قيام حكم إسلامي في أفغانستان، ثم ينقلب خطراً على الولايات الإسلامية السبع: بخارى وسمرقند وأذربيجان وطاشقند وغيرها من الولايات الإسلامية، إنهم ينتفضون ويخافون؛ لأن صيحات الجهاد صادقة، ولأن رايات الجهاد مرفوعة كلها تحت راية لا إله إلا الله.
من للجهاد في فلسطين؟ اللهم أخرج من أرض فلسطين شباباً يحررونها وينصفون أهلها ويخرجون المستعمرين منها.
أيها الإخوة! يوم أن دخل الفجار في أرض فلسطين: اللورد اللمبي الذي قاد الحملة الصليبية، وكانوا لا يعرفون اسم الصليبية لكنه في ذلك الوقت وأثناء مقابلات الصحف والمجلات قال وبكل وقاحة: إنها الحملة الصليبية الثامنة بعد حملة الملك لويس التاسع، إنها الحملة الصليبية.
ثم دخل أرض فلسطين، ولما دخل الفجرة؛ ذهبوا إلى أرض الجولان، وتوجهوا إلى مكان يُوجد فيه قبر صلاح الدين أظنه جبل سيحون أو قريب من هذا الاسم، ثم وقف ذلك الفاجر فوق قبر صلاح الدين وركله برجله وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين! ها قد عدنا يا صلاح الدين! ها قد عدنا يا صلاح الدين! وهو يركل القبر الشريف بهذه القدم الخبيثة.
انظروا إلى الحقد المبيت، لما دخلوا أرض بيت المقدس قتلوا فيها مقتلة عظيمة، كما ذكره المؤرخون وأصحاب السير، سالت الخيل فيها في الدماء إلى الركب، دخل موشي ديان وأخذ يصيح: يا لثارات خيبر، يا لثارات خيبر، يا لثارات خيبر.
ثم أخذوا يقولون: محمد مات وخلف بنات، نعم والله إن الذين لم يستردوا فلسطين حتى الآن ليسوا والله بأهل للرجولة، لماذا لا يجاهدون ويرفعون راية التوحيد، ويقاتلون تحت هذه الراية، ويتبايعون على الموت تحتها؟ والله لن يبقى لليهود أمامهم قائمة، نسأل الله أن يُخرج من تلك الأرض شباباً مجاهدين صادقين مخلصين، ونسأل الله أن يعجل بنصرهم، وأن يرفع الكربة والمحنة عن إخواننا في فلسطين، وأن يرفع المحنة والكربة عن إخواننا في أفغانستان، وفي سائر بلاد المسلمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم احفظ بلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين عامة، اللهم احفظ إمامنا، اللهم احفظ ولي أمرنا، اللهم احفظ إمام المسلمين، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق وعلى العمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم سخر له ولنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرض بقدرتك، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيراناً إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته بمنك ورحمتك يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سحاً غدقاً طبقاً نافعاً مجللاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم اجعل ما أنزلته خيراً لنا وبلاغاً ومتاعاً إلى حين، اللهم اسقنا واسق المجدبين، اللهم لك الحمد على ما أغثتنا به، سبحانك وحدك لا شريك لك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ولجميع موتى المسلمين الذي شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الحليم العظيم، لا إله إلا أنت رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، اللهم يا فرج المكروبين! ويا نصير المستضعفين! ويا إله الأولين والآخرين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم تلطف بهم وبأحوالهم، اللهم وفقهم، اللهم سدد رأيهم، اللهم سدد رصاصهم في نحور أعدائهم، اللهم وحد صفوفهم، واجمع شملهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(39/8)
التوبة إلى الله
إن من رحمة الله بنا أن جعل باب التوبة مفتوحاً إلى أن تطلع الشمس من مغربها ولم يغلقه أمام أحد من عباده، حتى لو عظم ذنبه وكبر إلا أن يكون شركاً، فـ ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)).
وقد حث الشيخ حفظه الله على التوبة، وحذر من مغبة المجاهرة بالمعاصي.(40/1)
سعة رحمة الله
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:110]، ويقول جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
معاشر المؤمنين: هذه آيات من فصل الخطاب، ومحكم الكتاب، ونداء ممن خلق الأرضين والسماوات رب الأرباب، لا إله إلا هو عليه التكلان وإليه المآب، رب غفور جبار قاهر قادر غني قوي ينادي عباده الضعفاء الفقراء الأذلاء المساكين بتودد الخطاب أن يدنوا إليه جل وعلا، لذا فلا غرابة أن يستعجب العبد ويتلذذ بترداده كل يوم وليلة سبع عشرة مرة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] يقرؤها في الفاتحة {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] أبلغ وأقصى وأوسع معاني الرحمة بأصنافها وألوانها وأحوالها، رحمان بعباده، حتى العصاة يستر عليهم من رحمته، يسدل عليهم ستره، يعصونه بنعمه، ويعصونه بآلائه، فيمهلهم ولا يأخذهم ساعة المعصية، ثم يمن عليهم بتوبة فيعودون إليه أوابين منه برحمة، ثم يغفر ذنوبهم ويبدلها حسنات، رحمان رحيم.
عباد الله: إن هذه المعاني قد اجتهد الشيطان وأعوان الشيطان وشياطين الإنس والجن {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] لإبعادها عن كل عبدٍ زل زلة أو أذنب ذنباً أو أسرف على نفسه أو ارتكب ما ارتكب، يحرص الشيطان وأعوانه أن يبعدوا عن العبد هذه المعاني حتى تنقلب الخطيئة على شؤم مقاييس النصارى ضربة لازم لا يزيلها توبة ولا يمحوها استغفار ولا تدفعها حسنة، ذلكم معتقد الضالين، النصارى الذين يرون أن خطيئة الأب آدم اندرجت على ذريته من بعده فلا يخلصهم منها إلا صلب المسيح ودم المسيح ولقمة المسيح، وما إلى ذلك من خزعبلات القول وهرطقات المنطق التي ليست في وحي ولا علم ولا حكمة ولا هدى مبين.(40/2)
سبب نزول قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ)
معاشر المؤمنين: جاءت امرأة في المدينة إلى أحد الصحابة وكان رجلاً تماراً يبيع التمر، فلما نظر إليها أشغله جمالها، وملأت عليه فؤاده، وشغف بها حباً، فقالت: أعندك تمر أجود مما أرى؟ فقال: بلى، وقادها إلى مكان تظن أنه يذهب بها إلى موقع آخر ترى فيه أصنافاً أو أنواعاً من التمر، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن قادها إلى بيته، ولم تكن تعلم فأغلق دونها الباب فدنا منها، ولم يصب منها ما يوجب الحد وإقامته، وإنما كما يقول الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: لعله كان بينه وبينها ما لا ينبغي أن يكون إلا بين رجل وامرأته من مس أو ضم وقبلة، ولكن سرعان ما ندم ولسعته سياط الموعظة وأنبته نفسه اللوامة واستيقظ ضمير فكره، فما كان منه إلا أن كف عن فعله، وفتح الباب وخرج هائماً في الطرقات يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وجد الحبيب ووجد البر الرءوف الرحيم- بآبائنا هو وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم- جاء إليه وأناخ بقدميه -اللتين تمطتا إلى تلك المعصية- في حماه الطاهر صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! إني أذنبت ذنباً، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم، وما كهره وما زجره وما ضربه أو أغلق في وجهه آمال التوبة أو بشائر الرحمة أو بواكير الإنابة، وإنما سمع منه حيث قال: فعلت كيت وكيت وكيت، فأطرق النبي صلى الله عليه وسلم ملياً، فما لبث أن تغشاه الوحي، ولما سُرِّي عنه صلى الله عليه وسلم، قال: (أين الرجل؟ قال: هو أنا ذا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قول الله جل وعلا -تلك الآية المدنية في السورة المكية في سورة هود- {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال الرجل: يا رسول الله! ألي هذا خاصة؟ -) هل هذا الجواب وهذا الخطاب {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] (فقال صلى الله عليه وسلم: لا، بل لأمتي عامة) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] اللهم صلِّ على محمد، اللهم صلِّ على محمد وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: إننا نسوق هذه الآية وسبب نزولها ومقدماتها لنوجه الخطاب إلى أنفسنا وإلى فريق آخر، أما الخطاب لنا ولكم فهو يوم أن نرى عبداً مذنباً، فإن حاجة المريض أن تصف له العلاج لا أن تعاتبه وتشتمه وتقول له: لماذا أنت مريض؟ والله إن الذين في زنازين السجون يتمنون أن يكونوا من المهتدين المزاحمين بركبهم في حلق العلم بين يدي العلماء، والله إن مدمني المخدرات يتمنى الكثير منهم أن يكونوا من المهتدين السابقين إلى الصف الأول ورياض المساجد، ووالله إن كثيراً من العصاة ليلومون أنفسهم لوماً عظيماً، ولكن من ذا يأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية؟ إذاً: ففي هذا دعوة أن نفتح صدورنا لإخواننا ولو كانوا مذنبين، شتان بين مذنب ذنبه على نفسه قاصر، وبين مذنب يتعدى بذنوبه لينشر الجريمة في أنحاء المجتمع.
المذنبون صنفان: صنف يذنب ذنباً ويخاف خوفاً ويندم ندماً ويخشى فضيحةً ويخاف هتك ستر الله عليه، ثم هذا تراه أقرب ما يكون يوم أن تدعوه إلى حسنة تمحو خطيئته، وإلى صدقة تمحو زلته، وإلى عودة تفتح باب توبته.
ومذنب آخر محترف للذنوب، تاجر ينشر ويوزع وكيل معتمد، إليه تفد ألوان الذنوب ومنه تصدر، يوزعها لينشرها في أنحاء المجتمع وجنبات الأمة، فشتان بين هذا وهذا.(40/3)
توبة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً
الأمر الآخر: يوم أن يجيء عبد من المذنبين طائعاً مختاراً مقبلاً راضياً غير مكره، فمن ذا يحول بينه وبين التوبة؟ أولسنا نعلم أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً كما في الحديث الصحيح؟! فلما جاء إلى راهب وشكا إليه ما قال له، قال: لا نرى ولا نجد ولا نعرف لك توبة بعد فعلك هذا، فما كان منه إلا أن أخرج تلك الشفرة وذلك الخنجر الذي حزه على تسعة وتسعين نفساً فأكمل به على رقبة الراهب تمام المائة، وخرج هائماً على وجهه، ثم قصد عالماً من العلماء -وفي القصة فرق بين الرهبان والعلماء- فلما جاء إليه وأخبره، قال: إني قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ وكأنما هو يلوح بالتهديد ليضيف رقم الواحد بعد المائة، فقال ذلك العالم: ومن ذا يغلق باب التوبة دونك؟ إن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لا يغلق إلا يوم أن تطلع الشمس من مغربها، ولكن إن كنت تائباً مقبلاً، فالحق بأرض بني فلان فإن فيها قوماً يعبدون الله، فقبل الرجل النصيحة ووسعته الموعظة وعمته الهداية، وذهب إلى أرض بني فلان تائباً عائداً نادماً، فأدركته المنية قرب منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: عبد مذنب أسرف في القتل والذنوب، وقالت ملائكة الرحمة: عبد جاء طائعاً تائباً مختاراً، فكان بينهم ومِن أمرهم أن يقيسوا أي المسافتين إلى خطوه أقرب، فأوحى الله إلى أرض الرحمة أن تقاربي، وأوحى الله إلى أرض المعصية أن تباعدي، فكان من الذين أدركتهم رحمة الله.
لما جاء طائعاً مقبلاً مختاراً تائباً إلى الله، أوحى الله إلى الأرض بأن تزحف وتتزعزع، أوحى الله للأرض أن تجر أذيالها، تدنو من أجل عبد جاء تائباً مقبلاً مختاراً قاصداً وجه الله جل وعلا ورحمته التي وسعت كل شيء.
أفنظن يا معاشر العباد أن من أذنب ذنباً تضيق به رحمة الله؟ لا والله، إذاً فلا يترددن عبد في التوبة ولا يترددن عاصٍ بالإنابة، ولا يترددن خاطئ في الرجوع، فإن رحمة الله وسعت كل شيء، وإن رحمة الله سبقت غضبه، وإن رحمة الله قريب من المحسنين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(40/4)
معركة حنين وقوله صلى الله عليه وسلم (لله أرحم بعبده من هذه بولدها)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من النار.
معاشر المؤمنين: لما خرجت هوازن بقيادة زعيمها عوف بن مالك وقد حزب الأحزاب وجمع الجموع لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ضلال أمره وسفاهة رأيه أن قال: يا معاشر العرب! ليخرج كل منكم بماله وأهله وولده حتى يثبت القوم، ويقاتل الرجل دون عرضه وإزاره، فما كان من القوم إلا أن استجابوا له، وخرجوا بنسائهم وأطفالهم وأموالهم، وسمع دريد بن الصمة بهذا، وكان كهلاً عجوزاً كبيراً لا يثبت على ظهر الخيل، قال: ما لي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير وثغاء الشاة؟ قالوا: هذا عوف بن مالك زعيم هوازن أقسم أن يضع ذبابة السيف على صدره ويتكئ عليها حتى يخرج السيف من ظهره إن لم تسمع العرب رأيه فيما رأى، قال: بئس الرأي ما رأى! إن المهزوم لا يرده شيء.
فما كان من القوم بعد أن كان ما كان من أمر تلك المعركة- معركة حنين - في بدايتها أصاب بعض المسلمين عجب، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ليس علينا خطر أو هزيمة نخشاها لأننا كثير {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] كانت كثرة تعلق القوم فيها بنوع سبب بشري فكانت من أسباب الهزيمة، لأن النصر لا يتنزل إلا على أمة تقطع الآمال بأسباب البشر وتعلق الآمال والرجاء بالله وحده لا شريك له.
فما كان من القوم بعد أن كمن المشركون لهم في وادي أوطاس، ثم فاجئوهم بمطر بالنبال إلا أن فروا ولم يبق منهم إلا قليل، ولم يثبت إلا الشجاع القائد المجاهد الإمام النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت على بغلة وليست فرساً أو خيلاً تحسن الكر والفر في المعارك، ثبت على بغلة ولم يخف القائد موقعه، بل صاح بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، واشتد الكرب، وادلهم القوم، والتفوا يريدون إزهاق روح رسول الله، ويريدون قتله صلى الله عليه وسلم، فثبت وخيار الصحابة حوله، ثم التفت صلى الله عليه وسلم وهو يقدم على القوم ويفل صفوفهم ويكسر جمعهم ويبيد خضراءهم، فلما التفت إلى العباس، وقال: يا عباس! الحق بالقوم وصح بهم: يا أصحاب السمرة! يا أصحاب سورة البقرة! إن النبي صلى الله عليه وسلم يدعوكم أن تعودوا، وكان العباس جهوري الصوت فنادى فيهم فسمعوه، ومن شدة فرار بعض القوم أن بعضهم لم يستطع أن يثني رأس راحلته أو خيله أو بعيره ليعود إلى موقع المعركة، فرمى بنفسه من ظهرها وعاد راجلاً؛ استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم نصرهم الله بنصره وثبتهم بثباته {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم:27] ثم كسروا جموع القوم، وكان كل ما جمعه عوف بن مالك من الخيل والشاة والإبل والنساء والأطفال غنيمة وسبياً للمسلمين، فاجتمع للمسلمين ذاك اليوم شيء عظيم من الفيء والغنائم والسبي، فجاء القوم يريدون بعض المال من رسول الله، وكيف يمن عليهم صلى الله عليه وسلم بمال وهو الذي خير أن تذوب جبال الدنيا ذهباً تحت قدميه فلم يرض بهذا واختار أن يشبع يوماً ويجوع يوماً؟! كيف يمن أو يبخل بمال من هذه همته في الآخرة وهذا زهده في الدنيا؟ فجاء الأقرع بن حابس، وأعطاه مائة من الإبل، وجاء عيينة بن حصن، فأعطاه مائة من الإبل، وجاء حكيم بن حزام، فأعطاه مائة، ثم سأل ثانية، فأعطاه مائة، ثم سأل ثالثة، فأعطاه مائة، ثم جاء أعرابي وقال: يا رسول الله! ما أطيب هذا الوادي وما فيه من النعم والشاة! قال: خذه فهو لك، ثم جاء من جاء والنبي يعطي ويعطي ويعطي؛ لأن همته أعظم من ذلك، همته وفكره وقلبه ولبه وفؤاده نصر المسلمين، ونشر التوحيد وتعبيد العباد لله، بعبادة الله وحده لا شريك له، لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة.
وكان كبار الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيطون به إحاطة النجوم بالقمر ليلة البدر، فرأوا بين السبي امرأة كأنها مجنونة، كأنها قد أصابها مس أو جنون، تفتش يمنة ويسرة وتقبل وتدبر وتركض وتجيء وتعود حتى شقت الطريق بين القوم، ثم لقيت طفلاً فأخذته واحتضنته وضمته وقبلته، ثم كشفت ثديها، لم تشعر بحالها بين القوم، وألقمته في فم الرضيع وهي تبكي، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر والصحابة ينظرون، فقال صلى الله عليه وسلم: (أترون أن هذه المرأة تقذف بولدها في النار؟ قالوا: لا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها).(40/5)
إن الله ستير يحب الستر
إن إلهنا وخالقنا ومولانا عظيم في ذاته، وكذلك عظيم في صفاته، ومن صفاته الرحمة، فهو عظيم في رحمته جل وعلا.
ولسنا نسوق هذا الكلام لكي تجترئ النفوس على المعصية، فكما أنه عظيم في رحمته غيور على نعمه، وغيرته أن يأتي عبده أو أمته ما حرم عليه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة:218] فإنه كذلك شديد في عقابه.
إن الصادقين في طلب الرحمة براهين صدقهم في أعمالهم: التوبة بعد الذنب والحسنة بعد السيئة، والندم بعد الخطيئة، وملاحقة السيئات بالحسنات التي تمحوها بإذن الله.
لسنا نسوق هذا حتى يفهم السامع قول القائل:
وكثر ما استطعت من المعاصي إذا كان القدوم على كريم
بل نسوق هذا لكي نعلنها منذ اللحظة، ومن الساعة نهجرها ونطلقها ونودعها وليس وداعاً بل نفارقها فراقاً، وإن صرم فصرم كالطلاق، كل معصية أسرفنا بها وزللنا وأخطأنا، فالحمد لله الذي لم يزل بعد يمتعنا بأبصارنا وأسماعنا وألسنتنا وأيدينا وأقدامنا، وقد عصيناه بها جميعاً، فالحمد لله على ما ستر، والحمد لله على ما أنعم من هذه الحواس والجوارح ومن غيرها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] الحمد لله على كل حال.
ومن موجبات حمده أن نقلع عن معصيته وألا نصر عليها، وألا نستخدم نعمه في معصيته جل وعلا.(40/6)
ستر الله على مذنب بني إسرائيل
أيها الأحبة: إن الله جل وعلا عفو غفور كريم ستير يحب الستر.
ذكر ابن قدامة في التوابين قصة في بني إسرائيل أن موسى عليه السلام خرج يوماً يستسقي، فلم ير في السماء قزعة- أي: سحابة- واشتد الحر، فقال موسى: يا رب! اللهم إنا نسألك الغيث فاسقنا، فقال الله جل وعلا: يا موسى! إن فيكم عبدي يبارزني بالذنوب أربعين عاماً، صح في القوم وناد إلى العباد: الذي بارز ربه بالذنوب والمعاصي أربعين عاماً أن اخرج، فقال موسى: يا رب! القوم كثير والصوت ضعيف فكيف يبلغهم النداء؟! فقال الله: يا موسى! قل أنت وعلينا البلاغ، فنادى موسى بما استطاع، وبلغ الصوت جميع السامعين الحاضرين، فما كان من ذلك العبد العاصي -الذي علم أنه المقصود بالخطاب، المرقوم في الكتاب أنه ينادى بعينه بين الخلائق، فلو خرج من بين الجموع، عُرف وهتك ستره وانفضحت سريرته وكشفت خبيئته- فما كان منه إلا أن أطرق برأسه وأدخل رأسه في جيب درعه أو قميصه، وقال: يا رب! اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني، اللهم إني أتوب إليك فاسترني.
فما لبث موسى ومن معه إلا أن أظلهم الغيم وانفتحت السماء بمطر كأفواه القرب، فقال موسى: يا رب! سقيتنا وأغثتنا ولم يخرج منا أحد! فقال الله: يا موسى! إن من منعتكم السقيا به تاب وسألني وأعطيته وسقيتكم بعده، فقال موسى: يا رب! أرني ذلك الرجل، فقال الله جل وعلا: يا موسى! سترته أربعين عاماً وهو يعصيني أفأفضحه وقد تاب إلي وبين يدي؟ الله أكبر! ما أعظم ستر الله! إن الله ستير يحب الستر.(40/7)
خطورة المجاهرة بالمعاصي
لقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال: الذين يذنبون أو يعصون الله فيمسون يسترهم الله فيصبحون يكشفون ستر الله عليهم، يقولون: فعلنا وفعلنا) وما أكثرهم في هذا الزمان! يسافرون في الإجازات ونهاية عطلة الأسبوع وغيرها من المواسم والمناسبات، فإذا عادوا: هذه صورتنا يوم كنا كذا، وهذا صورتها يوم كانت كذا، وهذا مقامنا في مكان كذا، يسترهم الله وهم يفضحون أنفسهم! إن الله ستير يحب الستر.
ونسوق هذا ونكرر أن الكلام هذا ليس بدعوة إلى الجرأة على المعصية، وإنما هي دعوة لمن أذنب أن يتوب، ولمن أسرف أن يئوب، ولمن أخطأ أن يستغفر، ولمن وقع في الذنب أن يعلم أن له رباً يغفر الذنب ويقبل التوبة ويعفو عن السيئات.
فيا عباد الله: توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم.
يا عباد الله: توبوا إلى الله من صغير الذنوب وكبيرها
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
يا عباد الله: توبوا إلى الله من كثير من الذنوب التي درجت على الألسنة، وكثير من الخطايا والآثام، فلنتب إلى الله من الغيبة، ولنتب إلى الله من النميمة، ولنتب إلى الله من الحسد والحقد، ولنتب إلى الله من ازدراء الناس واحتقار الخلق والتهاون بشأن الخلق، إن من الناس من لا يرى في نفسه ذنباً ولا عيباً وقد جمع ألواناً من الذنوب لم يجمعها من ظهر فسقه في بعض الأمور؛ وذلك بغيبة لا تكل، ونميمة لا تمل، وازدراء لا حد له، إن احتقار الخلق أمر عظيم (بحسب امرئ من الشر- يكفيه شراً- أن يحقر أخاه المسلم) وهذه من الذنوب الشائعة العامة بين العباد.
ومن الذنوب أيضاً: ما تساهل به كثير من الناس تحت دعوى الأخبار والمسلسلات أو التحقيقات، فجثم بإرادته طبق يستقبل السموم على سطح بيته، ويعد أنه يستقبل بهذا أخباراً غاديةً ورائحةً، والله لن تسأل عنهم ولا عن أخبارهم، ولو حفظ أخبارهم عن ظهر قلب ما نورت لحدك، وما وسعت قبرك، وما أخرت أجلك، وما بسطت في رزقك، وإنما جررت ذنباً على نفسك وذنباً على أبنائك، فتب إلى الله وأزل هذا، نقول هذا نصيحة لكل من وضع الطبق على سطح داره أن يزيله حتى لا يبارز ربه بالمعصية، والذنوب نوعان: ذنب خفي وذنب جلي، فالذنب الخفي أهون بكثير من الذنوب الجلية.
فيا عباد الله: توبوا إلى الله، يا عباد الله! ناصحوا إخوانكم وناصحوا جيرانكم، ونادوهم برقيق العبارة ولطيف القول ولين الخطاب، وليعلموا أن الباعث ليس الأمر والنهي وإنما هو الخشية والوجل والخوف والمحبة، حينئذٍ لعل قلباً أن يستمع، ولعل نفساً أن تنزجر أو ترعوي.
أسأل الله جل وعلا أن يتوب علينا من ذنوب خفيت وظهرت، وأسأله سبحانه وتعالى أن يسترنا بستره، وألا يكشف سرائرنا، وألا يهتك أستارنا، وألا يفضح عوراتنا، أسأله سبحانه وتعالى أن يصلح لنا السيرة والسريرة، والظاهر والباطن والسر والعلانية.
اللهم اغفر لنا، اللهم اغفر لنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بذنوبنا فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم صل على محمد وآله وصحبه، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم ارحم المستضعفين في البوسنة، اللهم ارحم المستضعفين في كشمير، اللهم أقم التوحيد في بلاد المسلمين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، ورد المبعدين إلى بلادهم، وأصلح شأنهم يا حي يا قيوم.
اللهم أهلك اليهود، اللهم اجعلهم شذر مذر، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين يا حي يا قيوم، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في السجون والزنازين، اللهم اجعل لهم مما هم فيه فرجاً، وعجل لهم في أمرهم مخرجاً، اللهم احفظ عوراتهم، وآمن روعاتهم، واستر ذرياتهم، وتكفل بأبنائهم وآبائهم وأمهاتهم يا رب العالمين.(40/8)
وصايا للأمة في ظل الأزمة
حرب الخليج الثانية، ودخول صدام الكويت، وتهديد السعودية من الأزمات العصيبة التي مرت بأمة الإسلام، وكشفت كثيراً من الأمور وتباين الآراء تجاهها شعوباً وأنظمة، وفي هذا الدرس وصايا عامة للأمة بخصوص الأزمة وكيفية التعامل معها.(41/1)
دور الأمة عند الأزمات
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بأمره تنسف الجبال نسفاً، فتكون قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، الحمد لله الذي بأمره تنكدر النجوم، وتنفطر السماء وتنشق الأرض، وتسجر البحار وتتفجر نيراناً، الحمد لله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الأحبة في الله! أذكركم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) اللهم إنا نشهدك ونشهد ملائكتك والناس أجمعين، أنه ما جاء بنا إلى هذا المسجد وهذا المجلس إلا ابتغاء رحمتك، وابتغاء الذكر في الملأ الأعلى عندك.
اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم آتِ هذه الوجوه الطيبة، اللهم آتها من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمنا، ومن كل فتنة عصمة، اللهم صل على محمد أولاً وآخراً.
أحبتنا في الله: حديثنا اليوم عن هذه الأزمة التي قرأتم وسمعتم وتابعتم الكثير من أحداثها، ولكن من واجبنا ألا ننقطع عن مجالس الذكر والعبادة والدعوة، أياً كان حجم الأزمات، وأياً كان مستوى المصائب، والله إن من الأمور التي قد ينزعج الواحد منا أن يرى شيئاً من الفتور في مجالس الوعظ، والذكر، والندوات، والمحاضرات، بحلول هذه الأزمة، وكان من واجب الأمة ألا تزيدها هذه الأزمات إلا مزيداً من البذل والعطاء.
كان مقرراً أن يكون عنوان المحاضرة " العلمانية وأثرها السيئ على الأمة" ولما جاءني أحد الإخوة بالإعلان المطبوع عن المحاضرة، قلت: هذا الموضوع لا يناسب الآن، ولا يصلح أبداً؛ لأننا في مواجهة عدوٍ من الخارج، قد أحاط بحدودنا، وجيَّش جيوشه على سواحلنا، فمن واجبنا ألا ننشغل بالقضايا الجزئية أو القضايا الفرعية، ونحن نواجه أخطر الأعداء وأكبر الفتن بالنسبة لتاريخٍ نشأنا وترعرعنا فيه، ألا وهي هذه الأزمة الشديدة، نسأل الله جل وعلا أن يفرجها بمنه ورحمته عن الأمة أجمع.
أيها الإخوة! واختار الإخوة أن يكون موضوعنا: "وصايا للأمة في ظل هذه الأزمة".
وحقيقة نحن بأمس الحاجة إلى الوصية والنصيحة؛ لأنها بإذن الله جل وعلا من باب التواصي على الحق، والتواصي على الصبر، ومعرفة ما ينبغي فعله، لا نشك أن جميع المسلمين وجميع هذه الوجوه الطيبة، كل واحد يقول: لو علمت أن لي دوراً في هذه الأزمة ما ترددت عن القيام به، والبعض يظن أنه ليس له دور على الإطلاق، أو أن فعله أو قوله لا يقدم ولا يؤخر في ظل هذه الأزمة.
والله يا عباد الله! إن للبهيمة لدوراً في هذه الأزمة، فضلاً عنكم أنتم يا من أسجد الملائكة لأبيكم آدم، ويا من كرمكم وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وآتاكم الأسماع والأبصار والأفئدة، أتدرون ما دور البهائم في هذه الأمة؟ إن الله قد يرحم الأمة بها، إنما تنصرون وترحمون بضعفائكم، قد يرحم الله الأمة بالأطفال الرضع، والشيوخ والعجائز الركع، الذين لا يعرفون من السياسة قليلاً ولا كثيراً، وبهذه البهائم الرتع التي تجأر إلى الله جل وعلا.
وإنا لما أخبرنا أحد الإخوة في أول ليلة سقط فيها عدد من الصواريخ، قال: سمعت مكاناً فيه عدد من القطط تموء مواءً لا يعلمه إلا الله جل وعلا، فقلت: والله لعلها تجأر إلى الله مما يحصل، وكما يقول أبو الدرداء: [إن الحبارى لتموت هزالاً في أوكارها من شؤم معصية بني آدم] ولعلها تدعو على بني آدم.(41/2)
الإيمان بالقدر والرضا به
أيها الأحبة! أود أن أسألكم سؤالاً، هذه المصيبة التي ما تركت بهيمة ولا طفلاً ولا صغيراً ولا رضيعاً ولا كبيراً ولا فقيراً، ولا تاجراً ولا غنياً ولا ملكاً ولا وزيراً، ولا ذكراً ولا أنثى ولا مسافراً أو حالَّاً أو مرتحلاً، إلا أشغلته ونالت من همه وذهنه نصيباً، هذه المصيبة التي أشغلت الأمة، بل أشغلت العالم بأكمله، أتظنونها جاءت فلتة؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأننا نعلم أن الأمور بقضاء وقدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22].
ونعلم أن القضا واقع وأن الأمور بأسبابها
والبلايا بقضاء وقدر والدنا عبر أي عبر
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
أود أن أقول أيها الأحبة: إن هذه المصيبة إنما هي بقضاء وقدر، وهذا من تمام الإيمان، ومن شك في أن هذه المصيبة بقضاء وقدر، ففي إيمانه شك بقدر شكه في هذه القضية.
الأمر الآخر: مادامت هذه بقضاء وقدر، فأسألكم سؤالاً: هل يقدر الله عبثاً؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إذاً: فهذه المحنة والأزمة والرزية والمصيبة، ما قدرها الله عبثاً، وإنما قدرها لحكمة بالغة يراها الله جل وعلا، حتى نطمئن ونهدأ {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137] الأمور بيد الله جل وعلا، ونحن عبيده، بنو عبيده، بنو إمائه، نواصينا بيده، ماضٍ فينا حكمه، عدل فينا قضاؤه وقدره.
ما الذي يزعجنا؟ ما الذي يجعل كثيراً من الناس لا يعرفون بالليل نوماً، ولا بالنهار هدوءاً وطمأنينة؟ أيحدث أمر قدره غير ربكم؟ كلا والله.
فعلام الفزع الذي جاوز حده! والأولى أن يفزع الناس، وأن يشتغل الناس فيما يستعدون به لأمر الآخرة، لأمر الرحلة، لأمر النقلة إلى دار فيها أعظم من هذه الأهوال.
إذاً: فهذه الأزمة بقضاء وقدر، وهذا القدر كما يقول ابن تيمية رحمه الله في معنى كلامه: إنه ما من قدرٍ لله جل وعلا إلا وهو مشتمل على تمام الحكمة؛ لأن الله لا يقدر عبثاً، ومشتمل على تمام العدل؛ لأن الله لا يقدر ظلماً، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
إذاً: فهذا القدر، قدر هذه الأزمة تمام العدل؛ لأن الله لا يقدر ظلماً، وأيضاً تمام الرحمة؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، ولأن رحمة الله وسعت كل شيء.(41/3)
الصبر والاحتساب على المصائب
أيها الأحبة: شأن المؤمنين الذين إذا أصابتهم مصيبة أن يقولوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، فينبغي أن نكثر من هذا الذكر وهذا الدعاء.
شأن المؤمنين حينما يخوفون بأعدائهم؛ أن يتذكروا قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] هربوا من مدنهم، ماذا فعلوا؟ قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:173 - 175].
من أين يأتي هذا الخوف؟ من أين يأتي الفزع؟ من أين يأتي هذا الارتباك وعدم الانضباط والتوازن في تصرفات عجيبة من كثير من الناس، تجده يخرج من بيته المطمئن الآمن المضاء المكيف المعد بكافة المرافق، لكي يضرب خيمة يأكله فيها الناموس، ويتأذى بالظلام، ويتأذى من البرد، ولا يجد ماءً ولا يجد كافة ما يحتاج إليه، هروباً من هذه الفتن.
أهرب من قدر الله إلى قدر الله، نهرب من الموت: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] أنا لا أقول: إن كل من سافر ففي إيمانه دخن، أو ليس عنده توكل على الله، حتى لا يقول أحد: هؤلاء المطاوعة من رأوا جمسه متوجهة على ديراب، قالوا: هذا ليس عنده توكل، لا.
إنما أريد أن أقول: إن من خرج فراراً وظناً أن فراره هذا يدفع عنه قدر الله، فهذا مسكين جاهل.
نعم قد يوجد إنسان بيته قرب المواقع الاستراتيجية، التي لاحظ مراراً أنها مواقع مستهدفة، نقول: هذا الشيء معقول، لكن الذي هو بعيد يهرب إلى أين؟ أحدهم يستأجر بيت طين كلما كنس أرضه تهلهل سقفه، لا يقف عن هذا التنظيف أبداً، وكلما ارتج فيه بابٌ جاوبه الباب الآخر في آخر الدار، ما الذي أحوجك إلى هذا؟ سبحان الله العلي العظيم! فنقول أيها الأحبة: إنما ذلكم الشيطان؛ لأن الشيطان يأتي ويدخل الرعب والخوف والفزع في قلب ابن آدم، فيصيبه ما تراه من هذه التصرفات المرتبكة أو الغير منضبطة، وتذكروا قول الله جل وعلا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فحسن التوكل على الله، وحسن اللجوء إلى الله جل وعلا فيه خير عظيم {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
إذاً أيها الأحبة: هذا شأن المؤمنين أن يكثروا من ذكر الله، وأن يكثروا من اللجوء والتضرع والانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالى، وفي مسند الإمام أحمد: (كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالجماعة، والصبر والسكينة عند الفزع) الذي يحصل من بعض الناس يخرج من الجماعة إلى الوحدة والخلاء والخوف، إلى البرية لوحده، أو إلى مكان بعيد، يظن أنه بمأمن.
والسنة في الفزع، إذا كان الذي أخرجه فزعه، أن يحرص على الجماعة، (كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالجماعة والصبر) احتساب ما يصيب الإنسان؛ لأنه ما من هم حتى الليلة التي تسمع فيها صوت صفارة الإنذار، فتضع يدك على خدك أو على رأسك وأنت مهموم أو مغموم، أو تنظر إلى هؤلاء الأطفال، ولا ألوم من كان له صبيه: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
قد تتألم ويتقطع قلبك وأنت ترى هؤلاء الأطفال، أحدهم يجر رداءه، والآخر يجر ثوبه خوفاً وفزعاً، يلحق أمه وأباه، لا يدري ما يفعل عند سماع هذه الصفارة مثلاً، ويتألم قلبك أن ترى هذا مهموماً أقول: أبشر بخير، فإن هذا الهم فيه خير لك، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! يقول ربنا جل وعلا: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] هذا أبو بكر المبشر بالجنة يتلو هذه الآية، يقول: نخاف مادام كل سوء نعمله نجزى به ما بقي لنا عمل، وهو أبو بكر، المبشر بالجنة رضي الله عنه، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ألست تهتم؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: فذلك مما تجزون به).
أي: هذا الهم الذي يجعل أحدنا يبيت ساهراً أو متألماً، هذا يا إخوان كفارة للذنوب والمعاصي: (ما من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه) فلماذا نفقد ونبعد عامل وعنصر الاحتساب في هذه المسألة؟ إذا أصبحت أو أمسيت مهموماً أو مغموماً يدك على رأسك، فأكثر من ذكر الله، والاستغفار، واحتساب الصبر فيما ينالك، فذلك خير لك بإذن الله جل وعلا.(41/4)
وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم
أيها الأحبة: والله إن في هذا الأمر الذي يدور خيرٌ عظيم للإسلام والمسلمين، ولله الحكمة البالغة، ما ماتت نفس قبل يومها، وما أصيب أحد مصيبة إلا بقدر، من كسر هناك قدر له أن يكسر في حادث سيارة أو في الجبهة، من قتل هناك قدر له أن يقتل في طلقة رصاص وإلا على فراشه، لا أحد يتجاوز أجله بأي حال من الأحوال، إذاً فلنطمئن ولنهدأ، فلنعد البشر والابتسامة، ولين الجانب، وطلاقة المحيَّا فيما بيننا، بدلاً من أن يعين بعضنا بعضاً على الهم والغم، أنت تخرج من بيتك فتلقى مهموماً فتهتم معه، فتدخلون على العمل فيهتم بقية الزملاء، يأتي المراجع فيهتم معكم، ويعود إلى بيته مهموماً فيهتم البيت، ثم تجتمع الأمة على غم وهمّ.
لكن حينما أخرج وأنا مبتسم، ذاكر شاكر صابر محتسب، بإذن الله جل وعلا هذا مما يعين النفوس على الطلاقة والبشر والحماس والعمل، كثير من الناس تركوا شيئاً من أعمالهم أو حرفهم أو مهنهم، لماذا هذا الخوف، ولماذا هذا الجزع؟ بالعكس الواجب على الأمة في حال الأزمة والفتن أن تبذل مزيداً من العمل والإنتاج، لكي تغطي ما تستهلكه الحرب من النفقات، هذا هو واجب الأمة، ليس واجب الأمة أن يخزن بعضهم ما استطاع من طعام، أو يهرب البعض إلى آخر مكان ينأى به أو يصل إليه.
وتذكروا قول الله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] ويقول تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].(41/5)
حال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم
النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر الصحابة عن عير قريش قبل موقعة بدر، تمنى الصحابة أن يظفروا بالعير وألا يقاتلوا قريشاً، قال تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7].
ولكن الله جل وعلا قدر برحمته وحكمته وعدله، أن تكون الشوكة والقتل والقتال وسل السيوف وصهيل الخيول، وكان في هذا خير عظيم بإذن الله جل وعلا، ليحيا من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، كان فيها خير عظيم بإذن الله جل وعلا، فلا تكرهوا الحرب، الحرب التي نواجهها الآن هي قدرنا، وعلى كل أمة أن تواجه قدرها، هل فر النبي عن قدر الحرب في أحد التي قال قبلها: (رأيت بقراً تنحر) أي: رأى في المنام أنه سيكون ذبح وقتل في صحابته، ومع ذلك خرج لملاقاة عدوه، وما جزع، وتقبل قدره، وواجه هذا القدر بقدر الله المشروع وهو الجهاد.
دخلت حلقتين من حلق المغفر في رأسه صلى الله عليه وسلم، كسرت ثنيته، شج وجهه الكريم، كسرت رباعيته، ومع ذلك واجه النبي قدره، واجهوا قدرهم في الخندق والأحزاب، وبني قريظة، وبني المصطلق، وبني النضير، وتبوك، ومن بعدهم المسلمين في بلاط الشهداء والقادسية واليرموك والزلَّاقة، إلى آخر عصور المسلمين، والأمة تواجه أقدارها وهي سعيدة.
لما كان عصر الفتوحات في الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر وعمر، ماذا كان شأن الناس في المدينة؟ أكانوا يجتمعون في المساجد ويصيحون وينيحون ويبكون؟ كان الناس يتبايعون ويشترون، ويتزوجون ويتناسلون، ويأتي البشير من قائد أمير المؤمنين، فتحت مدينة كذا فيكبر المؤمنون، استشهد زوج فلانة، فتحتسبه شهيداً عند الله، وترجو اللحاق به في الجنة، قتل فلان بن فلان فيحمدون الله جل وعلا.(41/6)
وضوح زيف السلام العالمي
كانت الأمة تعيش قدرها الطبيعي للغاية، وليس كما أصاب كثيراً من المسلمين في هذا الزمان، وقد لا يلام بعضهم؛ لأنهم تعودوا حياة السلام، وأنغام السلام، وموسيقى السلام، وأخبار السلام، وعدم الانحياز، والعدالة في القضايا الدولية، وظنوا أن المجتمع لا يقتل فيه طير، ولا تغتال فيه بهيمة، ولا يراق فيه دم، ولا يقطع فيه شلو، لا.
أغنية السلام التي نمنا على أنغامها زمناً طويلاً هي التي جعلتنا نفزع ونخاف.
اسألوا إخوانكم الشباب الذين ذهبوا للجهاد في أفغانستان، كيف كانت أنفسهم أمام الوضع؟ قالوا: الأمر طبيعي، هل هناك من رغبة في الجهاد؟ مستعدون في أي لحظة؛ لأن من تعود قدر الأمة الطبيعي، وسنة الله في أمة الإسلام في الجهاد في سبيل الله، ركنها السادس وذروة سنامها، لا يعجب من هذا أبداً، لكن مر بنا زمن طويل وفيه استقرار السلام، استتباب الأمن في منطقة الشرق الأوسط، والسلام والسلام، وأي سلام هذا؟! سلام ومليون وستمائة ألف قتيل في أفغانستان نحسبهم من الشهداء، ما هو السلام الذي نمنا على أنغامه؟ سلام والمسلمون في سنقار في كشمير دماء تسيل، يأتون الأسرة المسلمة وهي متحلقة على طعام الإفطار في رمضان، فيهجمون عليها، ويجعلون دماءهم على إفطارهم، في بورما، في الفلبين، في مندناو، في أثيوبيا وإرتيريا، أي أغنية سلام نمنا عليها هذه، التي جعلتنا نفزع لما رأينا الحرب، والحرب ممن؟ من عدوٍ ما كانت عداوته غريبة أبداً، الذي يقول لك:
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
أي يقول: سأوحدكم، سأجعل دولتي ودولتك والكويت والعراق وقطر والإمارات، سأجعلها دولة واحدة ولو بالكفر، ومرحباً بجهنم بعد ذلك، أتظنون أن أمر الحرب وعداوة المسلمين تعتبر قدراً غريباً، أو شيئاً عجيباً حينما يبدو منه، أبداً والله، كنا في غفلة، وكان الأعداء يعملون، وكان عامَّة الناس فينا يجهلون ماذا يراد بالأمة، وماذا يخطط لها.(41/7)
الإعداد لمواجهة الأعداء
وهذا الزمان يا إخوان! زمن العقائد التي تتقاتل وليست هذه أول المصائب، الآن العقائد تعيد تجنيد أحزابها، وتعيد تجنيد الخلايا والفروع والأفراد المنتمين إليها، وتعيد تدريبهم تدريباً عسكرياً لا يخطر لكم على بال، فإما أن نكون أمة ونستعد لمواجهة هذا الأمر، ونكون أمة قتال، أمة سلاح، ولا نعجب منذ الآن فصاعداً من أمر القتل والقتال والجهاد، بل نجعله أمراً طبيعياً، وإلا فإننا سنبقى ضعفاء أمام هؤلاء الأقوياء الذين أخذوا بأسباب العدة المادية، ونحن تركنا قول الله جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
ما تدربنا وما أعددنا حتى نرهبهم، ينبغي أن ندرك أن الواجب الآن أن يعرف الناس، أنه يحمل السلاح ولن يوضع، لمعرفة ما يدور وماذا سيدور، وإلا فاعلموا كما قلت آنفاً: أيها الأحبة! جماعة حزب الله في لبنان يعيدون ترتيب شبابهم ترتيباً عسكرياً، والأفلام الوثائقية صورت، والتقارير نقلت، أمل يعيدون ترتيب شبابهم، حركات أخرى تعيد ترتيب شبابها ترتيباً عسكرياً مسلحاً، ابتداءً بحمل الرشاش، وانتهاءً بحرب المدن، مروراً بالراجمات والقنابل والصواريخ، والرشاشات الثقيلة والخفيفة.
فأنتم يا شباب الأمة! يا شباب الجزيرة! ما هو مشروعكم؟ هل تقولون: بدأت الأزمة فتطوعنا، ثم ننام بعد نهايتها؟ لا.
أن يبقى هاجس الجهاد والحرص على هذه الأمة والبلاد والحدود، ليست عصبية للمملكة، وإنما لأننا نرى إسلاماً يطبق فيها، وحينما تتجاوز حددوها تجد القوانين والأنظمة الوضعية، هذا على ما فينا من النقص والكمال لله جل وعلا.
نقول: لا نكره هذه المصائب.
ربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما بعده سبب
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم
لا يمكن أن تسلم الأمة بعزتها وكرامتها، حتى نقدم قرابين العزة، قرابين الجهاد، قرابين الشهادة لله جل وعلا، ما لم ترتو هذه الحدود بالدماء فلا أمن لكم أيها الأحبة، أقول هذا الكلام لا تخويفاً، بل تشجيعاً وحثاً على الجهاد في سبيل الله جل وعلا.(41/8)
صور من اللطف الإلهي
واعلموا أيها الأحبة! مع هذه الأزمة وما فيها من المصائب، أن الله جل وعلا قد أظهر لطفه وهو اللطيف الخبير، دائماً حينما تصلون في تلاوة القرآن الكريم إلى نهاية مقطع الآية، ارعِ سمعك لها، وتأملها تأملاً جيداً، تجد حكمة عظيمة في مناسبة المقطع الأخير لموضوع الآية.(41/9)
قلة المتضررين
لطف الله جل وعلا أيها الأحبة بكم شأنه عجيب جداً، وليس على الله بعزيز، فكما أن الله عظيم، فكذلك لطفه عظيم سبحانه وتعالى، يسقط صاروخ أسكود على بناية، من أين يدخل؟ من النافذة، وينفجر في وسط البناية، حتى تحتوي البناية الأنقاض في داخله، فلا تسقط البناية يميناً فتهلك العمائر المجاورة، ولا تسقط شمالاً فتهلك العمائر المجاورة، وإنما يدخل الصاروخ مع النافذة.
وهذه الأنقاض يحتوي بعضها بعضاً، وكل يموت بأجله، وكل يجرح بقدره، أناس سمعوا الصفارة وقفوا في أتوبيس النقل الجماعي، عند البناية التي بنيت، وإذا بالصاروخ ينزل مع النافذة ويصيبهم ما يصيبهم من قدر الله عليهم، المسألة يا إخوان بمنتهى القضاء والقدر.
أقول أيها الأحبة: هذه من صور اللطف الإلهي من عند الله جل وعلا بهذه الأمة، وأمة تخوض حرباً كهذه الضحايا فيها بالآلاف، القتلى فيها بعشرات الآلاف، وحتى الآن لا نزال على مستوى لا أقول المئات، بل بالعشرات حتى الآن فيما قدمنا في هذه المعركة، فالحمد لله حمداً كثيراً أولاً وأخرى.(41/10)
فشل صواريخ الباتريوت
كذلك من صور اللطف الإلهي، صواريخ الباتريوت هذه أيها الأحبة، صنعت منذ مدة طويلة، أو بداية التصنيع لها، ثم جربت فلم تظهر فعالية أبداً، إلا شيئاً قليلاً جداً، حتى فكرت الشركة المصنعة لهذه الصواريخ، وهذه تقارير دقيقة بإلغاء هذا الأمر، قالوا: هذا إنتاج يكلف الكثير، والجدوى الاقتصادية والمردود الفعلي من هذا الإنتاج ليس على مستوى البذل الذي يبذل فيه، ثم قدمت دراسة لهدف تطوير هذه الصواريخ، فطورت، وجرب منها أحد عشر صاروخاً على أهداف مختلفة، فلم يصب منها واحداً أبداً.
ثم تطورت وكان نسبة توقعات الذين أعدوها، ليست دقيقة أو عندهم التفاؤل الكبير فيها، وإذ بها تجرب هنا، فتعطي النتائج العجيبة الرهيبة، أليست هذه كرامة من كرامات الله لهؤلاء الموحدين؟ أليست كرامة مثل كرامات أفغانستان؟ والله إنها كرامة، وحري بالشباب أن يسجلوا كرامات الله لهم في هذه المعركة، هذه مسألة مهمة، وليست غريبة أو عجيبة، وفضل الله ورحمته ومنه وكرمه قد شمل هذه الأمة، لكن أقول: هي أمة ينالها الله برحمته، والله ليس في هذه البلاد أضرحة تعبد، ولا قبور يطاف عليها، ولا مزارات أو مشاهد يضحّى لها، أو يطوف الناس بها، يسألونها دفع الكربات وجلب الحاجات.
إذاً: فلا غرابة، ولا أقول: إن هذا حق على الله، أو المسألة معادلة، نحن لا نطوف بالقبور، إذاً لا بد أن ينصرنا، لا.
نقول: هذا برحمة الله، بمن الله، وبفضله وكرمه، وما يدعا لكم وأنتم نيام في هجيع الليل الأخير، من كبار السن من العجائز والشيوخ، الذين لا تعرفهم الكاميرات، ولا أجهزة الإعلام، وليس لهم اسم ذائع، ولا صيت بين، ولا شهرة معلومة، يرحمكم الله بهؤلاء، بعد منه وفضله ورحمته، وبما نقوم به من العناية بشريعة الله جل وعلا.
كل هذه من الأمور التي نتوسل إلى الله بها، أن تكون سبباً في حفظنا، والتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من أنواع التوسل المشروع.
أقول: طورت هذه الصواريخ حتى قاربت الإصابة فيها (90%)، وكانت فيما قبل فاشلة، وقبل استخدامها في المملكة العربية السعودية كانت أسهم الشركة المصنعة لصواريخ الباتريوت منخفضة في أسواق البورصة الدولية وأسعار الأسهم العالمية، وبعد بداية الحرب، ورؤية البراهين القوية الناجحة في فعالية هذه الصواريخ، ارتفعت أسهم هذه الصواريخ إلى نسبة ومعدلات عظيمة جداً جداً، فهذه من نعم الله جل وعلا.
كذلك من لطف الله ينزل صاروخ في منطقة سكنية، فيسقط الصاروخ على الشارع، لا يسقط يمنياً على بيت، قد يكون فيه الآمنون، ولا يسقط شمالاً على بيت، قد يكون فيه الوادعون والمطمئنون، وإنما يسقط في الشارع، ملائكة تحمل جرم هذا الصاروخ الذي سقط رأسه، فتضعه في هذا الشارع، فلا يسقط يميناً ولا يساراً، أليس هذا من لطف الله بكم؟ العمارة التي سقطت، ما ظنكم لو أن الصاروخ سقط في عمارة، كارتفاع هذه العمارة سبعة أدوار أو ستة أدوار أو غيرها، مليئة بالسكان والنساء والأطفال والشباب والشيوخ، ما مستوى المصيبة؟ مئات القتلى والجرحى سيكون، لكن سقط على عمارة فيها أفراد لا يتجاوزن العشرات، بمختلف الإصابة الموجودة فيهم، وكانت خالية إلا من قليل من البشر، أليست هذه من كرامات الله؟ أليست من المبشرات التي تجعلنا نطمئن لما يدور في هذه الأيام، نسأل الله ألا يكلنا إلى أنفسنا بأي حال من الأحوال.(41/11)
بما كسبت أيدي الناس
أيضاً مسألة أخرى أيها الأحبة: إن لله جل وعلا حكمة في أن يشمل هذا الانزعاج كافة الناس؛ لأن الغالبية من الأمة اليوم في غفلة، فمستقل ومستكثر، ولما بدأ ذلك المجرم الطاغية صدام حسين في ضخ البترول على مياه الخليج، والكتلة النفطية تضررت منها الحياة المائية، وسقطت الطيور أمواتاً هلكى على شطئان وخلجان وصخور الشواطئ، وظهرت الحيتان أيضاً مريضة وميتة، وتسممت الأسماك وتضررت؛ ذكرت قول الله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
أيدي تكسب يومياً الذنوب والمعاصي، وتجترح السيئات، والله إن من لطف الله بها أن يكون هذا نوع من أنواع الابتلاء والامتحان والتذكير والبأس الذي يدعوها إلى التضرع: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] هذه من نعم الله جل وعلا بالأمة، أن يكون إلى هذا الحد هو مستوى البلاء الذي يصيبها، وإلا يا أخوان مر بالناس زمان فيه غفلة عظيمة، تدخل على صاحب الفيديو، يا أخي الكريم! يا أخي الحبيب! لا تكن سبباً في هلاك الأمة، لا تبع للناس الفجور والفساد والدعارة، يا أخانا! يمكن أن ترى لنفسك، بدلاً من أن تجعل المصيبة والمعصية قاصرة على نفسك، تجعلها معصية متعدية فتنشرها على الناس جميعاً! مثل الذي معه سلاح، ليس ينتحر لنفسه، وإنما يقتل الناس معه ويقتل نفسه أيضاً.
تأتي إلى الآخر: يا فلان اتق الله، عد إلى الله، صلْ رحمك، بر والديك، صلاة الجماعة في المسجد، اترك الأمور المحرمة، دع الربا، دع المعاصي، وغفلة عظيمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] ليذيقهم كل الذي عملوا؟ لا: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] فأسأل الله جل وعلا أن يلطف بنا.
تقول عائشة: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟) الصالحون فينا يصومون ويصلون ويتهجدون ويزكون ويتصدقون، قال: (نعم، إذا كثر الخبث) إذا كثرت وانتشرت وظهرت الذنوب والمعاصي وفشت، والخبث هو الزنا، فنسأل الله جل وعلا أن يلطف بنا، وأن يتداركنا بمنه ولطفه.
أيها الأحبة! ومن العجائب والعجائب جمة، أن رجلاً أهله في لبنان يتصلون له، يقولون: تعال نحن في لبنان خائفين عليك.
كفا بك داءً أن ترى الموت شافيا وأن المنايا قد غدون أمانيا
كنا نظن أن الذي في لبنان، هو في أشقى الجحيم، فأصبح أهل لبنان يتصلون على أولادهم، يقولون لهم: تعالوا، رجل أهله يعيشون في لبنان يرسلون إليه رسالة، يقولون: تعال عندنا؛ خوفاً عليه، فزعاً عليه، فهذه من العجائب ونوادر هذا الأمر.
وعلى كل حال:
فالليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبه
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا(41/12)
أزمة الخليج ليست أول الأزمات والمصائب
أحبتي في الله: هل هذه أول مصيبة تقع على الأمة الإسلامية؟ لا، قبلها مصائب عظيمة، وهل هذه آخر مصيبة ستنالها الأمة؟ الله أعلم، إذاً لماذا ينزعج الناس هذا الانزعاج، وكأنها المصيبة التي ليس بعدها إلا قيام الساعة، ما الذي أصاب الناس؟ ألم يصب المؤمنين شدة بأس، دخل التتر والمغول بغداد حتى قال بعض المؤرخين: قتل من المسلمين ثمانمائة ألف، وفي بعض الروايات ألف ألف، أي: مليون من أهل السنة.
وفي الحروب الصليبية نزل النصارى على المسلمين في بيت المقدس، وخاضوا في دماء المسلمين، حتى خاضت الخيل إلى الركب في الدماء، أين أنتم من تاريخكم؟ وأين أنتم من ماضيكم؟ وأين أنتم من أسلافكم؟ هل هذه أعظم المصائب؟ وا خجلاه على أمة أفزعها الصاروخ يمر بسمائها.
إذاً ماذا يفعل الأفغان يا إخوان؟ يسقط صاروخ أسكود طوله ثلاثة عشر متراً بجوار خيامهم، ليس بجوار الفلل المسلحة (ثمانية عشر ملي حديد) (واثنين وعشرين ملي حديد) والسقف المزدوج وغيره، يسقط الصاروخ بجوار الخيام، وتطلق الغازات الكيماوية على المجاهدين، ويقول: خدا خدا، أي: يا ألله يا ألله بالفارسية أو بالبشتونية، وما عنده إلا أن يجأر ويتضرع إلى الله جل وعلا، وإذا رأى الغاز ينتشر ذهب إلى مواقع الطين، ويبلل ما يسمى بالبت، ثم يجعل اللثام على وجه، ثم يأخذ يدعو واللثام على وجهه.
هذا غاية ما يملكون، هل ضيعهم الله؟ هل نسيهم الله؟ إذاً أنتم لن ينساكم، فلماذا الفزع والهلع والخوف؟ الحمد لله رب العالمين على كل حال، الأمر الذي نريده يا إخوان، ألا نظن أن هذه آخر الفتن، أو أن نظن أن هذه أول الفتن، فقد سبق في تاريخ الأمة فتن أعظم من هذه، واحتوتها الأمة، ومرت بها، وجعلتها خيراً، واستفادت من الدروس والعبر فيها.(41/13)
أخذ الدروس والعبر من الأزمات
كذلك أيها الأحبة! من الأمور التي ينبغي أن ننتبه لها، أن نأخذ الدرس والفائدة مما يدور، الآن كثير من الناس يقول: أنا أفزع من صوت الصافرة، وفعلاً صوت الصافرة مزعج؛ لأنه أمر غريب على الأسماع، تجد الصوت لا يزعج أذنك من شدة صوته، ولا يشوش ذهنك، ولكن يجعل في قلبك شيئاً من الانزعاج تقريباً، وهذا أمر ملحوظ، تقول امرأة من النساء: والله إني إذا سمعت الصافرة أهتم وأحزن، قلت لها: لماذا؟ قالت: لأني أتذكر النفخ في الصور.
الأولى أن نجعل من القضايا التي تحصل الآن عبراً ودروساً، وفعلاً: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ:18] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ الآية} [النمل:87] ليس بالفزع الذي الواحد يقوم من نومه، والذي يسحب رداءه، والذي يسحب بطانيته، النفخ الحقيقي في الصور هو أحرى وأولى أن يهتم وأن ينشغل الناس بالإعداد والاستعداد له، أن نجعل في هذه الأمور عبراً وأي عبر، ولو أننا اعتبرنا فيما نرى وفيما يحدث من الحوادث، لكان لنا معها شأن عظيم.
والشيء بالشيء يذكر في باب العبر، في حج العام الماضي لما تدافع الناس في نفق المعيصم، وحصل ما حصل فيه من الجرائم، وحدث أن خرج الناس عراة، لا إزار ولا رداء، يخرج المرء وعورته (قبله دبره) مكشوف للناس أجمع، فيأتيه الحاج الآخر، يقول: يا فلان استر عورتك! وهو يمشي كالمجنون لا يدري أن عورته بادية، فأتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا، قالت عائشة: يا رسول الله! النساء والرجال؟ قال: يا عائشة الأمر أكبر من ذلك).
إذا كان نفق اسمه نفق المعيصم، تدافع الناس فيه فخرج الناس عراة، شغلوا وذهلوا عن أنفسهم، تدافع بسيط في شأن من شئون الدنيا، يخرج الواحد يذهل عن نفسه فيخرج عريان فلا يدري، فما بالك إذا كنت في يوم القيامة، الأمر أعظم من ذلك، فينبغي أن ننتبه، وأن نستفيد من هذه الأمور التي تحصل.
كذلك أيها الإخوة! حينما نرى لهب هذه الصواريخ، حينما نرى صوت هذه الرجفة أو الوجفة في سقوط الصاروخ أن نعتبر بها؛ لأن هناك من أحداث الآخرة ما هو أشد وأدهى وأعظم من ذلك، فهي أولى بالتدبر وأولى بالتفكر والاعتبار.(41/14)
قتال العراقيين جهاد
هنا مسألة أيها الأحبة! حصلت فتنة في نفوس بعض الناس، قال بعضهم: هذه مصالح أمريكية بحتة، وقال بعضهم: هذا جهاد في سبيل الله بحت، واختلف الناس، وأحجم بعض الصالحين، وأصاب الناس نوع من الفتنة، يسألك الجندي: لو قتلت على حدودنا، هل أقتل مجاهداً؟ هل أموت شهيداً في سبيل الله؟ الناس في شك وريبة، وحينما تحصل الفتنة ينقذ الله جل وعلا أمة الإسلام بالقول السديد من صالح العلماء.
لقد مرت الأمة بفتنة عظيمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، كما يقول أحد السلف: فأنقذها الله بقول أبي بكر في الفتنة، في قتال المرتدين ومانعي الزكاة، وكانت نصرة للإسلام والمسلمين، وأيضاً أنقذ الله الأمة في عهد المأمون بالإمام أحمد بن حنبل، في الفتنة بخلق القرآن، فتن الناس فتنة عظيمة وثبت الإمام أحمد، حتى انجلت هذه الغمة، ومرت بعدها فتن، وأنقذ الله الأمة بصالح العلماء.
ومرت الآن بنا هذا الفتنة، فأنقذنا الله جل وعلا بقول الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، شرح الله صدره للحق في هذه المسألة، وتبعه عدد كبير غفير من العلماء ووافقوه، قالوا: قتال هذا الطاغية في العراق جهاد في سبيل الله جل علا، ومن قتل في هذا نسأل الله أن يكون من الشهداء إذا أحسن نيته، وراجعوا هذا الكلام في مجلة الدعوة في العدد الماضي في هذه المسألة.
فيا إخوان! لماذا تختلف الآراء؟ لماذا نختلف وبعضنا يصيبه نوع لا أدري ماذا أسميه في الحقيقة، الأجلاء من علماء الأمة أفتوا في هذه المسألة، وإن قتال هذا الطاغية في العراق جهاد واجب، يقول الشيخ عبد العزيز بن باز في قول الله جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
قال: إذا كان القتال مشروعاً في حق الفئة المؤمنة التي بغت، فمن باب أولى أن يشرع القتال في حق الأمة الكافرة، وهل يشك أحد في كفر طغيان البعث والحرس الجمهوري وطواغيت العراق؟ لا أحد يشك في هذا، إذاً فلماذا التردد! نحن الآن نعيش مرحلة جهاد في سبيل الله، كما يعيش المجاهدون في أفغانستان جهاداً في سبيل الله، واعلم أنك إن تكفل أسرة جندي من جنودنا على الحدود، فأنت تعمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا، ومن جهز غازياً فقد غزا) أم لا يصلح الجهاد إلا هناك وعندنا لا يوجد جهاد؟ لا.
ينبغي أن ندرك هذه المسألة إدراكاً دقيقاً، والمصيبة أن البعض يقول: لا.
لعل بعض العلماء لا يدركون حقيقة الوضع، أصبحنا نتعلل بهذه المسألة إلى درجة أننا جعلنا علماءنا أغبياء، هل تفوت على كبار العلماء، وعلى رأسهم سماحة الشيخ والأجلاء من علماء الأمة أن هذه المسألة فيها تضليل أو شيء من هذا؟ هم يدركون حجم المصيبة.
لماذا جاءت القوات الأمريكية؟ لماذا اشتركت؟ هل جاءت حباً فينا؟ هل جاءت جهاداً في سبيل الله؟ ماذا وراءها؟ ما موقفنا؟ ما هي واجباتنا؟ أعطوا كل أمر قدره، وأخرجوا هذه القضية قضية قتالنا نحن جيشنا، السعوديون ومن قاتل معهم، ممن يحتسب قتال هذا الطاغية لكفره ولبعثه ولردته، ولدفع عدوانه عن بلاد المسلمين، من يحتسب هذا لوجه الله فهو جهاد في سبيل الله، وأفتى بهذا العلماء.
ثم بعد ذلك يأتينا من يقول: لا.
ربما بعض المشايخ لا يعرفون، سابقاً كنا إذا قلنا: يقول الشيخ الفلاني هذه المسألة، يقول: خالفكم الشيخ ابن باز في هذه المسألة، والقول ما قاله الشيخ، أي: على العين والرأس أن نجعل قول سماحة الشيخ هو المعتمد، والآن لما جاءت الفتنة والشوكة، وجاء الحرب والقتل والقتال، جئنا نقول: الشيخ مضلل عليه، هذه مسألة خطيرة، وتدل على عدم الأدب والثقة حسب المطلوب الكامل مع العلماء.
ينبغي أن نعطي علماءنا قدرهم، وأن نعرف لهم وزنهم، وأن نعرف أن الذين كنا نرجع لهم في مسائل الطلاق، والبيع والشراء، والحوالة والضمان، والصلاة والصيام والزكاة، أيضاً نعود لهم في الجهاد، لا أن نجعل السؤال عن الطهارة، وعن الصلاة والزكاة والصوم، ولما جاء القتال؛ أتينا نبحث يميناً ويساراً، هذا التسلل هذا إما أن يكون جبناً وخوفاً، والجبان الخائف يتتبع الرخص من أقوال المخالفين، وإما أن يكون عدم ثقة بالعلماء، وهذه أدهى وأعظم من الأولى ولا حول ولا قوة إلا بالله! هناك من تناقشهم في هذه المسائل، يقول لك: كلام ابن باز على العين والرأس، لكن يبقى هناك مشايخ آخرون خالفوه في هذه المسألة، الآن علماء ابن باز، ومن وافق من أجلاء علماء المملكة، والعلماء الآخرون، كلهم قالوا: إن هذا جهاد في سبيل الله جل وعلا، أو هذه القضية على وجه الدقة والتحديد مربع أو مثلث، الضلع الذي يخصنا نحن، يخص جيشنا وقواتنا، هو الجهاد في سبيل الله، حتى لا نتردد في هذه المسألة.
وإني أسأل إخواني يوم أن خرجت ثلاث عشرة سيارة تقودها البنات والنساء، ولا ألومكم وأنا معكم، كلنا وقفنا وقفة رجل واحد ضد هذه القضية التي عرفنا ما وراءها ومن دبر لها، ومن يبعثها ومن يخطط لها، اتفقت آراؤنا وأقوالنا في قضية قيادة المرأة للسيارة، وخطورتها وأبعادها؛ ولما جاءت قضية الجيوش البعثية المحتشدة على حدودنا أخذنا نقلب الأقوال والآراء، اتفقنا على قضية قيادة المرأة، وعجزنا أن نتفق على قضية أمة يوشك أن تداس وتدنس وتغتصب وتنتهك، كما حصل لإخواننا الكويتيين، أي ورع إن كان هذا ورعاً؟! ينبغي أن ننتبه لهذه القضية الخطيرة يا إخوان، ثم مع هذا كله، وفوق هذا كله، كلٌ يبعث على نيته، النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون ماله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد) جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن جاء رجلٌ يريد مالي؟ قال: خوفه، قال: فإن لم يخف؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: أنت في الجنة، قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار).
هل بعد هذه النصوص ما يجعل أحدنا يتردد في الحكم على هذه القضية الدائرة الآن؟ هذا فيما يتعلق بنا نحن، أما فيما يتعلق بالقوات الأمريكية، فلا شك أنها جاءت حفاظاً على النفط، حفاظاً على المصالح الاستراتيجية التي تتعلق بهم، النفط شريان الحياة بالنسبة للعالم الغربي، هذه مسألة مهمة، وينبغي أن ندركها جيداً، وإلا لو جاءت هذه الدول وجاء الحلفاء لإنصاف المظلوم، فلماذا لم ينصفوا المجاهدين في أفغانستان؟ لماذا لم ينصفوا الناس في الحبشة وفي أثيوبيا؟ لكن الحمد لله الذي جعل مصالحهم عندنا، حتى يسخرهم الله لنا في الوقوف أمام هذا الطاغية، وإلا والله يا إخوان لا أقول هذا إرجافاً ولا تثبيطاً: هذا الطاغية بقول المحللين والعسكريين الكبار الذين يرصدون ويرقبون هذا الأمر، عنده مخزون من الأسلحة طوال الحرب العراقية الإيرانية لا يخطر لكم على بال، وحسبكم أن الطلعات بلغت الآلاف وهي لا تزال تدك في قوته العسكرية، والله لو ملك أن يغرقكم في حمام من الدماء لما ترك إلى ذلك سبيلاً.
حتى لا يقول أحد: إنه دخلتنا العواطف، أو دخلتنا هذه المسائل، كيف وقد رأينا ما فعل بالإخوة الكويتيين، البنات يغتصبن، الأعراض تنتهك، الأموال تسرق، الصبايا يقتلن، الأطفال يموتون جوعاً وعطشاً، الثكالى والشيوخ والعجائز يشردون، ماتوا على الطرق حراً وعطشاً وجوعاً، أتظنون أن هذا سوف يعامل أهل الكويت بمكيال، ويعاملكم أنتم بمكيال؟ لكن يا عباد الله! احمدوا الله جل وعلا أن جعل مصالح هذه الدول في أرضكم، فسخرهم الله للحفاظ على هذه المصالح، وأيضاً لهم هدف آخر، حتى لا تكون هذه القوة يوماً ما ضربة في إسرائيل، وهذا أمراً ندركه جيداً، ولكن يا إخوان:
البعث بعث في العراق وغيره تتواصل الأسباب بالأسباب
هل تظنون أن البديل في العراق، حتى لا تضرب القوة العسكرية بديل إسلامي يمكن أن يسخر لخدمة القضية الفلسطينية، أو لإنصاف المظلومين في فلسطين؟ حتى نقول: لا.
ادفعوا هذا الطاغية، واتركوا قوته العسكرية، ليستفيد العرب في المواجهة القادمة، لا والله، البديل الآن، إما بديل اشتراكي شيوعي أو شيعي، يتنافس على المنطقة الآن، وكل يعد أوراقه، ونسأل الله جل وعلا أن يأتي بأمر من عنده {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] أن يأتي بديل لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، على الأقل أن يأمن الأبرياء على أعراضهم ودمائهم وحدود حرياتهم التعبدية في شعائرهم.
ينبغي أن ندرك هذه المسألة جيداً يا إخوان.
لما حصلت هذه الفتنة، شاب آخر يقول: للأسف أن هناك مشايخ يسمون الآن قتال الجيش السعودي جهاد في سبيل الله، إذاً ما هو الجهاد؟ ماذا تسمي الجهاد إن لم يكن صد هذا العدوان؟ أسألكم بالله لو أن القوات العراقية استولت على الحفجي استيلاءً كاملاً وبقيت فيه، هل سيأتي الشيخ عائض القرني أو سلمان العودة ليلقي محاضراته كالمعتاد في الخفجي؟ على أبسط مثال يفقه الصغير والكبير.
إذا سرق سارق في الخفجي هل ستقطع يده، أو يحال للقانون العراقي؟ إذا قتل قاتل هل يقتل؟ إذا أقيم ضريح ومزار يعبد من دون الله، وينذر، ويتوسل به وإليه في دفع الكربات وجلب الحاجات، هل سيجد المنكرون سبيلاً إلى إزالته وهدمه؟ لا والله، إذاً ما هو الجهاد إن لم يكن هذا الجهاد؟ ما هو الجهاد أيها الإخوة؟ ثم أيضاً إن المجاهد في سبيل الله قد يكون فاسقاً، المجاهد قد يكون عاصياً، يسألني أحد الرجال في الحرس الوطني من الجنود، كأنه يذكر على نفسه بعض الذنوب والمعاصي، إذا قتل في هذه المعر(41/15)
مسألة المظاهرات في الشارع الإسلامي
وأما ما يسمى بالشارع الإسلامي، مظاهرة في الجزائر تندد بالقوات الأجنبية، وتدعو إلى التضامن مع المجاهد الأكبر صدام حسين عبد الله المؤمن.
أنا لا أدري من أين دخل الجهاد في هذا الرجل؟ دخل الجهاد من أربعة وستين ألف حانة من حانات الخمور في أنحاء العراق! دخل الجهاد من قتل الشيخ عبد العزيز البدري بعد أن أفتى بقوله في الاشتراكية، وقطع إرباً، ووضع في كيس، وسلم لأهله، فقام أخوه أمام الناس وأخرج أشلاء أخيه يقول: انظروا ماذا فعل؟ خرج الجهاد من قتل الشباب عندما جمعوا تبرعات لـ أفغانستان في العراق! خرج الجهاد من الأضرحة التي تعبد من دون الله جل وعلا، ومن تحكيم القوانين الوضعية.
خرج الجهاد من الجهل بالدين والبدع المنتشرة، من أين يخرج الجهاد؟ يخرج الجهاد من عقول السذج والغوغاء والبسطاء، الذين تنطلي عليهم هذه الحيل، ولذلك يقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46].
لأن الجماهير والجموع تردد، الآن أربعة منكم لو أخذناهم يمشون في مسيرة، وأخذت المسيرة تردد شعار، ستجد نفسك بعد لحظات تسخن ثم تصبح مثل أسكود، تنطلق معهم وتردد ما لا تشعر، وكما يقول خبراء علم النفس، قالوا: المظاهرات تبدأ أولاً بمطالبة، أي: مظاهرات العمال مثلاً في أي دولة من الدول الغربية تبدأ بزيادة الأجور، نريد زياد أجور عمال المناجم ومحطات البنزين، مارك أو دولار أو جنيه كل شهر، ثم تسخن المظاهرة بعد قليل، نريد رفع الظلم والاستبداد ضد الطبقة الكادحة، يبدأ الشعار يسخن، نريد إسقاط الحكومة، ويبدءون يرددون، نريد أن نتوجه إلى مقر الرئاسة، ثم يقتحمون هذا المقر ويحصل الشغب.
يا إخوان! حينما يعود بعضهم إلى بيته، يقول: عجيب نحن خرجنا بتنظيم من نقابة العمال، على أننا نطالب بزيادة مارك شهرياً، ما هو الذي جعلنا نطالب بإسقاط الحكومة؟ دل ذلك على أن أسلوب الغوغاء والتجمعات والبسطاء هؤلاء، يجعل الإنسان يدخل في نظام دون أن يشعر، ويردد ما لا يفقه ولا يدري، وهذا أمر ملاحظ ومجرب، وعلى حد قول ابن الجوزي: مر أحدهم برجل واقف مع أناس يضربون رجلاً، فقال له: لماذا تضربونه؟ قال: والله لا أدري وجدتهم يضربون، فخلعت نعلي أضربه حسبة لله، فالعمل مع الجماهير بهذه الطريقة الغوغائية يجعل الإنسان يفعل ما لا يفقه، ويردد ما لا يدري.
فنقول أيها الأحبة: إن ما يسمى بمظاهرات الشارع الإسلامي في هذه القضية، ليست عبرة أو حجة، ومن المؤسف أن بعض الدول حتى من فيها ممن ينتسبون إلى العمل الإسلامي والجماعات الإسلامية، ولا نقول هذا الكلام عداوة للجماعات الإسلامية، ولكن لبيان خطورة ما تمر به الأمة من الأزمة المعاصرة، أنهم دعوا إلى المناظرة العلنية على الملأ ورفضوا.
بعض قيادات الجماعات الإسلامية قيل لهم: تعالوا، أنتم تؤيدون صدام حسين، أم تقولون: لماذا يضرب العراق؟
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
لا شك سيكون فيها ضحايا، ولكن من أجل ألا يجرح من في العراق، ترضى الأمة بتشريد الكويتيين ونرضى نحن بحشد الحدود علينا والدخول إلى أراضينا، لا والله.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلام
هذه مسألة، إذاً الذين يطنطنون وراء هذه المسألة، قد دعوا إلى المناظرة الشرعية أمام الجماهير في وسائل الإعلام، وعدد ممن يتبنون القول بالوقوف مع طاغية العراق صدام حسين رفضوا المناظرة الشرعية، إذاً ماذا تريدون؟ عدد من العلماء ذهبوا إلى بغداد، ولما وصلوا إذا بالمهيب الركن يخرج على التلفاز، ويؤكد أن الكويت الولاية رقم تسع عشرة من ولايات العراق، ولما جاء العلماء لمقابلته، قال: أهلاً وسهلاً بكم في كل ما تريدون إلا الكويت، فهي ولاية من ولايات العراق لا يمكن التفاوض عليها.
وهل بعد هذا بلاء؟ وهل بعد هذه مصيبة؟ هذه أيضاً من أخطر المسائل التي فتنت بها الأمة في هذه الأزمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كذلك الذين يقولون ويطنطنون خاصة في إذاعة عمَّان.(41/16)
الأنظمة لا تعني عداوة الشعوب
وبالمناسبة فحينما نتكلم عن دولة معينة، فإننا لا نعادي الشعوب، أخوك المسلم العراقي، وأخوك المسلم اليمني، وأخوك المسلم الأردني، وأخوك المسلم المصري، وأخوك المسلم السوداني: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
لا مجال للإقليمية في العمل الإسلامي، والدعوة إلى الله جميعاً، نبيكم لكم جميعاً، للأبيض والأحمر والأسود، للعرب والعجم، لا نكون عصبية إقليمية سعودية فحسب، لكن نقول: بالنسبة للأنظمة، بالنسبة للأبواق المأجورة، بالنسبة للأيدي والأقلام المستأجرة، هذه لا محل ولا مكان لها عندنا.
الذين يطنطنون بقضية فلسطين، ويقولون: جعلوا القضية الكبرى قضية الوجود الأمريكي وما يتعلق به، وهذه أيضاً من المصائب، نحن أولاً أيها الإخوة، لا نقول: إن وجود القوات عندنا خير محض، بل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، هذه مسألة اعرفوها جيداً، هذا الوجود ليس خيراً محضاً، وإنما ظهر الآن أن خيره أكثر من شره، وإلا فيه شر، هذه مسألة.
المسألة الثانية: النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب الناس يقول: ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، أي: النفس فيها شر، وفي السنة أن الرجل إذا بنى بزوجة أن يضع يده على ناصيتها ويقول: وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه، أي: الزوجة قد يكون فيها شر، فلا يمكن أن تكون قوات الحلفاء كلها خير، بل فيها شر، لكن فيما يظهر ويحصل الآن نرى خيراً يغلب على الشر، ونسأل الله أن يكون نهاية هذا الشر، بزوالهم ورحيلهم بعد نهاية هذه الأزمة، ودحر هذا الطاغية الباغي في عدوانه.
ينبغي أن يكون -يا إخوان- عندنا موازين نعقل بها الأمور، وألا نأخذ كل فكرة بتسليم بحت، أو أن نعتبر أن هناك خيراً لا شر فيه، أو شراً لا خير فيه، لا.
ينبغي أن نعطي الأمور مقاييسها وموازينها: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
فواجبنا أن ننظر بعدل، والنبي صلى الله عليه وسلم، جاءه عتاب من الله جل وعلا؛ لما سرق أحد المسلمين، واتهم بها أحد اليهود، نزلت الآيات تعاتب النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105] فهذه أمة عدل وعدالة، لا بد أن نعطي الأمور مقاييسها الدقيقة بكل حال من الأحوال.
ثم بعد ذلك أيها الإخوة! الذين -كما قلت- يبكون على دماء فلسطين، والله لن يكونوا أصدق منا في حبنا لـ فلسطين، ولن يكونوا أتقى منا في الرأفة والرحمة بالفلسطينيين، إذاعة عمان: الفلسطينيون، فلسطين فلسطين، يا حكام الأردن! ماذا فعلتم بالفلسطينيين في مذبحة أيلول الأسود، أكثر من خمسين ألف فلسطيني ما بين طفل وامرأة وبنت وفتى وفتاة، ذبحوا لما حسوا أن هناك ريحة خطر على الحكم الأردني، قتل خمسين ألفاً أو أكثر من ذلك، والله إن ما قتل في مذبحة أيلول الأسود يفوق ويزداد عن عدد القتلى في مذبحة تل الزعتر وصبرا وشاتيلا ودير ياسين.
إذاً: من الذي يبكي على دماء الفلسطينيين؟ يبكي عليها الذي يذبحهم في أيلول الأسود، أم تبكي عليهم المنظمات التي ترتب للاغتيال ترتيباً دقيقاً، من الذين يبكي على الفلسطينيين؟ نسأل الله جل وعلا أن يأتي بذلك اليوم الذي يكبر فيه المسلمون من جميع أنحاء العالم في فلسطين، فاتحين مكبرين مهللين مقاتلين لليهود، الصدق في القضية الفلسطينية ليس الدعاوى الكاذبة الرنانة.
ما قتل من الفلسطينيين في مذبحة أيلول الأسود أكثر مما قتله اليهود، وهذه كلمة حق، ولا نبرِّئ فيها اليهود، بل أن قطرة دم طفل فلسطيني أعظم عند جميع المسلمين من أي شيء آخر، وقطرة دم بريء عراقي أيضاً ليست هينة علينا، لكن هناك أمور تحتاج إلى الحزم والحسم والبتر، وتحتاج إلى النهاية، وألا تبقى المصيبة تمثيليات ومسرحيات، ويعيش الناس في فزع لا يعلم حدوده ومنتهاه إلا الله جل وعلا.
إذاً: أيها الأحبة! ينبغي أن ندرك جيداً، أن عداوة الأنظمة لا تعني عداوة الشعوب، فإن كان هناك نظام وقف موقفاً سيئاً وسلبياً ضد المسلمين في المملكة، وضد علماء وحكام المملكة، فإن ذلك لا يعني أن نعادي الشعوب أبداً، كنت في بداية الأزمة في محل (بوفية) ووقفت أشتري حاجة لأحد الصغار، فقلت لرجل يمني في البوفية: لماذا موقف حكام اليمن هكذا؟ قال: يا أخي! أنا ليس لي دخل وكاد أن يبكي، قلت: يا أخي! أنت أخي وحبيبي، وأنت ليس بيني وبينك أي شيء، عداوات الأنظمة لا تعني أني أعاديك، ما ذنبك أنت حتى أعاديك وأتسلط عليك؟ فانبلج وجهه بالأسارير والبشر، وانطلق مرة أخرى.
فينبغي أن ندرك أننا كوننا نحارب العراق لا يعني أن نكره كل عراقي، لا والله، أو نكره كل أردني، وكل فلسطيني، لا.
لكن أن نعطي الأمور مقاييسها وموازينها، وإلا لو نفذنا ما أرادته السياسة اليهودية العالمية، في أن تحدث العداوات، الشعب السعودي كله يكره الشعب الأردني كله، يكره الشعب العراقي كله، يكره الشعب اليمني كله، عند ذلك يصبح الإنسان عدواً لجميع من حوله من المسلمين، وحينما تأتي حرب فاصلة بين الإسلام والكفر، يأتي اليمني يستنجد: يا سعودي، أقول له: لا.
أنت يمني، سبق أن تعادينا، يأتي السعودي يا عراقي، أقول له: لا.
أنت عراقي.
ويأتي كل منا يعير الآخر بجنسيته وإقليميته، فنقف هكذا أحزاباً وجماعات، فيقتلنا أعداء الإسلام بهذه الطريقة، لكن ينبغي أن ندرك أن الوضع القائم وضع مشروع، خاصة وقد رأينا كيف دخل هؤلاء في الخفجي، واستماتوا استماتة عجيبة وغريبة، قدم جند حزب البعث دماءهم على أرض الخفجي لله؟! في سبيل الله؟! لينصفوا مظلوماً؟! ينقذوا امرأة؟! وهذا الحماس للباطل، فأين حماسكم أنتم في الحق؟ وأين بسالتكم وتضحياتكم وجهادكم؟ ينبغي أن ندرك هذه المسائل حتى لا يحدث الشرخ في ولاء المسلمين بعضهم لبعض.(41/17)
العداء للإسلام من ثوابت السياسات اليهودية والنصرانية
أخيراً أيها الأحبة! ينبغي أن ندرك أن العداء للإسلام من ثوابت السياسات اليهودية والنصرانية، حتى وإن وقفوا معنا موقفاً يساعدنا ويساندنا، والحمد لله الذي سخرهم لنا فيه، لا يعني ذلك أن تبقى أمريكا حبيبة القلب والروح، أو تبقى دول الحلفاء حبيبة القلب، لا والله.
نحن نشكر الله أن سخرهم لنا في هذا المضمار {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].
كلمات الشكر يمكن أن نزجيها لهم في صد هذا العدوان بمشاركتنا فيه، لكن أن نحبهم، أن نشعر في القلب بطمأنينة وارتياح وولاء وخضوع لهم، لا.
هذه مسألة من أخطر المسائل التي نحتاج إلى فهمها، والتفريق فيها في كل حال.
مسألة فاتت عليّ بالمناسبة فيما يتعلق بالشارع الإسلامي، في إحدى الدول قامت مظاهرات تريد المشاركة مع المجاهد الأكبر صدام حسين، لطرد القوات ومقاتلة الحلفاء، أحد المسئولين السياسيين في تلك البلد، أحضر سيارات وقال للذي سيذهب يقاتل مع صدام هذه سيارة يركبها، لم يقف إلا أربعة، فوجدوا أن السفارة العراقية قد أعطت هؤلاء المتظاهرين أجوراً على هذه المظاهرة، خذ استلم واذهب ظاهر مع الناس لا أقل ولا أكثر، فينبغي ألا ننزعج من هذه المسألة أبداً.(41/18)
إيجابيات أزمة الخليج(41/19)
اقتناء السلاح والتدرب عليه
وينبغي ألا نكره هذه المصيبة، فلعل أقل ما فيها أن الناس أصبحوا يحبون أن يقتنوا السلاح، أن يتدربوا على السلاح، أن يحدثوا النفس على الجهاد: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من النفاق) أصبح الإنسان يشعر أن الدولة ليست هي كل شيء، نعم الدول من واجبها إعداد الجيش، القوة العسكرية اللازمة لصد العدوان، لكن لا يعني ذلك أن يبقى الإنسان امرأة.
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
أن يبقى الإنسان امرأة لا يعرف كيف يقاتل أو يدافع، أو يتدرب ويتطوع، أو يتمرن، لا.
(ارموا واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا) (ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميا) (من تعلم الرمي ثم تركه، فتلك نعمة جحدها أو كفرها).
أمة جهاد: الرمي وصية أحد الصحابة: [علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل] أن تتعلم الرجولة، لعل هذه من الأمور التي بينت لنا حاجتنا إلى أن نتعلم حمل السلاح، وأن نتعامل معه جيداً.(41/20)
كشف الصداقات العربية الزائفة
كذلك من الإيجابيات في هذه المحنة، كشف الصداقات العربية الزائفة، كنا نظن دول المواجهة والصمود والتصدي، وجبهة كذا وجبهة كذا، والقوة العربية والوحدة العربية، ومؤتمر القمة، والذي عنده تسجيل وثائقي بالفيديو لآخر مؤتمر قمة عربي عقد في بغداد، يقارن به الوضع الحالي في واقع الدول العربية، تضحك وتملأ فاك بالضحك، من الشعارات والكلام والعبارات الجوفاء، وفي نفس الوقت تجد الواقع الذين نعيشه:
وإخواناً جعلتهم سهاماً فكانوها ولكن في فؤادي
وإخواناً حسبتهم دروعاً فصاروها ولكن للأعادي
فمن نعمة الله أن الأمة عرفت أعداءها، وعرفت كيف تواجه وكيف تقف، وكيف تعطي وكيف تمنع وكيف تمول، كل هذه لعلها من الدروس التي نفيدها ونستفيدها من هذه القضية الخطيرة.(41/21)
زيف الشعارات الجوفاء
كذلك من الدروس أيها الإخوة! لا حياة لنا، ولا عزة لنا، لا بقاء لنا بالشعارات الجوفاء، التراب العربي، والأرض العربية، والدم العربي، والكلام الفارغ كله أثبت فشله للمرة الخامسة والستين، ليس للمرة الثانية، العروبة في حرب سبعة وستين أتت بالمصائب في حرب الأيام الستة، في حرب ثلاثة وسبعين، لم تأتِ هذه العروبة على الأمة بخير أبداً؟ لأن التجمع على أساس العصبية والإقليمية تجمع فاشل أبداً.
لكن التجمع على الكفر يختلف، ألمانيا الشرقية لما هدم سور برلين ودخل الألمان الشرقيون إلى ألماني الغربية، فتح الألمان الغربيون لهم صدورهم، وفتحوا الكنائس لهم، وأخذوا يمدونهم ويعطونهم، وتذكروا قول الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] ولاية حقيقة بين الكفار فيما يعتقدونه، أو على الأقل في عداوتهم للإسلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] إن لم نكن نحن على مستوى الولاء الكامل للعقيدة والدين؛ تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
فلا بد أن ندرك أن دعاوى العروبة دعاوى فاشلة، وأنه لا يمكن أن نتحد إلا بالإسلام، لا يمكن أن نجتمع إلا على الإسلام، دعوى العروبة ودماء العروبة والكلام الفارغ، وجميع الشعراء الذين شاركوا في مهرجانات المربد الثقافية في العراق، وما يتعلق بها، وطالما تغنوا بأغصان الشجر العربي، والطير العربي، والعروبة وما أدراك ما العروبة، وكما يقول الشيخ عبد الرحمن الدوسري أسكنه الله فسيح جناته، وجمعنا به في مستقر رحمته وإياكم، يقول: كانوا يدرسون الطلاب أنا عربي عربي أحب كل عربي، العروبة جروبة، رحمه الله رحمة واسعة، كان يفقه هذه القضايا السياسية من سنين طويلة مضت، والآن يرى العرب هذه الشعارات التي كانوا يتغنون بها.
هذا ما جرته العروبة ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلا بد إذا كان هناك ولاء وتجمع وتكتل، فليكن على سبيل الحق، وفي سبيل الدين وشعار الإسلام والعقيدة: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أن نجتمع على دين، وأن نحمله بقوة عظيمة بإذن الله جل وعلا.(41/22)
واجباتنا في ظل الأزمة(41/23)
الدعاء والعمل الصالح
كذلك أيها الإخوة! من واجبنا في هذه المحنة أن نكثر من الدعاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] من الذي صرف هذه الصواريخ؟ شيء سقط في البر، وشيء يسقط رأسه التقليدي، وشيء يسقط في مكان ليس فيه أحد، أو في عمارة ليس فيها سكان، هذا الدعاء والقنوت، لعل الله جل وعلا أن يرحم الأمة به، ويا أخي لا تستقل شيئاً، يأتي يوم تصوم فيه، ما يدريك أن الله جل وعلا ببركة صيامك ذلك اليوم يرحم الله هذا الحي فيبعد الصاروخ عن هذا الحي قليلاً، سجودك وركعوك وصدقتك: (إن الصدقة لتطفئ غضب الرب) لتدفع سبعين باباً من أبواب البلاء، لا تستقل عملاً أياً كان، بل عليك أن تجتهد بقدر ما تستطيع في بذل جميع الأعمال الصالحة، واجعلها أمامك لعل الله أن يتقبلها منك، وأن يدفع ذلك البلاء عنك: [ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بعمل صالح وتوبة].(41/24)
التوبة والاستغفار
كذلك اكثروا من التوبة والاستغفار: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] دعاء الكرب: (لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين) دعاء ذي النون ودعاء الكرب: (لا إله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم) ينبغي أن نردده دائماً في صلواتنا، وفي قنوتنا، وفي دعائنا وفي سجودنا، بإذن الله جل وعلا.
كذلك من التوبة رد المظالم، حقوق الناس، أموال المساكين، الظلم، من كان ظالماً في مال أو في عرض، أو ظالماً لزوجه، أو لقريب، أو لضعيف، أو لفقير، فليتق الله وليقلع عن الظلم، كما في الحديث: (أن شاباً دفع امرأة عجوزاً على وجهها، فسقطت وانكسر إناؤها، فالتفتت إليه، وقالت: ستعلم يا غدر إذا وقفت بين يدي الله جل وعلا، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم قولها، وقال: هلكت أمة؛ لا يقتص لضعيفها من قويها، أو لا ينصف المظلوم فيها) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
العدالة في تطبيق الحدود (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) ترك الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279] التوبة إلى الله من هذه الأمور جميعاً هي من أسباب دفع البلاء ورفع الكربة والغمة عن الأمة أجمع.(41/25)
الوقوف مع العلماء وولاة الأمر
وأقول أيها الأحبة: هذا أوان الوقوف مع العلماء ومع ولاة الأمر، ومع جميع المخلصين الغيورين على هذه البلاد، لا أن تقف غيرتنا عند قيادة امرأة، أو عند تمريض النساء، وعندما تأتي القضايا الكلية الكبرى، نجد من يهرب إلى مكة أو إلى المدينة، أو يعتزل يميناً ويساراً، لا.
هذا وقت العمل والجد والجندية والتطوع، اعرفوا هذا جيداً، ولندرك أن في هذا جهاداً في سبيل الله جل وعلا.(41/26)
عدم التقليل من شأن العلماء المخالفين
ختاماً أيها الأحبة! قد يكون من أحبابنا أو من دعاتنا أو من علمائنا، من أخطأ تحليل الأحداث قبل الحرب، وقال مثلاً: لن تقوم حرب أبداً، فقامت حرب، أو قال: هذه القوات لن تقاتل، فقاتلت، وصدت شراً عظيماً أنتم رأيتموه بأعينكم، أو قلنا سيحدث كذا وكذا، فوجدنا خلاف ذلك، هل هذا الخطأ في التحليل، أو عدم الدقة في التحليل، هل هذا يقلل من شأن دعاتنا؟ أو يقلل من شأن علمائنا؟ كم هدى الله على أيديهم من الضلال، كم سهروا الليالي، كم تعبوا في الطلب والعمل والجد والتحصيل، لإفادة شبابنا وأبنائنا، كم تحملوا في سبيل الله، كم لاقوا لوجه الله جل وعلا، هل عند هذا، أو عند أتفه تحليل معين أو قضية معينة، نقول: لا.
فلان قال لا يوجد حرب في الشريط الفلاني، وقامت حرب.
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
هب أنه أخطأ، هل أخطأ متعمداً أم مجتهداً؟ أخطأ مجتهداً، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، فالخطأ في تحليل الأحداث قبل بداية الحرب ينبغي ألا يكون سبباً في الاستهزاء أو في التقليل من شأن بعض الدعاة أو العلماء حينما حللوا تحليلاً قد يكون فيه عدم دقة في تحليل الحدث، وما الذي حصل؟ إنسان رأى رأياً وتبين الأمر بخلافه، لا نسمع له شريطاً، ولا محاضرة، ولا نستفيد من دروسه ومواعظه، ولا من كتبه ومؤلفاته لا.
انتبهوا يا شباب الصحوة؛ حتى لا تضربوا، فتنشقوا فيما بينكم، وتختلفوا على أنفسكم، هذا اجتهاد مضى، فإن كان صواباً فلصاحبه أجران، وإن كان خطأ فلصاحبه أجر؛ لأنه معاذ الله أن يضلل أو يجتهد في التضليل أو الكذب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ختاماً: أسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده معصوماً، وما سمعتموه إن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، أستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(41/27)
عزة المسلم
العزة خلة نادى بها الإسلام، وغرسها في نفوس الناس، ونشرها في أنحاء الأمة، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (أحب من الرجل إذا سيم خطة خسف أن يقول بملء فيه: لا) ولقد هدى الإسلام إلى أسباب العزة وبيَّن أسبابها وموانعها التي تحول دونها ودون بلوغها، فالمؤمن عزيز وغيره ذليل، ومنبع العزة عند المسلم هو إيمانه بالله عز وجل وتوحيده.(42/1)
حقيقة العزة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله: أشكر الله عز وجل ثم أشكركم على اجتماعكم في هذا المكان المبارك، ونسأل الله أن يجمعنا بكم في دار كرامته، وأسأله سبحانه ألا يحرمنا وإياكم أجر ما سألنا وقصدنا وطلبنا في هذا اللقاء، وهو أن يذكرنا الله فيمن عنده، وأن تحفنا ملائكته، وأن تتنزل علينا سكينته، وأن تغشانا رحمته، وأن نكون من عباده الصالحين المتواصين بالحق والصبر والثابتين عليه.
أحبتنا في الله: إنه لمن دواعي السرور والغبطة والمحبة أن يتشرف الواحد بالحديث بين أحبةٍ في الله، فيهم من هو خيرٌ منه، وفيهم من هم أعلم بالكلام منه، وفيهم من هم أحبابٌ يستفيد منهم ويفيدهم، ولا بد من هذا اللقاء، ولا بد من هذا الاجتماع، إذ فيه بإذن الله عز وجل شحنةٌ إيمانية تحرك الهمم، وتدفع العزائم إلى القمم، وتدفع بالنفوس إلى مرضات الله عز وجل، وحسبنا أنه اجتماع على طاعة، وسلامة من الجلوس على معصية.
أحبتنا في الله: موضوعنا عن عزة المسلم يجعل سائلاً يتساءل الآن ليقول: أي عزةٍ تتحدث عنها في زمن الذل مقابل السلام؟ وأي عزة تتحدث عنها في زمن تسلط اليهود على أمة الإسلام؟ وأي عزة تتحدث عنها وكل يومٍ نسمع فيه أنباء المقابر الجماعية في البوسنة وكوسوفا وفي غيرها لأبناء المسلمين؟ وأي عزة تتحدث عنها وحرب الصوت والصورة والكلمة عبر القنوات الفضائية، لا تدع جداراً للحياء إلا هدمته، ولا تبقي سوراً للعفاف إلا صدعته وكسرته، فأي عزةٍ تتحدث عنها وشعوب المسلمين تحكمهم القوانين الوضعية، ويعرض بهم عن هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إلا من رحم الله وقليلٌ ماهم.
أيها الأحبة في الله: ما أكثر الذين تحدثوا عن العزة؛ إن الآباء والأجداد الذين تحدثوا وتغنوا بالعزة القعساء والمجد الأشم كثيرون، ولكن في هذا الزمن الذي أصبح الحديث فيه عن العزة نادر، بل إن أعداء الإسلام لا يرضون من المسلمين إلا أن يكونوا أتباعاً وأذناباً وقردة وببغاوات، يقلدون ويرددون، ومن أراد أن ينفرد بمنهجه أو يتميز بسبيله، أو يتعلق بما أكرمه الله به، قابلوه بكل عبارات الأصولية والتطرف والإرهاب والتزمت والتعنت والتشدد والبلاء والتخريب والتدمير والفساد وغير ذلك.
نعم، كثير هم الذين يتحدثون عن العزة عازمين أو حالمين، صادقين أو واهمين، ولكننا -أيها الأحبة- نتحدث عن عزةٍ ليست آلة تتقلد، ونتحدث عن عزةٍ ليست لباساً يلبس، ونتحدث عن عزةٍ ليست قصوراً ودوراً تسكن، وليست أنهاراً تجري وتشق، وليست مناصب ومراتب وأحساب وأنساب، إنما نتحدث عن عزةٍ هي مرتبطةٌ بمن له العزة وحده لا شريك له، من استمده منه وحده العزيز الجبار جل وعلا، فهو العزيز، ومن طلبها من غيره ذل وانكسر (كأنما تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق).
أحبتنا في الله: كان العرب قديماً يظنون أن العزة كائنةٌ في الهيئات والأشكال والأنساب والقوى والعدد يظنونها على الماديات قائمة، وعلى سلالات الأنساب متكئة؛ فأنت العزيز الكريم بشرط أن تكون قوياً غنياً عرق النسب، وقديماً قيل: إنما العزة للكافر، لكن كان من العرب عقلاء أذكياء يرون العزة خلاف ذلك، إذ يقول قائلهم:
تعيرنا أنا قليلٌ عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
العزة: خلةٌ نادى بها الإسلام وغرسها في نفوس الناس ونشرها في أنحاء الأمة؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [أحب من الرجل إذا سيم خطت خسف أن يقول بملء فيه: لا].
ولقد هدى الإسلام إلى أسباب العزة، ولقد بين الإسلام أسبابها وبين موانعها، التي تحول دونها وبلوغها، فالمؤمن عزيزٌ وغيره ذليل، وهكذا أهل الإسلام: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26] بعكس الكفرة الفجرة: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112].
إن ارتكاب الآثام سبيل السقوط والإهانة، ومزلقةٌ إلى خزي الفرد والجماعة، وقد بيَّن سبحانه أن الهزيمة في غزوة أحد سببها ما ارتكبه البعض من مخالفات: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155] ولذا بيَّن أن مصاب المؤمنين من أنفسهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيرٌ لنفسك عصيانها
إن الذلة والهوان هي ضد العزة، وسببها الإعراض عن الله وشرعه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.(42/2)
معاني العزة في اللغة
العزة: صفةٌ من أوصاف الله تعالى واسمٌ من أسمائه؛ فهو العزيز، أي: الغالب القوي، وهو المعز الذي يهب العزة لمن يشاء من عباده، وقد تكرر وصف الله بالعزيز في القرآن بما يقارب تسعين مرة، وذكر الخطابي رحمه الله في كتابه" شأن الدعاء " أن العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه: الأول: معنى الغلبة والقهر؛ أي: يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال: عز الشيء يعز بكسر العين من يعز، فيتأول معنى العزيز على هذا، أنه لا يعادله شيء، وأنه لا مثل له ولا مثيل والله أعلم.
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: أن عزة الله عز وجل متضمنةٌ للأنواع السابقة كلها، وهي: عزة القوة الدال عليها من أسمائه القوي المتين، وهو وصفه العظيم الذي لا تنسب إليه قوة المخلوقات وإن عظمت.
الثاني: عزة الامتناع؛ فإنه عز وجل الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، بل هو الضار النافع المعطي المانع سبحانه.
الثالث: عزة القهر والغلبة لكل الكائنات؛ فالله عز وجل غالبٌ على كل شيء، والكائنات مقهورة لله خاضعةٌ لعظمته منقادةٌ لإرادته، فجميع نواصي العباد بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف فيها متصرفٌ إلا بحوله وقوته وعزته وإذنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: قال بعض المفسرين: العزة في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: العظمة، ومنه قول الله تعالى: {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].
الثاني: المنعة؛ ومنه قوله تعالى: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139].
الثالث: الحمية؛ ومنه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} [البقرة:206] وقول الله عز وجل: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2].
وقد أشار سبحانه في كتابه المجيد أن العزة خلقٌ من أخلاق المؤمنين التي يجب أن يتحلوا بها ويحرصوا عليها، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، وقال عن عباده الأخيار: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وقال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] والشدة على الكافرين وعلى أعداء الله تستلزم العزة، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] وهذا يقتضي أن يكونوا أعزاء.
وهذه الآية: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139] تخبرنا وتعلمنا وتبين لنا أن الله عز وجل يعلمنا إباء الضيم، وهو خلقٌ يفيد معنى الاستمساك بالعزة والقوة وعدم الرضا بالمذلة والهوان، وإن كنا ذكرنا أن القرآن كرر لفظة (العزيز) عشرات المرات، وأنه سبحانه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأنه القوي القاهر المتين الجبار، كأنه أراد بذلك وهو أعلم أن يملأ أسماع المؤمنين بحديث العزة والقوة، فإذا ما سيطر عليهم اليقين بعزة ربهم، استشعروا القوة في أنفسهم واعتزوا بمن له الكبرياء وحده في السماوات والأرض، وأبوا الهوان حين يأتيهم من أي مخلوق، وفزعوا إلى واهب القوى والقدر، يرجونه أن يعزهم بعزته، وكأن الله عز وجل قد أراد أن يؤكد هذا المعنى في نفوس عباده حين جعل كلمة "الله أكبر" تتردد كل يومٍ في أذان الصلاة مراتٍ ومرات، وتترد أثناء الصلاة وفي التكبيرات والانتقالات، ونرددها في الصلوات كل يوم نشعر بذلك أن الكبرياء لله وحده، وأن عباده يلزمهم أن يلتمسوا العزة والقوة من لدنه، وأن يستوهبوا العزة من حماه {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
ربنا خالقنا يريد أن يهدينا إلى الطريق الذي يصون لنا عزتنا وكرامتنا، ربنا يريد لنا أن نبقى محصنين دون الرضا بالهوان، أو السكوت على الضيم، فأمرنا بالاستعداد والإعداد والتقوى بحفظ الكرامة والذود عن العزة، فقال لنا مولانا عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
نعم! القوة هي التي تجعل صاحبها في موضع الهيبة والاقتدار فلا تطأه الأقدام.
كن قوياً يحترم بين عربٍ وعجم(42/3)
الإسلام دين العزة
أيها الأحبة: ديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم نلبس إلا رديء الثياب، وديننا يعلمنا أننا أعزاء وإن لم يكن لنا في الأرصدة ريال ولا دينار ولا درهم، يعلمنا أننا الأعزاء وإن لم ننل شيئاً من المناصب والرتب ويعلمنا أننا الأعزاء وإن لم نرتبط بأنسابٍ وأحسابٍٍ يفاخر بها أهل الجاهلية، ديننا يعلمنا أن العزة فيمن تعلق بالعزيز وحده لا شريك له؛ فربنا يعلمنا الإقدام والثبات في مواطن اليأس، موقنين أن الله العزيز القوي معنا، قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] ويقول سبحانه: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35].
لا تكن ذليلاً خواراً جباناً ضعيفاً، بل كن علياً شامخاً بإيمانك قوياً باعتقادك، مم يخاف المسلمون وهم يملكون أعظم شيء وهو الإيمان؟ القوة التي تتحطم عليها قوى الفساد والشرك والإلحاد، مم نخاف والله معنا ناصرنا ومؤيدنا؟ هذا موسى لما قاس أمر مجابهة فرعون بمقاييس البشر، قال: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فجاءه الأمان من الله، إن الله معك، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك وحافظك، قال: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ولما رأى موسى قوة وجبروت وعزة وملأ وجند فرعون، وهيله وهيلمانه، أصابه شيءٌ من الخوف أو التردد، نعم هو رأى اجتماع القوم وعدتهم: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:64] قومٌ علوا وعزّوا بالباطل، وهكذا هم أهل الباطل يتعززون بأنفسهم وقواهم، فجاء لموسى من ربه: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] يا رب! هم ملايين وأنا واحدٌ، فيقول الله له: ((لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى)) [طه: 68] يقول: يا رب! هم أقوياء وأنا ضعيف، فيقول الله له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] أنت الأعلى بإيمانك، وأنت الأعلى لأن الله معك، هكذا الإسلام يدعونا للعزة ولرفع الذل والمهانة والدون.
ليست هذه دعوةٌ -يا عباد الله- إلى بغيٍ وطغيان، وإنما الإسلام يريد أن نكون معتزين بأنفسنا وبإيماننا، ولن يكتفي ديننا بتحريضنا على إباء الضيم وإيثار العزة تحريضاً يقوم على الأمر الصريح أو التوجيه المباشر، بل عمد إلى ضرب القصص من الأمم الماضية التي رفضت التنازل عن المبادئ والعقيدة، لم تهن ولم تضعف ولم تستكن، بل صبرت وصابرت وكافحت وناضلت حتى ظفرت وانتصرت {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:146 - 148] ها هو الإسلام يريد من المسلم أن يتنازل ويتخلى ولو عن الوطن ومكان الأهل وملاعب الصبا ومراتع الطفولة، إذا كان البقاء في ذلك يورث الذل والمهانة والقهر:
حبك الأوطان عجز ظاهرٌ فاغترب تلق عن الأهل بدل
ليهاجر وليرحل إلى مكانٍ يجد فيه العز والحرية، حتى ولو كانت أحب الديار إليه، وأقرب مثالٍ على تحقيق ذلك: هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهجرة أتباعه معه، من أحب البقاع إلى أنفسهم، هجروا الأموال والأوطان، بل والأولاد، كل ذلك كي لا يصيبهم في دينهم ذلٌ أو مهانة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس العلقم
ولذلك عاب الله عز وجل على قومٍ عاشوا بين ظهراني الكفار وديارهم، فقال سبحانه لأولئك الذين عاشوا في ديار الكفار أذلاء ولم يهاجروا طلباً لعزة الإسلام وعزة العبادة، قال تعالى في شأنهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء:97] بم ظلموا أنفسهم؟ بالبقاء بين ظهراني المشركين، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] إلا أن الله برحمته الواسعة عذر العاجزين الذين يفقدون القدرة على الانتقال، ولا يجدون وسيلة أو يهتدون حيلة، فقال سبحانه: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:98 - 99] وهذا التعبير يشعر بكراهية الإسلام للمسلم أن يحتمل الهوان والذل، وذلك استنهاض للهمم حتى تبذل الجهد كله في التخلص من الهوان بأصنافه، هكذا الإسلام يريد المؤمن أن يعيش في عزةٍ وإباء وكرامة، لا ينزل مع الظالمين أو الضالين، ولا يسقط في التفاهات، بل يترفع عن المغريات، ويحفظ نفسه من المستنقعات الشركية والدنيوية.(42/4)
منبع العزة عند المسلم
إن عزة المسلم تصدر من إيمانه وتنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فمن يكون مؤمناً فهو عزيز، ولذلك قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] متى يحصل هذا العلو؟ متى تتحقق هذه العزة؟ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون:8] فهي لأهل الإيمان والإسلام دون غيرهم، بغض النظر عن أي شيءٍ أو وصف آخر، هذا ما فهمه المسلمون.
وإليك هذا الحديث الذي رواه الحاكم وغيره في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه، حينما ذهب حكيم بن حزام إلى السوق فوجد حلةً تباع، فقال حكيم: لمن هذه؟ فقالوا: هذه حلة ذي يزن، ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً ثم ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأهداها إليه، فلبسها صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها فما رؤي من ذي حلة أجمل منه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، ثم خلعها لأنه معرضٌ عن الدنيا، وألبسها أسامة بن زيد، ألبسها حبه وابن حبه ومشى بها في السوق، فرآه حكيم بن حزام وكان قبل إسلامه، فتعجب حكيم من أسامة الرجل الأسمر الصغير أبوه مولىً لرسول الله ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن، فقال أسامة بن زيد: نعم والله لأنا خيرٌ من ذي يزن وأمي خيرٌ من أمه، وأبي خيرٌ من أبيه.
إذاً: أسامة الشاب الصغير الذي استصغره الناس سناً ونسباً وشكلاً، يشعر أنه أعظم منزلةً من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء إلا لأنه مسلمٌ وهذا كافر، وهذا هو مصدر العزة، إذا أيقن به المؤمن عانقه شعورٌ بالرفعة والقوة والفخر {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] وإذا أيقن المسلم بهذا أنف أن يخضع لغير الله، واستنكف أن يذل أمام سواه، فلا يتضعضع أمام قهر، ٍ ولا يهون أمام فقرٍ، وكأنه يردد قول القائل:
أيدركني ضيمٌ وأنت ذخيرتي وأظلم في الدنيا وأنت نصيري
فعارٌ على راعي الحمى وهو قادرٌ إذا ضاع في البيداء عقال بعير
الإيمان يجعلك في موقف العزة التي لا تقبل شكاً ولا تردداً، لأن المؤمن يأوي إلى ركنٍ شديد، وإلى منهجٍ صادقٍ واضحٍ جليٍ سديد، وإلى فعلٍ حميد.
الإيمان هو الذي جعل إبراهيم عليه السلام في موقف القوي، ليقول للكثرة الكافرة التي أججت النار لتحرقه بها، يقول لهم وهو الذي قيد وربط ليرمى في النار، يقول لهم في كل عزةٍ: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ} [الأنبياء:67] ليجعل الله الخسار والذلة لمن عاداه: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] كذلك يكون المؤمن معتزاً، يرى أنه القوي وأعداؤه الضعفاء، لا يتردد ولا يداخله الشك، ولا تهزه ألوان الأذى ولا التهديد، كل ذلك إذا تغلغل الإيمان فيه.
ها هو فرعون يهدد السحرة الذين انقلبوا عليه بين عشيةٍ وضحاها، فقال يهددهم: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124] فماذا كان جواب أهل العزة الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فانقلبوا منذ أن كانوا من قبل سحرة، انقلبوا إلى أعزاء بالإيمان، فماذا قالوا؟ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] لماذا؟ ما الذي جعلهم ينقلبون بهذا التحول الخطير؟ {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] السبب أننا عرفنا الحقيقة، والسبب هو الإيمان وحده ولا شيء غير الإيمان.
إن قوة الإيمان تتضاءل أمام عزتها وقوتها قوة الشرق والغرب {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44] إن أي عزة تقوم على غير الإيمان بالله فهي عزةٌ واهية باطلة منقضية فانية متصدعة، وإن أي رفعة ومنعةٍ وقمةٍ وعلو تكون بغير الله، فهي زائلة عما قليل، تحول وتزول وتنتهي، حتى وإن استمرت في بغيٍ وطغيان، ولذا أبشركم بسرعة تصدع العزة الباطلة، وعزة الغرب بالباطل التي يتغطرسون بها على أمة الإسلام، يجوعون شعوباً ويدمرون آخرين، ويضربون دولاً ويحبسون المياه ويثيرون الفتن، ويحاربونهم بالاقتصاد ويسلطون الأفلام ويفسدون الإعلام ويخربون العقول، هم الآن يعيشون حالةً من عزة السيطرة في زمن العولمة، ولكن اسمعوا قول الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196 - 197] مهما علا وتكبر فإن مصيره الهلاك ومصيره العقاب والبوار والدمار، لماذا يكون مصيرها هكذا؟ لأنها أممٌ قامت وعلت على الظلم والشرك والإفساد، والله لا يصلح عمل المفسدين.(42/5)
العزة الكاذبة
أيها الأحبة في الله: حينما نجول في القرآن الكريم، نجده يتحدث عن أصناف من الناس ظالمٍ غاشمٍ أخذوا العزة الغاشمة الزائفة، ويظنون أنهم في عزةٍ ثابتةٍ مستقرة، كما أخبر الله عن شأن بعض الطغاة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] أي: حملته عزته الكاذبة الجائرة والتي هي شبيهةٌ بحمية الجاهلية، حملته على الإثم المنهي عنه، وأغرته بارتكابه، فماذا كان جزاؤه؟ {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:206] المؤمن إذا قيل له: اتق الله، ذل وخضع لله فازداد بذلك عزة، والكافر إذا قيل له: اتق الله، أخذته العزة بالإثم، إن الله قال لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] وكان عمر بن الخطاب إذا قيل له: اتق الله، ارتعدت فرائصه وخاف وارتجف، والظالم والفاجر والفاسق إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فشتان بين عزة هذا وهذا، وشتان بين استقبال هذا وهذا للأمر.
هذا صنفٌ آخر من الناس اعتزوا وافتخروا بالمال وبالحدائق وبالذرية وبالأنساب، فأنساهم ما هم فيه من رفعة المال والقوة أن يعرفوا خالقهم، لما ملكوا ما ملكوا وجرت الأنهار من تحتهم وأينعت الثمار في نخيلهم ورأوا الفواكه تتدلى أغصانها في بساتينهم، اعتزوا عزة حمية الجاهلية، واستغناء عن الله {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} [الكهف:34] {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف:35] انظروا إلى أي درجةٍ بلغت به عزة الطغيان والظلم والاستغناء! ماذا كان نتيجته بعد حوارٍ من صاحب يحاوره؟ يقول له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37] أي عزةٍ تتعلق فيها؟ أي استغناءٍ أنت فيه من ربك الذي خلقك من تراب؟ (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:37 - 38] ولو أنك يا هذا الذي غرتك دنياك وثمارك وأنهارك {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف:39] يطول الحوار ويطول الجدال ويتردد السؤال، ومع ذلك هذا الذي استغنى بأنهاره وثماره وأشجاره، ما كان خبره؟ وما هي نتيجته؟ {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف:42] أين من اغتر به؟ أين أنهاره؟ أين أنصاره؟ أين أعوانه؟ أين جنده؟ أين خدمه؟ أين حشمه؟ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [الكهف:43] هذا شخصٌ نسب النعمة لنفسه واعتز بما عنده، حتى ابتلي وفتن بالأموال، {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] يذكره الذاكرون، يذكره الذين يخوفونه، لا تفرح ولا تطغى ولا تبطر ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا تتكبر على الناس فما كان جوابه؟ {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] فما كانت نتيجته؟ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [القصص:81] وأبشروا عما قريب سيخسف الغرب بدورهم ولن يكون لهم من دون الله نصيراً، وأبشروا عما قريب هذه الأمم وهذه النظم التي تسلطت على المسلمين طولاً وعرضاً، شرقاً وغرباً، والله لن يكون لهم نصيرٌ من الله إذا حق عليهم عذاب الله ووعيده.
نعم.
ذهبت الأشياء والعدد والأعوان التي اعتز بها الظالمون والمعتدون على الخلق، هؤلاء الذين اعتضدوا على غير الله وجعلوا عزتهم بالناس، وجعلوا عزتهم بالآلات أو بالذرة، أو بالإلكترون أو بالإعلام أو بالقناة الفضائية، أو بالعولمة أو بأي شيءٍ أرادوه، ستنقلب عليهم ضداً {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:82] لقد جاء السحرة معتزين مغترين بعزة العبد الذليل فرعون، نعم فرعون لديه عزةٌ وقوةٌ ومنعةٌ لكنها جاهليةٌ زائلة باطلة؛ جاء أتباعه {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} [الشعراء:44] ظنوا أنهم قد تحصنوا بأمنع الحصون، فماذا كانت النتيجة؟ {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء:45 - 46].
إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر
هذا هو الكاذب الجاحد المخرف، لماذا يعبد الأصنام؟ لماذا يشرك بالله؟ {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [مريم:81] اتخذوها تعززاً وتقوياً، فماذا كانت النتيجة؟ {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم:82] والمراد بالضد هنا: ضد العز وهو الذل، أي: يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه، كأنه قال: وتكون الآلهة عليهم ذلاً ووبالاً، لماذا يجادل أهل الباطل عن باطلهم؟ والكفار عن كفرهم؟ وهذه الحرب الفكرية الإعلامية لماذا يتسلطون بها؟ السبب في ذلك عزةٌ زائفةٌ يشعرون بها ويجادلون لأجلها، وصدق الله العظيم: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص:2] هذا أحد المنافقين يقول: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فيدعي لنفسه أنه هو الأعز، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق، يزعم المنافق أنه الذليل، وكذب وأيم والله!
فما حملت من ناقةٍ فوق ظهرها أعز وأوفى ذمة من محمد
فهذا المنافق ينسب الذلة إلى رسول الله، عبد الله بن سلول رأس النفاق، فماذا كانت النتيجة؟ يقف له ابنه المؤمن على باب المدينة قائلاً: لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك ولو كنت أبي، فقال ابن سلول: ويحك أفاعلٌ أنت؟! قال: نعم.
فلما رأى منه الجد، قال: أشهد أن العزة لله ورسوله، نعم.
الآن آمن وقال ونطق كما قال فرعون: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90].(42/6)
كل عزة قامت على باطل لابد أن تزول
أيها الأحبة: كل عزةٍ قامت على باطلٍ سوف تزول، وكل اعتزازٍ غير موصولٍ بالله فهو بوارٌ وخسار، ومهما ابتغى بعض الناس العزة بغير هذا الطريق فلهم الذلة، وأناس انتهجوا طرقاً وأحوالاً للوصول إلى عزةٍ أو منعة أو رفعة لكن بغير طريقٍ تمت للدين بصلة، فماذا كانت النتيجة؟ كان البلاء فيما طلبوه، وكانت الذلة فيما تبعوه، وكان البوار والخسار فيما سألوه، انظروا إلى المنافقين، لماذا يوالي المنافقون أعداء الله؟ {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139] ولذلك وبعد هذا بآيات حذر الله عباده المؤمنين من طريق هؤلاء وصنيعهم، فقال سبحانه بعد ذكر النفاق وأحوال المنافقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144] ثم ذكر سبحانه مصير المعتزين بالكافرين الموالين لهم، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145].
الذين يطلبون العزة من الكفار والمنافقين لن يجدوا عزةً عند أقوامٍ مساكنهم الدرك الأسفل من النار، هذه طريقٌ لا يريدها الله، وأي عزةٍ تأتي على منوالٍ لا يريده الله فهي ذلةٌ في الدنيا وهوانٌ في الآخرة، هذا فرعون الذي اعتز بالتراب والماء ونسي خالق السماء، يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] ما سبب العزة عنده؟ ما صلته بالعزة؟ ما مؤهلات العزة لديه؟ مارصيد العزة عنده؟ أرضٌ ومالٌ وجاهٌ وسلطة {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] انظروني في كثرة مالي وفي قوتي وفصاحتي، وفي المقابل يقول: انظروا إلى موسى في ضعفه وقلة ما في يده وشيءٍ من عيه، {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] وخدع الناس بهذه العزة الزائفة، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] فما كانت نتيجة هذه العزة التي أساسها الشرك والظلم والتدجيل، ما هي نتيجتها؟ {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56] إن أناساً طلبوا العزة والشهرة والرفعة عن طريق الإعراض والمحاجة لله ورسوله، هذا أبو جهل يمشي متبختراً مدعياً أنه أفضل وأعز أهل مكة وأكرمهم، فماذا كانت نتيجة عزته الواهمة والموهومة القائمة على الباطل؟ انظروا واسمعوا خبر عزته بكلام الله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] والأثيم هو: أبو جهل، وكل من لف لفه وسلك مسلكه {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:43 - 49] أي عزةٍ تتعلق بها، أي عزةٍ تدعيها؟ يقال له هذا تهكماً وهو في حالٍ من الذل والهوان في الدنيا والآخرة.(42/7)
عزة المسلم ورفعته في إيمانه وتوحيده
أيها الأحبة: عزتنا ورفعتنا وعلونا وشموخنا هو إيماننا وتوحيدنا وإسلامنا، من أسلم وآمن فقد علا وارتفع علواً يرفعه عن حياة أذلاء الأصنام والأوثان، الذين يخضعون لها، إن أي مسلمٍ هو في قمةٍ وعزة، وأي كافرٍ فهو في منتهى الذلة، {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] إذا أشرك تنازل عن عزته وعليائه، وتأمل كيف قال تعالى: {خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج:31] لأن الإسلام نقله من حضيض الغبراء إلى شامخ العلياء، ولأن الإيمان يرفع المؤمن من مزبلة الوثنية إلى مقامات الإيمان والدين، نعم.
المؤمن في السماء علواً ورفعة وعزة، ولكن حينما يتنازل المؤمن عن إيمانه، وحينما يخدش إيمانه ويجرحه ويرتكب ما يقدح في إيمانه فهو يتنازل عن عليائه وعزته بقدر ما يرتكب من خدوشٍ أو تكسيرٍ في جدار إيمانه {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] إن هو ضل عن الإيمان ضلالاً كاملاً، إنسانٌ لا قيمة له، ذليلٌ أمام الخميلة والخميصة والمرأة والشهوة والخرافة، ليست العزة صراخ، وليست العزة كلمات وليست العزة صيحات وشعارات.
إن العزة أن تتزخرف لك امرأة ذات منصبٍ وجمال، فتقول: إني أخاف الله رب العالمين، إن العزة أن تكون الأنهار من الأموال تجري من تحتك وأنت عطشان جائع، فتقول: لا آكل إلا ما أحله الله.
إن العزة أن تلبس الخلق من الثياب وأنت مسئول عن خزائن اللباس الجديد فلا تسرق من اللباس متراً.
إن العزة أن تتصرف ولا حسيب ولا رقيب عليك فتجعل ربك رقيباً حسيباً، وتقول: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] من أراد الرفعة فليطرق باب الله العزيز القوي المتعال.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
إن مقام العبودية يحمل معنى العزة والرفعة، وإن الهروب من العبودية يعني الذلة والهوان للأعتاب والأحجار والأوثان، وكلما بعدت عن طاعة الله فأنت ذليلٌ بخلق الله، وكلما بعدت عن مرضات الله فأنت ذليلٌ لشهواتك وملذاتك.
أيها الأحبة في الله: لقد صدق ابن القيم رحمه الله حيث قال:
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان
إن الإيمان هو الذي أعز ورفع وأعلى أمةً كانت شراذم مشتتة فجمعها، ضعيفة فقواها، جاهلة فعلمها، ذليلةً فأعزها، لقد نقلها من الذلة إلى العز، ونقلها من عتبات اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ومن يغوث ويعوق وسواع ونسر وغيرهم إلى منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] إن الإيمان وعزته هو الذي جعل بلالاً العبد الأسود سيداً يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم خشخشت نعليه في الجنة، ليكون مؤذن الإسلام الأول الذي تحفظ الملايين اسمه وتحب لونه، ما الذي رفعه؟ إن بلالاً لا يملك شجرةً طويلةً ولا لوناً ولا جمالاً، لكنه يملك شجرة الإيمان وجمال التقوى، يملك لا إله إلا الله، العلم سبيل العزة والرفعة والكرامة {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] التقوى: هي العزة والكرامة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] إن هذا القرآن الذي بأيدينا، وهذه السنة التي هي مدونةٌ محفوظةٌ بحمد الله، وهي ذكرٌ لنا، وسمعةٌ طيبةٌ لنا، وهي عزٌ لنا {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخري).
أيها الأحبة: كم من أقوامٍ عاشوا في عزةٍ واهمين، فلما سطعت بروق عزة الإسلام والمسلمين جعلتهم في حضيضٍ من الذلة والهوان، عن جبير بن نفيرٍ قال: [لما فتحت قبرص رأيت أبا الدرداء يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء! تبكي في يومٍ أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: يا هذا، ما أهون الخلق على الله، بينما هي أمةٌ قاهرةٌ ظاهرة تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى].
نعم.
إنه يدرك ما أصاب هؤلاء، إنما هو بسبب تركهم أمر الله، يقول تعالى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر:29] هذا الرجل الصالح والعبد الصالح يبين لقومه أن الذلة والسقوط من العلياء إلى الهوان، وأن الانتقال من العز والتسلط والملك في الأرض إنما هو بسبب الإعراض عن هدي الله وشرعة {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29].
إن الإسلام حينما دعانا إلى العزة هدانا إلى أسبابها وبين أسبابها وذكر موانعها، ومن أسباب العزة للمسلمين: الجهاد، وإن ما نراه من ذلة المسلمين اليوم هو أن الجهاد لم يقم على الوجه الذي شرعه الله (ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا أو ذُلوا) ويقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
أيها الأحبة: إن هذا الدين يعلمنا العزة في كل أحوالنا حتى في الدفاع عن أدنى حقوقنا، إن المدافع عن نفسه وعرضه وأهله شهيد، كل ذلك ليقوى جانب العزة وليضعف جانب الذلة وليزول جانب الهوان، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة:29] {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] كل ذلك حماية للوطن وللأنفس وللدين قبل ذلك وللمجتمع، جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
ليس من المستساغ أن يفرط المسلم في عزته وإبائه، أو يرضى بالذل أو القهر والهوان، إن المسلم لا يخشى فقراً، إن المسلم لا يمكن أن ينال ذلة أو أن تقع به الذلة، إذا كان مؤمناً حقاً لا يخشى ذلةً، وإن كان فقيراً لا يملك شيئاً، ولا يخشى ذلة وإن كان يواجه تسلطاً، ولا يخشى ذلة وإن كان ليس له حسبٌ أو نسبٌ أو مرتبة أو جاه، لأن العزة في هذه القلوب:
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفي التاريخ بر يميني(42/8)
عزة النفس
أيها الأحبة في الله: إن المؤمنين يتزينون دائماً ويعتزون بزينة التعفف والقناعة، والرضا بقدر الله، أولئك لا يذلون لأحد {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] إن الوصول إلى مرحلة التعفف أمرٌ يحتاج إلى رصيدٍ كبيرٍ من الصبر والتجمل والتحمل لكل الظروف القاسية دون ضراعةٍ لأحدٍ إلا الله، وهكذا كان خيار خلق الله بعد أنبيائه كانوا على هذه الشاكلة؛ كانوا يعلمون أن عزة النفس لا يمكن أن تكون إلا بالتعفف عما في أيدي الناس، والتعفف عن الحاجة لهم قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغنائه عن الناس) أما الذين يظنون أن عزة النفوس لا تأتي إلا بعد شبع البطون وامتلاء الجيوب، فالغني عندهم هو الذي يملك أن يكون عزيزاً، وأما الفقير فهم يرونه ذليلاً خاضعاً ولا ينبغي له إلا أن يذل ويخضع في نظرهم، وفشت هذه المفاهيم في كثيرٍ من المجتمعات المعاصرة إلا من رحم الله، وفشا معها عند بعض الأغنياء الطغيان والتكبر، كما فشا معها عند بعض الفقراء الخلوع والمداهنة والتملق والنفاق، هؤلاء والله لا يعرفون إلى العزة سبيلاً.
إن اعتزازك بالله يجعلك أن تقدم حكمه وقرآنه وشرعه ودينه وأمر نبيه على كل القوانين، وعلى كل الشهوات وعلى كل الأهواء وعلى كل شيء، فلا ترضى بذلك بديلاً، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
أيها الأحبة في الله: إن أي إنسان يتنازل عن دينه ومنهج ربه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم في مجالات الحياة، فإنه ينال الذلة في المجالات كلها، وأي مجالٍ فقدت فيه الاتباع والخضوع والانقياد لله ولرسوله فإنك تنال ذلةً في هذا المجال، فهو مكيال إن وفيت بالأداء والاتباع وفيت لك العزة، وإن طففت في الاتباع والانقياد حرمت من العزة ووقعت في الذلة بقدر ما غيرت وبدلت.
هذا ما تيسر جمعه في عجالةٍ قصيرةٍ حول هذا الموضوع، وإني لأعلم أن في القوم من هم بالمقال أعلم من القائل، وبالكلام أعرف من المتكلم، وفي الزوايا خبايا، وإن بني عمك فيهم رماح
وأيم الله ما نسب المعلى إلى كرمٍ وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اضمحلت وصوَّح نبتها رعي الهشيم
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل العزة والكرامة في الدنيا والآخرة، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وارحم اللهم موتانا وموتى المسلمين، وأصلح اللهم ولاة أمورنا أجمعين، اللهم اهد ولاة أمورنا واجمع شملنا وعلماءنا وحكامنا ودعاتنا على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تفرّح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً يا حي يا قيوم، اللهم صل على محمدٍ وآله وصحبه.(42/9)
الأسئلة(42/10)
ضابط العزة في الإسلام
السؤال
ما هو ضابط العزة في الإسلام وخاصةً في هذا العصر؟
الجواب
ضابط العزة لدين الإسلام الانقياد لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس بعزيزٍ لو ادعى العزة وهو ذليل في حضيض الشهوات والمخالفات، هذا أولاً.
الثاني: أن هذه العزة بما تحمل صاحبها عليه من ترفع النفس عن سفاسف الأمور وذميم الأفعال والأقوال لا تدعو المسلم إلى احتقار الآخرين، أو التكبر عليهم، أو غمطهم أقدارهم، أو النظر إليهم بعين النقص والازدراء، بل من تمام العزة أن تكون إيجابيةً في الالتفاف لكل هؤلاء ممن يراهم من المخالفين والمتساهلين أو العصاة، ليقوم بما أوجب الله عليه تجاههم من واجب الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والرفق واللين والموعظة الحسنة، فإن ذلك لا يسقط من قدر عزته شيئاً.
لا تظن أن عزتك تتضعضع لو أنك مهما بلغت من الشهادات العليا، أومن ذوي المراتب والمناصب، لا تظن أن عزتك تتضعضع إذا ذهبت إلى قومٍ تنصحهم وتدعوهم إلى الله عز وجل، ولو في أركس المواقع أو أشدها ضلالاً أو أكثرها فساداً، ما دمت واثقاً بأنك تحافظ على نفسك وتسلم على إيمانك ودينك، لا تظن أن العزة تدعوك لتقول للعصاة: تعالوا تعالوا إلي هنا، وأما أنا فلا يليق بي أن أنزل إلى مستواكم أو مواقعكم أو أنديتكم أو استراحاتكم أو مجالسكم أو ديوانياتكم أو غير ذلك، لا.
إن بلوغك في أماكنهم وغشيانك لهم في مجالسهم لا يغض من قدر عزتك شيئاً أبداً.(42/11)
العزة درجات
السؤال
هل للعزة درجات؟ أم هي عزةٌ واحدة؟
الجواب
لا شك أنها درجات، فبقدر عناية العبد لتحقيق أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو ينال منها أعلاها، وبقدر ما يقصر في ذلك تفوته من العزة بمقدار ما قصر.(42/12)
العزة الحقيقية لدى المرأة
السؤال
لا شك أن للمرأة -أيضاً- عزة، فلو بينت أو ألقيت شيئاً من الضوء على ذلك، وأحياناً تفهم المرأة فهماً مغالطاً وهي أنها تغتر بنفسها وبلبسها فتسمي ذلك عزةً؟
الجواب
ليست العزة للرجال والنساء في لباسهم كما مر معنا، إنما العزة في طاعة الله عز وجل، والذلة في معصية الله، وكما قال الحسن البصري رحمه الله: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه] فليست العزة في مرتبةٍ ولا منصبٍ ولا جاهٍ ولا حسبٍ ولا جمالٍ ولا غير ذلك، إنما هي في طاعة الله عز وجل، وليس من العزة نشوز المرأة على زوجها، أو استنكافها عن طاعته، أو تكبرها عن الانقياد لأمره، أو نفورها عن كرامته التي جعلها الله له {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فانقياد المرأة لزوجها خضوعها، تبعلها، حسن عنايتها بخاطر زوجها، ذلك من صميم عزتها ولا يقدح في عزتها شيئاً، بل إن استنكافها ونشوزها وإعراضها عنه وعن حسن الأدب معه أو عن فراشه أو حاجته، لدليل ذلتها وطاعتها للشيطان واستنكافها أن تطيع الله عز وجل لما أمر من طاعة زوجها.
كذلك من العزة التي نريدها للمسلمة اليوم أن تعتز بحجابها في مجتمعٍ أو في وسطٍ إعلاميٍ غارقٍ بالصور والأصوات والكلمات الداعية إلى التبرج، بل إلى التفسخ والإباحية والانحلال، وأي عزةٍ تراها وأي شموخٍ تراه في فتاةٍ أعظم من فتاةٍ تراها محتشمةً محجبةً صيّنةً دينّةً قاصرة الطرف عن كل ما حرم الله عز وجل، وإنا والله في خارج البلاد أو في داخلها حينما يمر الواحد في طريقٍ فيرى امرأة متحشمة متحجبةً صيّنةً عليها سماة الخلق والحياء والدين، لا يملك إلا أن يطأطأ داعياً لها بالعز والستر والتوفيق والسعادة وصلاح الذرية والزوج، وأيما امرأة يراها الواحد حاسرة متعطرةٌ متبرجةً لا يملك إلا أن يحوقل أو يحسبن فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبنا الله ونعم الوكيل.(42/13)
فهم العزة فهماً مقلوباً
السؤال
فضيلة الشيخ! كثيرٌ من الأسئلة تتحدث عن التشبه بالكفار في مثل: القصات ومثل التفحيط بالسيارات أو تقليدهم في لبسهم أو غيره، فيعتبره البعض أنه من التمكن والتقدم ومن العزة؛ لأن الغرب الآن في تقدم وتطور، فما هو توجيهكم حفظكم الله؟
الجواب
هذا من الفهم المقلوب في قضايا العزة، لو أن رجلاً قتل أباك أو جدك وكان لهذا القاتل سمةٌ في لبسٍ أو لهجةٍ أو صفةٍ معينة، أفيسرك أن تقلد هذا القاتل في لهجته ولبسه وعاداته وانحرافاته؟
الجواب
لا.
إنك تمقت كل ما يذكرك بهذا المجرم المعتدي، فمن ذا الذي يسره أن يقلد القتلة الذين أوسعوا المسلمين تجويعاًً وسفكاً وقتلاً وتشريداً وتدميراً، اليهود الذين امتلأت سجونهم بإخواننا الفلسطينيين، اليهود الذين هدّموا البيوت والدور على الأبرياء والفقراء والمساكين؛ تخيل أنك جالس في البيت وإذا بالجرافة تأخذ الجدار الذي أنت مستندٌ إليه ثم تحمل بقية أثاثك وعفشك وكل شيء في بيتك ويُرمى بها في الشارع، هذا هو الذي يدور الآن في فلسطين، ويؤيدهم النصارى ويؤازرونهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال:73] فهل يسرنا أن نقلد سفلتهم أو أن نقلد المجرمين منهم والقتلة والسفاحين الذين هم في مجتمعاتهم.
للأسف أن بعض شبابنا أصبحوا يقلدون سفلة شباب الغرب، لم يقلدوا أناساً يتفقون مع عامة الناس، ليست القضية لبس بنطلون وكوت، لأن هذا أصبح منتشراً في العالم الإسلامي، لكن القضية أنهم يقلدونهم في أشياء أخرى، فتجد شاباً يضع السلسلة في يده أو على رقبته ويجعل قرطاً في أذنه اليمنى أو اليسرى ويجمع شعره ويجعله ظفيرةً كما تجعله النساء تقليداً، ليس كما كانت العرب تفعل من قبل إكراماً وترجلاً وغير ذلك، لا.
فهذه من المصائب، فالآن بدأت تظهر -ولا أقول: انتشرت حتى أكون دقيقاً في العبارة- بدأت تظهر علامات جماعات الهيبز، تجد أحياناً في الإشارة المرورية أربع دبابات سود من الدبابات الضخمة، وأصوات مزعجة وعليها شباب ظلماتٌ بعضها فوق بعض، شيء غريب جداً، وآخرين يرفعون صوت الموسيقى الغربية ويترنحون ويتراقصون طرباً ولهواً وغفلةً وكل ذلك تقليداً، وفي زمن العولمة ما يرى البارحة في أمستردام ربما يفعل صباحاً في قرية أو في بيتٍ أو في حارة، ما يفعل البارحة في جوتن بيرج أو في السويد أو في أي مكان، يفعل الصباح في قريةٍ أو في مدينةٍ صغيرة، فهذه مشكلة التبعية والهوان، وإن من مقاصد ديننا مخالفة أعداء الإسلام، بل صنف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كتاباً عظيم القدر سماه: إقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فينبغي علينا أن نتميز ونخالف اليهود والنصارى، بل ديننا لو تأملت كثيراً من الأمور لعلمت أننا نخالفهم في أشياء كثيرة جداً، وفي رسالة حجاب المرأة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، في فصل ذكر فيه بالأدلة -أي: جمعها بالاستقراء جمعاً مفيداً جميلاً لطالب علمٍ باحثٍ أو مستفيد- المواضيع التي فيها بالأدلة أن من ديننا ومن هدي نبينا صلى الله عليه وسلم مخالفة الكفار:
إليك تعدو قلقاً وضينها
معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً دين النصارى دينها
فلا بد أن نعتني بهذه القضية، وأن نتجنب التشبه لا من رجالنا ولا من نسائنا، والحال عند بعض الرجال والنساء هو الفخر بالمسابقة إلى التقليد والتشبه.(42/14)
الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين لا يمنع من التعامل التجاري مع الكفار
السؤال
هل من العزة أن يترك الإنسان البضائع التي تأتينا من الغرب؟ وهل توجد بعض الكتب أو المراجع التي تدلنا عليها في هذا الموضوع؟
الجواب
كون المسلم يشتري من الغرب أو يبيع أو يتاجر معهم؛ المعاملات المالية شيء، والولاء والبراء شيءٌ آخر، لا تظن أن الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين يمنع من التعامل التجاري والتعامل المالي مع الكافرين، النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي، وعامل المشركين وأضافوه، ودخل بيوتهم، وتوضأ من مزادة مشركة، ودعاه يهودي إلى خبز شعير ووكانت تأتيهم ثياب وربما لبسوها وسألوه صلى الله عليه وسلم عن ملابسهم وعن أحوالهم فما حفظ في الهدي النبوي أننا نهينا، إلا ما ورد النهي عنه لذاته؛ كالثياب التي فيها الحرير -مثلاً- لغير حاجة، أو لبس الذهب أو ما كان فيه تشبهاً بالنساء، فهذا الأمر لا شك أنه من تمام الولاء، أنك إذا كنت بحاجة إلى عمالة أو بضاعة أو غير ذلك ووجدت حاجتك من بلادٍ مسلمةٍ فمن الأولى أن تكون حاجتك ومشترياتك وتوريداتك من بلاد المسلمين، من أي شيءٍ كان؛ عمال أو بضائع أو آلات أو أجهزة بدلاً من أن تقوي اقتصاد الكافرين، المقاطعة سلاح لو يجمع المسلمون على مقاطعة سلعة تجارية من سلع الكفار لأشعرناهم أن المقاطعة والبراء سلاح من أخطر الأسلحة، لكن المسلمين اليوم لا يستخدمون مثل هذا السلاح الفتاك ولا أدري ما السبب؟(42/15)
الحث على التبرع للجنة تيسير الزواج
السؤال
لجنة تيسير الزواج معلمٌ على طريق الأسرة السعيدة الحقيقية، هذا اليوم سيكون بإذن الله عز وجل الجمع لهذه اللجنة المباركة الفتية فنأمل من فضيلتكم حفظكم الله أن تحثوا الناس على هذا الواجب؟
الجواب
حقيقة إعانة الشباب على الزواج فيه من المصالح ما لا يخفى وما يضيق المقام عن حصره، وإن القليل مع القليل كثير، ينبغي أن نحرص على هذا وأن نشعر بأهمية هذا الأمر بتكثير نسل أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وفي إعداد الشباب وإعانتهم على غض أبصارهم وإحصان فروجهم، وكذلك الفتيات، والله يعلم مدى ما يعانيه الشباب والشابات من المعاناة من تأخر الزواج أو عدم القدرة عليه، لذا فإني أدعو كل إخواننا أن يجتهدوا ويقدموا ما يستطيعون، وأن يتعاونوا مع هذه اللجنة، وأعتبر هذه المحاضرة فرصةً بإذن الله مباركةً من جميع الأخوة جزاهم الله خيراً أن يساهموا في هذا المشروع، وستجدون على الأبواب من يجمع التبرعات وكذلك حتى في مكان النساء، فالله الله أنفقوا من طيبات ما كسبتم، وأنفقوا خيراً تجدونه عند الله، وتصدقوا فإنها صدقةٌ نافعة قد تطفئ الخطيئة وتدفع غضب الرب، وترد أبواباً كثيرة من البلاء، وتنفعون بها أمتكم وإخوانكم أجمعين، فاجتهدوا جزاكم الله خيراً، فما نقص مال من صدقة، فاجتهدوا وأكثروا من الإنفاق والصدقة في هذا الباب.(42/16)
الاعتراف بالتقصير
السؤال
هناك مجموعة من الأسئلة تكلمت عن كثير من الشباب أنهم أخيار وطيبون ويعملون الخير ولكن للأسف؛ يجدون في نفوسهم تقصيراً كثيراً من جوانب ضرورية وخاصةً من جهة الواجبات؛ فيفرطون -مثلاً- في صلاة الفجر، عندهم مشاكل مع أنفسهم في الخلوة، ذكر شخصٌ آخر أنه ينظر أحياناً إلى بعض المحرمات التي تعيق، فيقول: إنني حاولت مراراً وتكراراً أن أرجع إلى الله وألا أعود لمثل هذه القضايا، ولكن تتغلب النفس علي، فأرجو من فضيلتكم تبيين مثل هذا الطريق المناسب في هذه الأمور؟
الجواب
وجود مثل هذا النوع من الشعور دليل خيرٍ لأنه يندم على كل معصيةٍ اقترفها سراً، وليعلم العبد أن الله عز وجل جمل العباد بستره فأظهر الجميل وستر القبيح، ولا نظن -أيها الأحبة- أن الصلاح أو الاستقامة هو توفير لحيةٍ أو تقصير ثوب، إنما هو صلاح السيرة والسريرة والظاهر والباطن والسر والعلانية، ولكن إن زلت القدم، أو حصلت الهفوة، فهل هذا يعني أن الواحد أصبح السبيل بينه وبين الصلاح والالتزام مقطوعاً، والهوة سحيقة والفجوة بعيدة، ولا يمكن أن يعود إلى ركب الخيار والأبرار؟
الجواب
لا.
وإني أحذر من وسوسةٍ شيطانيةٍ تأتي إلى بعض الشباب بعد أن يقع منه ما يقع من معصيةٍ أو زلةٍ أو هفوةٍ في ليلٍ أو ظلمةٍ أو غفلةٍ أو خلوةٍ أو غير ذلك، فيأتيه الشيطان ويقول: أنت بين أمرين: إما أن تستمر على التزامك الظاهر بعد الذي فعلت فتكون منافقاً، لأنك في الظاهر متدين وفي الباطن فعلت ذلك، وإما أن تسلم من النفاق فتكون كسائر الناس، احلق لحيتك، واسبل ثوبك، واسمع مثلما يسمعون، وانظر إلى ما ينظرون واسكت، ولا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر حتى تسلم من النفاق، فيأتيه الشيطان من هذا الباب، فنقول: هذا باب ٌخطر، بل الواجب من زلت به قدمٌ أن يبادر إلى التوبة والاستغفار، فأنت مأجورٌ على اتباع السنة في ثوبك وفي إعفاء لحيتك، وأنت مخطئٌ فيما أذنبت من ذنب فبادره وعالجه بالتوبة والاستغفار {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن) ابحث عن الصحبة الصالحة، لا تطل خلوتك بنفسك، لا تجعل أغلب أيامك وأوقاتك بعيداً عن الطيبين {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] لا تكن قاصياً مبتعداً، إنما الذئب يأكل من الغنم القاصية، بهذه الأسباب مجتمعة بإذن الله فأنت تطفئ بالأعمال الصالحة نار السيئة، واجعل هذا ديدنك، إذا أذنبت فأتبع الذنب فوراً بأعمال صالحة: بقراءة قرآن بصدقة باستغفار بأفعالٍ خيرة، وقع الذنب مرةً أخرى في الأسبوع الثاني الحمد لله على ما ستر، فأتبعه بالعمل الصالح وبالتوبة وبالاستغفار {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:3] ارجع إلى الله غافر الذنب {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] ليست الرحمة للمسرفين، وأنت وقعت في ذنب أو ذنبين وأنت متدين تقنط من الرحمة؟ الرحمة لعباد الله أجمعين (ورحمتي سبقت غضبي) رحمة الله واسعة سبقت كل شيء، فتعلق برحمة الله ولا تكن ممن مردوا على المعصية سراً وإظهار الصلاح ظاهراً، لأن ذلك من دلائل النفاق والعياذ بالله، لكن إذا حصلت منك زلة أتبعها بالاستغفار من غير أن تكون عادة منك وتندم عليها وتقلع، حتى لو وقعت في مثله في المرة الثانية والثالثة، أقلع وبادر وتب إلى الله عز وجل لكن لا تستمرئها وتجعلها شيئاً عادياً لا تبالي به ولا تأبه به، ما دمت تستغفر فأنت بخير، وبإذن الله إذا صدقت التوبة فلن تعود، أما من أدمنها وأصبحت ديدنه وعادةً له ولا يبالي، بل هو في الظاهر صالحٌ وفي الباطن فاجر، فيوشك أن يقع منه الحديث: (يأتي أقوامٌ يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وأعمالٍ كالجبال، يجعلها الله هباءً منثوراً) فعظم الأمر على الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) ومن كان هذا دأبه وديدنه وطبعه، في السر ألوان من المناكر والمعاصي والفجور، وفي الظاهر يدعي الصلاح، فلا شك أن هذا نفاقٌ وعلى خطرٍ أن يحبط عمله في الآخرة، أما من كان مجتهداً في الصلاح ظاهراً وباطناً سراً وعلانية، ثم وقعت منه الزلة فإن ذلك يدعى إلى التوبة والإنابة والاستغفار، ولا يعد نفسه من المنافقين فيقنط من رحمة الله، أو يقول: ما عاد ينفعني العمل أبداً، إن الصحابي الذي شرب الخمر فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلم فيه أحد الصحابة قال: أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى به من خمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فإني ما علمته إلا يحب الله ورسوله).
بالمناسبة ينبغي للطيبين أن يرحموا إخوانهم، أنا ألاحظ بعض الطيبين لو أن أحد إخوانهم من الشباب الطيب وقع في زلة أو في معصية أو مرت به ظروف، أو تغير أو أصابته حالة من الحالات -مثلاً- كان حديث المجالس، فيقال: فلان حلق لحيته، فلان أسبل ثوبه، فلان أصبح يتفرج فلان، ثم نشروا خزيه وعاره وأفعاله بين كل الطيبين وعادوه عداوةً لا يفتحون له باب العودة أبداً، سبحان الله العلي العظيم! الرسول صلى الله عليه وسلم لما جيء له بهذا الصحابي الذي شرب الخمر هل قال له: نعم، أمامنا صحابي ووراءنا شارب خمر؟ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما قال: (لا تعينوا عليه الشيطان، فإني ما علمته إلا يحب الله ورسوله) فينبغي ألا نقسم مجتمعنا إلى أقسام وأحزاب، هؤلاء طيبون، وهؤلاء ملتزمون، هؤلاء علمانيون، وهؤلاء فجار، وهؤلاء، نحن أمةٌ واحدة ولا نريد أن نتقسم، فينا السابق بالخيرات وفينا الظالم لنفسه وفينا المقتصد؛ فمن وجدناه منا كان سابقاً بالخيرات فانقلب ظالماً لنفسه نقابله بالنصيحة، نتقرب إليه ونتودد إليه ونتألفه ونستضيفه من جديد ونهديه ونناصحه، ونصيحة السر: نصيحة الرسالة والمودة والمحبة، نعيد له مكانته من جديد، لا نتفرج عليه ونتشمت به ونذله ونخزيه، حتى إن بعض الشباب تراه لو أقبل عليه بعض إخوانه وقد حصلت منه زلة ما رد عليه السلام، ولو دعي في مجلس اصفهر في وجهه وقطب جبينه ونظره شزراً وأخذ يغمز ويلمز يمنةً ويسرة كأنه يريد طرده من المجلس، أو إذا قيل له: تعال واجلس معنا.
قال: فلان معكم، أنا لا أريد أن أحضر، لا يا فضيل بن عياض ويا إبراهيم النخعي، ما حصلت منك زلة أبداً، وما أخطأت أبداً، اتق الله عز وجل ولا تعامل إخوانك بهذه الصيغة؛ مسلم زل، رب العالمين أرحم به منك ومنه، افتح له باب الأمل، وباب الرجاء وباب العودة حتى توظف طاقته من جديد، لو أن السيارة إذا خربت رميناها في المزابل وأحرقناها لما وجدنا سيارة توجد في الشارع، كل سيارة تخرب نعيد إصلاحها ونستخدمها مرة ثانية، كل شاب عندما يقع منه زلة نعيد تربيته ونستمر من جديد، وإصلاح خلل الصاحب والصديق أهون من البحث عن صديقٍ جديد، إصلاح الخلل الذي تراه في صديقك أو جليسك أو أخيك هذا أهون بكثير وأقل بكثير من مراحل البداية الجديدة، وإن كان هذا لا يمنع من أن ندعو الناس جميعاً لكن عندنا خلل في بعض المفاهيم الدعوية لعلنا أن نفردها في محاضرةٍ إن شاء الله.(42/17)
الشيخ ابن باز قبل وفاته رحمه الله
السؤال
فضيلة الشيخ! كثيرٌ من يسأل عن أحوال وأخبار سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز؟
الجواب
والله لا أحد يسأل عن الشمس إذا طلعت، سماحة الشيخ شمسٌ مشرقة أسأل الله عز وجل أن يمد في عمره وهو الآن في عمر التسعين، ماذا أقول وكلنا يكل وينقطع حينما يريد أن يباري جانباً من جوانب سيرة الشيخ:
فمن يباري أبا حفص وسيرته أمّن يحاول للفاروق تشبيها
الشيخ من يباريه في كرمه يكل، ومن يباريه في حلمه يكل، ومن يباريه في علمه يكل، ومن يباريه في صبره على الناس يكل، ومن يباريه في قضاء حوائج الناس يكل، ومن يباريه في تواضعه يكل، وأحمد الله عز وجل أن أرانا في هذا الزمن أو في دبر هذا الزمن من آياته في عباده الصالحين المؤمنين ما يشهد ويؤكد أن هذا الدين يمكن أن تتحقق سماته وصفاته وأحكامه وأركانه وآدابه في مثل هؤلاء العلماء، سماحة الإمام لا يقوم العشرات من الشباب الأقوياء بالدور الذي يقوم به الآن، وإن كان ذلك من شيءٍ فإنما هو ببركة الله عز وجل له وعليه وفيه بإذن الله عز وجل.
سأله رجلٌ موريتانيٌ قدم من المنطقة الشرقية وسأل الشيخ قال: يا شيخ! أنت رجل كبير في السن، وبرنامجك مشغول من قبل الفجر إلى ما بعد العشاء؛ تهجده قبل الفجر، ثم صلاة الفجر، وبعد الصلاة درس، وقد تعمدت مراراً أن أصلي الفجر خلفه في المسجد مراراً فإني أعجب ونحن شباب ما بلغنا الأربعين الواحد يراوح بين قدميه من تعبٍ في الوقوف، والشيخ كأنما هو سارية لا يتحرك، صلاة الفجر والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حريصٌ على السنة بالإطالة في صلاة الفجر والشباب يراوحون بالكعب، يعني: من طول القراءة والشيخ كأنه سارية لا يتحرك بل والله لو كان في المسجد طيرٌ لوقع على رأسه يظنه ليس بمتحرك، ثم بعد الصلاة درس إلى أن ترتفع الشمس أو إلى أول الضحى، ثم يعود إلى الإفطار في بيته والضيوف ينتظرونه من فقراء المسلمين وذوي الحاجات، وفرقٌ بين أن يكون ضيوفك من ذوي الجاه والمناصب والأثرياء والتجار فأنت تسبقهم وترحب وتفخر أنك تضيفهم، لكن إذا كان ضيوفك كل يوم وكل صباح ومساء الفقراء والمساكين وذوي الحاجات لا يمكن أن تصبر وتطيب، قل من يطيق ذلك، ثم يفطر معهم ويكرمهم ويدخل في البيت قليلاً ثم يذهب إلى الإفتاء -رئاسة الإفتاء- وبعد الصلاة جلسات الهيئة الدائمة، ويعود الظهر إلى البيت ليجد أن الضيوف من الفقراء وذوي الحاجات الغالب منهم ينتظرونه في الغداء فيتغدى معهم، ويلاطفهم ويسمع من حاجاتهم ويعرض عليه من معاريض الناس وحوائجهم، ثم يؤذن للصلاة فيقوم يصلي، ويلقي درساً بعد صلاة العصر، ثم يعود ليرتاح شيئاً من الوقت، ثم يستيقظ قبل أذان المغرب لصلاة المغرب ودرس بعد الصلاة أو درس عام في الدروس الرسمية العامة، ثم بعد العشاء تأتي الإذاعة والمقابلات واللجان والأوراق والمعاملات فلا يأوي إلى فراشه إلا وقد أنهكه العمل، وهذا كل يوم لا يعرف إجازة، فيقول هذا الموريتاني: يا شيخ! كيف تصبر على هذا؟ قال: فأعرض عني الشيخ، قال: فسألته ثانيةً وثالثةً وألححت عليه، قال: يا ولدي إذا كانت الروح تعمل فالجوارح لا تشعر.
هذا واضح الآن لو أن شخصاً لا تريده أو لا تحبه يوقفك يتكلم معك، انظر كم تحرك رجليك مرة وكل قليل تنظر الساعة وتتلفت وتمل وتتململ ولو أنك خلوت بحبيبك
إن يكن ليلي يوماً فلكم بت أشكو قصر الليل معه
الليل الطويل قصير دقائق كيف يمر بسرعة؟ لأنك خلوت بشيءٍ تحبه روحك فمضى الليل وأنت لا تشعر به، فكذلك الشيخ يعمل بروحه فجوارحه لا تشعر بذلك، كذلك من صلى صلاة الروح لا تمل جوارحه من الصلاة، أما الذي يصلي صلاة الجوارح وروحه غافلة سرعان ما يتململ في صلاته.(42/18)
الدعاء بالمغفرة والنصرة
السؤال
نختم الأسئلة أن توجه كلمة بأن يرزقنا الله تعالى المطر وأن ينصر إخواننا المسلمين؛ لأن هناك من الأسئلة التي جاءت بالسؤال عن أحوالهم لكن الوقت لا يكفي في ذلك، وكذلك الدعاء على من وقف ضد المسلمين في كوسوفا وفي البوسنة وغيرها من الصرب وغيرهم؟
الجواب
الدعاء مطلوبٌ من الجميع، كلٌ يدعو في مواطن الإجابة وفي مواضع دعائه المختلفة، وإن كنا نسأل الله عز وجل في كل أحوالنا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، ألا يدع لنا وللحاضرين والحاضرات ذنباً إلا غفره، ولا هماً إلا فرجه، ولا ديناً إلا قضاه، ولا مريضاً إلا شفاه وعافاه، ولا حاجةً إلا يسرها، نستغفر الله ونتوب إليه ونسأله وهو الولي الحميد أن يسقينا الغيث وألا يجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم أغث العباد والبهائم والبلاد يا رب العالمين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(42/19)
حقوق الزوج
إن كثيراً من النساء يجهلن حقوق الأزواج عليهن، وهذا الموضوع عند الناس بين طرفي نقيض، فكان لابد من الاعتدال، والتركيز على بيان حقوق الرجال على النساء كما تقتضيه الشريعة المطهرة.(43/1)
الحقوق الزوجية بين الإفراط والتفريط
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في مستهل هذا اللقاء أسال الله عز وجل بأسمائه وصفاته أن يجعل لإخواننا وأخواتنا الحاضرين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أؤكد على مسألة أنتم في غاية العلم بها، ولكننا لا نستغني عن ضرورة التذكير والتواصي ببيانها والحث عليها بين الفينة والأخرى، ألا وهي ضرورة العناية بحلَقِ الذكر ورياض الجنة، وعمارة المساجد بها، ولو لم يكن في ذلك من الفضل إلا أن تحفنا الملائكة، وتغشانا السكينة، وتتنزل علينا الرحمة، ويذكرنا الله فيمن عنده، لكان ذلك كافياً، فضلاً عما في هذه المجالس من الفوائد والفضائل والكرامات والدرجات.
ولعل بعض الأحباب قد زهدوا في الحرص على حضور حلق الذكر ورياض الجنة، وأقول لهم: لا تكتفوا بسماع هذه المواد والنصوص من الأشرطة فحسب، فالأشرطة وإن كانت نافعة، والصفحات الإسلامية التي امتلأت بها صفحات الإنترنت الآن وإن كانت نافعة، والبرامج المتنوعة وإن كانت نافعة؛ إلا أنها لا تحضرها الملائكة، أما حلق الذكر في بيوت الله، في المساجد فإن الملائكة تحضرها، وترتفع بأنباء عمَّارها إلى من يعلم السر وأخفى؛ ليزداد الحاضرون بذلك شرفاً، أن يذكروا في ملأ الله الأعلى، ثم ليكرموا بفضل من الله عظيم، تعمهم الرحمة، وتغفر ذنوبهم، وينصرفون وقد شهدت لهم الملائكة بذلك حتى تقول الملائكة: (يا ربنا! إن فيهم فلان بن فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة.
فيقول الله عز وجل: وله غفرت معهم، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) هذه مسألة بين يدي الحديث في هذا الموضوع، وأوصي إخواني وأخواتي بالعناية بها، وألا يجعلوا سماع الشريط أو قراءة الكتاب مغنية أو كافية عن حضور هذه المجالس التي يلحظ الواحد جملة من الفوائد والآثار المباركة الطيبة على نفسه وعلى أهله حال حضورها.
أما موضوع حديثنا كما اختاره الإخوة: "حقوق الزوج" ولا أدري لم قصروه على ذكر حقوق الأزواج دون أن يذكروا حق الزوجات، ولعل السبب في ذلك أن الكثيرين أفاضوا في حقوق الزوجات على الأزواج، وحقوق النساء على الرجال، حتى كأن الكفة مالت بحقوقهن على حقوق الرجال، فلابد أن يعتدل الأمر بالتركيز والعناية على بيان حقوق الرجال على النساء، وحقوق الأزواج على الزوجات وذلك أمر محمود.
أحبتنا في الله: من الطرائف والغرائب أن هناك جمعيات ظهرت الآن في البلدان التي نالت شؤم السبق وليس قصب السبق في إعطاء المرأة حريتها، والتي رفعت لواء تحرير المرأة، ونادت بنبذ القوامة ورفع كل أمر أو نهي أو توجيه أو إرادة أو تصرف من قبل الرجال على النساء، في تلك البلدان أسست الآن وظهرت جمعيات هي جمعيات تطالب بمساواة الرجال بالنساء، وأول ما بدأت فتن التغريب والحرب الشعواء ضد الإسلام وأحكامه وشرائعه ومبادئه كان ينادون من خلال جمعيات تنادي بمساواة النساء بالرجال، أما الآن فلما بلغ الأمر، وطفح الكيل، وأصبحوا يعانون ما يعانون من ألوان العهر والفجور، والزنا والخنا، والانحراف والرذيلة والضلالة، وما تبع ذلك من تهدم الأسر، وضياع الأبناء، وكثرة أبناء الزنا وغير ذلك، فأصبحوا الآن من خلال جمعيات يؤسسونها ينادون بمساواة الرجال بالنساء خلافاً لما رفعوا عقائرهم به من قبل ينادون بمساواة النساء بالرجال.
والحقيقة أن كثيراً من النساء اليوم يجهلن حقوق الأزواج عليهن، وهذا الموضوع يتنازعه طرفا نقيض: طرف يرى تفلت المرأة وخروجها وتحررها كما يسميه من قوامة الزوج بلا حدود، من خلال ما نسمعه من ادعاءات مغرضة آثمة كاذبة خاطئة، وطرف متعسف غاشم لا يرى للمرأة حقاً، فاستعبد المرأة وأذلها، والحق أن العدل مطلوب، وقول الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] والعاقل ينظر إلى العدل الذي جاءت به الشريعة من غير غلو ولا تفريط:
فلا تك فيها مُفرِطاً أو مفرِّطاًً كلا طرفي قصد الأمور ذميم(43/2)
أسباب تفضيل الرجال وجعل القوامة فيهم
قال الله عز وجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] والقوامة: من القوام على وزن فعال للمبالغة، يقال: هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما ذكره الرازي والقرطبي، والمقصود من قوامة الرجل على زوجته: قيامه عليها بالأدب الحسن والتدبير، والحفظ والصيانة، وتولي أمرها، وإصلاح حالها، والأمر والنهي فيما ينفعها، كما يقوم الولاة بالأمر والنهي على الرعايا، فقيم المرأة ومن له القوامة عليها هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إن ظهر ما يوجب ذلك.
وقد تقول امرأة وقد يقول قائل أيضاً: لماذا كانت القوامة للرجل على المرأة؟ إن الله سبحانه بين ذلك جلياً صريحاً في قوله سبحانه: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] يعني: في أصل الخلقة، فالرجل أعطي من الحول والطول والقوة ما لم تعط المرأة؛ فلأجل ذلك كان التفاوت في التكاليف والأحكام والحقوق والواجبات مرتباً على ذلك التفاوت والاختلاف في الطبائع والفطر.
والسبب الثاني جلي من الآية وهو في تبيين القوامة للرجل على المرأة وهي قوله تعالى: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فالرجل متحمل للنفقة، باذل للمهر، مسئول عن أشياء كثيرة.
ويذكر المفسرون أن من أسباب فضل الرجال أن فيهم الأنبياء، وأن الإمامة الكبرى والصغرى لا تكون إلا في الرجال، وأن الجهاد على الرجال، وأن الأذان والشهادة في الحدود، والولاية في النكاح، وأمر الطلاق والتعدد وزيادة السهم في الميراث كلها للرجال دون النساء، وكل ذلك من صميم الشرع وليس باجتهاد أو بشهوة أو برغبة، بل الذي خلق الذكر والأنثى هو الذي فضل الذكر على الأنثى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
ومن الواضح أن اختصاص الرجال بهذه الأحكام جاء نتيجة لاستعدادهم الجبلي الذي خصهم الله عز وجل به، ولا يخفى -أيضاً- أن قوامة الرجال على النساء ليست من باب السيطرة، أو من باب الأمر والنهي اللا مسئول، والذي لا غاية ترجى منه، ولا فائدة تجنى من ورائه، بل الحقيقة أن هذه القوامة عائدة مصالحها، منتهية ثمارها إلى المرأة ذاتها، قال القرطبي بعد أن ذكر أسباب التفضيل: ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن.
أي: فائدة تفضيل الرجال على النساء عائدة إلى النساء.
ولعلي أن ألخص كلام صاحب المنار إذ يقول: فالرجل الذي تحمّل القوامة بناءً على أساس الخلقة وما خص به وجبل عليه من الكسب والنفقة على الزوجة، فقد تيسر للزوجة القيام بوظيفتها الفطرية وهي الحمل والولادة، وتربية الطفل، وهي آمنة في سربها، مكفية ما أهمها من أمر رزقها، فيسر للمرأة كل ذلك بسبب حماية الرجل لها وإنفاقه عليها، وهذا جلي وواضح.
والقوامة -أيها الأحبة- تقوم على أساس المودة والرحمة، فالذي يعاشر المرأة ويعاملها من باب الغطرسة، ومن باب التلذذ والتفكه بالأمر والنهي، والأوامر التي لا فائدة من ورائها سوى إكمال نقص يشعر به الرجل يملؤه في الأمر والنهي الذي لا غاية ترجى منه، فإن هذا ليس من القوامة في شيء، إنما القوامة في الأمر الذي ينمي خلقاً، ويزرع أدباً، ويحفظ سمتاً، ويهدي دليلاً، ويصلح حالاً، وينشئ بيتاً، ويحمي كياناً، ذلك الأمر والنهي هو الذي يفيد بإذن الله سبحانه وتعالى؛ فلأجل المودة والرحمة والسكن والراحة النفسية شرع الزواج، وشرع فيه أن تكون القوامة للرجال على النساء، فإن الله عز وجل لما جعل في الزواج السكن والمودة والرحمة لم يكن لينقضه بقوامة الرجال وغطرستهم إن أسيء استخدامها، بل إنما جاءت القوامة تكميلاً لمسألة السكن والمودة والرحمة؛ ولذا قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فقوامة الرجل ورياستة التي قلدها يجب أن تكون مبرأة من التعسف في استعمال الزوج سلطته، ليس لك أن تستخدم هذه القوامة في إذلال المرأة والإضرار بها كما يظن كثير من الجهلة، بل إن القوامة والرياسة الزوجية أسسها المودة والرحمة، وضابطها إرادة الخير، فهي لم تشرع إلا لإعزاز المرأة والاهتمام بها، وتقويمها وتأديبها ولكن بضوابط، كأن تهمل حق الزوج فتحتاج إلى هذا الأدب.
وإن مما يفسد الحياة الزوجية استثقال كثير من النساء إن لم نقل جلهن قوامة الرجال عليهن، وكل امرأة تؤمن بالله رباً وتؤمن بأن الله عليم حكيم، كل أمره ونهيه قائم على مقتضى العدل -لأن الله لا يظلم- مشتمل على تمام الحكمة لأن الله لا يعبث، كل امرأة تؤمن بالله عز وجل وتؤمن بذلك كله فإنها ترى طاعة الزوج باباً من أبواب العبادة، لا تنظر إلى الطاعة أنها باب من أبواب التعسف والغطرسة، أو من باب قهر النساء بأمر الرجال هذه مسألة مهمة.
ونحن اليوم في زمن كما جاء في صحيح البخاري (يأتي على الناس زمان يشربون الخمر فيسمونها بغير اسمها) نحن في زمن انتكست فيه كثير من المفاهيم، وتقلبت فيه كثير من الأمور، فأصبح المعروف عند البعض منكراً، والمنكر عند البعض معروفاً، وأصبحنا نجد من الغرائب والعجائب أشياء كثيرة! أليس الناس يرون أن عظماء الرجال هم الذين لا يخرجون وحدهم، بل الغالب أن معهم من الحشم والخدم والحرس من يأتمرون بأمرهم، ويستجيبون لتوجيهاتهم، ويحفظونهم ويقدمون لهم ما يشاءون ويريدون؟
الجواب
بلى.
لماذا لما كان الرجل حارساً للمرأة حامياً لها، وذلك من باب إكرامها وحشمتها والعناية بها لم يقال فيه: هذا من باب الاحترام وإنما قيل: هذا من باب التجسس؟! تكتب صحفية ماجنة مثلاً أو يكتب علماني فاسد مفسد لا يريد للمسلمين أن تظل مجتمعاتهم على درجة من الصيانة والرعاية والحفظ والتمام، لا يريد لهم ذلك فيقول: الرجل جاسوس يتابع المرأة، ولا تمنح المرأة أي ثقة بل لابد أن ينطلق الجاسوس تابعاً لها في كل مكان تخرج إليه.
لماذا لم يجعل الحشم الذي يمشون خلف العظماء من باب التجسس عليهم؟ لا، هؤلاء عظماء، ويستحقون الخدمة والحشمة والرعاية والصيانة، فكذلك المرأة جعلت في منزلة رفيعة بحيث أمر الزوج أن يكون معها في السفر فلا تسافر وحدها، وبحيث ألا يخلو أحد بها، فلا يخلو بها أحد من دون محرم، ولأمور كثيرة يراها الشرع الحنيف، ومن يفقه الشرع يرى أنها من تمام الرعاية والرفعة والكرامة والإجلال للمرأة، ويراها أعداء الإسلام وأذناب الغرب يرونها لانتكاس فطرهم ومفاهيمهم من باب التجسس والشك، ومن باب المتابعة والتنقيص لأمر المرأة! وكل ذلك مما يدخله تلاعب الألفاظ، والحقيقة أن ذلك هو الحق الذي شرعه الله في كرامة هذه المرأة، أن تخدم وأن ترعى وأن تصان وأن تحفظ، لا أن تكون سلعة لدعاية في منتج، حتى إطارات السيارات، وحتى بطاريات السيارات، وحتى أمور لا علاقة للمرأة في علاجها والتعامل معها جعلت المرأة سلعة أو دعاية في ترويجها، كل ذلك من باب احتقار المرأة عند أولئك، وإن كانوا أظهروا لها وسموها أنها المرأة المتحررة، والمرأة السعيدة، والمرأة التي تلبس ما شاءت، وتخرج متى شاءت، وتحدث من شاءت، وتتكلم مع من شاءت، وتفعل ما شاءت كل ذلك جعلوه في قالب قشيب جذاب تؤزه الدعاية والإغراء والفتنة، وتستهدفه الشهوة التي تجعل النساء في هذه الأحابيل ليكن فرشاً ومتاعاً وزهرات يمتص رحيقها من قبل الرجال، حتى إذا لم يبق من الرحيق شيء رمي بها في قارعة الطريق، ولا تجد من يلتفت إليها بأي حال من الأحوال.
حينما تجد الأساليب أو الميادين أو المجالات التي أقحمت فيها المرأة بغير طائل ولا مصلحة بل لمفسدة ومذلة، تعلم تماماً -إن رزقك الله النظر بعين البصر والبصيرة- أن المرأة استخدمت كسقط المتاع، وكأدنى وسيلة من أجل ترويج البضائع والحصول على الأموال.
إذا المرأة عرفت أن قوامتها عبادة كما تتعبد ربها بالصلاة والركوع والسجود والصيام، فإذا علمت أن قوامة الرجل عليها عبادة فإن ذلك يجعلها تسعد وتلذ بهذه القوامة، بل المرأة السليمة التي لم يفسد ذوقها ولا عقلها هي التي تشعر أنها بأمس الحاجة إلى قوامة الرجل عليها، بل الكثير من النساء اللائي يشكين من جور الزمان، وغلبة الملوان، وما يحصل لهن من الأذى والهوان تقول: يا ليت لها قيماً يحفظها ويصونها ولو أمرها ونهاها بما يتضايق منه كثير من النساء هذه المرأة العاقلة، لكن التي لم تقدر نعمة القوامة من قبل الرجل عليها فإنها تتمنى أن تتفلت؛ لأنها لا تنظر إلى القوامة والتعامل معها من باب التعبد؛ ولأنها لم تكتشف بعد حقيقة ما يؤول إليها من النفع من خلال هذه القوامة.
إذاً فلا بد أولاً من رضا النساء بحكم الله وشرعه فهو الأعلم بالأصلح للرجال وللنساء، ولذا جعل القوامة في أيدي الرجال فقال: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] حتى لو لم تظهر لنا بعض الحكم فلا بد أن نسلم ولابد أن نرضى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] أي مؤمن! يتعامل مع هذه النصوص الشرعية المعصومة بمقتضى التسليم والخضوع والانقياد لله عز وجل، والاتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن المرأة المسلمة حيال ذلك لا تملك إلا الرضا والسعادة والتسليم، ومن كانت على غير هذا فإنها تضيق وتتبرم بهذه القوامة.
أيها الأحبة في الله! إن الله سبحانه وتعالى قد عظم حقوق الزوج على زوجته مع أن الله سبحانه وتعالى جعل لهن من الفضل والكرامة كما للرجال، إلا أنه جعل للرجال عليهن درج(43/3)
الأحاديث الواردة في حقوق الزوج
ومن الأحاديث الواردة في هذا ما رواه أبو داود في سننه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن) لما جعل الله لهم عليهن من الحق، ويؤكد ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أعظم حقاً على المرأة؟ قال: زوجها.
قلت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه) رواه البزار والحاكم بل إن محافظة المرأة على حقوق الزوج يعد عملاً وعبادة جليلة تبلغ في ثوابها بالمرأة مبلغ ثواب الرجال من الجهاد في سبيل الله، ومصداق ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنه (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وفي بعض الروايات- أنها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية قالت: يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال فإن يصيبوا أجروا، وإن قتلوا فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ونحن معاشر النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج والاعتراف بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعلن).
وجاء في بعض الروايات أن أسماء رضي الله عنها جاءت فقالت: (يا رسول الله! ذهب الرجال بحظهم من الأجور: يسمعون حديثك، ويغزون معك، ونحن معاشر النساء طاهيات طعامكم، وغاسلات ثيابكم، وحاضنات أولادكم، فما لنا من ذلك يا رسول الله؟ -أي: ما لنا من الثواب والحظ والأجر؟ - فقال صلى الله عليه وسلم وقد التفت إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقال: هل سمعتم سؤالاً أحسن من سؤال هذه؟ قالوا: لا يا رسول الله! فالتفت إليها صلى الله عليه وسلم فقال: اسمعي وأخبري من وراءك إن حسن تبعل المرأة لزوجها يعدل ذلك كله) أي: إن حسن المعاملة، وحسن الخضوع، وحسن الاستسلام للقوامة، وحسن الرعاية، وأن تكون امرأة عروباً متحببةً متوددةً إلى زوجها أن ذلك يجعل لها من الثواب ما يعدل ثواب من يجاهد ويغزو ويحج ويجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) رواه الإمام أحمد والطبراني أليس ذلك كله دليل على عظم حق الزوج وعلى عظيم منزلته؟ فأين كثير من النساء عن هذا؟! إن كثيراً من النساء قد استطلن في أعراض أزواجهن غيبة ونميمة، وإن كثيراً من النساء قد امتلأن بغضاً وحقداً وكراهية على أزواجهن، إن كثيراً من النساء قد تسلطن في تحقير أزواجهن أمام أولادها وأولادهم، إن من النساء من تكون سبباً في تقزيم وتصغير وتحقير مكانة الزوج ومكانة الأب أمام أولاده من حيث تشكو وهي تدري أو لا تدري أنها تجعل التوجيه والريادة والسيادة لغير الوالدين من خلال هذا الكلام الذي تقوله، لعله بسبب حفنة من المال منعت ولم تعطها، أو بسبب مناسبة زفاف أراد زوجها ألا تحضرها لمنكر من المنكرات يعلمها في ذلك الزفاف، أو لأمر ومصلحة يقدرها الزوج ولا تقدرها المرأة.
يقول ابن قدامة في المغني رحمه الله: وحق الزوج عليها أعظم من حقها عليه لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وكذلك صاحب كشاف القناع واستدل بالآية والحديث: فهو أمر عظيم متأكد لا جدال فيه، فأين الذين يحاربون القوامة اليوم زاعمينها استعباداً؟ أين هذا من هذا؟! وأين الذين يحاربون الأسرة ويزعمونها سيطرة وقيداً وقفصاً حديدياً؟! أين هم من إدراك هذه المسائل والفضائل؟! بل أين المرأة التي تنساق وراء دعاوى مضللة وشبه كاذبة من هذا؟ ألا تطمع المرأة في جنة عرضها السماوات والأرض؟ ألا تطمع في أن تصل عليها الملائكة وتدعو لها؟ ألا تطمع في أن يرضى ربها عنها؟ ألا تخشى من لعنات الملائكة المتتابعة؟ ألا تخشى من سخط الله عليها؟ ألا تخشى من عقوبة الله أن تحل بها بسبب نشوزها أو إعراضها أو ارتفاعها أو تكبرها عن طاعة زوجها والاعتراف بحقوقه؟!(43/4)
حقوق الزوج على الزوجة
أيها الأحبة في الله! حقوق الزوج على الزوجة كثيرة:(43/5)
من حقوق الزوج على الزوجة الطاعة
فمن ذلك: الطاعة، وهي الطاعة في المعروف والقوامة دالة على ذلك، وقد جاء في تفسير قول الله تعالى: ((الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)) [النساء:34] جاء في تفسير الآية: إن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية.
ذكره الجصاص والقرطبي، وإن أساس هذا الحق هو القوامة إذ أنه لا معنى لحق القوامة بدون حق الطاعة، مادام للرجل قوامة فله على زوجته أن تطيعه ولا تعصيه ما لم يكن أمره لها في معصية الله عز وجل، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] لاحظوا قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء:34] دل على أن الحق الذي لكم هو الطاعة، فإن فرَّطَتْ في هذا الحق والطاعة كان سبيلكم إلى إرجاع المرأة إليه الوعظ أولاً، ثم الهجر ثانياً، ثم الضرب غير المبرح ثالثاً.
قال الكاساني في البدائع: أمر تعالى بتأديبهن بالهجر والضرب عند عدم طاعتهن، ونهى عن ذلك إذا أطعن أزواجهن لقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فدل على أن التأديب كان لترك الطاعة فدل على لزوم طاعتهن للأزواج.
وقول الله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] فالزوج كالأمير والراعي والزوجة كالمأمور والرعية؛ فيجب عليها بسبب كونه أميراً وراعياً أن تقوم بطاعته كما يجب عليه أن يقوم بحقها ومصالحها، ويجب عليها إظهار الانقياد والطاعة للزوج ذكره الرازي أيضاً.
بل إن صلاح المرأة في طاعة الزوج، قال تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ} [النساء:34] فأثنى عليهن بصلاحهن، ووصفهن بعد الصلاح بالقنوت، والقنوت هو: الطاعة، والمرأة القانتة هي المطيعة، وتأمل حرف الألف واللام في الجمع بقيد الاستغراق فهذا يقتضي أن كل امرأة صالحة لابد أن تكون قانتة مطيعة ذكره الرازي.
ومعلوم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ففي البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها، فتمعط شعر رأسها، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقالت إن زوجها -أي: زوج ابنتها- أمرها أن تصل شعرها فقال صلى الله عليه وسلم: (لا.
إنه قد لعن الموصلات -وفي رواية- الواصلة والمستوصلة) ومعنى تمعط شعرها: أي تمزق وتساقط، قال العيني: ووجه الدلالة أن الزوج طلب شيئاً غير شرعي فلم تجز طاعته فيه، ولو كان الطلب شيئاً شرعياً وجبت طاعته.(43/6)
من حقوق الزوج على الزوجة الإجابة إلى الفراش
ومن حقوق الزوج على المرأة التي ينبغي أن تنتبه لها غاية الانتباه وألا تقصر فيها: حق في وطئها.
فلابد أن تطيعه في الوطء، ففي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح) أي زجر للنساء! وأي نهي للنساء! وأي تحذير للنساء من هذا الذي يحرم عليها أن تأبى الانقياد والطاعة لزوجها حينما يريد أن يقضي ما شرعه الله بينه وبينها مما يحقق بينهم سكناً ومودة؟! وفي لفظ للبخاري وأحمد وغيره: (فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) يعني: إذا دعاها إلى فراشه فأبت؛ فبات غضبان؛ فإن الملائكة تلعنها حتى تصبح، وفي هذا يتجه وقوع اللعن، وقد وردت أحاديث كثيرة في لزوم طاعته إذا دعاها إلى فراشه، وأنها لا يسعها عصيانه ولو كانت على التنور، ولو كانت على ظهر قتب، ولو كانت في حال من الأحوال إذا احتاج الرجل إليها خاصة في هذا فإن هذا من أخص الحقوق بين الزوجين، ولتعلم المرأة أنها حينما تفرط في هذا فربما تفتح باباً إلى الزنا أو باباً من الفساد أو باباً من مرض القلب أو باباً من الأبواب التي لا تزال تتسع يوماً بعد يوم حتى تقع بالرجل في هاوية الانحراف والرذيلة، وتكون هي السبب وهي التي أشعلت شرارة البداية في هذا الانحراف، فلا يسع للمرأة أن تعصيه.
بل جعل ابن حزم طاعتها له في الوطء فرضاً تستحق اللعن إذا لم تقم به ما لم تكن حائضاً أو مريضة تتأذى بالجماع أو صائماً في فرض فإن امتنعت في غير عذر فهي ملعونة هذا كلام ابن حزم في المحلى.(43/7)
من حقوق الزوج على الزوجة المبادرة في أمور الطهارة والنظافة
والطاعة أيضاً في أمور الطهارة كالاغتسال من حيض ونفاس، وله أن يجبرها على ذلك إن امتنعت؛ لأن تلكم الأشياء تمنع استمتاعه بها فله الحق في إجبارها على ما يمنع حقه، أي: أن هناك امرأة طهرت من الحيض فقال لها زوجها: اغتسلي.
معروف لماذا أمرها بالاغتسال؟ حتى يصيب منها ما شرع الله له معها، فإذا أبت فإن امتناعها من الغسل من الحيض مثلاً إنما هو معصية تستحق عليه اللعن والعياذ بالله، ولابد لها أن تبادر ويجب عليها ذلك؛ لأن امتناعها عن ذلك مما يفوت كمال استمتاعه بها.
كذلك مما يجب من الحقوق للزوج ومما يجب من أمور الطاعة فيما يأمر به الزوج الطاعة في أمور النظافة، في إزالة الوسخ والدرن وتقليم الأظافر وغيره مما تعافه النفس، وبعض العلماء يرى أن للزوج إلزامها به؛ لأن بقاء هذه الأشياء يمنع كمال الاستمتاع.(43/8)
من حقوق الزوج على الزوجة طاعته في ترك النوافل إذا احتاج إليها
كذلك من حقه عليها أن تطيعه ولو في ترك نوافل العبادات، فامرأة شغوفة بقيام الليل، إذا احتاجها تشاغلت بالطهارة والوضوء والركوع والسجود، إن نومها في فراش زوجها وبجواره يرفعها درجات أعظم من درجات انشغالها بالنوافل والركوع والسجود من الطاعة.
وكان نساء السلف الصالح إذا أرادت إحداهن أن تشتغل بالتهجد في الليل وقفت عند رأس زوجها وقالت له: ألك بنا حاجة؟ وهذا من جمال الأدب في التعريض عند ذكر الحاجة بين الرجل وزوجته فإذا أرادها أشار إليها، وإن لم يردها دعت له ثم ذهبت تصلي وتتهجد قانتة قارئة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار.
أين ذلك الجيل؟ وأين نساء اليوم من ذلك الجيل؟
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
يخبرني بعض من يتصل ويرسل وبعض من يتكلم عن أمور كهذه، منها أن بعض النساء أصبحت تقول: إياك أن تطلبني إذا استحكم مزاجك في طلب هذه الحاجة، لكن إذا اتفق مزاجي مع مزاجك ثم اتفقنا على قاعدة المفاوضات على فعل هذا الأمر فلنجتمع لتنفيذه، وكأنها اتفاقية تحتاج إلى أطراف ووكلاء وآخرين من جهات شتى! ما الذي عقد الحياة الزوجية بهذه الدرجة حتى أصبحت المرأة تستنكر وتستكبر إذا دعاها زوجها وتقول: لا؟ إذا كان مزاجك أو رغبتك أو حاجتك حضرت فإن حاجتي بعد لم تحضر؟ لا، لم يرد في الشرع هذا، بل الذي ورد أن تجيب وأن تطيع وإن كانت على ظهر قتب أو على تنور، حتى العبادة والطاعة إذا أرادت أن تصلي أو تصوم نفلاً وهو شاهد فليس لها أن تصوم ذلك إلا بإذنه، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) رواه البخاري وفي رواية: (لا تصوم امرأة وزوجها شاهد يوماً من غير رمضان إلا بإذنه) رواه أهل السنن إلا النسائي.
ويفهم من هذا الحديث جواز منع الرجل زوجته من صوم التطوع، وعليها أن تطيعه في ذلك، ويفهم أيضاً: أنه يحرم على المرأة أن تصوم النفل بدون إذن زوجها الحاضر؛ وسبب التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقها واجب على الفور فلا يجوز لها أن تفوته عليه بانشغالها بنوافل الصوم وغيره.
وكذلك من فوائد هذا الحديث أن الزوج ليس له أن يأمرها بمعصية الله عز وجل، فإذا صامت قضاءً لصوم واجب عليها فلا يجوز له أن يجبرها على نقض صومها أو فطر ذلك اليوم الذي تصومه قضاءً في صيام واجب.(43/9)
من حقوق الزوج على زوجته حفظ ماله
ومن الحقوق أيضاً: حق زوجها عليها في حفظ ماله، فمن النساء من وجودهن بركة، فإذا أقبلت على البيت رأيت البركة تعمره في شتى شئونه، بل تملأ جوانبه وأركانه: في حسن تدبيرها، واقتصادها، ورعايتها.
ومن النساء من دخولها بعض البيوت بوابة إلى الإعسار والفقر والمسكنة والمسغبة بسوء تدبيرها وعدم حفظها لمال زوجها؛ ولذلك فإن مما يُدعى به لمن تزوج امرأة أن يقال له: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير.
إذا كانت المرأة بركة على زوجها كانت سبباً -بإذن الله- في حفظ ماله ونمائه، وكانت سبباً في اقتصاد معيشته، وكانت سبباً في أن تكرمه وتعينه وتحفظه من أن يريق ماء وجهه حاجة للناس.
أما إذا ابتلي بامرأة مسرفة خراجة ولاجة، تعرف الأسواق، ولها مع الحوانيت والدكاكين وأصحابها مواقف ومشاهد مأثورة أو معروفة، فإنه لا هم لها إلا أن تكون يداً طالبة للمال في كل حال، لا ترحم زوجها، وإذا قصر في بذل المال لها فالويل ثم الويل له، هذا من دلائل شؤم المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاث: في المرأة، والدار، وفي الدابة) أي: أن المرأة ربما تكون شؤماً وربما تكون بركة.
في هذا الباب -وهو حق الزوج على المرأة في حفظ المال- يقول تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] قال قتادة في تفسير هذه الآية: مطيعات لله، ثم مطيعات لأزواجهن، وأصل القنوت دوام الطاعة، ثم قال: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] أي: حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله، وما يجب من رعاية حاله، وما يلزم من صيانة نفسها له ذكره الجصاص في أحكام القرآن.
وقد ذكر الرازي أن الحفظ من وجوه: أولها: حفظ نفسها من الزنا.
والثاني: حفظ ماله عن الضياع.
والثالث: حفظ منزله عما لا ينبغي.
قال صلى الله عليه وسلم: (خير النساء إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك -وقرأ هذه الآية {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34]) ومما يستدل لهذا وأن المرأة مسئولة، وأن من حق الزوج عليها أن تحفظ ماله، وأن تحفظ متاعه، وأن تحفظ بيته قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها) متفق عليه ومعنى رعاية المرأة لبيت زوجها: في حسن التدبير، والنصح، والأمانة في المال، وحفظ ما يدخل من القوت والطعام، فالمرأة أمينة على ذلك.
وهنا مسألة فيما يتعلق بحفظ المال، ينبغي للزوج أن يطلق لزوجته يد الثقة والأمان، وأن يطلق لزوجته يد الأريحية والكرم، فمن الناس من لو رأى زوجته أخذت من الطعام أو المتاع شيئاً إلى بيت أهلها أو عمتها الفقيرة أو خالتها الأرملة جُنَّ جنونه، وجحظت عيونه، واشرأب عنقه، وشخص بصره، وكاد أن يصيبه من الغم والهم ما لا يوصف! لماذا؟ بسبب أنها أخذت شيئاً من اللحم أو الطعام، أو شيئاً من الزاد لقريبة أرملة أو امرأة مسكينة في حال يرثى لها.
ينبغي للزوج ألا يكون بخيلاً، وليعلم أن البخل هو الذي يفسد الخصال بل يدفنها، والكرم هو الذي يغطي المعائب
تمتع بالسخاء فكل عيب يغطيه كما قيل السخاء
الرجل الكريم السخي كل زلاته مغفورة معفو عنها عند زوجته بسبب السخاء والكرم، أما البخيل فمهما بلغ فإن بخله سبب في دفن محاسنه وإظهار معايبه، لذا كان على الرجال أن يطلقوا يد الأمانة والثقة والأريحية والكرم للنساء فيقول: يا أمة الله! إذا طرق الباب فقير أو مسكين فأعطوهم من الطعام ما ترونه سبباً في دفع البلاء وشكر النعمة، والقربى إلى الله عز وجل، إذا علمت أن أهلك في حاجة إلى شيء من الطعام فأنت مأذون لك في أن تأخذي من زادنا وطعامنا ما ترين، إذا علمت من خالة فقيرة أو عمة أرملة أو مسكينة محتاجة فأعطيها ما ترين، فإنك مكان نفسي، بل لك الأجر بإذن الله سبحانه وتعالى.(43/10)
من حقوق الزوج على زوجته خدمته وخدمة منزله
ومن الحقوق أيضاً: حق الزوج عليها في خدمته وخدمة منزله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ويجب على المرأة خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وكذلك خدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة وهذا كلام جميل لـ ابن تيمية رحمه الله مع أن هناك من أهل العلم من يقول: لا يجب على المرأة أن تخدم زوجها، والواجب عليه أن يهيئ لها من يعد طعاماً وشراباً ويخدمها، ولكن هذه المسألة خلافية قد توسط فيها ابن تيمية توسطاً جميلاً فقال: يجب على المرأة خدمة زوجها بالمعروف.
فلا يأتي إنسان يقول للمرأة وهو صاحب عمال وأعمال وغير ذلك ويأمرها يومياً أن تطبخ الطعام لعشرات، بل أكثر من ذلك من الوافدين والداخلين والخارجين إذا كان هذا يشق عليها مشقة بينة واضحة، فعليها أن تطيعه في المعروف.
من المعروف: أن تطهي طعامه، لكن ليس من المعروف أن تتحول إلى طباخة تطبخ يومياً لعشرين وثلاثين من العمال وغير ذلك.
من المعروف: أن تنظف البيت، لكن ليس من المعروف أن تتحول إلى عاملة لكنس الاستراحة ورشها والعناية بكل ما يحتاجه هو وشلته وأصحابه ورفاقه كل يوم لتظل طول اليوم مهينة مهيضة مكسورة ضعيفة، فلا القول بأن حقه عليها في الخدمة مطلق ولا القول بأنه ليس له عليها من الحق في الخدمة أيضاً، وإنما الوسط في ذلك كما سدد إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: ويجب على المرأة خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة انتهى من الاختيارات.
وقال مثل ذلك أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف وأبو إسحاق الجوزجاني وغيره قال: وأدلة هذا القول ما رواه البخاري أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعت أنه جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبي، وكانت قد مجلت يداها مما تقوم به من خدمة علي رضي الله عنه، والطحن على الرحى، وإعلاف فرس علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله خادماً فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بما هو خير لك من خادم؟ تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبرين أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم وخادمة).
ووجه الاستدلال أن فاطمة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيها خادماً من هذا السبي الذي جيء إليه به لم يقل صلى الله عليه وسلم: إن من حقك على علي أو من واجب علي أن يخدمك أو أن يهيئ لك خادماً، ولم يأمر زوجها علي بن أبي طالب بأن يهيئ ذلك إما بإخدامها خادماً أو باستئجار من يقوم بذلك أو بتعاطي ذلك بنفسه، ولو كانت كفاية ذلك إلى علي رضي الله عنه لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن قال: (ألا أخبرك بما هو خير لك من خادم وخادمة؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، وكبرا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا أربعاً وثلاثين) وفيه من الفوائد: أن الذكر يقوي البدن.
وأن الذكر والاستغفار خاصة من أسباب قوة البدن بإذن الله عز وجل.
قال الطبري: يؤخذ منه أن كل من كانت له طاقة من النساء على خدمة بيتها في خبز أو طحن أو غير ذلك أن ذلك لا يلزم الزوج إذا كان معروفاً أن مثلها يلي ذلك بنفسه ذكره ابن حجر في فتح الباري.
ويستدل أيضاً بحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: كنت أخدم الزبير بن العوام رضي الله عنه خدمة البيت كله، وكانت له فرس فكنت أسوس فرسه، وكانت تعلفه وتسقي الماء، وتخرج الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلاثة فراسخ.
والمسافة بعيدة، والحديث في البخاري.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها مع نفر من أصحابه فلم ينكر ذلك عليها، ولم ينكر على الزبير حالها معه، ولم يقل: يا زبير لم لا تُخدمها، لم لا تحضر لها خادمة؟ قال ابن حجر: والذي يظهر أن هذه الواقعة وأمثالها كانت حالة ضرورة، ووجه هذه الضرورة شغل زوجها الزبير وغيره من المسلمين بالجهاد وغيره مما يأمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يتفرغون لأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم على استخدام من يقول بذلك، فانحصر الأمر في نسائهم فكن - يعني: النساء- يكفينهم مؤونة البيت ومن فيه؛ ليتوفروا على ما هم فيه من نصر الإسلام، أي: ليظل الرجال منشغلين بالجهاد ونصر الإسلام -ثم قال- والذي يترجح: حمل الأمر في ذلك على عوائد البلاد فإنها مختلفة في هذا الباب.
وأنت تلاحظ أن ابن حجر اقترب من قول القائلين بإيجاب الخدمة على المرأة على النحو الذي يقضي به عرف الناس وعاداتهم.
والآن أصبح الكثير من النساء مخدومات بالخادمات، ولكن مع هذا كله نقول لأخواتنا: إن طبخ الزوجة لا يمكن أن يقارن في ذوقه وحلاوته وتلذذ الرجل به، وشعور الرجل بمكانة المرأة في منزله، لا يقارن بطبخ الخادمات، فإياك إياك أمة الله أن تسندي طبخ طعام زوجك إلى خادمة!! ومسألة أخرى: الرعاية والعناية بالأولاد، إياك ثم إياك أن تسندي مسألة الرعاية بالأولاد في نظافتهم وفي لباسهم، وفي الحديث معهم، وفي تأديبهم إلى الخادمات! وإلا فسوف يخرج جيل أعجمي غريب الطباع والعادات يقول ابن القيم رحمه الله: لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أسماء والنوى على رأسها والزبير زوجها معه، لم يقل صلى الله عليه وسلم: لا خدمة عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره صلى الله عليه وسلم على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم وهذا أمر لا ريب فيه، ذكره في زاد المعاد.
وقال عن حديث فاطمة: هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة، وفقيرة وغنية، فهذه -يعني فاطمة - أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تريد خادماً وتشكو إليه الخدمة فلم يقدم لها أو يعطها خادماً.(43/11)
من حقوق الزوج على الزوجة ألا تأذن في بيته لمن يكره
كذلك من حقوق الزوج على امرأته: عدم إدخال من يكره الزوج إلى منزله إلا بإذنه، فعن عمر بن الأحوص بن شمير رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ: (ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهونه، ولا يَأْذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه، ألا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه ابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح.
وفي البخاري أيضاً (لا يحل للزوجة أن تأذن لأحد رجل كان أو امرأة أن يدخل في بيت زوجها وهو حاضر إلا بإذنه) فهذه مسألة مهمة، بل إن بعض النساء تكاد أن تقول الزوج: أنت اختر: إما أن تسمح بدخول فلانة التي أنا أحبها ولو كنت -أيها الزوج- تكرهها وإلا فطلقها.
أي تقول: طلقني لا أقبل أن أبقى، يا إما فلان أو فلان! إن حق الزوج مقدم، ولا يمكن أن يوضع الزوج في الخيار الصعب يا فلان أو الطلاق أو يا فلانة أو الطلاق لا.
وكذلك ينبغي للأزواج أن يتعاملوا بمنتهى الأريحية ولين الجانب، وخفض الجناح، واللطف في المعاملة، فإذا علم أن زوجته تحب فلانة التي لا خطر من غشيانها بيته، أو علم أن زوجته تحب من أقاربها ومن محارمها فلاناً أو فلانة فعليه أن يتجنب الغيرة التي لا داعي لها، وعليه أن يتجنب البخل الذي لا موجب له، بل من كرمه الذي يسبب مزيد حب زوجته له أن يقول: أنا أسمح لك بدخول أهلك بدخول فلان وفلان من أقاربك، فالأصل في الناس الخير، والأصل في الناس العدالة، إلا من اشتهر بخبث وفسق وشر فيقول: أما فلان وفلان وفلان فلا أسمح ولا آذن بدخولهم بيتي حاضراً كنت أم مسافراً، حضراً أم سفراً، ليلاً أم نهاراً، بأي حال من الأحوال فإن ذلك من دلائل قيامه بالقوامة التي تفضي إلى إصلاح حال الزوج والزوجة.(43/12)
من حقوق الزوج على الزوجة عدم الخروج من البيت إلا بإذنه
كذلك من حق الزوج على زوجته: ألا تخرج من بيته إلا بإذنه، كثير من الرجال اليوم يأتي إلى البيت: يا بنية أين أمك؟! والله لا أدري، خرجت إلى أين؟! لا أدري.
متى تعود؟! لا أدري.
وربما يجد ورقة معلقة عند باب الثلاجة أو عند السرير: أنا ذهبت إلى فلانة أو ذهبت إلى فلان أو آل فلان أو زواج بني فلان هل استأذنت من قبل؟! هل أشعرت زوجها من قبل؟! هل أخبرته بذلك من قبل؟! لا، إنما يكفي صورة من القرار للإشعار والإحاطة مع التحية، أما أن يكون للزوج الإذن في أن يقبل أو لا يقبل أو يرضى أو لا يرضى إطلاقاً لا، وهذا من انتهاك النساء لحقوق الرجال، من انتهاك الزوجات لحقوق الأزواج.
بل الواجب -مثلاً- أن تأخذ قاعدة عامة: إذا كان بيت أهلها أخوال أولاده قريب من بيته فيقول مثلاً: هذا إذن مفتوح أن تخرجي إلى أجداد أولادي أو أخوال أولادي في أي وقت تشائين ما دام الأمر متيسر، ولا حاجة إلى الإذن المتكرر في ذلك.
أيضاً أن يحدد مثلاً بالنسبة للمريض الفلاني والمريضة الفلانية من الأقارب فلك فرصة في الأسبوع أن تزوريها ما بين كذا وكذا، يعطيها إذناً مفتوحاً بهذا في وقت محدد بزمن، أما أن تخرج المرأة وتكن خراجة ولاجة وتأتي متأخرة يغالبه النوم والنعاس على فراشه وحده وهي غير موجودة، أين كنت اليوم؟ في الحديقة.
وأين كنت اليوم؟ في مناسبة.
وأين كنت اليوم؟ في زفاف.
وأين كنت اليوم؟ في حفلة.
وأين كنت اليوم؟!! ماذا بقي للرجال من الحقوق؟ إن بعض الرجال من أصبحت الخادمة هي التي تقوم بكافة حقوقه ما عدا الفراش! ولم يبق له من حق أو حظ من الزوجة إلا الفراش، هذا إن كانت تمنحه ما أوجب الله عليها له بطيب نفس ورضا خاطر.
فينبغي للأخوات وينبغي للمسلمات أن يتقين الله في هذه المسألة، وإن الله سبحان وتعالى قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] وما من شك إن تأكيد قرار الزوجة في البيت لحق الزوج، فإذا كان القرار أمراً عادياً لجميع النساء فإنه يتأكد ويتحتم بالنسبة للزوجة لحق الزوج في هذا القرار في البيت.
وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته؟ قال: حقه عليها ألا تخرج من بيتها إلا بإذنه) أين المرأة الآن التي تستأذن في كل أحوالها؟ أقول: إن هذا من الواجبات التي ضيعنها الكثير من النساء فنسأل الله لهن الهداية.
هذا أيها الأحبة: لا يعني أن يتسلط الرجل فيمنع زوجته من الخروج مطلقاً مع وجود الحاجة والمصلحة الشرعية، لكن يجب عليها ألا تخرج إلا بإذنه.
ولقد روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) وفي الحديث (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) وهذا صريح في الدلالة على ضرورة إذن الزوج لخروج المرأة إذا كان للمسجد فما بالك بغيره؟ يقاس عليه سائر حالات الخروج لمصلحة شرعية، ولذا ترجم عليه البخاري رحمه الله بقوله: باب في استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره.
قال الكرماني: فإن قلت: الحديث لا يدل في الإذن على الخروج إلى غير المسجد قلنا: لعل البخاري قاسه على المسجد.
والقرار في المنزل لا يعني عدم الخروج مطلقاً، قال ابن تيمية: والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفر فإن الآية الكريمة وهي قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] نزلت في حياته صلى الله عليه وسلم وقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجاته في حجة الوداع، فنعرف من هذا أو نعلم من هذا أن خروج المرأة لمصلحة أنفع من الجلوس في البيت بلا مصلحة، امرأة لو خرجت لسماع المحاضرة أو للدراسة في مدرسة تحفيظ القرآن الخيرية النسائية بعد العصر هل نقول: إن قرارها في البيت بين الجدران الأربعة والتلفاز والشاشة والهاتف خير من خروجها لحضور محاضرة في المسجد أو اشتراكها في مدرسة تحفيظ القرآن؟
الجواب
لا، إذاً يفهم من هذا أن القرار تؤمر به النساء من أجل ما يحفظها وينفعها، فإذا كان في خروجها مصلحة أو كان في خروجها حاجة أو كان خروجها لضرورة فإن ذلك لا يمنعها أن تخرج بإذن الله عز وجل.
كذلك خروج المرأة لطلب العلم، فإن كان مفروضاً وجب وجوباً على الزوج أن يعلمها هذا العلم إن كان قادراً عليه، فإن لم يفعل وجب عليها أن تخرج ولو من غير إذنه، كذلك خروجها لقضاء حوائجها، يجوز لها أن تخرج إن لم يقم الزوج بذلك، ويكون خروجها من قبيل الضرورة فلا يملك منعها من ذلك.
وأنا في الحقيقة أقول لبعض الإخوة أو بعض الرجال جزاهم الله خيراً وشكراً لهم على غيرتهم: بعضهم يمنع المرأة تماماً من الخروج حتى لحاجاتهن الخاصة في لباسهن وفي أخص أحوالهن وأمورهن، فلا ينبغي للرجال أن يقول: أعطيني قائمة بما تحتاجين وأنا أشتريه ولا أسمح أن تخرجي أبداً! إذا كان هناك من الأمور ما تحتاج المرأة أن تباشر شراءه بنفسها فاجعلها تخرج واخرج أنت معها، يكون هذا من باب إكرامك لها واحترامها واحترامك لذوقها واحترامك لاختيارها، واختيارها لما يناسبها، وحفظها عما لا يليق بها أو ما تخشاه عليها هذا خير من أن تقول: أبداً، من الجدار إلى المقبرة، من البيت إلى القبر ولا يمكن أن تخرجي أبداً ليس هذا بحكمة، بل الأولى أن تنظر في حاجتها وأن تتحسس رغبتها، وإن المرأة العاقلة هي التي لن تخرج إلا حيث ترى أن في خروجها مصلحة، ومعلوم أن قرارها وعدم تعرضها للرجال وتعرض الرجال لها خير لها ولهم، ولكن إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى ذلك فلا ينبغي أن نغلب باب القرار على هذه المصلحة الراجحة الظاهرة، أو هذه الضرورة الواضحة هذه مسألة مهمة.
هذه مسألة مهمة، وما أجمل قول القائل في شأن بعض النساء:
قالت الأرنب قولاً جامعاً كل المعاني
أشتهي ألا أرى الذئب ولا الذئب يراني
خير للرجال ألا يفتنوا بالنساء ولا يرونهن، وخير للنساء ألا يرين الرجال ولا يفتتنن بهم، لكن إذا كان ثمة حاجة فينبغي أن نكون على درجة من الحكمة ومعرفة عصرنا وأحوالنا، وما ينبغي وما لا ينبغي.
قال في كشاف القناع: ويحرم عليها الخروج بلا إذن زوجها، هذا إن قام الزوج بحوائجها التي لابد لها منها وإن لم يقم بها فلابد من الخروج للضرورة، وكذلك خروجها في السفر المندوب والواجب فله منعها في المندوب وليس له منعها في السفر الواجب كما ذكر الفقهاء، واختلفوا: هل يجب على الزوج أن يخرج معها في سفر الحج المفروض عليها أم أن الحج يسقط عنها أم أن الحج مسألة خلافية تذكر في بابها؟(43/13)
من حقوق الزوج على الزوجة معاشرته بالمعروف
كذلك من أهم المسائل في حقوق الزوج على الزوجة وحقوق الرجال على النساء: معاشرة الزوجة لزوجها بالمعروف، فعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] قال: لهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهن من الطاعة فيما أوجبه عليهن لأزواجهن -ثم قال- والآية تعم ذلك من الحقوق الزوجية.
قال الشيرازي في المهذب: ويجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى ونحوه لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
وهنا أشير بهذه المسألة التي أختم بها في باب المعاشرة ألا وهي: حسن الخلق بين الزوجين.
إن من الناس من تراه عفيفاً لطيفاً حلو اللسان، كريم المعشر، خفيض الجناح، لين الجانب إذا تجاوز باب بيته لكنه إذا عاد إلى الدار فسباب ولعان وطعان لا يكف عن الشتيمة، وأنا أقول لهذا: إذا كنت تحتسب على الله بصبرك على أذى الناس، وتحتسب على الله عز وجل فيما تلقاه من أذية بعض من عرفوا بالرعونة في كلامهم ومواقفهم، تحتسب أن ذلك من الخلق الحسن الذي تتقرب به إلى الله: (إن من أقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطِّئون أكنافاً).
أقول: فإن الزوجة التي هي متاع فراشك، والزوجة طاهية طعامك، وحاضنة ولدك، والزوجة التي تحفظ غيبتك، والزوجة التي هي أنسك وسكنك أولى بهذه المعاملة الحسنة، فإياك والسباب! وإياك الشتيمة! بعض الرجال لا يكف عن لعن المرأة صباح مساء أمام أولادها، بل وأعظم من ذلك يسب والديها الذين هما تحت الأرض في المقابر، وأسوأ من ذلك من تراه لا يرى لها قدراً فيسبها في مناسبة قد جمعت الأقارب والأباعد ليظهر رجولته وفحولته بسبها وشتمها وإهانتها، وأسوأ من ذلك من يضرب ويهدد بالطلاق عند كل صغيرة وحقيرة لا تستحق أن يلتفت لها الرجل ببصر فضلاً عن أن يتكلم عنها بلسان.
هذه من المسائل المهمة في المعاشرة بالمعروف: أن يكون الرجل طيب اللسان، من الرجال ومن النساء من يغبطون على حسن عشرتهم مع بعضهم، فامرأة تقول: قد مكثت مع زوجي أكثر من عشرين عاماً والله ما سبني ولا شتمني ولا قال لي كلاماً يجرحني أو يؤذيني، نعم إن كره شيئاً سكت أو أعرض عن الطعام أو هجر الفراش! عشرين سنة! أليس هذا من الخصال التي يحتسبها صاحبها قربى عند الله عز وجل ترفع درجاته وتثقل موازينه؟ بلى، إذاً فلماذا نرى بعض الناس لا يقيم لهذا الباب وزناً ولا يقدر له قدراً، بل ويربي أولاده على عقد نفسية من كثرة حلبات الصراع التي تعقد كل يوم بين الرجل وزوجته في تطاول بعضهما على بعض، وإهانة بعضهما لبعض وغمز ولمز بعضهما لبعض.
الجواب
من سمع زلة أن يتزاور عنها ذات اليمين وذات الشمال، وألا ينتصب لها ليتلقاها بلسانه قبل أذنه، والواجب على من قدر أن يعفو ويصفح ويتجاهل أن يكون ذلك خير له:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
كفى المرأة نبلاً أن تعد معايبها، إذا كان غالب خصالها وفعالها من المناقب التي خلت من المثالب فتشكر وتؤجر، وتلك درة مكنونة، وجوهرة مصونة، تستحق الدعاء والإكرام.
من المعاشرة بالمعروف: تقدير المواقف، امرأة حملت تسعة أشهر لا تلتذ بنوم، ولا تهنأ بطعام، ولا تقر لها عين في نوم متواصل، ثم تنتهي من الولادة لا تقدم لها أدنى هدية؟! والله لو اقترضت لها قرضة حسنة لم يكن ذلك كثيراً على امرأة كانت فراشاً لك، وحبلت منك، وحملت ولدك من صلبك في أحشائها تسعة أشهر ثم رأت الموت رأي العين في آلام الطلق والمخاض ثم بعد ذلك لا تبالي؟ من جلافة وغلظ ورعونة بعض الرجال أن المرأة تلد فلا يقف عند رأسها حال ولادتها، ولا يلزم أن يقف حال الولادة لكن أن يكون معها، أن يطمئن عليها، أن يوصلها بنفسه، أن يعتني بها، أن يأتي إليها بعد ولادتها، الناس يختلفون في ظروفهم وأحوالهم، بعضهم تلد ويمضي بعد الولادة أيام فلا يسأل ولا يطمئن ولا يعرف، بل ولا يقول: أروني هذا المولود وكأنه جاء من غير صلبه.
هذه من الأمور التي تجرح أفئدة النساء وقلوبهن، فينبغي للرجال وللنساء أن يحسنوا المعاشرة فيما بينهم بالمعروف.
وبالمناسبة: فإني ما رأيت شيئاً أفسد للب الرجل من نكران المرأة حسن صنيعه معها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل العاقل منكن! لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله قالت: ما رأيت منك خيراً قط!) لأن جحد المعروف وإنكار الجميل مما يفسد القلوب، فينبغي للمرأة أن تنتبه لذلك، فهناك من المواقف ما يستحق عليها الرجل الشكر، رجل كل صباح الساعة السابعة والنصف على سيارته في الطريق أمام إشارات المرور للوصول إلى العمل، وعمل مستمر ثمان ساعات ثم يخرج إلى البيت ليقبض آخر الشهر أربعة أو خمسة آلاف ريال وأين يذهب بها في الآونة الأخيرة؟ نهاية الشهر يصرفها على طعامك وشرابك وأولادك وهواء بارد في بيتك، وطعام لذيذ في مطبخك، أفلا يستحق الزوج إذا جاء بالطعام أن يقال: الله يخليك لنا، الله يحفظك، الله يجزيك خير، الله يبارك فيك؟ من النساء من إذا جيء إليها بطعام وشراب لماذا لم تحضر ذلك النوع الذي رأيناه في الدعاية في البارحة؟ فلا تشكره على ما أحضره وهي عالمة أنه لا يقدر على ما أخبرت به.
قل أن تسمع من النساء شاكرة لزوجها إذا قدم هدية العيد أو ملابس العيد أو الطعام أو الشراب، وكأنها وظيفة لا كرم له فيها ولا خيار، نعم هي واجبة عليه لكن حينما يرى الرجل من المرأة شكراً، جزاك الله خيراً، خلف الله عليك بخير، أسأل الله أن يجعل ما أنفقت علينا وعلى أولادنا في موازينك يوم أن تلقى الله، أكرمت وجوهنا، عففتنا عن الحرام، صنتنا عن إراقة وجوهنا، نسأل الله أن يحفظك وأن يبارك فيك، تجد أنه يندفع أكثر، ويحتسب أكثر، ويتلذذ بالأنفاق أكثر، فينبغي للمرأة أن تنتبه إلى هذه المسألة التي هي في غاية الأهمية.(43/14)
من حقوق الزوج على الزوجة أن يؤدبها
آخر ذلك: حق التأديب سأختصره بقول الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] حق الزوج على زوجته أن يؤدبها إذا نشزت واستنكفت عن طاعته، يؤدبها بالوعظ: يا أمة الله! يا بنت الأكرمين! يا بنت الأكارم! يا سليلة المجد! يا إلخ يعطيها من الإطراء والمديح، بعض النساء يكفيها كلمة فتنقاد، وبعضهن يكفيهن شيء من الإعراض أو شيء من الهجر، وبعضهن قد تحتاج إلى ضرب ولكن ينبغي لمن اختار هذا السبيل بعد إفلاس الوعظ والهجر في إصلاحها أن يضرب ضرباً غير مبرح، وأن تكون العملية أمر ظاهره الضرب لكن إذا دنت الأيادي إلى البدن -بدن الضعيفات النساء- فليكن شيئاً خفيفاً يدل ويعبر عما في النفس من عدم الرضا ولا يدل على حقد وحب انتقام؛ لأن بعض الناس من يخيل له أنه يصاول ويجاول في حلبة مصارعة، لابد أن يكون هو المتفوق والفائز في نهاية الجولة بفوز ساحق على خصمه لا.
لا تظن أن المرأة ند وخصم، بل ارحمها، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولكن لم يثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم قد ضرب امرأة بيده صلى الله عليه وسلم، وينبغي للرجل أن ينتبه في مسألة الهجر فإن لها حدوداً وضوابطاً يضيق المقام بذكرها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته أن يصلح زوجاتنا، وأن يصلح أحوالنا، وأن يجمع شملنا، وأن يسعدنا بزوجاتنا وأن يسعدهن بنا، وأن يجعلنا ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] نسأل الله أن يجعلهن وأولادنا قرة أعين، وأن يجعل الجميع للمتقين أئمة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(43/15)
الأسئلة(43/16)
كتب ينصح بها في بداية الحياة الزوجية
السؤال
ما هي الكتب التي تنصحون بها في بداية الحياة الزوجية، وفقكم الله وسدد خطاكم؟
الجواب
هناك كتب كثيرة بالنسبة لمن هو مقدم على الزواج مثل كتاب العلامة الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني " آداب الزفاف في السنة المطهرة " وكتاب محمود بن مهدي الاستنبولي وهو تحفة العروس وكثير من الرسائل الآن الموجودة في معاشرة الزوجين، ويوجد رسالة جديدة ممتازة كونها حديثة الصدور للدكتور/ عبد الملك القاسم بعنوان " رسائل متبادلة بين الزوجين " أظنها مليئة بالنصوص الشرعية والأدلة القرآنية، وبلغة عصرية، وتعالج قضايا معاصرة.
النصوص القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة في أحكام الرجال والنساء وشروحها من كتب التفسير والسنة لمن أراد أن يتوسع، كل ذلك من المراجع التي يمكن أن يستفيد منها طالب العلم أو الباحث في هذا الباب.(43/17)
جواز منع الزوجة من زيارة الأقارب إذا غلب عليهم الفساد
السؤال
هل للزوج أن يمنع زوجته من الذهاب إلى بيت أهلها إذا كان في بيتهم من أسباب الفساد كالدشوش والأغاني والأشرطة ونحو ذلك؟
الجواب
نعم، إذا كان في بيت أهلها ما يكون سبباً في فسادها وانحرافها، وفساد وانحراف أولاده فله أن يمنعها من ذلك، ولكن الذي أراه ألا يكون سبباً في قطيعة رحمها مع أهلها، فله أن يخصص في الأسبوع زمناً معيناً يذهب هو وزوجته وأولاده لزيارة أهلها والحديث معهم والجلوس معهم وقتاً يسيراً ثم يعود بأولاده حفاظاً على ما استثمره من المال والوقت والجهد في تربيتهم كي لا يضيع في سحابة يوم يدع أولاده عند أهل زوجته فيفسدون عليه ما كان يبنيه ويصلحه سالف أيامه.(43/18)
حكم صيام التطوع للمرأة في حال وجود زوجها
السؤال
زوجتي تريد الصيام وتلح علي في ذلك، وأنا أرفض صيامها لأجل شدة الحر ووجود أطفال في يدها، وحاجتها إلى تجهيز الغداء بعد الرجوع من العمل فما حكم ذلك وفقكم الله؟
الجواب
إذا كان صيامها يمنعك حقاً أن تستمتع بها؛ فلا ينبغي لها أن تصوم وأنت شاهد، أما إن كان صيامها لا يفوت استمتاعاً أو كمال استمتاع بالنسبة لك وهي قادرة على ذلك قوية عليه سيما في البيوت التي فيها من وسائل التكييف والتبريد، والأدوات الكهربائية وغير ذلك فإني أنصحك أن تدعو لها وأن تعينها وأن تكون سبباً في هذه العبادة فربما أجرت أجراً كأجر صيامها وإن لم تكن أنت الصائم بسبب إذنك لها، جزاك الله خيراً.(43/19)
شبهة التعدد والطلاق
السؤال
هذه سائلة تعرض شبهة تريد من فضيلة الشيخ كشفها وبيانها: وهي أن بعض النساء يقلن أن النساء مسكينات لأنهن يطلقن والأزواج يتزوجون عليهن متى شاءوا، فكيف الجواب على هذه الشبهة؟
الجواب
الحقيقة هذه:
إذا بَني ضرجوني بالدم من يلق آساد الرجال يكلم
شنشنة نعرفها من أخزم
ليست هذه الكلمات أول مرة تطرق مسامعكم أو مسامع غيركم، مما يفترى به على شأن المرأة في هذا الدين، والحقيقة أن الطلاق شرع لحكم عظيمة، ولا ينبغي أن يكون الطلاق حجة لصاحب شبهة يدعي من خلالها أن المرأة مظلومة، بل إن الطلاق حلال بغيض، ولا ينبغي للرجل أن يلجأ إليه إلا إذا تعذر إصلاح حال الزوجية وأصبح بقاء أحدهما مع الآخر أو بقاء بعضهما مع البعض سبباً لمزيد من النكد والشقاق الذي لابد له من الفراق.
فمثلاً لو أن المرأة هي التي ضاقت ذرعاً بالرجل، ولم تألفه نفسها وأرادت فراقه ثم قلنا: لا.
لا طلاق، لا فراق أبداً هل هذا من العدل؟ يظن البعض أن فصم العلاقة الزوجية هي بيد الرجل وحده لا، كذلك المرأة هي تملك طرفاً آخر، والقاعدة تقول: المتسبب في الفرقة يتحمل العوض.
فإذا طلق الرجل وفصم أو قطع العلاقة الزوجية بقرار الطلاق يفوته المهر فلا يرد إليه، والمرأة إذا فصمت العلاقة الزوجية بقرار المخالعة فإنها ترد المهر، فلم يقل أحد أن الرجل وحده هو المتحكم في العلاقة إيجاباً -إيقاعاً- وعدماً بدليل أن المرأة أيضاً لها الحق في ذلك {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] نعم، الطلاق يقع عليها ولكن أيضاً المخالعة، وليس الخلع والطلاق بمستحبين بشأنهما، بل يلجأ إليهما عند الضرورة وهذا مما يؤكد سمو الإسلام في شمول أحوال البشر كلهم، ما شرع الطلاق ليكون هو فاتحة الكتاب في العلاقة الزوجية، بل يكون هو خاتمة المطاف وكالكي في الدواء آخر العلاج، إذ أن من النساء من لو ظلت مع زوجها على حال من البغضاء والكراهية لأدى بها إلى فتنة لا تأمن بعدها على نفسها وعرضها وأخلاقها.
كذلك أن يتزوج متى شاء إنما أبيح للرجال أن يعددوا ليس لأجل أن يذلوا النساء، وإنما أبيح لهم أن يعددوا من أجل حفظ النساء، لكن المرأة بطبيعة جبلتها وغيرتها لا تقبل أن يتزوج عليها، لكن هل يعني أن غيرة المرأة وعدم رغبتها ورضاها بذلك يعطل مصلحة عظيمة ومقصداً عظيماً من مقاصد الشرع في إباحة التعدد التي لو لم يكن منها إلا حفظ المجتمع وحفظ نساء المجتمع وحفظ الرجال عن اللجوء إلى الزنا والانحراف والمخادنة وغير ذلك؟! لو لم يكن فيه من المصالح خاصة لمن يقدرون على الإنفاق والإعالة من الذرية والتكاثر تكثيراً لأمة محمد، ومصالح كثيرة وكثيرة جداً.
عائشة رضي الله عنها جاء عنها أنها كانت في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت حفصة: يا عائشة جربي جملي وأجرب جملك.
وكانت حفصة ذكية، وليس كذكاء عائشة لكن حفصة تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا عرس القوم أو نزلوا منزلاً ثم شدوا السير من جديد أخذ يمشي بالقرب من جمل عائشة، فـ حفصة تريد أن تنال هذه المكرمة وهذا الفضل فقالت: ألا تجربين جملي وأجرب جملك؟! وافقت، فلما ركبت عائشة جمل حفصة وركبت حفصة جمل عائشة ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً فتوجه إلى جمل عائشة يظن أن عائشة فيه، يحبها، أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأحب الرجال إليه أبوها رضي الله عنه أبو بكر، فلما جعل يده في الهودج قال: عائشة؟ قالت: لا، بل حفصة يا رسول الله تقول عائشة: [فطاش عقلي حتى أخذت أضع يدي في الحرمل لعل دابة تلدغني فأموت؛ من شدة الغيرة].
ولما بعثت إحدى الصحابيات -وأظنها حفصة - إلى النبي صلى الله عليه وسلم بطعام في بيت عائشة أخذت الطعام ثم ضربت بالإناء الجدار حتى انكسر الإناء فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: (غارت أمكم، يا عائشة طعام بطعام، وإنا بإناء) فالله جبل النساء على الغيرة لتزداد شدة التعلق عند الرجل، هل نقول: إن هذا يعطل حكمة عظيمة من حكم الشريعة، ومقصداً عظيماً من مقاصد الملة في باب التعدد أو في باب الطلاق أو غيره؟
الجواب
لا.
ثم أيضاً المرأة التي تسلم تسليماً لا يخالطه ريب ولا شك بأن الله عليم وحكيم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ما دام أن الله يشرع لعلم ولحكمة وعدل شرع ذلك كله فلماذا نعترض على أحكام الله وشرعه؟ الشيخ ينبه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم حياته فيها جانب بشري وجانب النبوة، أما الجانب البشري الصرف فمثلاً ميل قلبه إلى عائشة وقوله: (اللهم إن هذا قسمي فيما أملك ولا تلمني في ما لا أملك) بشريته في كونه صلى الله عليه وسلم ينام، وكونه صلى الله عليه وسلم يمارس من الوظائف الطبيعية في أبدان البشر كما يمارسه غيره، فهذا جانب بشري، ويؤكد ذلك ميله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة رضي الله عنها، وليس هذا من باب الظلم لأنه حاشاه صلى الله عليه وسلم أن يظلم.(43/20)
دور العلماء والدعاة تجاه فتوى التراخيص
السؤال
بالأمس القريب ظهر أحد المفتين في قناة الجزيرة وأخذ يعطي من التراخيص والفتاوى المرجوحة للمستمعين، فما دورنا ودور العلماء تجاه هذه الظاهرة الدخيلة من خلال القنوات الفضائية؟
الجواب
والله يا أحباب أنا في الحقيقة أدعو علماءنا الأجلاء الكرام أهل المنهج الصحيح، أهل الورع في الفتيا، أهل الحجة بالنص المعصوم وبالدليل أن يتصدوا لمثل ذلك، وفي مجالس شتى سمعنا هذا الكلام كثيراً ولكني أدعو علماءنا وأوصيكم أنتم أن تكتبوا إلى العلماء، تعود الناس ألا يرسلوا نصيحة إلا للحاكم أو للمسئول، لكن نصيحة للعالم قل أن تجد، فأنا أقول: ينبغي لكم أنتم جميعاً أن تكتبوا للعلماء وخاصة الذين لهم حسن عرض وإجابة في استيعاب السؤال وعرض الفتوى أن يشاركوا، ولا يلزم أن يشاركوا في الجزيرة ولا في اقرأ ولا وفي غيرها، أن تكون لهم مشاركة تلفزيونية لأن العالم يفرح إذا اكتظ المسجد بعشرات الآلاف طلاب علم وخمسة آلاف امرأة يسمعون المحاضرة فلعل بعض العلماء وفقهم الله لا يعلمون أن ساعة في البث التلفزيوني الفضائي يعني مخاطبة لما لا يقل عن عشرات الملايين من البشر في أنحاء العالم، وكثير من الناس لا يعلم عن أثر المشاركة التلفزيونية وأثرها.
طبعاً ليس بالضرورة أن نأتي بهم ونشارك وندخلهم في الاستديوهات لكن أن تأتي آلات النقل الفضائي حتى إلى بيوتهم وتأخذ فتوى منهم وتبث على الفضاء أو أن تسجل وتعاد هذا أمر مطلوب، نعم الشيخ عبد الله بن منيع جزاه الله خيراً له برنامج الإفتاء على الهواء، وبعض العلماء أيضاً الشيخ عبد الله البسام له برنامج يبث على الهواء، وهناك بعض العلماء لكن هناك أيضاً بعض العلماء أجلاء الحاجة إليهم ماسة، والناس يتأثرون بفتاوى علماء هذا البلد أكثر من غيرهم، بل قد ملوا من التخفيضات والتنزيلات والمجاملات، والدعاة والعلماء مأمورون أن يرفعوا الناس إلى مستوى الشريعة لا أن ينزلوا بالشريعة إلى منحط الناس وحضيضهم، فشتان بين أن نجامل وأن نتنزل يوماً بعد يوم في الأحكام الشرعية وقضايا الشريعة لتواكب وضع الناس، وضع الانحدار لا يقف عند أحد، لكن نحن مأمورون أن نرتفع بالناس إلى مستوى كمال الشريعة وسموها وجلالها، لا أن ننحط بالشريعة إلى مستوى انحطاط بعض الناس هذه مسألة.
على سبيل المثال: فتوى مصافحة النساء، فتوى تمثيل النساء، فتوى أغاني كل ذلك مما ينبغي ألا ينقاد الناس لما ينبني عليه من القول بجواز ذلك، واستفت قلبك إذا أفتاك الناس وأفتوك، كم من رجل يسمع فتوى تروَّق لها، وتأتي وفقاً لما يشتهيه في ظاهر لفظه ونطقه لكن قلبه يأباها وينكرها.
أنا أذكر أحد الكبراء استفتى عدداً من الناس فأعطوه فتوى أحفظ لماله وأقرب إلى نفسه، واستفتى واحداً فقال: لا، وأنا أخالف كل من أفتاك بهذا، ولا يجوز لك هذا، ولا ينبغي لك هذا، قال: فوالله ما كان مني إلا أن قذف الله في قلبي حب هذا الذي أفتاني بما يخالفني.
فلا تظن أن الناس بالضرورة يحبون من أعطاهم الترخيصات والتنزيلات في الفتاوى لا، بل إن الناس يحبون الذين يجدونه صلباً في الدين لكن كما قال الإمام المحدث أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري قال: إنما الفقه الرخصة من ثقة.
ليس الفقه الأحوط، يأتي أحدهم: حصل كذا أو كذا؟ أقول له: الأحوط أن تعيد الصوم.
حصل كذا أو كذا في الحج؟ الأفضل أن تعيد الحج، الأضحية صار فيها كذا؟ الأفضل أن تضحي غيرها وهكذا، ليس الفقه الأحوط، كل يفقهه، الأحوط أن تأتي بسيارة جديدة بدلاً من أن تصلحها، الأحوط أن تغير هذه المكينة بدلاً من أن تصلحها هذا كل يفقهه، لكن الفقه: الرخصة من ثقة، بالنصوص أن تقول: هذا مما يرضاه الله وهذا يأباه، والجرأة على الفتوى شأنها خطير نسأل الله أن يلهمنا وإياكم الفقه والعلم والعمل، وأن يجنبنا القول عليه بلا علم.(43/21)
توجيهات على طريق الصحوة
ماذا نعني بمصطلح الصحوة؟ ولماذا نطلق مثل هذه التسميات؟ ولماذا نريد توجيه هذه الصحوة؟ إجابة هذه الأسئلة هي الجزء الأول من هذه المحاضرة، ثم بعد ذلك (التوجيهات المقصودة) وتتركز على: سلامة الصدر وإصلاح ذات البين ضوابط التستر على أهل المعاصي.
وتندرج تحت هذه العناصر الكثير من الفوائد المستقاة من النصوص الشرعية سواء في أصل المادة، أو في الإجابات عن الأسئلة.(44/1)
مصطلح الصحوة وما يراد به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله! أحمد الله جل وعلا إليكم، وأشكره على آلائه التي لا تحصى، ونعمه التي لا تنسى، وأسأله جل وعلا أن يجعل لنا ولكم من كل همٍّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وأن يثبتنا على دينه ومرضاته إلى أن نلقاه، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا.
أيها الأحبة! ليس الحديث بين أيديكم في موضوع جديد عنكم، بل أنتم أهل البيان والفصاحة والبلاغة، وما بضاعتنا بين أيديكم إلا بضاعة مزجاة، فيا أيها العزيز جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا بدعوة صالحة وحسن ظن ومودة في الله ولله، عسى أن نكون في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
أما الحديث -أيها الأحبة- فهو عن توجيهات على طريق الصحوة، وليس لمثلي أن يُوجه أو يأمر أو ينهى ولكنني تلميذ من هؤلاء التلاميذ، وطالب من هؤلاء الطلبة، ودارس من هؤلاء الدارسين، سمعنا من مشايخنا وعلمائنا وقضاتنا ودعاتنا وولاة أمرنا ما ينبغي أن نفهمه وأن نفقهه، قال صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فبلغها، فرب مبلغٍ أوعى من سامع).
الصحوة -أيها الأحبة- مصطلح يبدو أنه حادث ويراد به عموم العائدين الملتزمين بأمر الله بعد تفريط فيه، والمستقيمين على شرع الله بعد تهاون وتساهل به، ذكوراً كانوا أم إناثاً، صغاراً كانوا أم كباراً، عواماً ومثقفين على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم، وإذا تحقق ذلك فإن هذا المصطلح ما دام مفهوماً حادثاً جديداً فلا شك أن الناس يتباينون في فهمه أو تحديد معناه، وأرجو في بداية هذا اللقاء ألا نفهم أو يفهم أحد أننا حينما نطلق كلمة (الصحوة) أننا نقسم مجتمعنا هذا إلى أحزاب وفئات وفرق وجماعات شتى، بل الواقع والواجب أن نفهم جميعاً أننا أمة واحدة، مجموعة واحدة بعلمائها وقضاتها ودعاتها وشبابها وشيبها وولاتها وصغارها وكبارها، ولكن هذه الأمة بمجموعها فيها الظالم لنفسه، وفيها المقتصد، وفيها السابق بالخيرات.
إن بعض الإخوة ربما فهم معنى الصحوة أننا نقسم مجتمعنا إلى أحزاب أو جماعات، وأن هذا يعني: أننا سنقف يوماً ما على طرف، وسيقف بقية الناس على طرف آخر، وكلٌّ ينظر إلى صاحبه من بُعد، ويخاطبه من برج عاجٍ أو من منارة شاهقة، وما هكذا المؤمنون، بل المؤمنون يدنواً بعضهم من بعض ويخالط بعضهم بعضاً، ويزور صالحهم سيئهم لينصحه، ويعود طيبهم فاجرهم لينهاه، ويناصح عالمهم جاهلهم ليثقفه ويعلمه بما أوجبه الله جل وعلا عليه.
أيها الأحبة! إن هذا الأمر الذي أردنا أن نتحدث عنه وهو: هذه التوجيهات المتعلقة بهذه الصحوة المباركة وما هي إلا شيء من الملاحظات اليسيرة على عدد قليل ونزر يسير من أحبابنا وإخواننا وليس المقصود فئة أو حزباً أو جماعة كما قلت، وليس المقصود أشخاصاً بأعيانهم، وإني أعيذ نفسي وإياكم بالله أن نجعل بين هذا الكلام وبين قلوبنا للشيطان موقفاً أو مكانة أو وسوسة أو سوء ظن، فوالله ما أردنا إلا قصد السبيل والأمر لله جل وعلا.
أيها الأحبة! موجز الأمر أنها نصيحة لكل من وقع في خطأ مما سنسمع، أو فرط في واجب مما ينبغي أن نتصف به، فعلينا أن نتحلى به وأن نراجع أنفسنا.(44/2)
توجيه الصحوة إلى سلامة الصدر
فأول ذلك وأهمه: سلامة الصدر من الحقد والإحن والغل والحسد، وذلك أمر عجيب وغريب! ربما وجدت اثنين من الصالحين أو من عامة المسلمين الذين ليس عليهم من سيما الفجور والفساد والمعاصي الشيء الكثير، ولكن ربما سمعت من لسان أحدهم استطالة في عرض أخيه، وغيبة وحسداً وحقداً وسوء ظن وتفسيراً للأمور على غير ظاهرها، وتجييراً للأحوال على ما لا يُراد منها، وبالجملة فإن ذلك من الأمراض الموجودة سواءً في بعضنا أو في غيرنا، المهم أن ذلك مرض ينبغي أن نعالجه وأن ننتبه منه.
وإن من صوره: الانقباض وعدم الانبساط، وعدم إفشاء السلام، وعدم لين الجانب، وعدم خفض الجناح، وعدم التواضع، وعدم حسن الظن وأمور كثيرة كلها بسبب عدم سلامة الصدر من الغل والحسد والحقد والبغضاء.
أيها الأخ الكريم! معاذ الله أن يكون في قلبي وقلبك شيء من الحسد على إخواننا، فالحاسد ليست له قضية، إن كنت في مصيبة رأيته شامتاً، وإن كنت في نعمة رأيته حاسداً، وإن كانت فيك خصلة من خير جحدها وأنكرها وأولها وجيرها، وقال: أراد كذا وقصد كذا وطلب كذا ومراده كذا، وتسلق وتسلط على فؤادك يريد أن يحكم على نياتك وخفياتك التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
والحاسد إن كانت فيك خصلة شر هتك أستارها ونشرها وتحدث بها ونبأ بها الغادين والرائحين، ولن تجد هذا الذي يحمل الغل أو الحسد لن تجده يوماً من الأيام ناصحاً.
وإن صفات المؤمنين سلامة صدورهم على إخوانهم، بل وعلى الذين يأتون من بعدهم، قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:9 - 10] أي: لا تجعل في قلوبنا غلاً وحقداً وحسداً، وإن سلامة الصدور لمن صفات أهل الجنة وما نريد بسعينا في صلاة وصيام وذهاب وإياب وحل وترحال وسفر وضعن وإقامة، إلا وجه الله ورضا الله ثم هذه الجنة التي هي دار النعيم ودار الخلود.(44/3)
سلامة صدور أهل الجنة
أوليس الله جل وعلا قد قال في محكم كتابه في وصف عباده المؤمنين أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي: نزعنا من صدورهم كل حسد وبُغض، كما جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خلص المؤمنون من النار حُبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أدل وأهدى منه بمسكنه من أحدكم في الدنيا).
هذه صفات أهل الجنة أن لا غل ولا حقد ولا حسد ولا ضغينة ولا كراهة ولا سوء ظن ولا إحن ولا تباغض في قلوبهم، بل قال جل وعلا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
دخل عمران بن طلحة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما فرغ علي بن أبي طالب من أصحاب الجمل بعد فتنة فيها ما تعلمونه، وما يسعنا أمامه إلا أن نكف ألسنتنا، وأن نترضى عن جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وألا نلغِ بالقول والكلام في عرض أحدٍ من الصحابة الذين اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه وفضلهم بالصحبة، وقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).
بعد معركة الجمل دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه، فرحب به علي وقال: [إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]] انظروا ما أجمل سلامة الصدر بين الصحابة حتى وإن كان ما كان فيما مضى فكلٌ يعرف صدر صاحبه، وكلٌ يعرف سلامة قلب صاحبه.
ودُخل ذات يوم على أبي دجانة وهو مريض، وكان وجهه يتهلل كأنه الذهب فقال له: يا أبا دجانة، ما بال وجهك يتهلل؟ قال: [والله ما عملت عملاً أوثق عندي من خصلتين اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الخصلة الأخرى: فقد كان قلبي على المسلمين سليماً].
إن من سمات المسلمين صفاء النفس من الغش والحسد والغدر والضغينة، ثم لماذا الحسد؟ ولماذا الضغينة؟ إن القلوب زجاجات بلورية شفافة لامعة جميلة طاهرة طيبة، فلماذا نقذرها؟ أو نجعلها وسخة بهذه الأضغان والأحقاد وبسوء الظن مما يدفعنا إلى القيل والقال، ومن ثم تتشوه تلك القلوب الصافية وتعود شائبة بعد صفائها، كدرة بعد نقائها، خبيثة بعد طهارتها، سيئة بعد حسنها، فاسدة بعد صلاحها؟(44/4)
الحسد وسوء الطوية من صفات الكفار والمنافقين
إن الحسد وسوء الطوية على المسلم لمن صفات الكُفار والعياذ بالله، ومن صفات المنافقين أعاذنا الله وإياكم، وذلك أمر قد يجهله كثير من المسلمين، بل قد يجهله بعض الطيبين، تجد رجلاً صواماً أو قواماً أو صالحاً لكنه إذا بدأ الكلام بلسانه في عرض فلان أو علان أو في هيئة أو في شخص أو في كبير أو صغير أو في عالم أو داعية أو في قريب أو بعيد نسي لسانه حتى يلغ في أمور لا قبل لهم بها، ربما تجد هذا الرجل فيه من الصلاح خير كثير، ويتورع عن أمورٍ ربما هي من المشتبهات أو يتركها زهداً وورعاً وربما نسي أنه وقع فيما أجمع علماء الإسلام بل ودلت النصوص على تحريمه وتضافرت الأدلة على المنع منه شرعاً؛ لأنه يغضب الله جل وعلا وهو الغيبة والاستطالة في أعراض المسلمين.
أقول: إن الحسد والحقد من أخطر الأمور، وإن الغِل والضغينة من صفات الكفار والمنافقين، فقد قال الله جل وعلا: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النساء:54] وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة:109] أي: الكفار {لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] نعم أيها الأحبة، إن الحقد والحسد والبغضاء والضغينة لمن صفات المنافقين، ومن صفات اليهود والنصارى أهل الكتاب، ومن صفات الكفار الذين لا يألون المسلمين خبالاً ويودون عنتهم، وصدق الله حيث قال: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:119 - 120].
نعم من الذي يرضى أيها الأحبة! أيها الإخوة المؤمنون! أيها الإخوة المسلمون! من الذي يرضى أن يحمل في جنبات نفسه وفي طيات فؤاده وفي شغاف قلبه، من الذي يرضى أن يحمل خصلة هي من خصال الكفار ومن خصال المنافقين فيستطيل بلسانه ويتسلط ببغضه وينتشر بكراهيته وحقده وحسده على بعض إخوانه؟ وإن من أكثر الذين تراهم -والعياذ بالله- وقوعاً في الحقد والحسد والإحن والبغضاء تجد بعضهم لأن قريبه فاقه في المال أو لأن تربه -أي: واحد من أترابه- فاقه في العلم أو فاقه في منزلة معينة أو في مرتبة معينة أو في مكانة معينة، وما يدريك يا أيها الأخ الكريم أنه ربما فاقك ابتلاءً وربما فاقك استدراجاً، وربما فاقك لأمرٍ يعلمه الله، والله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].(44/5)
بعض الآثار السيئة للحقد والحسد
إن الله جل وعلا قد قسّم بين العباد أرزاقهم ومراتبهم وأحسابهم وأنسابهم، وجعل أكرمهم عنده أتقاهم.
أيها الأحبة في الله! إن علاقة المسلم بإخوانه علاقة محبة، وعلاقة تفيض بمشاعر إيمانية أخوية ليست تقف عند حدود نفسه أو ذريته أو أقاربه، بل تمتد لتغمر من حوله، وتفيض على الآخرين سلامةً وحباً وأمناً، وتلك هي صفات الأمة المسلمة الذين: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر:10] ولك أن تتخيل نفساً أو نفوساً عمرها الحقد بل خربها، وأفسدها الحسد ماذا تتصور أن يخرج منها؟ ماذا تتصور أن ينتج من قلوب فرخ فيها الغل والإحن والبغضاء والعداوة؟ هل ستجد أصحاب هذه النفوس يدعون لإخوانهم بظهر الغيب؟ أم تراهم يحسنون الظن بهم؟ أم تراهم يؤولون أفعالهم على خير وجه يُرضي الله؟ أم تراهم يكفون عن الغيبة عند عرض أعراضهم على الألسنة في المجالس؟ بل ستجد ما يدعو إلى ما هو أعظم من ذلك وأخطر: وهو والعياذ بالله الخصومة والعداوة التي إذا نمت وغارت وتجذرت جذورها وتفرعت أشواكها جعلت الإيمان يتناقص شيئاً فشيئاً، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
أيها الأحبة! بل إن هذا الحسد وذلك الغل وتلك البغضاء وتلك الإحن والعداوة، ربما امتدت بأصحابها إلى أن جعلتهم والعياذ بالله يقعون في صغائر، ثم يصرون عليها فتكون من الكبائر، ثم يقعون فيما يُسقط مروءتهم، ثم يلغون فيما يوجب اللعنة، وعلى أية حال فكل عين ساخطة تنظر من زاوية واحدة داكنة، تعمى عن الفضائل، وتضخم الرذائل، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب، وقبول الأقاصيص والروايات التي لا زمام لها ولا خطام، ولا سند صحيح يدعمها من رواية الثقات أو العقلاء.
بل إن من عواقب ذلك الحقد ونتائج تلك البغضاء الوخيمة أن صاحبها ربما اشتهى وتلذذ وتمنى إيقاد نيران العداوة بين المؤمنين، وذلكم ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، لكن بالتحريش بينهم).
أيها الأحبة! إن كثيراً من المسلمين لن يعبد صنماً ولن يطوف بقبر ولن يذبح لغير الله، فذلك مما يئس منه الشيطان بهؤلاء المسلمين في جزيرة العرب خاصة، ولكن الشيطان رضي وقنع منهم بما يحرشه لإفساد ذات بينهم، ولما يخرب به قلوب بعضهم على بعض حتى تبدأ النفوس تتطاول في أعراض بعضها، فتزاح وتمحو وتتسلط على حسناتها، فقد يكسب المرء حسنات ثم يخسرها بآلاف السيئات التي ارتكبها، فما ظنكم برجل يُتاجر في الصباح فيربح ألفاً، ويُقامر في المساء فيخسر خمسة آلاف؟! فإن ذلك لا يعد من الرابحين ولا من التجار، بل يعد من الخاسرين الذين تسلطوا على تجارتهم فأهدوها لغيرهم.
إن النفوس إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعب
احرص على حفظ القلوب من الأذى فرجوعها بعد التنافر يصعب(44/6)
حرص الإسلام على إصلاح ذات البين
ولما كان الأمر بهذه الخطورة حرص الإسلام في هذا التشريع العظيم الجميل الرائع الذي لو كان من عند غير الله لوجد فيه الاختلاف الكبير، حرص هذا الدين، وحرص الشارع على إصلاح ذات البين، بل وأباح الكذب في إصلاح ذات البين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يقول كلمة فينمي خيراً أو ينقل خيراً) أي: أن تُزوِّر شيئاً من الكلام لإصلاح ذات البين بين مسلم ومسلم، بين رجل وزوجته، بين قبيلة وأخرى، بين سيد وآخر، بين موظف ورئيس، بين زميل وآخر، بين جندي وضابط، بين صغير وكبير، بين حاكم ومحكوم، بين عالم وغيره، إن كلمة طيبة لأجل إصلاح ذات البين حتى ولو لم تكن موجودة على أرض الواقع لا تعد من الكذب المحرم، بل يؤجر صاحبها والله جل وعلا يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114].
عجباً لهذه النجوى التي نُهي عنها: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:10] {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:9] {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] إلا في حالة إصلاح ذات البين ربما يكون في النجوى خير كثير: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
إن الله قد وعد بأجرٍ عظيم على إصلاح ذات البين، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن ضد صلاح ذات البين هو أمر خطير، حالقة الدين، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى.
قال: إصلاح ذات البين -ثم قال- فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) رواه الترمذي والحديث صحيح.
أيها الأحبة! لماذا تكون هذه المعصية حالقة للدين؟ نعم، لأن أصحابها لا يتشفى أحدهم إلا بالكلام في عرض صاحبه، واستدراج الحديث، والدوران حول المواضيع رويداً رويداً، خطاً خطاً، دائرةً دائرةً، حتى تجد الذي في قلبه مرض يجر الحديث من بعيد لتنصب العبارة ويكون الحديث في نهاية المطاف ليكون في عرض ذلك الذي قد امتلأ قلبه عليه حقداً وحسداً؛ ولأجل ذلك نهى الإسلام عن هذا أيما نهي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث).
إن الإسلام حريص على أن يقطع أبواب الجفاء وأبواب القطيعة وأبواب الغلظة، إن الإسلام حريص أن يكسر هذه الأبواب ويمد الصلات بين المسلمين، وما ذاك إلا لأجل حفاظ قلوبهم على بعض، ولأجل المحافظة على حسناتهم.(44/7)
أثر الشحناء في إزالة الحسنات
وإذا تأملت مزيداً من النصوص وجدتها تصب صباً مباشراً في هذه القضية لتحذرنا من القطيعة، لتحذرنا من العداوة، لتحذرنا من البغضاء، لتحذرنا من التساهل في أعراض بعضنا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تُفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا) رواه الإمام مسلم.
أيها الأحبة! لنكن صرحاء: إن بعضنا ربما وجد في قلبه ليس على فاجر من الفجار، بل على أخٍ من إخوانه الطيبين، والواجب أن نحمل المودة والمحبة لإخواننا الطيبين، وأما إخواننا العصاة، وإخواننا الذين أمعنوا وأسرفوا في الذنوب، فلهم منا جانب ننكره وهو إنكار معاصيهم، وما اجترحته جوارحهم، وما اقترفته أيديهم، ولهم منا جانب المحبة والمودة والشفقة، وجانب الرحمة الذي يدعونا إلى الدنو منهم، ومخاطبتهم باللين، ودعوتهم بالحكمة، ومجادلتهم بالحسنى عسى الله أن يردهم إليه رداً جميلاً، عسى الذي هدانا أن يهديهم، عسى الذي ردنا أن يردهم، عسى الذي منَّ على كثير من إخواننا أن يمن علينا وعليهم بالتوبة.
أيها الأحبة! إن من شؤم وسوء عاقبة الحسد أن حامل الحقد والغل والحسد لا يزال يتشفى بلسانه في عرض من يحقد عليه، حتى إن ذلك المسكين الحاسد ليأتي على جميع حسناته التي تعب في جمعها ثم يهديها إلى من اغتابه، يشقى بالعمل يجمعه، يُصلي الفجر، يمشي خطوات إلى المسجد، قد يذكر الله، يتصدق، يعمل أعمالاً صالحة، ربما يفعل خيراً كثيراً، ثم بعد ذلك قد يقع في زلة الحقد والحسد والبغضاء، وبذلك يُهدي هذه الحسنات إلى من تكلم في عرضه! إن القصاص من الغيبة، والقصاص من النميمة، والقصاص من الغل والحقد والحسد الموجب لذلك كله؛ لن يكون يوم القيامة بأعمال تُعطيها فلاناً، بل سيكون من أعمال قُبلت إذ أن الحساب يوم القيامة لن يكون بالدينار ولا بالدرهم، ولا بالركعة، ولا بالصوم، ولا بالحج الذي لا تدري هل قُبل أم لم يقبل؟ ولكن القصاص سيكون من حسنات مقبولة، يُسدد من دينك ويُقضى غرماؤك بلسانك الذي تسلط على عملك فأحرقها، سوف يُسدد من الحسنات والسيئات، فإن لم يكن ثم حسنات فإن القصاص سيكون من سيئاتهم التي هي حقاً يقيناً سيئات، ثم تُوضع على سيئات هذا، وصدق القائل حيث قال:
يشاركك المغتاب في حسناته ويعطيك أجري صومه وصلاته
ويحمل وزراً عنك ظنّ بحمله عن النُجب من أبنائه وبناته
وغير شقي من يبيت عدوه يعامل عنه الله في غفلاته
فلا تعجبوا من جاهلٍ ضر نفسه بإمعانه في نفع بعض عداته
وأعجب منه عاقل بات ساخطاً على رجل يُهدي له حسناته
ويحمل من أوزاره وذنوبه ويهلك في تخليصه ونجاته
إن هذا لعجبٌ عجاب أن تجد شخصاً يتسلط كل ليلة ليحمل عنك أوزاراً وذنوباً وآثاماً وخطايا، ما حملها بقرابة ولا بنسب ولا بهدية ولا بصلة، وإنما حملها عنك وتحملها عنك! ويوم القيامة يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين يغتابونهم ويتكلمون فيهم، ومن أوزار الذين يضلون بسبب الوقوع في أعراضهم، يتحمل هذا يوم القيامة سيئات الآخرين {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:36] إذ أن لكل امرئ منهم مشغلة وقضية ودويهية وبلية أشغلته عن حاله، عساه أن يتحمل أوزار نفسه، وأن يتحمل سيئات ذاته، ثم تجده يتحمل أوزار الآخرين!(44/8)
محبة الخير للناس
أيها الأحبة! ما الذي يحجبنا عن حب الخير للناس؟ ما الذي يمنعنا أن نحب للآخرين ما نحب لأنفسنا، وذلك من تمام الإيمان، حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يُحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم.
أيها الأحبة! إن من تمام وصدق وصميم الإيمان أن نتمنى لإخواننا ما نتمناه لأنفسنا، أن نحب لهم ما نحب لأنفسنا، وتلكم والله معالم ضائعة، إن كثيراً عادوا وكثيراً اهتدوا وكثيراً تابوا، وكثيراً آبوا، لكن كثيراً حتى الآن لم تغتسل قلوبهم ولم تتنظف ولم تسلم ولم تطهر من هذه الذنوب والمعاصي، ناهيك عما حملوا ألواناً من المعاصي مع هذا الغل وذلك الحقد والحسد.
إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتباغض، ونهانا عن كل سببٍ يدعو إلى البغضاء كالحسد والتناجش فيما بيننا، فقال: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا) وقال في حديثٍ آخر: (وكونوا عباد الله إخواناً).(44/9)
صلة إفشاء السلام بسلامة القلب
لقد دلنا النبي صلى الله عليه وسلم على ما يعمق المودة في نفوس بعضنا تجاه بعض، ألا وهو الابتسامة، والطلاقة والبشاشة، وإفشاء السلام، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) أخرجه مسلم.
أقول: هذا مما يدل على إفشاء السلام والبداءة به من مظاهر المحبة والمودة، بل ومن الإصرار على تثبيت هذه المحبة بين المسلمين، وذلك أمر يتعوده الإنسان من نفسه:
لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة سيف الدولة الطعن في العدا
عود نفسك على البشاشة، ستجد نفسك تحملها حتى في أحلك الأمور، وعود نفسك على إفشاء السلام، ستجد نفسك مسلماً على العامل والكبير والصغير، والرئيس والمرءوس، والعظيم والصعلوك، والأمير والوزير والفقير، عود نفسك على أن تلتفت لإخوانك بعين الرضا وعين التواضع وعين المحبة، ستجد أنك تمنحهم أشياء كثيرة.
إننا لا نملك مليارات ولو ملكناها ما وسعنا الناس بأموالنا: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم).
إن الشخص لو أراد أن يكسب جمعاً كهذا بأمواله لما استطاع أن يرضيهم بماله، لو أراد أن يرضيهم بهبات لما كان عنده ما يكفي لهبتهم وإعطائهم الجوائز والصلة، ولكنه يستطيع أن يُسخطهم جميعاً بكلام بذيء ساخط، ويستطيع أن يُرضيهم وأن يكسب محبتهم ومودتهم بكلمة ونصيحة وبشاشة ودعاء لهم ظاهراً وباطناً وسراً وعلناً.
وبمناسبة الحديث عن السلام، والانبساط وصلة ذلك بسلامة القلب أيها الأحبة يقول ابن عمر:
بني إن البر شيء هين وجه طليق وكلام لين(44/10)
صور من البر وحسن الخلق ونقائض ذلك
إن البر ليس تفتيتاً للصخور إن البر ليس حملاً للجبال أو نقلاً لها إن البر ليس نقلاً للمياه إلى أعلى الجبال إن البر ليس تقسيماً للأموال، وإنما هو طلاقة في الوجوه وكلام لين، روى الترمذي، عن عبد الله بن المبارك أنه وصف حُسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى.
وقال جرير: [ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم في وجهي].
بل إن بعض الناس لا تجده متبسماً أمام الآخرين، بل تجده يسخط ويغضب وينزعج ويقول: فلان أمره عجيب! كلما قدمت عليه تبسم في وجهي، فأي صلة بيني وبينه؟ وأي علاقة بيني وبينه؟ في كل حال إذا رأيته رأيته متبسماً!! أي أن بعض الناس لا يُحرم على نفسه البشاشة بل تجده يُنكرها حتى على من يُقابله بها والعياذ بالله، بل إن بعضهم إذا تبسمت في وجهه قال: متى المعرفة؟ وبعضهم إذا أطلقت أو لنت في الكلام معه قال: يبدو أنك طولتها أكثر من اللازم! وأنت لا تقصد إلا التحبب والتودد إليه فسبحان الله! إن هذه الأخلاق لهبات وصلات ومنازل ودرجات، فمن نالها نال خيراً كثيراً، وحسبكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم لا يفطر، ودرجة القائم لا يفتر) وقال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة؟ فقال: (تقوى الله وحسن الخلق).
إن الناس مهما كثرت صلاتهم، فهي لهم يوم القيامة، لن يعطونا منها شيئاً، وجزاهم الله خيراً وأكثر من أمثالهم وتقبل منهم، وما أجمل سعيهم! وما أطيب صلاتهم وركوعهم وسجودهم! لكنهم لن يُعطونا من صلاتهم شيئاً، وما أجمل صيامهم! وإن عبادتهم لمما يرحم به الله الأمة، ولكنهم لن يعطونا من عبادتهم شيئاً، الذي يتعلق بنا تعلقاً مباشراً من أعمالهم ألا وهو -مع حبنا لهذا الخير الذي يعملونه- طلاقة الوجه البشاشة حسن الخلق لين الجانب التواضع المودة المحبة الإقبال بالوجه على الوجه عند اللقاء والسلام.
أذكر ذات يوم أني دخلت دائرة من الدوائر الشرعية، فقابلت رجلاً توسمت فيه خيراً فبدأته بالسلام وحييته به ومددت كفي مصافحاً له فإذا به -سامحه الله وجمعني به وإياكم في الجنة- يقابلني بوجه مكفهر، مقطب الجبين، ويسلم سلاماً رخواً ميتاً بارداً فتركته حتى خرج من تلك الدائرة، ثم أدركته قبل أن يبتعد عنها كثيراً، فقلت له: يا فلان هل تعرفني؟ قال: لا.
قلت: وما يضيرك أنك لا تعرفني؟ -أردت بقولي: هل تعرفني أي: هل سبق بيني وبينك عداوة؟ هل بيني وبينك شيء من المواقف التي تدعو إلى عدم الانبساط وعدم البشاشة؟ - قال: لا أعرفك.
قلت: إذاً لم يحصل بيني وبينك موقف كرهتني فيه أو كرهتك فيه؟ قال: لا.
قلت: يا أخي الكريم لماذا لا تحسن أخلاقك؟ لماذا لا تنبسط؟ لماذا لا تتبسم؟ لماذا لا تمد يدك مد الرجال عند المصافحة؟ لماذا لا تضع عينك في عين من أقبل عليك محبة وهشاً وبشاً به؟ أما أن تجد من الناس مَنْ إذا سلَّم عليك يده في اليمين ووجهه في السقف، أو يُعطيك يداً ويده الأخرى يصلح به شيئاً من حذائه، والرابع يُسلم عليك ولا يلتفت لك بأي حال من الأحوال.
إن عدم التفات هذا إلى حُسن الخلق لن يضيرك ولن يضيرني لكنه سيضيره هو، إنه يحرم نفسه خيراً كثيراً، وبوسع العبد إذا خرج من بيته أن يعود بحسنات أمثال حسناته في صلاته وصيامه، وأمثال حسناته في صدقاته وذلك بحسن خلقه ولين جانبه وتواضعه، ومحبة الخير لإخوانه المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه الإمام مسلم.
وروى الخرائطي عن أبي عون الأنصاري قال: [ما تكلم الناس بكلمة شديدة إلا وإلى جنبها كلمة هي ألين منها تجزئ عنها] أي: أن الواحد مهما شدد في العبارة فإن بوسعه أن يختار من مفردات اللغة ومن جُملها ما يُفضي إلى تحقيق المقصود، وما يفضي إلى المرغوب دون الحاجة إلى الكلمة الشديدة، وكل أمر من الأمور لك أن تُعبر عنه بكلمة طيبة، ولك أن تعبر عنه بمعنىً مقبول:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
ذماً ومدحاً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
العسل إن تشأ قلت: ذا قيئ الزنابير، وإن تشأ قلت: هذا شهد النحل أو تقول فيه وصفاً جميلاً، ومن الذين يعتنون بحسن الخلق؟ من تراهم ينتقون العبارة الجميلة، يُقال: إن هارون الرشيد قال ذات يوم لأحد أبنائه وفي يده سواك: ما جمع هذا يا ولدي؟ فقال أحدهم: محاسنك يا أمير المؤمنين.
وقال للآخر: ما جمع هذه يا ولدي؟ قال: جمعها كِعاب الأسنة.
لم يقل: مساويك، خشية أن يكون الجمع فيه عبارة تدل بلفظ لا يليق أمام أمير المؤمنين أو أمام والدهم.(44/11)
أحاديث نبوية في حسن الخلق
إن عناية الإنسان بمنطقه وعناية الإنسان بلفظه متحرياً بذلك حُسن الخلق مما يرفعه درجةً عند الله، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً).
وروى أبو نعيم في الحلية، عن حماد بن زيد قال: [ما رأيت رجلاً أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب].
وفي الحديث المتفق على صحته، عن عبد الله بن عمرو، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟ قال: أن تُطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) متفق عليه.
ذلك من خير الإسلام أن تبدأ بالسلام وتُعلن السلام على من عرفت وعلى من لم تعرف.
وبالمناسبة أيها الأحبة! فإن وقوع بعض المسلمين في معصية لا يمنع من سنية بدئهم بالسلام، فتجد المسلم إذا قابل رجلاً حالقاً لحيته، قال: لا أبدأه بالسلام فهذا (حليق)! وبعضهم إذا رأى رجلاً مدخناً قال: أعوذ بالله، أبدأ بالسلام على رجل يدخن فلا أبدأه، وذلك من الجهل بالدين.
إن من واجبك أن تبش وتهش وتنبسط إليه وتبدأه بالسلام، وتسأله عن صحته، وإن كنت منكراً لما ترى من حلق لحيته أو مجاهرته بدخانه، فإنك بهذا تنصحه نصيحة طيبة فتنال الأجرين، لا يفوتك أجر البدء بالسلام وتنال أجر حُسن الخلق، والبسط وحُسن الصلة مع المسلمين، وأجر النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي معنى الحديث السابق قال النووي رحمه الله: ومعنى تُقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف أي: تُسلم على كل من لقيته عرفته أم لم تعرفه ولا تخص به من تعرفه كما يفعله كثير من الناس.
هذا في زمان النووي يقول: كما يفعله كثير من الناس الذين يخصون بالسلام من يعرفون، فما بالك بهذا الزمان؟ ما بالك بنا؟ بل لقد ضيعنا كلمة (السلام) حتى أن بعضنا يدخل على القوم، فيقول: كيف الحال؟ كيف الصحة؟ أهلاً بكم، صباح الفل، صباح الورد، صباح الياسمين، صباح القشطة، صباح كذا وصباح كذا! ونسي أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! بل إن بعضهم بالهاتف: السلام عليكم، أهلاً بفلان كيف الحال؟ تردد عليه مرتين أو ثلاثاً حتى لا يفوته أجر رد السلام، وهذه من الأمور التي تعود كثير منا عليها حتى فاته كثير من الأجر، ما الذي يمنع؟ صحبت ذات مرة شخصاً من إخواننا في سفر فعجبت من كثرة إفشائه السلام على الناس، ما التفت يمنة فوجد عاملاً أو كبيراً أو صغيراً إلا وألقى عليه السلام، فقلت له: أراك تكثر السلام! قال: هل كنت مشغولاً معك في حديث حتى أقطعه بهذا؟ هل تراني أقرأ؟ هل تراني أصلي؟ بدلاً من أن أقلب عيناي في الجدران والحيطان والرخام والمباني والعمائر والغادين والسيارات والرائحات والشكمانات وغير ذلك بدلاً من هذا كله أقول: السلام عليكم، ففي كل تسليمة أجر عظيم، وما ظنك لو عددنا كم مررنا على شخصٍ سلمنا عليه لوجدنا أننا في نهاية المطاف قد جمعنا مئات الحسنات بمجرد إفشاء السلام.
وقال ابن حجر في معنى السلام: أي لا تخص به أحداً تكبراً ولا تصنعاً بل تعظيماً لشعار الإسلام ومراعاةً لأخوة المسلمين.
وفي الحديث الذي له حكم الرفع ورواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن ابن مسعود أنه مر برجل فقال: السلام عليك يا أبا عبد الرحمن، فرد عليه، ثم قال: [إنه سيأتي على الناس زمان يكون السلام فيه للمعرفة].
وقال ابن بطال في مشروعية السلام على غير المعرفة: استفتاح للمخاطبة وللتأنيس ليكون المسلمون كلهم إخوة فلا يستوحش أحد من أحد، وفي التخصيص ما قد يوقع في الاستيحاش، وربما سبب صدود المتهاجرين أو يشبه صدود المتهاجرين الذي نهى الله عنه.
لقد أخرج الإمام أحمد بسند صحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطيعة الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم) رواه الإمام أحمد في مسنده.(44/12)
حاجتنا إلى قضايا السلوك والأخلاق
نعم أيها الأحبة! هذه من الأشياء التي ظهرت وانتشرت بين المسلمين، وكما أننا بحاجة إلى أن نفقه قضايا كثيرة قضايا إعلامية، وقضايا سياسية، وقضايا تربوية، وقضايا تعليمية، وقضايا اجتماعية؛ فنحن بأمس الحاجة إلى أن نتعلم هذه القضايا وهي قضايا المعاملة وقضايا السلوك.
إن عبداً من عباد الله يوم القيامة لن يضره إن جهل ما هي أبعاد اتفاقية غزة أو أريحا، على أيٍّ كان تحليلها أو تفسيرها، وليس هذا مقام بيان قول الإسلام فيها، إن عبداً من عباد الله لن يضيره يوم القيامة إذا جهل كثيراً من القضايا السياسية والاقتصادية والإعلامية، لكن سينفعه عند الله إن كان ممن يفشون السلام، سينفعه عند الله إن كان ممن ينبسطون بالبشاشة أمام إخوانهم، سينفعه عند الله إن كان ممن سلمت صدورهم من الغل والحسد والإحن والعداوات والبغضاء.(44/13)
بطلان الافتخار بالأنساب أمام التقوى
ثم إن سلامة الصدور لمن دلائل الألفة والمحبة التي هي نعمة عظيمة امتن الله بها على المسلمين، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] بل يمن الله جل وعلا على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيقول له: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:62 - 63].
إن هذه الألفة والمودة وسلامة الصدر لمن أعظم النعم، وما ظنكم لو أن كلاًّ منا ركب رأسه وركب نعرته وركب عصبيته وركب جاهليته، وركب أسرته وقبيلته ومفاخره وأموره الجاهلية، لأصبحنا أعداءً متباغضين متناحرين، لكن نعمة الله جمعت شملنا، وألفت قلوبنا، ووحدت صفوفنا، ووالله إن من يفتخر بنسبه لأحقر عند الله من الجعلان والجنادب والهوام والتراب.
إن عبداً من عباد الله في أدغال أفريقيا من المتقين ليساوي آلاف الآلف في وسط نجد أو في شمالها أو غربها أو جنوبها إن كانوا من العصاة، وإن عجوزاً مؤمنة من أهل نجد لتساوي أهل الأرض إن كانوا عصاة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] بعض الناس فيه خساسة ودناءة، وفيه فجور وعصبية وجاهلية، يتزي ويفتخر بأصله ونسبه: أنا نجدي، أنا حجازي، أنا شمالي، أنا يماني، أنا غربي، أنا مدني، أنا كذا، أنا كذا والله ما قلت بقول فيه عصبية بجاهلية إلا قلنا لك: خسئت وخبت وخسرت.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم(44/14)
نماذج ممن رفعتهم التقوى
الذي نفتخر به هو الذي جعل بلال الحبشي، يُسْمع صوت نعليه في الجنة.
الذي نفتخر به هو الدين الذي جعل أبا لهب ذا الوجه الأحمر الملتهب من شدة بياضه يقال فيه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3].
الذي نفتخر به ذلك الدين الذي قال لـ صهيب: (ربح البيع أبا يحيى).
الذي نفتخر به الذي نقل سلمان الفارسي من الفرس إلى آل البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت) إن من افتخر فخراً مجرداً عن العمل الصالح، فهو خسيس دنيء، وإننا لنقولها ولا كرامة ولا مودة ولا مكانة لمن افتخر بنسب جاهلي، وتباً لمن يفتخر بعظمٍ نخر، الذين يفتخرون بالعصبيات، وبالأنساب، الذين يصنفون الناس: هذا شمال وهذا جنوب وهذا غرب وهذا نجد وهذا وسط وهذا يمين وهذا يسار بماذا تصنفون الناس؟ بالعيون التي تُخرج القذى؟ بالأنوف المليئة بالمخاط؟ بالأجواف المليئة بالبول والبراز؟ بالأفواه المليئة بالبخر؟ بالآباط المليئة بالوسخ؟ بماذا يفتخر الناس حينما يصنفون بهذه العصبيات، إنما الفخر فخر من أطاع الله وعبد الله وسجد لله وصلى لله، والكرامة والله هي كرامة التقوى، ومن تمسك بغيرها ومن دعا بدعوى الجاهلية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) أي: قولوها له صريحة حينما يفتخر بهذه العصبيات الجاهلية التي لا مكانة لها.
لقد وقف عطاء بن أبي رباح الذي هو إمام المناسك في زمنه، يقف الناس طوابير، خلف بعضهم كل ينتظر دوره في السؤال، وعطاء كان عبداً مملوكاً أعتقته سيدته، كان لا يرى إلا بعين واحدة، كان مفلفل الشعر، أسود اللون، كأنه غراب بين الناس، ثم لما جاء الخليفة يسأل قالوا: دونك الناس أيها الخليفة -أي: امسك في (الطابور) حتى يصلك (الطابور) وتصل عطاء بن أبي رباح - فوقف الخليفة وسأل عطاء بن أبي رباح فالتفت إلى أولاده، وقال: أي بني! اطلبوا العلم فقد جثا الخلفاء بركبهم عند العلماء هكذا يكون الدين هو الذي يرفع الدرجات ويرفع المنازل.(44/15)
نقاء النفس من أسباب دخول الجنة
إن نقاء النفس أيها الأحباب! لمن أسباب دخول الجنة كما في الحديث الذي رُوي في مسند الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا يوماً جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة.
قال: فطلع رجل من أهل الأنصار تنطف لحيته من الوضوء، قد علق نعليه في يده الشمال، فسلم، فلما كان من الغد قال صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم من هذه الثنية أو من هذا الفج رجل من أهل الجنة؛ فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج عليكم من هذا الفج رجل من أهل الجنة؛ فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبع الرجلَ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال لذلك الرجل: إني لاحيت أبي -أي: كان بيني وبين أبي شيء من الملاحاة- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تئويني إليك حتى تمضي ثلاث ليالٍ فعلت؟ قال: نعم.
قال أنس رضي الله عنه فكان عبد الله بن عمرو يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار -أي: انقلب وتقلب على فراشه- ذكر الله عز وجل، وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر.
فقال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً) صاحبه ثلاث ليال وثلاثة أيام يريد أن يرى منه كثرة صلاة وكثرة صيام وكثرة أعمال، قال: (فلما فرغنا من الثلاث وكدت أن أحقر عمله، قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر، لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت ثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بذلك فلم أرك تعمل).
وانظر إلى الصحابة كيف يتنافسون في العمل، وكيف يتبع بعضهم بعضاً ليتأسى ويقتدي وينتفع ويهتدي، بمن هو خير منه في العمل، أو بمن سبقه ببشارة من النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فاقتدي بذلك، فما رأيتك تعمل عملاً كثيراً، فما الذي بلغ بك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: هو ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خيرٍ أعطاه الله إياه، قال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق) وفي سند هذا الحديث مقال.(44/16)
سوء الظن مدعاة للحقد
أيها الأحبة! إن مما يدفع بعض الناس ومما يجرهم والعياذ بالله إلى الأحقاد والإحن والغل؛ سوء الظن، وسوء الظن أمر منهي عنه، لقد عرفت كثيراً من الناس لو تناجى اثنان في مجلس لقال: نعم، إنهما يتناجيان فيّ، إنهما يتكلمان عني، يتكلمان في سيرتي، إنهما يحللان شخصيتي، إنهما يريدان أن يزنا شخصيتي.
فتجد بعض الناس لو التفت يمنة ويسرة قال: نعم، الآن يتكلمان فيّ.
بعض الناس مسكين عنده ضعف ووسوسة واهتزاز شخصية لدرجة أنه لو دخل على حوش غنم، فالتفت تيس إلى عنز قال: تكلموا فيّ! من سوء اهتزاز شخصيته أمام نفسه فعلاً، لا يُطيق أن يلتفت اثنان إلى بعضهما، ولو أن بعضهم فجأة أو خطأً حدق البصر فيه لحظة ثم عاد لقال: نعم، أراد أن يتأكد هل هو الذي يُتكلم فيه أنا أم الذي بجواري، أي: أنك تجده -والعياذ بالله- مسيئاً للظن، وقد نهى الله جل وعلا عن هذا، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ولماذا نسيء الظن بالآخرين سواءً في كلامهم أو في قولهم أو خطبهم أو مقالاتهم أو كتبهم أو مجالسهم أو مواقفهم؟ لماذا لا نحملهم على أحسن محمل؟ أوليس الأصل في كل مسلم براءة عرضه وسلامة جانبه؟ أوليس الأصل فيه البراءة، والشك طارئ والمعصية والخطيئة طارئة.
إذاً لماذا ندع الأمر الأصلي الثابت بيقين لأمرٍ حادث بشك، والقاعدة الفقهية تقول: اليقين لا يزول بالشك؟ وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).
نعم إن كثيراً من الناس يحلل حساباته ويخلص بتقاريره واستنتاجاته بناءً على الظنون وبناءً على أشياء لا صحة لها {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إن أناساً يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته من شيء، الله يحاسبه على سريرته، ومن أظهر لنا شراً لم نأمنه ولم نصدقه، ولو ادعى وقال: إن سريرته حسنة].
وإن حسن الظن لمن حقوق الأخوة التي هي من مناقب السلف الصالح، فهذا الشافعي رضي الله عنه يروي أحد تلامذته وهو الربيع بن سليمان قال: دخلت على الشافعي ذات يوم وهو مريض، فقلت له: قوى الله ضعفك.
فقال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني.
فقال الربيع: والله ما أردت إلا الخير.
فقال الشافعي: أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير.
أي: من حُسن ظن الشافعي بتلميذه أو بمن حوله.
قال: لو تكلمت فيّ كلاماً بلغ حتى درجة الشتيمة، لن أسيء بك الظن، وإني لأقول: إنك ما أردت وما قصدت إلا الخير.
وعلى ذلك فينبغي أن يُحمل كلام الإخوان وكلام الخلان والأصحاب والأحباب والإخوة وكلام عامة المسلمين فيما بينهم أن يحمل على خير محمل.(44/17)
فقه الستر على المسلمين
أيها الأحبة! كذلك من التوجيهات المهمة المتعلقة بجيل الصحوة المبارك، بل وبعامة إخواننا المسلمين: مسألة الستر، الستر على المسلمين والأخذ بأيدي الذين يقترفون الإثم، الأخذ بأيديهم إلى الله جل وعلا، لينيبوا إليه سبحانه عله أن يقبل توبتهم بدلاً من هتكهم وتتبع عوراتهم وكشف مساوئهم وإعانة الشيطان عليهم.
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر: اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب وهذا الكلام لا تنزعجوا منه فسوف يأتي فيه تفصيل.
روى معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) رواه أبو داود وابن حبان.
إن الستر على المسلمين لمن الأمور المرغوبة، ومن الأمور المحبوبة، بل إن الدين شرع لنا ذلك، وستأتي من النصوص ما تعجبون من أن الإسلام لا يتشوف إلى فضح الناس، الدين لا يشتاق إلى هتك أستارهم، الشريعة لا تتمنى فضح عورات الناس، الدين لا يتمنى التشويش والتشهير بالناس إطلاقاً.
حدث أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم.
وحدث أبو برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في قعر بيته) رواه أبو داود.
أيها الأحبة! إن من المسلمين من يستره الله ثم هو بعد ذلك يهتك ستر الله عليه، المقترف العاصي المذنب المخطئ الذي وقع في معصية مطالب قبل غيره أن يستر على نفسه، إذا كان الإسلام يأمرنا أن نستر على العاصي، فإن العاصي هو مأمور أن يستر على نفسه، وليس بمأمور أن يفضح نفسه أو يتكلم.
إن من الناس من يظن أن التوبة لا تتم إلا بالصلاة في مسجد من المساجد عند شيخ من المشايخ وبين يديه، يقف ذلك الشاب الذي يريد الالتزام مطرقاً باكياً دامعاً حزيناً، فيقول: يا شيخ اسمع: إني مذنب وإني أريد التوبة، أولاً: فعلت كذا، ثانياً: سرقت كذا.
ثالثاً: اختلست كذا، رابعاً: عملت هكذا ليس هذا من الدين في شيء، ليس عندنا قسس ولا رهبان ولا كاردنلات ولا زعامات بابوية أو طقوس كنسية يأتي المذنب ليعترف بين يدي أصحابها، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] الأمر بين العبد وبين ربه لا يحتاج إلى واسطة سواءً في التوبة أو في الاستغفار أو في السلامة أو في الرجوع عن الذنب والخطيئة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سمعه أبو هريرة من فهمه صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا، وقد بات يستره ربه، ثم يصبح يكشف ستر الله عليه) متفق عليه.(44/18)
ستر الله في الدنيا والآخرة
وروى ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول له: عملت كذا وكذا.
فيقول: نعم.
فيقرره، ثم يقول الله جل وعلا: إني سترت عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم) متفق عليه.
وفي رواية: (فيقرره بذنوبه، فيقول الله جل وعلا: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي رب أعرفه؛ فيقول الله: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)، وفي رواية: (فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي رب أعرف.
فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيُعطى صحيفة حسناته) الله أكبر! رب غفور رحيم على العبد قادر، فيحلم عليه ويستره ويغفر له ويعطيه صحيفة حسناته راضياً مرضياً ليدخل الجنة.(44/19)
ستر العصاة عند الصحابة
وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر الله على عبدٍ في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة) رواه مسلم.
عمار بن ياسر من الصحابة يفهم هذا المعنى فهماً عظيماً، فتراه ذات يوم قد أخذ بسارق من اللصوص ثم يدعه ويقول: [أستره لعل الله أن يسترني].
وقال أبو بكر الصديق: [لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستر به عليه].
وكان يقول: [ولو رأيت رجلاً على حدٍ من حدود الله ما أخذته ولا دعوت له أحداً حتى يكون معي غيري].
وأشرف ابن مسعود على داره بـ الكوفة فإذا هي قد غصت بالناس، عبد الله بن مسعود لما أشرف على داره وجد الناس قد ملئوا الدار في رحباتها وجنباتها ومن حولها، فقال ابن مسعود: [من جاء يستفتينا فليجلس نفتيه إن شاء الله، ومن جاء يخاصم فليقعد حتى نقضي بينه وبين خصمه إن شاء الله، ومن جاء يريد أن يُطلعنا على عورة قد سترها الله عليه فليستتر بستر الله وليقبل عافيته، وليسرر توبته إلى الذي يملك مغفرتها، فإنا لا نملك مغفرتها ولكن نقيم عليه حدها ونمسك عليه بعارها].
وهذه امرأة تقول لـ عائشة: إن رجلاً أخذ بساقها وهي محرمة، فقالت: حجراً حجراً حجراً، وأعرضت بوجهها وقالت بكفها، ثم قالت عائشة: [يا نساء المؤمنين إذا أذنبت إحداكن ذنباً فلا تخبرن به الناس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه فإن العباد يعيرون ولا يغيرون، والله يغير ولا يعير].(44/20)
تقسيم العصاة إلى مستور ومفضوح
قال ابن رجب في تفصيل الكلام الذي مضى حتى لا يظن بعض الإخوة أن هذه دعوة لترك الفساد والمنكرات، وتهوين شأن أهل الحسبة والهيئات، والتثريب عليهم فيما يفعلون من الإمساك بالعصاة- يقول ابن رجب في تفصيل هذه المسألة: واعلم أن الناس على ضربين: أحدها: من كان مستوراً لا يُعرف بالمعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز له هتكها ولا كشفها ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غيبة محرمة، وهو الذي فيه النصوص، ومثل هذا لو جاء تائباً نادماً وأقر لم يُفسر ولم يُستفسر منه، بل يُؤمر بأن يرجع فوراً ويستر على نفسه.
وأما الثاني: فمن كان مشهوراً بالمعاصي، مُعلناً بها، داعياً إليها، لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له في هذا، فذاك الفاجر المعلن وليس له ريبة كما نص على ذلك الحسن البصري وغيره.
أيها الأحبة! ينبغي أن نفرق فمن الناس من يقع في زلته الأولى أو خطيئته أو مشكلته التي وافقت أنها وقعت في يد أو في علم أو في اطلاع واحد من أهل الخير، الواجب حينئذٍ إذا لم يُعرف عن الرجل أنه من أهل الفساد ولا من أهل المعاصي ولا من الدعاة إلى الشر ولا من الدعاة إلى الخطيئة؛ فالواجب زجره بالموعظة، وتوبيخه بالنصيحة، والقول البليغ في حقه لعله يرتدع وينزجر ويُخوف، ثم بعد ذلك يُستر عليه حتى لا نتفاخر بأن كثيراً من المسلمين وقعوا في المعاصي، أو حتى لا يفشو أن هذا المجتمع قد بلغ به الفساد حتى فيمن يُظن بهم الخير.
أما من كان داعية إلى المعصية، مروجاً لها، ناقلاً لها، مزيناً لها، كما يفعله بعض العصاة، تجده يعصي ويهتك ستر الله عليه ويجاهر ويأتي بالصور من الخارج، ويقول: هذه صورة مع الراقصة، وهذه صورة مع فلانة، وهذه صورة شرب، وهذه صورة منكر، وكنا في كذا، وفعلنا يوم كذا وكذ وكذا وطربنا وشربنا ورقصنا وسافرنا ورأينا وفعلنا وسهرنا وو الخ ثم يحض على المعصية ويدعو إليها، فذاك لا ينبغي تركه إذ أنه سوسة نخرة وسرطان في بدن الأمة فلابد من بتره وقطعه، إن لم تُفد فيه المواعظ والنصائح.
قال الإمام مالك: "من لم يعرف منه أذىً للناس وإنما كانت منه الزلة فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عُرف بشر واشتهر به، أو فساد وعرف به فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن يترك حتى يُقام عليه الحد" حكاه ابن المنذر وغيره.
وقد ذكر النووي: أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به، أي: قد تكون في الرجل أمور من الفسق، فأمور جاهر بها وأمور سترها، فالأمور التي هي من الفسق التي سترها لا يجوز أن يعير بها جهاراً، والأمور التي من الفسق جاهر بها يعير أو يؤخذ بها جهاراً، وهذا من تمام الفقه والعلم.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إليه المعترفون بأنفسهم، يأتيه ماعز، فيقول: يا رسول الله، زنيت فيدفعه ويقول: (لعلك قبلت، فيأتيه مرة أخرى فيقول: لعلك فاخذت فيأتيه مرة أخرى فيقول: لعلك كذا ثم يقول: انظروا بصاحبكم هل تشمون منه خمراً، أتعرفون عنه جنوناً؟) إن الإسلام لا يتشوف إلى هتك الأستار.
بعض الناس يظن أن هذا الدين يتعطش لقطع الرقاب وقطع الأيدي، وأن الدين يتعطش لبطح الناس عند المساجد وجلدهم، وأن الدين يتعطش لفضح الناس أمام الملأ والمجامع، لا، ليس هذا من مقاصد الشريعة، بل إن من مقاصد التشريع الستر على الناس إلا من كان فاجراً ساعياً بالفساد بين المؤمنين فذاك رجل ينبغي أن يبعد وأن ينتبه لفسقه وشره.
وإني أسأل الله جل وعلا بأسمائه وصفاته واسمه الأعظم أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل هذه الكلمات حجة لنا لا حجة علينا.
ويا أيها الأحبة! أقولها مراراً: إن هذه الصحوة خاصة، والمسلمين عامة بحاجة إلى تربية في السلوك، إننا بحاجة إلى حُسن الخلق، إننا بحاجة إلى حُسن المعاملة، إن الأزمة أزمة معاملة والأزمة أزمة أخلاق، والمصيبة مصيبة أن كثيراً منا قد تعلم شيئاً كثيراً ولكن يجهل كثيراً من الخلق وحسن المعاملة.(44/21)
الأسئلة(44/22)
ضوابط في التعامل مع الوالدين
السؤال
فضيلة الشيخ سعد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشهد الله أني أحبكم في الله، فضيلة الشيخ إني سلفي العقيدة، ولكن والدي ووالدتي يقعون في البدع ويحثوني عليها، وعلى الابتداع، وقد تعبت معهم في النصيحة حتى أن والدي ووالدتي يغضبان عليّ كثيراً لأنني سلفي، فماذا تنصحونني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
يا أخي الكريم! أسأل الله أن يحبك كما أحببتنا فيه، وإن من المصيبة أن يجد الإنسان من والديه وأقاربه أو جماعته من يصرون بإمعان وعناد على بعض البدع والأخطاء والضلالات.
أما من الوالدين فإن الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] بمعنى: أن أخطاءهم وبدعهم التي يقعون فيها لا تمنع من برهم، بل لا تسقط وجوب البر بهم، فواجبك أخي الكريم أن تأخذهم بالحسنى وباللين، وأن تسألهم حينما يدعوانك إلى بدعة من البدع أن تقول: ماذا تبتغون من هذه البدعة؟ يقولون: نريد الأجر والمثوبة.
فتقول لهم: من الذي قال: إن فيها أجراً ومثوبة؟ فيقولون: إما أن ذلك عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فتقول: ولكن هذا لم يرد عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذلك مما ورد إما في الحديث الموضوع أو المكذوب أو في استنباط بعض الذين يستحسنون بعقولهم من الدين، وإنما الدين توقيف وعبادة واتباع وليس ابتداع، وإذا كنتم تريدون الأجر فعليكم بما كان عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأن تأخذهم باليُسر واللين والحكمة والموعظة الحسنة، لا تقل: يا أمي أنا سلفي وأنتي مجرمة، ويا أبي أنا سلفي وأنت كذا لا، إنما تأخذهم بالحسنى واللين، وداوم، بعض الناس يقول: نصحت فما استجيب لي.
وإذا سألته كم مرة نصحت؟ قال: مرتين ونصف! يا أخي الكريم إذا كان أمر والديك يهمك بعناية واهتمام شديد، فإنك لن تألو جهداً في أن تصل إلى قلبيهما والتأثير عليهما بكل وسيلة من وسائل البر والهداية واللطف والكلمة الطيبة عسى الله أن يمنّ عليهم بالهداية، وإذا لم تتحقق الهداية المرجوة، فإن الله جل وعلا قد قال لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] النبي كان يحب أن يموت أبو طالب على الإسلام، لكن أبا طالب مات مشركاً، خلافاً لما تزعمه بعض طوائف الضلال الذين ألفوا كتاباً وأسموه " أسنى المطالب في إسلام أبي طالب " ويدَّعون أنه من المسلمين.(44/23)
نداء من البوسنة
قبل هذا السؤال أخي الكريم! نداء جميل وطيب من إخواننا في مكتب الهيئة العليا، مفاده: أن إخواننا غير خافٍ عليكم ما يمر بهم في هذه الأيام من تسلط أعدائهم الكروات وأعدائهم الصرب وما هم فيه من مشقة في أحوالهم سواءً في مساكنهم أو في البرد الذي يمر بهم، أو مرض أطفالهم، أو موت عجائزهم وشيوخهم وكبارهم، لذا نهيب بإخواننا أن يتبرعوا لوجه الله جل وعلا، وكل في ظل صدقته يوم القيامة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] فأعينوا إخوانكم.
وإني أبشركم -أيها الأحبة- أن الوضع منذ أشهر وليس منذ أسابيع قد تحول لصالح المسلمين في البوسنة والهرسك، وخذها قاعدة: إذا رأيت المفاوضات الدبلوماسية في أوروبا نشطة ومتحركة ومتتابعة لحل أزمة البوسنة والهرسك؛ فاعلم أن المسلمين في تقدم، إذا كان الكفار يذبحون في المسلمين تجد أن هذه المفاوضات تمشي مشي السلحفاة؛ أما إذا كانت الكفة لصالح المسلمين، فإن المفاوضات تمشي عجالاً، على الأقل يكسبون وقف إطلاق النار وهذا الكلام أنقله بما عرفت من كثير من المسئولين في حكومة البوسنة، ومنذ قرابة أسبوع جاءني أحد الشباب من أكثر من مدينة من سراييفو ومن جراشتا ومن زنيتسا ومن مستار ومن زرنيك ومن غيرها ويقول: إن الأوضاع لصالح المسلمين، إلا أن المسلمين في هذه المرحلة يركزون أولاً على القضاء على الكروات لماذا؟ لأن الكروات متداخلون مع المسلمين في كل شارع وسكة وطريق ومحل، وهؤلاء الكروات هم الذين دائماً ينقضون العهد ويدلون الصرب على المسلمين ويحددون المواقع، وهم شوكة في حلوق المسلمين في كل مكان؛ لأجل ذلك كانت الاستراتيجية الجديدة: القضاء على الكروات أولاً ثم تصفية الصرب ثانياً.
ولذلك المعارك الآن بنسبة كبيرة جداً لا تقارن بين الكروات والمسلمين أكثر منها بين المسلمين والصرب.
الأمر الآخر: أن كثيراً من الصرب ولله الحمد والمنة -وهذه بشارة- صاروا يبيعون الأسلحة ويبيعون الذخيرة، عندك مال أعطه الثقات أو اذهب أنت بنفسك معهم فهم مستعدون أن يجعلوك تقابل قائداً صربياً يبيعك دبابة ويبيعك ذخيرة ويبيعك أسلحة ويبيعك ناقلات، بل إن بعض قوات الأمم المتحدة يبيعون الوقود، بل قال بعضهم لأحد ضباط الأمم المتحدة: أما تخشى أن يعلم رؤساؤك بك؟ قال: إذا علموا فذلك ما كنت أبغي؛ لأني بعت لكم معاشر المسلمين من الوقود الشيء الكثير بأموال أتمنى أن أُفصل بسببه من الخدمة فأستمتع بالأموال التي جمعت! أكثر ما عندهم أن يعطوا عقوبة أو سجن أيام أو أشهر ثم يعود ليستمتع بالأموال التي جمعها، قال: وبقائي في المعركة خطأ، ولذلك إذا رأيتم الأعداء يبيعون السلاح ويتاجرون بأسلحتهم فاعلموا أن واقع المسلمين في خير، خاصة بعد تلك المحاولة الناجحة التي قادها عدد من الشباب العرب المسلمين، واستطاعوا أن يختطفوا نائب القائد الكرواتي في ليلة ليلاء، كما ذهب محمد بن مسلمة وجر كعب بن الأشرف من معصمه واستنزله من عُصم منزله، وأخذوا ذلك القائد ودخلوا به أسيراً، وأبلغوا قوات الأمم المتحدة، فجاءت الأمم المتحدة تفاوض على إخراجه قالوا: لا نسلمه لكم إلا رأساً على طبق إن لم تخرجوا لنا إخواننا الأسرى من العرب وغير العرب، وفعلاً تمت عملية المبادلة وسجلت بالفيديو وثائقياً ورأيتها بعيني.
بعد تلك الحادثة أصبح كل مجموعة من الشباب يشتهون أعمالاً ومغامرات جميلة، الذي يذهب ويسرق له (نقيباً)، والذي يسرق له (ملازماً أول)، والذي يخطف له (ضابطاً) فقط، وآخر يذهب ويخطف (عريفاً) أو (جندياً) فيقولون: لم تأت بشيء، احضر واحداً محترماً! فالحاصل أن إخوانكم بحمد الله في تقدم.
وأيضاً يقول أحد المسئولين في الحكومة البوسنية: قتلى الصرب من العسكريين أكثر من قتلانا العسكريين المسلمين، وقتلى المسلمين المدنيين أكثر من قتلى الصرب المدنيين لماذا؟ لأن الصرب في المعارك يموت منهم الكثير والمسلمون لا يضربون على مواقع مدنية آمنة، لكن الصرب يضربون المدينة ضرباً بالصواريخ وبالطائرات حتى تكون خراباً يباباً ثم يتجولون في الأسواق ويقولون: انتصرنا هذا ليس انتصار! مدينة تُضرب بالطائرات والمدافع الثقيلة سبعة أيام أو عشرة أيام ثم يدخلها الصرب يرفعون السلاح وهي مدينة فارغة! هذا كالذي قال: أنا قتلت ذلك الضابط.
قال: لماذا لم تقطع رأسه؟ قال: وجدت رأسه مقطوعاً.
فليست شجاعة أن يفتخروا أو يعدوها شجاعة في الانتصار على مدن فارغة خالية ليس فيها من الجنود أحد، والخلاصة وما وصلنا إليه أن تتبرعوا والصناديق عند الأبواب جزاكم الله خيراً.(44/24)
حكم هجر القرآن خشية النسيان
السؤال
إن كثيراً من الشباب يقول: أنا لا أريد أن أحفظ شيئاً من القرآن مخافة أن أنساه، وقد يكون الشباب في سيارة فعندما يريد أحدهم أن يشغل جهاز التسجيل على القرآن يقول الآخر: نشغله على الأناشيد لأن القرآن لن ننصت له فما هي نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
أولاً: يا أخي الكريم! هذه ملاحظة في بعض الأسئلة: "السماحة" لمن بلغ هذه الدرجة وهو سماحة الشيخ عبد العزير بن عبد الله بن باز أو من كبار العلماء كالشيخ ابن عثيمين متع الله بهم على طاعته، أما شأني وشأنك فقل: يا أخي، وعسانا أن نبلغ درجات الأخوة، كلمة "الشيخ" أيضاً كبيرة و"فضيلة" و"صاحب الفضيلة هذه كلها كبيرة، فيا أخي الكريم ينبغي أن نعرف قدر بعضنا ببعض، ووالله لو مدحتني أو مدحتك كل منا أدرى بذنوبه وبعيوبه {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14].
أما ما يقوله البعض أنه يُعرض عن القرآن مخافة أن ينساه، نقول: أنت احرص على حفظه واحرص على مراجعته، وإذا تفلت منك شيء فإنك على قدر جهدك تؤجر بإذن الله جل وعلا ولن تكون من الآثمين، إنما الذي يأثم من يُعرض عن القرآن ويقبل على غيره -والعياذ بالله- مع إمكانه أن ينال من القرآن خيراً عظيماً: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] نشتري لهو الحديث ونعرض عن القرآن، ونقول: إننا لو نسينا القرآن لأثمنا، ذلك من الفهم المنكوس المعوج! وقول الآخر: نسمع الأناشيد حتى لا نأثم في الانشغال عنها، نقول: اسمع القرآن وأنصت له يا أخي، وإذا بدا لك حديث فلو أوقفت المسجل وتحدثت مع من بجوارك وعدت إلى ذلك، ومن عود نفسه على شيء نفعه بإذن الله
وإن كلام الله أوثق شافع وأغنى غنى واهباً متفضلا
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلاء
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا
نعم ننصت للقيل والقال والكلام الزائد والناقص وقلّ إنصاتنا عن كلام الله، (ولكنها عن قسوة القلب قحطها) لو كانت القلوب لينة، ولو كانت المذاقات سليمة، لما ابتغت عن كتاب الله بديلاً، فنسأل الله أن يحبب إلينا وإليكم كلامه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم.(44/25)
من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في المحادثة والسماع والمزاح
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه فتاة تبلغ من العمر عشرين سنة، ولقد رزقها الله بشاب صالح ولله الحمد، وسؤالها هو: إن زوجها -هداه الله- دائم الذكر لا يفتر عن ذكر الله حتى مع والديه، في أي محل وفي أي مكان، ولا يدع لها مجالاً في التحدث معه، بل يقول: اذكري الله، وإذا ركبت السيارة يذكرني بالله، وإذا أردت أن أتحدث معه قال لها: يا امرأة اتقي الله ودعكِ من الدنيا.
ولا يحدثها محادثة الزوج مع زوجته فهل من نصيحة جزاكم الله خيراً؟
الجواب
والله نقول لأخينا هذا: أسأل الله أن يجعلنا وإياك وزوجتك والسامعين والسامعات من الذاكرين الله والذاكرات، ونقول: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الصحابة ذكراً ومع ذلك كان يمازح صحابته، ويحدث صحابته، ويكلم عائشة ويؤانس زوجاته، ويتحدث معهم، ويداعب الصبيان ويلاعبهم ويحملهم ويسلم عليهم.
فما أظنك وما أخالك يا أخي ستكون أبلغ وأكمل هدياً وسمتاً من نبيك صلى الله عليه وسلم؟! تقول عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في حاجة أهله، يخصف نعله، ويحلب شاته، وإذا دُعي أو أقيمت الصلاة قام كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه).
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمازح الصحابة ويتحدث معهم، كان يستمع الشعر، وقال ذات يوم لـ أبي بكر الصديق: يا أبا بكر هل معك من شعر أمية من شيء؟ قال: نعم.
قال: هيه -أي: أسمعني- فأسمعه بيتاً.
ثم قال: هيه! فأسمعه ثانياً، فقال: هيه! فأسمعه ثالثاً، حتى أسمعه مائة بيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (كاد أمية أن يُسلم، أسلم شعره وكفر قلبه) وكان صلى الله عليه وسلم يسمع الشعر، ولما جاءه كعب بن زهير يغنيه قصيدة غزلية في المسجد:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
أتى بقصيدة كلها غزلية، فما قال النبي صلى الله عليه وسلم: اذكر الله اذكر الله لا تسمعنا، اذكر الله اذكر الله، بل سمع القصيدة حتى بلغ قوله:
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
إلى أن قال:
وقال كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
قصيدة جميلة واستمع لها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم ربما تمثل شيئاً من الشعر فلا يستطيع، كان في غزوة بدر وهو من الشجعان الكارين على أعداء الله في الجهاد في سبيله، يلتفت وبجواره أبو بكر الصديق فيقول صلى الله عليه وسلم: ونفلق هاماً ويقف لا يعرف بقية البيت، فيقول أبو بكر:
ونفلق هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وذات يوم أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمثل بشعر العباس بن مرداس السلمي الذي صفته الحقيقة:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان عباس في مجمع
فالنبي يريد أن يتمثل بهذا فيقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
فيقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أشهد أنك لرسول الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم بيتاً شعرياً كاملاً على حله بكماله وتمامه، وذلك لأن الله قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
فيا أخي الكريم! هذا رسول الله يسمع الشعر ويقول جزءً أو شطراً من البيت، ويحدث أصحابه، ويؤانس أهله، ويسلم على الصبيان ويداعب الصغار وما قال: إني مشغول عن هذا كله.
فأسأل الله لي ولك مزيداً من الذكر، ولكن اعط زوجتك حقها، فإن لأهلك عليك حقاً، وإلا يُوشك أن تنفر منك هذه الزوجة، ثم الله يعينك على المشروع الخيري لمساعدة المتزوجين متى سيصل دورك!(44/26)
الحياء لا يأتي إلا بخير
السؤال
شيخنا الفاضل! غفر الله لك، إني أحبك في الله، وسؤالي: إني إذا سلمت على بعض الناس أنزل رأسي في الأرض حياءً منه، فهل هذا من سوء الخلق؟
الجواب
الحياء لا يأتي إلا بخير، بعض الناس تجد عنده حياءً لدرجة أنه لا يستطيع أن يلقي بعينه في عين من حدثه، إذا كان هذا من باب الحياء، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يُكثر على صاحبه في الحياء، فقال: (دعه، لا تكثر عليه، إن الحياء لا يأتي إلا بخير).
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
فالحياء كله خير، ومن الناس وأنا أعرف أناساً فعلاً فيهم خجل عجيب وعجيب جداً، وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، كان صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- من أشد الناس حياءً، والله يا إخواني نحن ربما أهمتنا سير بعض المتأخرين والمتقدمين، ولكننا نجهل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نحن بأمس الحاجة إلى أن نقرأ دقائق تفاصيل سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإنك والله إذا قرأت سيرته لتشعر أنك تعيش معه وتعيش بجواره، وتنظر إلى عذوبة لفظه وطيب أخلاقه ولين معشره وحلاوة كلامه صلى الله عليه وسلم، يقول أنس بن مالك: [خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما نهرني ولا كهرني، وما قال لي فيما فعلت: لمَ فعلت؟ وما لم أفعل: لم لم تفعل؟] وكان يقول: (يا أنيس) يداعبه ويلاطفه بالكلام الطيب صلى الله عليه وسلم.
فالحياء كله خير ولكن كان صلى الله عليه وسلم أشد الرجال وأقوى الرجال وأشجع الرجال وأغير الرجال إذا انتهكت محارم الله جل وعلا، بعض الناس يعد من الحياء أن يترك قوماً لا يشهدون الصلاة، يقول: تركتهم حياءً منهم، ويجد أناساً على منكر فيتعداهم ويقول: استحيت أن أنصحهم، ويجد آخرين يقترفون المعصية ويتركهم ويقول: حياءً منهم لا، ليس هذا من الحياء ألبتة.(44/27)
ضوابط في التعامل مع العصاة
السؤال
أنا إنسان بيني وبين أشخاص غير ملتزمين بالدين خصومة، فهل أرجع لهم وأصالحهم؟
الجواب
والله يا أخي الحبيب هناك فرق بين الخصومة والمجالسة، نحن حينما نقول: أن يكون الواحد طيب البشر لين الجانب يخفض الجانب لإخوانه حتى للعصاة من باب تحبيب قلوبهم إليه ودعوتهم بالحسنى لا يعني ذلك أن يجالسهم مجالسة المتلذذ المتأنس بمعاصيهم ومنكراتهم، أقوام يعصون الله جل وعلا تمر عليهم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وابتسامة طيبة، وكيف حالكم، وكيف أولادكم؟ يا إخواني أوما تعلمون أن الله حرم هذا؟ يا أحبابي! أوما تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا، يا أحبابي أوما تخشون الله جل وعلا، إن الله متعكم بكلام طيب، فإن بعض الناس بمجرد أن يرى نصيحة ينتهي عن المنكرات.
لا يا أخي الكريم! حين تجد مثل هؤلاء فتخالطهم من باب دعوتهم إلى الله جل وعلا، أما مخالطتهم والأنس بهم، تتعشى معهم وتسهر معهم، وذهاب وإياب، أصبحت هذه مجالسة ومخاللة، اتخذتهم أخلاء، وتلك خطورة عظيمة والعياذ بالله.
انتبه لنفسك وفرق بين هذا وهذا، فرق بين المقابلة والمعاشرة، المعاشرة والمصاحبة شيء، والمقابلة باللين والحسنى شيء آخر، فأصحابك هؤلاء إن أردت أن ترجع إليهم مرة أخرى من باب النصيحة، وتعود معك بطالب علم أو بشريط أو بكتاب، أو إخوة يعينون على نصحهم فيا حبذا، وأنت أدرى بنفسك، لئن كان جسمك بالبنزين مبللاً فلا ترجع إلى مواقع يتطاير منها الشرر، فربما انفجر الحريق في بدنك، وإن كنت تعلم أن المعاصي جفت من بدنك تماماً وأنك بعد الآن عندك حصانة وسلامة من الاحتراق بإذن الله، قوي في إيمانك وفي نصيحتك فلا بأس أن تغدو إليهم وعليهم وتنصحهم، ولكل مقام مقال، وصاحب المقام هو الذي يفسر ما يحتاج إليه المقام من عبارة وتصرف.(44/28)
الصلاة
من توقير الله وخشيته إقامة الصلوات والمحافظة عليها جماعة، ولكن الناظر إلى حال الأمة يجد التهاون في إقامتها بل وأحوال سيئة لا ينبغي أن يكون عليها المصلون.
في هذا الدرس تجد الشيخ قد تحدث عن ذلك؛ إضافة إلى رسالة الشيخ ابن باز في الصلاة، والتحذير من تركها جماعة.(45/1)
توقير الله وخشيته
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته، فهو الخالق المدبر المتصرف المحيي المميت الرازق الباسط الخافض المعز المذل، بيده كل شيء وهو على كل شيءٍ قدير.
هو الواحد في ربوبيته وألوهيته، فالصلاة له والسجود له، والحلف به، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والحاجة فيما عنده، والرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، وكل عبادةٍ دقت أو جلت فهي لوجهه سبحانه، لا يجوز صرفها لغيره.
أشهد أن لا إله إلا الله واحدٌ في أسمائه وصفاته، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى، نثبتها له سبحانه على الوجه الذي يليق به، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، كان بنا براً رءوفاً رحيماً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية، واعلموا أن التقوى: العمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
اعلموا أن التقوى: أن تعبد الله على نورٍ وهديٍ من الله ورسول الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، لخوفٍ وخشيةٍ من الله جل وعلا، وأن تتجنب ما يُسخط الله جل وعلا، تعظيماً لجلال الله، عرفاناً بقدر الله جل وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13].
أين النفوس التي تعرف الوقار للبشر، ولا تعرف الوقار لرب البشر؟! أين النفوس التي تعرف الهيبة من الرجال ولا تعرف الهيبة من رب الرجال؟! أين النفوس التي ترتعد فرائصها من ذكر فلانٍ وعلان ولا تضطرب خشيةً أو خشوعاً لذكر الله جل وعلا؟! يخوفونك بالذين من دونه فتخاف ويخوفونك بالله فلا تخشى؟! حاشا وكلا، معاذ الله أن يقوم في النفوس خوفٌ للبشر أعظم من الخوف من الله! معاذ الله! أن يقوم في النفوس رغبةٌ ورهبةٌ وإنابةٌ لبشرٍ أعظم وأكبر من الرهبة والإنابة من الله جل وعلا!: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102] هو أهلٌ أن يُخشى وأهلٌ أن يُذكر فلا ينسى، وأهلٌ أن يُطاع فلا يعصى.
سبحانك ربنا! ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك ربنا! ما شكرناك حق شكرك، سبحانك ربنا! ما أحلمك على عبادك، سبحانك ربنا! ما أوسع مغفرتك ورحمتك، كتب ربكم على نفسه الرحمة ورحمته سبقت غضبه، ومننه على العباد متتابعة، ومعاصي العباد إليه مرفوعةٌ متتابعة، ومع ذلك فهو يستر ويغفر ويقول لعبده: هلم إليّ عبدي، ويقول تعالى في محكم كتابه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].(45/2)
ترك صلاة الجماعة ينافي التوقير
معاشر المؤمنين! إن كثيراً من الذنوب والمعاصي التي يقترفها كثيرٌ من الخلق في هذا الزمان، الباعث على تسلطها في نفوس أصحابها ألا وقار ولا هيبة حق الهيبة والخشية من الله جل وعلا، والدليل على ذلك أن الواحد من البشر ربما استحى أن ينظر إليه خادمه وهو يقارف معصيةً من المعاصي، ولا يستحي من رب العباد! ربما أحدهم يتوارى عن الطفل والمرأة والصغير عند ذنبٍ من الذنوب، ولا يبالي بأن الله لا يعزب عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولا في السماء، وإن من الذنوب والمعاصي، التي عم البلاء بها في هذا الزمن من كثيرٍ من المسلمين ترك الصلاة مع الجماعة، تلك الفريضة الجليلة التي تلقاها النبي في المعراج من ربه بلا واسطة، تلك العبادة الجليلة التي هي مقياس الإيمان والنفاق في نفوس الناس، وكثيرٌ من العباد ونعوذ بالله أن نكون منهم في عداد المنافقين ولا يعلمون، لأن من صفات المنافقين التهاون بالصلاة، لا يذكرون الله إلا قليلاً: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
والنفاق معاشر المؤمنين! من أعظم الدلالات عليه: أن يجد العبد في نفسه تثاقلاً عند القيام إلى الصلاة، نعم فالصلاة كبيرة وعظيمة إلا على الخاشعين: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] عظيمةٌ جداً ثقيلةٌ على النفوس التي تتكلفها.
أما الذين يجاهدون نفوسهم لأجلها، أما الذين يجدون حرباً مع الشيطان عند القيام إليها، فأولئك على دلالة خير، لأن المجاهدة سبيل الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(45/3)
حال الناس مع الصلاة جماعة
الصلاة مع الجماعة أمرٌ تَساهل به كثيرٌ من الناس، ولو صلى الناس كلهم الصلاة مع الجماعة ما رأيت في مسجدٍ موطأ قدمٍ خالٍ من مصلٍ راكعٍ أو ساجدٍ أو مسبحٍ أو خاشع، ولكن الصلاة تشكو إلى ربها قلّةَ عمارها! اشتغل الناس بدنياهم، اشتغل الناس بأعمالهم، اشتغل الناس بتجارتهم، تزخرف القوم لمجالسهم، تبسم القوم لبعضهم في مجالس لهوٍ وغفلة وطرب.
وكثيرٌ من الناس اشتغل بملهاةٍ لا تنفع ولا تشفع، وثقلت عليه الصلاة، إذا سمع النداء تثاقلت نفسه واضطربت، لا خشيةً أو خشوعاً، وإنما ضعفاً وخموداً وكسلاً، وحينما يسمع عزفاً لمطربٍ يهواه، أو لقينةٍ يطرب لأغانيها، اضطرب وتهلل وجهه، وصدق ابن القيم رحمه الله فيما أورد في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، حيثُ قال: تلي الكتاب -القرآن- وسُمع النداء وارتفع الأذان:
تلي الكتاب فأطرقت أسماعهم لكنه إطراق ساهٍ لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تراقصُوا والله ما طربُوا لأجل الله
دفٌ ومزمارٌ ونغمة شادنٍ فمتى رأيت عبادةً بملاهي
ثقل الكتاب عليهمُ لما رأوا تقيده بأوامرٍ ونواهي
ورأوه أعظم قاطعٍ للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي
نعم كثيرٌ من الناس عند الصلاة إن قام إليها قام وليس مقامه قول القائل: أرحنا بها، وإنما يقول: أرحنا منها أرحنا منها، أقمها وانقر ركوعها، واستعجل سجودها، ولا تخشع في أركانها، ولا تطمئن في صفاتها وأوضاعها، دعنا ننتهي منها، هذه عبادة المتخلصين، هذه عبادة الذين يتبرمون، وإن مثل هذه العبادة لا تنفع صاحبها.(45/4)
مصلون ولكن
إن العبادة الحقة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
ما بال بعض المصلين يرابي في البنوك! أين الصلاة التي تنهاه عن المنكر وتأمره بالمعروف وتزجره عن الفحشاء؟! ما بال بعض المصلين! العبث واللهو والمجون في بيته؟! ما بال بعض المصلين يصلي مع الناس في المساجد، ولسانه سليطٌ حاد على أولياء الله والدعاة إلى الله؟! ما بال بعض المصلين يصلي في المسجد أو يصلي كما ينقرها من يصلي، وتراه والعياذ بالله في وادٍ وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في وادٍ؟! لسانه مولع بالشتيمة، وقلبه مشربٌ بالفساد، وروحه متعلقةٌ بالمال، وأقصى أمانيه عرضٌ من الدنيا يسير، ومتاعٌ زائل، وحطامٌ فان! أهذه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر؟! أين الصلاة يا عباد الله! أرونا صلاةً عند كثير من إخواننا في هذا الزمان؟! معاذ الله! أن نكون أمةً أوتينا النعم، فقابلناها بالجحود، وأوتينا الهدى، فقابلناه بالضلالة، وتبصرنا الصراط فتنكبناه إلى الغواية.
معاذ الله! أن نكون أمةً أخذت الذي هو أدنى بالذي هو خير، نعوذ بالله أن نكون كذلك.(45/5)
حال السلف مع الصلاة
إن عروة بن الزبير رضي الله عنه أصابته الآكلة -داءٌ يسري في شيءٍ من أطراف البدن- في بدنه، وفسد لحم رجله، وأصبحت على حالٍ من الضعف والمرض لابد من قطعها وبترها.
قال الأطباء: يا عروة لو شربت مسكراً يزيل عقلك قليلاً حتى نقطع رجلك في حالٍ لا تشعر بها، فقال: [معاذ الله! أن أتداوى بحرام، إن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها!!].
فقالوا: لو تناولت شيئاً يغيب عقلك قليلاً (البنج ونحوه) فقال: [لا أغفل ساعةً عن ذكر الله أبداً] فقالوا: إن الآكلة تسري في جسدك ولابد من قطع رجلك، فماذا ترى؟ قال: [أنظروني! فإذا دخلت في الصلاة واستغرقت فيها فافعلوا ما بدا لكم] فلما دخل في صلاته واستغرق فيها واتصل بأسباب السماء، وغاب عن شهود أمور الدنيا، جاءوا إليه بسكينٍ كالجمر قد حميت على النار، تلتهب لما حولها، فوضعها على اللحم من ساقه، فجعلت اللحم يذوب في لحظات حتى بلغت العظم، ثم أتوا بالمنشار، وقد حمي أيضاً على النار، وجروا المنشار على عظم ساقه، فقطوعها، ولما بلغ المنشار نخاع ساقه، غُشي عليه رحمه الله.
فلما أفاق وقد رأى ما بقي من رجله قد جُعل في زيتٍ وضمد من جراحه، قالوا: قد قطعنا رجلك، فقال: ائتوني بها، فلما جئ بها إليه، أخذها بين يديه وقبلها وقال: [الحمد لله أني لم أمش بها إلى فاحشة، الحمد لله أني ما مضيت بها إلى معصية].
لعمرك ما أدنيت كفي لريبةٍ ولا سبقتني نحو فاحشةٍ رجلي
هكذا كان شأن الأوائل! كان صلى الله عليه وسلم إذا صلى سمعوا له ولصدره أزيزاً كأزيز المرجل، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً أسيفاً، إذا صلى بالقوم في جهريةٍ بكى في صلاته، فلا يسمع الناس صوته من نشيجه وبكائه، وصلى عمر فلما بلغ قول الله جل وعلا: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:8 - 10].
سقط وعاده الناس أسبوعاً في بيته، هكذا كانت القلوب، وهكذا كانت إقامة الصلاة، وأما في هذا الزمن، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان، ولا حول ولا قوة إلا به!(45/6)
واقع صلاة الفجر جماعة
أين الناس في صلاة الفجر؟! ما الذي أخرهم عنها؟! ما الذي شغلهم عن صلاة الفجر؟! مسلسل! فلمٌ من الأفلام! شريطٌ من الفيديو! عبثٌ في البلوت! ماذا ترك الناس من الخير والفضل لأجل سهرٍ لا فائدة فيه.
يسهر كثيرٌ من الناس، ويجعلون ساعاتهم مصوبةً عند وقت الدوام، أما الساعة السابعة فهي ساعةٌ مقدسة، لا يُمكن عند بعض الناس أن يتزحزح عنها أنملة، لا يستقدم عنها لحظةً ولا يتأخر عنها، أما صلاة الفجر، فالله المستعان!! والله يا عباد الله! لو أن الناس يعاقبون على التهاون بترك الصلاة مع الجماعة، ولو بلفت نظر، في ملف وظيفته، ويكون حضوره الصلاة مع الجماعة مقياسٌ وشهادةٌ وضابطٌ لترقيته، ولعلاوته، ولتقليده المهمة، ولتوليته المنصب، ولأجل ترفيعه من رتبة إلى رتبة، لو يجدون عرضاً قريباً أو سفراً قاصداً لحضروها، ولكن لأن الصلاة لا تجد من يسأل عليها، ولا تجد من يناقش لتركها.(45/7)
إقامة الصلاة دليل التمكين
تساهل كثيرٌ من الناس بالصلاة، ونحن أمة أُمرنا بأن نقيم الصلاة، وما مُكنا في الأرض إلا لإقامة الصلاة، وإن تركنا إقامتها بالمعنى الشرعي فحريٌ -ومعاذ الله أن نكون كذلك- أن يُزال عنا ما نحن فيه من تمكين: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
نعم، إن كنا نريد مزيداً من الطمأنينة، ومزيداً من الحفظ، ومزيداً من التأييد والنعم، فعلينا بإقامة الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
أن يأمر كل واحدٍ منا ولده، وأهل بيته، أن يكون لبيوتنا صوتاً وجلبة، وصوتٌ للدعاء إلى هذه العبادة مع صلاة الفجر، أما حينما ترى الناس في الفجر من جهة هذا الصوب واحدٌ يمشي، وآخرٌ يمشي في ستر الظلام، وثالث ينحطُ مسرعاً، والله إن الواحد حينما يرى الناس آحاداً فرادى، غرباء في ساعة الفجر، يمرون في هذا الشارع إلى المسجد، إنك لتدعو الله لهم، وتقول: أسأل الله أن ينور وجوههم بطاعته، وتقول: (بشر المشائين إلى المساجد في الظلم، بالنور التام التام عند الله يوم القيامة).
ولكن ما أقل المشائين إلى المساجد في الظُلم، أين المشاءون إلى الملاعب؟! مئات الآلاف! أين المشاءون إلى الأسواق؟! مئات الآلاف! اين المشاءون إلى الملاهي؟! مئات الآلاف! أين المشاءون إلى المساجد تعدهم على رءوس الأصابع!! وأكبر دليلٍ على هذا أن تحصر عدد السكان في حيك، وانظر عدد المصلين تجد (30%) من أعضاء الحي لا يصلون أبداً، صلاة الفجر لا يشهدونها وبقية الصلوات قد يصلونها في البيوت، وهذا تركٌ لسنن الهدى، والصلاة مع الجماعة من سنن الهدى، ومن تركها فقد ترك هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم.(45/8)
عذر من يتركون صلاة الجماعة
الذين لا يشهدون الجماعة في المسجد، نسألهم بالله ما عذرهم؟ أهم من المعوقين أو المشلولين؟! لا والله! الواحد منهم لو ركل برجله جاريةً لسقطت، لو ركل برجله ساريةً أو عموداً لسقط من قوة بدنه، ولكنه أضعف مخلوقٍ عندما يسمع "حي على الصلاة، حي على الفلاح" والمصيبة أن بعضهم يدعي كمال الإيمان، ويثني على نفسه بمناقب المهاجرين والأنصار، حينما يتحدث وهو لا يشهد هذه الصلاة مع الجماعة، أهو مكفوف البصر، إن النبي لم يأذن لكفيف البصر أن يصليها في بيته.
جاءه الرجل قال: (يا رسول الله! كبيرٌ في السن، كفيف البصر، طاعنٌ في العمر، ليس لي قائدٌ يقودني، الطريق إلى المسجد كثيرة الهوام والدواب والسباع، هل أصلي في بيتي يا رسول الله؟! قال: نعم، فلما ولى دعاه أخرى فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: إذاً فأجب).
ولو جازت الرخصة لأحدٍ أن يصلي في بيته، لجازت لذلك الكفيف الذي لا يجد قائداً، لجازت لذلك الكبير الذي لا يجد من يدله في طريق مخوفةٍ بالهوام والسباع!! فيا عباد الله! ما الذي يُشغلنا عن صلاة الفجر؟ مسلسل السهرة؟! لو كان عندنا سفرٌ إلى بلادٍ قريبةٍ أو بعيدة، أو انتدابٍ يفوت الإقلاع في وقته، لجعلنا ثلاث ساعات، ساعة عند السرير، وساعة عند الباب، وقنبلة عند البوابة، حتى لا يفوت الإنسان الخروج إلى هذه المناسبة، أو إلى ذلك الانتداب، أو لتلك المصلحة.
أما صلاة الفجر فهي كما يقولون: على حالٍ من البركة، وليس في الترك والتهاون بركة، إن قام لها قام لها، وإن صلاها في البيت صلاها في البيت، وإن صلاها في البيت في وقتها، أو صلاها بعد طلوع الشمس صلاها.
يا عباد الله! إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، لو رأينا مدرساً يأتي إلى مدرسته عصراً، والناس يدرسون صباحاً فهل نقبل عمله! لو رأينا موظفاً يأوي إلى مكتبه في الليل والناس يداومون في الصبح، هل يقبل عمله؟ لا والله، فما دمنا لا نتساهل في حقوق البشر الضعفاء المخلوقين المساكين، فكيف نتهاون بحقوق رب البشر!! كيف نتهاون بها! وهي أوقاتٌ يسيرة من العمر، عشر دقائق، والله لو حسبت الصلاة منذ الإقامة حتى التسليم لوجدتها لا تتجاوز ربع ساعة أو عشر دقائق، وحريٌ بالمسلم أن يُبكر إليها؛ ليستغفر وينيبَ ويسبح ويهلل ويكبر ويغسل درن قلبه من الذنوب والمعاصي.
أسأل الله جل وعلا ألا نكون من المنافقين، أسأل الله ألا نكون من المنافقين، أسأل الله ألا نكون من المنافقين الذين {إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(45/9)
رسالة من ابن باز إلى الأمة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار؛ عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! بين يدي رسالةٌ من إمامٍ جليل، أجمعت القلوب على حبه، وتواطأت النفوس على التقرب إلى الله بمودته، وتواطأ الخلائق في مشارق الأرض ومغاربها على السؤال عنه، والطمأنينة لعلمه، والدينونة إلى الله جل وعلا بحبه في الله ولله، ذلكم سماحة العلامة مفتي العصر، إمام الدنيا، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وجه رسالةً إلى المسلمين أجمعين، مما لاحظ ورُفع إلى سماحته من تهاون المسلمين بالصلاة مع الجماعة.
فقال حفظه الله ومتع به على طاعته: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه، آمين سلامٌ عليكم ورحمه الله وبركاته أما بعد: فإن من المنكرات الظاهرة ما يفعله الكثير من الناس، من التساهل بأداء الصلاة في الجماعة، والتهاون بذلك، ولا شك أن ذلك منكرٌ عظيم، وخطره جسيم، فالواجب على أهل العلم التنبيه على ذلك، والتحذير منه، لكونه منكراً ظاهراً!! لا يجوز السكوت عليه، ومن المعلوم أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمرٍ عظّم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظّم شأنه رسوله الكريم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظّم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، فقال تعالى في كتابه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
وكيف تعرفُ محافظة العبد عليها؟ وتعظيمه لها وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه! وتهاون بشأنها! قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وهذه الآية الكريمة نصٌ في وجوب الصلاة مع الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط، لم تظهر مناسبةٌ واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء:102].
فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة حتى في حال الحرب؛ فكيف في حال السلم، ولو كان أحدٌ يُسامح في ترك الصلاة في جماعة، لكان المصافون للعدو والمهددون بهجوم العدو عليهم، أولى بأن يُسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك؛ عُلم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، ولا يجوز لأحدٍ التخلف عن ذلك، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً أن يصلي بالناس، ثم أنطلق برجالٍ معهم حزمٌ من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم) الحديث.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافقٌ عُلم نفاقه، أو مريض وإن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة).
وفيه أيضاً عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات حيث يُنادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنها من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوةٍ يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائدٌ يلازمني إلى المسجد، فهل لي رخصةٌ أن أصليّ في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.
قال: فأجبه) وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سمع النداء فلم يأتِ؛ فلا صلاة له؛ من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له؛ من سمع النداء فلم يأتِ؛ فلا صلاة له إلا من عذر).
قيل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: [ما هو العذر؟ قال: خوفٌ أو مرض] والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله، التي أذن الله أن تُرفع، ويُذكر فيها اسمه كثيرةٌ جداً، فالواجب على كل مسلمٍ العناية بهذا الأمر والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين، امتثالاً لأمر الله ورسوله، وحذراً مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعاداً عن مشابهة أهل النفاق، الذين وصفهم الله بصفاتٍ ذميمة، منها تكاسلهم عن الصلاة، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء:142 - 143].
ولأن التخلف عن أداء الصلاة في الجماعة من أعظم الأسباب إلى ترك الصلاة بالكلية، ومعلومٌ أن ترك الصلاة كفرٌ وضلالٌ وخروجٌ عن دائرة الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) رواه الخمسة عن بريدة الأسلمي بإسنادٍ صحيح، والآيات والأحاديث في تعظيم شأنها ووجوب المحافظة عليها، وإقامتها كما شرع الله، والتحذير من تركها كثيرةٌ ومعلومة، فالواجب على كل مسلمٍ أن يحافظ عليها في أوقاتها، وأن يُقيمها كما شرعها الله، وأن يُؤديها مع إخوانه في الجماعة في بيوت الله، طاعةً لله سبحانه ولرسوله، وحذراً من غضب الله وأليم عقابه.
ومتى ظهر الحق، واتضحت أدلته، لم يجز لأحدٍ أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إن الذي يسمع الأدلة في وجوب الصلاة مع الجماعة ثم يترك الصلاة مع الجماعة لفتوى فلانٍ من الجهلة، أو فلانٍ من الظلمة الذين يظلمون أنفسهم؛ حريٌ أن يكون ممن خالف أمر الله، وعلى خطرٍ أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذابٌ أليم، هذا من كلامي وليس من كلام الشيخ ابن باز، هذه الجملة القصيرة، وأستأنف كلام الشيخ: ولا يخفى على من له أدنى بصيرة ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع المتخلف وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة في إقامة الصلاة.
وفقنا الله وإياكم لما فيه رضاه، وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعاً من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن مشابهة الكفار والمنافقين إنه جوادٌ كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
اللهم أعز الإسلام، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم اجعلنا للصلاة من المقيمين، واجعلنا عليها من المحافظين، واجعلنا لأركانها وسننها وواجباتها من المقيمين، اللهم تقبل صلاتنا، اللهم تقبل صلاتنا، اللهم تقبل صلاتنا، وأعنا عليها، وأذقنا لذتها وحلاوتها، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لمسلمٍ في هذا المسجد وغيره ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا يتيماً إلا تكفلت به، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا أسيراً إلا فككته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم أصلح شأن ولاة الجهاد، اللهم أصلح أمراء الجهاد، اللهم أصلح قادة الجهاد، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم اطفأ الفتنة من بينهم، اللهم أدر دائرة السوء على من أشعل الفتنة بينهم، ال(45/10)
حصائد الألسن
جوارح الإنسان هي أدوات لتحصيل الخير أو لاكتساب الآثام، وأشهرها في تبديد الحسنات، وتكثير السيئات؛ اللسان، فهو ثعبان بين فكي الإنسان.
على أن فلتات اللسان وزلاته مرصودة كلها مهما هانت ودقت، وإن كانت مثقال حبة من خردل.
وهذه الخطبة تسلط الأضواء على بعض آفات اللسان، وكيفية معالجتها، والتعامل مع أصحابها.(46/1)
أهمية الانتصار على الأعداء الداخليين
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته، فهو الخالق المدبر الرازق، المحيي والمميت والمعز والمذل، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو على كل شيءٍ قدير، لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته فالتوكل عليه والاستعانة به، والطمع في ثوابه، والرغبة في جنانه، والخوف والرهبة من عذابه، الحلف به، والذبح له، والطواف له، والسجود له، والركوع له، وكل دقيقٍ وجليلٍ من أمر العبادة يصرف له وحده لا شريك له، ولا يُصرف لغيره.
فهو أغنى الشركاء عن الشرك، واحدٌ في أسمائه وفي صفاته، فله الأسماء الحسنى، والصفات العلى وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أنكم ملاقوا الله بكل أعمالكم، بنظراتكم وأسماعكم وخطواتكم وما اجترحته أيديكم، وبكل كلمةٍ نطقتم بها وتكلمتم بها، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلمو أن الله جل وعلا، يبسط لعبده الصحائف، فيرى العبد ما قدم من حسناته وسيئاته: {فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] والله لن تضل الموازين والصُحف عن سيئةٍ من سيئاتنا، أو حسنةٍ من حسناتنا، أو ذرةٍ من خيرٍ أو شرٍ اقترفناها.
فيا معاشر المؤمنين! {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله! إن كثيراً من الناس يظن أن انتصاره على أعدائه في الخارج هو دليل التحكم والسيطرة، وليس هذا بقولٍ سديد على إطلاقه، فإن للعبد أعداءً من داخل بدنه، وإن للعبد أعداء من داخل نفسه، إذا استطاع أن ينتصر عليهم، فهو على ما سواهم أقدر بإذن الله جل وعلا.
أيها الأحبة في الله! إن كل واحدٍ منا فيه نقاط ضعفٍ لا يدري هل ينتصر عليها، أو يزيلها، أو يتحكم بها، حتى لا تؤدي -والعياذ بالله- إلى سوء خاتمته، وضلال سعيه، وعاقبته الوخيمة فيما يأتي ويذر.
أيها الأحبة! إن الإنسان لا يدري من أين يؤتى، إن هامان أتي من وزارته، وقارون أتي من ماله، وفرعون أتي من ملكه وتجبره، وكل واحدٍ على خطرٍ أن يؤتى من داخل نفسه، ونحن يا عباد الله، فينا وفي بدننا -هذا الجسم الذي نتحرك به- تارةً نقول ضعيفاً مسكيناً، وتارةً ترى فيه من العجائب ما الله به عليم:
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ(46/2)
اللسان نقطة الضعف الأولى
نحن يا معاشر المؤمنين! فينا من نقاط الضعف ما يُمكن أن يكون سبباً لسوء الخاتمة، وفينا من جوانب الخير ما نرجو أن يكون سبباً لحسن العاقبة، ولن نستطيع أن نتكلم عن كل الجوانب التي تكون سبباً لسوء الخاتمة للإنسان من داخل نفسه، ألا وإن منها: جارحة صغيرة جداً، تكمن في مكانٍ خفي، تظهر تارةً فتلدغ، وربما التوت تارةً فتلسع، وربما صمتت فأُجرت، وربما نطقت فذكرت، آلا وهي اللسان!! هذا اللسان، القطعة الصغيرة، من عصبٍ وشُعيراتٍ ولحمٍ لا تراها بارزةً في وجه الإنسان، أو في جسمه، بل هي كامنة، ولكن تارةً تخرج فتلدغ صاحبها قبل أن تلدغ الآخرين، وآفات اللسان كثيرة، وكما قال معاذ رضي الله عنه: (أونحن مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا يا رسول الله؟! فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على مناخرهم يوم القيامة في جهنم، إلا حصائد ألسنتهم!).
اللسان ذلك الثعبان، أو ذلك الذي ينطق بذكر الرحمن، إما نعمةٌ أو نقمة:
احذر لسانك أيها الإنسانُ لا يلدغنّك إنه ثعبانُ
ربما عثر الرجل بقدمه أو سقط به جواده، أو زل به درج بيته، أو هوى من أعلى طابقٍ في منزله، وربما قام صحيحاً سليماً معافى، وربما زل زلةً لم ير منها ورماً، ولم ينسكب منها دماً، ولكنها تهوي به في النار سبعين خريفاً، في الحديث: (إن الرجل ليلفظ بالكلمة، لا يُلقي لها بالاً، تبلغ به من سخط الله أن يهوي في النار سبعين خريفاً، فهو يجلجل في النار إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليلفظ بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً، تبلغ به أعلى الدرجات في مرضات الله جل وعلا).
فاللسان أيها الأحبة! ذلك الذي نتزين به في المجالس، ونتنافس به في الفصاحة، وكل يُظهر نفسه منطقياً فصيحاً، وقد نسي قول الله جل وعلا: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وربما غفل الإنسان عن الحافظين الذين يكتبون كل دقيقٍ وجليلٍ مما ينطق: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11].(46/3)
بعض آفات اللسان
معاشر الأحبة! آفات اللسان كثيرة، والباعث على كثيرٍ منها أن يُظهر الإنسان نفسه، أو أن يبرز بين العامة، أو أن يتصدر المجالس، أو أن يُشار إليه بالبنان، أو أن يُلحظ بالعيان، وكلها آفاتٌ وظلمات بعضها فوق بعض.
فأولها: ربما استساغ الرجل الكذب رغبةً في التصدر في المجلس، وربما تحدث وتكلم ليلتفت إليه، ونصيحتي قبل هذا، إذا كُنت في مجلسٍ ورأيت من الحاضرين من يكفيك الكلام فيما تريد أن تقوله، فاحمد الله جل وعلا، أن وكل بالكلام الذي في قلبك رجلاً يقوله بدلاً منك، أي كرامةٍ أعظم من هذه، لا تحرص أن تكون متكلماً في كل حال، إلا إذا تعين المقام، أو خشية أن يضيع المجلس في الباطل، أو يقوم الناس عن مجلسٍ لم يذكروا الله تعالى فيه، فربما تعين عليك الكلام ابتداءً، وأنت المسئول عن ذلك.
لكن إذا كنتَ في مجلسٍ وفي قلبك كلامٌ ورأيت من تكلم به بدلاً منك، فاحمد الله أن وكل بكلامك رجلاً ينطق به غيرك.(46/4)
آفة الكذب
من آفات اللسان: الكذب، تلك الخصلة القبيحة الذميمة، قال صلى الله عليه وسلم: (يطبع الرجل على الخصال كلها، ليس الكذب والخيانة) أي سوى الكذب والخيانة، وسئل صلى الله عليه وسلم: (أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم، قالوا: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا) لأن الكذب خصلةٌ قبيحةٌ ذميمةٌ جداً.
وحسبكم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يُكتب عند الله كذاباً) وأنتم تعرفون الوعيد الشديد للكاذبين.
والكذب -أيها الأخوة- أصبح في هذا الزمان من أهون ما تساهل الناس به، حتى بدأ المنظرون، وبدأ المتفلسفون والمتفيهقون يُفصلون الكذب في غير ما فُصل في شرع الله جل وعلا، فمنهم من سمى (كذبة إبريل) ومنهم سمى الكذبة البيضاء، ومنهم من سمى كذبةً حمراء، إلى غير ذلك.
وكل هذا مرفوضٌ في دين الله جل وعلا، (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيراً وينمي خيراً) الكذب هنا جائز، أن تعرف أن فلان بن فلان، في قلبه عداوة، وفي نفسه إحن على فلان بن فلان؛ فتأتي إليه، وتقول للأول: عجبتُ من كلامٍ قاله صاحبك فلان في مجلسٍ من المجالس، لقد أثنى عليك، وذكر فيك خصالاً حميدة، وتقول شيئاً من هذا، فليس هذا من الكذب الحرام، بل هو من عين ذات الإصلاح الذي تؤجر به عند الله جل وعلا: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
(والكذب في الحرب) والحرب خُدعة، ثلاثيةٌ في الشكل: (وحديث الرجل امرأته) إذا تحدث الرجل بكلامٍ وخرج فيه عن الحقيقة؛ لكي يكسر من ضعف المرأة وما قد يؤدي إلى شرٍ أكبر، وليتق الله في هذا، وليكن ما خرج به عن الحقيقة في حديث أهله بقدر حاجة الإنسان إلى الدواء، لا أن يُصبح دائماً منذُ أن يدخل إلى أن يخرج، وهو يروي الأحاديث المكذوبة الموضوعة، رأى ولم ير، سمعَ ولم يسمع، قيلَ ولم يُقل، فُعل ولم يُفعل، ويظن أن الحديث مع المرأة من أوله إلى آخره ينبغي أن يكون كذباً في كذب، لا.
لكن لو شجر بين الرجل وأهله خلاف، أو حصل موقفٌ قد لا تقدره المرأة بضعفها، فاحتاج أن يزوّر عليها شيئاً من الحقيقة، أو يوري فيها فلا حرج، أما أن يكون الإنسان راويةً للكذب من غير حاجة، ويحتج بحديث الرجل لامرأته، فليس هذا مما فهمه أولو الألباب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(46/5)
آفة المجازفة في إطلاق الكلام
الآفة الثانية: الكلام الذي يُطلق جزافاً، والعبارات البراقة، والكلمات الرنانة، التي يلفظ بها الإنسان، لكي تسجل له في سطور التاريخ، والله إنها تُسجل، ولكن هل يجدها في صحائف حسناته أم في صحائف سيئاته؟ وأقولها وبكل صراحة، وأوجه من هذا المنبر كلمةً إلى كل صحفي من الصحفيين، وكل صاحب عنوانٍ من العناوين، أن يتقي الله في العبارة التي تُنشر عنه، وكل كلمةٍ يكتبها في أسطر مقاله، أقول لنفسي، وأقول لهم، وأقول لكم: اتقوا الله فيما تكتبون، فإن من علم أن كلامه من عمله، لم يسره أن يتكلم إلا بما يطمع أن يراه في موازين حسناته:
وما من كاتب إلا سيفنى ويُبقي الدهر ما كتبت يداهُ
فلا تكتب بخطك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراهُ
مما قرأت في عددٍ من المجلات والجرائد، كاتباً تكلم عن أهداف أحد اللاعبين فقال: أهداف اللاعب الفلاني، تلك التي تجعل الأعمى يُبصر، والأبكم يتكلم، عجبتُ لهذا اللاعب! وعجبتُ في الحقيقة لهذا المتكلم، فقد لا يكون للاعب ذنب!! متى كان هذا اللاعب عيسى بن مريم؟! يبرئ الأكمه والأبرص بأهدافٍ يسجلها! أما يتقي الله هذا الذي يقول هذا الكلام! أهدافٌ تجعل الأعمى يبصر! والأبكم يتكلم! والأصم ينقلب سمعياً! أين تريد أن ترى هذه الكلمة يا عبد الله؟! تريد أن تراها في صفحة الحسنات، أم في صفحة السيئات؟! اتقوا الله يا معاشر الكتاب! ويا معاشر الصحفيين! وهذه نصيحة ومحبة، هذا نداءٌ من القلب إلى القلب، ومن الروح إلى الروح، حتى لا تُفسر أنها فضيحةٌ أو تشهير.
معاشر المؤمنين! وآخر يقول: من تقرب إلى نادينا شبراً نتقرب إليه ذراعاً!! عجباً! ولن أجزم بسوء قصد قائله، فإن قصد بهذه العبارة شيئاً من اللفظ والبيان الذي يتكلم به، بعيداً عن قصد الحديث، الذي جاء فيه أن الله جل وعلا، يفرح بتوبة عبده: (فلئن تقرب إليه العبد شبراً تقرب الله إليه ذراعاً) إن كان بعيداً عن قصد الحديث، فنقول: خير لك أن تعبر بشيءٍ بعيدٍ عن النصوص والحروف والرسوم التي جاء فيها البيان الرباني والنبوي والشرعي.
فلنرفع مقام الشريعة، ولنرفع مقام الأحاديث، ولنرفع مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قصد المتكلم، أنه يُحاكي قول الله: من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، فهي والله من الكلمات التي تهوي بصاحبها، وكم سمعنا فلتاتٍ جرت على الألسنة! والله لو جلستُ مجلساً فقام واحدٌ يضحك، أو يتهكم، أو يستهزئ أو يصوغ شيئاً من عبارات الدعابة والمزاح، بنص مرسومٍ من المراسيم لاعترضت عليه، حتى لا تُصبح النصوص والمقالات عرضة الهزال والعبث!! فكيف نسكت أن يُتكلم بشيءٍ فيه محاكاةٌ في باب هزلٍ من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟!! ومما يجري على الألسنة، قول كثيرٍ من الموظفين عن مديره العام حينما يُسأل عن صلاحياته، أو عن تصرفاته، فيقول: فلان لا يُسأل عما يفعل، تعالى الله تعالى الله؛ أن يشبه الضعفاء المساكين في تصرفاتهم بصفات الله وأسمائه جل وعلا، قد يقول قائل: ولماذا التشنج أيها المطاوعة؟ كما يقول بعضهم: لماذا هذا التوتر، كل عبارة تفسرونها.
أقول: والله يا أخي! لو أردت أن تحاكي في كلامك كلام زعيمٍ أو رئيس لما استطعت أن تنبس ببنت شفة، فاعرف قدر الله جل وعلا، ولا يكن قدر كلام الرؤساء والعظماء في قلبك أعظم من قدر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم أنقل هذه جزافاً بل بأذني سمعتها، والتفت إلى قائلها، وقلتُ: اتقِ الله، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون هو من يفعل كل فعلٍ ويعمل كل عملٍ وفي فعله وعمله منتهى العدل لا ظلم فيه، ومنتهى الحكمة لا عبث فيه، ومنتهى الرحمة لأن رحمته سبقت غضبه، أما المسكين الحقير المخلوق الضعيف التافه، فأي حكمةٍ وأي عدلٍ وأي صفاتٍ جمعت أحسن الأمور في كلامه؟!! فلننتبه لهذه العبارات، ولننتبه لهذه الكلمات التي يُطلقها بعض الناس جزافاً وهم لا يشعرون والعياذ بالله، إننا لا نجزم أنهم يقصدون محاكاة كلام الله وكلام رسوله، ما شققنا عن القلوب، وخذوها نصيحة: تورع حتى في محاسبة المخطئين، واحسب لهم ألف عذرٍ وألف سبيل، ولكن بيّن إن كان الهدف هذا، فالويل ثم الويل مما قصدوا به، وإن كان الهدف ذاك، فالأولى والأحرى والواجب أن يُتجنب بكلام الله وكلام رسوله عن مقام العبث والهزل أو غير ذلك.(46/6)
آفة الاستهزاء بالدعاة
ومن آفات اللسان يا معاشر المؤمنين! ما نسمعه كثيراً كثيراً، من الذين يستهزئون بالدعاة إلى الله جل وعلا، من الذين يتهكمون بقناديل الصحوة الإسلامية، ومشاعل النور في دياجير الظلام، ونسيم العبير، في روائح الفتن المنتنة، أولئك الذين يتهكمون بالشباب الصالحين، أو بالدعوة إلى الله جل وعلا، فهم على خطرٍ عظيم، وهي من آفات اللسان، ترى الواحد منهم ربما تصدق بمليون ريال، وربما صلّى الفجر مع الجماعة لا تفوته، وربما قرأ القرآن وربما فعل كثيراً من الحسنات، لكن إذا جلس أطلق لساناً طلقاً حاداً على أولياء الله، فأخذ يستهزئ بهذا، ويتهكم بذاك، ويتكلم بهذا، فيُعطى هذا من صدقاته، وذاك من قراءته، وذاك من صلاته، فما بقي له من حسناته شيء، وهذه من صور الجهل عند كثيرٍ من الناس، أن يعمل عملاً صالحاً ثم يضيعه على الناس أجمع، والله ما رأيت تاجراً إذا أشرقت الشمس ذهب إلى متجره، وإذا غابت الشمس عاد وجيبه مليئاً بالنقود والدنانير والدراهم، فإذا جلس في المجلس أخذ يُوزع على الناس يمنةً ويسرة من غير حسابٍ واحتساب، أتعدون هذا من العقلاء؟! لا والله.
فكذلك من الناس من يجمع الحسنات ولكنه يفرقها في مجلسٍ واحد! لو قدرنا أنه كسب ألف حسنة، لكنها في مجلسٍ بعد المغرب أو العشاء يصرف ألفاً ومائتي حسنة، فيصبح رصيده بالسالب، ويعود مديناً بمائتي حسنة، تُؤخذ من حسناته، أو يطرح من سيئاتهم على سيئاته! فانتبه لنفسك يا أخي! واحفظوا أعمالكم، ولا تبطلوا أعمالكم، إن المسلم مأمورٌ أن يحفظ عمله، وإن من أخطر ما تُصرف به الأعمال ودرجاتها جُزافاً هباءً: الكلام في المجالس، والغيبة والنميمة التي حصدت الحسنات، ربما ترى الرجل طيباً أو غير طيب، صالحاً أو غير صالح، لكن لا يلتفت إلى مسألة الغيبة والنميمة، قد تجد رجلاً قليل العبادة، لكن عنده من الحسنات أكثر مني ومنك، لماذا؟ قد يكون عنده بعض الذنوب؟! وقد يكون عنده من الحسنات أكثر مني ومنك، لماذا؟!! قد لا يكون من الذين يتكلمون في أعراض الناس البتة، فهذه مسألةٌ مهمةٌ جداً جداً يا عباد الله! أن يتكلم الإنسان إما بالغيبة والنميمة، أو أن يستهزئ بإخوانه في الله، أو أن يتكلم في أعراضهم، أو أن يتكلم بعض الناس في المجالس، ولا هم له إلا هؤلاء الأخيار، من الناس من إذا جلس مجلساً، يقول: رأيتُ مطوعاً وقف هكذا، ورأيتُ معقداً جلس هكذا، ورأيتُ متشدداً قال هكذا! أما رأيت سكيراً قُبض عليه من قبل الهيئة يوماً ما؟! أما رأيت مرابياً قد أوغل في الربا؟! أما رأيت فاجراً جعل بيته ماخوراً للدعارة؟! ما رأيت مرتشياً مجرماً يسلب أموال المسلمين، ولا يرقب فيهم إلاً ولا ذمة؟! ما رأيت فاجراً يسعى بإفساد ذات البين؟! هل ضاقت الصور عن كل سيئٍ فما أبصرت إلا هذا المتبع للسنة؟! هذا التقي النقي الورع الزاهد العابد! الذي قصر -في نظرك أو نظر غيرك- ربما في شيءٍ ليس من الواجبات، ربما في المستحبات في باب العلاقة، ولكنه قد أكمل الأمر فيما بينه وبين ربه! أو كاد أن يُكمل الأمر صلاحاً واستقامة، لا زنا ولا خمر ولا رشوة ولا ربا ولا فساد، ولا ملاهي ولا صور محرمة، ولا مجلات ٍخليعة، فما تتسلط إلا على مثل هذا! هذه من آفات اللسان يا معاشر الأحبة.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظ لي ولكم أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، اللهم احفظ لنا أعمالنا، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(46/7)
واجب الأمة تجاه المجازفين بالكلام
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! إن من واجبنا يوم أن نرى فلتات اللسان وزلات البيان أن لا ننتقد الناس في مجالسنا بين أربعة جدران، لا يسمعنا ولا يبصرنا أحد.
بل إن من واجبنا يوم أن نرى من يزل ويتهوك في كلامٍ يحاكي فيه كلام الله جل وعلا في مقامٍ لا يليق، أو يحاكي كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم في مقامٍ لا يليق، أو ينقل الأقاويل يكذبها ويختلقها ويصدقها وينقلها! أو من نرى يستهزئ ويضحك ويعبث، من واجبنا أن ننصحه، من واجبنا أن ننصحه، ولتكن النصيحة فيها خط الرجعة.
فإذا قرأت مقالاً فيه شيءٌ من هذا الزلل، فاكتب لصاحبه: قرأت لك في جريدة كذا، أو في مجلة كذا، أو سمعتُ لك في ندوة كذا، أو في جلسة كذا، كلاماً قلتَ فيه يا أخي هذه العبارات، فإن كان المقصود بها كذا وكذا، فإني أخوفك عاقبتها، ومغبة ما تنتهي إليه، وإن كان المقصود أمراً غير هذا، فالذي أتمنى وأرجو أن يكون التعبير بغير هذه العبارة، وختاماً أتمنى أن يكون كلامك في مرضاة الله وطاعته.
ليس من واجبنا أن نُحكم النقد ولا نفهم العلاج، ليس من مهماتنا فقط أن نتحسس الخلل ولا نعرف كيف نعالج هذا الخلل والداء والمرض، لا.(46/8)
معرفة الداء والدواء، واللين في النصيحة
من واجبنا أيها الأحبة! أن نعرف الداء والدواء، وفي حال العلاج لابد أن نُحسن الظن، بعض الناس ربما قال: وأنت لم تقصد إلا كذا، وقد ثبت لنا من البينات والقرائن ما لا يدع مجالاً للشك أنك قصدت كذا، واعلم أن من فعل ذلك فعاقبته كذا وكذا، فإذا بصاحب الرسالة أو صاحب الكتابة يقرأ بياناً مسبقاً أنه أصبح من أهل جهنم وساءت مصيراً، وهذا أمر لا يجوز أبداً.
فعلينا أن نتلطف، علينا أن نكون في مستوىً طيبٍ من اللباقة حال النصيحة: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
دخل واعظٌ على أحد الخلفاء أو الملوك، فقال: إني محدثك ومشددٌ عليك، فقال الملك أو الخليفة: على رسلك، لقد بُعث من هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌ مني، بُعثَ موسى وهارون إلى فرعون، ومع ذلك قال الله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فالقول اللين مطلوب، حتى لا يُصاب الإنسان بعزة الباطل، فتأخذه العزة بالإثم.
يا عباد الله، واجبنا يوم أن نرى زلات اللسان وآفات اللسان في مقالٍ أو في جريدة، أو في صحيفة، أو في مجلس، من واجبنا أن نُرسل أو نُكلم، أو نُهاتف صاحبها، ونكلمه كلاماً ليناً ونفتح له خط الرجعة، ولا نبين له أنا شققنا عن قلبه، أو نحكم أننا عرفنا مقاصده، حاشا وكلا، فلا يعلم خائنة الأعين أو ما تخفي الصدور إلا الله جل وعلا.
فنقول: إن كان المقصود كذا فهذا لا يجوز، وإن كان المقصود غير ذلك، فالأولى والأحرى والمظنون بمثلك وأمثالك أن يسلكوا سبيلاً للتعبير غير هذا، وخير للعبد أن يقول كلاماً يُوضع في موازين أعماله.
ذات مرةٍ سألتٌ واحداً من الصحفيين، أسأل الله أن يهديه، وأن يهدي قلبه، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين إنه أرحم الراحمين، كان يكتب في مجلةٍ من المجلات، وكنتُ أتابع أسابيع كان يكتبها فقابلته: وقلت: يا أخي الكريم! يوم القيامة إذا وقفت أنا وأنتَ وسائر الناس والصحفيين ورؤساء التحرير، وكل ملكٍ وأمير ووزيرٍ وحقيرٍ وصعلوكٍ وفقير، إذا وقفنا بين يدي الله جل وعلا؟ وجيء وقيل فلان بن فلان، ثم قدمت هذه الأسابيع التي كتبتها في الجريدة الفلانية، هل يسرك أن تلقى الله جل وعلا بها؟ فقال: لا والله لا يسرني أن ألقى الله بها، قلت: يا أخي الحبيب! يا أخي الكريم! إذاً لماذا؟! لماذا تجتهد في كتابة شيءٍ يأخذ من وقت ومن بصرك ومن فكرك، ثم في النهاية تتبرأ منه؟! ولا يسرك أن تلقى الله به يوم القيامة.(46/9)
أهمية التواصل مع أصحاب الأخطاء
فيا معاشر المؤمنين! فلنعرف كيف ننصح، وكيف نُعالج زلات اللسان، خاصةً إذا وجدناها تقترب من الاستهزاء أو السخرية بالأبرار والأخيار، واجبنا أن نكون إيجابيين، لا أن نتحدث بين أربعة جدران، ما جلست مجلساً إلا وتسمع خبرين أو ثلاثة؛ في المجلة الفلانية، في الجريدة الفلانية كذا؛ السؤال الأول: من ذهب إلى رئيس تحرير الصحيفة؟ لا تجد من ذهب، من اتصل بكاتب المقال؟ لا تجد من اتصل، عجيبٌ والله! (أسدٌ عليّ) لا، أريد رجلاً حينما يعرف الخلل، يتابع الخلل بنصيحة، فوالله لو تتابع الناس على صاحب المنكر، أو من يُخشى عليه أن يقع في المنكر، لتردد ألف مرة، قبل أن ينشئ باطله ومنكره.
منذُ أيامٍ قليلة شابٌ مرّ عليه بعض الشباب فوجدوه يعمل ديكورات في محله، فالتفتوا، وإذا بالرجل يؤسس تسجيلات أغاني، فنزل إليه عدد من الشباب يا أخي الكريم، يا أيها الوجه الطيب، يا ابن العائلة الكريمة، والله ما يسرنا أن ينسب إليك هذا، وكيف تبيع حراماً، وتتصدق بحرام، وتكسو أهلك حراماً، وتسقي أطفالك حراماً، يا أخانا الحبيب! حوله إلى تسجيلاتٍ إسلامية، يا أخانا الحبيب! اسلم من مغبته، انظر إلى مشروعٍ غير هذا؛ وهو مصممٌ على عمله؛ فجاء زلفةٌ أو كوكبةٌ من الأخيار بعدهم ونصحوه، ثم جاء من بعدهم ونصحوه، حتى وقف الآن متردداً إن كانت همته في فتح محله مائة في المائة، فالآن لا تجد عنده من الهمة إلا عشرين أو ثلاثين في المائة، لن أقول انتهى لأول وهلة، لأن بعض الناس، يظن أنه يوم أن ينصح واحداً سوف يسقط صريعاً باكياً خاشعاً نادماً تائباً!! ليس بالضرورة، أن يقبل النصيحة في الوهلة الأولى أو الثانية أو الثالثة، لكن تتابع النصيحة يؤثر فيه ويقول، أكل هؤلاء على حقٍ وأنا على نشازٍ من الباطل؟! فكذلك الكاتب أو الصحفي أو المتكلم، يوم أن يُنصح، ويومَ أن يخاطب بخطابٍ رقيق، وبعبارةٍ طيبة، فحينئذٍ سترى بإذن الله منه استجابة، ولماذا لا يستجيب؟! هل خرج من الإسلام؟! هل زال الإيمان عن قلبه بالكلية؟! لا والله! هل هو من اليهود والنصارى؟! لا والله! إذاً: فكثرة المناصحة بالأمر بالتقوى، والتخويف من عذاب الله، والترغيب في ثواب الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فحينئذٍ حريٌ بأن يؤثر على هذا وغيره.
أرجو أن نكون إيجابيين، أرجو أن نكون عاملين، أرجو أن نكون تنفيذيين، لا مجرد نُقاد ومتكلمين يا معاشر الأحباب المؤمنين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً وأراد بعلمائنا فتنة، وأراد بشبابنا ضلالة، وأراد بنسائنا تبرجاً وسفوراً واختلاطاً في الوظائف والتعليم، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم مزقه كل ممزق، اللهم شتت شمله ما علمتَ فيه إصراراً على ذلك، واهده اللهم عاجلاً بمنك وكرمك يا رب العالمين إن علمت فيه هدايةً وخيراً.
اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم أصلح مضغة قلوبهم، اللهم اهد بنات المسلمين، اللهم وفق علماء المسلمين، اللهم احفظ علماءنا، اللهم احفظ علماءنا، اللهم احفظ علماءنا، اللهم احفظ سرج أرضنا، وقناديل زماننا، ومشكاة مجتمعنا، اللهم احفظ علماءنا، اللهم سددهم في القول والعمل، اللهم سددهم في القول والعمل، اللهم متعهم بالصحة والعافية، اللهم متعهم بالصحة والعافية، اللهم ارزق عامة الناس فقه منزلة العلماء، اللهم ارزق عامة المسلمين فينا معرفة منزلة علمائنا، اللهم اهد عامة المسلمين فينا إلى معرفة منزلة علمائنا ودعاتنا، يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح ولاة أمرنا، اللهم أصلح ولاة أمرنا، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شملهم، ولا تُفرح علينا ولا عليهم عدواً، ولا تُشمت بنا ولا بهم حاسداً، اللهم اجمع شملهم وأعوانهم وإخوانهم على طاعتك يا رب العالمين، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، وحبب الكتاب والسنة إلى قلوبهم، اللهم اجعلهم ممن أخذوا الكتاب بقوة، اللهم قرب لهم بطانة الخير، واطرد وأبعد عنهم بطانة السوء، اللهم ما علمت في رجلٍ خيراً لهم، فقربه منهم وزده قرباً، وما علمتَ في رجلٍ شراً لهم ولأمتهم اللهم أبعده عنهم، وافضح دسيسته وسريرته يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم اجمع شمل قادتهم على الحق، اللهم بصرهم بالهدى، ومسكهم بالكتاب المبين، وعجل قيام دولتهم، وعجل نصرهم، وفك أسرهم، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً فجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً ومناً وغفراناً، يا رب العالمين.
اللهم اشف أخانا في الله، اللهم اشف أخانا في الله، اللهم اشف أخانا في الله، اللهم اشفه عاجلاً غير آجل، اللهم رد العافية إليه، اللهم رد العافية إليه، في أطرافه وسمعه وبصره يا رب العالمين، يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، اللهم لا تدع لنا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، اللهم لا تدع لنا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته ووفقته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.(46/10)
فطرة الله
فطر الناس جميعاً على توحيد الله، والشرك والفساد طوارئ لا يستبعد زوالها، فمهما ابتعد الإنسان عن ربه، ظل احتمال عودته وارداً؛ لأنه الأصل.
استبعد الصحابة إسلام عمر فأسلم، ولم يدرك عمر هداية سهيل، فاهتدى.
فكم أسلم من مارق! وكم تاب من فاسق وسارق! وكم في نفوس الناس من خير تحجبه المعاصي! وفي هذه الأسطر بيان شيق لكل ذلك.(47/1)
فطرة الإنسان على التوحيد
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! لا يشك مسلمٌ أن البشرية وأن من خلق الله من بني الإنسان إنما وُلد على الفطرة، وأن ما يصيبه من التغير أو التحريف أو التبدل، إنما هو لأسبابٍ أهمها: هذه البيئة المحيطة به، والتي ينعكس لونها وصبغتها على سلوكه وتصرفاته ومعتقداته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه) ولم يقل صلى الله عليه وسلم: أو يمسلمانه، لأنه مفطور ومولودٌ على الإسلام أصلا، ويقول الله جل وعلا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
ويقول الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].
فنحن معاشر الأحبة قد أخرجنا من صلب آدم كأمثال الذر، وأشهدنا ربُ العزة جل وعلا على ربوبيته لنا وشهدنا بذلك، فالفطرة والدينونة بالوحدانية لله جل وعلا أمرٌ شهدنا به على أنفسنا، وفُطرنا عليه، ولله الحمد والمنة إنها لمن أعظم النعم.
معاشر الأحبة! قد يعجب قائلٌ من هذا الكلام لما يراه من أبناء المسلمين من انحرافٍ عن الإسلام، وبعدٍ عن تعاليمه ووقوعٍ فيما نهى عنه، كيف يكون هذا موافقاً لما فُطروا عليه، وموافقاً لما جبلوا عليه، وموافقاً لما أقروا به لله سبحانه وتعالى! نعم أيها الأحبة في الله! لا عجب ولا غرابة فإن هذا الاعتراف والإقرار، إنما تكون درجة كماله ودرجة تمامه بحسب انقياد العبد لله جل وعلا في تصرفاته وفي دقيق أعماله وجليلها.(47/2)
إمكان الرجوع إلى الفطرة في كل الأحوال
أيها الأحبة في الله! نسوق هذه المقدمة، لكي ندخل بها إلى قضيةٍ ينبغي أن نُسلم بها، وهي أنه مهما كان في شخص من بني آدم أو مهما كان في أي إنسان من بني البشر، من الفساد والانحراف والشذوذ والبعد عن كتاب الله وسنة نبيه، ما دام أصل الإسلام باقياً في قلبه، وما دام جذر التوحيد باقياً في قلبه، فإنه ينبغي أن نسلم أن لا غرابة ولا بعد أن يعود إلى الاستقامة وإلى الهداية بين عشيةٍ وضحاها، وألا نستبعد عليه الهداية مهما كانت معصيته، وألا نستبعد عليه الاستقامة مهما كانت جريمته؛ لأن هذا أمرٌ معلقٌ بقلبه وقلب هذا العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، وإن الناس أنفسهم يظلمون.
أيها الأحبة! قد ترى شاباً لم يترك زناً إلا فعله أو خمراً إلا شربه، أو رباً إلا أكله، أو زوراً إلا شهد به، أو عقوقاً إلا فعله أو قطيعةً إلا ارتكبها، أو جريمة من الجرائم إلا حدثت منه، وإن الواحد ليعجب كيف يُدعى مثل هذا إلى الله كيف ندعو رجلاً أو شاباً كهذا إلى الله سبحانه وتعالى.
نعم أيها الأحبة! له حق الدعوة وله حق الهداية، هداية الدلالة والإرشاد؛ لأن العباد أمروا بالبلاغ ((فإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) [آل عمران:20].
ثم اعلموا بعد ذلك أن دين الإسلام ينتشر في النفوس وينتشر في المجتمعات وفي الأمم والدول بقوته الذاتية، قبل أن يكون الجُهد مسنداً إلى أبنائه، إن في ديننا قوةً ذاتية، هي التي تدفع بنفسها وتنتشر بقوتها التي أودعها الله في هذا الدين، وإلا فلو أن الأمر عائدٌ إلى جهد أبنائه أو جهاد رجاله، والله ما كان له هذا الانتشار، وما كان له هذا الصيت الذائع، لكنها قوة الإسلام بذاته، قوةٌ ذاتيةٌ تدخل في سويداء القلوب فتؤثر على هذه المضغة فينعكس التأثير هدايةً مطبقةً على الجوارح، ولذلك أمثلةٌ كثيرة من القديم والحديث.(47/3)
دروس وعبر من إسلام عمر
ينبغي ألا نستبعد هداية بشرٍ من البشر مهما كانت معاصيه، ومهما لج في ألوان الشهوات والمنكرات، كان اثنان من الصحابة رضوان الله عليهما قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتحدثان فيه، فقال أحدهما للآخر: لعلك طمعت في إسلام ابن الخطاب، فقال: إي والله إني لأطمع في إسلامه، فقال: والله لو أسلم حمار آل الخطاب ما أسلم عمر هذا.
ثم تدور الأيام دورةً قليلة فيأتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب دار الأرقم بن أبي الأرقم بيدٍ قويةٍ غليظة فيرتجف الصحابة داخل الدار، فيقوم أشجع القوم وأكمل الرجال صلى الله عليه وسلم فيفتح الباب، ثم يأخذ بتلابيب عمر ويقول: (أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم، ثلاثاً) فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، بعد أن دخل على أخته وزوجها وفي أيديهما رقعةٌ من القرآن يقرءان فيها، فحاول عمر أن يمسها، فأبعدت المرأة هذه الرقعة عنه؛ فضربها على وجهها حتى سقط القرط، ثم قال: إني أريد أن أسمع، فقالت: أنت مشركٌ نجس لا تمسها، ثم أسمعوه شيئاً من الآيات التي فيها، فدخل الإسلام قلبه وتوجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكانت القصة كما تعرفون، بعد أن كان من أعتى الناس على الرسول وأصحابه عاد من أقوى الناس حباً لنبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فلما أسلم قال: أي قريشٍ أكثر للخبر ذكراً ونشراً؟ قالوا: فلان بن فلان، فذهب إليه يطرق بيته، فقال: قم يا فلان أما علمت أني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فاخرج وأخبر بها من وراءك، تحدياً وقوةً وثباتاً وصموداً، ولما أراد رضي الله عنه أن يهاجر كان بعض الصحابة يهاجرون خفيةً ولواذاً، أما هو رضي الله عنه فقد جاء إلى قريش وهم عند الكعبة فقال: [يا معشر قريش! من سره أن تثكله أمه، فليلحقني ببطن هذا الوادي، فإني مهاجر] والله ما لحقه أحدٌ أبداً، وهو ذلك الغليظ الشديد، الذي كان يرعى إبل الخطاب وكان أعرابياً شديداً صلباً.
انظروا كيف هذب الإسلام النفوس، وانظروا كيف طوعها وذللها لطاعة الله، كان يمشي ذات يومٍ مع أصحابه فجاءت امرأة عجوز، قالت: يا عمير، فالتفت إليها وكأن الصحابة وجدوا في أنفسهم من مقالتها شيئاً، فالتفت إلى المرأة العجوز وأذعن برأسه وطأطأ إليها، ثم أخذت به لحاجتها متنحيةً عن الطريق، فقالت: يا عمر بن الخطاب كنت تدعى عميراً والآن سُميت عمر قد ولاك الله أمر المسلمين، يا عمر بن الخطاب، ثم أخذت تعظه، ثم أخذت تذكره وكأن الصحابة ثقل عليهم قولها على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فعندما عاد إليهم قال: أتعجبون من ذلك لها؟! هذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أفلا أسمع لها؟! هذه المجادلة التي جاءت تجادل في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاورها وزوجها من فوق سبع سماوات وتقول عائشة: [جاءت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادل في زوجها وتشتكي إلى الله، جاءت عند رسول الله، والله ما بيني وبينها ورسول الله إلا الستر، لا أسمع شيئاً من كلامها، وسمع الله كلامها من فوق سبع سماوات] فسبحان من لا تخفاه خافية، ولا تشتبه عليه الأصوات، ولا تختلف عليه اللغات.
أيها الأحبة! أعجيبٌ بعد هذا أن نطمع في هداية شاب ضل الطريق؟! لا وألف لا، فلنكن على ثقة ولنكن على اطمئنان، أن قوة هذا الدين إذا وجدت من يحملها بأسلوب بلاغٍ مناسب فإنها والله تنفذ في الحجر الصلد والصخور الصماء، فكيف بقلوب بني آدم حينما يبذل الإنسان سعياً ولو قليلاً، فما أقرب الناس إلى الهداية!(47/4)
سهيل بن عمرو خطيب في الجاهلية والإسلام
وقصةٌ أخرى مما يدلك على أن الناس في أقرب الأحوال إلى دينهم لو وجدوا ما يحركهم: جاء سهيل بن عمرو مندوب قريش يفاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صُلح الحديبية، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب باسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم إلا رحمان اليمامة، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: اكتب من محمدٍ رسول الله، قال: لو شهدنا أنك رسول الله ما قاتلناك، قال: فاكتب من محمد بن عبد الله، ثم أملى الشروط التي من أهمها: أن من خرج من المسلمين من مكة إلى المدينة يرده الصحابة إلى مكة.
الحاصل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان واقفاً فاشتد غضبه وغلا غيظه، فقال: يا رسول الله! ألسنا المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أليسوا بالكافرين؟ قال: نعم، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا يا رسول الله؟! أفلا تدعني أخلع ثنية هذا الكافر وكان سهيل بن عمرو خطيباً مصقعاً إذا تكلم في قريش سمعت وتأثرت بكلامه، فقال عمر: أفلا تدعني أخلع ثنيتيه ليكون أثرماً، فلا يكون بلاغة الخطاب والكلام منه كما يريد، فقال صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أن يُريك منه يا عمر موقفاً يُعز الله به الإسلام وأهله) فعجب عمر من هذا الكلام أي موقفٍ بعد هذه المفاوضة، وما هي إلا سنين قليلة ثم يموت صلى الله عليه وسلم، فترتد قبائل العرب وتهم قريش بالردة، فيقوم سهيل بن عمرو بعد أن أسلم وقال: يا معشر قريش! أما تستحوا أن تكونوا آخر من أسلم وأول من يرتد، فخجل القوم على نفوسهم وكانت كلمته مؤثرةً في قريش، وتذكر عمر رضي الله عنه مقالة النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله أن يريك منه موقفاً أو يوماً يعز الله به الإسلام) هذا فيما يتعلق بالقديم.(47/5)
توبة سارق
وأما فيما يتعلق بأحوال السلف فالقصص في ذلك كثيرة، منها: أن رجلاً من الصالحين كان ممن يسرقون ويتسورون البيوت والدور، فتسور ذات يومٍ داراً في هجيعٍ مُظلمٍ من الليل، فلما أن وضع رجله على الجدار إذ بصاحب الدار من الذين يتهجدون ويقومون الليل ويقرءون قول الله جل وعلا: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] ثم بكى الرجل وهو متسلقٌ السور، فقال: بلى آن بلى آن، أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، فعاد من ليلته وطلب العلم وحسنت حاله وأصبح من أجل العلماء والسلف الصالحين.(47/6)
توبة شاب معاصر
وفي عصرنا الحاضر: أذكر لكم قصة شابٍ معروفٍ من هذه البلاد؛ كان قد صرف في أسبوعين فقط أربعةً وستين ألفاً، أنفقها في أسبانيا وفي المغرب بين ألوان الفساد والمنكرات، وحدث ولا حرج عما تعنيه هذه الكلمة، ثم دخل ذات يومٍ ليزور مآثر إسلامية في الأندلس فلما دخل وكانت بجواره فتاةٌ رشيقةٌ حسناء وهي تعرض عليه وتقول: هذا مسجد المسلمين حولناه إلى كنيسة، وهذا ثم لفت نظره إلى قوس من صناعة المسلمين مكتوبٌ عليه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ثم تأثر شيئاً قليلاً لم يظهر عليه، ثم قالت له تلك المرشدة: وذاك هو المنبر الذي كان يخطب عليه الخليفة ويسير الجيوش ليغزونا في فرنسا وأوروبا فما هي إلا لحظات حتى طاش جنونه وابتعد عنها، ثم اتجه إلى المنبر فوجده قد شمع بالشمع الأحمر فاخترقه وصعد ثم مسك بهذا المنبر وأخذ يصرخ بما لا يعرف، وأخذ يصيح بما لا يعقل، وهو يهز هذا المنبر من شدة تأثرٍ في نفسه لم توافقه العبارات أن يُفصح عنه ثم نزل باكياً وحجز من يومه إلى بلاده وعاد إلى وطنه، ثم أصبح الآن من خيرة شباب الجهاد في أفغانستان والله رأيته بعيني شاباً كصقرٍ في عليائه، إذا قلب نظراته كأنما يقتنص فريسةً، قد شُغفت نفسه بالجهاد والقتال، وترك ذلك العُهر والدمار والفساد.
فليس غريباً على الله يا عباد الله؛ وليس بعيداً على أبناء المسلمين أن يعودوا لدينهم، وأن يحملوا رايته وأن يجاهدوا في سبيل إعلائه مهما بلغوا ومهما كان منهم.(47/7)
قصة تؤثر في بعض الفساق
وقصةٌ أخرى حدثني بها من كانت له واقعةٌ أيضاً قال: كنا في مجلسٍ وفيه طوائف من الشباب على اختلاف مناهلهم ومشاربهم، وفيهم الفُساق بكل ما تعنيه كلمة الفِسقِ من معنى، قال: فقمت أحدثهم عن شأن اللاجئين في أفغانستان وكيف تعرض لهم الشيوعيون، قال: وكان لاجئ طاعن في السن شيخ هرم كبير يحدثنا، ثم استعبر وبكى وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: فشدني استعباره والتفت إليه وأمسكت به، قلت: أقسمت عليك يا شيخ لتخبرني ما الذي حصل لك، فحاول أن يتهرب ويعتذر فكنت لحوحاً في السؤال، قال: كنت في طريقي وقد قتلت زوجتي ومعي بناتي فاعترض لنا الروس ثم كبلوني مقيداً وأخذوا بناتي وجردوهن من ثيابهن ثم وقف الروس كالطابور واحداً تلواً الآخر يفعلون الفاحشة في بناتي وأنا والله أنظر ثم لما انتهوا منهن بعد أن أصابوا بناتي بما فعلوه من جرمٍ وحشي لا يُذكر، قال: قتلوا بناتي واحدة بعد الأخرى ثم أطلقوا سراحي لكي أموت غيظاً، ولكي أموت كمداً، ولكي أموت قهراً فإني والله كلما تذكرت هذه القصة لا أملك عبرةً تترقرق أو دمعةً تنزل أو شجاً يغص في حلقي، قال: فلما سمع من حولي من الشباب هذه القصة والله ما رأيت إلا دموعاً تتحدر وبكاءً وشهيقاً علا حتى غط المجلس فتأثروا بما كان يتحدث به عن وضع إخوانهم.
إذاً: فلا غرابة أن يتأثر شبابنا وأن يعودوا إلى الإسلام، وأن يئوبوا إلى حظيرته، وأن يكونوا من أعز أنصاره وأعوانه.
إن هذا الدين ليس حصراً على أمةٍ بعينها، أو فئةٍ بعينها، أو طائفةٍ بعينها.
إن الناس في توجههم إلى الله يتفاوتون قرباً وبعداً بحسب تقواهم لله، وكم من فاسقٍ تاب وأناب إلى الله! ونال منزلةً ما بلغها عابد من العباد! ولا زاهد من الزهاد! فاعتبروا يا أولي الأبصار! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(47/8)
بعض ثمار الحكمة والموعظة الحسنة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ في الدين ضلالة؛ وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! نسوق تلك المقدمة وتلك القصص لكي نعلم، ولكي نتيقن أنه ينبغي أن ننظر لكل شابٍ رأيناه، ولكل من عرفناه وهو على حالٍ من الفساد والمعصية، أن ننظر له بعين العطف، وأن ننظر له بعين الخوف، الخائفين عليه من عذاب الله، المشفقين عليه من النار، المحبين له ما أحببناه لأنفسنا من رضا الله والجنة، لا أن ننظر لمن كان عليه أثرٌ من آثار المعاصي والمنكرات نظرة العلو والتكبر، أو أن نخاطبهم خطاب السيد لعبده أو الأمير لمأموره، لا وألف لا، فإن الناس في هذا الزمان كلٌ قد استغنى بحاجته:
كلانا غنيٌ عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
كلٌّ غنيٌ بما آتاه الله جل وعلا، فلا سبيل إلى النفوس إلا بالتواضع وخفض الجناح، وطلاقة الجبين والبشاشة الدائمة، ورقة العبارة، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، إن هذا لهو خير سبيلٍ يدخل به الدعاة إلى الله إلى نفوس الناس مهما كانت معاصيهم، ومهما تنوعت منكراتهم، ومهما تلون منكرهم وباطلهم.
منذ أسبوعٍ أو أقل وقفت عند محلٍ من محلات التسجيلات الإسلامية فإذا بي أجد شاباً صبيح الوجه عليه علامات الهداية والتقى ويشع من وجهه نور إيمانٍ، هذا ما رأيته، وإذا به يخبرني قال: هذا كان محلاً لي وكان قبل شهرين أو ثلاثة محلاً أبيع فيه أشرطة الغناء وأشرطة اللهو، فمنّ الله عليّ بحادثةٍ بسيطة تبت إلى الله مما كنت فيه، وما فعلت فاحشةً أبداً، لكني كنت غافلاً غفلةً عجيبة، ثم تبت إلى الله وقلبت هذا المحل من محل تسجيلاتٍ خليعة وماجنةٍ، ومن مزامير الشيطان إلى مكانٍ أنشر فيه كلام الله وسنة نبيه، وندوات العلماء، والمواعظ النافعة الصالحة.
إذاً أيها الأحبة! ليس بعيداً وليس غريباً مهما كان الإنسان فيما كان، ومهما بلغت درجته ومنزلته، إن شباباً الآن في أرض الجهاد هم من أبناء الأثرياء ومن أبناء الكبراء، ما الذي أخرجهم إلى أرض الجهاد، لم يقل أحدٌ: إن هذا فرض عينٍ على رءوسكم، لكن ما الذي أخرجهم قالوا: أردنا الجنة واشتقنا إلى الشهادة، وطمعنا أن تغفر لنا الذنوب عند أول دفعةٍ من الدم، ورغبنا أن نرى الحور العين حال الموت، وأن نُشفَّع في سبعين من أهل بيوتنا، ولا حاجة لنا في دنيا نحن فيها من المراكب والقصور، وكل نعيم العيش ووفير الفراش.
أيها الأحبة! اعلموا أن هذا الدين قوته ذاتية فاحملوه برفقٍ وهدوء وقدموه في ثوبٍ قشيبٍ جميل فإن النفوس سرعان ما تستجيب له.
أسأل الله جل وعلا أن يُعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يُبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على الحق يا رب العالمين.
اللهم ما علمت في أحدٍ خيراً له ولأمته فقربه له، وما علمت في أحدٍ شراً له ولأمته فأبعده عنه، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا ميتاً إلا رحمته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، اللهم جازه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم وحد صفهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم سدد رصاصهم، اللهم أقم دولتهم على كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود، اللهم عليك بأعداء دينك الجعفرية والاثني عشرية، اللهم عليك بهم، اللهم مزقهم شر ممزق، اللهم أهلك بعضهم ببعض، اللهم أشعل نار الفرقة بينهم، وفتيل الفساد والخلاف في صفوفهم، اللهم اجعلهم بدداً، ولا تبقِ منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، فإنهم لا يعجزونك يا جبار السماوات والأرض.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(47/9)
أهمية السنة
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حثنا على الالتزام بسنته، وحذرنا من مخالفته واتباع البدع والضلالات، وقد بين الشيخ في هذه المادة بعض الأخطاء التي تقع بسبب التفريط بالسنة، وعدم الاهتمام بها، وركز الشيخ على المخالفات في باب الطهارة.(48/1)
أخطاء في الوضوء مخالفة للسنة
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره، وأصلي وأسلم على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الأحبة في الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! مرَّ بنا الحديث في واحدة من الجمع الماضية عن أهمية السنة واتباعها، وعن أهمية تعلم الإنسان لأحكام دينه، لكي يعبد الله وحده لا شريك له على بصيرة، إذ أن شرط قبول الأعمال: الإخلاص والمتابعة، فمن حقق واحداً منها، وضيع الآخر؛ فهو على خطر أن يكون عمله هباءً منثوراً، فكان لابد للمؤمن أن تكون أعماله وأفعاله وأقواله خالصةً لله وحده لا شريك له، صواباً على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومرَّ بنا الحديث حول بعض المغالطات والأخطاء الشنيعة الكثيرة المتعددة، التي يقع فيها كثير من المسلمين، مما ينعكس الأمر على عبادتهم، ومن ذلك الوضوء، فكثير من المسلمين يجهلون ويخطئون في تطبيق أحكام هذه العبادة، والتي لها أكبر الأثر حيث إنها شرط للصلاة، فإذا ضاع الشرط، فقد بطل المشروط، فكان لابد لنا أن نتم هذا الحديث، وقلنا بلاغاً للفائدة، وإسناداً للفضل لأهله: إن جملة هذه المعلومة لطالب من طلبة العلم كتبها واحتسبها لوجه الله جل وعلا، فمن باب نسبة الفضل إلى أهله نسأل الله أن يثيبه على ما جمع وأفاد.(48/2)
اعتقاد وجوب مسح الرقبة في الوضوء
أيها الأحبة في الله! يخطئ بعض المسلمين بظنهم أن مسح الرقبة أمر واجب من واجبات الوضوء، ويحتجون في فعل ذلك بحديث نصه: (مسح الرقبة أمانٌ من الغل) قال النووي في المجموع: هذا حديث موضوع، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم بهذا أن ما يفعله بعض المسلمين من مسحهم للرقبة من مقدمتها، أو خلفها، خلاف للسنة، بل بدعةٌ على عبادة الوضوء، فلينتبه لذلك.(48/3)
اعتقاد أن الوضوء لا يصح إلا بغسل العضو ثلاث مرات
ومن الأخطاء التي وقع فيها كثيرٌ من المسلمين اعتقاد بعضهم أن الوضوء لا يتم إلا إذا كان ثلاثاً ثلاثاً، أي: غسل كل عضوٍ ثلاث مرات، وهذا اعتقاد خاطئ، قال البخاري في صحيحه: باب الوضوء مرة مرة، باب الوضوء مرتين مرتين، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وأورد تحت الباب الأول حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة) وروى -أيضاً- في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين) وروى -أيضاً- من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء، فغسل وجهه مرةً، ويديه مرة، ورجليه مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله عز وجل الصلاة إلا به، ثم دعا بوضوء فتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من ضاعف الله له الأجر مرتين، ثم دعا بوضوء، فتوضأ ثلاثاً، وقال: هكذا وضوء نبيكم صلى الله عليه وسلم والنبيين قبله) أو قال: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي) رواه ابن شاهين في الترغيب، وابن السكن، وله شواهد كثيرة، قال الصنعاني في سبل السلام: وله طرقٌ يشد بعضها بعضا، فدلت الأحاديث على جواز الوضوء مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً.(48/4)
خطأ زيادة غسل الأعضاء على ثلاث
ومن الأخطاء الشائعة التي يقع فيها بعض المسلمين: الزيادة في عدد غسل أعضاء الوضوء، أو بعضها، أكثر من ثلاث مرات، وهذا يحدث من بعض الناس، فيعتقد أنه كلما أكثر من غسل أعضاء وضوئه، زاد أجره، وهذا وسوسةٌ وتلبيس من الشيطان، لأن العمل إن لم يكن مشروعاً فهو مردود؛ لما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد) وإذا كان ذلك كذلك، فإن السنة في الوضوء ألا يجاوز المسلم غسل أعضائه أكثر من ثلاث مرات فقط.(48/5)
عدم لزوم غسل الفرج عند كل وضوء
ومن الأخطاء الشائعة أيضاً اعتقاد بعض الناس أنه لابد من غسل الفرج قبل كل وضوء، ولو لم يحدث، وهذا خطأ شائع، والصواب أن يقال: من أدركته الصلاة، وقد سبق ذلك نومٌ، أو خروج ريحٍ من الدبر، فما عليه إلا أن يتوضأ، ولا يحتاج في ذلك إلى غسل فرجه، ومن اعتقد خلاف ذلك، فقد ابتدع في دين الله، إضافةً إلى أن ذلك من الوسوسة، وأما إذا أراد المسلم قضاء حاجته قبل الوضوء، ففي هذه الحالة يجب عليه غسل فرجه، وتنقية مكان البول والغائط، ويدل على ذلك ما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: (بت عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فلما كان في بعض الليل، قام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شنٍ معلق، توضأ وضوءاً خفيفاً) الحديث رواه البخاري، ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد غسل فرجه.(48/6)
من الخطأ استقبال القبلة حال قضاء الحاجة وبناء المراحيض في اتجاه القبلة
ومن الأمور والأخطاء التي يقع فيها كثير من المسلمين: أنهم يستقبلون القبلة عند البول والغائط، وهذه مسألة قد عمت وعظمت بها البلوى، وشاعت في بيوت ومراحيض كثير من الناس، بل حتى عند المساجد، فيغفل البعض أو يتساهل البعض من المسلمين عند بناء بيوتهم عن تغيير اتجاه أماكن الخلاء خلافاً لجهة القبلة، بل إن بعضهم قد يتعمد ذلك، ولا يبالي بموضوع السنة، أو ما ورد في هذا، إذا كان هذا يوافق مخطط البناء، وهذا من المصائب التي ابتلينا بها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يتساهل بعض المسلمين عند قضاء حاجته، فقد يكون مستقبلاً للقبلة ومع ذلك فلا ينحرف عن جهة القبلة يميناً أو يساراً، وهذا مما شاع في هذا الزمان، وفي هذا نصوصٌ صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذر من ذلك: فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يولها ظهره، ولكن شرقوا، أو غربوا) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن، وقوله: (شرقوا، أو غربوا) هذا بالنسبة للمدينة، أما بالنسبة لنا هنا، فإن من غرب، فقد استدبر أو استقبل القبلة، وكذلك من شرق.
فالمهم أن ينحرف الإنسان عن جهة القبلة، وأن يحرص على صرف مراحيض بيته عن جهة القبلة دبراً، أو قبلاً، واختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال عديدة: فمنهم من ذهب إلى القول بتحريم استقبال القبلة، أو استدبارها، وهذا هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، قال ابن القيم رحمه الله: لا فرق في قضاء الحاجة بين الفضاء والبنيان ببضعة عشر دليلاً، وقال الشيخ ابن قاسم: وهذا أصح المذاهب في هذه المسألة، وليس مع من فرق بينها ما يقاومها البتة، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، قال: وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا، ثم قال الشوكاني بعد ذلك: وهو الحق، أي: أن النهي في عدم استقبال القبلة بغائط أو بول هو الحق، لأن النهي يقتضي التحريم ولا صارف له، فلا وجه للحكم بالكراهة فقط.(48/7)
ترك الدهانات العازلة على أجزاء الوضوء دون غسلها
ومن الأمور التي يتساهل بها بعض المسلمين في شأن الوضوء: أن بعضهم يمس يده، أو يقع عليها نوعٌ من الدهان الذي تطلى به الحيطان، وهو ما يعرف بالبوية، وهذا النوع إذا وقع على اليد، يمنع وصول الماء إلى الجزء الذي يراد غسله، فيبقى الوضوء ناقصاً، لذا فإن على من وقع على يده شيء من هذا أن يبادر إلى إزالته قبل الوضوء بالمواد الخاصة التي تزيل هذه الدهانات وغيرها، ومن المواضع التي تقع فيها كثير من النساء ما يجعلنه على أظفارهن، وهو ما يسمى بالمناكير، هذا طلاء فيه سماكة بحيث يمنع وصول الماء منعاً باتاً، لذلك فيجب على المرأة التي تضع هذا الطلاء على شيء من أجزاء يدها أن تزيله قبل الوضوء حتى يعم الماء الجزء المغطى، فيكون الوضوء تاماً صحيحاً.(48/8)
من الخطأ التيمم عند الحدث مع وجود الماء
ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من المصلين أن أحدهم إذا أحدث في مصلاه، ضرب بيده ما تحته من السجاد، ثم تيمم وصلى مع الجماعة، وهذا غالباً ما يحصل إذا كان الزحام شديداً بالمسجد، وقد يحصل كثيراً في الحرمين أو في المساجد الكبيرة، ويقع هذا عندما يكون الوقت بارداً، فيحدث الإنسان ثم يتكاسل عن الذهاب إلى مكان الوضوء ليتوضأ بالماء، أو يحدث هذا عند إقامة الصلاة، فيظن بعضهم أن إدراك الصلاة مع الجماعة بالتيمم أولى من الذهاب إلى الوضوء، فجميع ما تقدم ذكره مما يقع فيه كثير من الناس عن جهل أو حسن نية، والقول في ذلك: أن من ترك الوضوء بالماء مع إمكان حصوله على الماء، ثم عمد إلى التيمم؛ ففعله غير جائز، وصلاته باطلة، وذلك لأن الله تعالى لم يرخص في التيمم إلا عند فقد الماء، أو تعذر استعماله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6]، فدلالة الآية صريحة على أن التيمم لا يجوز عند وجود الماء، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء، ولو إلى عشر حجج -أي إلى عشر سنين- فإذا وجدت الماء، فأمسه بشرتك) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
ففي هذا الحديث بيانٌ أن التيمم لا يقوم مقام الماء إلا إذا فقد الماء، أما إذا وجد الماء أو سهل الحصول عليه ولو بجهدٍ، أو بشيءٍ من الكلفة في نواله قبل خروج الوقت، فلابد أن يتجه المسلم إليه، ولا بد أن يتوضأ، وألا يعدل عن الوضوء إلى التيمم.
قال ابن تيمية: وقد اتفق المسلمون على أنه إذا لم يجد الماء في السفر، تيمم وصلى إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء، فعليه استعماله.
ومن الأمور التي ينبغي أن ننتبه لها -أيها الإخوة- وهو مرتبط بهذا: أننا نلاحظ كثيراً من المسافرين على قارعة الطريق، ورأيت هذا بعيني مراراً، وتراه ليس بينه وبين المدينة التي يقدم إليها إلا بضعة كيلو مترات، ثم تجده على الطريق يتيمم على جانب الطريق، ثم يصلي ومن معه، فواجب طالب العلم، وواجب من فقه حكم هذه المسألة أن يرشده وأن يبين له، وأن يقول: ليس بينك وبين المدينة التي تصلها إلا مسافةً قليلةً يمكنك أن تدرك الماء فيها قبل خروج الوقت، فعند ذلك ينبغي أن ننتبه لهذه المسألة، وعند ذلك نرشده، ولا يقع في خطأ يودي بالبطلان في صلاته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(48/9)
النوم المستغرق يبطل الوضوء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، والتزموا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وعضوا عليها بالنواجذ، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
أيها الأحبة! ومن المخالفات التي يقع فيها كثيرٌ من المصلين والمسلمين أن أحدهم يأخذه النوم وهو في صلاة الجمعة، أو في مسجد من المساجد، فإذا أقيمت الصلاة خاصةً صلاة الفجر والجمعة، قام وصلى مع المسلمين، ولم يلق لنومه بالاً، ولم يعره اهتماماً، ولم يعرف ذلك المصلي أن بعض النوم قد ينقض الوضوء، فيصلي صلاةً بغير وضوء، فتكون صلاةً باطلةً غير صحيحة، ونسوق هنا فتوى لسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نسأل الله أن يمد في عمره، وأن يبارك له في وقته، وأن يمتعه بالصحة والعافية، نسوق هنا فتوى له في هذه المسألة سئل سماحته حفظه الله عن الذين ينامون في المسجد الحرام قبل الظهر والعصر مثلاً، ثم يحضر المنبه للناس يوقظهم، فيقومون للصلاة دون أن يتوضئوا، وهكذا بعض النساء أيضاً، فما حكم ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
فأجاب سماحته بما نصه: النوم ينقض الوضوء إذا كان مستغرقاً قد أزال الشعور، لما روى الصحابي الجليل صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم).
أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وصححه ابن خزيمة، ولما رواه معاوية رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العين وكاء السه) قال ابن الأثير في النهاية: والسه: حلقة الدبر (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان، استطلق الوكاء) أخرجه أحمد والطبراني، وفي سنده ضعف، لكن له شواهد تعضده كحديث صفوان المذكور، وبذلك يكون حديثاً حسناً، وبذلك نعلم أن من نام من الرجال أو النساء في المسجد الحرام، أو في غيره، فإنه تنتقض طهارته، وعليه الوضوء، فإن صلى بغير وضوء، لم تصح صلاته.
واعلموا -أيها الأحبة- أنه لا حاجة إلى الاستنجاء في النوم ونحوه كالريح، ومس الفرج، وأكل لحم الإبل، وإنما يجب الاستنجاء أو الاستجمار من البول والغائط خاصة، وما كان في معناهما قبل الوضوء، أما النعاس فلا ينقض الوضوء؛ لأنه لا يذهب معه الشعور، وبذلك تجتمع الأحاديث الواردة في هذا الباب، والله ولي التوفيق، انتهى جواب سماحته.
وعلى ذلك، فمن نام في مصلاه، فعليه إعادة الوضوء، فإن صلى ولم يعد، بطلت صلاته، أما من نعس، فلا يعيد وضوءه كما تقدم، والله تعالى أعلم.(48/10)
من مس فرجه انتقض وضوؤه
ومن المخالفات التي يقع فيها كثيرٌ من المسلمين: أن بعض الناس عند فراغه من غسل الجنابة، وقبل أن يرتدي ملابسه تقع يده على فرجه، فلا يلقي لذلك بالاً، ويصلي بذلك الغسل ما لم يحدث، لكن هذا لم يعرف أنه إذا لامست يده فرجه قد انتقض وضوءه، وفي ذلك دليل روته بشرة بنت صفوان رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مسَّ ذكره، فليتوضأ) أخرجه مالك وأحمد، وأهل السنن، وعلى ذلك فيقال لمن اغتسل: احرص ألا تمس يدك فرجك، لئلا ينتقض الوضوء، فإن مسست ذلك، فعليك إعادة الوضوء.(48/11)
من الخطأ عدم الغسل من الجماع إلا إذا أنزل
ومن المخالفات -أيضاً- أن بعض الرجال إذا جامع أهله لا يغتسل، ولا يأمر أهله بالغسل إلا إذا أنزل، وهذا أمرٌ يقع كثيراً، ونكتشفه ونعرفه من كثرة الأسئلة حول هذا الموضوع، ويخطئ فيه الكثيرون، فالقول في ذلك- وبالله التوفيق- كان الأمر أولاً: ألا يغتسل الرجل إلا إذا أنزل، وألا تغتسل المرأة إلا إذا أنزلت، ودليله ما أخرج مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) قال الصنعاني: أي الاغتسال من الإنزال، فالماء الأول المعروف، والثاني: المني، لكن هذا الحديث قد نسخ بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل) متفق عليه، وزاد مسلم: (وإن لم ينزل) وفي لفظ أبي داود: (وألزق الختان بالختان) فهذا الحديث استدل به الجمهور على نفس مفهوم حديث (الماء من الماء) واستدلوا على أن هذا آخر الأمرين، بما رواه أحمد وغيره من طريق الزهري عن أبي بن كعب أنه قال: (إن الفتيا التي كانوا يقولون: الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد) صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقال الإسماعيلي: صحيح على شرط البخاري، وهو صريح في نسخ حكم حديث (الماء من الماء).
ومن أدلة كونه ناسخاً أيضاً حديث أبي هريرة منطوقٌ، وحديث أبي سعيد مفهوم، والمنطوق مقدمٌ على المفهوم.
أيها الإخوة! فافهموا أحكام هذه العبادة الجليلة، افهموا أحكامها لما ينبغي للمسلم أن يقوم بها لكي ينال أجرها كاملاً، وافهموا أحكامها لما يترتب عليها من عبادات جليلة كصلاة وطواف وغيرها، فربما أخلَّ الإنسان بذلك، فينتقل الخلل إلى ما بعده، وفقهوا ذلك أولادكم وبناتكم ومن رأيتموه مخالفاً لسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإن الجاهل قد يعذر بجهله، وتقوم الحجة على العالم إذا رآه واقعاً في جهل أو خطأ، فسكت عنه ولم يبين.
واعلموا -أيها الأحبة- أنه لا قيمة لكل ما سمعتموه إلا إذا اعتنينا به تطبيقاً ومتابعةً للسنة ودعوة وحرصاً على ذلك، أما أن يسمع الكلام، ثم يتعدى الآذان، فلا فائدة من هذا كله، ومن عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم، فمن اعتنى بالسنة وطبقها، فتح الله على قلبه آفاقاً وأبواباً جديدةً من العلم، وهذا ملحوظ في علماء السلف الصالحين.
نسأل الله جل وعلا أن نكون من التابعين لهم بإحسان، اللهم ألهمنا رشدنا، ووفقنا للعناية بأحكام ديننا، والاهتمام بالالتزام بسنة نبينا، ونعوذ بك اللهم من الزلل، ونعوذ بك اللهم من الضلال في أمر الشريعة والعبادة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! اللهم من أراد علماءنا بفتنة وشبابنا بضلالة، وولاة أمرنا بمكيدة، ونساءنا بتبرج وسفور واختلاط في الوظائف والتعليم، اللهم عليك به، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، واطرده اللهم عن أرضنا وبلادنا يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم عجل نصرهم، ووحد صفهم، واجمع شملهم، وألف بين قلوبهم، اللهم اقهر عدوهم، اللهم عجل دولتهم يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، وارحم اللهم المستضعفين في فلسطين، اللهم انصرهم على اليهود أعداء دينك، وأعداء أنبيائك ورسلك، اللهم عجل نصرهم، واكشف اللهم المحنة والكربة عنهم، اللهم رد المسجد الأقصى إلى أيدي المسلمين، واطرد اليهود عن أرض المسلمين يا رب العالمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً، فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم ثبتنا على دينك إلى أن نلقاك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى، من الزلل بعد الاستقامة، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين قاعدين، اللهم احفظنا بالإسلام في كل مكان، وفي كل عصر وزمان برحمتك يا أرحم الراحمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(48/12)
فاحشة الزنا
إن الله سبحانه وتعالى من إكرامه لعبده جعله معززاً مكرماً في أهله وماله وعرضه، وقد تكلم الشيخ عن أعظم فاحشة نهى الله عنها حيث قرنها بالشرك بالله، ثم بيَّن آثار هذه الفاحشة وسلبياتها على الفرد والمجتمع في الدنيا قبل الآخرة، وختمها بذكر وسائل يتقي بها المرء هذه الفاحشة والجريمة البشعة.(49/1)
ذم الزنا في الشرع وموجباته
الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً يليق بجلال الله وعظيم سلطانه، نحمده سبحانه أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر الأحبة: يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151] وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا).
أيها الأحبة في الله! جريمة الزنا فاحشةٌ منطلقها من غريزةٍ موجودةٍ في بني الإنسان، لكن صاحب تلك الغريزة لم يتحكم بها، ولم يجعلها منضبطةً على النحو الشرعي الذي جاء المسلم في كتاب ربه وسنة نبيه، ودين الإسلام لم يكبت الغرائز، ولم يطلق لها العنان، إن دين الإسلام لم يطلق للغرائز العنان تسبح حيث شاءت وكيف شاءت بلا حدود، ولا روادع تردعها من دينٍ أو خلقٍ أو عرف -كما هو الشأن في المذاهب الإلحادية التي لا تؤمن بدين، ولا فضيلة- وفي هذا انحطاطٌ بالإنسان إلى مرتبة الحيوان، وإفساد للفرد والأسرة والمجتمع، حينما يترك العنان طليقاً للغرائز تعبث كيف شاءت، ودين الإسلام لم يصادم الغريزة، ولم يكبتها كما هو الشأن في مذاهب الحرمان والتقشف والتشاؤم، كالرهبانية والمانوية، ومن فعل بالغريزة هذا الموقف، فقد وأدها، وعطل عملها، ووقع في منافاة الحكمة التي من أجلها ركبت في الإنسان، إن دين الإسلام جعل لهذه الغريزة حدوداً تنطلق في داخلها وضمن إطارها دون كبت مرذول، أو انطلاق مجنون.
أيها الأحبة في الله! إن دين الإسلام لم يجعل هذه الغريزة مكبوتةً ولم يجعلها طليقة، بل وظفها ضمن إطار نافع للفرد وللمجتمع، خلافاً لتلك الشرائع التي أباحت الانفتاح والانحلال، والعلاقات الاجتماعية المفتوحة.
أيها الأحبة! إن هذا الدين الذي يسر لهذه الغريزة سبيلاً من الحلال، ونهى صاحبها عن التبتل واعتزال النساء، هو الدين الذي حرم الزنا، وهذا هو الموقف العدل الوسط، فلولا أن شرع الزواج ما أدت الغريزة دورها في استمرار الإنسان وبقاء نوعه، وما نشأت الأسرة التي تتكون في ظلالها العواطف الاجتماعية الراقية، من المودة والرحمة والحنان والحب والإيثار.
عباد الله! إذا رأينا الإسلام قد حارب الزنا وشدد في النهي عنه، والتحذير منه، ذلك لأنه يؤدي إلى اختلاط الأنساب والجناية على النسل، وانحلال الأسر، وتفكك الروابط، وانتشار الأمراض السارية، وطغيان الشهوات، وانهيار الأخلاق، يقول ابن القيم رحمه الله: والزنا يجمع خلال الشر كلها، من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورعٌ، ولا وفاءٌ بعهد، ولا صدقٌ في حديث، ولا محافظةٌ على صديق، ولا غيرةٌ تامةٌ على أهله، فالغدر والكذب وقلة الحياء والخيانة، وعدم المراقبة، وعدم الأنفة للمحارم، وذهاب الغيرة، هي خلق الزاني.
ومن موجبات هذا الزنا: غضب الرب عليه بإفساده، ومن موجباته: سواد وجه صاحبه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين، ومن موجبات الزنا: ظلمة القلب، وطمس نوره، وهو الذي أوجب طمس نور الوجه، وغشيان الظلمة له، ومن موجبات الزنا: الفقر اللازم، ومن موجبات الزنا: أنه يذهب حرمة فاعله، فيسقط من عين الله، وأعين عباده المؤمنين، ومن موجباته: أنه يسلب الزاني أحسن الأسماء وهو العفة والبر والعدالة، ويعطيه أضدادها، كالفجور والفسق والزنا والخيانة.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً أعظم من الزنا، وقد أكد حرمته سبحانه وتعالى بقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:69 - 70] وقد قرن الله الزنا بالشرك وقتل النفس، وجعل جزاء ذلك الخلود في العذاب المضاعف ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] فأخبر عن فحشه في نفسه، وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه، حتى استقر فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوانات، كما ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: [رأيت في الجاهلية قرداً زنا بقردة، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا].(49/2)
آثار الزنا الخلقية والخُلقية
أيها الإخوة في الله! إن الزنا مرضٌ خُلقيٌّ خبيثٌ؛ لا يظهر ويشيع إلا في المجتمعات المنحرفة التي تدنت إلى رجس الجاهلية وقذارتها، وإن الزاني رجلٌ منحرفٌ قد مسخت فطرته وانقلبت، كيف لا والخالق سبحانه وتعالى قد قرنه مع المشركين وقاتلي الأنفس التي حرمها الله بغير حق! وكيف لا يكون الزاني كذلك وقد انتهك عرضاً! واستحل حرمةً! وزرع بذرةً في أرض غيره! ولو تبصرت بعين العقل، وتأملت بعين الفكر طفلةً ضائعةً شريدةً جاءت ثمرة مرة لشهوة لحظة، هذه الطفلة الغضة البريئة، أو هذا الطفل الغض البريء، ماذا جنى أحدهما؟ يفتح عينه على الحياة، فلا يجد إلا أحضان مومسةٍ تتلقفه، أية جريمة اقترفها أحدهما حتى يحرم من حقوق الرضاعة والنفقة والحضانة؟! أية جريمة اقترفها حتى يحرم من دفء الحياة ونعيمها بين أبوين شرعيين؟! أيها الإخوة! ليس هذا اعتراضاً على قدر الله، بل هو مضاعفة وتوجيه لإثم كل ذلك على الزاني الذي تسبب في ذلك وأحدثه في المجتمع، إن الزاني النجس قد يصور له وهمه أنه كالفراشة ينتقل من زهرة إلى زهرة، من امرأة إلى امرأة، من فتاة إلى فتاة، من غصن إلى غصن، لكن تصوره خاطئ، إنه -والله- كالكلب ينتقل من جيفة إلى جيفة قذرة، من جيفة نتنة إلى جيفة عفنة، يصور لنفسه أنه يعيش حياة الانطلاق والانفتاح، وفي الواقع أنه يعيش أسير المعصية، سجين الأوهام، يعيش ضائعاً تائهاً شريداً، لا يستطيع الإقدام على الزواج ومسئولياته كما يقدم الرجال، لأنه مصابٌ بنقصٍ في رجولته، وانحرافٍ في طبيعته، أما الزانية فإنها مخلوقةٌ شاذة، وشذوذها لا يتفق مع طبيعة الرجل العادية من الناحية العقلية والنفسية والجنسية والأخلاقية، فالزانية مسلوبة الشرف والعفاف ظاهرة اللؤم والخداع والنفاق، ترضي كل طارق، وتدعي حب كل زاني، تبتسم ابتسامةً ملؤها النفاق والخداع، وتقبل عن نفس سقيمة عليلة، وروح خادعة غاشة، ألقت برقع الحياء عن وجهها، ولبست ثوب الخبث والخديعة والرذيلة والخيانة، لا كرامة لها، ولا قوام لأخلاقها، عقيدتها فاسدة، ورأيها ضال، فلا تصلح أن تكون شريكة رجل مسلم مهذب النفس قويم الأخلاق، حسن الطباع، وصدق الله جل وعلا: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] إلا من تاب وأقلع، فإن التوبة تجب ما قبلها، وتمسح ما كان سالفاً قبلها، ويعود كل إنسان اقترف جريمة بعد توبته طاهراً مطهراً، إذا كانت توبته نصوحاً صادقة.(49/3)
مصير الزناة في الدنيا
عباد الله! لقد ظهرت كثير من الأمراض التي لم تكن معروفة من قبل، بسبب شيوع الفاحشة وانتشارها، وكان آخر هذه الأمراض ما يسمى بمرض الإيدز أي: مرض نقص المناعة المكتسبة، فأنسى الناس كل الأمراض قبله، وأصبح ذلك المرض شغل الناس الشاغل، فانعقدت لأجله الندوات، وأقيمت المؤتمرات، وأجريت البحوث والمحاضرات للتوصل إلى علاج له، لكن دون جدوى، وقد أجمع الأطباء على أن هذه الأمراض كلها لا تنتقل إلا عن طريق العلاقات المحرمة، كالزنا والشذوذ واللواط، فتأمل -أيها المسلم- عظم خطر هذه الأمراض التي يسببها الزنا، الذي وصفه الله جل وعلا بأنه: {فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] أرأيت كل عضو شارك في جريمة الزنا، أو في مقدماته، كيف يتلظى بالآلام الجسام، ويصاب بالبثور والأورام، أرأيت كيف يكون العقاب، وكيف يكون الجزاء من جنس العمل! صدق نبينا صلى الله عليه وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم) هل رأيتم عاقلاً يؤثر التنعم بلحظة ليعاني بها شقاء الدنيا والآخرة؟! هذا مصير الزناة في الدنيا، آلام رهيبة في الأجساد قد تنتهي بهم إلى الموت، وقد تسلمهم إلى أمراض يتمنون فيها الموت، وتخريب كامل العقول، قد يفضي بهم هذا إلى الجنون.
ولما كانت جريمة الزنا بشعة إلى هذا الحد، فرض الله جل وعلا عقوبة تناسبها، فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] وقد بين صلى الله عليه وسلم أن هذا هو حكم الزاني غير المحصن، أي: غير المتزوج، أما المحصن فعقوبته الرجم بالحجارة حتى الموت، وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وطبقه وحكم به في زمانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(49/4)
تحريم دواعي الزنا ومقدماته
الحمد لله، الحمد لله الواحد المتفرد في الكمال والجمال والجلال، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
عباد الله! إن دين الإسلام إذا حرم شيئاً سد جميع الطرق المؤدية إليه، وحرم كل ما يفضي إليه من وسائل ومقدمات، وكل ما كان من شأنه أن يستثير الغريزة الهاجعة، ويفتح منافذ الفتنة على الرجال والنساء، أو يغري بالفاحشة، أو يقرب منها، أو ييسر سبيلها، فإن الإسلام حرمه ونهى عنه سداً للذريعة، ودرءاً للمفسدة، ومن ذلك أن الإسلام حرم خلو الرجال بالنساء، حرم خلو الرجل بالمرأة الأجنبية، وهي التي لا تكون زوجةً له ولا إحدى قريباته اللاتي يحرم عليه زواجهن حرمةً مؤبدةً، ليس هذا فقداً للثقة فيهما أو في أحدهما، لكنه تحصينٌ لهما من وساوس الشيطان، وهواجس الشر، قال صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يخلون بامرأةٍ ليس معها ذو محرم، فإن ثالثهما الشيطان) هل يسمع هذا من يسمح لأخته منفردةً تذهب مع السائق؟ هل يسمع هذا من يسمح لزوجته تذهب مع السائق لوحدها إلى السوق؟ هل يسمع هذا من يسمح لابنته أن تخرج مع السائق في أي وقت شاءت؟ عباد الله! يحذر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيراً خاصاً من خلو المرأة بالحمو حتى ولو كان قريباً، والحمو هو: قريب الزوج، كأخيه وابن عمه، لما يحدث عادة من تساهل في ذلك بين الأقارب، وقد يجر أحياناً إلى عواقب وخيمة، لأن الخلوة بالقريب أشد خطراً من غيره، لتمكنه من الدخول على المرأة في البيت من غير نكيرٍ بخلاف الأجنبي، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) فهل نسمع هذا يا عباد الله؟ إن مما يؤسف له أن أسراً عريقةً، ومجتمعاتٍ في قلب هذه المملكة الطيبة قد تساهلوا بهذا الأمر تساهلاً عجيباً، فترى الواحد منهم يدخل البيت في حال غيبة الرجل، سواءً كان الرجل في متجره، أو في وظيفته، فيأتي الضيف، فتستقبله المرأة، وتقدم له الطعام والشراب، وتجالسه وتوانسه وتؤاكله، ليس هذا بشهامة، وليس هذا بكرامة، وليس هذا بنخوة ولا بنجدة، إن الله أغير، وإن نبينا أغير، فلا تظنوا -يا عباد الله- أن بعض الناس حينما يقول: إن نساءنا بإكرامهن الضيف فذلك من الشهامة، ونحن أيضاً على غيرة في محارمنا، لا والله، إن الغيرة كل الغيرة أن نمتثل قول الله جل وعلا، وأن نمتثل قول نبينا صلى الله عليه وسلم، بعض الأسر يتهاونون في جلوس زوجات الإخوان بعضهم مع بعض، ويحتج بعضهم أن هذا يفضي إلى الحاجة إلى تقسيم مائدة الطعام والإفطار والعشاء وليكن الأمر كذلك، ما الذي يضير أن يتغدى أو يتعشى النساء في مكان والرجال في غرفةٍ أو في مكانٍ آخر؟ أيهما أولى: أن يكون هذا، أو أن يكون الأمر المحذور والخطر الشديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فانتبهوا لذلك يا عباد الله! وإن مما حرمه الإسلام سداً لجريمة الزنا أن الإسلام حرم النظرة، حرم إطالة النظر من الرجل إلى المرأة، ومن المرأة إلى الرجل بشهوة، فإن العين مفتاح القلب، والنظر رسول الفتنة، وبريد الزنا، وقديماً قال الشاعر:
كل الحوادث مبدؤها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ
والمرء ما دام ذا عينٍ يقلبها في أعين الغيد موقوفٌ على الخطرِ
يسرُّ مقلته ما ضرَّ مهجته لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضررِ
وحديثاً قيل:
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامُ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
فاتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبهن هواءُ
ولهذا وجه الله سبحانه وتعالى أمره إلى المؤمنين والمؤمنات بغض البصر مقترناً بأمره بحفظ الفروج، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31] فأمر الله الرجال والنساء جميعاً بغض الأبصار، وحفظ الفروج، ويلاحظ أن الآيات أمرت بالغض من البصر، لا بغض البصر، ولم تقل: ويحفظوا من فروجهم كما جاء فيها: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] لأن الفرج مأمورٌ بحفظه جملة دون التساهل بشيء منه، أما البصر، فقد تجاوز الله للناس بشيءٍ منه رفعاً للحرج، ورعايةً للمصلحة، وذلك محصورٌ بنظرة الفجأة، فالغض من البصر ليس معناه إقفال العين، وإنما معناه: عدم إرساله طليق العنان يلتهم الغاديات والرائحات، والغادين والرائحين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يا علي بن أبي طالب لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة) وليس معنى هذا أنه يسمح للإنسان بأول نظرة، وإنما المسموح له نظرة الفجأة غير المقصودة، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، قال: (اصرف بصرك) وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (العينان تزنيان وزناهما النظر) إن النظر المتلذذ الجائع ليس خطراً على عفة الرجل فحسب، بل هو خطرٌ على استقرار فكره وطمأنينة قلبه كالذي يصاب بالشرود والاضطراب حال إطلاق نظراته، ولقد أحسن من قال:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر(49/5)
وسائل تقي من الزنا
كما أن من الوسائل التي تقي من الزنا: التبكير بالزواج خصوصاً للذين يدرسون في الخارج، تلك البلاد التي تفشت فيها الدعارة، وصارت الدعارة سمةً غالبةً لأهلها.
ومن الوسائل المعينة على حفظ النفس من فاحشة الزنا: الصيام لمن لا يستطيع الزواج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء).
ومن الوسائل أيضاً وهي أهم الوسائل: العناية بأمر الصلاة، وأدائها في أوقاتها، والزيادة من نوافلها، فالصلاة صمام الأمان، ناهيةٌ عن الفحشاء والمنكر كما قال جل وعلا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ومن الوسائل أيضاً: معرفة أضرار الوقوع في جريمة الزنا، سواءً كانت أمراضاً نفسيةً، أو بدنيةً، أو عقليةً، أو دينيةً، ومن ذلك الابتعاد عن الصور العارية، ووسائل الإغراء، والمشاهد الخليعة، تلك التي تثير الغرائز وتحركها.
ومن الوسائل المعينة على تجنب تلك الفاحشة: الاستغراق في الأعمال المفيدة النافعة، فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية.
نسأل الله أن يحمينا جميعاً من مضلات الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداةً مهتدين.
أيها الإخوة في الله! اسمعوا وانقلوا عنا هذه الكلمة: إن من نشر فيلماً خليعاً، أو مسلسلاً كان سبباً في وقوع شابٍ في جريمة الزنا، لهو أيضاً آثمٌ كما يأثم الزاني، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى، فله أجره وأجر من تبعه إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى وزرٍ، أو ضلالةٍ، أو إثمٍ، فعليه وزره، ووزر من فعله، أو تبعه لا ينقص من أوزارهم شيئاً) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فليذكر أولئك الذين يبيعون أفلاماً خليعةً، وأشرطةً هابطةً أنهم سوف يحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم، ألا ساء ما يزرون، إن العبد ليثقل كاهله بذنوبه وحده، فكيف بعبد يجيء يوم القيامة قد حمل وزر نفسه وأوزار آلاف من البشر الذين اشتروا منه الأفلام؟ وإن من شارك في هذه المحلات بيعاً وشراءً وإدارةً، وتسويقاً، وتصويراً، وإنتاجاً وإخراجاً، لهو آثم أيضاً، لهو داخلٌ في الوزر أيضاً، وكذلك من شارك في وضع الصور العارية، والصور الفاتنة على غلاف المجلات، أو في بطون أوراقها، وكان بسبب ذلك أن وقع بعض الشباب في جريمة الزنا، فهو والله آثم، هو والله آثم، هو والله آثم بفعله.
فاتقوا الله يا عباد الله! وافهموا ذلك جيداً، وانقلوه لكل بائع لهذه الأشرطة، وأخبروا به كل ضال مضل يضع الصور الخليعة في طيات المجلات والصحف، إن العبد لا يدري ماذا يختم له، فكيف بمن وقع في هذه الجريمة، وجرائم غيره يحملها على نفسه عياذاً بالله من ذلك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد بمجتمعنا فتنة، اللهم من أراد في مجتمعنا انحلالاً وإباحيةً، اللهم من أراد بمجتمعنا ضلالة، اللهم اشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء! قبل ختام الحديث في هذا الباب نضيف جملةً أخيرة، وهي أن فتاة خرجت مستعطرةً متزينةً كما يقع الآن في هذا الزمان، من كثير من الفتيات، تلبس لبساً ضيقاً شفافاً يحجم مفاتنها، وقد فتحت شيئاً من ساقها، وأبدت شيئاً من نحرها، وتهاونت بظهور ذراعيها، فاستهان شابٌ بالنظر إليها، ولم يجد سبيلاً إليها، فوجد سبيلاً إلى غيرها، لهي أيضاً آثمةٌ معه في جريمة الزنا، لأنها المتسببة، لأنها هي التي أثارت غريزته، ومن ذلك أيضاً يا عباد الله أن كثيراً من الناس يتهاونون في ترك الخادمات لوحدهن في المنازل مع أبنائهم من الشباب، هذا خطر عظيم، هذا خطر جسيم، لا تظنوا الشباب ملائكة، لا تظنوهم معصومين أبداً، بل هم ذوو الغرائز، وهم في قوة الشباب، وعنفوان الشهوة، في لحظة يغيب فيها العقل، وينكسر فيها الحياء، وينطلق صمام الأمان، فتقع الفاحشة، لأن أهل البيت خرجوا وتركوا فتاةً وإن كانت أجنبيةً خادمةً، تركوها لوحدها والبيت مليء بالشباب، وإننا -والله- سمعنا بآذاننا، وعرفنا من أفواه كثيرٍ من الناس أنه حصلت جريمة الزنا بهذه الطريقة، بوجود الخادمة لوحدها في المنزل، والشاب ما كان يفكر أبداً في الزنا، لكنه دخل وخرج، ثم عاد مرةً ثانيةً وثالثةً، فوجد الخادمة لوحدها، وليس في البيت أحد، فزين له الشيطان سوء عمله، فوقع في هذه الجريمة، ثم جاء يبكي تائباً مستغفراً، فكيف حال كثير من الناس حينما يتركون الباب على مصاريعه، خاصةً أولئك الذين يستقدمون الخادمات الكافرات، إن الواحدة منهن لا ترد يد لامس، ولا تمانع أن تنال ولو شيئاً قليلاً من المال مقابل أن يقع منه ومنها ما يحقق شهوته وشهوتها، فاتقوا الله في ذلك يا عباد الله، راقبوا بيوتكم جيداً، وكونوا على مستوى المسئولية التي تحملتموها في أسركم وأولادكم وبناتكم، كذلك لا تتساهلوا بخروج الفتاة وحدها مع السائق، فمن كان مضطراً إلى هذا السائق، فليخرج محرماً مع الفتاة، أو جمعاً من النساء يمنعن الخلوة.
اللهم من أراد بولاة أمرنا فتنة، وبعلمائنا مكيدة، وبشبابنا ضلالة، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً، اللهم أدر عليه دائرة السوء، وافضحه على رءوس الخلائق يا رب العالمين! اللهم من أراد نشر الزنا في المجتمع بالدعوة إلى الاختلاط في الوظائف والتعليم، اللهم عليك به فإنه لا يعجزك، اللهم عليك به فإنه لا يعجزك، اللهم اقصمه قصماً، اللهم اقطع دابره يا رب العالمين! اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، قولوا: آمين.(49/6)
نعمة العقل
ما أنزل الله من دين إلا وجعل فيه ما يحفظ على الناس مالهم وأعراضهم، وأعظم من هذا عقولهم التي بها مناط تكليفهم؛ لذا كان من حكمته أن حرم الخمر في ديننا.
وإن كان للخمر في القديم ضرر مقصور على البعض، فإن له في زماننا أضراراً وأضراراً، خصوصاً وقد ظهرت ألوان من المسكرات، والمخدرات(50/1)
اهتمام الشرع بمصالح المسلمين
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:90 - 91] والصلاة والسلام على رسول الله القائل: (اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، وهي مفتاح كل شر) رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد، والقائل صلى الله عليه وعلى أزواجه وآله وسلم تسليماً كثيراً: (إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبائعها ومبتاعها، وشاربها وآكل ثمنها، وحاملها والمحمولة إليه، وساقيها ومستقيها).
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
واعلموا يا معاشر المؤمنين أن الله جل وعلا ما شرع للعباد شيئاً إلا لأنه يحقق مصالحهم، فما أمر بشيء إلا لمنفعتهم فيه، وما حرم شيئاً إلا لضررهم أو حصول ما يضرهم بفعله، وهذه الشريعة الغراء، والكتاب المنزل والسنة المحمدية كلها وحي يوحى، وكل دقيق وجليل فيها يشهد أنها دين حق من عند الله جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82].
أيها الأحبة! شرع الإسلام مصالح العباد وما يحفظها، فشرع ضروريات تدور كثير من الأحكام عليها، أولها حفظ الدين، ولأجل ذلك كان الشرك أعظم فتنة، والفتنة أكبر من القتل، وشرع القتال والجهاد لدفع الشرك: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) كل ذلك لأجل الحفاظ على ضرورة الدين وأهميتها وعظم منزلتها وحاجة البشر إليها؛ إذ بدون الدين يعيش الناس همجاً رعاعاً، بل بهائم، بل البهائم أهدى منهم سبيلاً.
وشرع في هذا الدين حفظ العرض؛ ولأجل ذا حرم الزنا وحرم كل سبب يفضي إليه قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وأمر الناس بغض الأبصار وحفظ الجوارح ونهوا عن إشاعة الفاحشة.
وشرع في هذا الدين حفظ المال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] وقال جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] حفظاً على أموال العباد ومقتنياتهم وثرواتهم.
وشرع في هذا الدين حفظ النفوس فشرع القتل للقاتل، والقصاص من المعتدي؛ لأجل ذا لا يجد الناس سعادة ولا طمأنينة يأمنون فيها على أموالهم وأعراضهم وأديانهم وحقوقهم إلا في ظل هذا الدين.(50/2)
تحريم الشرع للخمر
وشرع أيضاً في هذا الدين العظيم الذي لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً حفظ العقل؛ لأجل ذا حرمت الخمرة، وحرم كل مسكر، وكان وعيداً من الله لمن شربها وأزال هذا العقل وأذهبه باختياره أن يعذبه بعصارة أهل النار كما في الحديث: (من شرب الخمرة كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال.
قيل: وما ردغة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار وما يسيل من قيحهم وصديدهم وفروجهم).
أيها الأحبة في الله! هذا الدين عظيم، وكل تشريع فيه يزيدنا إيماناً وعظمة وثقة وحباً في التضحية والفداء لأجله، هذا الدين عظيم، وما قيمة الحياة بدونه.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء له قرينا(50/3)
سبب تحريم الخمر
أيها الأحبة! حرمت الخمر لأنها تذهب العقل، والعقل مناط التكليف، إن الشارع لم يسقط التكليف عن المعوق أو عن المشلول أو عن الأعمى أو الأعرج أو الأصم أو الأبكم، لكن زائل العقل حتى ولو اكتملت قواه وجوارحه دون عقله سقط عنه التكليف، وما ذاك إلا لأن مناط التكليف العقل، ولأن ارتباط العبادة بالعقل، فكيف يكون مصير عبد يعمد باختياره إلى إزالة مناط التكليف وإزالة محل العبادة فيه.
ولهذا كان جواب أهل النار أنهم أضاعوا عقولهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] لهم عقول لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، عطلوا العقول فكان مآل ذلك إلى النار وساءت مصيراً.
أيها الأحبة في الله! دعاء ونداء إلى من تعرفونه قد عاقرها سراً، وأرخى الستر، وأسدل الحجب، ودعا الندامى، وأدار الكأس
اهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنون من عقل
كيف يعمد عاقل كرمه الله بهذا العقل أن يزيل هذه الكرامة بعمده واختياره، يحرم نفسه خمراً في الجنة، وكما في الحديث: (من شربها ولم يتب منها لم يشرب خمر الجنة أبداً) {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] وخمر الجنة لا تذهب بالعقول {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19].(50/4)
أضرار الخمر على الأمة وشبابها
أيها الأحبة! ماذا يفوت الأمة؟ وماذا يحصل من الشر العظيم والوباء العميم بالتساهل بهذا الداء العضال والتهاون في وجوده وعقوبة متعاطيه ومعاقريه؟ كم تكسب الأمة من إنتاج أبنائها وحصاد عقولهم لو سلمت من هذا الوباء وذاك المنحدر الآسن؟! أليس في الخمرة هدر طاقات الشباب في هذه المحرمات؟ أليست تفوت اغتنام واستغلال القوة في البناء والدفاع والتعليم والأمن والدعوة؟ أليست تضيف أعباءً جساماً على أجهزة الأمن والقضاء والعدالة؟ يقول أحد الفضلاء: زرت سجناً من السجون فتوجهت إلى عنبر أهل الخمور والمخدرات والمسكرات فوجدت كوكبة ليست بالقليلة فقلت: يا سبحان الله! أولئك لو كانوا طليعة في جهاد، أو سرية في دعوة، أو جيشاً في نشر عقيدة، أو دعاة في محاربة بدعة، أو قادة، أو معلمين، أو بنائين، أو صناع، أو أي مهنة من المهن كم يكون نفعهم في الأمة، وكم يكون نفع الأمة منهم؟ ولكن بقطرات تتلوها قطرات.
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
فلا يفيق صاحبها منها، قطرات تلو قطرات يسكر صاحبها فيرى أنه يدبر البيت الأبيض، ويأمر ويزمجر في الكرملين، وينهى ويبطش في الشانزلزيه، وكما قال البدوي الأول:
وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير
يسكر على خيال من العظمة وجنونها ويفيق على هوان من الذلة بألوانها! وحسبكم أن شارب الخمر يفوته أعظم مصلحة وهي انقطاعه عن ذكر الله وعن التفكر في مخلوقات الله والتسبيح والتحميد والتكبير لله جل وعلا.
وإن الذي دعا إلى الحديث عنها أنها دبت وسرت سريان النار في الهشيم في بعض المجتمعات وبعض البيوت، حتى إن بعض من ينسبون أنفسهم إلى صنف معين أو فئة معينة يرونها من كمال الحسب ومدارج الرتب، وما هي إلا دركات تفضي إلى النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.(50/5)
أضرار الخمر وحكم الشرع فيها وفي أمثالها
لقد تكلم السلف والخلف في هذا فذكر ابن القيم والذهبي رحمهما الله، الأول في حادي الأرواح، والآخر في كتاب الكبائر ما فيها من الضرر الواقع فعلاً والصريح والمستنبط فيه: فأولها: اغتيالها للعقل، وكثرة اللغو على شاربها، وإسراف المال، وبذل المال في غير محله، وهي رجس من عمل الشيطان، موقعة للعداوة والبغضاء بين الناس، بل تجعل صاحبها يرتكب ما هو أعظم من ذلك، وقد قلت وأعيد: أن شاباً شرب الخمرة فجاء وزنا بأمه بعد إكراهها وإجبارها على ذلك! يحدثني بهذا قاض من القضاة الذين حكموا بقتل هذا الواقع فيها وشربها (ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه) نسأل الله لنا ولكم السلامة في الدنيا والآخرة.
ثم إنها داعية إلى الزنا، وربما دعت -كما قلت- إلى الوقوع على المحارم من بنات وأخوات.
أما ذهاب الغيرة عن صاحبها فلا تسل، وسبيل الديوثية إلى داره ميسر يوم أن يقع فيها ويدمنها، ناهيك عن ما تورثه من الخزي والندامة والعار والفضيحة مع أنها تكسوه أقبح الأسماء والصفات، وتسلبه أجمال الأوصاف والنعوت.
أما هتكها للأستار فعجيب! وقد كذب ذلك الشاعر الذي قال:
وللسر مني موضع لا يناله جليس ولا يفضي إليه شراب
فكم ظهرت الفضائح، وهتكت الأستار، وشاعت الأسرار؛ بسبب كأس تلاها ثمالة.
أيها الأحبة! وحسبكم أنها أم الخبائث، والعجب في أقوام يجادلون في أنواع جديدة ومشتقات طارئة ويرون أن الخمر ليست إلا من العنب فحسب، فتجد بعض المعاندين الذين يعلمون علم اليقين حرمة ما يعاقرونه ويتعاطونه، وجحدوا بحرمته واستيقنت ذلك أنفسهم ظلماً وعلواً، ويلحق بهذا أولئك الذين يصرون على تعاطي المخدرات وما وافقها وأفضى إلى ما أفضت إليه، أو من يتعاطون القات وما شابهه في أحكامه، ولقد أجاد الشيخ/ حافظ بن أحمد الحكمي لما سئل عن القات والمخدرات والمسكرات والدخان أيضاً، فقال مجيباً بأبيات جميلة رقيقة لأولئك المتشككين في حكمها وبيان حقيقتها:
يا باحثاً عن عفون القات ملتمساً تبيانه مع إيجاز العبارات
كله لما شئت من وهن ومن سلس ومن فتور وأسقام وآفات
كله لما شئت من لهو الحديث ومن إهلاك مال ومن تضييع أوقات
لقد عجبت لقوم مولعين به وهم مقرون منه بالمضرات
في الدين والمال والأبدان بل شهدوا بسكرهم منه في جل المقامات
إني أقول لشاريه وبائعه إن لم يتوبوا لقد باءوا بزلات
كذا الدخان بأنواع له كثرت وغير ذلك من نوع الدنيئات
داء عضال ووهن في القوى ولها ريح كريه مخل بالمروءات
أليس في آية الأعراف مزدجر لطالب الحق عن كل الخبيثات
والنهي جاء عن التبذير متضحاً وعن إضاعة مال في البطالات
دع ما يريبك يا ذا اللب عنك إلى ما لا يريبك في كل المهمات
أيها الأحبة! آفاتها عجيبة، ولقد ذكر الشيخ البيحاني من علماء اليمن رحمه الله رحمة واسعة: أنها تخدر المراكز العصبية العليا، فيصاب شاربها بالجنون وضيق النفس والقلق الذي لا ينقطع، فيتداوى منها بها فيدخل دائرة الإدمان حتى يموت على ذلك، إلا أن يتداركه الله برحمة وتوبة.
ثم إنها تنبه القلب تنبيهاً شديداً يعقبه الضعف والهبوط المفاجئ، وتضعف مناعة الإنسان، وتعرضه للعدوى بكل مرض من الأمراض، ومدمن الخمر معرض للإصابة بالسل أكثر من غيره، ونسبة نجاح العمليات الجراحية في مدمني الخمر قليلة جداً، وقد أجري فحص دقيق في مستشفيات عدة للأمراض العقلية في أنحاء مختلفة من العالم، وقد أسفر الفحص أن ما يقرب من (50%) من نزلاء تلك المستشفيات من أهل الخمور وسلالة المتعاطين لها.
ثم إنها تتلف الكبد والكلى، وتسبب الضعف العقلي والجسمي والعصبي والجنسي أيضاً.(50/6)
أرقام تثبت أضرار الخمر
أيها الأحبة! لا أريد أن أطيل في ذكر أضرارها فائذنوا للأرقام أن تتحدث، وللإحصائيات أن تفصح؛ لأنني لا أظن كثيراً من الذين يتعاطونها خاصة في مجتمعنا يشكون في حرمتها، ولكن يزين لهم الشيطان الخلوة بها، أو ظنهم أن بعض جيرانهم لا يعلمون بها، ولقد علمت وعلم كثير من المحبين لإخوانهم وجيرانهم أن هناك من يظن أن ستره بها يعينه على التمادي والإدمان لها، وقد جهل المسكين أنه ربما خرج ذات يوم باختياره فأفصح عن نفسه وأبان عن ذاته وهتك الستر تحت الإدمان.
يقول الدكتور " هاينت " من منظمة الصحة العالمية: إن عدد الذين تقضي عليهم الخمر أكثر بملايين من عدد الذين يموتون من المجاعة في حزام الجفاف بـ أفريقيا.
ويقول الدكتور " كيف بول ": إن بريطانيا خسرت مليون إنسان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بسبب تدخين السجائر.
وأضيف نداءً إلى المدمنين على الدخان الذين يقعون في هذا بفتوى: إنها مكروهة.
سئل أحد علماء الشام من قبل رجل من العامة قيل له: يا شيخ! ما حكم الدخان؟ فقال: أريدك أن تذهب إلى الأطباء، النطاسيين الحكماء، واسألهم: هل فيها نوع نفع أم هي ضرر قاطبة؟ فإذا أخبروك بضررها قلت لك: إن الله قال في وصف نبيه: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وقلت لك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) قاعدة كلية في كل شيء ترِد حتى على مسائل التدخين، أن ما ضر فهو ممنوع ومنهي عنه ومحرم، ولعلماء نجد وعلماء الجزيرة قاطبة فتاوى ورسائل وكلمات مهمات في أحكام هذا.
أعود إلى الإحصائيات لنسمع ما تقول: أعلن وكيل وزارة الصحة الأمريكي: أن عدد الذين يموتون في الولايات المتحدة بسبب التدخين سنوياً يقدرون بنحو (350) ألف شخص، وقدرت زيادة أيام العطالة والبطالة عن العمل وملازمة الفرش للمرض بسبب التدخين بـ (77) مليون يوم عمل و (88) مليون يوم في ملازمة الفراش، و (306) ملايين يوم من العمل المحدود، أي من عدم التوظيف الكامل للقوة، أي من عدم العطاء الكامل بسبب التدخين والخمور والمخدرات.
وفي بعض الدول الأوروبية سرير واحد من كل ثلاثة أسرة في المستشفيات العامة يحتله ويرقد عليه مصاب بأمراض تسببها الخمور، أما الاضطرابات النفسية نسبتها بين أولاد المدمنين ثلاثة أضعاف نسبتها بين أولاد الأولياء الأسوياء، وتقول إحصائيات طب الأطفال الأمريكية في العدد الخاص عن المخدرات والخمر والجنس ما يلي: (93%) من الشباب بين الثانية عشرة إلى السابعة عشرة من العمر في هذه السن شربوا الخمر، وبلغ عددهم (21.
4) مليون فتى وفتاة، منهم (1.
2) مليون يتعاطون الخمر يومياً.
(13) مليون من الشباب من سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة يتعاطون المريوانا، منهم (1.
2) مليون يتعاطونها يومياً، (8) ملايين مراهق يتعاطون أقراص الإمنتمين ومشتقاته بالفم وأحياناً بالحقن والوريد، يبلغ عدد الحالات المسجلة في الدوائر الطبية رسمياً لمرضى السيلان مليون حالة سنوياً، بينما تذكر مصادر أخرى أن العدد الحقيقي (3) ملايين من الشباب (ربع هذا العدد الإجمالي).
زيادة نسبة (800%) في الحالات المشتبهة لسرطان عنق الرحم للفتيات البالغ أعمارهن ما بين الخامسة عشر إلى الثانية والعشرين عاماً، وذلك فقط في الأعوام ما بين (1970م) إلى (1994م) خلال أربع سنوات (800%) الاشتباه بحالات سرطان عنق الرحم.
في عام (1983م) بلغت حالات الاعتداء على الأطفال جنسياً مليون طفل، لدرجة أن هذا أصبح تجارة منظمة يبلغ دخلها ما بين (500) إلى (1000) مليون دولار سنوياً، ويعمل في هذه المهمة والوظيفة الدنيئة آلاف المصورين والكتاب والمؤلفين والأطباء وبعض القسس والرهبان أيضاً {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
وأستأذنكم أن أخرج قليلاً فأقول: ترقبوا سقوط المجتمعات الغربية مجتمعاً تلو الآخر، إن هذه الأنظمة ليس في حقيقتها وصلبها ما يدعو إلى البقاء، ولكل شيء نهاية، لقد عاشت هذه الأنظمة بعضها مائتين عام، وإن العد التنازلي قادم، لا تظنوا أن العد التنازلي واقع، ولا تظنوا أن البلاء بتسلط الأعداء على المسلمين، بل إن البلاء بين الكافرين أنفسهم ناهيك عن حقيقة ما هم فيه من الضيق والضنك والانتحار والقلق.(50/7)
ما يعانيه الغرب من الخمر والمخدرات
والله لو أن العالم الغربي صورته أجهزة التلفزة وأقلام الصحفيين، وكتب المؤلفين، وأفلام السينما وقصص الروائيين لو صورت هذا المجتمع على حقيقته لقوم لا يؤمنون إلا بالشاشة والإذاعة لرأيتم أن الغرب بجميع دوله أحقر من النجاسات والعذرات، ولكن الغرب لا يظهر في الشاشات إلا الصور المصطنعة المفتعلة من البشاشة المزورة؛ من التكافلات المختلطة من الاتصال، وحقيقة ما هم فيه على النقيض من ذلك أيضاً.
وحدثني بعض من له اطلاع إعلامي أن فيلماً أنتج بعنوان "أمريكا الوجه الآخر" صور لك ذلك المجتمع الآسن بما يدل على زواله وقرب انقسامه وفنائه وتدهوره، ولكن ما هو الحل؟ أين الطريق؟ أين المخرج؟ هل من سفينة تبحر بأولئك المبتلين إلى بر النجاة وشاطئ الأمان؟ لا حاجة إلى اجتهاد:
عطايانا سحائب مرسلات ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نور ونور ولكن ما رأينا السالكينا
الطريق إلى الجنة هو النجاة من هذا، لكن الجنة باتت عند كثير من الخلق رخيصة، وكما قال ابن القيم:
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان(50/8)
علاج الإسلام للمسكرات والمخدرات
أيها الأحبة! العلاج في الإسلام، ولقد سعت كثير من الدول بأبحاثها ومختبراتها وكتابها ومؤسساتها التربوية والإعلامية إلى محاربة هذه المخدرات، فجوبهت بالجرائم والدفاع المستميت عن هذا المشروب المخدر والمسكر، في ولاية من الولايات الأمريكية قبل قرابة ستين عاماً أراد حاكم الولاية بقانون أن يمنع الخمر، فكثرت حالات التهريب والترويج وتحدي أجهزة الأمن والمطاردات والقتل والاغتيالات؛ فعاد راغماً إلى إصدار قانون آخر يبيح الخمر للناس من جديد بعد زيادة أعداد من يتعاطونها.
والسبب واضح: لأن النفوس ما لم يكن فيها شرطي في الباطن، وجندي في الضمير، ورقيب عتيد يخشى الله ويستحي من الله كما قالت تلك البنية بعد أن أصدر عمر بن الخطاب مرسوماً يمنع فيه خلط اللبن بالماء، وقد تعود الناس هذا ليبيعوا ويكسبوا، فامتنعت تلك البنية بعد صدور قرار ولي الأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت أمها: لم لا تمذقين اللبن بالماء يا بنية؟ قالت: أما علمت أن أمير المؤمنين أمر ألا يمذق اللبن بالماء؟ فقالت: وأين أنت من عمر؟! إن عمر لا يراك ولا يرانا.
وكان عمر رضي الله عنه يتفقد أحوال رعيته، وكان في تلك اللحظات التي دار فيها ذلك الحوار الإيماني العجيب عند باب تلك الفتاة وأمها، فسمع البنية تقول: إن كان عمر لا يرانا فإن رب عمر يرانا.
بهذه النفس التي تراقب الله في السر والعلن، ما احتاج الناس إلى جواسيس أو رقابة أو شرط أو تفتيش في منع الخمر وتحريمها، كلمة {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فكان الذي رفعها إلى فيه يردها، وكان الذي أودعها فمه يمجها، وهم يقولون: انتهينا ربنا انتهينا.
ذلك الإيمان به يعلى الجهاد، وبه يقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه تحفظ الحقوق وتصان الأعراض، وتسعد النفوس، وتطمئن البشرية، وبغير هذا الدين، بغير هذا الإيمان فإن الناس لن ينزجروا عن كثير وكثير من المخالفات والجرائم ومن بينها المسكرات والمخدرات.
أيها الأحبة! يقول أعداؤنا: إن العلاج عندكم أنتم يا معاشر المسلمين، فهذا كاتب غربي ومستشرق أمريكي اسمه أفران فوجان يقول مخاطباً المسلمين: أرجو أن تنجحوا في الاستفادة من دينكم وقوانين شريعتكم، وليس هذا من أجلكم فحسب بل من أجل الإنسانية، إن لديكم مبادئ أصيلة من دينكم فبإمكانكم أن تنجحوا.
ويقول آخر وهو " جيمس بولدوين ": إن المعجزة التي حصلت: ذلك أن المدمنين الذين أثقلتهم الكحول والمخدرات يتغيرون فجأة عندما يعتنقون الإسلام، كما أصبحنا نرى الذين لم يسمعوا قبلها برسالة الإسلام يتعرفون عليها ويؤمنون بها ويتغيرون، لقد استطاع الإسلام تحقيق ما فشلت فيه أجيال من متخصصي العمل الاجتماعي، واللجان، والقرارات، والتقارير، ومشاريع الإسكان، ومراكز الترفيه، ألا وهو شفاء وإنقاذ السكارى والمتشردين وكسب الذين غادروا السجون وإبقاؤهم خارجها، إنه الإسلام الذي جعل الرجال أطهاراً والنساء فاضلات، وأعطى الرجال والنساء الاعتزاز والرصانة اللذين يحيطانهم كالنور الدائم! يقول هذا كافر من الكفرة، والحق ما شهدت به الأعداء.
أيها الأحبة! إن ذلك من ما يدعونا أن نتشبث بديننا، وأن نتمسك بديننا، وأن نعلم أنا أمة إن أردنا أن ننافس الناس بأعدادنا فقد هلكنا؛ لأن الكفار والمشركين والمجوس والهندوس والوثنيين أضعاف المسلمين، إنا لا نقاوم الناس بكثرة عدد، وإن أردنا أن نتفوق أو أن نحفظ أنفسنا بسلاح فما أظن أحداً يحفظ نفسه بسلاح يصنعه عدوه، ولكن إن حفظنا أنفسنا بدين، بحفظ الله (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك) نحفظ أنفسنا بهذا الدين، نحفظ أنفسنا بهذه الشريعة، بكل ما جاءت به من تشريع اقتصادي وسياسي واجتماعي وإعلامي وتربوي وكل جانب من جوانب الحياة.
وإن الذين لا يزالون يرددون النظريات الغربية أو يرونها أطروحة تحل مشكلاتنا؛ أولئك يمثلون وقد هدم المسرح، ويصفقون وقد خرج الجمهور، ويعيدون رواية قومية فاشلة، وعلمانية ساقطة، وبعثية زنيمة، فلا خلاص إلا في الإسلام ولا نجاة إلا بالإسلام {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(50/9)
سريان الداء في المجتمع ونتيجته
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بالإسلام وتعلقوا بالإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! أتعلمون إلى أي حد قادت المخدرات أتباعها وأذنابها ومتعاطيها ومروجيها؟ لقد بلغ بأحدهم أن يبقى حارساً عند الباب والمروجون يفعلون بزوجته!! لقد قادت المخدرات أناساً استدرجوا بناتهم الصغيرات لتفعل بهن الفواحش! لقد قادت المخدرات أناساً أن يُفعل بهم اللواط عياذاً بالله من ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله! اللهم احفظنا بحفظك، ولا تكلنا إلى أنفسنا، الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.
لقد قادت المخدرات شباباً إلى سرقة متاع وأثاث بيوت أهليهم من أجل حقنة أو حفنة أو سيجارة من حشيش أو هروين أو غير ذلك! لقد سرى ذلك الداء العضال والسم الزعاف حتى إلى الفتيات، وأصبح بعضهن يغري بعضاً، ويدعو بعضاً بعد أن اجتاحت أعداداً كبيرة من الشباب.(50/10)
واجبنا تجاه هذا الداء العضال
إنني من هذا المكان أقول: إن الإعلام لا يزال مقصراً في إعطاء هذا الجانب المكان الكافي والوقت المناسب لمحاربته وتحذير الناس صغاراً وكباراً من شره.
إن الإعلام يدخل كل دار بلا استئذان، وعليه أن يجعل أوقات الذروة والساعات الذهبية لمكافحة هذا الداء العضال، لمكافحة هذا المرض والسم الزعاف الذي انتشر سراً بين كثير من الناس وأصبحت تفجع وتفاجأ بأن بيت بني فلان فيه الأطهار والأبرار يقع فيه فتى أو فتاة في أضرار وأسر هذه المخدرات!
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وقعوا فيها قبل أن يحذروا منها، قبل أن يعرفوا عنها، استدرجوا إليها، استنزلوا من عصم مواقعهم إلى أوحالها ودركاتها فوقعوا فيها وهم لا يعلمون، ولما علموا دخلوا دائرة الإدمان، ولا سبيل إلا بالتوبة، ولا سبيل إلا بالرجوع والإنابة إلى الله جل وعلا.
وأنتم يا معاشر المصلين! خير من يملك حِبالاً ترمون بها إلى الذين يصارعون الموج غرقى يوشك أن ينحدروا إلى قاع أبحر المسكرات والمخدرات، الدعوة إلى الله من أهم الأسباب التي تبين للناس أخطار هذا الداء العضال، الشريط الإسلامي والكتاب والنشرة الموثقة من الأسباب المهمة التي ينبغي أن نقوم جميعاً يداً واحدة لنشرها بين الناس، وإن الواقع يحتاج إلى إصلاح في القاعدة كما يحتاج إلى إصلاح في درجات أخرى، والقاعدة: هم الناس، هم العامة، هم أبنائي وأبناؤك، أخواتي وأخواتك، أقاربي وأقاربك.
لابد أن نسعى إلى إصلاح هذا الواقع لا أن نتفاخر بدش يجر عشرين قناة أو أربعين محطة:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
تصوروا لو أن الأفلام المتحركة أو ما يسمى بالكرتون الذي يستغرق من البث الإعلامي قرابة الساعة أو أكثر من الساعة يومياً أعطي مثله أو محله أنشودة في التحذير من المخدرات، وقصة في التحذير من المخدرات، ورواية في سوء عاقبة أهل المخدرات، وأحكام وأحاديث وندوات في الأوقات الذهبية، أقول: في الأوقات الذهبية؛ لأن الحديث أثناء خروج الناس من بيوتهم لا يراه إلا نزر يسير، والشاشة جمهورها عريض فلا حاجة أن يخاطبوا عبرها يوم أن يجتمعوا حولها هذا من النصح والتناصح، لا خير فينا إن لم نتناصح، بل نكون خونة، وأقول هذا لكم أنتم لتتقدموا ببرامجكم الإعلامية إلى كل كاتب وروائي ومحدث وواعظ ومتكلم وطالب علم، عليك السعي أن توجد ساعة أو بضع ساعة ليكون لك صوت في نداء الناس وتحذيرهم من هذا الشر الذي ابتلي به الناس.
ثم أيضاً نحتاج أن نخاطب الذين يستهدفون بالمخدرات في مواقع تجمعاتهم، لا أن نقيم ندوة يحضرها من الأساتذة والمربين والأفاضل فنقول لهم: هذه أضرار المخدرات، أولئك يعلمون عنها علماً أكثر مما يتكلمه المتكلم، بعبارة أوضح: أين يجتمع الشباب؟ على مدرجات الملاعب الرياضية، فليرحل فريق من الدعاة إلى الملاعب الرياضية، وليأخذوا ما استطاعوا ولو بين الشوطين ليقولوا للشباب: هذا سم زعاف تستهدفون به، وليقولوا للشباب: احذروا قبل أن تقعوا، فدرهم وقاية خير من قناطير العلاج، نحدث الشباب في كل مكان يجتمعون فيه، أما أن تكون ندوة المخدرات أمام خمسة أئمة، وعشرة مؤذنين، وأربعة أساتذة، وثلاثة موجهين كل هؤلاء ما وقعوا ولن يقعوا بإذن الله فيها، الحديث لمن وقع أو في الطريق إلى الوقوع ذلك أمر مهم يجب أن نعلمه أيها الأحبة.
وختاماً: فإن مستشفيات الأمل تدعو كل ذي غيرة، وكل ذي كلمة، وكل ذي قلب رحيم، وكل ذي محبة لإخوانه أن يزورهم ويهديهم الكتاب، والشريط، والنشرة الموثقة، والكلمة الطيبة، والدعوة الصادقة.
ما أكثر الملتزمين! ما أكثر المتدينين! ما أكثر الصالحين في مجتمعنا! ولكن أخشى أن نكون كما في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
والله لو أن كل عشرة من الشباب المتدين جعلوا لهم برنامجاً في سجون الأمل وفي الإصلاحيات، وجعلوا لهم أصدقاء من أهل السجن لماذا لا نشكل جمعية أصدقاء السجناء، نتعهدهم بالزيارة، بالكلمة، بالشريط، بالدعوة، بالحديث، لماذا لا ينظم الشباب حفلات ترفيهية هادفة واعظة نافعة مرحة تجر أولئك إلى الالتزام والاستقامة؟ لماذا لا ينظم الشباب المتدين برامج العناية والرعاية اللاحقة أول ما يفرج عن سجين المخدرات يتولاه أولئك الأخيار حتى لا يعود من جديد إلى قافلة السكر والمخدرات.
إن المصيبة أن تجد كثيراً من النزلاء قد حل السجن قبل هذه المرة الأخيرة سبع مرات أو خمس مرات أو ثلاث مرات هنا مشكلة، هنا حلقة مفقودة، هنا قضية ينبغي تحديد السؤال عنها، وتشخيص العلاج لها: الرعاية اللاحقة.
أيها الأحبة! من السهولة أن نقول: تلك مسئولية الإعلام وحده، أو مسئولية الداخلية وحدها، أو مسئولية الجهات التربوية وحدها، علينا أيضاً مسئولية {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71].
وختاماً: هذه نصيحة من رجل بيننا وبينه قرون، أبعثها بالنيابة عنه، هو ابن رجب الحنبلي، من علماء المسلمين، يقول رحمه الله: يا شارب الخمر لا تغفل، يكفيك سكر جهلك، لا تجمع بين خطيئتين، يا من باشر هذه النجاسة بفمه اغتسل منها بالإنابة، وقد زال الدرن، طهروا درن القلوب بدمع العيون، فما يجلوها إلا التوبة، يا من درن قلبه بوسخ الذنوب لو اغتسلت بماء الإنابة لتطهرت، لو شربت من شراب التوبة لوجدته شراباً طهوراً، يا أوساخ الذنوب، يا أدران العيوب هذا مغتسل بارد وشراب، مجالس الذكر للمذنبين، شراب المواعظ، شراب المحبين، ترياق المفرطين {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] قد أدرنا عليكم شراب التشويق ممزوجاً بماء التخويف فبالله لا يبقى أحد منهم إلا وقد أناب إلى الكريم الوهاب، أليس من أهل الشراب من يبكي؟ أليس منهم من يضحك؟ أليس منهم من يطرب؟ أليس منهم من يتملق الناس ويتعلق بهم؟ أليس منهم من تثور نفسه فلا يرضى إلا بأن يطلق أو يضرب بالسيف ومنهم من ينام؟ فهكذا شراب المواعظ يعمل في السامعين: فمنهم من يبكي على ذنوبه، ومنهم بعد توبته من يضحك ويعجب من سالف عهده، ومنهم من يفرح لمحبيه وأحبابه، ومنهم من يتشبث بأذيال التائبين الواصلين لعله يعلق خطام راحلته على قطارهم، ومنهم من لا يرضى حتى يبت طلاق الدنيا ثلاثاً، أو يقتل هوى نفسه بسيف العزم، ومنهم من لا يدرى:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الفوائد حرقت محاجر عينيك الدموع السواجم
بل أصبحت في النوم الطويل وقد دنت إليك أمور مفظعات عظائم
تسر بما يفني وتفرح بالمنى كما سر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
وتدأب في ما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم
أيها الأحبة! فلنكن عناصر فاعلة، ورموزاً نافعة في معادلة إصلاح المجتمع، علينا أن نقوم بدورنا تجاه هذه الأمة التي بليت بفتن تشق صفوفها في داخلها، وتفرق اجتماعها، وبليت بمنافقين يتربصون بنا الدوائر وينصبون الفخاخ ويفرقون الشمل، وبليت بأعداء {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:120] فيا أحبابنا انفعوا، اعملوا، اسعوا، ابذلوا، ادعوا، ناصحوا، أعينوا، ادعوا الله، فإن لم تستطيعوا أن تفعلوا من ذلك شيئاً فلا تكونوا أعواناً للباطل على أهل الحق، ولا تكونوا دعاة للباطل من حيث لا تشعرون (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم جنبنا الخمر وأسبابها، اللهم جنبنا المخدرات وسبيلها، اللهم اشف المدمنين، اللهم اهد المروجين، اللهم عاف المتعاطين، اللهم سلمهم من دائها وبلائها، وتب علينا وعليهم يا رب العالمين، اللهم أعن رجال الأمن على مزيد من الحيطة والحذر والتفتيش الدقيق الذي لا يحابي أحداً في التفتيش والمحاسبة على كل ما يرد عبر أي حد أو مرفأ أو ميناء أو مدخل، اللهم ارزقهم الغيرة على دينهم وعلمائهم وولاة أمرهم وعامتهم والمسلمين أجمعين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في البوسنة والهرسك، اللهم انصر المسلمين في الفليبين، اللهم اجمع شمل المجاهدين في أفغانستان، اللهم أصلح حال المجاهدين في أفغانستان، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا، ولا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، ربنا أعنا وثبتنا ولا تفتنا.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته يا واسع المغفرة، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمد، اللهم صلِّ على الحبيب، اللهم صلِّ على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، اللهم صلِّ على من بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد فيك حق جهاده، اللهم صلِّ عليه وسلم تسليماً كثيراً ما تتابع الليل والنهار، وما ذكره الذاكرون الأبرار والأخيار، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(50/11)
الحل الأمثل
مسئولية إصلاح المجتمع يتحملها كل فرد بحسب قدرته، والتقاعس عن الصدع بكلمة الحق هو سبب هلاك الأمة.
ومن أعظم مسئوليات الأمة: المحافظة على المرأة في كل شئونها، ومحاربة الاختلاط، ومنع الفساد في الجامعات والمستشفيات.
وهنا دعوة لإصلاح تعليم الفتاة الجامعي، وإلغاء نظام الساعات لما فيه من المفاسد، وبيان إمكانية ذلك، وبعض المقترحات بهذا الخصوص.(51/1)
المسئولية المشتركة بين المسلمين
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، الحمد لله وعد الصادقين بالجزاء والنعيم، وتوعد المنافقين بالعذاب والجحيم، الحمد لله على آلائه التي لا تحصى، وعلى نعمه التي لا تنسى، اللهم لك الحمد كلما قلنا لك الحمد، اللهم لك الشكر والثناء، ولك الشكر والثناء كلما قلنا لك الشكر والثناء، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله خلق العباد من العدم، وهو أعلم بما يسرهم ويضرهم، وهو أعلم بمصالحهم وما يفسدهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
أشهد أن لا إله إلا الله أكمل الدين وأتم النعمة، ولم يجعل في هذا الكتاب نقصاً، لا يلحقه الباطل ولا يدركه، ولا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، أشهد أن لا إله إلا الله، من شرع فوق ما أمر الله فقد كفر، ومن ترك شيئاً من أمر الله عاصياً فقد فسق وجحد، ومن ترك شيئاً من أمر الله جاحداً ومنكراً فقد أشرك.
أشهد أن لا إله إلا الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حذر الأمة من كل صغير وكبير يجلب الشر والفساد والهوان إليها، وأرشد الأمة إلى كل صغير وكبير يحقق لها السعادة والأمن والطمأنينة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، واعلموا أن معاملة الله بالصدق هي النجاة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] واعلموا أن القدوم بين يدي الله قريب، وأن الوقوف بين يدي الله للسؤال كائن لا محالة، فمن عمل فسوف يسأل ومن سئل فليجب، ومن أجاب فهو بأمر ربه برحمة الله إن تداركته الرحمة والنعمة، ومن لقي ربه مفرطاً مستهزئاً مستهتراً مضيعاً متهاوناً مصراً مكابراً فالويل ثم الويل له.
معاشر المؤمنين! هذا الدين دين الإسلام، دين يقيم لمعتنقيه وأتباعه اعتباراً، ويقيم لهم وزناً، ويعد لهم حساباً، وذلك أن الإسلام يرى في المسلمين المكلفين أهلية لتحمل المسئولية، فيربي المسلم على الإيجابية والعطاء، ولا يتربى الشخص في هذا الدين على السلبية والحرمان، أو الأنانية والأثرة، أو حب الذات والانزواء عليها؛ لأجل ذلك فالمسئولية في هذا الدين ليست مسئولية تقع على كاهل فرد بعينه، أو وزارة بعينها، أو مسئول بعينه، وإنما هي مسئولية على المكلفين أجمعين، وواجبنا أن نتحمل مسئولياتنا، وأن نظهر بدين ربنا أعزة كرماء، كيف لا، والله قد أخذ العهد والميثاق على كل من حمل من هذا العلم شيئاً أن يبينه ولا يكتمه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وتوعد الله أولئك الذين يحملون العلم فيسكتون عليه والذين يعرفون الحق فينصرفون إلى ما سواه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
واعلموا يا معاشر المؤمنين أن المسئولية ليست على العلماء والدعاة وتلامذتهم فحسب، بل هي عليكم جميعاً، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الحاكم راع ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية ومسئولة عن أبنائها، والأب راع ومسئول عن أسرته، وكل من تولى أمراً فهو راع ومسئول، فهو مالك ومحاسب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] هذه مسئولية الحكام، وهذه مسئولية الولاة والأمراء، ومسئولية العلماء الذين تمكنوا وتولوا وتحملوا عبئاً ثقيلاً، مسئولية وتركة عظيمة سيسألون بين يدي الله بعد تمكينهم: هل أمرتم بالمعروف؟ وهل نهيتم عن المنكر؟ وهل أقمتم الصلاة؟ وليست هذه المسئولية عليهم فحسب، بل على كل من يسمع هذه الآية، وكل من يسمع هذا الكلام، وكل مصل وكل مسلم عليه مسئولية من ذكر أو أنثى، يقول الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فإن حق الإيمان وثمرته الولاية، ونتيجة الولاية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه المسئولية عظيمة جداً، وليست في جانب واحد بعينه، بل مسئولية في شتى المجالات والميادين، والأزمنة والأمكنة، والمواقع والمناسبات، مسئولية في كل جانب لإقامة الحجة ونصب الدليل وبيان المحجة، ونصيحة الأمة وكشف الغمة، والشر كل الشر، والبلاء كل البلاء، والفتنة كل الفتنة إذا تخلى وتنصل وتحلل، إذا تخلى من تعلق الأمر برقبته عن تحمل المسئولية حاكماً كان أو محكوماً، صغيراً أم كبيراً، أميراً أم حقيراً.
عباد الله! إن هذه المسئولية ألا وهي بيان حكم الله في كل صغيرة وكبيرة، ومسئولية بيان ما يرضي الله في كل جانب وفي كل مجال، ومسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مما تظافرت وتواترت به النصوص، فعن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: دخل عليها صلى الله عليه وسلم فزعاً يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها- فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث!) والخبث يا عباد الله: هو كل باب إلى الانحلال والاختلاط والزنا والفاحشة.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وقال الصديق رضي الله عنه: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) أبو داود والترمذي والنسائي.(51/2)
سبب هلاك الأمة
عباد الله! إن الجبن والخوف والتهاون والتقاعس عن الصدع بكلمة الحق هو سبب هلاك الأمة، وما أهلكت أمة من الأمم بعذاب عامة إلا لسكوت الأخيار والأبرار والأغيار، إلا لسكوت القلة القليلة فيها عن بيان حكم الله في كل واقعة ونازلة، في كل مجال وزمان ومكان.
إن صدع العلماء والدعاة والخطباء والأغيار، إن صدعهم بكلمة الحق هو صمام الأمان الذي يحفظ الناس فلا يصيبهم السوء ولا يقع ولا يحل بهم البلاء، وإن سكت الغيورون، وتنصل المسئولون، وكل آثر الأثرة، وحب الذات والأنانية، وانزوى على ذاته واهتم برصيده وأسهمه، وتعلق بمنصبه وترقيته، واشتغل بضياعه وزوجاته، فلا تسأل عن هلكته ولا تسأل عن هلكة الأمة بعده، إذا ضاع العالم ضاعت الأمة، وإذا تاه الدليل فلا تعجب إذا تاه الركب
تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيع الركب أذناب وأشباه(51/3)
مسئولية المحافظة على المرأة
عباد الله! إن المجالات الحساسة الخطرة التي تتحمل الأمة فيها أعظم المسئوليات، ألا وهي مسئولية المحافظة على المرأة، وصد كل حملة تواجه المرأة عبر الجريدة أو المجلة، عبر الفلم أو المسلسل، وتفنيد كل شبهة، سواءً كانت شبهة الأقلام أو شبهة الأصوات أو الجمعيات، أو الشعارات والتيارات.
إن من أعظم مسئوليات الأمة المحافظة على المرأة، وصد كل حملة توجه لها، وتفنيد كل شبهة تثار حولها، وفرض كل نظام يحفظ حياءها وعفتها، ويمنع تسيبها واختلاطها، كيف لا؟ كيف يقول قائل: لا؟ والأمر من الله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ويقول الله: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ويقول الله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] ويقول الله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنّ} [النور:31] وغيرها من الآيات الآمرة بالمحافظة على المرأة، الناهية بالدليل والمفهوم عن إهمالها وتضييعها.
عباد الله! كيف لا تتحمل الأمة وكيف لا يتحمل المجتمع مسئولية المحافظة على المرأة؟ وقد اعتبر الإسلام حقوقها ومنزلتها ومكانتها في العبادة والثواب والحقوق والملكية، وجعل لها أوفر الحظ في الحسنات، وأعلى المنازل في الدرجات، لقاء سيطرة على مملكتها، وبذل الحقوق الواجبة لزوجها، وحسن تربية أولادها؟ كيف لا تتحمل الأمة مسئولية المحافظة على المرأة، والمرأة لباس الرجل وهو لباسها؟ والمرأة سكن الرجل ومستقر طمأنينته ومودته وصلته في غاية الرحمة بينها وبينه؟ كيف لا تتحملون وكيف لا يتحمل المجتمع مسئولية المحافظة على المرأة المسلمة؟ وهي التي في صلاحها كل خير، وهي الجوهرة والدرة التي يتألق بها الرجل في معاشرتها بالمعروف، فيوصى بها خيراً وحسنى، ويعرف كرم الرجال ولؤمهم من حسن معاشرة النساء وعدمه؟ عباد الله! كيف لا نحافظ على المرأة المسلمة والنبي يوصينا بها خيراً، والبر بها من أعظم القربات، وعقوقها من أعظم الكبائر؟ كيف لا نحافظ على المرأة ولنا أوفر الأجر في تأديبها وتعليمها؟ قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان، فعلمهن وأدبهن واتقى الله فيهن، فله الجنة البتة) أبو داود والترمذي.
عباد الله! لقد سمعتم الآيات والأحاديث، واعلموا أن تفلت المرأة بعد هذا خطر عظيم وشؤم عميم، كيف لا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) ويقول: (فاتقوا النساء واتقوا الدنيا فإن أول فتنة بني إسرائيل إنما كانت في النساء) ونهى عن الاختلاط بها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
عباد الله! لم يقف الأمر عند هذا فحسب، بل تعلقت المسئولية بكل من ملك القرار، أو أدار الجهاز أو تحكم في الحوار، ولقد عرفنا وعلمنا أن الأوامر والتعليمات صدرت من ولاة الأمر في هذه البلد لمنع التسيب وقطع أسبابه ودابره، حتى لا تختلط المرأة بالرجال في أي مجال، صدر التعميم المبارك برقم (2966) وتاريخ (19/ 9/1404هـ) في هذا الموضوع، ونصه: نشير إلى الأمر التعميمي رقم (11651) في (16/ 5/1403هـ) المتضمن أن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاطها بالرجال سواءً في الإدارات الحكومية أو غيرها من المؤسسات العامة أو الخاصة، أو الشركات، أو المهن ونحوها، أمر غير ممكن سواءً كانت سعودية أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعاً، ويتنافى مع عادات وتقاليد هذه البلاد، وإذا كان يوجد دائرة تقوم بتشغيل المرأة في غير الأعمال التي تناسب طبيعتها، أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال فهذا خطأ يجب تلافيه، وعلى الجهات الرقابية ملاحظة ذلك والرفع عنه، انتهى بنصه.(51/4)
مساوئ تعليم الفتاة بنظام الساعات
عباد الله! ومع هذا كله وبالرغم مما تقرءونه وتسمعونه عن أهمية العناية بهذا الأمر، وخطر التهاون به، فإن تسيب الفتاة وإتاحة فرصة الانفلات بين يديها سانحة لا زالت قائمة، إن تسيب المرأة في بعض الدوائر وفي بعض القطاعات لا زال قائماً، ولا ندري من الذي يقف وراء هذا الأمر بعد كلام الله وبعد رسوله، ثم بعد الأمر والتعاميم الملكية السامية، لا ندري من الذي يقف وراء هذا ويماطل أو يسوف في سد ثغراته وتتبع منافذه بتعديل أو إصلاح، أتدرون أين هذا التسيب؟ إن صورة واحدة من صور هذا التسيب ظهرت جلية في جامعة الملك سعود في نظام الساعات الذي ثبت فشله، وثبت عدم صلاحيته، وثبت أثره في قلة تحصيل الرجل والمرأة، وفي ضعف المستوى العلمي، ذلك النظام الذي ثبت فشله أيضاً في المدارس الثانوية المطورة للبنين، والبنون أقل خطراً من البنات، ومع ذلك لاحظ المخلصون والتربيون والغيورون خطورته؛ لأن فيه فتح باب الجريمة والفاحشة بين الشباب، زيادة على ما فيه من التسيب والتفلت عن الانضباط التعليمي، فيخرج الشاب الساعة والساعتين عن مدرسته ولا تسأل عما يدور بينه وبين بعض المراهقين من أنداده وأضرابه.
إذا كان هذا خطر نظام الساعات على البنين الذي ألغي وتم إلغاؤه بفضل الله، فما بالكم بنظام الساعات في تعليم الفتاة؟ عباد الله كم لهذا النظام من ضحايا بين البنات قتيلات وجريحات وأسيرات؟ غريرات دخلن الجامعة وما كن يعرفن الفساد والجريمة، وما كن يعرفن الانحراف والزيغ والهوى، والشذوذ والفاحشة، فتعلمنه من فئات من البنات ممن سبقهن بالدراسة سنوات، وتتابع نسل المعاصي على يد أرباب الهوى والشهوات، ومن يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين والمؤمنات، فهل لهذا التسيب من حد؟ هل لهذا التفلت من حد؟ هل يتحرك الغيورون من ولاة الأمور، وأولياء أمور كل فتاة في الجامعة للمطالبة بإلغاء هذا النظام، وتحويله بدلاً من ترفيعه وتعديله؟ وإن قالوا فيه ما فيه من الكلفة، أو فيه من التكلفة المادية نقول لمن قال هذا: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:28] تتبعوا رضا الله، ومن تتبع رضا الله، ومن آمن واتقى فتحت عليه بركات السماء، وظهرت له بركات الأرض.
عباد الله! أتدرون ما نظام الساعات؟ أن تتخرج ابنتي وابنتك، وأختي وأختك، أو موليتي وموليتك من الثانوية فتلتحق بالجامعة فحينئذ لا تجد نظاماً يضمن لها أن تبدأ الدراسة في الصباح فتنتهي دراستها عند أذان الظهر، أو في ساعة محددة، إن نظام الساعات يعني أن تبدأ الدراسة في صباح هذا اليوم ثم تتعطل الفتاة ثلاث ساعات أو ساعتين ليس عندها درس أو محاضرة، ثم محاضرة قبيل الظهر، ثم محاضرة عند العصر، فما حظ ولي الأمر؟ ما حظ المسكين ولي هذه الفتاة؟ يرمي بها عند باب الجامعة في الصباح وتقول له: تنتهي آخر محاضرة عندي بعد العصر، أو قبيل المغرب، فيخرج الولي إن كانت فتاة طيبة لزمت عتبة قاعتها وما خرجت، وإن كانت غريرة أو جاهلة فضلاً عن كونها فاسدة أو منحرفة، فإنها تتلقى من صويحبات السوء وجارات الرذيلة ما تتعلم منهن به كيف تتصل في ساعات الفراغ بالشباب، وكيف تخرج إلى المطاعم، وكيف تخرج بحجة الذهاب إلى حاجة صغيرة أو كبيرة وماذا بعد ذلك؟ تخلو بالشباب، واسألوا هيئات الأمر بالمعروف، واسألوا هيئات النهي عن المنكر، كم ضبطوا من مئات، وأكثر من المئات من حالات الاختلاء المحرم، والخلوة بين فتى وفتاة وشاب وشابة لا تمت له بصلة، وبعد التحقيق والسؤال
و
الجواب
من أين أخذتها؟ من بوابة الجامعة، من باب الجامعة، من باب الكلية.
ساعتان أو ثلاث أو أربع أو أقل يحق لها في نظرها أن تسرح وتمرح بها كيفما شاءت، فيخرج بها أولئك الذئاب وأولئك المجرمون، ولا أكتمكم سراً، والله إن واحداً من الشباب ممن منَّ عليهم بالتوبة والهداية جاءني وأخبرني أنه في وقت ضلالته وماضي انحرافه كانت له علاقة بفتاة متزوجة تدرس في الجامعة لمدة ستة أشهر.
كيف يأتي إليها؟ أتأتيها في بيتها؟ قال: لا.
أتواعدها في السوق؟ قال: لا.
قلت: إذاً أين؟ قال: عند الجامعة.
يضعها زوجها وأنا أنتظره ثم تخرج لي بعد قليل، ويذهب بها ويقضي منها ويقضي زملاؤه منها أوطاراً، ثم يعود ليردها قبل نهاية آخر محاضرة لها، سواءً درست ذلك اليوم أو تغيبت، أو خرجت معه في وقت الساعات التي أتيح لها التسيب.
أبعد هذا نظن أن في هذا النظام بركة؟ أبعد هذا نظن أن في نظام الساعات خيراً للفتاة سواءً في تعليمها أو عفتها، أو حيائها أو حشمتها، أو الوفاء لأهلها، أو حفظ نسبها أو فراش أهلها، أو مستوى تحصيلها؟ والله ليس فيه أي فائدة، ما الداعي إلى الإمعان والمكابرة والبقاء على هذا النظام وما فيه أدنى فائدة؟(51/5)
منكرات في كلية الطب
أيها الأحبة! هذه أقل صور شؤم نظام الساعات في الكليات النظرية، أما كليات الطب فلا تسأل عما أحدثه هذا النظام، لا تسأل عما أحدثه من حرج للبنات العفيفات، ولأولياء أمورهن، من جراء الاختلاط بالرجال في مواقف شتى أدناها كشف الفتاة العفيفة على عورة الرجال المغلظة، ومع كثرة المساس يقل الإحساس، وطول السهاد، وقرب الوساد، وقرب المقاعد، وقرب الأقسام، واللقاء في الأسياب والممرات، وطول وقت الدراسة يهيئ للفتاة أن تتحدث مع الفتيان، وما أكثر اللائي ضللن وانحرفن.
معاشر المؤمنين! أترغبون أن تطلعوا على ما صرخت به المخلصات الغيورات من أخواتكم في كليات الطب وفي مختلف كليات الجامعة وفي السكن الجامعي؟ والله لا نحصي لكم عدد ما كتب في هذا الأمر، ولا نحصي عدد ما تلقينا من المكالمات الهاتفية من صرخات الغيورات يقلن: نريد أن نخدم بلدنا، نريد أن نخدم ديننا، نريد أن نخدم أمتنا فهلا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق الفساد عبر نظام الساعات، وعبر الخلوات، وعبر الاختلاط في الممرات وفي بعض القاعات؟ فيا معاشر المؤمنين! لمصلحة من يبقى هذا التسيب؟ ولمصلحة من يبقى هذا التفلت؟(51/6)
منكرات في المستشفيات
معاشر المؤمنين! إن الكلام عن المصائب والمهلكات التي يرقص عليها العلمانيون طرباً في كليات مختلفة يقصر مقام الخطبة عن ذكره، وأسوق لك شاهداً واحداً حصل لفتاة مسكينة في جناح أمراض النساء والولادة.
ذات مرة زرت قريبة لي في مستشفى الملك خالد الجامعي وكانت في جناح أمراض النساء والولادة، وبجوارها فتاة يفصل بينها وبين الفتاة حاجز قماش، فسألت قريبتي هذه ما حال هذه الفتاة؟ قالت: لا تسأل عن حالها وعن بكائها وآلام نفسها وجرح مشاعرها البارحة! فقلت: كيف؟ قالت: نزل بها الرجال إلى الإشاعة وقد لبست روب المريض، والروب الذي يلبسه المريض يستر المريض من الوجه ستراً مكشوفاً ساتراً عارياً كاسياً، وأما الخلف فمكشوف بالكامل! قالت: وخرج بها من يقود السرير إلى مقر الإشاعة، ثم أمسك ببدنها وأوقفها أمام مقعد الإشاعة وهو يعدل مواقعها وشيعها ثم عاد بها إلى المكان نعم لقد أدى وظيفته، لكن من الذي أذن لرجل أن يفحص زوجتي أو زوجتك؟ أو يتعرض للمس أدنى قطعة من بدنها؟ من الذي جعل هذا الأمر أصبح شيئاً طبيعياً فرض نفسه؟ لا، إن من المسلمين من يظن أن الإنكار في كل مجال إلا إذا دخل المستشفى فعليك أن ترضى بالأمر الواقع، لا والله، إنما نرضى بما رضي الله به، ونرضى بما رضي الرسول صلى الله عليه وسلم به، فما الذي يجعل هذه الفتاة المسكينة تتعرض لتجارب الشباب يدخلون عليها ويكشفون عليها ويجافون بين رجليها، وينظرون إلى عورتها المغلظة وسوءتها المغلظة بدعوى الكشف والفحص؟ أفلا يفحص الرجال على الرجال، والنساء على النساء؟ لماذا جرح المشاعر؟ ولماذا قتل الغيرة؟ ولماذا ذبح الشيمة والحياء؟ يا معاشر المؤمنين! لقد كان الجاهليون على كفرهم وضلالهم لا يقرون هذا في نسائهم، أفبعد أن هدانا الله للإسلام، ومن علينا به، وأسبغ علينا النعم والطمأنينة نرضى به ونحن في بلاد الإسلام وبين المسلمين؟ حاشا وكلا، إن الإصلاح منتظر وهو واجب ولا يعذر بتركه أحد أبداً.
عباد الله! إن التفصيل في مقام ما يحدث للفتيات وللفتيان في كليات الطب وفي العلوم الطبية وفي المستشفيات، أمر ليس اليوم زمان تفصيله، ولكن أقول لكم يا عباد الله: لو تتبعنا ما نحن فيه لوجدنا بوناً شاسعاً بين ما نعتقده ونقول فيه: هذا حلال وهذا حرام، وبينما نراه واقعاً في مجتمعنا، فلماذا الانفصام النكد؟ ولماذا هذا التجافي والبعد بين النظرية والتطبيق وبين الفكر والسلوك؟ معاشر المسلمين! إن أقل واجباتنا أن ندعو الله ليلاً ونهاراً أن يهلك من كان سبباً في الإمعان والضلالة والإصرار على بقاء هذا النظام، ادعوا يا معاشر المؤمنين فإن دعاء الغيور مستجاب، ودعاء من كانت غيرته لله ولحرمات الله وللمؤمنين أحرى في الإجابة، ادعوا على من كان السبب، وادعوا على من أصر، وادعوا بالتوفيق والصلاح والعز والتمكين لمن كان سبباً في بداية إصلاح لهذا الأمر، وهذا ما نرجوه وما نتوقعه.
وأما ما ذكرناه من وجوب الدعاء على من يحرصون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين مخالفين بذلك أمر الله وأمر رسوله، والأوامر والتعليمات السامية فإن أولئك من المنافقين، الذين ما خلا مجتمع منهم، وهل خلا مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين حتى يخلو هذا المجتمع؟ إن فيكم سماعين لهم، وإن فيكم من يتمنون في مجتمعكم الإرجاف، وإن فيكم من لا يألونكم خبالاً، وإن فيكم من يودون هوانكم، ويودون بعدكم عن دينكم ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(51/7)
إمكانية الإصلاح وإزالة المنكرات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، الحمد لله مالك الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، الحمد لله الذي لا يرد قدره بأمره وإرادته ومشيئته، ولا معقب لحكمه، لا يرد قدره راد إلا بأمره وبمشيئته، ولا معقب لحكمه، بأمره تقوم السماوات والأرض وبأمره تقوم الخلائق، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، واعلموا أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! لا تظنوا أنكم وحدكم أمة من بين سائر الأمم تمتعت بالأمن والطمأنينة والنعيم والاستقرار لا، إن أمماً قبلكم قد تقلبت فيما تقلبتم فيه، وأمنت فيما أمنتم فيه، وذاقت لذة ما ذقتم لذته، وأمنت بما اطمأننتم في جنباته، ولكن غيروا فغير الله عليهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
عباد الله! إياكم وإيانا أن نكون من الذين قال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29].
معاشر المسلمين! ينبغي أن نعرف أن الدنيا دول
هي الحياة كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
ويسرك الزمان بطاعة الرحمن، ويسوءك الزمان بالانقياد لأولياء الشيطان.
فيا معاشر المؤمنين! اجعلوا أمر دينكم أهم إليكم من الأسهم والسندات، واجعلوا أمر الشريعة والحياء والدين، وتعليم أبنائكم ما يسرهم، وبناتكم ما يحفظهن على نمط شرعي يرضي الله جل وعلا، اجعلوه أهم إليكم من مصالحكم الشخصية، ومن رواتبكم ومن أرصدتكم.
عباد الله! أتظنون أن ما نراه في مجتمعنا سنجعله دليلاً على اليأس والقنوط، ونفض اليد عن هذا المجتمع البتة؟ لا والله، إن ما نراه في مجتمعنا يدعونا أن نمضي خطوات للإصلاح، يدعونا أن نتبصر وأن نصارح وأن نصدق وأن نظهر الحقيقة غير مغلفة ولا مزيفة، إن ما نراه في مجتمعنا يدعونا كما علمنا وتعودنا أن نقول كلمة الحق، ونرجو ونأمل أن نسمع أثراً ونرى عملاً بعدها؛ لأننا جميعاً في سفينة واحدة، أكبر مسئول في هذه البلاد وأصغر صغير فيها نعيش في سفينة واحدة، فإن سلمت السفينة فالجميع يسلمون، وإن عطبت السفينة فالكل يعطبون، إن أبحرت السفينة إلى شاطئ الأمان فبمرضاة الله واتباع أمر الله ورسوله، وإن غرقت السفينة فبالمنافقين وبطانة السوء والعملاء والدخلاء، الذين يزيفون الحقائق، والذين يجعلون كل ما نرى من واقع فيه بعد أو مخالفة عن أمر الله وشرعه يعللونه بما يرضي الأهواء والشهوات.
عباد الله! سفينة المجتمع واحدة والغرق لا ينجو منه أحد بل يغرق الكل، والنجاة ينجو بها الجميع، إن الإصلاح سفينة الحياة، إن الإصلاح شعار الدعاة، إن الإصلاح سبيل الصادقين الغيورين، الذين يصدقون الحب والولاء لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
أنظن أن ما نراه من نظام الساعات هو ضربة لازب لا نستطيع أن نخرج عنها قيد أنملة أو نلتفت عنها يمنة أو يسرة؟ لا والله، هو نظام بشر، والبشر كل أنظمتهم نقص، إلا ما كان مؤيداً بالدليل والبرهان ومستنيراً بالوحي من كلام الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن هذا النظام في أبسط الوسائل أن يغير، بل أن يجعل في بوتقة إطار شامل يحفظ المرأة ويجعلنا نقوم بمسئوليتها على نحو يرضي الله جل وعلا، إن جامعة البنات هي الحل الأمثل والحل الوحيد الذي يضمن لكل فتاة في كل تخصص نافع وفي كل مجال، وفي كل مهنة أن تقوم بأقصى درجات التفوق، وأعلى درجات التحقيق والتحصيل العلمي، لكي تنفع بلادها، ولكي تحفظ بيتها، ولكي تكون داعية في مجالها، ما الذي يمنعنا؟ والله لا يمنعنا من ذلك شيء، وإننا نزفها ونرفعها وننادي بها إلى من عرفناهم من ولاة الأمور بالغيرة والنجدة والشفقة، والساهرين على هذا المجتمع أن ينظروا في الأمر وأن يستعجلوا في تبديله وتغييره وإلغائه في ظل جامعة البنات، التي آن الأوان أن تشق طريقها، وأن يبحر قاربها، وأن تحتوي البنات أجمعين.
إن تعليم البنات بفضل الله جل وعلا كما هو في الابتدائية والمتوسطة والثانوية يحكي أنموذجاً فريداً ليس في العالم الإسلامي وحده بل في العالم كله، فما الذي يمنع أن يكون تعليم الفتاة في الجامعة بشتى تخصصاتها ومجالاتها أيضاً أنموذجاً فريداً في العالم كله؟ والله لا يمنع من هذا شيء.
لا نظن أن ليس في الإمكان أحسن مما كان، الإصلاح ممكن، والفرصة مواتية، والجميع لا نعرف فيهم إلا الصلاح وحسن القصد والنية في إصلاح المجتمع وحفظ بيضته، إلا المنافقين الذين يتسللون لواذاً، والذين لا همَّ لهم إلا الإرجاف والتثبيط، فاللهم عليك بالمنافقين، اللهم عليك بالمنافقين، اللهم ما علمت في منافق إرجافاً وتثبيطاً وتخويفاً في هذا المجال اللهم إنا نسألك أن تكشف صفحته، وأن تفضح طويته، وأن ترينا فيه عجائب قدرتك، اللهم لا تحرك فيه ساكناً، ولا تسكن فيه متحركاً، اللهم عليك به، اللهم عليك به.
اللهم من علمت في هذه البلاد من منافق يتمنى لعلمائها وملوكها وأمرائها وعامتها ودعاتها والمحتسبين فيها، اللهم ما علمت في منافق إرجافاً وتثبيطاً اللهم عجل نهايته، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أذهب سمعه وبصره، اللهم أذهب سمعه وبصره، اللهم عطل أركانه، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وقارون وأبي بن خلف، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك.
اللهم عليك بالخونة الذين يظهرون في لباس الناصحين للأمة وتنطوي نياتهم على إفساد البنات، وإفساد الشباب، وإفساد مختلف المجالات، اللهم عليك بالخونة، اللهم عليك بالخونة، اللهم عليك بالخونة، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم أصلح بطانتهم وقرب لهم من علمت فيه خيراً لهم ولأمتهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم ولأمتهم، اللهم مسكهم بكتابك وسنة نبيك، اللهم نور بصائرهم بما يرضيك، اللهم اهد قلوبهم إلى ما يرضيك، اللهم ثبتهم، اللهم وفقهم، اللهم أعنهم، اللهم أعنهم على ما تحملوا من مسئولية في رقابهم عن كل مسلم ومسلمة، وفتى وفتاة، وصغير وصغيرة، وكبير وكبيرة، اللهم أعنهم على تحمل هذه المسئولية بالتمسك بكتابك وسنة نبيك وتقريب أوليائك وطرد المنافقين أجمعين يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم اجمع شملهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم احقن دماءهم، اللهم اعصم آراءهم، اللهم أقم دولتهم واكبت أعداءهم، اللهم انصر المجاهدين في كشمير وفي سيلان، وفي أثيوبيا وفي الفليبين، وفي فلسطين، وفي سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ بناتنا، اللهم احفظ زوجاتنا، اللهم من أراد بهن سوءاً وانحرافاً واختلاطاً وتبرجاً وفساداً اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم احفظنا واحفظهن، اللهم استر على بنات المسلمين أجمعين، اللهم اهد شباب المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين.
ربنا لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.(51/8)
المقاييس الفاسدة
إن الكثير من الناس يرتكبون أخطاءً عظيمة في مجتمعهم بسبب تصورهم أو قياسهم الفاسد، فالبعض يقيس أحوال بلاد الحرمين على أحوال مصر والجزائر وتونس، ويظن أن الدعاة في بلاد الحرمين سيقومون بما قام به الدعاة في تلك البلاد، وهذا من الأقيسة الفاسدة.
وقد تحدث الشيخ عن الخطر الذي يحدق بالمجتمع في المملكة، وهو خطر المنافقين والعلمانيين الذين لا همّ لهم إلا الإضرار بالدعوة والدعاة، وتحريض الحكام على صفوة المجتمع، كما بين الشيخ همَّ الدعاة وهو نشر الإسلام، وإصلاح المجتمع.(52/1)
القياس الفاسد مصدر الخطأ عند الكثير
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، القائل في محكم كتابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:8 - 15].
معاشر المؤمنين: معاشر المتقين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى فلا نجاة إلا بها قولاً وعملاً ومعاملة وظاهراً وباطناً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الأحبة في الله يخطئ كثير من المثقفين ويخطئ كثير من العوام في إصدار الأحكام وتكوين التصورات حول كثير من القضايا والمتغيرات والأحداث التي هي صورة طبيعية من صور السنن الاجتماعي، ومصدر الخطأ عند كثير من الناس في تصوراتهم وأحكامهم، مصدر خطئهم هذا أنهم يقيسون الأمور بعضها على بعض قياساً متنافراً أو قياساً مع الفوارق، أو قياس أمور لا يصح أن يقاس بعضها على بعض، فترى الكثير منهم يقيس الصريح على المؤول والمؤتلف على المختلف، والمحكم على المتشابه، وكل هذه من الأقيسة الفاسدة، أولئك الذين يلوون أعناق النصوص ويجرون التصورات والأفكار إلى قياس فاسد، وتطبيق وقائع داخلية على أحداث خارجية هم الذين ينشرون في أذهان كافة أفراد المجتمع تصوراً وأفكاراً كلها إرجاف وتثبيط وتخويف.
معاشر المؤمنين إن ما نراه من جهود علمائنا ودعاتنا، وولاة أمرنا، ينبغي أن نحرص على أن نجعل الهدف والغاية منه هو قصد الإصلاح، وقصد توجيه المجتمع إلى ما فيه كل خير، وما شذ أو خرج عن هذا القصد فلا حرج أن يقيم ويقوم، وأن يركز ويوجه ما دامت غاية الجميع الصغير والكبير والرفيع والوضيع والمسئول وغير المسئول، ما دامت الغاية هي إصلاح المجتمع والإبحار بسفينته إلى شاطئ الأمان وبر النجاة، يقول الله جل وعلا على شأن ذلك النبي الصالح الذي تناوشته ألسنة قومه بالتجريح، وتناولته أبصارهم حتى كادوا أن يزلقوه بها: يقول على لسانه: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] والمصلح شأنه وغاية همه وتقييم سعيه إنما هو بهدفه، ذلك الهدف النبيل المنبعث من الإخلاص ومن صميم الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة.
قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم).
وما دام الأمر كذلك فكل سعي يراد به الإصلاح فمحله المُقَل، ومكانه الرءوس، وخطابه يلقى أسماعاً صاغية وأفئدة مستجيبة متأثرة، هكذا ينبغي أن يقابل خطاب الإصلاح، وهكذا ينبغي أن يستمع إلى خطاب المصلحين الغيورين، إن الله جل وعلا يقول في محكم كتابه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] والنجوى قد نهي عنها إلا بأحوال وشروط، ومع ذلك فالله جل وعلا يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فالمصلح قد يسلك هذا الطريق، وقد يسلك غيره من أجل المسارعة في إنقاذ المجتمع وإنقاذ أبنائه وبذل ما في وسعه من جهد وتضحية بكل ما يملك، حتى لا تهوي السفينة في بحار الظلمات.(52/2)
قياس بلاد الحرمين على مصر والجزائر
معاشر المؤمنين ينبغي أن ندرك أن كثيراً من الذين يتكلمون عن واقعنا من حديث المجالس أو من اللقاءات المنفردة أو الجلسات المحدودة أو غيرها، بعض المسلمين -هداهم الله- حينما يتحدث عن جهود الإصلاح وعن المصلحين في هذه البلاد، يقيس ما يدور هنا على ما دار في مصر أيام جمال عبد الناصر، ويقيس ما يدور هنا على ما يدور في الجزائر وتونس، ويقيس ما يدور هنا على ما يدور في سوريا وغيرها وهذا هو ما أقصده بقياس فاسد، وبتركيب أقيسة مختلطة، لا يوجد علة بين الفرع والأصل حتى تكون الجامعة في القياس.
من أجل هذا -يا عباد الله- لما قيست هذه الأمور قياساً فاسداً أنتج ذلك تخويفاً، وأنتج ذلك إرجافاً، وأنتج ذلك شعوراً مخيفاً عند عند بعض الناس؛ والسبب في ذلك: هو ذلك القياس الفاسد، فما أن يرى جماعة من الدعاة أو يرى مجموعة من المصلحين يتبادر إلى ذهنه أن هؤلاء مثل أولئك الذين في تلك البلد الفلانية، ولست هنا أريد أن أطعن في الدعاة خارج هذه البلاد، ومعاذ الله أن تكون المنابر منزلاً أو مكاناً للطعن في الدعاة، بل إن المنابر من مهماتها الدعاء لهم، وسؤال الله أن يسدد خطاهم وأن يحقن دماءهم وأن يفك أسراهم، وأن يجبر كسيرهم، وأن يهدي ضالهم، وأن يجمع شملهم.
ليس الحديث هنا مقصود به تجريح الدعاة هناك، ولكن الذي نريد أن نبينه هو ألا يقاس أمر في الخارج على أمر في الداخل، لماذا؟ لأن أولئك ونحن بيننا وبين أوضاعهم الفرق الواسع والبون الشاسع الذي لا يمكن معه قياس أحوالهم على أحوالنا، نحن في بلد مسلمة، نحن في دولة مسلمة، نحن في حكومة مسلمة، ندين الله جل وعلا بهذا، ونلقى الله به ولا ننزع يداً من طاعة، ونعتقد ما يعتقده أهل السنة والجماعة، ومن معتقدهم: أنهم يرون الجهاد وإقامة الصلوات والجمعة والأعياد مع الأئمة أبراراً كانوا أم فجاراً هذا هو معتقد أهل السنة، وهذا معتقد أئمة الدعوة، وهذا معتقدنا، وعليه قام الأمر، واستتب الحكم، ومضت شئون الأمة.(52/3)
المداهنة في دين الله لا تجوز
لكن هذا لا يعني المداهنة، ولا يعني النفاق، ولا يعني السكوت عن كلمة الحق، بل إن أخلص الناس في صدق معتقده تجاه ولاة الأمور بما يوافق معتقد أهل السنة والجماعة، إن أخلص الناس في شأنه هذا هو أصدقهم عبارة، وأقربهم نصيحة ولو كانت قاسية:
وإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأبدان بالعلل
ويبقى الود ما بقي العتاب
إن العتاب والنصيحة والخطاب، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مجتمع كفار قريش يتلقفون الأفواه، ويتلقفون الزلة ويتلقفون الخطأ من صحابته، أو من سلوكه صلى الله عليه وسلم، وحاشاه وهو المعصوم ولكن بتفسيرهم الخاطئ، ومع ذلك إن الله جل وعلا لم يقل هذا نبي، ولا يمكن أن ينزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة فيه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا تستغله قريش، ويستغله الأكاسرة والقياصرة فسكت عن عتابه صلى الله عليه وسلم، بل ورد العتاب وجاء الخطاب بألذ صوره! بألذ أساليبه وألين عباراته! قال الله جل وعلا يعاتب نبيه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] وهذا من ألذ وألين أساليب العتاب، فبشره بالعفو وبشره بالمغفرة قبل العتاب معه في شأن أسرى بدر: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
ويقول الله جل وعلا معاتباً الصحابة: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] ويقول الله جل وعلا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] خطاب من الله لصحابة رسول الله، ولم يكن سبباً في منع نزول هذا الخطاب أو لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات التي فيها خطاب العتاب على الرسول والصحابة حتى لا تقول قريش أو يقول الكفار أو يقول المرجفون: إن الله عاتب نبيه أو عاتب أصحاب نبيه، بل جاء الخطاب وجاء العتاب: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10] كلها آيات مليئة بألين العتاب وأجمل الخطاب! وكله صواب من كلام رب الأرباب جل وعلا.
ومع ذلك لم يمتنع أن تنزل هذه الآيات خشية أن يقال على الرسول أو على صحابته: إن هذا مما يرجف بالصحابة أو مما يضر بمجتمع الدولة الإسلامية في المدينة، ما دام الأمر كذلك -أيها الأحبة- فلنعود أنفسنا على سماع كلمة الحق مع وضوح منهجنا.
إن الذين يقيسون مجتمعنا هنا على المجتمعات الخارجية قياسهم فاسد، ومن أفسد التصور أفسد الحكم والعمل، وما دامت تلك البلاد في مجتمعات أحوالها إما كافرة أو جاهلية أو ظلمات بعضها فوق بعض، فإننا ندين الله ونعتقد بأن هذا المجتمع مجتمع مسلم، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه خطيئة، ولا يعني المجتمع المسلم ألا توجد فيه معصية، وليس بالضرورة ألا يوجد في المجتمع المسلم منافقون.(52/4)
المنافقون والعلمانيون وخطرهم على المجتمع
إن هذا المجتمع مع صبغته الإسلامية وصفته الإسلامية لا يمتنع أن يوجد فيه العلمانيون، ولا يمتنع أن يوجد فيه المنافقون، كيف نغالط الحقائق أو نزور الأمور على أنفسنا ونقول: ليس في مجتمعنا منافقون أو علمانيون وقد وجدوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سلم مجتمع من المنافقين لكان أولى المجتمعات سلامة من المنافقين أصحاب الوجوه الذين يدخلون بوجه ويخرجون بوجه، ويظهرون بكلام ويبطنون ضده، ويصدق فيهم قول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206] لو سلم المجتمع من أولئك الذين يودون العنت والمشقة لنا، ولا يألوننا خبالاً، وفيهم وفي مجتمعهم سماعون لأهل الباطل وأهل الضلالة، وربما يفرحون مع أذنابهم أو من ينتسبون إليهم في أفكارهم شرقاً وغرباً على كل مصيبة كانوا يتربصون الدوائر بها على المسلمين والمؤمنين.
فيا معاشر المؤمنين ينبغي أن نفهم جيداً أننا في مجتمع يختلف عن سائر المجتمعات، وهذا المجتمع من أول خصائصه أن العالم الإسلامي ينظر إليه نظرة تختلف عن النظرة لسائر الدول والبلدان، إذا قلنا: المملكة العربية السعودية هل سيتبادر إلى أذهان السامعين المجوسية؟ أو النصرانية؟ أو اليهودية؟ أو يتبادر إلى أذهان الناس القاديانية والباباوية والنصيرية والدرزية؟ لا.
لا يمكن أن يتبادر إلى ذهن من سمع اسم هذا البلاد إلا دين الإسلام، وإذا ذكر الإسلام فأول بلاد تتبادر إلى الذهن هي هذه البلاد، وليس غروراً ولا إطراءً ولا إسرافاً في المديح، إن الإسلام والبلاد هذه وجهان لعملة واحدة، إن الإسلام وهذه البلاد هما وجهان لعملة واحدة، ولا يعني ذلك سلامة مجتمعنا من الأخطاء والنقائص أو انعدام وجود المنافقين في المجتمع، فهذه أمور قد وجدت في عصور الخلافات الراشدة، وفي عهد النبوة صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وفي سائر عصور التاريخ.
إذاً فما واجبنا؟ واجبنا أن نبدأ بكل صدق وبكل حق لإصلاح مجتمعنا، نحن في بيت قد أسس بنيانه وأقيمت أركانه واستتب نظامه، فما شأننا إلا أن نصلح الخلل في نوافذه، وأن نصحح الخلل في أبوابه، وأن نتتبع ثغرات النقص في جوانبه، هذه صرخات الدعاة، وصرخات المصلحين، وهذه صرخات الغيورين التي فسرها الفجار وفسرها الفساق بأن وراءها ما وراءها، وبأنها تريد الضلالة وتريد الفساد، وتريد أن ينفرط نظام عقد هذا المجتمع أو أن تنقلب طمأنينته قلقاً وفزعاً لا والله، ما هكذا شأن الدعاة، ولا شأن الأبرار، وما هكذا شأن الأخيار، مع أننا وفي قرارة علمنا أن هذا لم يدر بخلد أحد إلا بخلد المنافقين.(52/5)
المنافقون يطعنون دائماً بالدعاة والعلماء
نعم.
المرجفون الذين منهجهم منهج إمامهم الشيطان الذي يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
المرجفون منهجهم في هذه المسألة وإمامهم في هذا المنهج هو منهج الشيطان، ما يرون من خير إلا ويفسر بضده، ويفسر بأسوأ التفسير والاعتبار، وإذا ظهر في المجتمع ضلالة أو بداية انحراف أو جنوح إلى الفساد والغواية أو تخللاً ودخولاً في قلب أبناء المجتمع وفي جسده الذي هو يصارع أنواع العدوى الوافدة والمستوردة والمحلية، إذا رأى الغيورون فساداً حل بالمجتمع ماذا يقولون؟ لماذا تفسرون الأمور تفسيراً عكسياً؟ لماذا أنتم -أيها الدعاة- تفسرون الأمور تفسيراً عكسياً؟ لماذا لا يظن بالدعاة إلا فساد الأمور؟ لماذا لا يظن بالدعاة إلا كل تصور فاسد قد قيل هذا على ألسنة كثير من المخدوعين أو الجاهلين أو المغرضين، لما ظهرت دعوات مستوردة ووافدة تدعو إلى اختلاط المرأة بالرجل، ماذا قالوا يوم أن وقف الدعاة ووقف الأخيار والمخلصون أمام هذه الدعوات؟ يقول العلمانيون وأذنابهم: لماذا أنتم -يا معاشر الدعاة- لا تفسرون الأمور إلا بكل فاحشة، وبكل رذيلة وبكل فساد؟ ونقول لهم أيضاً، نقول للمرجفين: لماذا تفسرون كل خطوة وكل صرخة وكل تضحية بغال ونفيس من أجل إصلاح المجتمع، مع اعتقاد كاعتقادنا بأهم شئون ديننا أن مجتمعنا مسلم، نقول لهم: لماذا تفسرون هذه الاتجاهات الإصلاحية والدعوات نحو الإصلاح بإثارة الفزع والقلاقل والفتن وتقليب شأن المجتمع بعد طمأنينته؟ نعم.
نرد عليهم في باب مقام خطابهم بمثله، وإلا فالحجة فوق رءوسهم دامغة، والحق أبلج والباطل لجلج.
وحسبنا -يا معاشر المسلمين والمؤمنين- أننا نؤمن بسلامة موقف كل أبناء هذه الأمة في اتجاهها لعقيدتها ودينها، واقتدائها بنهج نبيها في شتى مجالات حياتها.
أما أولئك فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، نعم.
يريدون الدين في جانب ولكن لا حاجة إلى الدين في جانب آخر، لا تقال صراحة وإنما مغلفة مزيفة، أولئك ليسوا من أهل هذه البلاد، ليسوا من أهل هذا المجتمع، إلا أن يدينوا بما يدين به المؤمنون لله بأن الحكم لله: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ} [الأنعام:62] {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] إلا أن يدينوا بهذه في كل صغيرة وكبيرة.(52/6)
همّ الداعية أن ينتصر الإسلام
فيا معاشر المؤمنين إن ما نسمعه وما نراه من جهود الدعاة ومن نصائحهم ومن خطابهم، ومن توجيههم إنما هو لوجه الله، لا يريدون بذلك جزاءً ولا شكوراً، لا يريدون قرضة، ولا خطاً عريضاً في الجريدة، ولا زاوية أسبوعية، ولا مكافأة مالية، ولا مرتبة وظيفية، وإنما يريدون وجه الله، كما قال أحد السلف: وددت أن هذا الخلق أطاع الله وأن جسمي قرض بالمقاريض.
الداعية من السلف الصالح يقول: قطعوا جسمي بالمقاريض -أي: بالمقص- قطعة قطعة في سبيل أن يعود الناس إلى الله، والإمام العابد المجاهد/ عبد الله بن المبارك يقول: وددت أني أكون فداءً لأمة محمد.
ووالله إن الدعاة والمخلصين يودون أن يكونوا فداءً لهذه الأمة في سلامة دينها ونقاء عقائدها، واجتماع شملها ووحدة صفها واجتماع كلمتها، ولو كانوا هم الفداء بذلك، ولكن كما قال القائل:
نسجت لكم غزلاً رفيعاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
بعض الناس لا يرى إلا أن كل صيحة وكل كلمة وكل صرخة وراءها ما وراءها، ووراء الأكمة ما وراءها، إنا لا نعني بذلك أن تعطل العقول، ولا أن نلغي سبر الأقوال والمقاصد والكلمات، ولكن ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله على لمحات وجهه وفلتات لسانه، إنك لترى وتفرق بين خطاب المخلصين والمنافقين، وتفرق بين الذين يدّعون حقيقة الإخلاص دعوى زور وبين الذين هم يمثلون حقيقة الإخلاص لهذه الأمة.
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة بسعدى شفيت النفس قبل التكلم
ولكن بكت قبلي فهيج للبكا بكاها فقلت الفضل للمتقدم
ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، نعم.
إن الدعاة حينما يذرف أحدهم دمعة خرجت من قلبه قبل أن تخرج من عينه، وحينما يقول كلمة تلجلجت في صدره وتفاعلت في سويداء فؤاده قبل أن تخرج على لسانه، أما أولئك الذين يريدون بالكلمات أي مصلحة من مصالح الدنيا فنقول لنا ولهم ولأنفسنا ولغيرنا: سيجمع الله الأولين والآخرين في مقام واحد، ويقول سبحانه: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] حتى الصدق أنت مسئول عن الصدق فيه: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] وسينكشف غداً الذين كانوا على حقيقة الإخلاص والولاء لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم، سينكشف أولئك وينكشف الذين يدّعون هذا.
ولست هنا أفرق مجتمعنا لكني أقول: إن المجتمع لا يخلو من المنافقين، لا يخلو من المرجفين، لا يخلو من المثبطين الذين منهجهم عدة الشيطان الأمر بالفحشاء والتخويف من الفقر.
نسأل الله أن يحفظنا وأن يجمع شملنا وشمل ولاة أمرنا وحكامنا وعلمائنا على ما يرضيه، إنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(52/7)
فرح المؤمن الصادق بعودة الناس إلى الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله إن الدعاة إلى الله، إن الآمرين بالمعروف، إن الناهين عن المنكر، من فرط غيرتهم على دينهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم وعلمائهم وولاة أمرهم وعامة المسلمين أجمعين، صغيرهم وكبيرهم، صالحهم وفاسقهم طالحهم وبرهم، إن أولئك من فرط غيرتهم على المجتمع تجد الواحد منهم يحترق ليل نهار، ويسعى ذهاباً وإياباً، ويصبح ويمسي ويحل ويرتحل، يستبشر بشارة عظيمة، يوم أن يرى ضالاً هداه الله، أو منحرفاً عاد إلى المسجد، أو عاقاً بر بوالديه، أو قاطعاً وصل رحمه، أو مجرماً تاب وآب إلى الله جل وعلا، أما أعداء الدين وأعداء الأمة وأعداء المجتمع فيفرحون بما نشر من الفساد وشاع من الفاحشة في المجتمع، فأي هذين أحب إلى القلوب؟ إن قلوب البهائم ليست قلوب البشر تميل مع من أحسن إليها وداوى جراحها، وجبر كسورها وأصلح شأنها وأطعمها نصيحة صادقة، وسقاها وداً خالصاً، أما الذين يدعون الإخلاص دعوى لا حقيقة لها، فإن ابتسمت الوجوه أمامهم ابتسامة صفراء أو هزت الرءوس أمامهم هز المنافقة والمداهنة، فليس أولئك لهم مكان في قلوب الناس.(52/8)
التدرج في الإصلاح سنة كونية
معاشر المؤمنين والذين ترونهم من فرط غيرتهم على إصلاح مجتمعهم ليسوا أيضاً من البله أو من الحمقى، أو من الأغبياء الذين يفرحون ويريدون أن يصلح المجتمع بين عشية وضحاها، إن الله جل وعلا من سننه التدرج، ما خلقت السماوات والأرض في يوم واحد: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] وما نزلت الأحكام جملة واحدة، وإنما نزلت تدريجية ونزل التشريع فيها متدرجاً، وإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) ولم يقل: إن أول ما تدعوهم إليه توفير لحاهم، أو الصدقة أو الزكاة، بل قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) الأولى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والثانية: الصلوات الخمس: (فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم إلى آخر ما جاء في الحديث) فالتدرج في التشريع والتدرج في الإصلاح سنة ماضية، والدعاة يوم أن يقولوا: إن المجتمع بحاجة إلى أن تتظافر جهود العلماء والولاة والمفكرون، وأساتذة الجامعات وأرباب التجارب الطويلة والخبرات النافذة، يوم أن يقولوا: ينبغي أن تجتمع هذه العقول وهذه الجهود، لا يقولون: إن المجتمع سيصلح بين عشية وضحاها.
حينما نتكلم عن إصلاح البنوك أو عن التخلص من الربا، لا يعني ذلك أن ينتهي الربا في يوم وليلة، وإن كنا نسأل الله صباح مساء ألا يبقي للربا بقية في دينار ولا درهم، لكن التدرج أمر طبيعي مطلوب، وكذلك في إصلاح الإعلام، أو في إصلاح التعليم أو في إصلاح كثير من المجالات، واضرب لما شئت من كل مثل تصل به إلى فائدة التدرج حتى في إصلاح الفرد، إنك يوم أن تدعو شاباً وهو لم يرتبط بأجهزة ولا بمؤسسات ولا بدوائر عدة، لا يعقل أن تبدأ في إصلاحه في أموره كلها، أو أن تبدأ بصغير ذنوبه قبل أن تلاحظ كبيرها، فخذ على سبيل المثال رجلاً لا يصلي ويدخن ويسبل ويسمع الغناء ويشرب المسكرات، فهل من العقل أن تبدأ بإصلاح إسبال ثوبه أو بتوفير لحيته؟ هذا جنون، تبدأ فيه بأن يصلي مع المسلمين، بأن يحضر الصلاة مع الجماعة، ثم تبدأ به في إصلاح كثير من أحواله، ثم يأتي الحديث عن تدخينه ويأتي الحديث عن سماع الأغاني واللهو، ويأتي الحديث عن شربه للدخان بعد حديثه عن المسكرات وغيرها.
إن الدعاة ليسوا أغبياء، ويفهمون أمور التدرج فهماً طبيعياً، وأيضاً خطابهم مع كل فرد في إصلاحه بأن يتدرج، وليس بالضرورة إما أن نصر على عشرة ذنوب أو أن نقلع عنها فوراً، نعم.
نتمنى ونود ونشتهي وندعو أن يتوب العبد من كل ذنب في ساعة واحدة، وأن يعود إلى الله جل وعلا عوداً سريعاً حميداً، ولكن -يا معاشر المسلمين- إذا لم يتحقق ذلك إما أن نقول: تب منها جميعاً أو ابق عليها جميعاً لا.
فلئن قال: أتوب من خمسة وأسأل الله الذي فتح علي بالتوبة من الخمسة أن يتوب علي في ما بقي منها فهذا أمر مطلوب، وهذا أمر مشروع، وهذا أمر مقبول، الذي أردناه أن نفهم أننا لن نفرط بمجتمعنا، ولن نتساهل بأمر مجتمعنا، وسنظل نصرخ ونتكلم ونقول ما نعتقد أنه يرضي الله جل وعلا، وتبرأ به الذمة نصيحة لولاة الأمر ولعامة المسلمين وإلا فستشهد المنابر علينا يوم القيامة أننا ارتقيناها فداهنا ونافقنا فيها، ستحاسبنا المنابر يوم القيامة أننا وقفنا عليها ولم نؤدِ صميم الكلمة بصدق وإخلاص إلى عامة المسلمين وصغيرهم وكبيرهم.
فيا معاشر المؤمنين هذا تعقيب على الجمعة الماضية يوم أن نقول: إن الإسلام قد أمرنا بأن نتحمل مسئولياتنا، ومن أهم مسئولياتنا المحافظة على المرأة حتى لا تقع في التفلت والتسيب، وإن جوانب التفلت والتسيب قد تبدو موجودة في بعض الثغرات الموجودة، في بعض المجالات الموجودة فإنها دعوة إلى الإصلاح، دعوة إلى أن نمضي خطوة إلى الأمام، ولأن نوقد شمعة في الظلام خير من أن نلعن الظلام ألف مرة، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة هذا لمن جمع الهمة وعزم القصد وأخلص النصيحة للمسلمين أجمعين.
اللهم لا تفرق جمعنا، اللهم لا تشتت شملنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.(52/9)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في رغد العيش وأمن البلاد
أيها الأخوة في الله إنكم في بلاد ليست كسائر البلدان في مساحتها، قارة كبيرة، أطرافها مترامية، وسكانها بفضل الله جل وعلا مسلمون وإن كان مضى من عهدهم وعصرهم من الثارات القبلية والصيحات العرقية ما مضى فقد وحد الله شملها، وجمع أطرافها بدعوة المجدد محمد بن عبد الوهاب، ومن وقف معه صادقاً مخلصاً محمد بن سعود رحمهم الله جميعاً، وتوالى الأمر على هذه البلاد تعثر تارة وتقوم تارة، أما وقد قامت بفضل الله جل وعلا وتفيئنا ظلالها وتفكهنا بثمارها، واستفكهنا سماءها ومشينا بأرضها وأكلنا خيراتها بفضل الله وحده، بفضل الله وحده، بفضل الله وحده، ثم بجهود المخلصين أجمعين، لن ننسب الفضل إلى أحد بعينه، بفضل الله أولاً، ثم بفضل جهود المخلصين أجمعين مجتمعة من علماء وولاة أمر ومصلحين وغيورين وآمرين بالمعروف ودعاة وناهين عن المنكر.
لم جمع الله لنا هذا كله؟ أمن المعقول أن نتساهل بهذا الخير، الذي نعرف أن سببه هو دين الله جل وعلا، الذي نعرف أن سببه هو التمسك بالعقيدة، الذي نعرف أن سببه إقامة الصلوات في المساجد، الذي نعرف أن سببه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل سوق وفي كل طريق، تلك الشعيرة والركن العظيم الذي لم يسلم من ألسنة الناس في المجالس، ولم يسلم من افتراءات الكذبة واختلاف المزيفين، تجد كل يفتري ويؤلف ويختلق فسقة يتفكه بها ويتندر بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وما علم أولئك السفلة وأولئك الجهلة الذين يتندرون بالهيئات والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ما علموا أن أمنهم في بيوتهم، وأن الناقلات التي تجلب خيرات البلدان إلى أسواقهم وأن حدودهم الآمنة، وأن استتباب الأمن في مجتمعهم إنما هو بأسباب من أهمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود:116].
المترفون والفاسقون والمنافقون يتبعون ملذات الانحراف، ولتهلك السفينة، وليهلك المجتمع، وليهلك كل من في المجتمع من أجل غانية لا توقف في السوق، ومن أجل فاجر لا يساءل حينما يشتبه فيه، هكذا يريدون: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117].
تذكروا دائماً: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وتذكروا دائماً أن البلدان التي تشتعل فيها الحروب الآن، ويشكو أصحابها من المجاعات ويتضوعون من الأسى والعطش، ويتقلبون في الكهوف من البرد والزمهرير، كانوا يوماً مثل حالكم هذه، كانت الأمم قبلكم فيما أنتم فيه الآن، من كل خير يجبى إليهم ثمرات الدول إلى أسواقهم، والآن غيروا فغير الله عليهم، غيروا أحوالهم فغير عليهم من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الاجتماع إلى التشرد.(52/10)
لابد أن يكون المسلم غيوراً على دين الله
عباد الله: اثبتوا على دينكم، وتمسكوا بدينكم، وكونوا غيورين على نعمة الله، كونوا غيورين على نعمة الله، إن الله يغار، وغيرة الله أن يزني عبده أو تزني أمته، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد بن عبادة؟ والله إني لأغير من سعد، والله أغير مني) كونوا هكذا على مستوى الغيرة، ونطالب كل مسلم بالغيرة ولو كان حليقاً أو مدخناً أو يسمع الغناء أو يسبل ثوبه؛ لأن هذه معصية فرعية جزئية، لكن التهاون بأمر الدين مصيبة عظيمة، ربما مصيبة الذي يدخن أو يسمع الغناء على نفسه، لكن حينما تهدم عرى الإسلام ويسكت عن المنكر، وتنتشر الفواحش ويكثر الفساد، ويشيع الخبث ويفشو الخنا هذا جرح بل سرطان، وشتان بين من بأصبعه جرح ومن ببدنه سرطان.
هكذا فلنكن غيورين على هذه النعمة، أليس عندكم أطفال؟ أما عندكم بنيات صغيرات؟ تمشي البنية في ثوبها فتتعثر وتسقط؟ أليس عندك ولد صغير يغاغي بأبيه وأمه حينما يلقاك قادماً من عملك؟ أما تخشى الله في هذا الطفل؟ أما تخشى الله في بنيتك؟ أما تخشى الله في أخواتك وإخوانك: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] والله إني لأجلس أحياناً فيمر أولادي أمامي الصغار هذا يحبو وهذا يمشي ويتعثر وهذه تبكي فآتي إلى الصغير وأضمه، وإلى الذي يحبو فأشمه، وإلى الذي يرضع فأعطيه حليبه، وأقول: ها أنا اليوم عندهم، قد بكوا فدنوت لأعالج جراحهم، قد بكوا فدنوت لأسكت بكاءهم، لكن يا ترى ماذا يخبئ المستقبل؟ ماذا يخبئ المستقبل؟
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
نعم نعد شيئاً واحداً يحفظ هؤلاء الأطفال الصغار ويحفظنا ونشكر به نعم ربنا: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] إن نتق الله جل وعلا، وتقوى الله هي خير ضمان لهؤلاء الأطفال الذين نراهم، إياك أن تفكر فقط بنفسك، فكر بالجيل الذي بعدك، تصور حال أبنائك وأبناء أبناك وأطفالك وأحفادك، تصور حالهم هل يدومون على هذه النعم التي أنت فيها؟ فإن أردت ذلك لهم فكن غيوراً على دين الله، حتى يتفيئوا النعم التي تنعمت بظلالها وأرضها وسمائها.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم لا تفرّح علينا عدواً، اللهم لا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد خاصة، اللهم اجمع شملنا في هذه البلاد خاصة وحكامنا وعلماءنا وولاة أمرنا، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، اللهم اهدهم، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم قرب من علمت فيه خيراً لهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم، اللهم قرب لهم من يبشرهم بالخير ولا يخوفهم منه، اللهم قرب لهم من يعينهم على الخير ولا يعينهم على ضده، اللهم قرب لهم من يعينهم على ما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم اهد شباب المسلمين ونساء المسلمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم لا تحرمنا بذنوبنا فضلك، اللهم لا تحجب عنا بمعاصينا رحمتك، اللهم إن كثرت ذنوبنا فإن فضلك أكثر، وإن كثرت معاصينا فإن رحمتك أكبر، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم إن بالعباد والبهائم والبلاد من الجوع والعطش واللاؤاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم اكشفه عنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(52/11)
الشباب والرياضة
في هذا الدرس يتطرق الشيخ إلى موضوع (حال الشباب رياضياً عند الفوز).
فمع الفوز والانتصار تكون مشاعر الفرح والسرور، لكن عندما يزيد الشيء عن حده ينقلب إلى ضده، وهنا كانت فاجعة الحدث الرياضي الذي حصل في البلاد نتيجة ما قام به الشباب من تصرفات سيئة مع نشوة الفرح بفوز فريقهم الرياضي؛ أدت إلى ارتكاب كثير من المعاصي والمحرمات في الطرق والشوارع.(53/1)
فاجعة الحدث الرياضي
الحمد لله الذي نصر عباده المؤمنين بإعلاء كتابه وسنة نبيه، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! منذ ثلاثة أسابيع تقريباً مرَّ على الساحة حدث رياضي أشغل الأمة شغلاً عجيباً، وكانت نتائجه مخزية -والله- أمام الله، وليس الاعتراض أو المناقشة على المباراة أو على الدوري، فالكلام في هذا في مناسبة أو في مقام أو مكان آخر، وليس حقاً أن نفرد هذه المباراة، أو هذا الموضوع بالمناقشة ونترك ما قبله أو ما بعده سليماً منها، لكن الذي نناقشه ونطرحه أمام إخواننا المسلمين ليأخذوا العظة والعبرة والدرس هو ما نجم عن ذلك الحدث، فكم أشغلت سيارات الإسعاف في تلك الليلة، وكم أشغلت أجهزة الأمن في تلك الليلة؟ وكم ارتكب من معصية في تلك الليلة؟ وكم حدث، وكم صار، وكم مضى، وكم وكم؟ وزد وقل ما شئت فوق ذلك من أمور لا يليق هذا المقام بذكرها، ولولا أن يخشى الإنسان أن يقع في قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19] لسردنا عليكم أقوالاً وأحداثاً سمعنا بها، ولولا ما قيل أنه: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) لسمعتم من ذلك المزيد والمزيد، ولكن:
يكفي اللبيب إشارةٌ مرموزةٌ وسواه يدعى بالنداء العالي(53/2)
سوء تصرف الشباب
أيها الأحبة في الله! لقد امتلأت الأسواق، وازدحمت الطرقات، وأوذي المسلمون من قبل فئة قليلة من الشباب هداهم الله، وردهم إلى الحق رداً جميلاً، وليس عجيباً من أولئك، وليس بدعاً في سلوكهم، وليس غريباً في تصرفاتهم، فلا يأتينك من وادٍ إلا سيله، وكل إناء بالذي فيه ينضح، والألسنة مغاريف القلوب، فما سمعتم من الصيحات والأهازيج والهتافات إنما ذاك أمرٌ أخرجته الألسنة، وقد كان موفوراً قابعاً في الصدور والقلوب، وما رأيتم من التصرفات والأفعال، فذاك مبلغ أفعالهم، ومبلغ ما يدور بخلد الكثير منهم.
إذاً يا عباد الله! لا ننتظر من أولئك الذين أشغلوا عباد الله ليالي معدودة يدورون بالطبول والأعلام، ويجوبون الشوارع والطرقات بالأهازيج والصيحات، بل وأشد من ذلك يعتدون على الأبرياء من الذين لا ساغية لهم ولا راغية، ولا ناقة لهم في هذا الأمر ولا جمل، فهذا هو العجب، وهذا هو الخطر، وهذا هو عين المصيبة.
هل بلغ بالشباب جنون الكرة إلى حدٍ تغلق فيه الطرقات؟! هل بلغ بالشباب جنون الكرة إلى حدٍ توقف فيه السيارات في الشوارع؟! والله يا عباد الله! إن هذا أمر لا يليق السكوت عليه ولا يجوز ولا ينبغي؛ لأن العاقبة التي بعده وخيمة، ولأن خطر السكوت أعظم، يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] فما حال هؤلاء مع الاستجابة؟ أترون الاستجابة لله ولرسوله أن تكون بهذا الأسلوب، أو بتلك الوسيلة، أو بهذه الطريقة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] ثم يقول الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
والله، ثم والله، ثم والله، إن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، فلا يستبعدن أقوامٌ عاقبة هذه الأفعال الشنيعة، ولا يستبعدون قرب حدوثها ما لم يراجعوا ربهم، وما لم يتوبوا، وما لم نأخذ جميعاً على أيدي الظالمين، وعلى أيدي المستهترين من أولئك الشباب.
أيها الإخوة! لو كانت عقوبة الأفعال والجرائم تنزل خاصة بهم، لكان الأمر هيناً ميسوراً، لكن العقوبة إذا نزلت عمت، ويبعث الناس على نياتهم يوم القيامة.
عباد الله! لا ننتظر من أولئك الشباب أن يعظوا الناس في المساجد، فالكلاب لا تجيد غير النباح، ولا ننتظر من أولئك الشباب أن يكونوا أئمةً أو هداةً مهتدين في ذلك الوقت؛ لأن القطط لا تجد غير المواء، لكن المصيبة أن يسكت كل واحدٍ منا، وألا يمسك بتلابيب من يراه من الشباب مخوفاً له بالله ألا تتق الله، ألا تخشى الله في نعمة الله، شبابك، قوتك، سلطتك، أيديك، وأرجلك، أعينك، وسمعك، وبصرك، أكل هذا الذي خلقه الله تسخره في معصية الله؟ فما حالك لو سلب منك شيء واحد من هذا؟(53/3)
اتخاذ آيات الله هزواً ولعباً بعد الحدث
أيها الأحبة! إن الأمر الذي هو أدهى وأمر أن اتخذت آيات الله هزواً ولعباً بعد هذا الحدث الرياضي: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] تقال وترفع هذه الآية فوق تهنئة بالفوز في هذا الحدث الرياضي، متى أصبحت آيات الله هزواً ولعباً؟! قولوا ما شئتم، تكلموا كيفما شئتم إلا كلام الله الذي نزل من فوق سبع سماوات، إلا كلام الله الذي يكفر من استهزأ به، إلا كلام الله الذي يكفر من جحد حرفاً واحداً منه، إلا كلام الله الذي يكفر من غالطه أو عانده، إلا كلام الله الذي نزل به أجل الأملاك جبرائيل على نبينا عليه الصلاة والسلام، إلا أفضل الذكر الذي حفظه الله، إلا هذا الكتاب الذي جعله الله تبياناً لكل شيء، فلا وألف لا، لا يوضعن على تهنئة بفوز، ولا في حدث رياضي، فهذا كتاب الله، وهذه سنة نبيه جاءت لتنقذ أمةً عميا، ولتبصر أمةً ضالةً، وجاءت لترفع شعوباً ذليلةً، ولتحكم العدل في الأمم المظلومة، ما جاءت لأحداث رياضية، أو لمناسبات كهذه، أفلا يتقي الله من يستشهد بهذا، أفلا يخشى الله من يستشهد بهذا.
على أية حال أيها الإخوة: لا عجب ولا غرابة إذا كان الذي يضع هذه الآية فوق هذا الإعلان ممن لا حظ لهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فلا تجنين من شوكٍ عنباً وإن من زرع شيئاً حصده
نحن أيها الشباب! نحن أيها الإخوة! نحن أيها المسلمون! ما الذي زرعناه في شبابنا حتى نجني منهم هذه الهتافات، وهذا التصفيق والإزعاج، وهذا الذهاب والإياب في الطرقات والشوارع، وإيذاء المسلمين، وانتهاك بعض حرماتهم.
أسأل الله جل وعلا أن يكفينا شر العقوبة، أسأل الله جل وعلا أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، أسأل الله جل وعلا ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(53/4)
الأخذ على أيدي الشباب
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! ينبغي أن نعلم أن الكلام والخطب والندوات والمحاضرات التي تشجب هذا الحدث، أو تشجب ما ينجم عنه من إزعاج وهتافات وصرخات وويلات ليست توجه اللوم إلى المسئولين، وإنما توجه اللوم إلى أبطال هذه الأحداث من الشباب الذين لم يكن لهم حظٌ من التربية السليمة والعلم النافع والقدوة الحسنة، وهذه الخطب والندوات والمحاضرات توجه إلى المسئولين من باب الأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء، ووالله إنا لنعلم أن كل منصف وكل غيور على هذه البلاد ومن فيها من مسئولين ومواطنين، والله لا يرضون بهذا الأمر، ولا يدينون الله جل وعلا به، بل ويكرهونه ويبغضونه أشد الكره، هذا ما علمناه عنهم، ولكن أيها الأحبة! أيكفي أن ننتقد هذه الأحداث؟ أيكفي أن ننتقد هذه المظاهر بعد ذلك الحدث الرياضي؟ لا والله، لو خطبنا ألف خطبة، وطبعنا ألف رسالة، وأرسلنا ألف داعية، والأمور تمضي كما هي، هذا لا يجدي، ولا ينفع شيئاً، لكن الذي يجدي هو أن نعلم أن ما رأيناه نتيجة تربية مهملة، نتيجة شباب قد ضيعهم آباؤهم وأمهاتهم، نتيجة شباب اجتمع لهم الفراغ، واجتمعت لهم الجدة، واجتمع مع ذلك الصحة والشباب، فلا عجب أن نرى ذلك.
أيها الأحبة! لأن نوقد شمعةً واحدةً في الظلام خيرٌ من أن نلعن الظلام ألف مرة، ولا نسرف في اللوم على أولئك الشباب، والله إن الكثير منهم لفي سكرة، وهل تلوم سكراناً على تصرفاته، إن الكثير منهم لفي غفلة، وهل تلوم غافلاً على ما يبدر منه؟ إن الكثير منهم لفي غطيط عميق، وهل تلوم نائماً فيما ينجم من نومه؟ إذاً أيها الأحبة! لابد أن نعود إلى قلوبهم شيئاً فشيئاً رويداً رويداً مناقشةً هادئةً، إذ إن مناقشة الأمور بعد هدوء الأوضاع هذا خيرٌ وأخف، كان بوسع الكثير أن يستلم هذا الحدث في خطبه، أو في مناسباته، أو في كلمات المساجد بعد هذا الحدث فوراً، لكن ترك الأمور حتى تهدأ، وحينما تعود البصيرة والبصائر إلى العقول لكي نناقش أولئك الشباب من تسبب في سرعة جنونية، فأودى بحياة أسرة إلى غرفة الإنعاش، ما الذي جنى من ذلك؟ من تسبب في هذا الهتاف والتطبيل، ثم كانت الحادثة دهس روحٍ بريئةٍ راحت الروح إلى بارئها، ما الذي استفاد من ذلك؟ إني رأيت عقلاء في سن العقل والرشد والله إني لأشك هل ترى عيني حقاً، أم أن في عيني غبشاً، أهذا رجلٌ بطوله وعرضه وسنه ينشر علماً على سيارته؟ أين العقول؟! أين القلوب؟! أين الأفئدة؟! إذاً نحن بحاجة إلى أن نبصر شبابنا إلى أن نناقشهم، وهي مسئولية الخطباء، ومسئولية المدرسين، ومسئولية الموجهين، ومسئولية الوعاظ، ومسئولية كل من له دور في لقاءاته بالشباب أن ينبه أولئك على هذا الأمر، أما أن ندعي أن هذه الغضبة نتيجة هذا الحدث الرياضي، فلا نكذب على أنفسنا؛ لأن الأحداث الرياضية السابقة كثيرة واللاحقة أكثر، لكن نحن نناقش ونشجب ونستنكر أيضاً ما يحدث من جراء تلك الأحداث، والكلام في الحدث الرياضي ذاته، ليس الحديث فيه إليكم، بل الحديث فيه إلى من له الأمر والنهي فيه.
فيا عباد الله! نسأل الله جل وعلا أن يأخذ بأيدينا إلى دعوة شبابنا بالحكمة والموعظة الحسنة، بالرفق واللين ولطف الجانب، وخفض الجناح، لكي نواجههم ونقابلهم، ونسألهم عما جنوا واستفادوا من جراء ذلك الجنون، ومن جراء تلك التصرفات العجيبة.(53/5)
انتقاد الرياضيين للدعاة وغيرهم
أيها الإخوة! إنه ما من أمر علا شأنه إلا وكانت النهاية بعد ذلك سقوطٌ في هوة الانحدار الشديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قد تمضي الأمور طبيعية، أما إذا بلغ هذا التشجيع جنونه، وبلغ أوجه، وأصبح حدثاً طبيعياً، ما حدث بعد ذلك الحدث الرياضي والله ليس بعد هذا إلا طامة أو هامة أو بلية نسأل الله أن ينجي المسلمين منها، والأسوأ من ذلك أن تجد من يناقش في هذه الأمور، أو من ينصح في هذه الأمور، يقال له: أنت لست من أهل الحس الرياضي إنك لست من الذين خالطت الكرة دماءهم وشرايينهم.
أسأل الله ألا يخالط دماءنا ودماءكم إلا شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذه التي نفتخر بأن تخالط دماءنا وقلوبنا وعروقنا، أما ما سوى ذلك، فلا مكان له في الدماء والقلوب والشرايين يا عباد الله.
أيها الأحبة! أيعيرون العقلاء بأنهم ليس لهم من الحس الرياضي ما يستطيعون أن يتفاعلوا به أمام هذه الأحداث، عجباً والله وألف عجب!!.
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعيَّر قس بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس: أنت ضئيلةٌ وقال الدجا: يا صبح لونك حائل
وطاولت السحب السماء سفاهة وفاخرت الأرض الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل
فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطاول
والله ما بعد تناهي هذا التشجيع وهذا الجنون إلا قصور وخطر عظيم وعاقبة وخيمة، ما لم نتب ونئوب إلى الله تعالى.
فإن كنت تبغي العز فابغ توسطاً فعند التناهي يقصر المتطاول
توقى البدور النقص وهي أهلةٌ ويدركها النقصان وهي كوامل
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظن أني جاهل
فيا عجباً كم يدعي الفضل ناقصٌ ويا أسفاً كم يدعي النقص فاضل
فيا عباد الله! أيكفي أن نكون كما قال، أيكفي أن نتجاهل، أيكفي أن نسكت، أيكفي أن ندس الرءوس في الرمال؟ لا، إننا ولله الحمد والمنة في بلاد تسمع فيها كلمة الحق، وتسمع فيها كلمة الصراحة، فقولوا ما شئتم ما دام الأمر في إصلاح الأمة، وإصلاح البلاد والعباد، وإصلاح شباب المسلمين بضوابطه الشرعية، وبالحكمة والموعظة الحسنة، وأساليب الدعوة والنصيحة المشروعة.
ينبغي أن ننصح شبابنا، ونوجههم، وأن نطرح هذا الحدث أمامهم في الأندية الرياضية وفي المدارس، وعبر وسائل الإعلام، وعبر الصحف والمجلات ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، أما أن نشتم الأحداث، وننتقد المظاهر والنتائج من دون تقديم أي خطوة إلى الأمام في ذلك، فهذا فعل الضعفاء، (أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل) لا ينفع هذا بأي حالٍ من الأحوال.
أسأل الله أن يهدي شباب المسلمين، وأن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، وأن يجمعنا بأحبابنا وولاة أمورنا، ونسأل الله أن يهديهم إلى العمل بكتابه وسنة نبيه، نسأل الله أن يجمع الجميع في دار رحمته وكرامته، وأن يأخذ بأيديهم إلى أسباب مرضاته، وأن يهيئ لهم بطانة صالحة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، نسألك اللهم أن تحفظ شبابنا، نسألك اللهم أن تردهم إلى الحق رداً جميلاً، نسألك اللهم أن تفتح على بصائر قلوبهم، اللهم إن كان عندهم غير هذا لطالوه وفعلوه، اللهم فغير ما في قلوبهم من الشقاء إلى السعادة، ونسألك اللهم أن تملأ قلوبهم نوراً وهدىً ويقيناً، فأولئك الشباب-والله- ليسوا بأعداء لنا، ولا ننظر إليهم نظرة احتقار أو انتقام أو عداوة، بل هم إخواننا ومن بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، لكننا نسأل الله أن يهديهم، وأن يمنَّ عليهم، وأن ينفع بهم، وأن يهديهم لبر والديهم، ونفع مجتمعاتهم وبلدانهم يا رب العالمين.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا أيماً إلا زوجته بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، واجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم اهد شباب الأندية، اللهم اهد شباب الأندية، اللهم اهد شباب الأندية الرياضية، اللهم اجعلهم من عبادك الصالحين، اللهم اجعل أنديتهم موئلاً ومكاناً للطاعة والذكر والتسبيح، اللهم اجعلها أماكن للدعوة، ومساجد لصلواتك، ومحاريب لذكرك وعبادتك يا رب العالمين، وليس ذلك عليك يا ربنا بعزيز، فلقد هيأت أن تكون الكنائس التي فتحها المسلمون في التاريخ، ونال المسلمون شرف فتحها وجعلوها مساجد بمنك وكرمك، اللهم فليس عزيزاً عليك، وليس عزيزاً على قوتك وإرادتك يا رب العالمين، ليس عزيزاً أن يكون شباب هذه الأندية من عباد الله الصالحين الذين يجعلونها أماكن لتربية الشباب وهدايتهم، وتوجيههم لما فيه صلاح أبدانهم وأديانهم وبلدانهم برحمتك يا رب العالمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً، فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(53/6)
الإشاعات
أيها الإخوة: هذه رسالة تبين خطر مرض اجتماعي خطير، له أثر خبيث في إفساد القلوب وإثارة الشحناء ونشر العداوات، ذلكم المرض هو مرض الشائعات، تعيشون مع هذا الموضوع لتتبينوا خطر هذه الإشاعات على الأفراد والمجتمعات، ولتحذروا من وسائل نشرها والترويج لها، ثم تتعرفوا على الواجب عليكم تجاه هذه الإشاعات.(54/1)
خطر الإشاعات على الأمم والمجتمعات
الحمد لله، الحمد لله الذي مدح عباده الصادقين في القول والعمل، وأمرنا بأن نكون معهم، فقال جل من قائل عليم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن مما ابتليت به كثير من الدول والمجتمعات في هذا الزمان مرض اجتماعي خطير له أثر خبيث في إفساد القلوب، وإثارة الشحناء، ونشر العداوات، وإفساد الأحوال بين الراعي والرعية، ذلكم المرض هو مرض الإشاعات، أو مرض الشائعات، الإشاعات المختلقة، والأخبار الملفقة يسمعها بعض أفراد المجتمع من بعض، فيعملون بها عمل الجن يوم يسترقون السمع من خبر السماء، فيسمعون كلمة واحدة، فيزيدون عليها مائة كلمة، ثم ينقلها الناس في الآفاق، وينقلها بعضهم إلى غيرهم حتى تصبح إشاعةً يسير بها الركبان والسيارة بين الغادين والرائحين، والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم غيور على الأمن الخارجي والداخلي، غيور على الأمن النفسي لكافة أفراد مجتمعه وأمته، أن نشر الإشاعات التي لا أصل لها ولا حقيقة لها ولا زمام ولا خطام مما قد يسبب ويثير الخوف والبلبلة بين أفراد المجتمع، ولا ينبغي للمسلم أن يتحدث في المجالس والاجتماعات بكل ما سمعه، أو نقل إليه من هذه الشائعات، ولا ينبغي له أن يتتبع أثر هذه الإشاعات كأنه حفيٌ عنها، أو مكلفٌ بها: (فبئس مطية الرجل زعموا، وكفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فالتثبت من الأخبار مأمورٌ به شرعاً.(54/2)
إشاعة التعديل والزيادة في الرواتب
أيها الأحبة في الله: نسوق هذه الكلمات عتاباً لطائفةٍ من بعض المسلمين الذين نقلوا ورددوا إشاعةً لا حظ لها من الصدق، ولا نصيب لها من الحقيقة، تلكم هي إشاعة التعديل، أو الزيادة في رواتب الموظفين في الدولة، وما سيصحبها من ارتفاع في أسعار المواد الغذائية، والمعونات الحكومية على الأغذية والمؤن الرئيسية، حتى راجت وشاعت هذه الشائعة، وسرى بها قصاص المجالس، ورواة المناسبات، بل وزوروا وأخرجوا مسيراً للرواتب على الوضع الجديد حتى أصاب الذعر والهلع طائفة من الناس، فانقضوا مسرعين إلى مراكز التموين التجارية، ليشتري أحدهم ستين كيساً، ويشتري الآخر مائة كيس من كل صنف ونوع، ولا اعتراض لأحد على فعل غيره بشراء ما يشاء من هذه المؤن، لكن الاعتراض أن يكون هذا الفعل وهذا التصرف رداً لفعل الإشاعة التي بلغت ذلك المبلغ من نفس من وصلت إليه، فصدقها، وقد يكون لها أثر آخر على من ضعفت نفسه من التجار، فظن أن الأغذية والمؤن سترتفع أثمانها، ومن ثم يمسكها ويحتكرها متربصاً بها ارتفاع الأسعار، ولولا أن هذه الإشاعة لم يكن لها أثر يذكر في نفوس كثير من الأفراد، لحصل أكبر من ذلك، ولرأيتم عجباً عجاباً من ارتفاع الأسعار، واحتكار الأقوات، وارتفاع أسعار المعيشة بدون أدنى سبب يذكر، أو علم قطعي، وإنما بناءًً على شائعة مضللة مكذوبة.(54/3)
العبرة من حادثة الإفك
لقد جاءت الشريعة بكف الألسنة عن كل حديث لم يتحقق من حدوثه، حتى ولو كان لذلك الحديث نوع ارتباط بحدث معين، أو واقعة بعينها، وظل الناس في تحليلها وتعليلها، يقول الله جل وعلا في شأن شائعة الإفك التي رميت بها زوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة العفيفة ابنة الصديق الطاهرة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:11 - 12] إلى أن قال سبحانه: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:15 - 19].
أيها الأحبة في الله: ومع وضوح الفارق بين حادثة الإفك والإشاعات التي تظهر في زماننا، إلا أن هناك جامعاً أو رابطاً يدعو إلى أخذ العبرة واستلهام الدروس من القصة، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالذين يروجون الإشاعات وينشرونها بين الناس، لا شك أنهم عصبةٌ متجمعةٌ ذات هدف واحد، قد يكون بعضهم مخدوعاً، وقد يكون بعضهم يظن أن فعله حسناً، وبعضٌ مغرر به في نشر الإشاعة أو الشائعة، ومهما كان في هذه الإشاعة من شر وخطر، فمن خلالها ينكشف أذنابها ومروجوها ومزيفوها، وينكشف للمجتمع فئة تكيد له في الخفاء، وأفراده لا يشعرون حتى تلقى تلك الفئة التي تنشر الشائعة جزاءها، ويعتبر بها من حدثته نفسه، أو سولت له أن يمارس ذلك الدور الشرير في صفوف مجتمعه، ومن خلال تلك الآيات يتضح لنا أن المسلم العاقل لو أعمل عقله، واستنار بهدي ربه، لانكشف له زيف كل إشاعة تظهر في مجتمعه ولو لم يكن في خطر الإشاعة إلا أن فيها نوعاً من إشاعة الخوف والجزع والقلق، والهلع والفاحشة في المجتمع المسلم، لكان ذلك حرياً بردها، ودفعها مع من جاء بها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(54/4)
أثر الإشاعة على النفوس
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ؛ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: حينما نتحدث عن الإشاعة والشائعات، لسنا نتكلم عن فراغ، وإنما دعا إلى الحديث عنها ظن كثير من المسلمين بصدقها وبأحقية مزاعمها، وتصديق غوغاء الناس وفئام السذج لها، ومن تتبع ما حصل فيما مضى من الإشاعات والشائعات، لوجد أن الكثير منها قد راج على البسطاء، وانتشر بين العامة، وكان له في النفوس أثر كبير، وهذا مما لا ينبغي ولا يجوز، أرأيتم إذا صدق الناس شائعة غبية كاذبة في مدة مضت، وهي أن رجلاً حلف كاذباً، فانقلب إلى ثعبان، وهذا رقم هاتفه، فأخذ الناس يتصلون بالهاتف، ثم يرد على الهاتف رجل يسمع له فحيح كفحيح الأفعى، هذه شائعة ذاعت وانتشرت بين كثير من الناس والسذج والبسطاء، ثم بعد ذلك ذاع غيرها من الإشاعات والشائعات، ومنذ أيام ليست بالبعيدة شاع وذاع بين الناس مسير للرواتب وأنها ستزيد، وأن أسعار المؤن سترتفع، وأن التجار سيحتكرون، وأن المؤونة عن الأغذية والأدوية سوف ترفع، فانهلع الناس، وجزعوا، وانقضوا إلى مراكز التموين وأماكن الأغذية ليشتري بعضهم بالمائة والمائتين، ويستدين بعضهم ما لا طاقة لهم به، لكي يشتري ويخزن ويجمع، إن السبب في كل ذلك هو الإشاعة الكاذبة التي صدقها الناس وراجت بينهم، وبعد أيام، أو بعد أشهر، أو سنة تأتي شائعة وتقول: إن هذه الدولة ستدخل حرباً عظيمةً، وما يدريكم قد يصدقها الناس، أو تلفق شائعة، فيقال: إن دولة كذا سوف تضرب هذه البلاد، أو إن هذه البلاد ستدخل في حرب مع كذا، فيصيب الناس الهلع والجزع من إشاعات مختلقة، وشائعات مزعومة مكذوبة.
إذاً: فالإشاعات خطرها عظيم، إن الإشاعة يوم أن تتمكن في نفوس الناس، ويصدقوا بها، قد تكون سبباً أن تهجر مدينة بكاملها تحت أثر الإشاعة والشائعة، ما ظنكم لو سمع أهل مدينة بأن حرباً سوف تصبحهم، أو تمسيهم، والله لا يبقى في تلك الليلة أحدٌ إلا وقد هاجر وسافر تحت شائعة مكذوبة.
إذاً فالذي ينبغي لنا ألا نصدق هذه الشائعات وأن نردها، وأن نستخفّ بها، وأن ندفعها بكل ما أوتينا من عقل وحزم، وأن نبين أثرها وخطرها على الأمم والدول والأفراد والمجتمعات.(54/5)
وسائل نشر الإشاعات
أيها الأحبة: وسائل نشر الإشاعات كثيرة جداً.(54/6)
وسائل الإعلام المعادية
فمن وسائل نشر الإشاعة: وسائل الإعلام المعادية من الأفلام التي تصنع فكراً، أو تصورواً معيناً، فتنتج إشاعة، أو شائعة فكرية يظن الناس فيها الكثير والكثير، ويتصورون الكثير الكثير، ويتصرف بعضهم بموجب ظنه وتصوراته، ثم إذا انكشف الصباح وزال الظلام، تبين أن ما في رأسه مجرد شائعات وإشاعات قد صنعتها أفلام مضللة، وأفكار مستوردة.(54/7)
وكالات الأخبار الكاذبة
ومن وسائل نشر الإشاعة أيضاً: بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تكون معادية للأمة، ومعادية للأفراد والمجتمعات، فتلك تنقل أخباراً كاذبةً، وتنقل أخباراً مزيفةً مضللةً، وبعد ذلك يكون لها أكبر الخطر في نفوس المجتمع من حيث إثارة القلق والهلع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(54/8)
الصحف والمجلات
ومن وسائل نشر الإشاعة أيضاً: بعض الصحف والمجلات التي لا يفتأ فيها ذوو الأقلام المأجورة، وذوو الأفكار المستوردة أن يكتبوا ما سمعوه، وأن يكتبوا ما نقل عن الغرب، وأفكار الغرب والشرق مما يكون معادياً وسبباً لإثارة الشر والويلات في مجتمع من المجتمعات.(54/9)
المنشورات
ومن أسباب نشر الإشاعات، أو الشائعات: المنشورات، والمنشورات -أيها الإخوة- على نوعين، فمنشور مأذون بتوزيعه ومسموح بطبعه من الأجهزة المسئولة من رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، كالمنشورات التي تحث على الصلاة مع الجماعة، وتبين أخطار تركها، وكالمنشورات التي تبين خطر الربا وتحث على اجتنابه، وكالمنشورات التي تحث المسلم على فعل الخيرات، وتجنب المعاصي والمنكرات، فهذا منشورٌ مباركٌ، ويشكر الإنسان على توزيعه؛ لأنه حقٌ، وقد أذن به وأذن في توزيعه على سائر الناس، أما المنشورات التي لا حقيقة لها، أو المنشورات التي لم تأذن جهة رسمية، أو دائرة مسئولة بتوزيعها، ففي توزيعها خطر عظيم، وفي توزيعها ضلالة على المجتمع، وأقل ما يكون فيها إغلاق باب النصيحة بين الحاكم والمحكوم وبين الراعي والرعية، وإن مما يؤسف له أن ترى كلمة تدس تحت باب، أو في زجاجة سيارة، أو في كتاب من مسجد، وهي كلمة حقٍ، فإن كانت حقاً، فما الذي يرد صاحبها أن يتكلم بها مع مسئول كبيراً كان أو صغيراً؟ وإن كانت باطلاً، فلا حاجة لنا في نشر الباطل في مجتمعنا، وقد يظن البعض أن فعله هذا من باب نصيحة المجتمع، ووالله إن في هذا ضرراً عظيماً، قد يتضرر به من لا دخل له فيه ولا ناقة له فيه، ولا جمل، وهو كما يقول القائل:
رام يفعل فضرَّ من غير قصدٍ ومن البر ما يكون عقوقا
فالبعض قد يظن أن نشر ورقة غير مأذون بها، يظن أن فيه دعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيسعى في نشرها وترويجها، وقد نسي أن فيها خطراً وأذىً وابتلاءً وامتحاناً لغيره، فهو يفعل أفعالاً ليست تحت السمع والبصر، ولكن الذي يجني ويلة فعله هو غيره من الذين لا ساغية لهم ولا راغية.(54/10)
الواجب علينا نحو الإشاعات
إذاً: أيها الأحبة! فلنعرف أن الشائعات والإشاعات بجميع أنواعها منبوذة مرفوضة، وأن وسائلها ينبغي أن تدفع، وأن ترد بكل ما أوتينا من قوة، حفاظاً على أمن مجتمعنا، وإبقاءً لدوام الصلة بين الحاكم والمحكوم، وبين الراعي والرعية، هل سمعتم أن رجلاً دخل برأسه إلى حاكمٍ، فخرج من غير رأسٍ يوم أن نصحه؟، لا والله، إذاً ما المصلحة، وما الفائدة في نشر منشور غير مأذون به؟ ومهما كان فداحة الخطر، ومهما كانت عظم المصيبة، فإنه ينبغي للمسلم ألا يتردد في تقديم النصيحة أياً كانت كبيرةً، أو صغيرةً بالأسلوب الشرعي المرعي، ينبغي أن يقدمها، ولا يخشى في الله لومة لائم، فهذا أهون عليه، وهذا أبرأ لذمته، وهذا أيسر له ولغيره من أن يوزع شيئاً غير مأذون به، أو في جنح الظلام، أو ليس تحت السمع والبصر.
أسأل الله جل وعلا أن يأخذ بأسباب أمتنا إلى ما يرضيه، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، يعز فيه الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، ويذل فيه أهل المعصية، ويذل فيه أهل الباطل، وأهل الفساد، وأهل الفاحشة، وأصحاب المنكرات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم احفظ علماءنا، اللهم احفظ دعاتنا، اللهم احفظ شبابنا الداعين إليك يا رب العالمين، اللهم اجمع جهودهم، ووحد شملهم، وسدد رأيهم، وصوب نشاطهم وجهودهم على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا غائباً إلا رددته، ولا ساعياً إلا وفقت سعيه فيما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح مضغة قلبه، اللهم قرب له بطانةً صالحةً، اللهم من علمت في بشر خيراً له فقربه منه، وما علمت في بشر شراً له ولرعيته، فأبعده عنه، واجمع اللهم شملنا وشمله، وأعواننا وأعوانه على ما يرضيك يا رب العالمين، وسخر اللهم لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأراضين بقدرتك، اللهم لا تشمت على الجميع عدواً، الله لا تشمت بالجميع حاسداً، ولا تفرح على الجميع عدواً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم والله يعلم ما تصنعون.(54/11)
الاستجابة لله
لقد أمرنا الله عز وجل في كتابه بالاستجابة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم إذا دعانا لما يحيينا، وأن الله عز وجل إذا أمر بأمر فإنه لا خيار لأحد فيه، وإنما عليه أن يقوم به، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع الناس استجابة لأمر الله عز وجل، وكان أصحابه مثلاً للاستجابة رضوان الله عليهم.(55/1)
سرعة الاستجابة لله
الحمد لله وحده لا شريك له، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24 - 25].
معاشر المؤمنين! من تأمل هذا المنهج القرآني والنبوي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من ربه الكريم الحكيم، وجد أن هذا المنهج الشرعي قائمٌ على الاستجابة، قائمٌ على التنفيذ، قائمٌ على التطبيق، قائمٌ على المبادرة بالاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان شأن الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، كان شأنهم المتابعة، وكان شأنهم التنفيذ، وكان شأنهم التطبيق، ما وقفوا يوماً يحتجون، أو يعترضون، أو يفرضون الشبه، أو الحجج على أمر الله، وشرع الله، وشرع نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] إذا ورد أمر الله، فلا خيار لك أيها العبد، إذا ورد شرع الله، فلا خيار لكِ أيتها الأمة، إذا ورد أمر الله، فلا خيار لمجتمع من المجتمعات أن يفعل أو لا يفعل، أن يختار أو لا يختار، لا يبقى أمامه إلا أن يقول: سمعت وأطعت، ولا يبقى للأمة أن تقول إلا: سمعنا وأطعنا، يقول الله جل وعلا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] وما شأن الذين لا يستجيبون؟ وما شأن الذين يترددون بعد ورود أمر الله في الاستجابة؟ ما شأن الذين يسوفون الاستجابة؟ ما شأن الذين يؤجلون الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله؟ إنهم بين أمرين، أو أكثر: أولها: ما ورد في الآية الآنفة الذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فمن لم يستجب لأمر الله، ومن لم ينقد لشرع الله، ومن لم يخضع لأمر الله، فقد يحال بينه وبين الاستجابة، وقد يحال بينه وبين القدرة والإمكان.
إذاً: فلا يجوز لأحد أن يؤخر الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يحل بينهم وبين ذلك، وقد يمهل له، ثم يكون شأنه شأن المجرمين، وينطبق عليه قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] فمن لم يستجب لأمر الله، فهو على أحد الخطرين: 1 - إما أن يحال بينه وبين قلبه.
2 - وإما أن يجمع مع ذلك أن يولى سبيل الظالمين، وأن يصلى جهنم مع المجرمين، وساءت مصيراً له ولأزواجه ولأشباهه وأذنابه وأضرابه.(55/2)
سرعة استجابة الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل
عباد الله! المبادرة بالتنفيذ صفة من صفات المؤمنين، وهي صفة الأنبياء، وهي صفة الرسل، وهي صفة الملائكة البررة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] يقول الله سبحانه وتعالى في شأن استجابة النبي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أراه الله في المنام أن يذبح ابنه، علم ذلك النبي الأواه الحليم، علم أن رؤيا الأنبياء حق، وإن كانت تقتضي ذبح فلذة الكبد، علم أن رؤيا الأنبياء حق، وإن كانت تقتضي أن تمر الشفرة الحادة على حلق الابن البار في حين انقطاع من الولد والذرية: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] يعني: أريد أن أذبحك بالسكين، وأضجعك كما أضجع الشاة، لأني رأيت هذا في المنام، ورؤيا الأنبياء حقٌ، ورؤيا الأنبياء وحيٌ ولا بد من تنفيذها حتى ولو كانت تقتضي إبانة رأسك عن جسدك يا ولدي! هذا شأن استجابة النبي، فماذا قال ذلك الولد البار؟ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] وأنا أعينك على الاستجابة، وأنا أعينك على تطبيق أمر الله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] هكذا كانت استجابة إبراهيم عليه السلام لرؤيا رآها، وهو يعلم أن رؤيا الأنبياء حقٌ ووحيٌ، ولم يقل: أعوذ بالله من الشيطان، هذه أضغاث أحلام، أو هذه منامات مختلطة، بل قال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] فانظروا إلى هذه الاستجابة الفورية، ولو كانت على حساب فراق الأب والابن، ولو كانت على حساب إبانة الرأس عن الجسد، ويقول الله جل وعلا في شأن إبراهيم أيضاً: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] يؤذن في وادٍ سحيقٍ، يؤذن في وادٍ لا يرى فيه أحداً، يؤذن في وادٍ لا يرى إلا الجبال والتلال، يؤذن في وادٍ لا يرى إلا الحجر والحصى، نعم.
استجاب لأمر الله، وكان البلاغ على الله جل وعلا، فجعل أفئدةً من الناس تهوي إلى هذا البيت حتى لا تكاد تجد لحظةً واحدةً يخلو فيها بيت الله من طائفٍ، أو عاكفٍ، أو راكعٍ أو ساجدٍ، فما أعظم هذه الاستجابة، وما أقواها، وما أجلها يا عباد الله.(55/3)
سرعة استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لربه
وهذه استجابة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الوحيد الطريد الشريد الذي لا ناصر له إلا الله، ولا معين له إلا الله، يؤذيه أهل مكة، ويضعون الشوك في طريقه، ويلقون سلى الجزور على ظهره، فيخرج هائماً، ويخرج منطلقاً على وجهه لا يجد أحداً يعينه، فيذهب إلى عبد ياليل بن كلال في الطائف، فيغرون به السفهاء، ويصفون له سماطين يرمون أقدامه بالحجارة حتى أدموها، ذلك النبي خير من وطئت قدمه الثرى، أشرف الأنبياء والمرسلين، يقول له الله جل وعلا: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] هل قال: يا ألله لا يوجد إلا أنا، لم يبق إلا أنا، لا نصير، ولا معين، أنظرني حتى يكثر الأعوان، أنظرني حتى أجد قوة ومنعة؟ ماذا كان شأن نبينا صلى الله عليه وسلم بعد ورود أمر الله؟ كان شأنه الاستجابة لما نزل قول الله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] رقى إلى الصفا، ونادى قريشاً بطناً بطناً، وفخذاً فخذاً، واصباحاه، فاجتمعوا إليه، وقال: (لو قلت لكم: إني منذركم عن جيش يصبحكم، أو يمسيكم، هل أنتم مجربون عليَّ كذباً؟) قالوا: أبداً ما جربنا عليك كذباً، فقال: (إني رسول من الله إليكم، أن اعبدوا الله وحده لا شريك له) ودعوة الوحدانية هذه ليست أمراً يسيراً تفقهها قريش وتعرفها قريش، إنها تعني أن نلغي الحاكمية، وأن نلغي الطاعة، وأن نلغي الخضوع، وأن نلغي الاجتماع إلا لله، وعلى أمر الله، وعلى طاعة الله، هكذا فهمت قريش، فماذا كان جوابها؟ قال أشقاهم: تباً لك يا محمد، ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟ استجاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت استجابة إصرار، لا هوادة فيها، فلما رأوا عظم شأنه، وصدق عزيمته، وقوة تطبيقه ومضائه، قالوا: يا محمد! اعبد إلهنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فقال: ({لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6]) قالوا: يا محمد! إن كنت تريد مالاً أعطيناك، وإن كنت تريد جاهاً سودناك، وإن كنت تريد جمالاً زوجناك، وإن كان الذي بك رئيٌ من الجن عالجناك، فماذا قال؟ قال: (والله لو وضعتم الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته) استجابتي لله لا يصدني عنها شيء، ولا يردني عنها شيء حتى ولو تندق هذه السالفة.
فاعجبوا واعلموا وتبينوا عظم استجابة نبيكم صلى الله عليه وسلم! بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(55/4)
استجابة الصحابة لأمر الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا عليها بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! أما استجابة الصحابة لأمر الله، فلهم في باب الاستجابة شأن عظيم جداً، كانوا يعلمون أن هذا القرآن ما نزل إلا ليتلى ويعمل به، ويكون كل واحد منهم قرآناً يمشي على وجه الأرض، ما نزل القرآن لكي يتزين به في المجالس، أو يعلق على الجدران، أو يتبرك بحروفه ورسمه، والله ما نزل إلا وحياً مباركاً، وشفاءً وإنقاذاً لأمة ضلت، وإبصاراً لأمة عميت، فعلموا أن الاستجابة هي الأمر الطبيعي لنزول هذا القرآن، فاستجابوا له، ولو كان ذلك على حساب ما تأصل وشربته القلوب من عاداتهم وتصرفاتهم وأفعالهم، لما نزل قول الله جل وعلا في شأن تحريم الخمر؛ والخمر تعرفون مكانتها عند العرب في الجاهلية، وما قبل الجاهلية، وأسلم الصحابة، ولم ينزل في تحريم الخمر شيء، وكان بعضهم لا زال يشربها، وكانوا يتغنون بها، وينشدون القصيد فيها، كان هذا شأن العرب في جاهليتهم، فلما نزل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] لم يكن هذا قوياً في صرفهم، ولما ورد قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، لما بلغت هذه الآية أسماع الصحابة رضوان الله عليهم {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] ماذا كان شأنهم مع الاستجابة؟ كان بعضهم قد وضع مجةً من الخمر في فمه فأراقها، وكان بعضهم قد رفع الكأس إلى فيه، فرمى به، وكان بعضهم يملك الدنان العظيمة والزقاق الكثيرة، كان يملكها من الخمر المعتقة، فما كان منه إلا أن أراقها، قالت الرواة: سالت شوارع المدينة من الخمر من قوة استجابة الصحابة لأمر الله، وبعضهم لا زالت في فيه، وبعضهم رمى بها لتوه من يده، وبعضهم لازال قد شق دنانها، وكسر أوعيتها، هذه استجابة عجيبة، ما قال أحدهم: لو أكملت هذا الكأس الذي رفعته، ولم يقل الآخر: لو بلعت هذه الشربة التي مججتها، وما قال الآخر: لو فعلت بهذه شيئاً، لو أني خللتها، وجعلتها خلاً، لو أني بعتها على النصارى، لو أني بعتها على اليهود، لو أني فعلت بها كذا وكذا، لما سمعوا قول الله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] استجابوا فوراً، وأراقوها، وأبعدوها من دورهم ومجالسهم، ولما نزلت آيات الحجاب، ونزل قول الله جل وعلا: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] استجابت نساء الأنصار، واستجابت نساء المسلمين أجمعين، فخرجن كالغربان متلفعات بمروطهن على وجوههن وجيوبهن، ما تخلفت واحدةٌ منهن عن الاستجابة.
والاستجابة في تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، لما جاء أبو بكر الصديق لقي جمعاً من قريش، قالوا: هل سمعت ما قال صاحبك؟ زعم البارحة أنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء -يتضاحكون- ويقولون: الآن يكفر أبو بكر، يكذب صاحبه على هذا الخبر، إنا لنذهب إلى الشام شهراً، ونئوب منها شهراً، وصاحبك يزعم أنه أسري به إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء، وعاد في ليلة واحدة، فقال أبو بكر الصديق: أوقد قال هذا؟ قالوا: نعم!!، قال: صدق، إنا نصدقه على خبر السماء، فكيف نكذبه على خبر الأرض؟! هكذا كانت الاستجابة في التطبيق، وفي المعاملة، هكذا كانت استجابة الأمة، وهكذا كان فعلهم واستجابتهم مع قول الله جل وعلا، كان أحد الصحابة ماضياً إلى المسجد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب: (لا يبقين أحد منكم إلا ويجلس، فجلس في الطريق، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما الذي أجلسك هنا؟ قال: سمعتك تقول: لا يبقين أحد منكم إلا ويجلس فجلست مكاني فور سماعي كلامك هذا يا رسول الله! فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه، ودعا له بخيرٍ وأثنى عليه) هكذا كانت الاستجابة سواء عرفوا العلة، أو لم يعرفوا العلة، سواء عرفوا السبب، أو لم يعرفوا السبب، والآن -يا عباد الله- نقول لأحدهم: إن الله حرم هذا فيقول: لماذا؟ تقول: إن الله شرع هذا فيقول: لماذا؟ تقول: إن الله نهاك عن هذا فيقول: لماذا؟ أين الاستجابة والانقياد، وأين الطاعة والخضوع؟ وأين الاحتكام لله وشرعه؟ وأين الاحتكام لسنة نبيه؟ أين نحن من الاستجابة يا عباد الله؟ أقول لأحدهم ذات يوم في مجلس جمعني به: إن الله حرم الربا، فقال: عندي مناقصة فلم أستطع أن أغطيها، فذهبت إلى بنك كذا، فاستدنت منه بفائدة قدرها كذا، ويقول: إنها ضرورة وحاجة، ماذا أفعل إذا لم أستدن؟ وقد تفوتني هذه المناقصة، فقلت: يا مسكين! الحاجة إما أن تموت فتدفعها بقدر ما يدفع الموت، الحاجة: أن تهلك، فتدفعها بقدر ما يدفع الهلاك، أما أن تريد ملايين فوق أخواتها في البنك، وتقول: إنها حاجة، وتحاج قول الله، وتحاج كلام رسول الله، بأنها حاجة فيما حرمه الله، ولعن آكله وموكله، وكاتبه وشاهديه من الربا.
أين استجابة أمثال هؤلاء يا عباد الله؟! تقول لأحدهم، وهو يتاجر بمحلات الفيديو وأشرطة الفيديو: يا مغرور، يا مسكين، يا مخدوع، إن الذي تبيعه حرام، إن الذي تأكل منه حرام، إن الذي تطعم أهلك حرام، إن الذي تنشره في المجتمع فساد، فيقول: وماذا أفعل بهذه الديكورات؟ وماذا أفعل بهذه الأشرطة؟ وماذا أفعل بهذه الأجهزة؟ أين نحن من الاستجابة يا عباد الله؟ كان الصحابة يستجيبون ولو على أرواحهم، دخل حنظلة بن أبي عامر بزوجته ليلة من ليالي الجهاد، فلما دخل بها في آخر الليل في هجيع الليل، صاح المنادي: يا خيل الله اركبي، فقام من أحضان زوجته جنباً لم يغتسل بعد، فأخذ سلاحه ولامته، وامتطى صهوة فرسه، ودخل ساحة الميدان استجابة فورية، لم يقل: ما زلت في شهر العسل، لم يقل: ما زلت عروساً، لم يقل: قد بنيت بامرأة، فوراً استجاب لأمر الله، فقتل شهيداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة يلتفت، ثم يعرض بوجهه، يقول الصحابة: (ما بالك يا رسول الله؟ فيقول: انظروا ما شأن صاحبكم حنظلة؟ قالوا: يا رسول الله! إنه ما زال عروساً قد بنى بزوجته البارحة، قال: إني رأيت الملائكة تغسله) استجابة فورية في أحلى ليالي العمر بالنسبة لكثير من الذين يظنون أنها ألذ وأحلى وأطيب من نعيم الجنة، وألذ وأحلى وأطيب مما عند الله، استجابةٌ فوريةٌ لأمر الله.
يا شباب الإسلام! يا رجال الأمة! يا معاشر المؤمنين! أتستجيبون لأمر الله؟ إن الله حرم اللهو والباطل، إن الله حرم الربا، وحرم الفساد والغيبة والنميمة وحرم السعي بالفساد في الأرض، أفتستجيبون لأمر الله؟ هل نقول: سمعنا وأطعنا؟ أم نقول: لماذا؟ وكيف؟ ولعل؟ ومتى؟ وربما؟ وأين وإلى آخره، ليست هذه من صفات المؤمنين، فإن كنا وكنتم مؤمنين، فلنستجب لله فوراً، فلنستجب لله في أنفسنا، وفي أعمالنا، وفي وظائفنا، وفي أسواقنا، وفي متاجرنا، وهذه الاستجابة وإلا فلا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم العن اليهود، اللهم العن اليهود، اللهم العن اليهود وأذنابهم وأعوانهم، ومن عاونهم يا رب العالمين، اللهم عليك بالنصارى، اللهم عليك بالفجار الفجرة، والفساق الفسقة، والكفار الكفرة، والرافضة المشئومين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج أمة محمد من بينهم سالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحفظ اللهم إمام المسلمين، واحم حوزة الدين، وانصر المجاهدين، ووحد قلوب المؤمنين، وأصلح قلوب الشباب أجمعين، اللهم لا تدع لأحدٍ منا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيراناً إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا غائباً إلا رددته، ولا مجاهداً إلا نصرته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا تائباً إلا قبلته بمنك وكرمك وعفوك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً، فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً، اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم اجمع قلوبنا على طاعتك، واجمعنا اللهم في دار كرامتك، اللهم إنا نسألك من الفضل أقربه، ومن اللطف أعجبه، اللهم إنا نسألك من العافية حصولها، ومن النعمة تمامها ودوامها، اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمةً، اللهم أغث قلوبنا، اللهم إنا نشكو إليك قلوباً لا تخشع، وأعيناً لا تدمع، ونعوذ بك اللهم من عمل ودعاء لا يرفع، اللهم ارحم قلوبنا القاسية، اللهم ارحم قلوبنا القاسية، اللهم أنزل عليها رحمةً من رحماتك، وسكينةً من فضلك، ومنةً من لطفك، اللهم اجعلها خاشعةً خاضعةً بكاءةً أوابةً أواهةً لك يا رب العالمين.
اللهم نشكو إليك قسوة القلوب، اللهم نشكو إليك بعداً عن الاستجابة، اللهم نشكو إليك بعداً عن الا(55/5)
يا من تريد الهداية
إن الله عز وجل تكفل لمن جاهد وصابر في طاعته أن يهديه صراطه المستقيم، وقد جعل سبحانه هذه الهداية سهلة وميسرة لمن طلبها، وصعبة وشاقة لمن حاد عنها ولم يبذل الأسباب المشروعة الجالبة لها، كمجالسة الصالحين وتحويل حماسه العاطفي إلى واقع عملي علمي يدعو فيه إلى الله عز وجل.(56/1)
أهمية الاستقامة على طاعة الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل عن الشبيه، وعن الند، وعن المثيل، وعن النظير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، واعلموا أن لا نجاة إلا بها: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
معاشر المؤمنين: إن الهداية غاية العقلاء ووظيفة الأنبياء، ومنتهى آمال السعداء، وإن الاستقامة أولى وأجل مطالب العقلاء، فأما الهداية، فنحن نسألها ربنا في كل يوم سبع عشرة مرة في سبع عشرة ركعة فضلاً عن الرواتب والنوافل وغيرها: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وأما الاستقامة فأمرنا بها، وأمر بها نبينا صلى الله عليه وسلم: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الوصية، ويسترشده النصيحة، ويطلب منه قولاً لا يسأل عنه أحداً قبله ولا بعده، فقال صلى الله عليه وسلم موجهاً ذلك السائل: (قل آمنت بالله، ثم استقم).
أيها الأحبة في الله: إن الاستقامة على طاعة الله، والهداية بأمر الله ورسوله لمن أعظم أحوال السعداء، ومنازل العقلاء تلكم -والله- سعادةٌ من ذاقها بهداية واستقامة، ذاق شيئاً عجز عن ذوقه الأثرياء، وقصر دونه ذوو المناصب، ولم يبلغه ذوو الأحساب والأنساب، أليست الهداية والاستقامة جعلت بلالاً وهو عبد حبشي من أهل الجنة؟ ألم تجعل صهيب الرومي من أهل الجنة؟ ألم تجعل سلمان الفارسي من أهل الجنة؟ وما نفع أبا لهب أن كان ذا حسبٍ ومالٍ، وذا منصبٍ وجاهٍ في عشيرته، حيث قال الله عز وجل عنه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:3 - 4].
من أراد السعادة، فليعلم أنها في طاعة الله، ومن أراد السعادة فليعلم أنها في لزوم أمر الله، ومن أراد السعادة، فليعلم أنها في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خالف ذلك فاته من السعادة بقدر ما خالف، وإن ظن أنه نال سعادة وهمية بمجاملة ممن حوله، أو بابتسامات زائفة، أو بضحكات مؤقتة، إذ القلب لا يملؤه إلا زاده، ولا يشبعه إلا طعامه، ولكل شيء مادةٌ تحركه، فالناقلات وقودها النفط، والطائرات وقودها النفط وما اشتق منه، والبطون وقودها الطعام يملؤها فيحرك الجوارح فيها، والظمأ يطفؤ بالمياه، وأما القلوب فليس وقودها بنفط ولا بطعام ولا بشراب، أما القلوب التي هي ملكة الجوارح إذا صلحت صلح الجسد كله بكل حواسه وجوارحه، وإذا فسدت، فسد الجسد كله بكل حواسه وجوارحه، فطعامها ووقودها ومادتها التي تحركها ذكر الله جل وعلا، فالسعادة مصدرها اتباع أمر الله ورسوله، والشقاء سببه كل إعراض عن الله ورسوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].(56/2)
الهداية سهلة على من طلبها وشاقة على من تجنبها
أيها الأحبة في الله: إذا كانت السعادة مطمعاً، والهداية أملاً يرنو إليه كل عاقل، فيا ترى هل السبيل إلى ذلك عسير أم يسير؟ الهداية يا عباد الله! سهلة ممتنعة، قريبة بعيدة، سهلة ميسرة، شاقة وحاصلة، فهي شاقة وبعيدة وعسيرة على من أراد أن يترك شهواته، وأن يترك ما عنده، وأن يترك ما تعلقت نفسه به من دون أن يعلق نفسه بطمع في ثواب الله، أو يخوف نفسه بعقاب من عذاب الله، أو يعلق نفسه برضى من عند الله جل وعلا، فمن ظن أن الهداية تسلك كيفما اتفق، وتنال بأي جهد من غير تفكر وتدبر في طلب ما عند الله من النعيم، والخوف مما عنده من العذاب والجحيم، وطلب ما عنده جل وعلا من الرضا التي إذا حصلت، فلا يضر العبد غضب الخلق وتغيرهم عليه:
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
من طلب السعادة والاستقامة والهداية بغير أن يفكر أنه ينال فيما يترك جنة عرضها السماوات والأرض، ورضاً من رب رحيم لا سخط بعده، وجنة لا يحول أهلها ولا يزولون، ونجاةٍ من عذاب أبدي سرمدي مقيم، فإن الهداية تكون عليه شاقة، تكون صعبة، تكون عظيمة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وتكون الهداية سهلة، وتكون الاستقامة ميسورة، وتكون قريبة، وتكون حاصلة لمن إذا رأى حراماً تركه رغبةً أن يرى نعيماً مقيماً، وإذا عرض له حرامٌ تركه رغبةً أن ينال ثواباً عظيماً، ومن إذا دعي إلى حرامٍ، تركه طلباً لرضاً لا سخط بعده، ومن إذا تزخرفت له معصية تذكر نعم الله عليه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] ومن إذا تزينت له المعصية، قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
من جعل الهداية والسعادة والاستقامة بين عينيه في مقابلة رضا الله، وطلب نعيمه، والخوف من عذابه، وشكر نعيمه وآلائه، فإن الاستقامة أسهل ما تكون، وإن الهداية أيسر ما تكون، ولعل هذا -أيها الأحبة- مما يبين، أو يوضح، بل يدل عليه قول الله جل وعلا في وصفه ورضاه وتكريمه لصفوة خلقه وهم أنبياؤه ورسله حيث قال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] ما الذي وحدا بهم إلى الاستقامة، وإلى الهداية، بل والمسارعة في أسبابها، وطلب كل فعل مآله مرضاة الله؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء:90] بل ويخضعون ويتضرعون لربهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
إن هذه المسائل مرتبطة ببعضها، فالمسارعة إلى الخيرات من أسبابها: الإلحاح في الرغبة، وفي طلب الجنة، والإلحاح في الرهبة، والاستعاذة من النار، والدوام على الخضوع والخشوع.
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ ما دار حتى دارت الفلكان(56/3)
أسباب البعد عن الهداية
أيها الأحبة: هذه مقدمة يسيرة نسوقها لكثيرٍ من أحبابنا وشبابنا وإخواننا وبناتنا وزوجاتنا، ولأقاربنا وقريباتنا يوم أن نرى منهم بعداً عن الهداية، وجفاءً عن الاستقامة، وتسويفاً للتوبة، وبعداً عن صراط الله المستقيم؛ فإننا نقول لهم: متى الهداية؟ ومتى الرجوع؟ ومتى الأوبة والتوبة؟(56/4)
الاستقامة العاطفية والحماسية
وإنا لنبين أسباب بعدهم، بل ومن أسباب انحراف بعض المهتدين بعد هدايتهم، وانتكاس بعض المستقيمين بعد استقامتهم يعود إلى أمورٍ منها: أن العبد ربما بدأت استقامته عاطفة، وبدأت هدايته مشاركة، وبدأت توبته حماسةً دون أن ينظر إلى أنه بهذا ينال رضا الله، ويدع ما يشتهيه لأمر الله، ويترك ما يحبه لمحبوب الله، ويدع رغباته لما أمر به الله ورسوله؛ فإن من نظر إلى هذا الأمر بادئ ذي بدء، وتذكر أنه لا يمشي خطوة إلا لأن الله رضيها أو أمر بها، ولا يتقهقر خطوة إلا لأن الله نهى عن الإقدام إليها، من نظر أنه لا يلفظ كلمة، ولا ينفق ريالاً، ولا يكف يداً عن مال، ولا يسعى إلى مقصدٍ، ولا يحجم عن أمرٍ إلا لأن الله أمره أو نهاه، لأن رسول الله أرشده أو حذره، فحينئذٍ تكون هدايته واستقامته فوق مستوى استقامة الحماس العاطفي، والنشوة المؤقتة، والتأثير الآني الذي ربما زال بعد دقائق من الخطبة والمحاضرة والموعظة، إذا علم هذا وتحقق فإن من كانت هدايته مرتبطةً بالطمع فيما عند الله، والخوف من عذابه، فمهما تزخرف وتزين له من الأمور، فإن ضميراً حياً يعيش معه، وإن نفساً لوامةً تحاسبه، وإن قلباً رجاعاً يخاف به، وإذا ابتعد عن ذلك، فربما بكى حال الموعظة، وخضع حال المحاضرة، وأنصت حال الخطبة، فإذا خرج وولى نظر إلى معصية ولم ينظر ما حولها من عذاب توعد الله به من فعلها، وإذا نظر فاحشة أقبل إليها بشهوته، ولم يتذكر وعيداً توعد الله من اقترفه.
أقول هذا أيها الأحبة! لكي نجعل استقامتنا خاضعةً منبعثةً هادفةً إلى أن كل فعلٍ فيها بأمر من الله، وكل إحجامٍ فيها بنهي من عند الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ تجد المستقيم والمهتدي يعتز باستقامته سواءً كان بين إخوانه المتدينين المستقيمين، أو بين إخوانه من سائر المسلمين، ولو كان فيهم العصاة، أو كان فيهم الظلمة، أو كان فيهم من هو بعيد البون والمسافة عن الاستقامة والهداية.
إن من دلائل الاستقامة الثابتة، والهداية الصحيحة أن تجد العبد فخوراً متشرفاً معتزاً باستقامته في أي مكان، وفي أي مقام، وبين أي قوم، وعند كل أناس، وتحت كل سماء، وفوق كل أرض، لأنه مرتبط بأمر الله: يا عبد! أن افعل، وبأمر رسول الله: يا عبد الله! أن افعل، ومنزجرٌ بنهي الله: يا عبد! لا تفعل، وبنهي رسول الله: لا تفعل، حينما يكون العبد مرتبطاً بهذا فلا يضيره، ولا يتردد أن يقيم شعائر دينه في كل مقام، وفي كل موقع، أما من كانت هدايته مشاركة جماعية، أو حالة حماسية، أو موجة عاطفية، نعم.
سينافس بين إخوانه من المتدينين، سيتحمس بينهم وعندهم ومعهم وإليهم ومنهم، ولكن بعد أن يخلو في مقامٍ قل فيه النصير، وندر فيه المعين، ولم يجد فيه من يعينه، ربما انتكس واستحى ظناً منه أن هذا حياءً، وربما تردد وتقهقر وتراجع، لأنه هناك لم يتذكر أنه إنما يقيم أمر الله ورسوله في أي موضع، وفي أي موقع، وفي أي حال.
هذه من أهم الأسباب التي من أراد بها هدايةً لا زيغ بعدها، واستقامةً لا انحراف بعدها، واستمراراً لا انتكاس فيه عليه أن يتذكر دائماً أن استقامته لله وبأمر الله، ومن الله وإلى الله، ومع ذلك كله، فلا حول له ولا قوة إلا بالله جل وعلا.(56/5)
مجالسة قرناء السوء
الأمر الآخر يا عباد الله! الذي يلاحظ ملاحظة جلية، بل ويقطع بقوة أثره، وبأثر فعله على النفوس بين الذين يريدون الاستقامة، أو بين من استقاموا، فربما انحرفوا بعد ذلك: الجلساء، وليس هذا الأمر بغريب عليكم، ولكن ربما تساهل البعض به، فظن أنه بلغ منزلة لو خالط من خالط، أو جالس من جالس، فإنه لن يتأثر أبداً، وقد ظن جهلاً، وتوقع خطأ إذ أنه لا يوجد عبدٌ لا يتأثر إلا النبي صلى الله عليه وسلم المعصوم من تأثير الناس عليه:
وبلوت أخبار الرجال فلم أجد رجلاً يؤثر دون أن يتأثرا
إلا النبي محمدٌ فجعلته علماً وسرت على هداه مكبرا
فيا أيها الأحبة: ربما أصيب العبد بانتكاسة بعد استقامة بسبب جلسائه، فإن المرء من جليسه، والطبع استراق، والبهائم -مع أنها أقل بدرجات كثيرة في وسائل العلم والمعرفة والتلقي ألا وهي الأسماع والأبصار- تتأثر ببهائم عجماوات، ليست من فصيلتها، وليست مما يشاكلها أو يشابهها، فما بالك بابن آدم الذي يجالس بني جنسه ينطق كما ينطقون، ويبصر كما يبصرون، ويأكل ويشرب كما يأكلون ويشربون، ويشتهي ما يشتهون، وله من المطامع مثلما لهم، أوليس هذا بأقوى دليلٍ على أنه يتأثر؟! والله إنه يتأثر إلا من ألح على ربه مستعيناً بخالقه سائلاً ربه خاصةً في سجوده: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك؛ لأن العبد على خطر عظيم، لا تأمننَّ على مهتد ضلالة، ولا تستبعدن على ضال هداية، وإن رأيت أحداً مهما كثرت ذنوبه، وتنوعت جرائمه، وتعددت خطاياه، وأسرف ومضى في المعصية إياك أن تتألى أو تستبعد هدايته، فما يدريك أن يكون أقرب منك وأقوى منك في الحق الذي بعث الله به نبيه، ولا تأمننَّ على مهتد ضلالة، أو معصية، أو صغيرة أو كبيرة، فإن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن من استعان بنفسه ضل، ومن توكل على ما عنده انقطع، ومن اتصل بحبل البشر انقطع، ومن استعان بالله وتوكل على الله واستهدى بالله، هداه الله ووصله الله وكفاه الله وأعانه الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(56/6)
الأسباب الجالبة للهداية والاستقامة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.(56/7)
حسن اختيار الجلساء
يا عباد الله: إن من أسباب الاستقامة وحصول الهداية وتحصيل السعادة على أمر الله، ولزوم طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يعتني العبد بجلسائه، إن جالست من هم دونك، انحدرت إليهم انحداراً لا يقف عند حد، وإن جالست من هم أعلى منك قدراً في علمهم تعلمت منهم، وإن جالست منهم أعلى منك قدراً في عبادتهم، اجتهدت أن تصل إلى درجتهم في العبادة، وإن جالست من هم أعلى منك قدراً في سمتهم وتقواهم، نافستهم في الخشية في السر والعلانية، وإن خالطت غوغاء الناس وسذجهم وبسطائهم بمعنى: جعلتهم جلساءك في كل صباح، وفي كل مساء، وفي كل ذهاب وإياب، وفي كل حضر وسفر، ما زال عقلك في انحدار حتى تبلغ درجةً ربما لو سمعت من كلامك شيئاً قبل سنين، لأنكرت ما تقوله الآن بالنسبة لما قلته قبل سنين، وما ذاك إلا أن العصمة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، وأما سائر العباد، فإن اجتهدوا في طاعة، نالوا الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ومن ضيع نفسه فقد خاب بتضييعها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] فمن ضيع النفس وأهملها وما زكاها، بل دساها، وتهاون بها، وجعل مرتعها في كل مجلس غيبة ونميمة، وجعل مناها وطربها في كل ذهاب لا فائدة فيه، وفي كل إياب لا مثوبة بعده، فإنه بذلك يتدسى، وينزل إلى منحدرات بعيدة، فالعاقل إذا طلب الهداية، عليه أن يعلم بأن هدايته استجابةً لله، وطاعةً لله، واستقامةً على أمر الله حتى لو ضل من ضل من العقلاء، أو انحرف من انحرف من الصالحين، أو تغير من تغير من الناس، لا تربط هدايتك بهداية فلان، ولا تجعل استقامتك باستقامة فلان، اجعل هدايتك لأن الله أمرك، واجعل بعدك عن المعصية، لأن الله نهاك هذا أولاً.(56/8)
المحافظة على الجلساء الصالحين
والثاني: أن تحرص كل الحرص على من تجالس، لا يعني هذا الكلام أن يتكبر الصالحون، أو أن يتورع طلبة العلم والعلماء عن مجالسة العامة، لا.
لابد أن ينفر من فيه خيرٌ وصلاح لدعوة من ضل من العوام، ولدعوة من ضل من سائر الناس، بل والدخول عليهم في مواقعهم شريطة أن يكون العبد متحصناً بخيرٍ كثير، مستعداً بما عنده من علم وعبادة قبل أن يرد مواقع الذين يدعونهم، أما رجل اهتدى بالأمس، فأصبح يدعو الناس في مجلس فسق ولهو، سرعان ما ينحرف وينتكس ويتغير، أو شاب لم يطلب العلم إلا منذ أشهر، فذهب ليناظر أقواماً يسوقون ويمررون الشبهات الواحدة تلو الأخرى، فسرعان ما يزل ويزيغ وتصيبه الشبهة، وتقتله في مقتل قد يضل بعده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أعني أن العبد لا يمنع حينما يكون عنده العلم والعبادة أن يدعو الناس، بل يصل إليهم في مواقعهم إذا أمن نفسه، وكلٌ بنفسه أدرى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] قد تجد من نفسك في يوم من الأيام قوة عظيمة وقدرة على غشيان مجالس الفساق والسفهاء لدعوتهم ونصحهم وتخويفهم وتذكيرهم وإنذارهم، وقد تكون بعد هذا في يومين، أو ثلاثة أعجز من أن تقابل ولو معصية صغيرة، فإياك أن تذهب إذا وجدت من نفسك ضعفاً، أو من قلبك خوفاً، أو وجدت في حالك تردداً، إذ العبد لا يأمن أن يذهب غازياً، فيعود أسيراً مهزوماً، والعاقل من أدرك أن صلاح نفسه، وتحصيل نجاة نفسه مقدمٌ على سائر الناس أجمعين، هذا من الأمور المهمة.
ألا وإن مجالسة الناس على درجات، فجالسوا واحرصوا على مخالطة من ينفعونكم، وعلى غشيان مجالس تذكركم بالله، تجعلكم تديمون ذكر الله، وتستغفرونه وتسبحونه وتحمدونه وتكبرونه، فتلك مجالسٌ قد حفظت لكم من الخير شيئاً كثيراً، وإن الدقائق زائلة، والثواني ماضية، والساعات منقضية، فتخيل دقيقة الآن بين عينيك لك أن تقول في هذه الدقيقة: سبحان الله، والحمد لله والله أكبر، فتزول الدقيقة بهذه الكلمات، ولك أن تقول في هذه الدقيقة: فلان قال، وفلان قام، وفلان أعطى، وفلان منع، فتتولى وتمضي هذه الدقيقة بهذه الكلمات، وستجد يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] ستجد الخير والسوء، ستجد الخير والشر بين عينيها محضراً، ستجد هاتين الدقيقتين إن قلت فيها: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، وستجد الأخرى إن قلت فيها: فلان أعطى وقام وعزل ومنع وولى، وغير ذلك.
فالعاقل من ينتبه لهداية نفسه، أوليس مقاصد العلماء في طلب العلم أن يعرفوا الحلال والحرام، لئلا يقعوا في معصية الله، أن يصيبوا أمر الله، أن ينالوا ثواب الله؟ فإن الإقبال على النفس، وتحصيل هدايتها هو من مقاصد ومطامع العلماء الأجلاء، إذ قد يقول قائل: إن الإقبال على النفوس، وتزكية الأنفس إنما هو من مقاصد علماء السلوك، أو علماء الأخلاق، أما العلماء الذين تخصصوا في الحلال والحرام، فأولئك ربما كان بحثهم في مسائل غير هذه، لا وألف لا.
مقاصد العلماء وعلماء السلوك وعلماء الحلال والحرام، وعلماء الأخلاق، مقاصدهم الجليلة ألا يعصى الله، وأن يطاع الله، وأن يسير العبد على أمر الله ورسوله.
أقبل على النفس فاستكمل محاسنها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً أفنيت نفسك فيما فيه خسران
من طلب الهداية والاستقامة، فليحذر كل الحذر من مجالس إنما هي تردية تؤذيه ولا تنفعه، والعاقل أدرى بنفسه، فإن كنت يوماً قوياً فاغش من تسعى لجهادهم بالكلمة والموعظة والنصيحة، وإن وجدت نفسك ضعيفاً، فاحرص أن تنزجر أو تتقهقر حتى تجد من نفسك قوة.
كان بعض السلف إذا دعي إلى بعض المواقع والمجتمعات أو المقامات، وعلم أنه مقدمٌ على مجتمع يعظ فيه، أو يناظر فيه، أقام ليلته كلها قبل أن يغشى القوم، يسبح ويهلل ويكبر، ويصلي ويسجد ويقرأ القرآن، يتزود بزاد حتى إذا نزل ساحة من يدعوهم، نزل إليهم قوياً مؤثراً لا متأثراً، وكان بعضهم يسبق ذلك بصيامٍ وصدقات حتى يقوي نفسه بالطاعة؛ لأن النفس إذا قويت بالطاعة كانت قادرةً على الدعوة إليها، وإذا ضعفت في الطاعة، كانت عاجزةً عن الاستمرار عليها فضلاً عن أن تدعو غيرها إليها.
المجالس المجالس يا شباب الإسلام! المجالس المجالس يا أيها المسلمون! من جالس أقواماً نال صفاتهم شاء أم أبى، وإن المعصومين هم رسل الله، ومن أعانه الله وحفظ نفسه، فلينتبه لهذه المسألة.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجربِ(56/9)
تحويل الاستقامة العاطفية إلى برنامج عملي علمي دعوي
والمسألة الثالثة في مسائل الاستقامة والهداية ألا وهي: تحويل وصرف هذه العاطفة والاستقامة والهداية إلى برنامج عملي علمي دعوي منظم، فما أكثر الذين استقاموا سنة أو سنتين، شهراً أو شهرين، ثم انتكسوا بعدها بيوم أو يومين!! وما السبب في ذلك إلا لأن استقامتهم أو توبتهم كانت بكاءً في ليلة سبع وعشرين في رمضان، أو بكاءً وحنيناً وخنيناً في ليلة تسع وعشرين، أو كانت لمجرد رحلة حج مع أقوام صالحين تأثر بعد ذلك، نعم.
وفي البكاء خير، وفي صحبة الصالحين في سفر العبادة خير، ولكن جاء الشر من جهة أنه لم يوظف هذا الخير، ولم يجعل هذا الخير في برنامج عملي، فمن ذاق الهداية والاستقامة، فعليه أن يحولها إلى برنامج علم وعمل، بمعنى أن تجعل لنفسك ومن نفسك في كل أسبوع محاضرتين، أو ثلاث تحضرها باستمرار كواجباتك اليومية من طعام وغداء، درسين أو ثلاثة من دروس التوحيد والفقه والسيرة، أو اللغة والفرائض، وغير ذلك حتى تستمر على الهداية، فإن من جعل مع الهداية طلباً للعلم، وحرصاً عليه، واجتهاداً فيه، تفتحت له آفاق بعيدة، وأدرك أن طريق الهداية طويل، وطريق الاستقامة طويل، من لم يتزود فيه بالعلم والعبادة، فربما انتكس في يومٍ، أو بعد قريب أو بعيد من الزمن.
فيا أيها العقلاء! ويا معاشر الشباب! أحذركم من التزام العاطفة، وأحذركم من استقامة مفاجأة، وأحذركم أن تكون استقامتكم والتزامكم بهذه العواطف المؤقتة الآنية التي تشبه شموعاً تجمعت، فلما قابلتها حرارة الفتنة والشهوة ذابت، أو كجبال من جليد يظن العبد حال بكائه وحال تأثره أنه مستعد أن يريق الدم في سبيل الله، وأن يبذل النفس والنفيس والغالي والرخيص في تلك اللحظات المشحونة المتأججة بالعاطفة، فلما زالت لحظة العاطفة التي كان فيها لو طلبت روحه لقدمها، جيء ليطلب منه كفٌ عن معصية، أو إعراضٌ عن خطيئة، ذابت تلك الجبال الثلجية أمام حرارة صغيرة من الصغائر، أو كبيرة من الكبائر، فالعاقل ينتبه لهذا، ويستعين بالله صباح مساء، ويلح على ربه في سجوده خاصة؛ أن يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك.
ألا وإن من أعظم النعم الاستقامة، ومن أخزى الخزي الحور بعد الكور، والزيغ بعد الهداية، والضلالة بعد الاستقامة.(56/10)
التخلص من آثار المعاصي
ثم بعد هذا في مسائل الاستقامة والهداية: أن تكون صادقاً جاداً في الإقلاع والبعد عن كل معصية تبت منها، وعن كل ما يذكرك بهذه المعصية، وعن كل جليس يذكرك بها ما دمت في بداية هذه المرحلة، إذ النفس تتأثر تأثراً سريعاً، نعم.
إن من الناس من استقام شهرين، أو سنتين، ثم بعد ذلك زاغ، ولو فتشت وقلبت ونقبت في حقيقة استقامته، لوجدته تاب توبةً في تلك اللحظة، لكنه لم يتخلص من آثار ما تاب منه، لم يتخلص من بقية أشرطته، لم يتخلص من بقية أفلامه الخليعة، لم يتخلص من بقية مجلاته الماجنة، لم يتخلص من غنائه ولهوه، لم يتخلص من عاداته وسهره، لم يتخلص من كذا وكذا، فعادت من جديد تجذبه وتغزل له غزل النسيج بالمغزل حتى صارت بعد أن كانت خيطاً رفيعاً يقاومها، أصبحت حبلاً متيناً استطاعت أن تجره إلى الضلالة من جديد، فالعاقل ينتبه، العاقل يتخلص من كل ما يذكره بالمعصية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن الجبال من الحصى
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء المسلمين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءً، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء!(56/11)
رسائل إلى الشاردين
هذه الخطبة بلسم شافٍ لأصحاب الهموم والغموم، فقد ذكر الشيخ أسباب زوال الغم والهم، كما ذكر أموراً من يقم بها يعش حياة طيبة سعيدة، ويتغلب على منغصات الحياة، فعش مع هذه الرسائل علك تجد ما يشفي غليلك!(57/1)
أسباب السعادة
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين! إننا نرى في حياتنا كثيراً من الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، والشابات والعجائز يعانون من مرض وألمٍ غريب وعجيب، سريع في الحلول سريع في الزوال، ذلكم هو: الهم، والغم، والقلق، وشرود النفس، والخشية من المستقبل، وصدق الله العظيم حيث قال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
أيها الأحبة: كم مرة رأينا ورأيتم فيها شاباً، أو كبيراً، أو مراهقاً، أو هرماً، يشكو هموماً وقلقاً، وتجد علامات الكآبة وآثارها بادية على وجهه، والشرود يذهب بأفكاره مشرقاً ومغرباً، وإذا تأملت حقيقة ما يدعوه إلى هذا الشرود، وهذا الهم والغم، لم تجد شيئاً كفؤاً لهذا كله، فلو كان الهم والغم لمسلمة اغتصبت بيد علج من العلوج الكفرة، أو لأجل يتيم قتل بلا ذنب، أو لأجل شعب شرد بلا جريمة، أو لأجل مظلومين أودعوا الزنازين بلا جرم، لربما كان لهذا الهم والغم سببٌ باعث عليه وأمر داعٍ إليه، ولكن العجب العجاب أن تجد هموماً وغموماً وقلقاً وخوفاً دون ما سبب يدعو إلى ذلك، بل إن ما حل بالمسلمين، وإن أثر على النفس فحزنت، وإن أثر على النفس فدمعت له العين وحزن له القلب، فإن ذلك لا يدعو إلى الجزع، ولا يدعو إلى السخط والدعاء بالويل والثبور، وإنما يدعو إلى مزيد من الجد والحزم والعزم لمواجهة الأقدار بالأقدار.
معاشر المؤمنين: فلنعلم -تماماً- أن هذه الهموم والغموم، وشرود النفس وخطراتها، وأفكارها ووساوسها، والقلق الذي يؤثر عليها، والكآبة التي تخيم على وجوه أصحابها ناتجة من أسباب، وقد جعل الله بأمره ورحمته أسباباً تدفعها وتزيلها، فإلى كل مهموم، وإلى كل مغموم، وإلى كل قلق خائف من المستقبل، وإلى كل من شرد فكره، وذهبت أفكاره حيص بيص، أو طارت خواطره مشرقة مغربة، فإليه نسوق هذه الوصفات الشرعية، والأدوية الإيمانية، والوسائل المجربة التي تجعل محل الهموم هماً واحداً نافعاً يسعى العبد في تحصيل ما ينفعه به، وتزيل الغموم، وتجعل محلها انشراحاً، وتزيل الكدر والخوف، وتجعل محلها تفاؤلاً.
أيها الشاكي وما بك داءٌ كن جميلاً ترى الوجود جميلاً
أيها الشاكي وما بك عيبٌ كيف تغدو إذا غدوت عليلاً(57/2)
العمل الصالح سبب للحياة الطيبة
يقول الله جل وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] حياةً طيبة لمن؟: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
أيها المهموم أيها المغموم أيها الخائف من المستقبل! يا شارد الذهن قلق الخواطر متشتت الأفكار! عليك بالعمل الصالح؛ فإنه -بإذن الله- لا محالة مجلبة للحياة الطيبة والجزاء الحسن، والأمن والطمأنينة، إن لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئةٍ عقاباً، فاحرص على الحسنات ترى أثرها عاجلاً وآجلاً بإذن الله جل وعلا، أولست مؤمناً؟ بلى.
والإيمان يغرس في قلبك، وينسج في سويداء وشغاف فؤادك أن رزقك لو اجتمعت الإنس والجن على زيادته، ما زادوه قطميراً أو قليلاً أو كثيراً، وأن أجلك لو اجتمعت جيوش الأرض، وكان بعضهم لبعض ظهيراً على أن يحولوا بينك وبين آخر يومٍ من حياتك ليسبقوا الأجل بيوم أو ساعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، أوليس الذي خلقك الله؟ أوليس الذي يرزقك الله؟ أوليس الذي يحييك الله؟ أوليس الذي يميتك الله؟ فعلامَ الهم إذاً؟ وعلامَ الحزن؟ وعلامَ الخوف؟ عجبت ذات يوم من موظف جاء تارة يبكي وتارة تسبقه عبراته، وساعة تتحدر دموعه على وجنته، وتارة في شرود، وتارة يرفع صوته، اشتعلت به هذه الهموم بسبب وظيفته، فجعلته يطلق زوجته، وربما حرم من أبنائه زمناً، وما السبب والباعث والداعي؟ إنه الخوف من رؤسائه، إنه الخوف من مسئوليه فما زال بعض الحاضرين في ذلك المجلس يؤنسه ويقربه ويذكره ويخوفه بأن أجله ورزقه بيد الله حتى اطمأن وعاد ساكن البال.
أيها الأحبة: لا داعي إلى قلق، ولا حاجة إلى خوف، ولا محل لجزع، إذا كان المؤمن راضياً مسلِّماً، إذا كان المؤمن متيقناً معتقداً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد).
فإذا كانت الأرزاق مقدرة، فوالله لا يزيدها قرب من سلطان، ولا يبعدها بُعدٌ عن سلطان، وإذا كانت الآجال محددة، فلا يدنيها دخولٌ في مهمة المعارك وحمى الوطيس وعند كعاب الأسنة، وعند رءوس السيوف، ولا يؤخر المنية نوم في الأقبية أو الخنادق أو الملاجئ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
فالإيمان -أيها الأحبة- والعمل الصالح مما يبعثان على الجرأة والشجاعة والطمأنينة، وعدم الخوف من كبير وصغير، ومسئول وقريب أو بعيد، عدم الخوف على رزق أو أجل، والإيمان يبعث في النفس رضى وقناعة، فلو فتحت للعبد كنوز ما طغى وما تجبر، وما صعر خده للناس، وما مشى في الأرض مرحاً، إذ أنه يعلم أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولاً، إن وصف المؤمنين أن يكونوا راضين مسلِّمين: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] إذا علمت أن ما أصابك من مصيبة، فإنها في كتاب عند الله من قبل أن يبرأ الله الخليقة، فإن في علم الله أزلاً أن هؤلاء الخلق قبل أن يخلقوا معلومٌ ما يفعلون وما يتركون، وما يرزقون وما يصابون.
أيها الأحبة: الإيمان والعمل الصالح يبعثان النفس على السعادة وعلى الطمأنينة، ولا يجعلان في القلب مكاناً للهم والغم أبداً، واعلم -يا شارد الذهن! يا خائفاً من المستقبل! يا متألماً بهمٍ أو غم لأمر لا داعي له- اعلم أن كثيراً من الناس مهموم بلا شيء، مغموم لأجل لا شيء، مكدرٌ بلا قضية، مشغول بلا مهمة، إنما هي وساوس وأفكار وخطرات تذهب به وتغدو وتروح وتجيء، وربما يكون عنده من القدرات ما يستطيع به أن يفعل خيراً، أو يقدم شيئاً كثيراً، ومع ذلك قعدت به همومه ووساوسه على ألا يفعل شيئاً، ولم يكن حظه إلا الهم والغم.(57/3)
الإحسان إلى الناس
ألا يا شارد الذهن! ألا يا قلق الضمير! ألا يا جزع القلب! ألا يا خائفاً من المستقبل!
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
الإحسان إلى الناس بالقول والعمل نافعٌ بإذن الله يورث محبة الخلق.
ومن أسباب السعادة: أن يكون الإنسان محبوباً بين أقرانه وأقاربه وجيرانه، ومن حوله، فاشتغل بالإحسان إلى الخلق بكل ما استطعت أن تشتغل به، ليس من شرط الإحسان إليهم أن تمد لهم ريالات ودراهم ودنانير، ولا من شرطه أن يكون الإحسان في حالة معينة، أحسن إلى الخلق بما استطعت، بأي عملٍ تستطيعه, وأسباب الخير كثيرة.
هل تعلم أسرة فقيرة مسكينة سجن عائلها، أو غاب وليها، أو مات عائلها، ألا فاشتغل بمثلها وبغيرها، اجمع ما استطعت من لباسٍ وأوصله إليهم في ليلة ليلاء، اجمع ما شئت من بطانيات، وأدخل بها عليهم في ليلة شاتية، اجمع ما استطعت من طعام، وأسعد وسد بها جوعتهم في يوم من الأيام، فإنك تجد بذلك سعادة تغمر فؤادك ونفسك كسعادة الصائم حين يفطر، وسعادة المتهجد حينما يبزغ الفجر.
أحسن إلى الناس؛ إن تجد كفيفاً فأعنه على قضاء حاجته، يوم تجده يذهب يمنةً ويسرةً في دائرة لا يعرف أين يقبل ويدبر، إن تجد أخرق لا يحسن أن يتصرف خذه معك، إن تجد عاملاً قد تصبب العرق على ثيابه وملابسه، وقد فاحت رائحة بدنه من كد التعب وشقاء العمل، فقف بسيارتك مهما كانت فارهة نظيفة معطرة واحمله معك، ولا بأس- إن لم تكن مرتبطاً على ميعاد- أن تذهب به إلى مكانه، ولو اقتضى ذلك منك مزيد ساعة، أو نصف ساعة، إنه عمل يجلب إلى نفسك السعادة، ويطرد الهموم، وتشعر أنك حققت شيئاً.
وما سبب هذه الهموم إلا أن بعض الناس يشعر أنه صفرٌ على الشمال، كمٌّ لا فائدة منه، جنسٌ لا يستفاد منه، فإذا شعرت أنك أفدت واستفدت، ونفعت وانتفعت، كان ذلك سبباً في سعادتك، ومن ثم لا بقاء للهم والغم في فؤادك، يقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] من الذي وعد؟ ملك من الملوك؟ أمير من الأمراء؟ وزير من الوزراء؟ قاضٍ من القضاة؟ لا.
بل الله الذي وعد.
{فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] والله لو وعدت بمنحة، أو وعدت بمال، أو بدرهم ودينار، لوجدت السعادة تغمر قلبك إن كنت محتاجاً، أو مرتقباً ذلك الموعود، فما بالك يوم أن يعدك الله بأجر، وليس أجراً فحسب، بل: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] كثيرٌ من الكلام لا فائدة منه، وكثيرٌ من السعي لا جدوى فيه, وكثيرٌ من العمل لا فائدة بعده إلا من أمر بصدقة، أو معروف، أو إصلاحٍ بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].(57/4)
احرص على ما ينفعك تكن سعيداً
يا شارد الذهن! ويا قلقاً من مستقبله! ويا قلق الفؤاد جزع النفس! اشتغل بما ينفعك من علم أو عمل، واختر أحب الأعمال وأيسرها إلى نفسك، وأقربها إلى مقدورك من أعمال، أو علم نافعٍ، فإنك يوم أن تشتغل بما ينفعك، سرعان ما تزول همومك وغمومك.
إن كثيراً من الخائفين والقلقين إذا أصابته مصيبة، أو حلت بساحته الهموم والغموم، انقطع عن عمله، واحتجب عن أصحابه، واعتزل عن أهله، وخلا بنفسه، ودخل حجرة انفرادية مظلمةً، لا يريد أن يسمع صوتاً، ولا يرى نوراً، وحاله كقول القائل:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ
قد لذت له الخلوة وأنس بها، وأنس بالعزلة، فبعد ذلك تجده لا يريد أن يرى أحداً، ولا يقابل أحداً، ولا يسمع صوتاً، ولا يأكل من الطعام إلا ما يسد رمقه، ظناً منه أن عزلته تدني فرجه، وظناً منه أن احتجابه يقرب راحته، وما درى أنه بذلك كمن رام تطهير الدم النجس بالدم، كمن أراد إزالة النجاسة بنجاسة أخرى، كمن أراد سداد الدين بدينٍ آخر، كمن أراد علاج المرض بمرض أشد منه.
يا قلق الذهن وشارد الفكر! إذا نزلت بك نازلةٌ أحدثت هماً وغماً، فلا تحتجب ولا تعتزل، وكن مع الناس، وخالط واصبر، وركِّز بدقة على أمر ينفعك من علم أو عمل تميل إليه نفسك بحسب قدرتك ومهارتك وكفاءتك، فإنك بذلك تشتغل بما بين يديك، وما هو أمام ناظريك عما يجيء ويقبل به الشيطان ويدبر من الوساوس والهموم في فؤادك، اشتغل بما تشتاق إليه وتطمئن إليه من عمل نافع أو مباح، فإن الواحد -وهذا مشاهدٌ معلومٌ بالحس والمشاهدة- إذا كان مشغولاً فتراه إذا نزلت به نازلةٌ الصبح فمضى في شغله وعمله، تجده قد نسي أغلبها الصبح، ونسي جلها المساء، فغابت شمسه وقد نسيها كلها، أما من قطع أعماله, واحتجب واعتزل، فإن هذه الهموم تفرخ وتولد أمثالها، وتزيد في مرضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(57/5)
يومك يومك
ويا خائفاً من المستقبل! ويا شارد الذهن! ويا قلق الفكر! ويا مضطرب المواقف! عليك أن تهتم بعمل اليوم والساعة واللحظة، إن كثيراً من المهمومين والمغمومين إذا حدثته وجلست معه، وجدته لا يحدثك إلا عن أيام خلت وسنين مضت، أو يحدثك عن أهلةٍ لم تبزغ بعد، وعن أقمارٍ لم تكتمل بعد، وما هو في مقدورك، وقد يأتي ذلك الهلال أو ذلك البدر وأنت تحت الدنيا ولست فوقها:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
اشتغل بساعتك، اشتغل بلحظتك، اشتغل بيومك، اشتغل بقضيتك، أما ما مضى فأمره إلى الله.
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميدُ
إذا كان ما مضى شهد عليك بمعصية، وزلة وخطيئة، وإثم وجريمة، فإن حاجتك هذا اليوم لعلاج ما مضى بأن تملأ اليوم بالتوبة، وبالذكر والاستغفار حتى يمحو ما مضى، وأقم الصلاة، يقول الله جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
هكذا أيها الأخ المسلم: أنت بحاجة أن تتعامل مع الساعة، أن تتعامل مع اللحظة، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لـ عمر بن الخطاب: [إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل] فحاجتك أن تعطي الليل وظيفته، وأن تعطي النهار وظيفته، فإنك بذلك تحصل خيراً كثيراً، اشتغل بساعتك، ما مضى إياك أن تكون جزعاً قلقاً فيه فقد مضى وانتهى، ولا تستطيع البشرية رد ثانية أو دقيقة أو أقل أو أكثر منه؛ لأنه مضى وانتهى، وأما المستقبل فلا تستطيع البشرية أن تجر شمس غدٍ إلى هذه الساعة، ولا تستطيع البشرية أن تجر ظلام الليلة المقبلة إلى هذه اللحظة التي نعيش فيها، فعليك أن تعيش ساعتك، عش يومك وعش لحظتك بعمل صالح بتوبة باستغفار بعمل نافع بوظيفتك بما أنت فيه، فإن ذلك مما يجعلك مطمئن البال، مرتاح النفس، مطمئن الضمير، وحينئذٍ لن يكون للهموم والغموم إلى نفسك سبيلاً، اشتغل بساعتك اشتغل بيومك اشتغل بما ينفعك.
إني وجدت كثيراً من الناس قد أفسد الشيطان عليهم أيامهم، فتجده ربما يفكر في ذنوبه التي سلفت، ولكنه في لحظة التفكير لا يقدم استغفاراً يمحو ذنوبه، ولا يقدم حسنة تمحو سيئاته، ولا يقدم صالحاً يستر زلاته أو يمحوها، مجرد تفكير في ما مضى دون أن يعالج ما مضى بفعل في حالته.(57/6)
فكر في المستقبل على قدرك
وتجد الشيطان كثيراً ما جعل بعضهم يفكر في المستقبل، بل إن بعضهم بلغت به المخاوف والوساوس حتى أنه لا يكاد يخرج من بيته، أو لا يكاد يبيع أو يشتري أو يغامر أو يعمل عملاً نافعاً في مغامرة نافعة، تجده دائماً جباناً خواراً ضعيفاً متشائماً، الأصل في رؤيته السواد، والأصل في الناس الخيانة، والأصل في المعاملات الفشل، والأصل في التجارات الخسارة، فمثل هذا لا يتحرك قيد أنملة، ويموت في مكانه، ولو أنه تحرك لربح تارات، أو خسر تارة وربح بعدها تارات، لسلم تارات ولو أصيب بشيء لأصاب بعدها خيراً كثيراً، لكن هذا التشاؤم هو الذي جعله يعيش في دائرة الهم والقلق والغم؛ لأنه لم يتعد أفكاره وسعيه في تفكيره فيما مضى، وأما ساعته ولحظته وحالته التي هو فيها، تجده بعيداً عن التفكير فيها.
أيها الحبيب: اعلم أن من واجبك أن تفكر فيما هو مقدور بين يديك.
إن تعجب فعجبٌ حال كثير من الناس أفكاره متعلقة بما ليس في يده! وطموحاته قد بلغت ما يعجز عن الوصول عنه:
من مد طرفاً إلى ما فوق غايته ارتد خسآن منه الطرف قد حسرا
تعجب من أناس يريدون السطوح بلا درج! ويريدون الشهادة بلا علم! ويريدون الطب بلا تعلم! ويريدون التجارة بلا سعي! ويريدون الولد بلا زواج! ويريدون الثمر بلا غرس ولا زراعة! هذه من الآمال الغبية والطموحات الكاذبة، إن من كان عاقلاً في طموحاته، ستجده عاقلاً في وسائله التي يتخذها للوصول إلى هذه الطموحات.
نعم نحيي شباباً ورجالاً ونساءً، بلغت طموحاتهم عنان السماء.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
طموحاتٌ ربما تجاوزت عند بعضهم حطام الدنيا وترابها ومتاعها الفاني إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ولذلك لما قال أحد السلاطين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: إنك تريد حكمي وملكي، فقال ابن تيمية: أنا أريد حكمك وملكك! والله إن حكمك لا يساوي فلسين، إني أريد جنة عرضها السماوات والأرض، فمن أراد جنة عرضها السماوات والأرض، كيف يريد حطاماً ومتاعاً زائلاً وفانياً من عرض الدنيا، فالعاقل يشتغل بما يقدر عليه، وعليه أن يبتعد عما لا فائدة منه.
عجبت من أناس وشباب منذ سنين وأنا أعرفهم يضربون ويسعون، ويغدون ويروحون في أسباب التجارة، وما جمعوا شيئاً، ولا شك أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد جعل الله الأقدار بأسبابها، والأرزاق بأقدارها، ولكن لما تأملت أو تأمل عاقل غيري وجده أراد التجارة بالمليار قبل الريال، وبالمليون قبل المائة، يعرض عليه من الرزق أيسره، ومن الحلال أطيبه، ومن المقدور أيسره، فيعرض عن هذا، تأتيه من أرزاق الله أمورٌ كثيرة فلا يقبلها؛ لأنها من فئات المئات والعشرات، ولكنه يطمح في فئات الملايين وما بعدها، اشتغل بما لا يقدر عليه، وأراد قمة بلا سلم يفضي إليه، فتجده مضى معلقاً بجنون العظمة، وكبرياء الثروة، وأوهام الثراء والغنى، ففي ذات يومٍ تجده محطماً كسيراً معتزلاً مستوحشاً قلقاً؛ لأنه فكر وسعى فيما لا سبيل له إليه، وأعرض عما بين يديه، فلأجل ذلك اجتمعت الهموم في رأسه، واجتمعت المصائب بين عينيه.(57/7)
وطن نفسك علىالابتلاء
واعلم أيها المسلم! أن العبد قد يقدر الله عليه المقادير: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] فالعاقل عليه أن يوطن نفسه على أن الدنيا موقع ابتلاء: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] الأصل فيها أن لذاتها مكدرة، وأن أحبابها يتفرقون، وأن أحياءها يموتون، وأن أصحاءها يسقمون ويمرضون، فلا تجزع بما يكون، أو قد يكون ولكن إذا نزل أمر من قدر الله، فلا تفكر فيما مضى، ولا تفكر خائفاً من المستقبل، بل كما قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، ولا تعجز، وإذا أصابك شيءٌ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّرَ الله وما شاء فعل (أو قدَرُ الله وما شاء فعله) فإن لو تفتح عمل الشيطان).
إن هذا المعنى قد تجده عند بعض العقلاء، وقد تجده أيضاً عند بعض الكفار، إنك تعجب يوم أن ترى كافراً أصيب بمصيبة كشلل في طرفيه السفليين، أو كعمى في عينيه، أو بأمر من الأمور، إن بعض المسلمين حينما تحل به مصيبة كهذه، تظلم الدنيا في عينه، ويسود المستقبل في وجهه، ويتشاءم، ويشعر أن كل شيء فاته، والعجب أن تجد كافراً، أو كفاراً إذا حل بأحدهم شيءٌ من هذا، ذهب إلى معهد تأهيل المعوقين ليجد نفسه حالة سوية طبيعية قادرة على الاختلاط بالناس، يتعلم كيف يستخدم آلةً يركب بها السيارة، وكيف يقود سيارة تناسب أمثاله، وكيف يستخدم المواقف، ويصعد إلى أعلى العمارات، ويباشر أعقد العمليات، وتجد كثيراً من المعوقين أقدر من كثيرين من الذين يسمون أسوياء، وما ذاك إلا أن ذاك المعوق قد حمل قلباً نافعاً، وعقلاً متدبراً فيما يخص أمور حياته، فسبق بذلك ذلك العاجز المتشائم الضعيف، كم من مشلول سبق كثيراً من العدائين بفكره وعلمه وإنتاجه، وكم من كفيف سبق كثيراً من المبصرين، وكم من أصم وأبكم كان أحكم من كثير من الناطقين والسامعين، والسبب أن الواحد منهم تعامل مع علته، تعامل مع قضيته، تعامل مع ما حل به بأمر الله، ففاز بالأجر؛ لأنها مصيبة بقدر الله، فصبر عليها، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، هذا أولاً.
الثاني: ما جلس يبكي: أنا كفيفٌ، أنا معوقٌ، أنا أبكم، أو أصم، بل أخذ يتعلم كيف يتعامل مع الحياة، ومع الناس، ومع هذا الكون حتى ولو كان كفيفاً، أو معوقاً، أو أصم، أو أبكم.
العاقل يتعامل فيما يقدر عليه، ويجتهد فيما ينفعه، ويتعامل مع ما يستطيعه، وأما الاشتغال بالخيال، والاشتغال بالآمال التي لا يعقل إليها سبيل، فذاك من الجهل.
ويا شارد الذهن! ويا قلق الضمير! ويا جزعاً من مستقبله! يا من خلوت وحدك في حجرة ظلماء، أو ليلة ليلاء واحتجبت عن الناس! ماذا تفيدك خلوتك؟ وماذا تتذكر في عزلتك؟ تتذكر علان وفلان، أو تعيد صورة المشهد، أو الحادث، أو تعيد سيرة القضية من جديد، ولو أنك جعلت مكان هذا الخيال، ومكان هذه الوساوس وتلك الألفاظ التي تطلقها بين صوتٍ خفي ومسموع، لو جعلت مكانها ذكر الله جل وعلا، لكنت مطمئن القلب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
قال صلى الله عليه وسلم: (من لازم الاستغفار، جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً) نعم.
بدلاً من الخلوة والوساوس والكلام الخفي والمسموع، كن مع الناس في المساجد، واسبقهم إلى الرياض، وكن متقدماً في روضة المسجد، كن جاداً في العبادة، مكثراً من ذكر الله؛ فإن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) إذا كنت تظن أن الله سيفرج عنك، فأبشر بالفرج، أتظن أن الله يتركك ويسلمك، وهذا ظنك بربك، وقد تعلقت بخلق ضعاف، فمن تعلق بشيء وكل إليه وعليه، فتوكل على الله، واستعن بالله، وأحسن ظناً بالله، من ظن أن الله يرزقه رزقه، من ظن أن الله يحميه حماه، من ظن أن الله ينصره نصره، من ظن أن الله ينتصف له ممن ظلمه نال حقه، من ظن أن الله معه فاز بمعية ربه، ومن ظن أنه متعلقٌ بشخص أو أشخاص، أو فرد أو أفراد، أو صغير أو كبير، فمن تعلق بشيء وكل إليه.
فيا أيها المسلم: أكثر من ذكر الله جل وعلا، ثم تأمل -يا شارد الذهن! ويا خائفاً من مستقبله- تأمل كم من الناس فوقك، وكم من الناس دونك في النعم! ربما رفعت بصرك فرأيت مئات من البشر في درجات أعلى منك، ولكن انظر إلى ملايين من البشر دونك أياً كان حاله، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم).
ذلك الذي أصابه الجزع والهم والهلع، والقلق والخوف، والشرود وهذا الهم، ربما كان بسبب أراد به يسابق أقواماً كتب الله -لابتلاء الله، أو لنعمة، أو لمحنة- أن يبلغوا درجة من الدرجات، أو مرتبة من المراتب، فحاول أن يبلغها فعجز، فظل محطم النفس، شارد الذهن، خائفاً من مستقبله، فلم ينل من ساعته إلا الخوف والهم، ولو أنه قال الحمد لله كم نعمةٍ أنا فيها، وغيري محرومٌ منها.
هل وراءك صربي يطاردك؟ هل وراءك هندوسي يرتقب خروج أهلك من بيتك، عياذاً بالله؟ هل تترقب قذيفةً تحل من السماء على بيتك؟ هل أنت مريضٌ بمختلف الأمراض وأشدها؟ لئن ابتليت في مرض في جزء يسير من بدنك لا يتجاوز واحد سنتيمتر، أو أربعة سنتيمتر من بدنك، فإنك معافىً في بقية بدنك، ولئن أخذ بصرك، فلا يزال سمعك ورجلك ويدك وقواك، وتنفسك وأجهزتك وكل ما عندك، وإن أخذت أقدامك، فأنت سميعٌ بصيرٌ، فصيحٌ منطيقٌ، جدلٌ خصمٌ مبينٌ، تستطيع أن تتنعم بهذه النعم كلها، فإياك أن تزدري نعمة الله بكثرة النظر، أو بالنظر إلى من فوقك، فإن من فوقك قد يكون أعداداً قليلة، ولكن انظر إلى من هم دونك، فتجدهم يبلغون ملايين، أو مئات الملايين.(57/8)
الدعاء واللجوء إلى الله سبب للسعادة
ويا أيها الخائف! ويا أيها القلق! ويا أيها الشارد! أكثر من الدعاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى دعاء جميل، قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه من الدعاء: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموت راحةً لي من كل شر) رواه مسلم، وفي حديث آخر كان صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت).
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(57/9)
التوكل على الله سبب للسعادة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: لا نزال نسوق هذه الرسائل إلى ذلك الشارد الخائف الجزع القلق الموتور المرعوب من المستقبل، فنقول له: توكل على الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] إن من تعلق بغير الله انقطع، ومن سأل غير الله حرم، ومن اعتصم بغير الله خذل، ومن أراد أمراً بغير معونة الله لم يجد إلا نكداً وقد يجد قليلاً، ثم يكون القليل باباً إلى الكثير، اجعل طريقك إلى كل حاجة: سؤال الله، والاستعانة بالله، والتوكل على الله، فإنك محتاج، ومن احتجت إليه هو خلقٌ من خلق الله، وعبدٌ من عبيد الله، اسأل الله الذي خلقك وخلقه، وبيده ناصيتك وناصيته، وروحك وروحه، اسأل الله جل وعلا، فإن الله يسخر لك الكبير والصغير إذا تعلقت بالله.
وإنك لتعجب أن تجد مسلماً أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعاً بالأبواب، إن غاب لم يفقد، وإن حضر لم يعرف، تجد ذات يوم أناساً من الكبار أو العظماء يرتادون بيته، ويقضون حاجته، وكيف بلغوا داره؟ وكيف قضوا حاجته ولم تظهر له صورة في صحيفة، ولم يظهر عنه إعلان، ولم تتكلم عنه نشرة، فما الذي جعل هذا الكبير، أو ذلك العظيم، أو ذلك القوي الغني يصل إلى داره؟ إنها دعوت سرت بليل بلغت عنان السماء، فسخر الله بها عبداً من عباده الأقوياء الأغنياء الأثرياء، فجعلهم يخرجون في تلك الليلة، أو في مثل تلك الساعة إلى بيته فيقضون حاجته، وما ظهر أمره إلى أحد أبداً:
من يسأل الناس يحرموه وسائل الله لا يخيبُ(57/10)
لا تنظر إلى الحياة من زاوية واحدة مظلمة
ويا أيها الشارد! ويا أيها القلق! ويا أيها الخائف من المستقبل! لماذا تنظر إلى الأمور بكل عين متشائمة؟ لماذا تنظر إلى الأمور من زواياها الضيقة، ومن تضاريسها الصعبة؟ لماذا لا تنظر إلى الأمور من أوسع أبوابها، من أطيب زواياها، من أجمل أسمائها، من أبهى صورها؟ انظر إلى كل قضية ستجد أنك ترى لها بابين ووجهين.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
في زخرف القول تزيينٌ لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول: هذا مجاج النحل يعني: العسل تجد القضية الواحدة تنظر لها بمنظارين، تنظر إلى كل قضية بأصفى مناظيرها، وبأوسع أبوابها، وبأجمل زواياها، وبأسهل السبل إليها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين، اختار أيسرهما.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه التفاؤل، وإن الذي ينظر إلى أموره بهذه العين، فثق أنه سيبقى سعيداً في حياته سعيداً في معاملته سعيداً في زواجه، أوليس صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إن كره منا خلقاً رضي منها آخر)؟ نعم.
قد تكره من زوجتك خلقاً معيناً، لكن إن نظرت إلى زوجتك ببوابة ذلك الخلق السيئ، وبمنظار تلك الخصلة السيئة، فلن ترى بعد الظلمة إلا ظلاماً، وإن تنظر إلى زوجتك بمقاييس وبأمور جيدة جميلة، وأخلاق طيبة فيها، فسترى أن تلك الخصلة السيئة هي في آخر مساحات النظر التي تنظر إليها.
ثم اعلم -يا أيها الخائف المتشائم! يا أيها المعتزل القلق البعيد الشارد عن الناس وعن نفسه- أن شرودك هذا ربما كان بسبب تفريطك بواجباتك، فإن من قام بواجبه، يفرح متى يسأله من كلفه بالواجب أن يقدمه، انظر إلى الطالب أياً كان مرتبته إذا كان قد أعد واجبه بأحسن وأبهى طريقة، ينتظر الساعة التي يسأله مدرسه: أين واجباتك؟ بل إذا غفل مدرسه عن الواجب، قال: إن علينا واجباً سألته فهاهو ذا أيها المعلم، تجد الموظف حينما يعد أعماله وأموره، يفرح متى يسأله مديره عن واجبات أسندت إليه.
تجد الشرطي أو رجل الأمن حينما يقوم بواجبه، يلذ حينما يسأله قائده عن مهمته، ولكن حينما تتساهل بواجبك وتضيع ما أسند إليك، وتهمل ما بين يديك، فإنك تكره من يسألك عن أعمالك، ولا تتمنى أن تقابل من تظن أنه سيستوقفك لحظة في عملك أبداً، قم بواجبك واسلم من اللوم، وقم بواجبك واسلم من الكلام قلَّ أو كثر، فإن التهاون والتفريط والتعدي كل ذلك يسبب الجزع والخوف والرغبة في البعد عن الآخرين، ثم يأتيك الشيطان ويقول لك: أنت قلق، عندك مرض نفسي، عندك مشكلة نفسية، عندك وعندك وعندك، وحقيقة مرضك أنك فرطت في الواجب، ولو قمت بواجبك في وظيفة، أو ميدان، أو أي مهمة كانت، فإنك ستكون سعيداً بإذن الله جل وعلا.(57/11)
الدنيا قصيرة فلا تقصرها بالأكدار أيضاً
ثم يا أيها الخائف! يا أيها المتشائم! يا أيها المعتزل! يا أيها المسلم! تيقن أن الدنيا وإن طابت، فإنها قصيرة، فلا تطيلها بالأكدار، فقارن ما أنت فيه من النعم بما حل بك من مصيبة؛ ستجد أن نعمك أو أن النعم التي تحيط بك ملايين، وأن المصيبة واحدة، فلا تضيع ملايين بذرة، أو درجة واحدة، وإن كان همك، أو غمك، أو خوفك، أو شرودك، أو قلقك، أو جزعك بسبب أذى الناس لك، فاعلم أنه لن يسلم أحد، إن الأنبياء ما سلموا.
ليس يخلو المرء من ضدٍ ولو حاول العزلة في رأس الجبل
لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدلِ
فما عليك إلا أن تصبر، إن أناساً تجدهم في جزع، وفي قلق، وفي شرود وخوف، فإذا سألته قال: يتكلمون فيَّ، يقولون عني، يتناقلون سيرتي، يذكرون عني! يا مسكين! أتريد لنفسك ما لم يشأ الله أن يجعله لنفسه؟ لو شاء الله ما قال عبدٌ من عباده في جلاله كلمة واحدة، ومع ذلك: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وقالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] أتريد لنفسك ما لم يكن لله؟ أتريد لنفسك ما لم يكن لرسل الله عليهم وعلى نبينا صلوات الله وسلامه؟ تجد من الناس من يجزع ويغضب؛ لأن الناس تكلموا فيه، يا مسكين! أفلا تأخذ العفو وتأمر بالعرف وتعرض عن الجاهلين.
يا مسكين! يا أيها المعتزل الشارد بسبب هذا! قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أليس لك في صلة من قطعك وإعطاء من حرمك، والعفو عمن ظلمك: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237] أليس لك في هذا عوض؟ فإن الله يجزيك به خير الجزاء.
اللهم اغفر لمن ظلمنا، اللهم اغفر لمن تكلم فينا، اللهم سامح من شتمنا، اللهم إنا نشهدك أنا نسامح من تكلم فينا، ومن سيتكلم.
ما الفائدة أن نجعل هذا القلب الصغير يحمل بغضاء وعداوات، ونحن نملك أن نملأه بالذكر والمحبة والوفاء، وسلامة القلب، وطيب الأنفس، حتى وإن تكلم من تكلم، حتى وإن قال من قال، حتى وإن افترى من افترى؟ اللهم سامحه إلا إن أراد بذلك فتنة في الدين وإساءة للدين وأهل الدين، اللهم فعجل عاقبته أو اهده قبل ذلك.
وأخيراً: ربما تجد بعض الناس قوله -كقول القائل يوم أن ترى شرود ذهنه، وقلق نفسه وجزعه وخوفه، وتألم نفسه- يقول:
نسجت لهم غزلاً رفيعاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي
نصحت فما سمعوا، وأعطيت فما شكروا، وأمرت فما ائتمروا، وزجرت فما انزجروا.
يا أيها المحب! لا تنتظر من الناس شكراً، اشكر الله جل وعلا، اشكر الله سبحانه وتعالى، وافعل المعروف لوجهه، ولا تنتظر من أحد الناس شكراً، لا تقل: ليتني لم أفعل معروفاً، فإني لم أر من صاحبه إلا تنكراً أو تسلطاً، لا.
بل احمد الله أن أسديت معروفاً، وأن أعانك على فعل معروف، واحمد الله أنك معطٍ لا آخذ، وأنك نافعٌ لا منتفع، وأنك يدٌ عليا ولم تكن يداً سفلى، لا تنتظر الشكر من أحد، فإنك إن انتظرت من الناس شيئاً، طال بك الانتظار، ولن ينفعك الناس بشكر أو مديح أو هجاء، ولكن ينفعك ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى.(57/12)
حياتك من صنع أفكارك
واعلم أن حياتك من صنع أفكارك، نحن الآن في هذا المسجد لو جلسنا نفكر أن جنوداً على الأبواب، وأفواه البنادق توجه من النوافذ، هذا التفكير سيجعلنا نرتعد ونحن في أماكننا، ونضطرب ونحن في مواقعنا؛ لأننا فكرنا بطريقة أورثت الخوف في نفوسنا، والفكر له أثر على الجوارح والسلوك، ولكن فكر بطريقة متفائلة سعيدة، ستخرج واثقاً مطمئناً.
حياتك من صنع أفكارك، فاجتهد في أن يكون فكرك دائماً بتفاؤل ورضا، وبحسن ظن من الله.(57/13)
الجدية في الحياة سبب للسعادة
وأخيراً: كن جاداً في حياتك تكن سعيداً، إن كثيراً من الذين تراهم في هم وغم وقلق ليس عندهم بالمعنى الطبي مشكلة نفسية، وإنما هو كسل وتهاون، فترى الواحد منهم نائماً والناس في أعمالهم، وتراه خارجاً والناس آيبون إلى بيوتهم، وتراه مستيقظاً في الليل والناس على فرشهم نائمون، وتراه يغدو والناس رائحون، ويروح والناس غادون.
إن الله جل وعلا خلق هذا الكون بنظامٍ مطرد متسق، فجعل الليل لباساً، وجعل النهار معاشاً، وجعل الليل لتسكنوا فيه، وجعل النهار مبصراً، وجعل للكون دورة، وللنجوم دورة، وللأفلاك دورة، وللكائنات والنباتات والموجودات دورة متناسقة، من عبد الله حق عبادته وجد أنه يدور في ذات الفلك، ويسير في ذات التيار، أما من عصى الله، وأعرض عن ذكره، فإن له معيشةً ضنكا، وتجده يدور بالاتجاه المعاكس، ولك أن تتأمل أحدهم يفطر قبل غداء الناس بنصف ساعة، ويتغدى قبل عشاء الناس، نحن لا ننتقد الناس، فهم أحرار صاموا أم أفطروا، أم قدموا الغداء أو الفطور، ولكن نقول: تجد أن هذا قد اضطرب ميزان حياته، ومن اضطرب ميزان حياته، فلا تعجب إن أصابه الهم والغم، كن جاداً، كن غادياً من الصبح
وقد أغتدي والطير في وكناتها.
(بورك لأمتي في بكورها) اغتنم صباحك، اغتنم يومك، عد وقت الظهيرة: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) خذ راحةً بين الظهر والعصر.
ألا وإن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العصير جنونُ
ألا إن بين الظهر والعصر نومةٌ تحاك لأصحاب العقول فنونُ
استفد من العصر، اجلس مع أهلك، استفد من المغرب، عد إلى بيتك مبكراً، عد إلى زوجتك، إلى فراشك مبكراً ستجد الحياة طيبة لذيذة، ستجد أن اليوم طويل وطويل، وتنجز فيه أعمالاً كثيرةً، أما أن تنام قبل الفجر بساعتين أو ساعة، ثم تضيع الفجر، ثم لا تستيقظ إلا قبل الظهر، وتذهب إلى أسواق، فتجد أطيب البضاعة قد بيعت، والموظفين قد خرجوا، والناس في آخر وقت العمل لا يعطونك إلا من آخر ما في طاقتهم من البذل والعمل، ثم تضيق إذا ردوك وما أنجزوا أعمالك، أو تضيق إذا لامك مسئولك ومديرك، ثم تجلس ساعات تعض على الأقلام وتقطع الورق، وتعض أصابع الندم، وتنتظر وقت الخروج وتعود، وتجيء لتقبض راتبك وأنت في قرارة نفسك ما أديت حقه، وما قمت بواجبك، فإن ذلك كله يورث في نفسك هذه الهموم، وهذه الغموم، فكن جاداً منضبطاً معتنياً بوقتك، محترماً لنفسك، فإنك بذلك تكون سعيداً.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين، وأن يبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك؛ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء الضعفاء إليك؛ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء الضعفاء إليك؛ اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(57/14)
الواقع والأمل
إن وظيفة الداعية مقتصرة على هداية الدلالة، أما هداية التوفيق فإنها لله وحده.
ولأجل ذلك جاءت هذه المادة مبينة أهمية الفأل والأمل، وعدم اليأس والقنوط حتى آخر اللحظات.
كتاب الله يدعو للتفاؤل وعدم القنوط، وحسن الظن بالله.
أنبياء الله متفائلون في دعوتهم من غير قنوط أو يأس.
نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في تفاؤله، والأمل يحدوه في دعوته.
وأخيراً يجب أن يُعلم أن المسلم مأمور بالتفاؤل، وأن الدعوة لا تعرف اليأس ولا الملل أبداً.(58/1)
وظيفة الداعية
الحمد لله، الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه، جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي لا تنسى، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى فهي وصية الله لكم وللأمم قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
معاشر المؤمنين: إن من المسلمين -هداهم الله- من إذا رأى أحدهم منكراً يرتكب، أو حرمة تنتهك، أو حقاً يضيَّع، أو رأى فتنة حلت، أو مصيبة نزلت، أصابه ذلك باليأس والقنوط، ونزل به من الجزع، وحل به من سوء الظن وكثرة التشاؤم وانعدام التفاؤل ما لا يعلمه إلا الله، وربما أصابه بعد ذلك إحباط وقعود عن الدعوة إلى الله عز وجل ظناً أن الدنيا مدبرة، وأن الناس لا ينفع فيهم وعظ ولا إرشاد، وأن القيامة قد دنت، واقتربت الساعة وانشق القمر، وأن الناس لا ينفع فيهم وعظ ولا زجر، ولا نهي ولا أمر، إن هذا مما يحل ببعض النفوس عند بعض إخواننا هداهم الله.
وينبغي أن نعلم أيها الأحبة: أن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة وسنة وشريعة ربانية ماضية، لا يضرها أن يقبل الناس على الطاعة أو يدبروا عنها، أو أن يصيب الناس مد وجزر في إقبال أو إدبار عن دين الله جل وعلا، إذ إن وصية الله للأنبياء ولورثة الأنبياء وهم العلماء، ولمن ولاهم الله أمور المسلمين أن يقوموا على هذه الدعوة، عبادة، وحسبة، وامتثالاً لأمر الله عز وجل، وليسوا بمحاسبين ولا مسئولين عن النتائج المترتبة، إذ الهداية إلى الله عز وجل ليس للبشر منها إلا هداية الدلالة، وأما هداية التوفيق فمن الله وحده: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
فإذا رأيت مسلماً أصابه من الكآبة ما خيم على قسمات وجهه، وحل به من خيبة الأمل ما ظهر على سلوكه وتصرفاته، فرأيته عاجزاً في الدعوة بعد أن كان نشيطاً، ورأيته ضعيفاً في الحسبة بعد أن كان قوياً، ورأيته متشائماً بعد أن كان متفائلاً، ورأيت الأمر الذي في نفسه؛ من الغيرة على دين الله، وإنكار المنكر، ودعوة الضالين، وغشيان أهل المعاصي في مجالسهم ودعوتهم إلى الله عز وجل قد تبدلت وتحولت في نفسه إلى عزلةٍ وتقوقعٍ وبعدٍ عن غشيان الناس ونصيحتهم، فاعلم أن قد أصابه من هذا الأمر ما أصابه، وربما يعود ذلك إلى جهله بسنة الله في الكون، وعدم علمه بسنن الله في حياة البشر أو عدم فقهه وفهمه لنصوص الكتاب والسنة.
ولكنا يا عباد الله! إذا عدنا ورجعنا إلى المعين الذي لا ينضب ولا يتغير ولا يتكدر، إذا عدنا إلى الشريعة الغراء التي علمتنا أدق أمور حياتنا، في معاملاتنا ودخولنا وخروجنا، فلن نعدم أن نجد في هذه الشريعة ما يرشدنا ويبعث في نفوسنا الأمل والعمل حيال ما نرى ونسمع من إدبار الناس، أو ضعفهم، أو تهاونهم وجهلهم، أو قعودهم عن طاعة الله، أو حدوث التشاؤم والقعود عن الدعوة حال مصيبة أو فتنة أو نازلة.(58/2)
كتاب الله يدعو للتفاؤل
إن كلام الله عز وجل مليء في إرشادنا بالتفاؤل، وذلك الأمر الذي لم يفارق أنبياء الله في دعوتهم أممهم، لقد لازم التفاؤل أنبياء الله في طريقهم ودعوتهم وتعاملهم مع قومهم، وحينما نستعرض صوراً من هذا، نجد أن هذا التفاؤل إما جاء ابتداءً وإما جاء انتهاءً، وإما جاء لازماً أو ثمرة كرجاء وأمل، وترقب للفرج بعد الشدة.
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ليس للأنبياء، وليس للعلماء، وليس لكل مسلم يهتدي بهدى الله، ليس له في أيام الرخاء أنفع من الشكر والثناء، وليس له في أيام البلاء أنجع من الصبر والدعاء، وإن ذلك مما يجعل المسلم ينطلق نشيطاً قوياً مهما تتابعت الفتن أو تواترت المصائب من بين يديه أو من خلفه، أوليس ربنا عز وجل يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6] أوليس الله عز وجل يقول: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] إن الأمور إلى الله، وإن المقادير بيد الله عز وجل، وإذا علمت أن كل ما يجري مما تحب وتكره هو بقضاء الله وقدره، وأن الله لا يقدر عبثاً، وأن الله لا يقدر ظلماً، وأن الله لا يقدر إلا بتمام رحمته التي سبقت غضبه ووسعت كل شيء، أصابك بعد ذلك من الطمأنينة ما كان معدوماً عندك قبل ذلك، ففي الحديث عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال لي: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً).
قال ابن رجب رحمه الله في هذا الحديث: في قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن الفرج مع الكرب) يدل على أن العبد متعبد بالصبر في انتظار الفرج من عند الله عز وجل.(58/3)
بيان تفاؤل الأنبياء وعدم قنوطهم في دعوتهم
أيها الأحبة: وإذا تأملنا حال الأنبياء مع أقوامهم وقد مرت سنون ودهور في دعوة الأنبياء لقومهم، ولم يستجب من القوم إلا قليل، ومع ذلك لم ييئسوا، بل ما دعوا على قومهم بالهلاك ابتداءً، وما دعا من دعا منهم إلا من بعد أن بين الله له وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.(58/4)
نبي الله نوح
فهذا نوح عليه السلام ما دعا على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] حينئذٍ دعا على قومه وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27] نعم، لم يدع عليهم إلا بعد أن بلغه الوحي بيقين الغيب من عند الله عز وجل أن هؤلاء لن يؤمن منهم أكثر ممن آمن، فحينما نرى متشائماً ينظر إلى مجتمعه وواقعه، مدبراً، مفضلاً عزلةً على خلطةٍ لدعوة، ومفضلاً قوقعةً على مشاركةٍ بحسبة، نقول له: هل عندك وحي من الله أن قومك هؤلاء قد يئست من دعوتهم، وما عاد فيهم أمل في الهداية ولا انزجار عن الهوى والغواية؟ إننا ليس عندنا وحي بذلك.
إذاً فلماذا القنوط؟ ولماذا اليأس من الدعوة؟ ولماذا القعود عند أو أمام حادثة صغيرة أو كبيرة؟ {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].(58/5)
نبي الله يونس
لقد بعث الله يونس إلى أهل نينوى من أرض الموصل فدعاهم، ثم دعاهم، ثم دعاهم فكذبوه، ثم دعاهم فتمردوا على كفرهم، ثم دعاهم فأصروا على عنادهم، فلما طال ذلك عليه من بعد أمرهم ونهيهم ودعوتهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب الذي توعدهم الله به بعد ثلاث، فلما خرج وتجافى عنهم، ورأى قومه تحقق نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة والندم في آخر لحظة، بعد سنين طويلة من الدعوة، ومن الأمر والإرشاد، والقيام عليهم وأمرهم ونهيهم، ووعظهم وزجرهم، وبدأت أيام العذاب اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، فلما دنت لحظات الحسم وساعة الصفر، وأوشكت نقطة البداية أن تقوم فيهم ليحل فيهم عذاب الله وسخطه، أنزل وقذف في قلوبهم أرحم الراحمين توبةً وإنابةً ورجوعاً، فقذفت هذه التوبة في قلوبهم، فما كان منهم إلا أن ندموا وبادروا وتأسفوا على ما كان منهم حيال نبيهم بعد سؤالهم ربهم المغفرة، فلبسوا المسوح وخرجوا يجأرون، فرَّقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله وصرخوا، وتضرعوا وتمسكنوا، وبكى الرجال والنساء، والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الأنعام والدواب والمواشي، فراغت الإبل، وخارت البقر، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة، فكشف الله بحوله وقوته، وكشف عنهم برحمته ورأفته العذاب الذي بدأ أسباب اتصاله بهم.(58/6)
نبي الله يعقوب
انظر أيها الداعي! انظر أيها الغيور! انظر أيها المحتسب! بعين قلبك، وتعقل كيف تكون الدعوة، هل رأيت من قومك آية بوحي من غيب أنهم لا يستجيبون ولا يرعوون، وعن إثمهم أو إفكهم لا يقلعون؟ فعليك ألا تيئس، وعليك ألا تقنط، واعلم أنك مأمور بالدعوة حتى آخر لحظة من حياتك وآخر لحظة في حياتهم: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] فهو في ساعة الموت، في سكرات الموت، وهو في تلك اللحظة يدعو إلى الله عز وجل، ويقرر قضية التوحيد؛ أصل الدعوة أمام أبنائه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133].(58/7)
الدعوة لا تعرف اليأس ولا الملل
فأنت أيها الداعية! مأمورٌ أن تدعوهم حتى آخر لحظة في حياتك، ومأمورٌ أن تدعوهم حتى آخر لحظة في حياتهم، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الرءوف الرحيم، عزيز عليه عنت أمته، حريص رءوف بها، يدعو عمه أبا طالب، يدعوه متى؟ في شبابه؟ أو عنفوان رياسته؟ أو قوة وجاهته؟ جاء يدعوه بعد أن دعاه مئات المرات، يدعوه في آخر لحظة عند تغرغر روحه، وحضور سكراته، وحلول ساعته، ويقول: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) إنها دعوة منذ البداية إلى النهاية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] أنت مأمورٌ أن تدعوهم من بدايتك حتى آخر لحظة في حياتك، ومأمورٌ أن تدعوهم في عنفوان عصيانهم إلى آخر لحظة عند موتهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
تأمل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم: فقد كان له جار يهودي، وعلم أن ولد جاره اليهودي قد احتضر، وأنه أوشك أن ينازع وأن تفارق روحه بدنه، فدخل عليه صلى الله عليه وسلم زائراً داعياً، فقال لهذا الغلام اليهودي في آخر لحظة من لحظات عمره: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله واشهد أني رسول الله، ففاضت عين الصبي بالدمع، ونظر إلى والده اليهودي، ففهم أبوه أن غلامه يسأله، فقال والده: أطع أبا القاسم، فقال ذلك الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يكبر ووجهه يتهلل، ويقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
نعم يا عباد الله: إن الدعوة لا تعرف يأساً، ولا تعرف مللاً، ولا تعرف انقطاعاً أياً كان من الأمور ما كان، لقد مات صلى الله عليه وسلم وتلك أعظم فاجعة، فهل ترك الصحابة الأمر من بعده؟ لقد مات أبو بكر، وقتل عمر، وقتل عثمان ظلماً وبغياً وعدواناً، ولقد قتل علي، وحصل لأمة الإسلام ما حصل منذ سنين طويلة، فهل ضاع الإسلام؟ وهل قامت الساعة؟ وهل تغير في الكون ما تغير من سنن الله الجارية الماضية؟ {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43] فإن الأمور ماضية، ومن ابتلي فأمره إلى الله عز وجل.
أتصبر للبلوى عزاءً وحسبةً فتؤجر أن تسلو سلو البهائم
خلقنا رجالاً للتجلد والأسى وثمّ نساءٌ للبكا والمآتم(58/8)
الأمل يحدو النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته
إن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتدل على هذه السنة وعلى هذه المفاهيم التي تأمرنا ألا نتردد عن الدعوة إلى الله في كل حال؛ في شتاء وصيف، وفقر وغنى، وأمن وفزع، وطمأنينة وخوف، وشدة وكرب، ورخاء وغيره، نحن مأمورون أن نمضي بالدعوة، أرأيتم الطعام والشراب، هل يستغني أحدٌ عنه في فصل من الفصول، أو ظرف من الظروف؟ لا وألف لا، فكذلك الدعوة نحن مأمورون بها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].(58/9)
حادثة الهجرة
انظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد خرج من مكة ومعه حبيبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلما لاذ النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه بـ الغار، إذ بقريش -يا ويح قريش! - تتبع هذين الكريمين، تتبع نبينا صلى الله عليه وسلم وصاحبه حتى دنوا من الغار وأبو بكر بات يرى نعالهم بعد أن سمع قرعها في مقدمهم باتجاه الغار، فقال يكلم النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن أحدهم أناخ برأسه لرآنا، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف: (ما بالك يا أبا بكر! باثنين الله ثالثهما؟) {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] في أشد الساعات ظلمة وحلكة وعتمة وسواداً ينبثق ذلك الضياء من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُطَمْئِنَ أبا بكر على الدعوة والأمل يحدوه أن الله ناصره، لم يقلَّ عزمه، ولم تفتر قوته، ولم ييئس من رحمة الله.
واعجب إن شئت عجباً أن ترى سراقة بن مالك الجعشمي وقد خرج يطلب النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه لعله أن ينال جائزة أخرجتها قريش لمن يدل على رسول الله أو يأتي به حياً أو ميتاً، فلما قدم ودنا، وعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، إذ لما دنا خطوات، ساخت قدما فرسه في الطين، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا قال له صلى الله عليه وسلم؟ قال: (ما بالك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى بن هرمز؟) الله أكبر! نبي يخرج من مكة قد آذاه قومه، نبي تسلط عليه أقرب الناس إليه، يخرج بدعوته مهاجراً بها حيث أمره الله، في مقام شدة وكرب، ووراءه من يطلبه، وعين تلاحقه، فيقول: (ما بالك أو كيف بك إذا لبست سواري كسرى بن هرمز؟!) نعم إنه الأمل والفأل، وإنها بشارة وسنة نتعلمها من النبي صلى الله عليه وسلم ألا نتشاءم وألا نقنط.
نعم يحزننا أن نرى الناس يعصون الله، ونفرح حينما نراهم يطيعون، يحزننا أن نرى إدبار بعض شبابنا عن الإنابة إلى الله، ونسعد ونفرح إذ نراهم يقبلون على المساجد، ولكن أياً كان الأمر في إقبال أو إدبار، فإننا مأمورون باستمرار ومضي على دعوة صادقة لله عز وجل.(58/10)
غزوة بدر
وخذ مثالاً آخر أيضاً: في غزوة بدر بعد أن أعد النبي صلى الله عليه وسلم صفوف أصحابه في أول مواجهة تاريخية عسكرية، ليحق الله الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، في مواجهة تاريخية عسكرية، الملائكة تشهدها، وكل ما حول القوم من الأرض ينظرون، والنَّفَس صاعد ومنخفض حتى دنت ساعة الصفر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن صف القوم وعدلهم إلا أن دخل عريشه ودخل معه خليله وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقام صلى الله عليه وسلم ورفع يديه يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعدها في الأرض) وجعل يهتف بربه، ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك) ويرفع يديه إلى السماء أكثر وأكثر حتى يسقط الرداء عن منكبيه، وجعل أبو بكر يلتزمه من ورائه ويرد رداءه عليه، ويقول مشفقاً على حبيبه، يقول أبو بكر له لما رأى نبيه يكثر الابتهال والمناشدة لربه: (يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه لا يخذلك، كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز ما وعدك، وخفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة -أي: إغفاءة قليلة بعد ذلك- فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع -أي الغبار-).
هكذا علمنا صلى الله عليه وسلم أن نجأر إلى الله، أن نفزع إلى الله، أن نلجأ إلى الله عز وجل، فإن بيده الخير كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه.(58/11)
صلح الحديبية
وانظر إلى موقفه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية في ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة، عزم صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت الحرام، وأحرم هو ومن معه بالعمرة وساروا في طريقهم إلى مكة، وبلغ قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته خرجوا، وكانوا ألفاً وأربعمائة رجل، وساقوا معهم الهدي، ولما بلغوا عسفان لقيه سفير من قريش اسمه بشر بن سفيان الكعبي، فقال بشر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قريشاً قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العون، يعني: النوق المطافيل، قد لبسوا جلود النمار، وقد نزلوا بـ ذي طوى يعاهدون الله، قريش تعاهد ربها ألا يدخل محمد وأصحابه عليهم مكة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في جنبهم وفي خيلهم، فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم كلام بشر، قال: (يا ويح قريش، يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس -"إن أدوا إلي عباد الله" ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس- فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله، دخلوا في الإسلام وافرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)، فهذا قول إمام الدعاة والعلماء صلى الله عليه وسلم، مصمم ماضٍ على دعوته في إدبار قومه وإقبالهم، فهذا واجب كل عالم وداعية أن يدعو إلى الله في كل حال، وألا يتردد يوم أن يرى من الناس إقبالاً وإدباراً، أو إرجافاً وخوفاً وزعزعة.(58/12)
اليأس والقنوط تقوقع وبعد عن الخير
أيها الأحبة في الله: نقول هذا الكلام لأننا سمعنا من بعض أحبابنا كلمات تدل على أن الأمر انفلت، وأنه لا فائدة في الناس، وأن القضية قد انتهت وتكاملت، ولا أمل في خيرٍ أبداً، بل إن واحداً -وخذوا هذا المثال نقلاً عن أحد المعلمين- يرى طلابه يخرجون من المدرسة وقت الصلاة لا يصلون، وبوسعه أن يجمعهم ليتوضئوا، ويأمرهم فيصلوا، ويصفهم فيصلي بهم، فيقول أحدهم: لماذا لا تصلي بهم؟ فيقول: إن الأمر قد انتهى، إن الأمر قد انفرط، وأنه لا فائدة من هذا كله.
فهذا يأس وقنوط، وهذا أمر يجعل النفوس ترضى بكل منكر، وتنأى عن كل خير، وتتقوقع في كل زاوية.
أسأل الله أن يلهمنا وإياكم فألاً وفرحاً، وبشراً وطمأنينة، وقوة وعزيمة على طاعة الله عز وجل.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(58/13)
المسلم مأمور بالتفاؤل
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: إننا قد علمنا في شرعنا المطهر، ومن ديننا الحنيف، ومن كلام ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وهي وحي يوحى: أن المسلم مأمور بالتفاؤل، ومنهي عن الطيرة والتشاؤم، قال صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة، وخيرها الفأل، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) رواه البخاري، (وكان صلى الله عليه وسلم، يعجبه الفأل ويكره الطيرة) رواه ابن ماجة، (وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته، يعجبه أن يسمع يا نجيح أو يا راشد) رواه الترمذي وقال: حسن، (وكان صلى الله عليه وسلم لا يتطير من شيء أبداً، وإذا أراد أن يبعث عاملاً، يسأل عن اسمه، فإذا أعجبه اسمه، فرح به).
أيها الأحبة: كل ذلك مما يجعلنا نتفاءل بالأمر شيئاً فشيئاً، ورويداً رويداً، وأن نبصر في الأمور أجمل ما فيها، فأنت إذا رأيت كأساً ليس فيه من الماء إلا نصفه، لك أن تقول: هذا كأس نصفه مليء بالماء، ولك أن تقول: هذا كأس فارغ نصفه، والعبارة واحدة، ولكنها تختلف بحسب تفاؤلك أو تشاؤمك.
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
ذماً ومدحاً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
وذكر أن معبراً قال لرجل أو ملك من الملوك رأى رؤيا مفزعة، والرؤيا أن ذلك الملك أو الرجل رأى أن أسنانه سقطت، فقال المعبر: يموت قومك كلهم ولا يبقى إلا أنت، فانزعج الرائي من الرؤيا وأفزعته وجعلته ضجراً، فعرضها على معبر آخر، فقال: أبشر بطول عمرك، أنت أطول قبيلتك وقومك عمراً، فإن التعبير في الحالين في مؤداه واحد، ولكن من أراد أن يعبر متفائلاً، فله، ومن أراد أن يعبر متشائماً، فعليه.
فواجبنا -أيها الأحبة! - أن ننظر إلى جوانب إيجابية وإلى مواقف طيبة في مجتمعنا بجميع طبقاته وأصنافه، أولسنا نتفاءل في قليل من الخير نراه في بلاد الكفار خلال جامع صغير، أو مركز إسلامي، أو مدرسة شرعية؟ فما بالنا وعندنا من الخير الكثير الكثير، ولا يخلو مجتمعنا من الخطأ والكبيرة، لكن ينبغي أن نتفاءل بالخير ليتعاظم، وأن نتوجه إلى الأخطاء وإلى الكبائر لإنكارها بكل سبيل مشروع يفضي إلى إصلاح الأمر، وتعبيد الناس لله على اجتماع شمل ووحدة صف.
واجبنا أن نتفاءل -يا عباد الله! - إن الشدائد مهما تتابعت فما بعدها إلا الفرج، فلا تيئسوا من صلاح مجتمعكم، وادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة
فكل الحادثات وإن تناهت فموصولٌ بها فرجٌ قريب
روي عن الحسن البصري أنه قال: [عجباً لمكروبٍ غفل عن خمس، وقد عرف ما جعل الله لمن قالهن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157]] فنحن عند الفتن والمصائب أمرنا بالصبر وبالتجلد، مع القيام بما أوجب الله علينا من الدعوة بكل سبيل استطعناه أو قدرنا عليه.
ويقول الحسن البصري أيضاً في عداد الخمس التي يعجب لمن يجزع وعنده من الفرج فيهن بما ذكره الله في كتابه، قال: [والثانية {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وقول الله عز وجل: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 - 45] وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:147 - 148]].
وروي عن الحسن أنه قال: [من لزم قراءة هذه الآيات في الشدائد، كشفها الله عنه لأن الله قد وعد وحكم فيهن بما جعله لمن قالهن، وحكمه لا يبطل ووعده لا يخلف عز وجل].
ثم إن نبينا يأمرنا بأن نفعل وأن نجتهد في هذا من خلال ما يقوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -فرخ صغير من فراخ النخل أو فروخها- فاستطاع ألا تقوم -أي: الساعة- حتى يغرسها، فليغرسها فإن له بذلك أجراً) سباقٌ مع الزمن حتى والساعة على وشك القيام، إن قامت الساعة وفي يدك فسيلة فبادر إلى غرسها، ولو كانت الساعة ستقوم بعد آخر ذرة تحثوها لتدفن هذه الفسيلة، أو لتضعها في التراب انتظاراً لثمرتها.(58/14)
التحذير من القنوط والأمر بحسن الظن
أيها الأحبة: إن الله حذر من القنوط، فقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فلابد من الصبر، ولابد من حسن الظن بالله، فماذا تظنون بربكم؟ من ظن خيراً، فليبشر به، قال الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فمن كان ظنه بالله خيراً وفرجاً، وبشراً وصلاحاً، ونجاحاً وسروراً، فله بشارةٌ بذلك وحصوله له بإذن الله عز وجل.
ثم اعلموا -يا عباد الله! - أن في كل مجتمع أبراراً وأخياراً وفجاراً وفساقاً وأشراراً، فهي سنة الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فينبغي ألا نتشاءم، وينبغي ألا نضع أسباب الدعوة أو أن نفر عن مجتمعنا، أو نقول: هلك الناس، ونبتعد عنهم.
روى الإمام مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: هلك الناس، فهو أهلَكُهم) أو قال: (فهو أهلَكَهم) أي: ينبغي ألا تقول: هلك الناس، بحجة أن تدع الأمر والنهي، وتتشاءم من إصلاحهم ودعوتهم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اجعل لنا ولكل مسلم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمة، ربنا لا تفتنا ولا تفتن بنا، ولا تجعلنا فتنة للظالمين.
اللهم اختم بالسعادة والشهادة آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا، واجعل اللهم إلى الجنة مصيرنا ومآلنا برحمتك يا رب العالمين.
اللهم آمنا في دورنا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد ولاة أمورنا، اللهم اجمع شملهم، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم قرب لهم من علمت أن فيه خيراً لهم ولأمتهم، وأبعد عنهم من علمت أن فيه غير ذلك، اللهم قرب لهم بطانة الخير التي تذكرهم الحق إذا نسوه، وتعينهم عليه إذا ذكروه بقدرتك يا رب العالمين.
اللهم اهدنا، اللهم اجمع شملنا وعلماءنا، وحكامنا ودعاتنا، وعامة أمتنا على الحق.
ربنا لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن، ومن الشرور والمحن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل وكل شر لا يدفعه إلا أنت يا رب العالمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم ثبتنا على دينك ومسِّكنا بكتابك، وشرفنا بالدعوة إليك، وتوفنا على ذلك وأنت راضٍ عنا، اللهم صل على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(58/15)
حسنات تجري بعد الموت
إن من رحمة الله بنا أن جعل لنا أعمالاً نكتسب منها الأجر في حياتنا وبعد موتنا، وهذا فضل عظيم من الله عز وجل، وهي أعمال حددتها الشريعة، وحثت العباد عليها، لعظم أجرها وضرورة القيام بها.
حول هذه الأعمال تتحدث هذه المادة القيمة.(59/1)
أقسام الناس في تحصيل الحسنات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له).
هذه -أيها الأحبة- رسالة إلى الذين يؤرقهم القدوم على الله عز وجل، ويشغل بالهم ويشغل أنفسهم كيف تستمر حسناتهم بعد موتهم؟ وكيف يتضاعف أجرهم بعد فراق الدنيا؟ وكيف يمضي لهم من الثواب ما يتنامى ويرجونه ذخراً يتعاظم عند الله عز وجل؟ إن الناس في هذه الدنيا على أحوال، فأغلبهم من يموت ويختم على عمله فلا حسنات ولا سيئات بعد موته، ويقدم على ما قدم إبان حياته، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102].
وصنفٌ من أولئك قد اجتهدوا في مضاعفة حسناتهم في حياتهم، وتسابقوا إلى اغتنام كل فرصة ولحظة وساعة في هذه الدنيا ليملئوا خزائن الأوقات بالأعمال الصالحات، فإذا حانت منية أحدهم وعاد به شريط الذاكرة إلى شبابه وشيبته، إلى صباه وكهولته، تذكر اجتهاداً وعلماً وعملاً وجهاداً وعنايةً بالعمل الصالح، فمثل ذلك -بعد رحمة الله عز وجل- يطمئن أن قدم عملاً صالحاً، ويسعده أكثر من ذلك أن يكون قد أعد لما بعد موته عملاً تجري عليه حسناته ولو كان صاحبه في أطباق الثرى أو بين جنبات اللحود.
وآخرون -والعياذ بالله- قد ملأوا حياتهم بالباطل والدعوة إليه، وأشغلوا أنفسهم بالمنكرات وتصديرها، وزخرفوا حياتهم بالمعاصي وتزيينها وتقريبها إلى الناس، فمثل أولئك يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم، فالعاقل -أيها الأحبة- يحرص على أن يعمل عملاً صالحاً في هذه الدنيا ويجتهد بعد موته أن تمضي له الصالحات مضاعفة والدرجات عالية، والحسنات متزايدة لكي يلقى الله عز وجل بأعمالٍ عملها في حياته، وبنتائج عملٍ عملها في حياته، فتعاظمت بعد موته، فلقيها عند الله رحمة وحبوراً وسروراً.(59/2)
العلم النافع حسنة تجري بعد الموت
أيها الأحبة! هذا الحديث يبين لنا أن من مات انقطع عمله إلا واحد من ثلاثة: فأولهم: من مات وترك علماً نافعاً، والعلم -يا عباد الله- شأنه عظيم، وحقٌ لمن ورث هذا العلم برحمة الله أن يجري عمله، وذلك بأن تتأمل: كم الذين يترحمون عليه؟ وكم الذين يتعلمون في كتبه؟ وكم الذين يدعون له؟ ويدعى له في عداد من لهم أثر على الأمة: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وهذه الرفعة في الدنيا والآخرة، وحسبكم بكرامات أهل العلم أن الله عز وجل سخر لهم الملائكة (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن الحيتان في البحر لتستغفر لطالب العلم).
أيها الأحبة: إن طلب العلم شرفٌ ما بعده شرف، ووظيفةٌ لا تعادلها وظيفة، إذ أن من سلك هذا الطريق، هُدي إلى الصراط المستقيم بإذن رب العالمين، فالله عز وجل يعبد بعلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] إن سلامة الشباب المسلم من الزلل إن عصمة الشباب المسلم من الاستدراج، لا تكون إلا بقدر حظهم من العلوم الشرعية، ومن رام في هذه الدنيا سيراً يسلم معه من التخبط في الزلل وفي فخاخ الاستدارج على غير علم أو بعاطفة عاصفة وحدها، فيا صعب ما طلب! ويا عز ما أراد! لأن العلم هو -بإذن الله- عصمة من الوقوع في المزلات والمذلات.
وهذا الحديث -أيها الأحبة- ونخص بذلك طلبة العلم والناشئة، هذا الحديث فيه حضٌ على الجد والمثابرة والصبر والمصابرة على الطلب والتعليم والتحصيل والتصنيف والتأليف أيضاً، فما يدريك ما الذي يبقى وينفع بعدك؟(59/3)
علوم انتشرت بعد وفاة أصحابها
قيل للإمام مالك بن أنس رحمه الله قيل له لما صنف الموطأ: كم من عالمٍ ألف توطئة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كان لله بقي، فإذا نال طالب العلم توفيقاً بإخلاص واجتهاد، وأراد بعلمه وتأليفه وجه الله، نفع الله بعلمه وبارك في أثره من بعده، حتى أننا في هذه الدنيا لا يكاد يمر يوم إلا وكثير من الخلق لا يحصيهم إلا الله، في عصرنا هذا، في أيامنا هذه يقلبون كتباً -ونحن في القرن الخامس عشر- يقلبون كتباً لأقوام ماتوا في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس، كم بيننا وبينهم من مئات السنين؟! وما الذي جعل هذه الآثار من مؤلفات وكتب وغيرها تقفز على حواجز الزمن، وتتخطى حواجز التاريخ، لتصل من قرونهم إلى قروننا؟ فنستفتح الحديث بعد حمد الله والصلاة والسلام على نبيه بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة في أول مطالعاتنا وآخرها، في أول بحوثنا وختامها، ما ذاك إلا لفضل العلم.
هل سمعتم أقواماً في المساجد أو في المجامع يقولون: قال التاجر الفلاني رحمه الله، قال الثري الفلان رحمه الله، قال ذلك الذي نال منصباً رحمه الله؟ ما أندر ما يذكر أولئك! مع ما كانوا عليه من الأموال والثروات والمناصب والرئاسات إلا من حكم فعدل، وملك فأعطى، وعلم فعمل، وجاهد فثبت، وتعبد فكابد الليل والنهار.
فحسبك خمسةٌ يبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
أقول يا عباد الله: إننا لنلحظ ونرى أننا في كل صباح ومساء، وكل غدو ورواح ندعو لأولئك العلماء مع أنه لا صلة في القرابة بيننا وبينهم بقرابة النسب أو العصبة إلا قرابة التقوى ومحبة الدين والأخوة في الله عز وجل.
فيا أيها العقلاء! اجتهدوا في أن تبقى لكم أعمال بعد موتكم ألا وإن خيرها -كما قال صلى الله عليه وسلم- أن يترك العبد علماً نافعاً، علماً ينتفع به.
وفي المقابل أولئك الذين تركوا مؤلفات ضلوا بها وأضلوا عن سواء السبيل، الذين دعوا إلى البعث والعلمانية، الذين دعوا إلى إبعاد الدين عن الحياة، الذين دعوا إلى الربا يحللونه بمختلف الأساليب والوسائل، الذين دعوا إلى الوقوع في المنكرات، الذين دعوا إلى غشيان المحرمات يسمونها بغير اسمها، يحللونها، يتمحلون الأقوال، ويبحثون عن غرائب الشواذ من الآراء، أولئك -أيضاً- عليهم وزر ما كتبوا ومن أوزار الذين يضلونهم بسبب ما تركوه من هذه المؤلفات، فالعاقل يترك بعده علماً ينفعه بإذن الله عز وجل.
وكم كنت أردد ما رأيته بأم عيني ونحن ذات مرة في الصين الكبرى التي يبلغ سكانها من الوثنيين والشيوعيين ما يزيد على المليار نسمة، إذ بنا نجد في طريق من الطرقات في شارع من الشوارع بيتاً صغيراً يسكنه عالم من علماء المسلمين صيني عجوز وهو يدرس في مكانه المتواضع، وقد أسدل سترة بين مقدمة هذا المكان ومؤخرته ليكون حاجزاً بين البنين والبنات، إذ به يدرس الأصول الثلاثة وكشف الشبهات للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، إن الشيخ قد توفي عام (1206هـ) وذلك المشهد الذي رأيناه من ذلك العالم الصيني الشيخ الكبير يدرس عام (1413هـ) كم بين تاريخ وفاته رحمه الله وبين هذا المشهد الغريب العجيب؟ لا قرابة ولا معرفة ولا نسب إلا بالتقوى والمحبة في الله، وما خطر على قلب الشيخ/ محمد وهو في زمن لم تعرف فيه المطابع بتطورها ولا أجهزة الفاكس ولا الرسائل الهاتفية ولا البريد السريع ولا وسائل النقل السريعة، هل خطر بباله وهو يؤلف هذا في الدرعية أنه سيقرأ ويدرس بعد مائتي سنة أو بعد ثلاثمائة سنة في الصين؟! في بلاد الشيوعية؟! في البلاد التي تقول: لا إله والحياة مادة؟! نعم، رحم الله الإمام مالك حين قال: ما كان لله بقي.
كم بارك الله لقلبٍ فانتفع والله إن بارك في شيءٍ نفع
لقد بارك الله في تلك الرسائل الصغيرة في حجمها، الجليلة في قدرها، فشرقت وغربت، لتنقذ الأمة من ظلمات الوثنية، ومن تخبطات الشرك وما ينافي التوحيد.(59/4)
ضرورة الصبر لتحصيل العلم
الأمر الآخر يا عباد الله: ينبغي أن نعلم حاجتنا إلى هذا العلم والصبر على تحصيله، فإن العلم والتأليف بعده لا ينال بالتمني ولا بالتسويف، وإنما ينال بالصبر والمجاهدة، فهذا أبو إسحاق الألبيري الغرناطي رحمه الله يكتب رسالة شعرية طويلة يوصي فيها ولده بطلب العلم فيقول له:
تفت فؤادك الأيام فتا وتنحت جسمك الساعات نحتا
وتدعوك المنون دعاء صدقٍ ألا يا صاح أنت أريد أنت
فكم ذا أنت مخدوعٌ وحتى متى لا ترعوي عنها وحتى
ثم يقول عما يدعو ولده إليه:
إلى علمٍ تكون به إماماً مطاعاً إن نهيت وإن أمرتا
ينالك نفعه ما دمت حياً ويبقى ذكره لك إن ذهبتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفاً شددتا
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فخير منه أن لو قد جهلتا
وإن ألقاك علمك في مهاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
وليس لجاهلٍ في الناس فضلٌ ولو ملك العراق له تأتى
وما يغنيك تشييد المباني إذا بالجهل نفسك قد هدمتا
لئن رفع الغني لواء مالٍ لأنت لواء علمك قد رفعتا(59/5)
أهمية المساهمة في نشر العلم
نعم، إذا مات ابن آدم انقطع أثره، وانقطع عمله، وانقطع ذكره، وانقطع ما بعده إلا إن ترك علماً ينفعه بإذن الله، فإن لم نكن علماء ولم نستطع أن نؤلف علوماً نافعة، فلن نعجز عن نشر علوم قد ألفها علماؤنا وأسلافنا، كم من المسلمين في أفريقيا بمختلف اللغات المحلية في بلدانهم يحتاجون إلى ترجمة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، ويحتاجون إلى ترجمة كتب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ويحتاجون إلى رسائل علمائنا كالشيخ ابن باز وابن عثيمين وهم لا يجدون مالاً يشترون به هذه الكتب، ولا يجدون مالاً ينفقونه على ترجمتها.
نعم ولله الحمد والمنة لقد وفقت مكاتب دعوة الجاليات في بلادنا هذه إلى ترجمة كثير من الكتب النافعة في باب العقائد والعبادات الصحيحة، ولكن أين من ينفق عليها؟ وأين من يتصدق لأجل تصديرها إلى شرق آسيا وإلى الهند وإلى أفريقيا وإلى بلدان أوروبا؟ إن الحاجة إلى مثل هذا العلم ماسة، فلو أن غنياً من الأغنياء قال: لست بعالم ولست بمؤلف فأدع ما تذكرون فضله في هذا الحديث، نقول: لن تعجز أن تجعل في أموالك في كل سنة أو في كل نصف سنة وأن تجعل في وصيتك مبلغاً طيباً لتجعله وقفاً على طباعة كتب العقيدة والعبادة الصحيحة بمختلف اللغات حتى ينتشر العلم والعبادة في شتى أقطار الأرض.
إن أعداء الإسلام يوم أن أسقطوا الخلافة الإسلامية، أول ما ذهبوا يكسرون ويهدمون أخذوا يهدمون الأوقاف، أخذوا يهدمون تلك الثروات الطائلة التي كانت موقوفة على كفالة طلبة العلم، وكانت موقفة على طباعة الكتب وعلى كفالة الدعاة وعلى ضمان نفقات المعلمين والعلماء ليشتغل من اشتغل بالعلم غير مهتم بأمر الدنيا، فمن كُفي أمر دنياه اشتغل بأمر دينه، لما أرادوا أن يعطلوا هذه الأعمال الدعوية والعلمية وغيرها بدءوا بمصادرها التي تدر عليها وتنفق عليها، فصادروا مليارات الأوقاف من أموال المسلمين، وهذا مما ينبئك بالإعجاز الإلهي في أسرار التشريع الذي شرع لأمة الإسلام الوصية والوقف حتى تبقى الأمة على ضمانة في الإنفاق والتمويل لمشاريع العلم والدعوة.
فيا أيها الأحبة: حينما نتكلم عن العلم النافع لا يقولن أحدٌ: إني عاجز، إنك لن تعجز أن تطبع كتباً ولو في كل شهر عشرة من الكتب، ولو في كل سنة مائة كتاب، لو أننا أشغلنا هم الإسلام وأرقنا هم الإسلام وشاغل قلوبنا الدعوة إلى الله للمسلمين في كل مكان، لو وجدت هذه الدعوة نصيباً وافراً وحظاً متصدراً من دخولنا ومرتباتنا وأقواتنا، ولكن كل منا يدعي اهتمامه بالدعوة وشتان بين الاهتمام والحقيقة.
والكل عنك بنفسه متشاغلٌ ويرى بأن سبيله إذناك
وكلاً يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقرُّ لهم بذاكا
ما أكثر الذين يدعون اهتماماً بالدعوة وحظ الدعوة من عملهم قليل! وإنا والله على خوف أن نكون من أولئك حتى لا يغتر واحد بنفسه، فإن من أراد أن يعطي الدعوة حقها، لم يكن له في الدنيا مأرباً ونصيباً، وإنما تشغله الدعوة في ليلها ونهارها، أما نحن فقد خلطنا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، واختلطت عندنا أمور الدين بالدنيا، فنسأل الله أن تكون دنيانا عوناً لنا في ديننا ودعوتنا.(59/6)
الصدقة الجارية بعد الموت
الأمر الثاني -أيها الأحبة- لمن أراد أن يبقى أجره وثوابه وحسناته مضاعفة بعد موته: عليه بأن يجتهد في الصدقة الجارية بناء مسجد حفر بئر كفالة داعية ترجمة كتاب إنشاء دار لتعليم القرآن تأسيس دار لكفالة الأيتام واليتامى والأيامى من المسلمين والمسلمات، كل هذه من الصدقات الجارية التي ما تربى فيها مسلم أو مسلمة، فسلم من شر التنصير، ووفق إلى فضل التوحيد بسببها، إلا وكان لمن سبلها أو حبسها أجرٌ عظيم بإذن الله عز وجل، فالعاقل -أيها الأحبة- يجتهد في هذه الصدقات الجارية.
وإني لأعجب خاصة عندنا في هذه البلاد أو في هذه المنطقة كثيراً ما يمر علينا وصية رجل من الرجال حياً أو ميتاً، فتراه قد خلف مالاً كثيراً، وقال في نص وصيته بعد أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة والنار حق، وأن الله يبعث من في القبور أوصى بثلث ماله في أضحية له وأضحية أخرى لوالديه.
وإذا قلبت ثلث ماله وجدت ثلث هذا المال قد بلغ مئات الألوف أو بلغ الملايين، فكيف يرضى أن يحجر الخير عن نفسه وأن يحرم نفسه فضلاً عظيماً، فيجعل الثلث كله في هذه الأضحية وربما البقية الباقية من هذا أخذها أولاده يقتسمونها أو وجد فيهم من يعود بصرفها إلى أبواب البر بعد نزاع وشقاق طويل مع الورثة؟ أيها الأحبة! عجباً لرجل عنده مصنع يستطيع أن يشغله الليلة، ثم يقول: إذا مت فشغلوا هذا المصنع، عجباً لرجل عنده مورد يدر عليه الحسنات من هذه الليلة، فيقول: إذا مت فابدءوا بتوريد الحسنات علي.
هذا من الجهل والغفلة، إذا كان عندك ما توصي به أليس من الخير لك أن ترى ثمرات عملك وأنت حي؟ بعضهم يريد أن يوصي بثلث ماله، وثلث ماله يساوي مسجداً صغيراً أو كبيراً، جامعاً هنا أو في بلدة إسلامية أخرى، ثم يقول: إذا مت فاجعلوا في ثلثي كذا وكذا، ما الذي يضيرك وأنت صحيح شحيح غني حفي تخشى الفقر وترجو الغنى أن تنتصر على نفسك من الساعة، وأن تخرج ثلث مالك، وأن تذهب لترى موقعاً من البلدان في هذه البلاد أو في غيرها يحتاج إلى بناء مسجد أو مسجداً فيه كثافة من السكان فتؤسس بجواره مدرسة لتحفيظ القرآن، وتؤسس فيها منزلاً لهذا المدرس وزوجته، واعلم بعد ذلك أنه ما حفظ القرآن حافظ، وما تعلمه متعلم إلا ولك أجره، إذ أنك السبب في إنشاء هذه المدرسة وإنشاء بيت يسكنه هذا المعلم.
ما الذي يجعلك تؤخر الأجر إلى ما بعد موتك؟ هل أنت بخيل على نفسك بالحسنات أم تسوف؟ وإن التسويف آفة الأعمال؛ لأن كثيراً من الناس يقول: سوف أجعل داراً للأيتام سوف أبني مدرسةً للقرآن سوف أبني مسجداً سوف أكفل داعية سوف أكفل يتيماً سوف أجهز غازياً، سوف أطبع كتباً، وبعد ذلك تأتيه المنية في ساعة ما خطر على باله أن توافيه المنية بها، ثم يموت وقد ترك آلافاً من التسويف وما ترك أمراً ينفعه.
العاقل من يبادر من هذه اللحظة، لئن كانت وصيتك قد كتبتها وحررتها في أمور الخير بعد موتك، فحررها من الآن واشتغل بشيءٍ واجعلها في عمل ينفعك من الآن، ما الذي يضيرك أن تجلس في حلقة في مدرسة قرآن لا يعرفك الناس وأنت الذي بنيتها، وأنت ترى هؤلاء الطلاب يترنمون ويغردون، أصواتهم كأصوات البلابل في تغريدها، وألحانهم طيبة بالقرآن الكريم؟ أنت في هذه الحلقات تلتفت يمنة فإذا بالصغار يحفظون، ويسرة فإذا بالكبار يتعلمون، وأمامك فإذا بالمعلم والمعلمين يعلمون، وفي قرارة نفسك، والناس لا يعرفونك تقول: الحمد الله الذي أراني، الحمد لله الذي نصرني على شهواتي وشيطاني وشر نفسي فجعلني أرى هذا الخير الذي هو من خالص مالي ولا يعلم به أحد.
خير لكم -يا عباد الله- أن يكون للعبد سر بينه وبين الله من الأعمال الصالحة، إن أناساً لهم من الأعمال الصالحة ما لا تعلمه زوجاتهم ولا يعلمه أولادهم، يمشي مع الأحفياء الأخفياء الأتقياء فيسمع بمسجد يبنى أو بدار للقرآن تشيد أو بمعهد لكفالة الأيتام وتعليمهم العلم الشرعي فيأتي ويقول: هذه أمانة من فاعل خير وهو صاحب خير بعد الله عز وجل، وهو صاحب المال، لكن يريد ألا يعرف بأي حال من الأحوال، لا تعلم زوجته ولا أولاده ولا أهله (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) عساه أن يكون منهم: الذي أنفق نفقة وتصدق صدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه.
الواقع -يا عباد الله- يدعونا إلى أن نبادر، فإن أمة الإسلام بحاجة إلى نفقاتنا، وإن الشيطان كما قال الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] في هذه الأيام وقبلها وبعدها تسمع كثيراً من الناس يقول: إن النقدية عزيزة، وإن النفقة بسخاء صعبة المنال، وإن الناس لا تكاد تجد منهم من يبذل بسخاء بسهولة، وإن وإن وإن حتى إذا دعي إلى بناء ونفقة وصدقة وكفالة؛ تقهقر ونكص على عقبيه بسبب هذه الأقاويل، وما تنفعك كثرة الأموال إن دفنت؟ وما تنفعك إن كفنت؟ وما تنفعك إن جعلت في القبر هذه الليلة أو بعدها؟ فبادر بهذا المال إنفاقاً لله عز وجل (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) ومنها هذه الصدقة الجارية.
فاجتهدوا، ومن كتب وصيةً ولو ختمت وصدر بها صك شرعي، فاعلموا أنه بوسعك شرعاً أن تذهب إلى القاضي وتقول: هذه وصيتي بختمك وخطك، إني غيرت فيها كذا وكذا وكذا، إذ أن بعض الناس يقول: ما أجمل ما سمعنا! ولكن قد جفت الأقلام وطويت الصحف، وكتبت الوصايا وختمت بالأختام، فلا نستطيع أن نغيرها، الوصية تبرع مضاف لما بعد الموت، وهذا يعني أنك قبل الموت تستطيع أن تغير وأن تتصرف فيها، أما إذا مات الرجل، فإن من بعده لا يجوز لهم أن يغيروا في وصيته شيئاً، وعلى الذين يبدلون هذه الوصية بعد موت الموصي بها عليهم من الله إثم عظيم.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(59/7)
الولد الصالح ووصول خيره إلى الميت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة! وتتمة هذا الحديث الذي هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم بأن العبد إذا مات انقطع عمله، تتمته أن العبد لا ينقطع عمله ولا ينقطع ثوابه ولا تقف حسناته، بل تتعاظم درجاته إذا خلف ولداً صالحاً يدعو له، والولد الصالح لا يكون بالتمني ولا بالتحلي، وإنما يكون بالتربية والصبر والمعاناة في سبيل تحقيق هذه التربية، ما أكثر الذين يخلفون الأولاد والذرية والبنات! ولكنهم عن التربية في غفلة، وعن الترشاد والتوجيه في شغل شاغل.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه عليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا
ما أكثر الأيتام من أبنائنا! مع أن آباءهم موجودون وأمهاتهم موجودات، ما أكثر اليتيمات من بناتنا! مع وجود الآباء والأمهات؛ والسبب أن الأب مشغول صباح مساء، والأم مشغولة بالوظيفة، ولا يعلم الأطفال إلا الشاشة، ولا يوجههم إلا الأغنية، ولا يرفه عنهم إلا الملهاة التي لا تجوز، فكيف نريد ولداً صالحاً ونحن قد أسلمنا أبناءنا لخادمة تربي أو لسائق يوجه بعيداً عن توجيهنا وعنايتنا؟! أيها الأحبة! كم نعتني ببيوتنا وسياراتنا؟ كم نعتني بهذا الزجاج لكي نلمعه وبهذه الأبواب بصيانتها، وبهذه الدهانات على جدران بيوتنا وأسقفها لنغيرها فترة بعد أخرى؟ أما العناية بأولادنا فما أقل ذلك! ما أقل من يغري ولده بالمئات أو بالآلاف على حفظ القرآن الكريم! هل يوجد منا من يغري ولده بالمئات أو بالعشرات على حفظ الأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بل ربما تجد الرجل الغني الثري عنده عشرة من الخدم ما بين سائق ومزارع وحارس الخ ولا يوجد عنده معلم من طلبة العلوم الشرعية الذين يوثق بعلمهم وتقواهم، ليعلم أولاده بعد العصر إلى أذان العشاء.
لقد أسكنت في بيتك أنواعاً من الجنسيات وعدداً من الشخصيات، أما بيتك فقد خلا من معلم ليعلم أولادك في حال غيبتك إذا كنت مشغولاً أو لست بقادر على أن تقوم بالعملية التعليمية! كيف كان أولاد الخلفاء؟ يجيدون الشعر والكلام والفقه والتفسير والحديث؟ كان الخلفاء إذا ولد لأحدهم ولد، دعوا المربين والمعلمين فأسلموا الولد إلى هذا المربي ليربيه في صباحه وعشيته وغدوه ورواحه، يعلمه الفروسية والرماية وركوب الخيل والرجولة ومعاملة الناس والحوار والمنطق والكلام والمناظرة وحسن الأدب والتاريخ واللغة، يعلمه كل فن حتى إذا شب عن الطوق وناهز الاحتلام وبات شاباً، يجالس الرجال كأكبر عقل في المجالس التي يجلسها.
أما نحن فأنتم ترون بعض أبنائنا، الواحد منهم في العشرين لا يحسن محادثة الرجال، وبعضهم قد تجاوزها ولا يعرف كيف يتحلى بمكارم الأخلاق في المروءات والآداب والمعاملات، من أين جاءنا هذا؟ الجواب سهل: الشاشة تربيهم، والخادمة تلاحظهم، والسائق هو وليهم، والأب مشغول عنهم، والأم بصويحباتها وذهابها وإيابها مشغولة، إنك لا تجني من الشوك العنب
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
إننا نعلم عدداً كثيراً من طلبة العلم من أهل العقيدة والسنة والجماعة في مختلف البلدان المجاورة الذين يوثق بدينهم ما ضرَّ الواحد منا لو استقدم إن كان قادراً، واستوفد إن كان متمكناً واحداً أو اثنين لتربية أولاده إن كان مشغولاً بأمور عن ذلك؟ اليوم -أيها الأحبة- الشاشة تأخذ من أولادنا أكثر مما يأخذون منا، الشاشة تخاطب أولادنا أكثر مما نخاطبهم، ناهيك عن جلساء السوء وعن الجيران في الشوارع، وعما يحدث في المدارس وعن، وعن، إن التربية هذا اليوم أصبحت مسألة عظيمة خطيرة عزيزة المنال، إذا ذكر أن عند فلان ولداً قد أحسن تربيته، يتحدث الناس به وذلك لقلة عناية القوم بالتربية، لا تكاد تجد بيتاً إلا وفيه خادم وسائق ويدفع على ذلك آلافاً، أما أن يدفع آلافاً على تربية الأولاد إن كان الأب قادراً ومشغولاً عن التربية فهذا بعيد المنال! والله تعظيماً لو أنفق الواحد نصف ماله في تربية أولاده لكان خيراً، أوليس ولدك إذا حفظ القرآن، تدعى يوم القيامة كما في الحديث على رءوس الخلائق فتكسى ويوضع على رأسك تاج الوقار، فتقول: يا ربي! بأي شيء هذا؟ فيقال: بتعليمك ولدك القرآن، إنها منقبة عظيمة ومنزلة جليلة لكننا غفلناها، أما الملابس، فلا تسل عن أفضل الموضات وأحدث الأزياء وأرقى النوعيات وأغلى الأسعار في لباسهم، وأما الأطعمة فحدث ولا حرج عن ألوانها وأعدادها، وأما وسائل الترفيه عند كثير من الناس فإن كان في البيت دش -ولا حول ولا قوة إلا بالله- يقلب لهم أنواع الشاشات والموجات والمحطات، مع الأغاني، والملاهي، ولا تجد لهذا الطفل من يربيه على الصلاة مع الجماعة، وعلى آداب الدخول والخروج، وعلى مصافحة الرجال والحديث معهم، وآداب النوم والاستيقاظ، وسلامة اللسان من السب والشتيمة، والكلام الفاحش واللعن البذيء، تجد أطفالاً صغاراً يسبون سباباً ويشتمون شتائم يقف شعر رأسك من هولها وهم لا يزالون أطفالاً! من أين تعلموا هذا؟ من الشارع، يأتون بكلمات عجيبة، من أين جاءت؟ من هذه الشاشة وهذه الأفلام وهذه المسلسلات.
فيا أحبابنا! من سره أن يموت وتمضي حسناته، فعليه بذريته، وكم من رجل وأعرف بعضهم تمنى أن لو كان عقيماً ولم يبتلَ بولد عاق مجرم يؤذيه ويؤذي إخوانه! وكم من رجل تمنى أن لو كان عقيماً ولم يبتلَ بولد سود سمعته وشوه صفحته بين الناس.
فإذا سرك أن تتشرف بولدك، فعليك بالتربية، وعليك بالعناية، وإن كنت عاجزاً عن أن توفر له معلماً ومدرساً، فلن تعجز أن تبحث له عن ثلة طيبة صالحة، قد يقول قائل: ومن لي بمال حتى أستوفد به معلماً يعلم أولادي، يراجع كتبهم، يحل واجباتهم، يذكرهم ويذاكرهم، يعلمهم القرآن؟ من أين لي هذا المال؟ أنا بالكاد أجد مصاريف الكهرباء والماء والقوت فمن أين أجد هذا؟ أقول له: إذا عجزت عن ذلك، فلن تعجز أن تجد ثلة من الشباب من البراعم الصغيرة، تجدهم في مكتبات المساجد، وفي الجمعيات الإسلامية وفي المعاهد والثانويات والمدارس، اعتنِ بزيارة هذه المكتبة وخذ ولدك وعرفه عليهم، اعتنِ بزيارة المدرسة واسأل عن جمعية التربية الإسلامية، وعرف ولدك بهذه الجمعية ورائدها ومشرفها واجعله يعمل معهم، إذا عجزت عن ذلك، فلن تعجز أن يكون ولدك مع ثلة طيبة صالحة بإذن الله عز وجل.
المهم ألا ندع هؤلاء الأولاد تربيهم الشاشات وأبناء الشوارع، وجلساء السوء، وقرناء الذهاب والإياب، بل نحن نربي أولادنا كما نريد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6] إن ولدك فتنة، إن ولدك عدو: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14] فكيف يكون هذا الولد رحمةً بدلاً من الفتنة، وبراً بدلاً من أن يكون عدواً؟ يكون بالعناية وبالتربية، فلا تستكثرن أخي الكريم ما تنفقه على ولدك بأي حال من الأحوال.
أيها الأحبة! إن من حاجتنا أن ننتبه لما يراد بأبنائنا، إن حاجتنا أن نلتفت إلى أن من عناصر إصلاح مجتمعنا وواقعنا هو إصلاح هذا الجيل وهذا النشء الذي بين أيدينا، وعملية التربية في نصف عقد من الزمن، الجيل الذين أعمارهم عشر سنوات بعد ثمان سنوات أو عشر سنوات هم رجال، ويمثلون واجهة الأمة وصورة الأمة، فإذا كل واحد في هذا المسجد اعتنى بولده، لئن قلنا في هذا المسجد ألفي رجل، فحينما نعتني بألفي شاب، بألفي طفل، ويكونون شباباً صالحين، يكونون دعاةً منتجين، يكونون قادةً مصلحين، فإن الأمة تصلح بإذن الله عز و0جل، إن إصلاح القاعدة -إصلاح البيوت، إصلاح الذرية- من أهم الأمور بإذن الله عز وجل.
أيها الأحبة: هذا نقوله لإصلاح واقعنا، ونقوله لحسنات نرجوها ونحن في اللحود، لثواب نرجوه ونحن في عداد الأموات، لثواب نرجوه ونحن في أطباق الثرى، والله إن العاقل إذا فاتت عليه ساعة لم يذكر الله فيها ولم يقم فيها بعمل صالح، عض على أصابع الندم كيف مضت ساعة لم يجعلها في طاعة الله أو فيها شيء من طاعة الله عز وجل، فما بالك وأنت ستبقى تحت التراب ساعات؟ لا.
أيام؟ لا.
أسابيع؟ لا.
بل ربما سنوات وعقود وأطول وأطول، تخيل نفسك الآن أنك في المقبرة بجوار أهل القبور، تخيل نفسك أنك في اللحد، تخيل نفسك أنك في القبر وأنت رهين أسير في هذا القبر، لا تجري عليك حسنة واحدة، وأهل القبور لو تكلموا، وقيل لهم: تمنوا، لقالوا: نتمنى أن نخرج إلى الدنيا، فنقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لعظم أثرها وثوابها، فما بالك إذا ذكر الله وأجر الذكر لك؟ فما بالك إذا حفظ القرآن وأجر الحفظ لك؟ ما بالك إذا عمر المساجد وأجر عمارتها بالصلاة والتراويح والاعتكاف لك؟ ما بالك إذا شهد في سبيل الله وأجر الجهاد لك؟ ما بالك إذا تعلم الناس الخير وأجر هذا لك ولو كنت في قبرك؟ حينئذ -والله- لا يهمك أن تكون حياً أو ميتاً مادامت حسناتك جارية بإذن الله وسيئاتك قد كفرت بحسناتك: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين، اللهم آمنا في دورنا(59/8)
قسوة القلوب
إن آفات هذا الزمان وأمراض هذا العصر كثيرة لا تحصى، منها ما هو على الأبدان ومنها ما هو على القلوب والأديان، ومن هذه الأمراض مرض خطير جداً، يجعل الإنسان كالجماد، وهذا المرض هو مرض قسوة القلب، فما هي أعراض هذا المرض وصوره؟ وما هو علاجه؟ هذا ما ستجدونه في طيات هذه المادة.(60/1)
أعراض قسوة القلب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة يوم القيامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: آفات هذا الزمان وأمراض هذا العصر كثيرةٌ لا تحصى، فمنها ما هو على الأبدان، ومنها ما هو على القلوب والأديان، والآخر أشد فتكاً وخطراً.
عباد الله: من هذه الآفات وتلك الأمراض مرضٌ خطيرٌ جداً يجعل الإنسان أصمَّ وأعمى وأبكم من الجمادات، فيا ترى ما هو هذا المرض؟ إنه قسوة القلوب؛ مرض قسوة القلب، لا يكاد أحدٌ يسلم منه إلا ما قل وندر من الصالحين المخبتين المخلصين.
معاشر المؤمنين: قد يقول البعض: وما هي أعراض هذا المرض حتى نتعرف عليه؟ شخص لنا صفته؟ أقول أيها الإخوة: قد يكون العليل بهذا الداء أبلغ في وصفه، وقد نكون جميعا ً أو بعضنا ممن يعانون هذا الداء، وما أجمل الحقيقة والصراحة يا عباد الله! أعراض هذا المرض: أعينٌ لا تدمع، وقلوبٌ لا تخشع، وأبدانٌ لا تشكر؛ يقرأ الواحد منا صفحات تلو الصفحات من كتاب الله جل وعلا فلا يقف وقفةً تنهمر من عينه دمعةٌ أو دمعات خشيةً من كلام الله وبليغ خطابه، بل قد نرى مشاهد كثيرة تهد الجبال الراسيات، ثم نحن بعد هذا نمر بها ضاحكين غير مبالين ولا مستشعرين، أليس هذا مرضاً خطيراً؟ أليس هذا وجعاً فتاكاً؟ بلى يا عباد الله! وإنه إن استمر بعبدٍ من عباد الله، ضيع عليه دنياه وآخرته.
معاشر المؤمنين: إن كتاب الله جل وعلا لو أنزل على صخرٍ أصم لتفتت ذلك الصخر خشيةً لله، وهيبة لبليغ خطابه، فما بال قلوبنا جامدة قاسية أمام كلام الله، قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر:21] فعسى ألا تكون قلوبنا كمن قال الله فيهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
عباد الله: إن آيات الله تتجلى علينا كل صباح ومساء، فهل من وقفة تأمل؟ فهل من وقفة تدبر؟ هل من وقفة هيبةٍ واستشعار؟ {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143].
معاشر المؤمنين: إن آيات الله جل وعلا تتجلى أمام أعيننا صباح مساء، فما لهذه القلوب لا تتغير؟! ما لهذه القلوب لا تتحرك سويداؤها؟! ولا تتحرك مشاعرها؟! إننا إذاً مرضى، إننا مصابون، فهلمّ لننظر هذا المرض، وهلمّ لنتدبر أحوالنا، فإن أحوج الناس إلى العلاج من عرف داء نفسه وعرف دواءها، فيلزمه المبادرة في علاجها.(60/2)
علاج قسوة القلوب
معاشر المؤمنين: هذه القسوة البالغة التي تتجلى بعض صورها يوم أن نرى جنازةً تمر في الطريق، فيلتفت الإنسان ناظراً إليها، ثم يلتفت إلى يمينه كأنه لم ير جنازة، كأنه لم ير نفساً قطعت عن الحياة بالكلية؛ قطعت عن الخُطى والطعام والشراب، بل قطعت عن أعظم من هذا عن العمل، فقدمت على الحساب، وانقطعت عن العمل، ثم تنشغل نفوسنا عن حال هذه الجنازة إلى أين يذهبون بها؟ وفي أي ظلمة يضعونها؟ ولأي هجرٍ وبعدٍ يتركونها؟ وما الذي سيوافيها؟ وأي أمرٍ ينتظرها؟ أتنتظرها ملائكة الرحمة؟ أم تنتظرها ملائكة العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نحن كثيراً ما نرى هذه الصور، ونرى هذه المشاهد والآيات، ولكننا في غفلة بالغة عن هذا الأمر، أليس ذلك دليلاً على قسوة قلوبنا؟ بلى والله.
عباد الله: إنها قلوبٌ قاسية، فما علاجها؟ وما دواؤها؟ وما ترياقها المجرب الذي يردها إلى الحق وإلى الله رداً جميلاً؟(60/3)
العودة إلى كلام الله (القرآن)
عباد الله: علاجها عودتها إلى كلام ربها، كلام الله جل وعلا فيه شفاءٌ للصدور، وفيه دواءٌ للقلوب، وفيه علاجٌ لكافة الأمراض الحسية وغيرها، ولكننا نقرأ قراءة اللاهين الغافلين، قد يقول البعض: إن في قلبي قسوة ولا أجد في كتاب الله علاجاً لهذا القلب، نعم قد يحصل هذا لبعض العباد أو لكثيرٍ من البشر، أتدرون ما السبب يا عباد الله؟ إنه فضول النظر، وفضول الكلام، وفضول التحدث في عيوب الناس، ثلاثة أمورٍ تشغل القلب عن حساسيته وشفافيته.
أما فضول النظر، فإنه يفقدنا الخشوع.
وأما فضول الكلام، فإنه يبعدنا عن الحكمة، ولا يجعلنا نستلذ أو نستشعر جميل خطاب الله.
وأما فضول الكلام في عيوب الناس، فإنه يجعل الإنسان مشغولاً لاهياً ناسياً عيوب نفسه، ثم بعد ذلك يشتغل بالخلق من حوله، ويترك نفسه ولهةً في أمَس الحاجة إلى الدواء، ومع ذلك فهو غافلٌ عنها، عسى ألا نكون من الذين نسوا الله فنسيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: كثيراً ما نقرأ في كتاب الله جل وعلا: {لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] والألباب: جمع لب؛ واللب: هو القلب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] كتاب الله جل وعلا كله عظةٌ واعتبارٌ، ودواءٌ وعلاجٌ لهذه القلوب، ولكن قلوبنا كما قال الشاطبي رحمه الله في حرز الأماني:
وإن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى غناء واهباً متفضلا
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبضٍ على جمرٍ فتنجو من البلاء
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها أي: ولكن هذه العين التي جمدت أن تجود بدمعة خشيةٍ لله
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا!!
يا ضيعة أيامٍ تضيع علينا أمام المشاهد التي لا ترضي الله، وفي سمع أمورٍ لا ترضي الله، وفي قضاء أمورٍ هي سبب العقوبة والعذاب من الله!! يا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا!! يا عباد الله: هل من شيءٍ بعد كتاب الله جل وعلا يحرك هذه النفوس القاسية الجامدة، فيجعلها تنشط بعد جمود؟ نعم، هناك أمورٌ كثيرة، وقبل أن ننتقل إليها تأملوا أحوال السلف الصالح رضوان الله عليهم.
صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالصحابة صلاة الفجر ذات يومٍ، فقرأ قول الله جل وعلا: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] فأخذ يرددها، ثم رددها، فما جاوزها حتى سقط مغشياً عليه من عظم تأثره بهذه الآية: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر:8] نحن كثيراً ما نقرأ: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1] كل هذه الآيات الكونية، وهذه المشاهد الغيبية التي سنراها وسنقدم عليها، نتلوها ونسمعها كثيراً، ومع ذلك لا تتحرك القلوب لها، ولا تستشعرها، ولا تتخيل شيئاً ولو قليلاً من أهوالها.(60/4)
زيارة المرضى وعيادة المصابين
معاشر المؤمنين: إن من الأمور التي تعين على تحريك القلوب: زيارة المرضى، وعيادة المصابين، فإن في ذلك -أيضاً- كسرٌ لهذه النفس، وتذكيرٌ لها بما هي فيه من الصحة والنعيم والعافية، إن الإنسان إذا كان يمسي ويصبح وهو في نعيمٍ وطعامٍ وشرابٍ وملذات، ولا تجده متذكراً أو زائراً لإخوانه المرضى والمصابين، فإن هذه النفوس تتعود على هذا الشبع والري، وتتعود على هذا النعيم، ثم بعد ذلك لا تود أن تسمع شيئاً اسمه المصابون، أو اسمه المحتاجون، أو اسمه الذين هم في ضنك العيش وقلة ذات اليد، كثيرٌ من الناس حينما تحدثه عن واقع الضعفاء والمنكوبين والمصابين، قال: أرجوك لا تذكرني بأولئك لا تشغل نفسي، ودع قلبي في لذاته وهواه، لا يريد أن يتذكر أحوال أولئك المنكوبين، لأنه تعود على هذه الوتيرة، وعلى هذه الطريقة، فهو لا يريد أن يتذكر شيئاً من أحوال المصابين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ولو علم ذلك المسكين أن تذكره لأحوالهم وزيارته لهم، وتفقده لأمورهم، يشعل في قلبه أموراً ماتت، ويحيي في قلبه جذورا ً خمدت؛ لاعتنى بذلك ولعلم أثر تلك الزيارة، فأسأل الله جل وعلا أن يعين قلوبنا وقلوبكم على طاعته، وأن يجعلها مخبتةً خاشعةً بين يديه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(60/5)
تذكر الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة؛ وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الأحباب: إن مما يعيننا على علاج قسوة القلوب وإعادتها إلى الخشية والخشوع والإخبات هو أن نتذكر الموت، هاذم اللذات، مفرق الأحباب، قاطع النعيم، نتذكر الموت الذي ينقل الإنسان وحيداً بعيداً عن أحب الأحباب وأعز الأقارب والأصدقاء، فينبغي أن نتذكر الموت دائماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وكان عمر رضي الله عنه يقول: [كفى بالموت واعظاً] تذكر حال نفسك وأنت لا تملك صغيراً أو كبيراً، قليلا ًأو كثيراً، والأمر يومئذٍ لله وفي تلك الحال لا ينفعك طبيبٌ ولا حبيبٌ ولا قريب، من تذكر هذه الساعة، وتلك اللحظات التي تتولى الملائكة فيها الفصول الأخيرة من هذه الحياة؛ فتنزع الروح من أصابع القدم إلى أمشاط القدمين، فتبرد السيقان بعد أن تمر الروح بها، ثم يهمل الفخذان، ثم تصعد الروح إلى التراقي، ثم يسمع للعبد حشرجةٌ ويسمع لصدره قعقعة، فما هي إلا لحظات حتى يرتفع بصره والبصر يتبع الروح من حيث خرجت.
إذاً: يا عباد الله! من تأمل هذه اللحظة ومن تذكرها في كل حالةٍ من حالاته، فإنه لا يجرؤ على معصية الله، وإن وقع في معصيةٍ فذكر هذه الحال، فإنه سرعان ما يقلع، سرعان ما يئوب ويتوب، سرعان ما ينقلب إلى ربه خاشعاً تائباً.
إذاً: يا عباد الله! تذكروا الموت دائماً، فإن الحياة دارٌ قصيرة، وإنما بعد الموت هي دار الخلود، فليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، ثم بعد ذلك يقال لأهل الجنة في الجنة: يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت، فاسألوا لأنفسكم الخلود الطويل في النعيم المقيم.(60/6)
حضور حالات الاحتضار
معاشر المؤمنين: إن بعض الناس قد لا تجدي هذه الأسباب في علاج قسوة قلبه، فإليه سبباً قد يكون معيناً بإذن الله في علاج قسوة قلبه، أتدرون ما هو يا عباد الله؟ هو أن تحضر رجلاً يجود بنفسه، أن تشهد وفاة رجلٍ في الرمق الأخير من حياته، أن تشهد رجلاً يحتضر، فإذا أعانك الله وأخذت تلقنه الشهادة وأنت تنظر إليه، وتعرفه؛ تعرفه بأيامه وصحته، وبنشاطه وبتجارته وبأعماله، وأنت واقفٌ على رأسه تلقنه تقول له: يا فلان بن فلان قل لا إله إلا الله، وأنت تنظر ذلك البدن الطويل، وذلك الجسم القوي، وذلك اللسان الفصيح، وتلك الأيدي الباطشة، وتلك الأرجل القوية، تعالج وتنازع وتجاهد نفسها في النطق بشهادة لا إله إلا الله، إن ذلك يا عباد الله! حريٌ بأن يكسر قسوة القلوب، وجمودها، ثم بعد ذلك لا تطرد هذه الصورة عن مخيلتك، فإنك إذا دعتك نفسك إلى شهوةٍ أو إلى غفلةٍ أو إلى معصية من معاصي الله سبحانه وتعالى تذكرت ذلك الرجل الذي وقفت عند رأسه وأنت تلقنه الشهادة، وتذكرت ذلك الذي لا يملك لنفسه شيئاً قليلاً ولا كثيراً، فهذا يدعوك إلى أن تئوب وتتوب.
قيل لبعض السلف: [بلغت عمراً طويلا ما عرفنا عنك معصية وما وقعت في خطيئة! قال: أما ذلك فبيني وبين ربي، ألا وإني إذا همت نفسي بمعصية، فإني أتذكر الموت وأخشى أن يقبض الله روحي وأنا عليها].
نعم يا عباد الله: إن من تذكر الموت وأنه يفاجئ أصحابه مفاجئة، فإنه -يا عباد الله- لا شك يقلع عن المعاصي خشية أن تقبض روحه وهو على حالٍ مقارفة الذنب والمعصية، فما حال الذين يموتون سكارى؟ فما حال الذين يموتون غافلين؟ فما حال الذين يموتون وهم في بلاد الغرب بين أحضان البغايا؟ فما حال أولئك الذين يموتون وهم منشغلون في الربا، وهم منشغلون بالمكاسب الباطلة والحرام؟ ما حال أولئك الذين يموتون في محلات بيع الأفلام الخليعة؟ والأشرطة الماجنة؟ إن لم يتدارك الله الجميع برحمةٍ منه، فيا سوءة الأعمار! ويا ضيعة النفوس حين الفزع الأكبر، والهول العظيم أمام الله!(60/7)
اتباع الجنائز ومشاهدة الدفن
معاشر المؤمنين: إن اتباع الجنائز وشهود دفن الموتى لمن الأمور التي تساعد الإنسان على تكسير وتفتيت وإذابة قسوة القلب، فإذا وفقك الله وكنت تابعاً لجنازة من الجنائز، فاجتهدت أن تكون من الذين يضعونها بأيديهم في القبر، ثم اجتهدت أن تكون من الذين يضعونها في مقامها الأخير، وفي مثواها الأخير؛ في اللحد الضيق، ثم أخذت لبنةً تصفها على هذا الميت، وأخذت طيناً ليناً لتسد منافذ الهواء والنور والبصر، لتسد كل منفذ صغيرٍ وكبيرٍ على هذا الميت، فإنك بعد ذلك يصيب نفسك شيء من الانكسار والإخبات والخشوع لله سبحانه وتعالى بأنك تتذكر هذا الصندوق الصغير، وهذا القفل الصغير الذي وضعت أنت بيدك هذا الميت فيه، وسيأتي يومٌ على كل واحدٍ منا يوضع فيه:
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار
اليوم نقول: فلان بن فلان انتقل إلى رحمة الله ومرضاته، وغداً يقولون: فلان بن فلان؛ عني وعنك وعن الثالث والخامس والعاشر، فلان بن فلان انتقل إلى رحمة الله ومرضاته إن شاء الله، فإذا تذكرت هذه الحال وأنت تدفن إخوانك، وفلذات أكبادك، وأعز أحبابك وأصدقائك، هل هناك أعز عليك من أبيك وأمك؟ لا والله.
ثم بعد ذلك أنت أحب الناس إليها، فتضعها في هذا اللحد وتغلق عليها هذا القبر، فيأتي ولدك أو أخوك أو أبوك أو قريبٌ لك ويضعك في هذا المثوى، فكما فعلت سيفعل بك، وهي سنة الله جل وعلا في الحياة، فلنقدم على الله بصدق، ولنجتهد بالاستعداد، اللهم إنا نسألك الاستعداد قبل الموت، والاستدراك قبل الفوات.(60/8)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم عند حضور الجنائز
معاشر المؤمنين: ينبغي أن ننتبه لهذه الأمور، فمن وجد في قلبه قسوة، فليبادر إلى علاج القلب، فليصل في الجامع الكبير وليشهد جنازتين أو ثلاثاً، إن الإنسان إذا اشتكى من وجع سنه، أو اشتكى من وجع رأسه، أو أنملةٍ من أنامله، ذهب إلى العيادات والأطباء ليعالج هذا المرض الذي حل به، إننا بحاجةٍ إلى أن نعالج القلوب بمجالس الذكر، بكثرة تلاوة كتاب الله، وبتدبر آيات الله، وبمشاهدة المحتضرين، وبعيادة المرضى، وبشهود الجنائز، وبوضع الموتى في لحودهم، ينبغي أن نعالج هذه القلوب حتى تقدم على الله سليمة، ثم بعد ذلك -يا عباد الله- اعلموا أن الشيطان يجتهد ما استطاع في صرف الإنسان عن هدفه في علاج نفسه، فإن كنت شاهداً جنازةً من الجنائز، وإن عينك لتكون مغرورقةً بالدموع من شدة هذا الهول الذي رأيته، لكن الشيطان يأتيك يقول: هذا جزع وهذا فزع، وهذه نياحةٌ وهذا ندب، كلا والله إذا كانت هذه الدموع تنزل من عينيك ولم يكن في ذلك اعتراضٌ ولا سخطٌ ولا جزع، بل هي رحمة، بل هي عبرة، بل هي عظة، فأطلق لعينك همير دموعها، واجعل هذه الدموع تنهمر على خديك، وتذكر أنك بكيت من خشية الله، تذكر أنك بكيت من هيبة الله سبحانه وتعالى، وإن نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ وهو أقوى الخلق، وأعرف الخلق، وأخشع الخلق لربه، بكى لما شهد مشاهد كهذه؛ لما مرض سعد بن عبادة رضي الله عنه، وعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم وأشار إلى لسانه) متفق عليه.
وجاء عن أسامة بن زيد رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم: رفع إليه ابن ابنته وهو في الموت، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدموع، فقال له سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: رحمةٌ جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه، ولما دخل صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن: وأنت يا رسول الله! فقال: (يا بن عوف! إنها رحمة، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) فاعتبروا يا عباد الله! بهذه الأحوال، وأطلقوا لعيونكم دموعها في مثل هذه المواقف من غير ندبٍ ولا نياحةٍ، بل اجعلوا ذلك عظةً وعبرةً من أنفسكم لأنفسكم:
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
عباد الله: كل واحدٍ منا يتذكر يوم أن ولدته أمه، يوم أن ولد على ظهر هذه الحياة، الناس حوله متضاحكين سروراً، إذاً أنت الذي يوم أن ولدتك نزلت صارخاً باكياً إلى هذه الدنيا:
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاربأ بنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
اللهم إنا نسألك السعادة والسرور عند لقائك، اللهم اجعل خير أيامنا يوم لقائك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، اللهم اجعل قلوبنا خاشعةً مخبتةً منكسرةً لك يا رب العالمين.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن أعينٍ لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع ولا يرفع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، اللهم من أراد بولاة أمورنا فتنة، اللهم من أراد بعلمائنا مكيدة، اللهم من أراد بشبابنا ضلالة، اللهم من أراد بالفتيات والنساء في مجتمعنا اختلاطاً في التعليم والوظائف، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، اللهم افضحه على رءوس الخلائق، اللهم من أراد بهذه النعمة والنعيم، والأمن والطمأنينة التي نحن فيها انقلاباً وتغيراً وزعزعة بخبث تخطيطه وكيده، اللهم فاردد كيده في نحره، واجعل الدائرة على رأسه وحزبه بقدرتك يا جبار السماوات والأرض، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم أصلحه وأصلح بطانته وإخوانه وأعوانه، اللهم اجمع شملهم على كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تشمت بهم حاسداً، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته.(60/9)
مكائد الشيطان وأساليبه الباطلة
إنه لابد أن نعلم أن هناك صراعاً بين الحق والباطل، وأن الله قدره كوناً من قبل أن يخلق الخلائق، وأن رائد الحق والخير هم الأنبياء المرسلون وأتباعهم، ورائد الشر والباطل هو إبليس وأتباعه من شياطين الجن والإنس، وقد بيَّن الله عداوة الشيطان ومكره وخبثه وأساليبه في إغواء الناس وإضلالهم، ثم بين للمؤمنين السلاح الفتاك الذي به يقاتلون هذا الشيطان ويغلبونه هذا وغيره ما تجده في هذه المادة.(61/1)
عداوة الشيطان لآدم صرح بها القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل والند والنظير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير؛ صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين: لا يخفاكم عداوة الشيطان لآدم وذريته، فهو الذي أخرج الأبوين من الجنة، وكيد الشيطان وعدواته لبني آدم معلومةٌ واضحةٌ مشهودةٌ مشهورةٌ، وقد تواترت وتوافرت بها الآيات في كتاب الله الكريم، بل جاءت هذه الآيات مصرحةً بهذه العداوة التي اتخذت أساليب مختلفة وأشكالاً متباينة، ليتفطن بنو آدم لكيد الشيطان وغروره وخداعه وأمانيه، ولكن أكثر الناس في هذا الزمان عن تنبههم لهذه العداوة في غفلة، بل وإن الكثير منهم لمنساق بمحض اختياره تحت طوع وإرادة عدوه، ولو سمعنا هذا في بني البشر لرأينا فيه عجباً عجاباً؛ لو قلنا: إن رجلاً يملك أساليب القوة والدفاع والمقاومة انقاد لعدوٍ من أعدائه، فسلم رقبته وإرادته خاضعاً بطوع اختياره يوجهه عدوه من بني البشر حيث ما شاء، لرأينا ذلك خبالاً وجنونا، وإننا في الحقيقة لنرى ألواناً من الجنون، لكن ظاهرها بريقٌ لا مع، وبرقٌ خلب، وما هي في حقيقتها إلا انقياد لعداوة الشيطان ومكره، إذ أن كثيراً من بني الإنسان في هذا الزمان قد سلموا إرادتهم بطوع حريتهم واختيارهم لهوى الشيطان يصرفهم كيفما شاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
معاشر المؤمنين: أما العداوة الصريحة من الشيطان لبني آدم، فهي ثابتةٌ جليةٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] ويقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:168 - 169].
ويقول يعقوب لولده يوسف عليه السلام: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5].
ويقول الله جل وعلا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53].
إذاً يا عباد الله: الآيات في كتاب الله كثيرةٌ وكثيرةٌ جداً مصرحةٌ بهذه العداوة، ولكننا في غفلة عن التنبه واليقظة لهذه العداوة الخطرة، واعلموا يا عباد الله! أن هذا الشيطان من شدة عداوته لأبيكم ولذريته أنه سأل ربه التأخير إلى يوم القيامة ليتمكن من الكيد لبني آدم على جميع ألوانهم وأصنافهم، وقد آتاه الله سؤاله هذا، وتوعده بأن جهنم مصيره ومصير الجاحدين الكافرين من بني آدم.
إن الشيطان يوم أن تكبر عن السجود لبني آدم وجاء في كتاب الله جل وعلا قول الله: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:12 - 14] أي: أخرني وأجلني وأمهلني حياً على قيد الحياة إلى يوم البعث، قال الله جل وعلا: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:15 - 16] وانظروا هذه العبارة الخبيثة من الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف:16] ولم يقل الشيطان عن نفسه بما غوى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [الأعراف:16 - 17] تنبهوا يا عباد الله! عن أي طريقٍ ومن أي جهةٍ ومن أي سبيلٍ تأتي الشياطين إلى بني آدم قال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:16 - 18].(61/2)
أساليب الشيطان وحقيقة مكره وخبثه
ويقول الله جل وعلا في موضعٍ آخر عن كيد الشيطان وعداوته: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ} [النساء:117 - 118] ماذا قال الشيطان؟ {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [النساء:117 - 120].
انظروا يا عباد الله إلى أي درجةٍ وإلى أي حدٍ بلغت هذه العداوة، حيث وقفت الشياطين لبني آدم عن أيمانهم وعن شمائلهم ومن أمامهم ومن خلفهم على جادة الصراط وواضح المحجة لتحرفهم عن نهج الله المستقيم، فتنبهوا لهذه العداوة، تنبهوا لها يا عباد الله! واعلموا أن أساليب الشيطان لا تأتي إلى بني آدم فجأةً أو مرةً واحدة، إن الشيطان حينما يأتي لواحدٍ من البشر وهو يريد أن يوقعه في جريمة الزنا مثلاً لا يقول له اذهب فازن بهذه المرأة، بل يقول: ماذا عليك لو قضيت شيئاً من الوقت عبر هذا التلفون معها؟ ماذا عليك لو أنك ساعدتها مثلاً وهي نازلة؟ ماذا عليك لو وصلتها إلى بيتها؟ قليلاً قليلاً، ومن هنا جاء قول الله جل وعلا جليلا ً دقيقاً واضحاً في بيان حقيقة مكر الشيطان وخبثه، حيث يقول سبحانه: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] إذ أن الشيطان لا يأتيك فجأة، لا يأمرك بالفاحشة فجأة، لا يأمرك بالجريمة فجأة، وإنما يمهدها لك خطوة خطوة حتى يقع الإنسان والعياذ بالله في هذه الفاحشة والمصيبة العظيمة.
وإن هذا واضحٌ وجليٌ في هذا الزمان حيث أوقع الشيطان بحبائله وهن النساء الفاتنات الجاهلات العاصيات الكاسيات العاريات، أوقع الشيطان خلقاً عظيماً من خلق الله في حبائله عبر هذه الخطوات الخطيرة، فأولها شيءٌ من التهاون، وبعدها شيءٌ من التهاون بالحجاب، ثم بترقيق الكلام والخضوع بالقول وتكسيره، ثم شيءٌ من الخلوة ليس على عزم فعل فاحشة، لا، بل إنما لشيءٍ من المساعدة ولماذا نفرض النية السيئة في بداية الأمر؟ ثم رويداً رويداً حتى تتمكن الخلوة، ويحضر الشيطان، ويغيب الإيمان عن ذهن الإنسان، ثم بعد ذلك تقع الفاحشة، وقديماً قال الشاعر:
فتنوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
نظرةٌ فابتسامة فسلام فكلامٌ فموعدٌ فلقاء
فاتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبهن هواء
نسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم كيد الشيطان ومكره، وألا يجعلنا من حزبه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(61/3)
من أساليب الشيطان الوسوسة
الحمد لله منشئ السحاب، وهازم الأحزاب، ومنزل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو رب الأرباب، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة السلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إن من أساليب الشيطان الخبيثة التي يزين بها المعصية ويبعد الإنسان بها عن جادة الصراط المستقيم: أسلوب الوسوسة، ذلك الأسلوب الذي عمله واتخذه مع أبينا آدم، فكان عاقبته بذلك أن أهبط من الجنة إلى دار الشقاء والبلاء وهي الأرض، يقول الله جلا وعلا: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:120 - 122].
إذاً يا عباد الله: تنبهوا لهذه الوسيلة الخبيثة التي يتخذها الشيطان مع كثيرٍ من بني الإنسان، واعلموا أن الشيطان مهما كان كيده، ومهما كثر أنصاره وأعوانه، فإنه خذولٌ لهذا الإنسان، إذا أوقعه في الفاحشة وجره إلى المعصية خطوة خطوة، فإنه بعد ذلك يتركه مخذولاً، ثم يظن الإنسان أن شيطانه الذي أغواه وأضله أنه سينصره أو سينفعه في تلك اللحظة، وصدق الله العظيم: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].
وبين الله لنا جل وعلا في كتابه الكريم صورةً من صور خذلان هذا الشيطان حيث قال في محكم كتابه: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر:16 - 17].(61/4)
أساليب نتقي بها كيد الشيطان
ومع ذلك يا عباد الله! اعلموا أن كيد الشيطان ضعيفٌ أمام كل من التجأ بالله وبذكر الله، وبالجلساء الطيبين، والأخيار الصالحين، فإن كيد الشيطان مهما برق ومهما تنوع أسلوبه وتباينت وسائله، إنه كيدٌ ضعيفٌ أمام ذلك، والله جل وعلا لم يتركنا سدىً، بل بين لنا أساليب كثيرة نتقي بها كيد الشيطان، يقول الله جل وعلا: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:200 - 201] إذاً يا عباد الله! إن ذكر الله جل وعلا، وإن الاستعاذة بالله جل وعلا في كل حالٍ لهو كفيلٌ بأن يطرد كيد الشيطان، وأن يصد عداوته عن هذا الإنسان.
ثم اعلموا بعد ذلك -يا عباد الله! - أنه ينبغي للإنسان إذا حضر مجلساً بدرت منه فيه معصيةٌ أو فاحشةٌ أو جريمةٌ أو غفلة، فليبادر إلى ترك هذا المجلس وليذهب بعيداً عن هذا المكان الذي حضره الشيطان، يقول الله جل وعلا: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] فمفارقة مجالس السوء، ومفارقة أهل الباطل، ومفارقة أماكن المنكرات والمعاصي والآثام كفيلةٌ بإذن الله جل وعلا بأن تبعد وأن تطرد الشيطان وكيده وأعوانه عن الإنسان، فانتبهوا لذلك عباد الله.
معاشر المؤمنين: إننا لو تأملنا هذه العداوة الحقيقية من هذا الشيطان لوجدنا أن الإنسان منا يحتاج فيها أن يستخدم أقوى ما يستطيعه، وأعظم ما يتمكن لديه من وسائل المقاومة والدفاع أمام هذا الشيطان، الذي هو في حقيقة الأمر ليس فحسب حولك عن يمينك أو شمالك أو أمامك أو من خلفك، بل هو في بدنك: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) إذاً فهذا شيطان قريبٌ جداً، وهو بعيدٌ أمام من التجأ بالله سبحانه وتعالى، وبذكر الله ومجالسة الأخيار الطيبين.
إن الإنسان لو قيل له: إن عدواً ينتظرك أمام هذا المسجد، أو خلف هذا الجدار، أو وراء هذا الباب، لوجدته يبحث عما لديه، هل من سلاحٍ في بيته؟ هل من وسيلةٍ فتاكةٍ ناجعةٍ في قتل هذا العدو والابتعاد منه؟ تجد الإنسان يقلب ويفكر ماذا لديه من العدد والعتاد لطرد هذا العدو الذي يتربصه وهو من بني الإنسان، فما بالك في عدوٍ هو أمامك وخلفك وعن يمينك وعن شمالك ويجري في عروقك، ينبغي أن تكون واضح العداوة أمامه، وينبغي أن تتخيل شيطانك أمامك في كل لحظةٍ من اللحظات التي تهم فيها بفعل الخير، إذ أن حقيقة الأمر حينما تريد أن تصلي مثلاً أو تصوم أو تتصدق يقول الشيطان: لو أجلت هذه الصدقة، تظن هذا حديث النفس، وفي حقيقة الأمر هو حديث الشيطان لك، فإذا وقفت وقفة بطلٍ شجاعٍ مقدام أمام هذا الشيطان، ثم لو رفعت صوتك شيئاً ما لطرد، والاستعاذة بالله من كيد هذا الشيطان، ثم توجهت منطلقاً إلى فعل هذا الخير الذي هممت به، فإنك على صوابٍ وفلاح، وما يرد كيد الشيطان إلى لجوءٌ بالله سبحانه وتعالى وبذكره وبآياته مع قوةٍ عظيمة، روي أن أحداً من الصحابة رضوان الله عليه لما أراد أن يخرج سلاحه، نادى وقال: [أسرجوا خيلي، فأتوا بخيله وأسرجوها له، ثم لبس لامته وسلاحه، ثم قالوا: أين أنت يا فلان؟ قال: خرجت لأخرج زكاة مالي، وإني لعلى يقينٍ أن الشيطان سيقف لي في طريقي، وهأنذا قد أخذت عدتي وسلاحي مواجهةً لهذا الشيطان] انظروا دقة تصور الصحابة والسلف لخطر الشيطان وعداوته ومكره وكيده، يتصورونه شخصاً واضحاً ماثلاً أمام العيان، حتى يستطيع الإنسان أن يدافعه، فدافعوا شياطينكم بذكر الله، وبالعزيمة على كل فعلٍ من الأمور الصالحة.
اعلموا يا عباد الله: أن الشياطين لا تترك أحداً من بني آدم إلا وهي تحرص أن توسوس له وأن تزين له وأن تقربه نظرةً ثم خطرةً ثم خطوةً ثم جريمة، حتى يقع الإنسان في الفاحشة، ثم تخذله وتتبرأ منه، وتتركه حسيراً مسكيناً في وحل هذه الجريمة التي فعلها، انتبهوا لذلك يا عباد الله.(61/5)
أصناف الناس أمام الشيطان
إن البشرية اليوم أمام الشيطان لعلى أصنافٍ عدة: أما صنفٌ منهم: فهم كالكرة بأيدي الصبيان، كما ذكر أو روي في بعض الآثار: أن نبيا ًمن الأنبياء تمثل له الشيطان، فقال له: كيف الناس معك؟ قال: هم ثلاثة أصناف: صنف كالكرة بأيدي الصبيان؛ أينما أردنا أن نرمي بهم رمينا بهم، فلا يلتفتون ولا يتغيرون عما أردناه بهم.
وصنفٌ لنا مرة ولهم مرة؛ ونجهد أنفسنا كثيراً معهم، ثم يزول كل ما عملناه، قال: من أولئك الصنف؟ قال: أولئك الذين لا نزال معهم حتى إذا قربناهم شيئاً فشيئاً استغفروا الله، فعاد كل ما فعلناه هباءً منثوراً.
وصنف لا نستطيع لهم ولا نقدر عليهم؛ أولئك الأنبياء.
فتنبهوا لذلك -يا عباد الله- واعلموا أن كثيراً من بني البشرية اليوم قد أراح شيطانه من عناء مكابدته وملاحقته، إذ قد يكون الإنسان بنفسه قد أصبح أشد تفنناً ودقةً من الشيطان نفسه في أساليب الفساد والفاحشة وغير ذلك، فهذا لا يحتاج الشيطان معه إلى كثيرٍ من الجهد، فحيثما هوت نفسه الفضيحة، وحيثما هوت نفسه الفاحشة والمنكر والمعصية، انقادت بلا حسابٍ أو مراقبةٍ أو ذكرٍ لله أو تذكر مراقبته أو خشيته، فهذا قد أراح الشيطان من عناء مجاهدته.
وصنف من أولئك الذين قد من الله عليهم حديثاً بالهداية؛ هؤلاء الشيطان أشد ما يتسلط عليهم، فتجد الشاب إذا من الله عليه بالهداية والتوبة والالتزام والاستقامة، وقد كان حديث عهدٍ بفسادٍ وشيءٍ من المعاصي والآثام يأتيه الشيطان فيقول: أتترك لحيتك هكذا يسخر منك الناس؟ أتلبس ثوباً قصيراً يستهزئ بك الناس؟ أتترك هذه المجالس؟ أتترك مجالس عامرةً بالطرب والغناء واللهو وأنواع الملذات والمشارب، وتقف واضعاً يدك هكذا مطرقاً برأسك في هذه المجالس والحلقات؟ يأتي الشيطان ويتسلط على هذا الشاب الذي هو حديث عهدٍ بتوبةٍ وهدايةٍ واستقامة، فهذا أشد ما يتسلط عليه.
ثم إذا استطاع الشاب بعون الله أن ينتصر على كيد الشيطان، واستطاع أن يثبت على توبته والتزامه واستقامته، تسلط عليه الشيطان في صلاته، في وضوئه، فأخذ يوسوس له؛ لم تغسل هذا المرفق، لم تغسل هذه اليد، لم تمسح هذه الأذن، لم تغسل هذه الرجل، يريد أن يضيعه عن العمل الصالح مرحلةً مرحلة، لا يريد أن يفوت مرحلةً من المراحل، فيكثر عليه الوسوسة.
فإذا استطاع أن ينتصر عليه في مرحلة الوضوء، دخل عليه في مرحلة الصلاة؛ لم تقرأ الفاتحة، بلى، قرأتها، بل تركت منها، لم تجلس بين السجدتين، لم تتشهد، لم تقل كذا، نسيت كذا فيصبح الإنسان في كثيرٍ من الوساوس وقد كان فيما مضى من وقته لا يعرف شيئاً من هذه الوسوسة: وأضرب لكم حادثةً لشابٍ عرفته في هذا المسجد، وقال لي عن حاله: أنه كثير الوسوسة في وضوئه وفي صلاته، وتبين لي من ملامحه وما أخبرني به أنه حديث عهدٍ بتوبةٍ واستقامةٍ والتزام، قلت له: أسألك بالله هل كنت قبل هذه المرحلة يصيبك شيءٌ من الوسوسة؟ قال: لا.
والله ما عرفت هذه الوسوسة إلا يوم أن تركت المعاصي والآثام، قلت: فاعلم أنك لست بموسوس ولله الحمد والمنة، ولكن الشيطان يريد أن يفسد عليك طريق هدايتك، إنه عجز أن يغويك وأن يضلك، وعجز أن يصرفك عن التوبة والاستقامة، وعجز أن يبعدك عن جلساء الخير، فأراد أن يشاغلك في صلاتك ووضوئك وعبادتك، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولا يضرك كيده.
فإذا انتصر الإنسان على الشيطان في هذه المرحلة، جاءه الشيطان وقال: إن الناس يستمعون لك، انظر إن الناس ينظرون صلاتك، إن الناس ينظرون جهودك في الدعوة، فيحاول أن يدخل عليه بأسلوب النفاق والرياء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فإذا استطاع أن ينتصر على شيطانه في هذه المرحلة، جاءه الشيطان، ويقول له: اذكر ما عملته من جهود وما حقق الله على يدك من الدعوة، وما حقق الله على يدك من الأمور، إذاً فالشيطان لا يترك بني آدم مرحلةً مرحلة، حتى عند النزع الأخير من الموت، فإن الشيطان يقول لأعوانه: دونكم ابن آدم، إن فاتكم اليوم فلا تدركونه، فيشوشون على الإنسان في الرمق الأخير، في مراحل النزع ووصول الروح إلى التراقي، يشوشون عليه ويحاولون أن يشغلوه عن النطق بالشهادة إلا من ثبته الله سبحانه وتعالى، فهو ينطقها آمناً مطمئناً واثقاً من قلبه.
فأسأل الله جل وعلا أن يصرف عنا كيد الشيطان، والتفتوا لذلك يا عباد الله! وتنبهوا له، وإن كثيراً من الناس قد انساقوا للشياطين بأبدانهم وأبصارهم وأسماعهم وجوارحهم، ألا فليتنبهوا من هذه الغفلة.
أسأل الله جل وعلا لنا ولجميع المسلمين التوبة والإنابة والهداية والتوفيق.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً، اللهم من أراد بعلمائنا مكيدة، وبولاة أمرنا فتنة، وبشبابنا ضلالة، وبنسائنا تبرجاً وسفوراً، وببناتنا اختلاطاً في الوظائف والتعلم، اللهم إنا نسألك أن تفضحه على رءوس الخلائق، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف وأسوأ من ذلك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وجنبنا ما يغضبك ويسخطك يا جبار السماوات والأرض.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أسيراً إلا فككت أسره، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذريةً صالحةً وهبته، ولا غائباً إلا رددته.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء والأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(61/6)
البداية
إن تجديد أساليب الدعوة من الحتميات التي يقتضيها الواقع وتطور العقل البشري وانتشار الفساد في هذا الزمان، ومن أجل ذلك جاءت هذه المادة فاتحة آفاقاً جديدة للدعوة إلى الله، مبينة أهمية تطوير وسائل الدعوة، وإيجاد البرامج العملية للإصلاح، موضحة سنن الإصلاح والتغيير، وأهمية توحيد الجهود من أجل الدعوة والإصلاح، والاستعداد النفسي والبدايات الحسية؛ من تخطيط، وطرد للشك والخوف، وتوحيد الجهود، والاستفادة من الطاقات المعطلة، وفتح بيئة جديدة أمام المدعوين.
ثم ذكرت نتائج هذه البدايات مبينة أهمية التخصص في الإصلاح.
وقد ختمت هذه المادة بذكر سلاح البداية، وحقيقة الانتصار.(62/1)
أهمية تطوير وسائل الدعوة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
أيها الإخوة! أيها الفتية: يقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:13 - 14].
معاشر الأحبة! الذين ربط الله على قلوبكم بالإيمان! ومن نسأل الله أن يجعلهم من أهل الصراط القويم عاجلاً غير آجل بمنه وكرمه.
أيها الإخوة في الله: أعتذر بادئ ذي بدء عن تأخري عن المجيء في الوقت المحدد، وما كان ذاك بملكي، ولكني حملت وزر أحد موظفي الخطوط سامحه الله، أعطاني كرت الصعود على بوابة والرحلة على بوابة أخرى، فكانت أعجوبة والحمد لله على كل حال، ولقد أفرغت جام غضبي في أبيات شعر كتبتها عنه:
هل ذا سيمنعني الهدى وجباله أو ذاك يحجبك الشفا ورجاله
إن المحب إذا تعلق قلبه جعل المخاطر في النوى سرباله
كم كنت أنتظر المساء لقربكم فيه وإني مبتلٍ أقواله
شاورت فيه النفس قالت لن تطق صبراً فعجل والهدى أهدى له
لما أتيت البوابة قالوا: أنت تأخرت
قالوا تأخرت الغداة ولم تكن عند النداء موافقاً ما قاله
فبثثتهم عذري بأني ساجدٌ قبل الرحيل وحجتي أولى له
أقلعت الطائرة وأغلقت البوابة، ولا تنفع إلا الواسطة في مثل هذه الحالات:
فهرعت أسرع للوسيط لعله أدرى بسرٍ مسعف من ناله
فتسابق الخطو الوئيد مهرولاً وكررت أسرع تابعاً منواله
حتى ركبت الفلك يوشك راحلاً في أرض جدة مدركاً آماله
ولقيت أحبابي على درب الهدى ومحمداً فوزي ترى أسمى له
الأخ/ محمد فوزي جزاه الله خيراً استقبلنا، وطار عقلي قبل أن يطير بي من قيادته وسرعة سياقته
وركبت في سيارة وطريقها قد زاد فوزي سرعة أهواله
حتى بلغت الطائف المحبوب في أرض الجزيرة حبذا إطلاله
أيها الأحبة: أسأل الله جل وعلا أن يجعل اجتماعكم في موازين أعمالكم، وأن يجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً، وقبل الخوض في الموضوع ألا وهو (البداية) أود أن نتساءل قليلا: أيها الإخوة: هل نشعر بالمتغيرات التي استجدت في المجتمعات العالمية؟ هل نعشر بالمتغيرات التي تطرأ؟ ليست بالسنة ولا بالشهر ولا بالأسبوع، بل باليوم والساعة، المتغيرات التي استجدت على المجتمعات، وتستجد أيضاً على مجتمعنا هذا، التغير صفة حاصلة، والتقلب أمر نراه في أحوال هذا الزمان وأهله، والتغير نوعان: تغير داخلي في النفس؛ وهذا التغير وإن لم يتغير الإنسان في سلوكه وتصرفاته، لكن تجد عنده تهيؤاً لأن تتغير أحواله، تجد عنده تهيؤاً لأن يغير من طريقته، ومن النمط الذي سار عليه في أيامه وأشهره.
والتغير الثاني: هو تغير خارجي في مجالات الحياة المختلفة، فهو الذي نراه في صور تمدن أسباب الحضارة وتطورها، هذا التغير كما هو موجود في المجتمعات، وكما هو موجود في النفوس، وترى النفوس متهيئة له، نجده في كل قطاع، أو في كل دائرة، أو في كل جهاز عام أو خاص.
أقول -أيها الإخوة! -: إن هذه المتغيرات وهذه التطورات موجودة، وأنتم ترون ما من دائرة، وما من جهاز، وما من مؤسسة، وما من قطاع عام أو خاص إلا وترى فيه تطوراً، وترى في القائمين عليه رغبة في تطويره، وترى في المسئولين عنه رغبة في تحديث أساليبه، وتطوير أساليب الخدمات التي تقدم للناس.
خذوا أمثلة لذلك: الهاتف مثلاً، هل خدمات الهاتف اليوم كالهاتف أول ما جاءنا في المملكة؟ لا، إذاً هناك تطور بالشهر والسنة، خذوا مثالاً: الصحة، تتطور خدماتها بتطور الأيام والسنين والأعوام،
و
السؤال
هل يوجد لدى الإخوة، ولدى الأجهزة التي تعنى بالدعوة إلى الله، وبالحسبة، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا الحس؟ هل يوجد لدى الدعاة والمحتسبين والمسئولين عن هذه الأجهزة هذا الحس، وهو الرغبة في تطوير الأساليب، وتحديث الوسائل، ونشر مجالات أوسع، وآفاق أرحب لكي تنتشر الدعوة في كل مكان؟ ومن المسئول عن هذا التطوير والتحديث؟ من المسئول عن فتح مجالات جديدة للدعوة؟ من المسئول عن ابتكار وسائل واختيار أساليب جديدة للدعوة إلى الله؟ هل المسئول عن هذا هم المسئولون عن هذه الأجهزة أم أن المسئول كل من يعنى بأمر الدعوة، وأنتم منهم؟ وكل من يعنى بشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنتم منهم؟ أم أن أولئك أيضاً معنيون بتطوير وتحديث أساليب الدعوة إلى الله جل وعلا؟ أيها الأحبة: إن الجهاز القائم على الدعوة إلى الله، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لو ضربنا مثلاً أنه جهاز لا يتطور ولا يتنامى، ولا يدخل التحديث في أساليبه، فإن هذا لا يعفينا أن نبقى جامدين، بل هذا يضاعف المسئولية علينا، لكي نطور من أساليبنا في الدعوة إلى الله، ولكي نفتح مجالات أوسع، وآفاقاً أرحب لنشر دين الله جل وعلا، وما لنا ألا نفعل ذلك والله سبحانه وتعالى قد أثنى على الدعاة، فقال جل من قائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
أيها الأحبة: الآية الواحدة، بل الكلمة الواحدة في هذه الآيات تجعل الواحد يطير فرحاً، ويحلق شوقاً لكي يدنو من الله جل وعلا، يطير فرحاً لكي يكون جليساً وجاراً للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن من سلك سبيل الدعوة، وسلك سبيل العلم، فإنه يكون من ورثة الأنبياء: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
ما لنا لا نطور أساليب الدعوة؟ ما لنا لا نجدد الوسائل، ونفتح الآفاق للدعوة إلى الله جل وعلا؟ لماذا لا نفعل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من دعا إلى هدى، فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ويقول صلى الله عليه وسلم: (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)؟.
أيها الأحبة: هل نشعر بحاجتنا إلى إصلاح أوضاع مجتمعاتنا؟ هل نشعر بأننا نحتاج إلى أن نصلح أوضاعنا؟ المجال الإعلامي، هل هو على الطريقة التي ترضي الله جل وعلا؟ أو هل هو على الطريقة التي تخرج الأطباء والمهندسين، والدعاة والعلماء والمخلصين لهذا البلد، ولأمة الإسلام أجمعين؟ إن الجانب الإعلامي لم يستثمر في الدعوة إلى الله حق الاستثمار، قد يقول قائل: لعلنا لا نسلم من شره فضلاً من أن نستثمره، وأقول: لا، هذه نظرة منهزم، لا تقل هذا الكلام.
لئن كانت الصحف ووسائل الإعلام مناخاً لمن سبق وحِمَىً مباحاً، فليبادر الدعاة إلى الله جل وعلا، وليسابقوا إلى هذا المجال، وليصلحوا مجتمعاتهم من خلال هذا المجال، حتى وإن وجد التنافس، وإن وجدت المزاحمة، المهم أن يسمع الناس كلمة الحق، وأن يعرفوا أن للحق أسلوبه، وأن للصدق عبارته، وأن للهداية أبوابها، إذا قدم هذا للملايين الذين يتربعون الآن أمام الشاشات، ولم يحضروا مثل هذه المحاضرات، أو محاضرات العلماء الأجلاء الذين هم أفضل منا، فهذه من المجالات المتروكة.
فهل نشعر -أيها الإخوة! - بحاجتنا إلى أن نصلح هذا المجال؟ هل نشعر بحاجتنا إلى إصلاح الأبواب المفتوحة في الأندية، والجمعيات الخيرية، وفي كثير من المجالات القائمة؟ إن الدخول في الشيء مع الحصانة الكافية، والوقاية اللازمة أمر ضروري جداً، إن إصلاح الشيء لا يتم عن بعد، فلا بد أن تدخل في صميمه، ولا بد أن تعرف أحواله، ولا بد أن تسبر عالمه، ولا تستطيع أن تصلح سيارة خربت بمجرد الدوران عليها، لا تستطيع أن تصلحها إلا إذا فتحت مقدمتها، وأخذت تغير وتعدل وتصلح قطعة بدلاً من قطعة، وشيئاً انحرف عن مساره فترده، وجهاد حتى تصل إلى درجة الإصلاح الكامل، أو ثلاثة أرباع الإصلاح، أو نصف الإصلاح، المهم يكفيك نصراً أنك قائم بالدعوة إلى الله جل وعلا.(62/2)
أهمية إيجاد البرامج العملية للإصلاح
هل نشعر -أيها الإخوة! - بضرورة إصلاح مجتمعنا؟ هل نشعر بأن من واجبنا أن نطرح البرامج العملية للإصلاح؟ هل نشعر أن من واجبنا أن نحدد الأهداف والغايات من وراء الدعوة إلى الله والإصلاح؟ هل نشعر أن من واجبنا اختيار الوسائل التي نوزعها عل كل فرد بحسب طاقته وقدرته؟ أم لا نزال نردد العموميات: الإسلام هو الحل؟ أيها الإخوة: كثير من الأحباب والغيورين والطيبين، حينما تتحدث مع أحدهم عن واقع الصحافة، يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] تحدثه عن الإعلام فتسمع مثل هذه الحوقلة، حدثه عن كثير من المجالات لا تسمع إلا حوقلة وأنيناً وآهات يرددها، فتقول له: يا أخي الكريم! ما الحل؟ أين البداية؟ كيف تحل هذه المصائب والمشكلات؟ يقول لك: الحل هو الإسلام والقرآن، يا أخي! نحن في مجتمع مسلم، حينما تقول الحل هو الإسلام فإنك لا تأتي بجديد.
أقول لك: الاقتصاد يحتاج إلى إصلاح، المصارف الربوية كيف تصلحها وتغير أحوالها من الربا إلى المعاملات الشرعية؟ يقول لك: الحل هو الإسلام، كيف تصلح الإعلام؟ الحل هو الإسلام، سبحان الله العلي العظيم! هل تصلح البنوك إذا وضعت المصحف في طاولة البنك، أو وضعت ورقة فيها آيات في صندوق النقد الإلكتروني؟ هذا كلام عام: الإسلام هو الحل، أعطني برنامجاً عملياً وقدمه لي حتى تصلح به هذا الجانب.
حينما أخبرك عن الاختلاط في المستشفيات، عن مباشرة الأطباء الذكور توليد العفيفات المسلمات المحجبات، ورؤية عوراتهن والإطلاع عليها، كيف تحل هذه المشكلة؟ الإسلام هو الحل، هل تضع مصحفاً في غرفة العمليات لتنتهي المشاكل؟ هل تضع مصحفاً في دائرة من الدوائر لتنتهي المشاكل والمخالفات الشرعية؟ لا.
هذا كلام عام، نحن نريد أن نضع الأنامل على مواقع الجراح، لا يكفي أن نقول: نحن مرضى، ليس هناك مسئول أو داعية أو كبير أو صغير، يقول: مجتمعنا هو أكمل المجتمعات، كلنا نعترف بأن في مجتمعنا أخطاء وهي عادة البشر، وحينما يوجد البشر فهم مظنة الخطأ، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
لكن -أيها الإخوة! - هل هذا يكفي بأن نتكلم عن العموميات؟ لا.
بل لا بد أن نعرف الطريق والسبيل للبداية التي نصلح بها المجتمعات.(62/3)
من سنن الإصلاح والتغيير
اعلموا أيها الأخوة! أن هناك سنناً في الإصلاح والتغيير، أهمهما: الصبر وعامل الزمن:(62/4)
الصبر والمصابرة
أما الصبر فهو سنة من عمل بها وجد النتيجة، الصبر حينما يعمل به اليهود يجدون النتيجة، الصبر حينما يتحلى به النصارى يجدون النتيجة، الصبر حينما يتحلى به البوذيون يجدون النتيجة، الصبر حينما يتحلى به القاديانيون والنصيريون والبريليون والبابويون، وكل أصحاب الطوائف الضالة، من صبر على بدعته، ومن صبر على باطله ومنكره، سيجد نتيجة، كذلك الحق من باب أولى، بل إن الله جل وعلا جعل من أسباب نوال الهداية الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
قبل أن أقول لك ما هي البداية، أريد أن تضع في قلبك أن مجتمعك فيه خير كثير، لا تنظر بعين واحدة إلى المجتمع، فلا تبصر فيه إلا السلبيات وتغض النظر عن الإيجابيات.
وقبل أن أقول لك ما هي البداية، كن كما هو قول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47].
إن الله يأتي بحسنات العباد يوم القيامة وسيئاتهم، فأنت لا تنظر بعين واحدة، فتقول: في هذا الجانب فساد، وفي هذا الجانب اختلاط، وفي هذا الجانب رباً وتحلل، وتمتلئ عينك ويمتلئ دماغك وعقلك بأن ليس في مجتمعك إلا الشر والمنكر والباطل، والمصائب والآثام، فهذا أكبر باب لحصول الإحباط في نفسك، وهذا أكبر معول تحطم به رأسك قبل أن تخطو إلى الأمام خطوة واحدة.
أقول لك: يا أخي! لا بد أن تضع في حسبانك أن الصبر وسيلة، وأن تضع في حسبانك أنك في مجتمع فيه الخير والشر، وأن واقعك يختلف عن واقع كثير من البلدان، ومن هنا أعاتب إخواني وأحبابي الشباب، الذين بعضهم يقيس مثلاً أوضاع المجتمع هنا بأوضاع مصر، أو أوضاع سوريا أو تونس، يا أخي الكريم! إياك والتخليط، تاريخك يختلف عن تاريخه، ونشأتك تختلف عن نشأته، ومجتمعك يختلف عن مجتمعه، والأمة من حولك تختلف على الأمة من حوله، وأوضاعك تختلف عن أوضاعه، بل هناك فوارق كبيرة جداً جداً، حتى الفساق الذين في مجتمعنا قد يعتبرون في بعض المجتمعات الأخرى في خطوة لا بأس بها في طريق الهداية في نظر أولئك، وليس هذا مبرراً لبعض المخطئين، أو لبعض الواقعين في المعاصي أن يقولوا: الحمد لله، مثلما قال رجل في قديم الزمان، رجل من أهل نجد سافر البحرين، فوجد الناس في معاصٍ وفساد -قديماً وحديثاً، وجد الناس في معاصٍ وفساد- فلما رجع قال: إن شاء الله ستدخلون الجنة؛ لأن أولئك سيملئون النار؛ لأنه قاس مجتمعه بفساد أولئك فرأى أبناء مجتمعه متقدمين جداً في الإسلام، هذا الكلام لا يقال.
نحن لا نقول: اجعل نفسك مقياساً لغيرك، وبالمناسبة هذه حجة كثير من الشباب أو بعض الرجال حينما تدعوه إلى الله، يا أخي الكريم: تب إلى الله، أقلع عن الملاهي، أقلع عن ترك الصلاة مع الجماعة، أقلع عن العقوق، عن المحرمات، عن هذا العبث، عن المعاكسة، عن التساهل بالحجاب، يقول: يا أخي الكريم! احمد ربك فهناك ناس غيرنا لا يصلون بتاتاً، هناك ناس غيرنا يشربون الخمر ويزنون، ومتى كان يحتج بالخطأ على الخطأ؟ ومتى قبلت العقول أن يحتج إنسان بالمنكر على المنكر، هذا ليس بصحيح أبداً.
فأقول: أيها الأحبة! لا بد أن ننظر إلى مجتمعنا نظرة متزنة ومتعادلة، نظرة نجمع فيها الإيجابيات والسلبيات، خذ مثالاً بسيطاً: أنت في الحي يوجد عندكم مجموعة لا يصلون، اجعل من إيجابيات مجتمعك جماعة المسجد الذين يصلون، يوجد في الحي محل فيديو، في مقابله يوجد محل تسجيلات إسلامية، عندك في المجتمع مثلاً مكان فيه منكرات، في المقابل يوجد مدرسة تحفيظ قرآن.
إذاً: حينما تريد أن تعمل في المجتمع، حينما تريد أن تصلح مجتمعك، وتدعو إلى الله، اجعل الإيجابيات والسلبيات بين عينيك، وكيف تستثمر الإيجابيات في محاولة القضاء والتقليل على هذه السلبيات، والقضاء على هذه السلبيات والتقليل منها لا ينال في يوم وليلة.
يا أخي الكريم: لابد من الصبر، وهي سنة من سنن الله جل وعلا، الصبر فيه مجاهدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] هناك مفاعلة ومجاهدة واستمرار.
وتارة تجد أن الذين في الصف الثاني أو في الطرف المقابل من الذين لم يذوقوا حلاوة الإيمان، لا يزالون يجادلونك بالباطل ليدحضوا به الحق، إما انخداعاً أو شبهات دخلت، أو شهوات تمكنت في نفوسهم.
أقول: يا أخي الكريم! تحل بالصبر وبالمصابرة، ولن تذوق هداية الاستقامة، والهداية في مجتمعك إلا بالمجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(62/5)
عامل الزمن
عامل الزمن أيضاً أمر ضروري، كما قلنا الصبر سنة من عمل بها وجد النتيجة، فالصبر قرين لعامل الزمن، ففي هذه السنة مثلاً تجد نصف الحي يصلي في البيت، والنصف الآخر يصلي في المسجد، لا تظن أنه بمحاضرة أو بمحاضرتين، أو بإعطاء كل بيت شريطاً، أو بإهداء كل أسرة كتاباً، أن أولئك من ثاني يوم سوف يأتون يبكون في المساجد ويملئونها، لا.
عامل الزمن أمر ضروري جداً، بل هو من سنن التغيير، بل من سنن خلق السماوات والأرض، الله جل وعلا قادر على أن يخلق السماوات والأرض في أقل من طرفة عين وانتباهتها، ولكن الله جل وعلا يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق:38] فاصبر حتى تجد النتيجة، واجعل أمامك عامل الزمن، كيف استطاع أعداء الإسلام والذين يخالفون معتقد هذا المجتمع، والذين يتمنون ويتربصون بأهله الدوائر، أن يغيروا هذا المجتمع، وأن ينشروا فيه الضلالات والفساد؟ يا أخي! هذا لم يأت بين يوم وليلة، إنما أتى بجهود طويلة جداً جداً، ليست سنة ولا عشر سنوات ولا خمس عشرة سنة؛ بل أكثر من ذلك.
إذاً: أيها الأحبة! لابد أن نضع بحسباننا عامل الصبر والزمن حتى نصلح الناس، بعض الشباب تجده حينما يدعو إنساناً يظن أنه سوف يصيح ويبكي، وسوف يحطم أشرطته الآن، وسوف يتلف الصور التي لديه، وسوف يحرق مجلاته، وسوف يأتيك بجميع ما لديه من أول كلمة!! لا.
ولا أقول هذا الكلام لنظن أن التوبة يمكن أن تتحقق مع وجود المعاصي وأسبابها، لا.
إنما أقول: حتى تصل إلى هداية هذا الشاب، والبلوغ به إلى درجة التوبة، لا بد أن تعاود عليه، وأن تحاول معه، وأن تردد المشوار مرات ومرات، حتى لا تدع في قلبه شاردة ولا واردة، ولا شاذة ولا فاذة إلا وقد استأصلتها من فؤاده، فلا يتعلق بها.(62/6)
أهمية توحيد الجهود من أجل الدعوة والإصلاح
أيها الإخوة: الملاحظ أن جهودنا في الدعوة إلى الله مبعثرة، وليست على المستوى المطلوب، وإن كانت تتجه نحو الأحسن يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، وليس لفقير صغير مثلي أن يُقَيِّم الدعوة وجهود الدعاة، ولكن هذا أمرٌ ملحوظ، فلو سألنا أنفسنا: هل واقع الدعوة من حيث الشمول والاتصال بجميع أفراد المجتمع متحقق؟ هل الدعوة الآن خاطبت شريحة الأطفال؟ وهل خاطبت الشباب بجميع مستوياتهم؛ المثقفين، والمنحرفين، والبين بين؟ هل خاطبت الدعوة الشيوخ وكبار السن؟ هل خاطبت العجائز؟ هل خاطبت المراهقات من البنات؟ هل خاطبت المتزوجات؟ هل خاطبت جميع أفراد المجتمع؟ كذلك: هل مواضيعنا في الدعوة شاملة لكل شيء، أم أننا نريد أو يراد لنا ألا نتكلم إلا في مواضيع محددة؟ فمثلاً: ليس من العقل أن نشغل الناس منذ عشر سنوات إلى يومنا هذا بالصلاة مع الجماعة، وبتحريم الأغاني، وبتحريم حلق اللحى، وبتحريم كذا وكذا، ليس عندنا إلا هذا، بل من واجبنا كما نحدث الناس عن تحريم هذه المعاصي، أن نحدثهم عن النظام الاقتصادي في الإسلام، وكما نحدث الناس عن خطر الملاهي والمعازف وحرمتها والاتجار بها، علينا أن نحدث الناس كيف لو تولى الإسلام أجهزة الإعلام، ماذا سيقدم للمجتمع؟ إذا كان الإسلام والدعوة إلى الإسلام، وأساليب الدعوة إلى هذا لدين رغم محدوديتها وبساطتها، وبدائية أساليبها أثرت في الناس إلى هذه الدرجة، فما بالك لو تسخرت وسائل الإعلام جميعاً، أو خصصت الساعات الطوال لأجل هذا، هل عندنا الشمول في طرح المواضيع؟ كما نطرح هذه الجزئيات نطرح الكليات، وكما نطرح صغار المسائل نطرح كبارها.
خذ أخي الكريم! صورة من صور بعثرة الجهود، الخطباء في أنحاء المملكة كم عددهم؟ يوجد في المملكة إن لم تَخُنِّي الذاكرة قرابة ستة عشر ألف جامع، معدل أو متوسط المصلين في كل جامع كذا، النتيجة أن هناك ثلاثة أو أربعة ملايين رجلاً وشاباً وامرأة، كلهم يطرقون لمدة ساعة كاملة على اختلاف التوقيت في أنحاء المملكة لكي يسمعوا خطبة الجمعة، ولكن انظر مع سخونة الأحداث تجد التباين في طرح المواضيع، فمنا مثلاً من يتكلم عن مؤتمر مدريد، وآخر عن مسح الخفين، وآخر في حرب الخليج، وآخر يتكلم على الخوف من صواريخ اسكود، وآخر يتكلم عن أهمية النظافة، وآخر يتكلم عن أسبوع الصحة والتطعيم، وهلم جرا.
يا أخي الكريم! هذا من إهدار وتضييع وسائل الدعوة، وعدم استغلالها، عدم وجود استراتيجية وخطة طويلة المدى تشرف عليها الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، لكي تربي هؤلاء الناس، لكي تتابع ما يجد في المجتمع وما يظهر فيه من مصائب.
حتى الأجهزة الأمنية يمكن أن يستفيد منها خطباء الجمع، كنت ذات مرة أسأل رجلاً من كبار مسئولي الأمن، فقلت له: لماذا لا تزودون خطباء الجوامع على الأقل في الشهر مرة واحدة بأخطر جريمة حصلت في المجتمع، ولك علينا العهد والميثاق ألا نقول اسم المجرم، ولا مكان الجريمة، ولا مدينة الجريمة، إنما سنذكر هذه الجريمة لكي نحذر من الشر الذي تدور حوله، قال: هذا أمر يحتاج إلى نظر، أو يمكن أن نبحث في هذا.
هنا تضييع وإهدار للوسائل، وعدم استغلال أمثل لهذه الجوانب، ولو رَتَّبَتْ مثل هذه الأجهزة مع مراكز الدعوة أو الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية، أو دعت الخطباء وطلبت منهم على الأقل أن يعرضوا ما عندهم، والخطباء لن يترددوا أن يستفيدوا.
خذ مثالاً آخر: المخدرات الآن، المخدرات لا يكاد يمر أسبوع وبدون مبالغة في كل مدينة يموت شاب من جراء حقن الهروين وغيرها،
و
السؤال
هل أخذ التحذير من هذه السموم الخطيرة والضارة حيزه المناسب من جهودنا، ومن صيحاتنا وصرخاتنا؟ وهل هذا المرض الفتاك والداء العضال قد أخذ حيزه المناسب من أجهزة الإعلام مثلاً؟ المسلسلة اليومية، ما ظنك لو أن نصف برنامجها يصرف في بيان أخطار المخدرات، وآثارها، وكيفية الحذر من الوقوع فيها وبداياتها، أو التنبيه على أساليب المروجين والمفسدين الذين يوقعون الجهلاء والمخدوعين في شراكها وشباكها، هل هذا موجود؟ لا.
غير موجود.
إذاً نحن على المستوى العام والخاص لم نستغل ولم نستفد ولم نفد على الوجه الذي ينبغي، خذ مثالاً على ذلك: أهمية هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل أعطيت هذه الهيئات حجمها؟ ما ظنكم لو أن عشر دقائق من التلفاز يومياً أو من الإذاعة أبرزت بدون أسماء، وبدون أحياء، وبدون أسماء مدن كلاماً عاماً عن حجم الجرائم التي يضبطها رجال الهيئة بالجرم المشهود، فلو فُعل لأدرك الناس أهميه هذا الجهاز، ولتمسكوا به، ولعضوا عليه بالنواجذ، ولشعروا أنهم لا يمكن أن يستغنوا عن مثل هذا الجهاز، بل لرأيت الحاجة إلى تطوير هذا الجهاز وتطوير أساليبه قائمة.
أيها الإخوة: ما مضى هو استطراد لكي تشعروا حجم الحاجة إلى الإصلاح، ولكي تشعروا بحجم الوسائل التي بين أيدينا وهي مهدرة لم تستغل ولم تستثمر، ولكي تشعروا وتدركوا حجم الخطر الذي يجر أبناء المجتمع إلى الهاوية، ولكن
السؤال
البداية كيف ومتى وأين؟(62/7)
البداية النفسية
البداية قبل أن أتكلم في وسائلها وأساليبها، سأسألكم أنتم أيها الحضور: هل تهيأت نفوسكم للبداية والانطلاق في إصلاح هذا المجتمع؟ هل تصيبك الغيرة ويقلقك ضميرك، وهل تتقلب على فراشك وأنت تفكر في حال خمسة أو ستة من جيرانك الذين وقعوا في أسر كثير من الأمراض، والشهوات الخبيثة، والعادات الضارة؟ هل تنزعج حينما تدخل سوقاً من الأسواق وترى حجم التبرج فيه؟ وهل تنزعج حينما ترى الاختلاط في مجال من المجالات؟ هل تنزعج وتجد الأسى يعصر قلبك إذا مررت ببنك ربوي، وتقول: متى يكون هذا البنك على منهاج الله ومنهاج رسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل وجد هذا التهيؤ النفسي؟ البداية النفسية قبل البداية الحسية، تهيؤنا لأن نبدأ، وتهيؤ النفس للإصلاح هو أمر مهم جداً من أجل أن يشارك كل واحد منا، ولكي يستلم كل واحد منا دوره، في أن يقدم ولو لبنة واحدة في إصلاح المجتمع والتغيير نحو الأفضل.
إننا نجد شباباً قد شدوا المآزر، وتعاهدوا بالله، وتعاونوا على مرضاة الله في الدعوة إلى الله جل وعلا، تجد عددهم سبعة ثمانية، هم لم يعرفوا عالماً معرفة وثيقة حتى يزوروه ويزورهم، يحضرون مثل هذه المحاضرات، يسمعون الأشرطة، يسمعون خطب الجمعة في بعض الجوامع، فتجد الثمرة الطبيعية في القلوب الحية، وفي العقول الوثابة المتطلعة إلى أن تضع نفسها في موقعها المناسب لإصلاح مجتمعها، ترى الثمرة الطبيعية من هؤلاء الشباب أن يقولوا: ماذا نعمل؟ وكيف نعمل؟ تجد بعضهم يركز على مجموعة من محلات الفيديو لكي يدعو أصحابها ويتخصص فيهم، وبعضهم يركز على عدد من الشباب الذين في سجون المخدرات أو في مستشفيات الأمل، لكي يحاول أن يدعوهم إلى الله، ويتوبوا إلى الله، ويربط معهم علاقة، ويكون معهم رعاية لاحقة بعد خروجهم من هذه السجون، ومن ثم يفيد ويستفيد بإذن الله جل وعلا.
أقول: ونِعْمَ هذه الجهود الطيبة التي نراها من شبابنا وإخواننا، فهل كل الإخوان الحضور الآن، وهل جميع شباب الصحوة في أنحاء هذه البلاد الطيبة على مستوىً من الاستعداد للإصلاح؟ أم أن همنا أن نتناقل الأخبار: سمعت ماذا قال فلان؟ لا والله ما سمعت، قال: كذا وكذا وكذا، الله يجزيه الخير خطبة ممتازة، خطبة حماسية ورائعة، ما رأيك أن نتغدى اليوم سوياً، في أي مطعم؟ الله أكبر! بعد التكبير والحماس، والخطابة والمواضيع، نفكر بالغداء مباشرة، لا يفكر واحد بعد الخطبة أن يقول ماذا أقدم؟ هل بين يدي أمر أستطيع أن أبدأ به؟ هل عندي مجال أستطيع أن أستغله؟ لا.
مجرد أن نردد العبارات والكلمات، ثم بعد ذلك تجد الواحد يعود إلى ديدنه وطبيعته ونمط حياته الرتيب الذي لا يقدم فيه للمجتمع خيراً.(62/8)
البداية الحسية
أخي الكريم: إن الالتزام والدعوة إلى الله جل وعلا، لا تقف عند إطلاق لحيتك وتقصير ثوبك، أو حرصك على الصلاة فقط، نعم هذه بوادر بناءة وإيجابية وواجبات شرعية، ولو خالفتها لكنت وشيك الإثم، لكن يا أخي الكريم! ماذا قدمت؟ ماذا أصلحت؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه.
أيها الإخوة! أقول لكم: إن البداية طالما أننا لا نجد تخطيطاً للدعوة إلى الله، ولا نجد جهازاً مركزياً يخطط للدعوة على مستوى المجالات وفي شتى الميادين، وعلى مختلف الشرائح والمستويات الموجودة في المجتمع، أقول: واجبنا نحن أن نبدأ العمل، والبداية تتلخص في الآتي، وليست بجديدة على أسماعكم، لكني رأيت فائدتها، ولمست ثمراتها، ورأينا خيراتها تتدفق بإذن الله جل وعلا، فكان لزاماً عليّ أن أبلغ إخواني، و (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).(62/9)
التخطيط
أخي الكريم: إن الدعوة إلى الله جل وعلا، والبداية في إصلاح المجتمع لا تنتظر أمراً يأتيك بها، قد أمرك الله وحثك رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن البداية فيك أنت.
دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر
وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
أنت أخي المسلم! إما نعمة وإما نقمة، أنت طامة أو نعمة عظيمة، ومتى يكون الإنسان طامة أو نقمة؟ حينما يتخلى عن هذا الدين، ويسلك سبيل المبطلين، ويتبع المنحرفين، ويكون شوكة في حلوق الدعاة والمخلصين، حينئذ يكون طامة.
ويكون نعمة عظيمة حينما يقوم بدوره، ويؤدي ما له وما عليه.
البداية جربناها، ولعل الإخوة جربوها؛ إمام المسجد مع الشباب الصالحين الموجودين في الحي، مثلاً لو قلنا: إن مدينة الطائف مساحتها عشرة كيلو مترات، بجهاتها الشرقية والغربية والشمالية والجنوبية، لو قسمت مدينة الطائف إلى أربعة مربعات أو أربعة أحياء مثلاً، وكل حي من الأحياء فيه أربع مخططات سكنية، في كل مخطط سكني جامع ومسجدان.(62/10)
طرد الشك والخوف
يا أخي الكريم! الجامع والمسجدان اللذان حوله لو اجتمع الشباب الطيبون الذين في هذه المساجد في بيت أحدهم، وقالوا: نحن في المخطط رقم واحد في الجهة الشمالية من الطائف، كيف نستطيع أن نشارك في بناء المجتمع؟ أولاً: ينبغي أن نشارك بإزالة الأوهام والخوف من نفوسنا، بمعنى أننا إذا اجتمع أئمة المساجد الذين في هذا المخطط في ربع هذا الحي، ينبغي أن يشعروا أننا نمارس عملاً حلالاً مباحاً كما يشربون الماء، فأنت لا تمارس عملاً محرماً، لا تروج مخدرات، ولا تتاجر بأفلام فيديو خليعة، ولا تدعو الناس إلى منكر، ولا تخالف سياسة الدولة، إنما تقوم بعمل إيجابي.
أيها الإخوة: مصيبتنا في بعض الشباب حينما تقول له: خذ هذه عشرة أشرطة، أعطها أقاربك وجماعتك الذين سيزورونك هذا المساء، يقول: لا، توزيع الأشرطة ممنوع، مسكين، جبان! يا أخي الكريم! الشريط هذا من أين جئت به؟ هل هربته؟ هل أخفيته عن الجمارك؟ هل أتيت به وراء خفر السواحل؟ هل لعبت على حرس الحدود وأدخلته؟ أم أنه شريط من تسجيلات إسلامية مصرح بافتتاحها من الإدارات المسئولة في بلدك؟ وحينما أقول لك: خذ خمسين كتاباً وزعها على أقاربك في هذا الزواج، تقول: لا، هذا ممنوع، لماذا؟ وهل هذا الكتاب طبع من دار بنجوين في لندن، هذا الكتاب مطبوع في دار الوطن أو دار الصميعي للنشر والتوزيع، أي أن هذا الكتاب قد قرئ في الإفتاء، وقرئ في وزارة الإعلام، وقرئ في مجالات كثيرة، وخضع للمراقبة، إذاً ما الذي يخيفك حتى توزعه؟ أريدك يا أخي أن تزيل عنك وسوسة الشيطان، قال الله جل وعلا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
كثير من أهل الخير، وكثير ممن في نفوسهم الخير، حتى وإن كان عليه بعض مظاهر التقصير ففيه خير كثير، ولكنه يخاف، ولا يوجد شيء حقيقي يخاف منه، لكن يوجد الوهم الذي يجعله بهذه الحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد قلتها في شريط (من هنا نبدأ) قال لي أحد الشباب ذات مرة: أنا يراقبني أربعة، ما شاء الله أربعة يراقبونك، والأخ من الألوية الحمراء، أو من رجال المافيا؟ من أنت يا مسكين؟! بعض الناس بمجرد أنه يصلي الفجر، ويقصر ثوبه، ويشتري أشرطة إسلامية، يظن أن الناس قد أشارت إليه بالبنان، وقد لاحظته بالعيان، وأصبح شخصاً مشكوكاً فيه ومطارداً.
يا أخي الكريم! أنا أخبرك أن هذه الأوهام جاءت نتيجة قراءة لأوضاع بعض الدول المجاورة، نعم يوجد أن بعض الدول عندهم سماع الشريط جريمة، توزيع الشريط سجن مؤبد، نشر كتاب أعمال شاقة وهلم جراً، لكن يا أخي! إياك أن تنقل حقيقة جيرانك إلى أوهام عقلك، فتبقى مقيداً مكبلاً لا تستطيع أن تغير في مجتمعك تغييراً نحو الإصلاح ولو خطوة واحدة، وأهل الشر يفسدون في مجتمعك بالدقيقة واللحظة والثانية.(62/11)
توحيد الجهود والبداية بالبيئة المحيطة
أول شيء نريد أن تعرفه: أنك أنت الأصل، الخير هو الأصل، والدعوة إلى الله هي الأصل، والإسلام هو الأصل، والإيمان هو الأصل، والغيرة هي الأصل، والحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما الأصل، وما جاءنا من سموم وسهام التغريب والعلمنة وإفساد المجتمع هو الطارئ والغريب والدخيل، أصلح هذا الأمر في عقلك، وأصلح هذا الأمر في نفسيتك، وحينئذ ستقتنع أنك قادر على أن تغير في مجتمعك، سيما إذا عرفت الجوانب الإيجابية في المجتمع، وأدركت أنك تعمل في مجتمعٍ الخير فيه كثير.
أقول أيها الإخوة: ليجتمع إمام المسجد، والشباب الأبرار، والرجال الأخيار في هذا المسجد، الغيورون على صلاح الحي وأهله مع أئمة المساجد المجاورة في بيت واحد، ويقولون: نريد أن نصلح المجتمع كله، ابتداءً من حارة عمار في الحدود وانتهاءً بحدود اليمن، لا.
هذا إصلاح خيالي، نريد أن نصلح المجتمع، أي: المجتمع الذي بين أيدينا، المخطط المجاور لنا، المربع الذي نسكن ونعيش فيه.
كل مجموعة من الشباب إذا قالت هذا الكلام، فستجد أن الإصلاح عم كل المناطق، كل من كان في حي أو في مربع أو في مخطط سيصلح مربعه ومخططه الذي يسكن فيه، ومن ثم ترى الإصلاح في جميع أنحاء بلادك، وهذا خير عظيم تؤجر وتثاب عليه دنيا وأخرى.
نبدأ بأن نتآزر وأن نتعاهد على أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله، ثم إن هذا العمل ليس سرياً، أهلاً وسهلاً بمن أراد أن يشارك في هذا العمل وحياه الله، رجل أمن، مدير الشرطة، رئيس القسم، مدرس، مهندس، طبيب، أياً كان ليشارك معك في هذا الإصلاح؛ لأنك حينما تصلح المجتمع لا تصلح المجتمع بأساليب سرية، ولا تصلح المجتمع بوسائل سرية، وإنما تصلح المجتمع بما يباع في المجتمع، وتصلح المجتمع بما هو موجود في المجتمع، وعندك من المجالات والثغرات التي تحتاج إلى سنين لإصلاحها، لا أقول هذا تثبيطاً، لكن تذكيراً بالصبر وعامل الزمن.
إذا اجتمعنا وتعاهدنا بالله على أن نصلح مجتمعنا، فنبدأ بتحديد جيران الحي الذي نحن فيه، مثلاً هذا المخطط الذي نسكن فيه، فلنفرض أن فيه مائتي بيت، ونحن ثلاثة أئمة أو اثنان من الأئمة، معنا عشرة أو خمسة عشر من الشباب الملتزم، أو حتى من الغيورين ولو كان فيهم بعض مظاهر المعصية، أو المخالفات الشرعية؛ لأن معصيته لا تدل على أنه لا يغار على المجتمع ولا يرغب في الإصلاح، ثم نوزع على كل بيت شريطا أسبوعياً تجعل الشريط في ظرف، وتطرق الباب: حياك الله يا جارنا الحبيب! هذا من إخوانك في جماعة المسجد تفضل، هذه رسالة من جماعة المسجد تحوي شريطاً، ولو سألك: من أين الشريط؟ قل: الشريط مكتوب عليه اسمه، واسم التسجيلات التي تبيعه، واسم المحاضر الذي ألقاه، ونحن مسئولون عنه، حتى تشعر أنك تقوم بعمل، مثلما يقدم لك قارئ العدادات الفاتورة، هل يتلفت قارئ العدادات حينما يريد أن يقرأ القراءة من عداد الكهرباء، يلتفت هكذا وهكذا ويسقط الفاتورة ويذهب، لا، إنما يطرق الباب، ثم ينظر ويسجل القراءة ويعطيك الفاتورة.
أقول: يا أخي! بنفس الثقة وبنفس القناعة والطمأنينة لابد أن تقدم لكل بيت مادة نافعة، تقدم في الأسبوع الأول شريطاً، الأسبوع الثاني كتاباً، الأسبوع الثالث شريطاً ونصيحة مطبوعة في ورقة، الأسبوع الرابع كتاباً ونصيحة مطبوعة في ورقة، وحتى لا يقول لك أحد: من أين أتيت بهذه المطبوعات؟ خذ من الرسائل الصغيرة التي هي للشيخ ابن باز أو ابن عثيمين أو ابن جبرين أو الشيخ البراك أو أحد الدعاة المعروفين وقدم ما عندك.
يا أخي الكريم! ثق تمام الثقة أن هذا الضخ والإعلام وتزويد الجيران أسبوعياً بقضايا تستجد في الواقع، وأحداث مهمة، سوف يجعل هناك وعياً، وإذا وجد الوعي في البيوت والأسر وجد الوعي في المجتمع.
يا أخي الحبيب! الناس سوف تترك المنكر تلقائياً، وهذا لا يعطل وظيفة الحسبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن سؤال مجتمع من المجتمعات أو حي من الأحياء، بجواره محل تسجيلات أغانٍ ومحل تسجيلات الفيديو الخليعة، وما الذي يحصل فيه، جيران الحي، أو الدعاة، أو جماعة المسجد، أو شبيبة المسجد مع الأئمة قاموا بهذا النشاط، وأصبحوا أسبوعياً يوزعون كتاباً، رسالة، نصيحة، وأيضاً في كل شهر يدعون فقط أهل الحي لندوة خاصة بهم، ليست ندوة عامة يحضرها الجميع، لا، ندوة لأهل الحي، ترتب مع مكتب الدعوة لإقامة ندوة للحي يحضرها أهل الحي، ليس من شرطها أن تكون محاضرة يحضرها آلاف، وإنما ندوة يحضرها مائتان، مائتان وخمسون، ثلاثمائة، مائة وثمانون من جيران الحي، ويكون فيها أحاديث ودية، ونقاش وحوار، وماذا بعد ذلك؟ مثلها مخصصة للنساء.
هل تظن أن صاحب محل الفيديو الذي يبيع الأفلام الخليعة، وصاحب التسجيلات الخليعة الذي يبيع الأغاني هذه سيجد أحدهم زبائن يشترون منه؟ لا والله؛ لأن الحي هو سوقه ومكان الاتجار فيه، والمستهلكون والزبائن قد ارتفع مستوى الوعي عندهم فعرفوا أن هذا محل فيديو، بل هو وكر من أوكار الشيطان، وهذا محل أغانٍ، بل هو حانوت من حوانيت الفساد، فلما ارتفعت نسبة الوعي قاطعه الناس، فاقتنع وربما أغلق محله.(62/12)
الاستفادة من الطاقات المعطلة
زيادة على توزيع الشريط والكتيب والنصيحة أسبوعياً، والدعوة الشهرية للندوة لأهل الحي شهراً للرجال وشهراً للنساء، أن الشباب الطيب في الحي لا تتركهم هكذا عطلاً، لا تجعلهم هكذا هملاً، أعطهم أدواراً، عندك في الحي مثلاً عشرون شاباً ملتزماً، فتقول: تعالوا أيها الإخوة! أنتم خمسة تزورون محل الفيديو يوم السبت، تبتسمون إليه، واحد يعطيه هدية، وواحد يكرمه، وآخر يدعوه إلى البيت، قد لا يقبل منكم أول يوم، ويمكن أن يأخذ الهدية ويقول: اخرجوا إلى الخارج، مثل المطاعم التي تجعل المرق مجاناً، يشربون المرق ويخرجون لا يشترون.
فأقول: قد يقبل منك الهدية ولا يقبل منك النصيحة، ولكن ليس هناك مانع فإنما هي هدية ذهبت يأتي الله بغيرها، أرسل إليه الخمسة الآخرين غداً أو بعد غد بنفس الهدية والابتسامة والنصيحة، ادعه إلى البيت قد يقبل أو لا يقبل، بعد ثلاثة أيام أيضاً زيارة.
أيها الإخوة! عندنا في الحي الذي نسكن فيه افتتح شاب محل فيديو كله أفلام لا تليق، ووالله لو نعرف أن هذه الأفلام تخرج لنا طيارين، أو رجال أمن، أو مهندسين أو أطباء، أو دعاة أو علماء، لساهمنا مجاناً من جيوبنا في هذه المحلات، لكن ماذا تقدم هذه المحلات؟ تقدم الشر والمنكر، وتجعل الناس يتخدرون ويموتون ويقنعون، والواحد لا هم له منذ أن يشتري الشريط إلا أن ينتظر متى تنكشف فخذ، أو تبدو عورة، أو تظهر قبلة، أو يرى مشهداً خبيثاً، فقط لا غير، بل إن بضعهم من كثرة الملل من سيناريو وحوار المادة الإعلامية الموجودة في الشريط، مجرد أن يضع الشريط يجعله يلف سريعاً، حتى يجد المشاهد الحساسة التي تثيره، ويجلس متخدراً تحت جذوة هذه الغريزة التي لا تزيده إلا هواناً وانحساراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وماذا بعد ذلك؟ هذه تخدر المجتمعات، هذه أفيون المجتمع، هذه هي مخدرات الواقع، التي تجعل الناس يقبلون الفساد والمنكر والضلال، ولا تتحرك عندهم غيره، ولا تنمو فيهم نخوة أبداً.
أقول: أيها الإخوة! توزيع الأدوار على هؤلاء الشباب سيجعل من الشاب العاطل جذوة ملتهبة، سيجعل من الشاب الذي تظنه لا يصلح أن يسرح بعنز واحدة، يقود فريقاً من الشباب إلى الدعوة إلى الله جل وعلا، الإنسان الذي لا ترى فيه إلا علامات السكون والخمول، والضعف والدعة، ستجد فيه المواهب المتطلعة، والقدرات العالية التي توظف وتسخر بإذن الله جل وعلا لإصلاح المجتمع.
أيها الإخوة! من آثار هذا البرنامج لما طبق، أن عدداً من البقالات الآن لا تبيع الدخان، قد يقول قائل: والله مسكين المطوع هذا، يظن أن إصلاح المجتمع بترك الدخان، لا يا أخي! نحن نريد أن نعالج إخواننا الذين يقعون في مثل هذه المصائب بمساهمة من المساهمات، وهو أن نقطع على الواحد منهم سهولة تناول المادة التي يدخنها، فإذا دخل في بقالة في اثنتين في ثلاث على مستوى محلات كبيرة -ما يسمونها سوبر ماركت- يبحث فيها فلا يجد أحداً يبيع دخاناً، وهذه نعمة عظيمة من الله.
فأقول لك: محل الفيديو الذي عندنا في الحي دخلت عليه، وإذ بالشباب قبلي قد دكوا أرضيته بالرصاص، فلما دخلت عليه: كيف حالك يا أخي؟ (عساك طيب) يستغرب: ما الذي أتى بهذا الشيخ؟ يشتري مباراة أو فلم كرتون، ماذا يريد؟ فقلت له: أسأل الله جل وعلا أن يبدلك بتجارة حلال أبرك من هذه التجارة المحرمة.
قال: آمين نسأل الله أن يستجيب وأن يسمع منك.
قلت له: يا أخي الكريم! والله إني أخاف عليك وأحبك، وأنا أعرف أن الشباب جزاهم الله خيراً قد مهدوا الطريق، يا أخي الحبيب: ألا يسوؤك أن من زنى عليك مثل وزره، وأن من فعل الشذوذ، عليك مثل إثمه؟ ألا يكفي أن يتحمل الإنسان ذنوب نفسه بدلاً من أن يتحمل ذنوب الآخرين زيادة؟ يا أخي! ألا يسوؤك أن من مر من أهل الخير إما تعوذ بالله من هذا المحل وصاحبه، أو دعا على صاحبه؟ قال: يا أخي! الله يجزيك الخير، أين أنت؟ أنا منذ أن فتحت هذا المحل والنوم الطبيعي لا أعرفه.
بدأ الإنسان يخرج الحقائق، قد يكون صاحب المحل أو صاحب الملاهي وآلات الطرب مكابراً في البداية، تقول له: يا أخي! اللهو قسوة للقلب، يقول: تكذب يا شيخ، بالعكس الواحد ينبسط إذا عزف، وينسجم إذا سمع الوتر والنغم، هو يقول هذا بلسانه، لكنه بقلبه يعرف هذا الشيء: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14] في نفسه اليقين بصدق ما تقول، وفي لسانه الجحود بضد ما تقول، وما هي إلا لحظات وكلمات، إذا بك تجد الشاب يستقيم.
آخر أجريت معه نفس المحاولة، فما الذي حصل منه؟ قال: على يديك، أنا مستعد أن أتنازل عن أكثر من مائة وعشرين ألف ريال في المحل، ولكن خلصني وأعني على الخروج من المأزق وهذه الدائرة، وبالمناسبة من خلال زيارات ولقاءات مع أصحاب محلات الفيديو النتائج الآتية ظهرت: أولاً: كثير من أصحاب محلات الفيديو لا زال فيهم خير يمكن أن يستثمر.
ثانياً: أغروا إغراءً بالربح المادي، وليس في محلات الفيديو وبيع الأشرطة الفاسدة والمتاجرة بها إلا الهم والغم، والإثم والحرام والخسارة، وهم حقيقة مثل الذي يشرب من ماء البحر وهو عطشان، يشرب لكنه يزداد عطشاً، الماء كثير والعطش يزداد، ولما ناقشنا عدداً منهم، قال أحدهم: والله يا أخي! إنني أجد الغلة يومياً كثيرة، لكن تأتي الشركة الدولية للفيديو فنعطيها، مركز كذا للفيديو فنعطيه، والمركز الفلاني فنعطيه، المؤسسة الإعلامية فنعطيها، والموظفين؛ هذا الموظف نحن نصرف راتبه من عندنا، وهذا نعطيه صيانة أجهزة، إيجار محل، آلات تغليف، آلات طباعة، وما الذي يبقى؟ الجيد منهم يبقى معه ثلاثة آلاف ريال، ثم يتحرج أن يأكل بها، أو أن يلبس بها، أو يحج بها، أو يتصدق بها، أو يقدم بها مشروعاً خيرياً.
إن هؤلاء حينما تكلم أحدهم بصراحة وتدعوه، وتقترب وتدنو منه، ليس بالضرورة في الأسبوع الأول ولا في الشهر الأول، قد يكون في السنة الثانية أو الثالثة، المهم استمر، ودورك شيء والحسبة شيء ثانٍ، دورك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يظن أحد أن الدعوة هي الحسبة وأن الحسبة هي الدعوة، نعم.
الحسبة تتضمن الدعوة، لكن شتان بين هذا وهذا، أنت تدعو بالكلمة، وتؤثر بالأسلوب الرقيق، وترَغِّب بالموعظة اللينة، وذاك يستخدم هذه الأساليب، وحينما يجد ما يستلزم إيقاع العقوبة، أو يرى شيئاً فيه ما يلزم من جرائه غرامة أو إغلاق، أو عقوبة يقدم صاحبها إلى المحاكمة، ولا تنافر بين هذا وهذا.(62/13)
فتح مجالات جديدة أمام المدعوين
الحاصل أيها الإخوة! هذه هي البداية، شباب الحي أيضاً يتعرفون على الشباب المقبل على الله جل وعلا، أو حتى على الشباب المنحرف، يعين مجموعة من الشباب الطيب يعرفون مجموعة من الشباب في الحي يلعبون الكرة بعد العصر يومياً، ما الذي يمنع بعد نهاية المباراة التي تخص هؤلاء الشباب الذين يلعبون في الحي أن يأتي أربعة أو خمسة يقولون: يا شباب ما رأيكم أن نستضيفكم؟ - على ماذا تضيفوننا؟ - والله كما تشاءون؛ تريدون بخاري أو مندي حياكم الله، تفضلوا عندنا.
قد يرفضون، نستضيف اثنين أو ثلاثة منهم، أربعة أو خمسة أو ما يسر الله منهم، أعط شريطاً، كتاباً، موعظة، استدع أحداً من الإخوة تستضيفه ويلقي كلمة أو نصيحة أو موعظة فإنه سيؤثر على هؤلاء الشباب.
لكن هؤلاء الشباب تعودوا المجالسة طيلة الوقت، العصر يلعب كرة، والمغرب مع الشلة، وبعد العشاء عند الفيديو، فحتى يستمر على الاستقامة والتوبة لا بد أن تفتح له المجال والبيئة التي يصلح بها، وتحافظ عليه فيها بعيداً عن أهل المنكر، ما الذي ينبغي أن تفعله؟ يلزمك يا أخي الحبيب! أن توجد في كل حي مكتبة، هذه المكتبة من شأنها أن يجتمع فيها الشباب بعد العصر، وفي يوم من الأسبوع يخرج شباب الحي لكي يلعبوا الكرة، قدماً أو طائرة، أي لعبة مناسبة للترويح وللسياحة، أو للأكل في أحد منتزهات المدينة، ويعودون وقد أدخلوا ضمن هذه الطلعة القصيرة شيئاً من القراءة أو الفائدة أو الموعظة المؤثرة ونحو ذلك.
أيضاً: الشاب لو جلس المغرب وحده، فلان صاحبنا الأول، فلان صديقنا الأول، فلانة التي تعاكسه ربما ينتظرها على التلفون، إذا أنت لم تفتح له مجالاً يترك فيه فلاناً وفلانة لكي يأتي عندك، كما قلت: عندك المكتبة تكون مفتوحة، فتحتوي وتؤوي هذا الشاب.
مثلاً: البيوت بعد المغرب: أنا أفتح بيتي يوم السبت، لو فتحت بيتي طيلة أيام الأسبوع، شغلت عن أهلي وذوي رحمي ومصالحي، لكن أقول يا إخوان! من أراد زيارتي فأنا أفتح بيتي يوم السبت فقط أو يوم السبت والثلاثاء فقط، وأنت -الأخ الفلاني أو إمام المسجد- تفتح بيتك يوم الأحد والأربعاء، وفلان يفتح بيته يوم الإثنين والخميس، ويوم الجمعة مثلاً فليكن يوماً مفتوحاً للجميع، المهم يا أخي! أن نجعل للشاب مكاناً يستطيع أن يرتاده، قد يقول البعض: لا، فليذهب إلى حلقة علم أو محاضرة، (يا سلام!) إذا كانت توجد محاضرة فهذا شيء جيد، لكن ليس كل المناطق فيها محاضرات يومية أو في الأسبوع مرتين أو ثلاثاً، لا.
بعض المناطق يكون عندهم في الشهر أو الشهرين محاضرة واحدة فقط.
ومن هنا تكون الحاجة ماسة إلى المكتبة الخيرية في المسجد أو في أكبر مسجد في الحي، وتكون الحاجة أيضاً ماسة إلى أن تُفتح أبواب الدعاة وأبواب الشباب الراغبين في الخير، حتى لو لم تكن على مستوى كبير في العلم، أياً كان مؤهلك؛ ثانوية المعهد، عندك قراءات، تحفظ من القرآن الكريم، عندك من المعلومات التي لخصتها من الأشرطة التي قرأتها، من الكتب النافعة، افتح بيتك وتحدث مع إخوانك فيما يصلح ذواتكم وأحوالكم وأنفسكم.
حينئذ لن يجد الشاب الذي وضع قدماً في الطريق إلى الهداية حرجاً في قضاء وقته، حل المغرب أنا أعرف أين الجلسة اليوم هي عند الشيخ فلان، أو اللقاء اليوم عند الشيخ فلان، حياه الله والبيت مفتوح، وحيا الله من نعرفه ومن لا نعرفه، ليس عندنا حديث نخبئه، وليس في كلامنا أسرار، عندنا إصلاح مجتمعنا، كيف نصلح مجتمعنا وأنفسنا، نقرأ في سير الصحابة والتابعين، في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، في أحكام الآيات والأحاديث، هذا من خير ما نستطيع أن نقدمه.(62/14)
نتائج متوقعة لهذه البداية
إذا وجدت هذه البداية في جميع الأحياء في الطائف وفي الرياض وفي مكة وفي جدة، والله أيها الإخوان! بعد خمس سنوات سترى أن المجتمع بإذن الله جل وعلا يهجر دكاكين اللهو وأماكن الطرب والإفساد، وستجد الناس يقبلون على الاستقامة.
كذلك نفس هذا البرنامج مطلوب من الأخوات مثله، حينما يوجد في الحي داعية ومدرسة، ما الذي يمنعها مع أخواتها وصويحباتها أن تطبق مثل هذا البرنامج بقدر ما يناسب المرأة وتخصصاتها.
أيضاً: إذا وجدت هذه الفكرة في جميع الأحياء والقرى والمدن والمناطق، صار -ما شاء الله- كل المجتمع خَيّراً، ومجتمع الجزيرة أصله خير، حتى الحليق فيه خير، وحتى المدخن فيه خير، وحتى الذي يسمع الغناء فيه خير، لكن نقول: عنده خطأ بهذه المعصية، لا نقول: قد أصبح شراً محضاً، نقول: فيه خير وخير كثير، لكن عنده هذا الخطأ، وهذا الخطأ ربما كان يعيقه عن الغيرة في إصلاح مجتمعه، أو ربما كان سبباً في عدم إدراكه لأهمية إصلاح مجتمعه.
فإذا صلح هذا المجتمع على هذا المستوى، ظهرت الأقلام التي تنتقد عرض المسلسل الفلاني في اليوم الفلاني، لست وحدك من يكتب إلى المسئول في الإعلام ولا أربعة ولا خمسة بل آلاف الرسائل في المجتمع: إن البرنامج الذي عرض في اليوم الفلاني يخالف الأسس التي قامت عليها البلاد، والتي يقوم عليها الدين، والتي قامت عليها عادات وقيم وتقاليد هذا المجتمع.
قد تكون فاتت على المسئول، أو زلت على الرقابة فيعرف أن هناك مجتمعاً واعياً، لا تطوف عليه أمور اللهو وأمور الفساد، قد يقول قائل: يا مسكين! أنت تتكلم والبث المباشر قريب والكل سينظر، نكتب رسالة إلى أمريكا: لماذا ترسلون لنا هذا المنكر؟ أقول: يا أخي! أصلح ما بين يديك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] ولا تحتج بفساد أولئك لتقبل فساداً في واقعك أو في مجتمعك.
كذلك الإصلاح في المرافق العامة، المستشفيات، ليست الغيرة عندي ولا عندك بل عند جميع أفراد المجتمع، وخذوا مثالاً بسيطاً: مستوصفات أهلية يدخل الإنسان فيجد في استقبال الرجال ممرضات جميلات، والمستوصف له ثلاث وأربع سنوات لم تتلق إدارة المستوصف أو إدارة الشئون الصحية رسالة واحدة تتضجر أو تشكو أو تنتقد أو تلاحظ هذا المنكر، لماذا؟ لأنه يوجد تبلد، ليس هناك بداية للإصلاح، وليس هناك انطلاقة لتغيير المجتمع نحو الأفضل.
وبعض الناس يقول: ليس في الإمكان أحسن مما كان، تقول: نريد أن تكون أحسن وأحسن إلى أن نعذر أمام الله جل وعلا.
وثقوا تمام الثقة أن هذا المشروع وهذه البداية هي طريق إصلاح بإذن الله، إذا صلح المجتمع وأصبح الوعي بهذه الدرجة، ظهرت عندنا العقول المنتجة والمبتكرة، وخرج مجموعة من الشباب يقدمون برامج مختلفة في الإذاعة وفي التلفاز وفي وسائل مختلفة تعالج مصائب المجتمع، لا تقل: نعم، قبلي أغنية وبعدي أغنية، فكيف أقدم برنامجاً إصلاحياً؟ أقول: قدم يا أخي! على الأقل أن تزرع وردة بين الأشواك، أن تلقي نصيحة بين هذا الغث المتتابع من الأمور الرديئة أو المخالفة لأمر الله وشرعه.(62/15)
أهمية التخصص في الإصلاح
أخي الحبيب! لئن كنت أنت أو أنا ممن لا يعرفهم الناس، أو لا جمهور لنا يسمعون منا أو يحضرون مجالسنا، إن التلفاز جمهوره الملايين، إن الإذاعة جمهورها مئات الملايين، فلماذا لا تتحرك في هذا المجال؟ لماذا لا تعمل؟ ولكن بطول الصبر والتخصص، تجد بعض الشباب -ما شاء الله- كالنحلة، لكن لا يتخصص؛ فهو يوماً في المخدرات، ويوماً في السجون، وآخر في الإذاعة أو التلفاز، ومثله في الصحافة، ويوماً تعب وكسر القلم، ويوماً مزق الأوراق، ثم عاد إلى المكان الفلاني، ويوماً في الأندية، لا تجد له مكاناً معيناً للإصلاح والدعوة فيه.
نقول: إن بدايتنا لإصلاح مجتمعنا بهذه الطريقة، سوف تخرج جيلاً فيه مجموعات، مجموعة تتخصص لإصلاح الأندية، ومجموعة تتخصص لإصلاح الإذاعة، ومجموعة تتخصص لإصلاح التلفاز، ومجموعة تتخصص للمشاركة في طرح برامج مالية للشركات.
أيها الإخوة: نحن نملك الخير الكثير، صافولا شركة الزيوت المعروفة، لما طرحت للاكتتاب، تقاتل الناس من أجل الحصول على كوبونات أو استمارات الأسهم، سبحان الله العلي العظيم! وأصبح الناس يخدع بعضهم بعضاً: تعطني تابعيتك وتابعية أولادك ولك على الرأس أربعون ريالاً، بيع غنم ما شاء الله.
السؤال
صافولا لما طرحت الأسهم للاكتتاب، غطت مرات عديدة أكثر من رأس المال، فهل فكرنا أن نطرح شركة إسلامية طبية، شركة للعناية بالشئون الصحية، وهذه من المجالات المفتوحة، ويكون أهم دور من مهمات هذه الشركة إيجاد مستشفيات للولادة لا يوجد فيها رجال أبداً إلا في الحالات الضرورية، أو الحالات التي لا بد من وجود جراح أو رجل فيها، هذا مشروع من المشاريع.
لو قلنا: إن شعب المملكة بلغ عشرة أو أحد عشر مليون نسمة، هل لا يوجد في المجتمع إلا مليون أو مليونان من الصالحين؟ أنا أجزم أن (80%) ثمانية ملايين نسمة كلهم من الغيورين، وقد أكون مجحفاً بحق المليونين الباقيين، بل كل هؤلاء فيهم الغيرة على إصلاح المجتمع، لا نظل كل واحد يدخل زوجته على الطبيب، وهذا يقول: الضرورات تبيح المحظورات، وهذا يقول: يا رجل! مرة واحدة في العمر، ما الذي يمنع من خلال هذه البدايات أن يفرز لنا هذا البرنامج عقولاً اقتصادية لاستثمار الأموال، بدلاً من أن يكون عندي في البنك عشرة آلاف، وأنت عندك مائة ألف يرابى بها في البنوك، بل لربما رحلت الأموال لكي يرابى بها في بنوك عالمية، لماذا لا نوجد شركات إسلامية كبيرة؟ شركة للأمور الطبية والصحية، شركات للأغذية، شركات للتجارة، وستستغل أموال الناس وتحركها في الخير، وتوظفها في الحلال، وتقدم للمجتمع، لكن المصيبة أن يقول القائل: إما أن يقوم المسئولون والأجهزة المسئولة بتقديم هذا الأمر، وإما لا.
لا يا أخي الكريم! بل إن من صور المجتمعات المتحضرة أن تجعل كثيراً من المصالح يقوم بها القطاع الخاص إحياءً لروح التنافس، وتوظيفاً للأموال، هذا لو قدم لوجدنا خيراً كثيراً بإذن الله جل وعلا.
فأقول: يا أخي الكريم! ابدأ مع إخوانك وإمام المسجد وجيرانك، وكلٌ في حيه والمخطط الذي هو فيه، وابدأ بداية معقولة، لا تقل: والله أنا سوف أغطي ألف بيت في هذا المشروع، لا، غط مائتين أو ثلاثمائة بيت، استمر في هذه الثلاثمائة بيت على حدود جيدة، وبتواصل وعطاء مستمر وسترهقك الأعباء المالية، هذا المشروع مكلف، لكن حينما يتبرع كل واحد من دخله بجزء بسيط، مائتين أو ثلاثمائة ريال شهرياً، مبلغ ليس بكثير على دين الله والدعوة إلى الله جل وعلا.
أيها الإخوة! قد يقول قائل: مسكين هذا الشيخ، مسكين هذا المتكلم عنده آمال خيالية، البث المباشر يفسد، المجلات تفسد، ادخل مكتبة لترى صور النساء العاريات الكاسيات، انظر إلى القنوات لترى الفساد في الإعلام، انظر إلى الأسواق لترى التبرج، أقول: يا أخي الكريم! هي سنة من سنن الله، لا بد أن تعمل وتصبر، وسوف تؤذى ويستهزئ بك: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10] {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
يا أخي! إن قليلاً من الحق يزهق كثيراً من الباطل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] وقديماً قيل: الحق أبلج والباطل لجلج.(62/16)
سلاح البداية
إن هذه البداية: أن يجتمع الأئمة وشباب الحي لكي يرتبوا ويطوروا هذه البرامج، ليست هذه الفكرة وحياً منزلاً لا تتعدونه أو تحذفون منه أو تعدلونه، طوروا هذا الأسلوب كما تطورت أساليب الصحة وأساليب الهاتف وغيرها من الأساليب والخدمات، طوروا هذه النظريات لكي تخدموا بها دين الله، والدعوة إلى الله، وتصلحوا بها مجتمعاتكم، أقول: هذه البدايات سوف تكشف لكم عن قدرات ومواهب وطاقات جادة وقابلة للعطاء، بدلاً من أن نترك شبابنا كل يحتقر نفسه، أو الذي عنده على الأقل موهبة يحتقر نفسه، والشيطان يخذل من شأن هذه، ويقول: أنت لست بشيء ولست بكفء أن تقدم هذا.(62/17)
الإخلاص وطلب العلم
أيها الإخوة! هذه البداية سلاحها الإخلاص وطلب العلم، والذين يقومون على هذا البرنامج ينبغي أن يكون لهم دروس علمية على العلماء في بيوتهم أو في المساجد، وإذا لم تكن هناك دروس علمية، فاشتر من أشرطة العلماء، الأشرطة في العلم المتخصص؛ في فقه الحلال والحرام، في قواعد الشريعة، في المصالح العامة ومقاصد الشريعة، اقرأ أصول الفقه وتعلمه، واقرأ الفقه والقواعد الفقهية، والتفسير والفرائض، إذا لم يوجد عالم يدرس هذا، فهناك أشرطة مسجلة تستطيع أن تخصص من وقتك في اليوم ساعة أو ساعتين للدراسة، وستجد نفسك بإذن الله واحداً من طلبة العلم الذين يقدرون بإذن الله على إصلاح مجتمعاتهم.(62/18)
عدم استعجال الثمرة وجودة التخطيط
أيضاً: من سلاح هذه البداية: عدم استعجال الثمرة، والاعتبار بتجارب الآخرين.
أيها الإخوة: إن ما نراه من مصائب المسلمين في الدول المجاورة، وذلك إما بسبب سوء تخطيط أو سوء ترتيب، أو سوء منهجية، أو استعجال بعض الثمرات التي أوقعتهم في اشتباكات وفي مصائب وأمور خطيرة، والحذر الحذر من الاستفزاز والاستدراج.
اعلم يا أخي المسلم! اعلم يا أخي الداعية! اعلم يا أخي الغيور! حتى ولو كنت واقعاً في بعض الذنوب والمعاصي، أقول: اعلم أنك لست وحدك تعمل في الساحة، الذي يقول: كل من في الجزيرة على قلب رجل واحد من الإخلاص والولاء والنصرة، وحب المسلمين والصدق في النصيحة، نقول: هذا جاهل؛ لأنه لا يخلو مجتمع من المنافقين والمتربصين والأعداء.
إذاً لست وحدك من يعمل، بل هناك أعداء يعملون في السر، وهناك أعداء يحرصون على أن يتسللوا إلى مواقع التوجيه والنفوذ والسيطرة لكي يؤذوك ويؤذوا غيرك من إخوانك المسلمين، وهناك من هو أذكى من أولئك، هناك من أعدائك وأعداء علمائك، وأعداء ولاة أمرك من يثير الفتنة بينك وبين العلماء، أو يشعل النار بينك وبين ولاة الأمر ويتفرج عليك، لكي يؤذيك ويؤذي علماءك، ويؤذيك ويؤذي ولاة أمرك، وحينئذ يكون ذكياً بدرجتين: ذكي لأنه خطط لإشغالك، وذكي؛ لأنه خطط لإشغال نفسك عنه، فهو ذكي؛ لأنه ضرب اثنين بحجر واحد، وهذا هو الذي يدور الآن.
بعض الشباب يظن أن كثيراً من الاستفزازات في الصحافة، وبعض الاستفزازات والتصرفات سوف تأتي من باب العفوية، أو من باب الصدفة، لا يا أخي! هذه استفزازات لكي تزعج جهة على جهة، وفئة على فئة، وفريقاً على فريق، ونحب أن نقول لكل من يستفز هذا المجتمع: نحن نشعر أننا فئة واحدة وأمة واحدة علماء وحكاماً، ودعاةً وأفراداً، ولا يعني ذلك أن ليس بيننا علمانيون ومنافقون ومتربصون ومن يريد أن يوقع بين هؤلاء جميعاً، بل يوجد من يتربص الدوائر لإفساد هؤلاء.
إذاً: أخي لكريم! انتبه من الاستفزاز والاستدراج، واحذر من الوقوع في الفخ، وهناك مثل عند أهل الحجاز يقول: (حفروها الفيران ووقعوا الثيران) فأر يحفر وثور يقع، انتبه جيداً لمثل هذا.(62/19)
حقيقة الانتصار
أخي الكريم! اعلم أن حقيقة انتصارك في هذا البداية أن تستمر وأن تبلغ، حتى ولو لم تجد أدنى نتيجة في السنة الأولى أو الثانية، قال صلى الله عليه وسلم: (ورأيت النبي ومعه الرجل) الرسول صلى الله عليه وسلم يصف مشهداً من مشاهد يوم القيامة، وهذا المشهد يتكلم عن الأنبياء والذين استجابوا لهم وقبلوا دعوتهم واتبعوهم فيما جاءوا به، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) انظر: نبي مؤيد بالمعجزة والوحي والعصمة فيما يبلغ، ومع ذلك ربما لا يهتدي على يده غير واحد أو اثنين، هل نقول: هذا نبي فاشل؟ لا.
بل هو نبي منتصر، وحقيقة انتصاره أنه بلغ رسالة الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7].
ولا تنزعج إذا لم يستجب البعض، أو لم يقبل البعض، أحد الشباب لما جاء يوزع على الجيران الظرف كالعادة أسبوعياً فيه كتيب وشريط، وطرق الباب على أحد الجيران: السلام عليكم، ماذا تريد؟ قال: يا أخي الحبيب! إخوانك جماعة المسجد يهدونك وأسرتك كتيباً وشريطاً، قال: تريدون أن ندخل في الإسلام؟ سبحان الله! من الذي قال لك هذا؟ بل يا أخي! أنت عمدة، أنت بركة، أنت خير، لكن اقبل هذه الهدية، فيها ما يعينك ويسددك ويحذر أولادك من الوقوع في الفساد والانحراف، ثم أصبح بعد ذلك يتقبل هذا الأمر.
إذاً: ضع في بالك أنك ستجد من يخالفك: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] كونك تجد اثنين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين أو مائة لم يقبلوا منك فلا يدل هذا على فشلك، ولا يعني أن مشروعك فاشل، إنما عليك الاستمرار، ومواصلة العطاء بإذن الله جل وعلا.
أيها الأخ الحبيب! حسبك أنك بصير وكثير من الناس يتخبطون، وأنك تبذل من مالك والشح قد قتل كثيراً من الآخرين، حسبك أنك تقتدي بالرسول وغيرك قد قتله الهوى، حسبك أنك راغب في الآخرة وغيرك راغب في دنيا مؤثرة، حسبك أنك متجرد للحق وغيرك قد أعجب برأيه، وحسبك يا أخي! عبوديتك لله جل وعلا، وأنك عبد لله إذا استعبد الضالين الدرهم والدينار والخميلة والخميصة.
أسأل الله أن يجعل هذا حجة لي ولكم، وألا يجعله حجة علي وعليكم.
أيها الإخوة! فيكم خير كثير، أنتم تصلحون مجتمعكم، حتى وإن كنتم ترون في ظاهر وجوهكم أو ظاهر سمتكم شيئاً من التقصير أو المخالفات الشرعية، اعمل لإصلاح مجتمعك وتب وعد إلى الله، وستجد هذه بداية لإصلاح الأمة أجمع، أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر أعداء الدين.
اللهم اجمع شملنا وعلماءنا وولاة أمرنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً، اللهم لا تشمت بنا حاسداً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(62/20)
الأسئلة(62/21)
المنهجية الدعوية تكون بحسب البيئة المحيطة
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف يمكنني أن أدعو الناس بهذه الطريقة الجيدة التي ذكرتها وأنا من مصر، وأنت تعرف ما يعانيه الشعب عندنا من سوء المعيشة، فكيف يمكنني الدعوة وبأي طريقة وفقكم الله؟
الجواب
يا أخي الكريم! نحن نتكلم عن إصلاح السلوك وتصحيح العقائد، ولا نتكلم عن إصلاح المعيشة، وقصدي بهذا أخي الكريم! أن تدعو الناس بالحسنى وباللين بما تستطيعه، سواء كان الجو المحيط بك الذي يقبل منك ثلاثمائة أو مائتان أو مائة أو خمسون أو أربعة أو عشرة، المهم أن يستمر العطاء، أنا قلت: إن لكل بلاد ظروفها، ولكل دولة وضعها، وينبني على ذلك وضع المنهج الدعوي الذي يقوم فيها، وإني أسأل الله أن يربط على قلوب إخوتنا الدعاة والصالحين في مصر العزيزة، ولا نجهل ما يدور فيها من الابتلاء والامتحان لإخواننا في الله، ولكن أقول: اعمل على قدر ما تستطيع، لا تستعجل النتائج، وليس بالضرورة أن تجني الثمرة أنت، قد يجنيها ولدك أو حفيدك، لكن هذه خير وسيلة لإصلاح هذا المجتمع الذي تعيش فيه بإذن الله جل وعلا.(62/22)
حكم تسجيل الندوات والمحاضرات بالفيديو
السؤال
فضيلة الشيخ الحبيب سعد بن عبد الله وفقه الله! أرجو توضيح حكم تسجيل الندوات والمحاضرات في أفلام الفيديو التي ربما تكون بديلاً عن غيرها من أفلام الفساد؟
الجواب
قرأت فتوى للجنة الدائمة برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، عن رجل يسأل يقول: أنا صاحب محل فيديو، وأريد تحويله إلى فيديو إسلامي لتسجيل وتصوير المحاضرات والندوات فما الحكم في ذلك؟ فأجابت اللجنة باختصار بما معناه وموجزه: طالما كان في هذا مصلحة وخير، فالأمر فيه سعة بإذن الله جل وعلا.
ولعلك يا أخي صاحب السؤال! أن تأخذ هذه الفتوى وتعمل بها، وزيادة على ذلك نحن نقول: إن الشريط فيه بركة، لكن بعض البيوت ربما عندهم من الأفلام الكثير، فلا حرج أن تزاحمهم بمادة مصورة على مثل هذا الفلم لعل الله أن ينفع بها.(62/23)
حكم الطبلة
السؤال
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نسأل فضيلتكم عن الطبلة وحكمها، علماً بأن صوتها يختلف تماماً عن صوت الدف المعروف، وهي مما عمت به البلوى، وصارت شائعة بين الناس، وقد شاع أنها جائزة؛ لأنها مثل الدف مفتوحة من جهة ومغلقة من الأخرى، فنريد الجواب الشافي الكافي هل هي جائزة أم لا؟
الجواب
والله يا أخي! لم أرها حتى أفتي، لكن الذي نعرف أن الدف مشروع: (أعلنوا هذا النكاح واضربوا فيه بالدف) أما الطبلة بهذا الوصف والتفريق فلا أعرفها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(62/24)
أهمية التوحيد
ما خلق الله الدنيا والآخرة ولا البشر، ولا الجنة ولا النار، وما رفع علم الجهاد وسفكت الدماء؛ إلا من أجل (لا إله إلا الله) ولما كانت هذه الأمة هي آخر الأمم تعهد الله بحفظها إن حافظت على التوحيد والعمل الصالح المنبثق عن التوحيد.
وإن أعداء الله يكيدون ليلاً ونهاراً لهذه الأمة، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره ويعلي كلمته، ومهما عمل الأعداء فلن يغيروا إلا في أشخاص مخذولين، أما الدين فهو محفوظ بحفظ الله تعالى.(63/1)
كراهية اليهود والنصارى وأذنابهم للمسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
معاشر المؤمنين! لا يخفاكم كراهية اليهود والنصارى لهذه الأمة خاصة، ولسائر الأمم عامة، ولا يخفاكم تدبير أذناب اليهود والنصارى لكل ما من شأنه تفتيت وحدة أمة الإسلام، وإثارة الفرقة والخلاف بين صفوفهم، وإشاعة الفواحش والفساد في شبابهم ونسائهم، ولقد صدق الله جل وعلا حيث يقول في محكم كتابه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109] ويقول الله جل وعلا: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105].(63/2)
غزو العدو للقيم والأفكار
معاشر المسلمين! كل عاقل، وكل ذي لب يتدبر ويقرأ صحائف التاريخ، لا شك أنه يدرك هذا المكر، ويدرك هذا الكيد، ويدرك هذه الكراهية والبغضاء من قبل أمم اليهود والنصارى، ومن قبل أذنابهم وأتباعهم من المفسدين في الأرض، ولكن يأبى الله ورسوله والمؤمنون أن يحيق تدبير أولئك بعباده المؤمنين.
عباد الله! لا شك أنهم يريدون أن يقلبوا عقيدة التوحيد في هذه البلاد خاصة، وفي سائر بلاد المسلمين عامة، يريدون أن يقلبوا التوحيد شركاً، والإسلام يبدلونه إلى أي ملة أو نحلة خاطئة، ولكن يأبى الله ذلك، إذ جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن رضي منهم بما يحقرون من ذنوبهم، أو رضي منكم ما تحقرون من ذنوبكم).
إذاً يا عباد الله! يأبى الله جل وعلا أن ينقلب التوحيد في هذه الجزيرة وثنية أو شركاً، ويأبى ذلك رسوله والمؤمنون أجمعون، ولكن يا عباد الله! إننا نلاحظ تدبيراً بطيئاً ساماً فتاكاً اتخذ شكلاً براقاً، وألواناً زاهية، انخدع به بعض الغوغاء، وطاف على ذوي السذج في عقولهم، أتدرون ما هو يا عباد الله؟! إنه غزو القيم والأخلاق والمبادئ والأفكار، ما داموا يئسوا أن يعبد الشيطان في هذه الجزيرة، فإن أعداء الإسلام والأمة أرادوا أن يسلكوا هذا المسلك لعلمهم ألا مكان للوثنية في جزيرة العرب، فاتخذوا مسلك الإفساد الفكري، والإفساد الخلقي، وهدم المبادئ والقيم.
عباد الله! كلنا يعلم أن الله جل وعلا قد امتنَّ علينا بنعم عظيمة وآلاء جسيمة، وهذه النعم تحتاج إلى أن تقيد بشكر والتزام بكتاب الله وأمر الله وسنة نبيه وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! ماداموا يئسوا من ذلك، فإنهم أرادوا أن يغزوا هذا المسلم في عقيدته وإيمانه وقيمه ومبادئه، فماذا فعلوا يا عباد الله؟! لقد تسلطت قوى الضلالة والفساد على هذا المسلم، لكي يكون مسلماً وادعاً جباناً ضعيفاً خواراً، يخاف أدنى حركة أو كلمة، من أجل هذا أرادوا أن يسلكوا مختلف الأساليب والسبل في هدم هذا الإسلام.(63/3)
سبل العدو في غزو المسلمين
لا شك أنهم عجزوا ويعجزون ويدركون أنهم لن يحلوا الوثنية مكان التوحيد، لكن ما هو الحل في نظرهم تجاه هذه القلعة الصامدة من قلاع الوحدانية والإسلام؟ لا شك أنهم أرادوا أن يتسلطوا على هذا المسلم في إسلامه.
أما القرآن فذلك أمرٌ يعجزون عنه؛ لأن الله جل وعلا قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة بحمد الله، إذاً كيف السبيل مادام إحلال الوثنية غير ممكن، وما دام القرآن محفوظاً، ومادامت السنة معتنىً بها؟ لا سبيل لأعداء الأمة إلا إلى أن يغزوا هذا المسلم في نفسه وإيمانه وحماسه لدينه، فتوجهت قوى الضلالة نحو هذا المسلم لتعلمه كيف يكون جباناً، كيف يكون أنانياً، كيف يهتم بنفسه، كيف يهتم بسيارته، وبيته وفلته، ورصيده وملذاته، ولا شأن له ببقية المسلمين، ولا حِس ولا هم له بسائر إخوانه المسلمين.
هذا أمر قد وقع في كثير من المسلمين، لا شك أنه مسلم، ولا يستطيع أحد أن يرفع عنه اسم الإسلام وأحكام الدين، ولا شك أنه مسلم بهذا، لكنه مسلم ضعيف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
لا شك أن قوى الضلالة أرادت أن توجد مسلماً أنانياً ضعيفاً، إذا رأى الفساد في طريقه، قال: ذنبهم على جنوبهم، وإذا رأى منكراً، قال: وما دخلي بهم، وإذا رأى تسلطاً على رقاب إخوانه المسلمين، قال: همي نفسي، وإذا رأى موقفاً يحتاج إلى صدع بالحق، وصراحة بالنصيحة والإخلاص، قال: أخشى على رقبتي ورزقي ونفسي، وقد نسي ذلك عبر هذا السيل الجارف من وسائل الهدم والتدمير أن الأرزاق والأرواح بيد الله سبحانه وتعالى، أرادت قوى الضلالة أن توجد مسلماً ضعيفاً، أن توجد مسلماً لا يستطيع أن يؤثر في جيرانه وأهل بيته، وعند ذلك تطمئن قوى الضلالة إلى هذا النوع من المسلمين، الذي يجتهد الواحد منهم في ملذات نفسه، فإذا مات، مات الدين معه، ولم يبق لدين الله في نظرهم قائمة، عياذاً بالله من فكرهم، ومما يصبُون إليه.(63/4)
صورة نبوية للثبات على المبادئ
عباد الله! إن حقيقة الإسلام، وحقيقة الدين الذي نحمله حركةٌ تحريريةٌ قويةٌ تبدأ في ضمير الفرد، وتنتهي في نطاق الأمة، تبدأ في ضمير الفرد اعتقاداً بوحدانية الله في ذاته، واعتقاداً بوجوب صرف أفعال العبادة له وحده، واعتقاداً بوحدانية الله في أسمائه وصفاته، واعتقاداً بوجوب نشر هذا الدين، واعتقاداً بوجوب الجهاد والكفاح، ووجوب الدعوة في سبيل هذا الدين، أياً كان الأمر، وأياً كان الثمن، ولكم في نبيكم صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقدوة رائعة، لما شرفه الله بالبعثة النبوية، وخرج على قومه وناداهم بطناً بطناً، فخذاً فخذاً، قال فيهم: واصباحاه، فاجتمع الناس حوله.
فقال: يا معشر قريش! قولوا كلمة واحدة تدين لكم بها العرب، وتدفع لكم بها الجزية العجم، قال أحدهم بل كبيرهم: وأبيك عشرا، نعطيك عشر كلمات معها، قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟! وهل رد ذلك الضلال والكيد والاستهزاء، نبينا عن دعوته، بل مضى فيها مجاهداً وداعياً إلى الله على نور وبصيرة وتأييد من ربه.
حتى إذا انتشر الإسلام في مكة، وبدأ يدب في عروقها، جاء القوم إلى عمه أبي طالب، وقالوا: إن ابن أخيك سفه أحلامنا، وسب آلهتنا وأصنامنا، أفلا يكون بيننا وبينه أمرٌ؟ إن كان الذي فيه أمر يشتهي فيه السيادة، أو أمر يشتهي فيه الرئاسة، أو أمر يريد فيه جمع المال أعطيناه ما يرضيه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب ذات يوم، فقال أبو طالب: يابن أخي! إن قومك يشكونك إلي، سفهت أحلامهم، وسببت آلهتهم، لعلك أن تترك هذا الأمر شيئاً قليلا، أو أن تترك سب آلهتهم وأصنامهم.
ماذا قال صلى الله عليه وسلم بعد أن عرض عليه أبو طالب هذه المهادنة السلمية؟ عرض عليه أنهم يقولون: إن كنت تريد المال أعطيناك، إن كنت تريد الجاه سودناك، إن كنت تريد الجمال زوجناك، إن كنت تريد ما تريد أعطيناك، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، بآبائنا هو وأمهاتنا؟ التفت إلى عمه، وقال: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، ما تركت هذا الأمر حتى أهلك دونه، وفي رواية: حتى تندق هذه السالفة).
انظروا هذا الإسلام والعقيدة التي لا تقبل المهادنة، يريدون أن يعمل في دينه، لكن من دون سبٍ لآلهة الكفار وأوثانهم.
وحقيقة التوحيد أن تكفر بالطواغيت، وأن تسب الأصنام والأوثان، وكل معبود أو متبوع مطاعٍ من دون الله سبحانه وتعالى، لم يقبل أنصاف الحلول، وأنزل الله جل وعلا قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
دين العزة، دين السيادة، دين السؤدد، دينٌ تُرفع به الرءوس، وتُعلى به الهامات، وتخفق به الرايات نصراً وعلواً وسيادة ورفعة بدين الله، هذا الدين الذي جاءنا عن ربنا، هذا الدين الذي عرفناه من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، أما الدين الذي ينتسب صاحبه إلى الإسلام اسماً، وحقيقته يهجر بيت الله والمساجد ويسمى مسلماً، ويرى المنكر ويسكت عليه ويقال له مسلم، ويرى المصيبة والبلية في سوقه ومتجره وقربه وبعده ويسمى مسلماً، هذا والله ليس بالإسلام الذي جاء عن الله وعن نبيه.
لا شك أن صاحبه مسلم، دخل الإسلام بنطق الشهادتين، وتحقيق المقتضى وانتفاء الموانع، لكن الإسلام الذي نزل في كتاب الله وجاء في سنة نبي الله هو ذلك الإسلام الذي ترفع به الرءوس، ذلك الإسلام الذي يفتخر صاحبه ويقول: أنا مسلم، يفتخر صاحبه في أي موقع ومكان ومناسبة أياً كانت، يفتخر ويرفع رأسه قائلاً: أنا مسلم، ويعلن دينه ومبادئه، هذا هو الإسلام إسلام العزة، الإسلام الذي لم يفهمه كثيرٌ من أبنائنا في هذا الزمان، ومن أجل ذلك رأينا آثار هذا الفهم الناقص في سلوكهم، إذا ذهبوا إلى الغرب استحى أحدهم أن يفتخر بإسلامه، وأن يصدع بصلاته، وأن يصدح بأذانه، وأن يفتخر بدينه.
رأينا هذا الفهم المنقبض الضيق للإسلام في فعل كثير من الناس، إذا جلسوا وحانت الصلاة يستحي أن يقول: قوموا إلى عبادة رب غني عنكم، رأينا أثر الفهم الضيق، ورأينا قلة فهم هذا الدين في سلوك كثير من الناس حينما يرون داعية صادقاً إلى الله، هذا متدخل في شئون الآخرين، هذا لا هم له إلا الآخرين، إلى غير ذلك من عبارات التثبيط والتنقص والاستهزاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كيف يدَّعي مسلم حقيقة إسلامه وهو لا يرفع بهذا الإسلام رأساً؟ كيف يدَّعي مسلم حقيقة إيمانه وجوارحه لم تبرهن هذا الإيمان تطبيقاً وقولاً وفعلاً؟ بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(63/5)
بم يحفظ الله الأمم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلَّ عن الشبيه والند والمثيل والنظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
عباد الله! ورغم هذه الجهود النصرانية واليهودية، ورغم جهود أذناب هاتين الطائفتين الملعونتين، ورغم جهود أذناب الغرب وعملائه، تسلطاً على البقية الباقية في هذه الأمة، على بقية الحجاب والستر والحياء، وعلى بقية صفاء العقيدة، رغم كل ذلك فإن هذه البلاد والأمة بحمد الله ومنه وتوفيقه تشهد وعياً وفهماً واستقامةً على كتاب الله وسنة نبيه، تمثلت في جيل من الشباب الذي عاد إلى ربه عوداً حميداً، وآمن واطمأن إلى كتاب ربه اطمئناناً سعيداً، ورفع بهذا الدين رأسه، وأعلن لهذه الدعوة راية، ألا إن الأمم لتحفظ بأمثال هؤلاء، ألا وإن الأمة ليحفظها الله بالصالحين فيها من الشباب والشيب والكهول والعجائز: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} [الفرقان:77].
إذا هيأ الله للأمة شباباً دعاة صادقين واعين مخلصين، يدعون الله جل وعلا سراً وعلناً، ليلاً ونهاراً، يدعون الله لهذه الأمة أن يحفظ ولاة أمرها وعلماءها، ويسعون بالصلاح والفعل النافع في صفوف أبنائها، فإن الأمة تحفظ بإذن الله، وتحفظ برحمة الله ومنته، بسبب جهود أولئك الصادقين مع الله، أولئك الصادقين مع ربهم سبحانه وتعالى.
فيا أمة الإسلام! أخلصوا جهودكم لله، واجعلوا سعيكم في طاعة الله، وتنافسوا في مرضاة الله، تحفظوا بذلك النعم والخيرات أمامكم وخلفكم ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم، اعملوا صالحاً وتصدقوا وجاهدوا واجتهدوا، يدفع الله البلاء بذلك عنكم، واعلموا أن أمم الضلالة ما زالت -ولله الحمد والمنة والعاقبة للمؤمنين والمتقين- تشهد الفضائح تلو الفضائح في قسسها ورهبانها وحاخاماتها، ورجال الطقوس المعقدة فيها، ما زالوا يشهدون التراجع رغم جهود وإمدادات مجلس الكنائس الأعلى لهم، رغم جهود المبشرين والمنصرين لهم.
لكنهم -ولله الحمد والمنة- يشهدون يوماً بعد يوم قناعة بفساد عقائدهم، ويشهدون وثائق بفضح رؤسائهم في كنائسهم وغيرها، وأبين لكم حقيقة وقعت لعل الكثير منكم سمع بها، من مدة علمنا بمناظرة قامت بين رجل من أهل أفريقيا وأصله هندي، رجل مسلم مجاهد داعية اسمه أحمد ديدات، نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياه على دينه، قامت مناظرة له مع قس نصراني زعيم من زعماء النصرانية اسمه جيمي سواجارت.
هذا الرجل تناظر مع أحمد ديدات في مناظرة كبرى نشرتها بعض أجهزة التلفزة، وتناقلتها الأشرطة مسموعة ومرئية، وكان هذا القس النصراني جيمي سواجارت يقول: إنكم يا معاشر المسلمين تتركون المعصية، خشية أن تقطع أذن واحد منكم- يستهزئ بحد القطع في دين الإسلام- أو أن يقطع إصبع واحد منكم، ولكن معاشر النصارى- يقصد قومه- يتراجعون عن الذنب والخطيئة بواقع الضمير، ويبتعدون عنها من دافع الضمير الذاتي الذي يراقب الرب في فعله وعمله.
ثم انتهت تلك المناظرة بهزيمة ساحقة وفضيحة ماحقة لأسس النصرانية، وأسلم بعد هذه المناظرة مئات من النصارى وآمنوا بالله، ولكن الفضيحة التي حصلت أن جيمي سواجارت هذا كان قد نافس رجلاً اسمه جيم بيكر قائدٌ من قواد النصرانية وزعماء الكنيسة، تتبعه حتى فضحه في فضيحة أخلاقية، فتسلط بيكر هذا على جيمي سواجارت، وجعل إحدى عشر مخبراً يلاحقونه حتى يظفر منه بفضيحة، فنشرت الفضيحة وانتشرت، وأذاعتها وكالات الأنباء، وأجهزة التلفزة الأمريكية في نشرة الأخبار التي لا يوجد أحد يتابعها، نشروا له صورة وهو يدخل فندقاً من الفنادق مع غانية من الغانيات، ونشروا له صوراً أخرى كلها فضائح.
انظروا إلى أذناب النصرانية كيف يطنطنون ويلجلجون، ثم يكشفون بحمد الله والله لهم بالمرصاد، لما كشف هذا الرجل وأعلنت فضيحته على الملأ، قام يبكي ويقول: هذه خطيئة وأنا استغفر الرب والسيد اليسوع إلى غير ذلك من تلك العبارات المخرفة.
عباد الله! وما زالت النصرانية واليهودية، وما زال أعداء الإسلام يشهدون كل يوم فضيحة، تدل على بطلان مبدئهم، وعلى فساد عقيدتهم، وعلى كذب وخيانة سادتهم ورؤسائهم، أما ديننا ولله الحمد والمنة فيشهد تقدماً وانفتاحاً وانتصاراً وأفواجاً تدخل في هذا الدين، فلك اللهم الحمد والمنة.
الله الله يا معاشر المسلمين! لا يؤتين الإسلام من قبلكم، لقد أفلست الشيوعية في طريقتها العقدية، وفي نظامها الاشتراكي الاقتصادي، ولقد فشلت وعقمت الرأسمالية، ولقد عقمت جميع الشعارات، ولم يبق إلا دين الإسلام لم تطبقه تلك الأمم المنكوبة، ولو طبقوه لوجدوا في ذلك السعادة والسؤدد والاطمئنان والراحة، لكن لكبر منهم وعناد لا يريدون تطبيقه، واعلموا أنهم لن يتأثروا بهذا الدين إلا يوم أن يرونا أبناء المسلمين قد التزمنا بديننا وطبقنا ديننا، وكنا قدوة صالحة ومثلاً أعلى لهذا الدين الذي ننتسب إليه، عند ذلك يا عباد الله! سيدخلون في دين الله أفواجاً، لعلمهم ومعرفتهم بفساد مبادئهم وأنظمتهم، ولرؤيتهم تلك الصورة الجميلة الناجحة الرائعة لدين الإسلام في مجتمع مسلم.
عباد الله! إن البشرية لا تستجيب لمنهج مقروء ولا مسموع، ولكن تستجيب لمنهج قد طبق في صور وأفراد مجتمع من المجتمعات، وعند ذلك يدخل الناس في دين الله أفواجاً، ويتأثرون بدين الله، بوسعنا أن ننشر ملايين النسخ من القرآن، وملايين الكتب من السنة، وآلاف الأشرطة من الوعظ والنصائح، لكن هذه لا تغني عن تطبيق المسلم لإسلامه، وأن يجعل من نفسه قدوة صالحة، عند ذلك يدخل الناس في دين الله أفواجاً، قرءوا ديناً فرأوه قائماً متمثلاً في صورة هذا المسلم، الذي هو مسلم في جميع تصرفاته وأعماله.
اللهم زد هذا الدين عزاً، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اهد إمام المسلمين، اللهم أصلح بطانته، اللهم قرب له من علمت فيه خيراً له ولأمته، وأبعد عنه من علمت فيه شراً له ولأمته، اللهم اجمع شمله وإخوانه وأعوانه على كتابك وسنة نبيك، اللهم لا تشمت بهم حاسداً، ولا تفرح عليهم عدواً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمنا، ومن كل فتنة عصمة {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.(63/6)
أخطاء يقع فيها بعض الشباب
الشباب هم عمود الأمة وأساسها، وبهم تُبنى، لكن الناظر في أحوال كثير من شباب الإسلام يجد العجب العجاب، فهو يجد ما يندى له الجبين من الغفلة والوهن، والوقوع في المحرمات، والبعد عن الدين، وقد أوصى الإسلام أبناءه باغتنام الأوقات والعمل لما بعد الموت، من أجل هذا الدين والدعوة إليه اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، في نطاق ما سبق تحدث الشيخ وأفاد.(64/1)
أهمية المخيمات الصيفية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل أن يجزي القائمين على مركز الدعوة والإرشاد في هذه المنطقة خير الجزاء، حيث بحثوا وخرجوا يتحسسون الناس ويتتبعون مواقع البشر يدعونهم إلى الله عز وجل، فإن من واجب الدعاة ومن أولويات الدعوة أن من تصدى لهذا الأمر لا ينزوي أو يتقوقع في مكانٍ ويقول للناس: هلموا إلي وأتوا إلي، بل واجبه أن يخرج إليهم وأن يتبعهم وأن يلاحقهم، وإن سمع منهم ما يسوءه؛ فيتمثل قول الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن رأى منهم شيئاً مما يورث الألم؛ فيتذكر قول الله عز وجل: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159].
فالواجب أيها الأحبة: الواجب أن يكون بجوار كل منطقة تنتشر فيها المخيمات مخيمٌ يتسع لعدد هؤلاء الذين ينتشرون فيها، ومن ثم يخرج الناس إليها وينسلون إلى هذه المخيمات من كل حدبٍ وصوب، ليسمعوا داعي الله؛ ليسمعوا الكلمة، والآية، والموعظة، والحديث، والقصة، والقصيدة، والملحة الطريفة الظريفة حتى تتحرك النفوس في اتجاه الصلاح والاستقامة، والواجب أن تخاطب هذه العقول، وأن تنادى هذه الأفئدة بكل وسيلة تبلغ وتوصل رسالة الله إلى العباد.
إن الله عز وجل قد أرسل من هو خيرٌ منا إلى من هم شرٌ من شرار الخلق في هذا الزمان، أرسل موسى وهارون إلى فرعون الذي قال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] الذي قال منكراً مستهتراً: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37] بعث الله خيرة خلقه وهم أنبياؤه ورسله، موسى وهارون، إلى شر الخليقة في ذلك الزمن إلى فرعون، ولم يقل الله فلترسلا أو تبعثا إليه رسولاً ليأت فرعون إليكما، وإنما قال الله عز وجل: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء:16] اذهبا واخرجا إليه، فمن واجبنا ومهماتنا ومسئولياتنا -أيها الأحبة- أن نتتبع تجمع الشباب والأماكن التي يرتادها الناس ونحن لا نريد منهم جزاءً ولا شكوراً، فلسنا فقراء نريد منهم مالاً، ولسنا أذلاء نريد منهم جاهاً، ولسنا مستضعفين نريد منهم عزة، وإنما نريد منهم أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، نريد منهم أن يلتفتوا إلى الغاية التي من أجلها خلقوا وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، والاشتغال بذكر الله، والعمل في مرضاة الله عز وجل.
والحديث أيها الأحبة ذكرني ونحن في إجازة الربيع بمخيمٍ حضرته العام الماضي بين مكة المكرمة ومدينة جدة، قام إخوانكم في مكتب الدعوة هناك وأنشئوا مخيماً كبيراً ما رأت عيني مثله، وجعلوا على مسافة بصري أو أقل بقليل مخيماً آخر للنساء، وكان ذلك المكان هناك ما بين مكة وجدة يجتمع فيه الشباب من مخيمات كثيرة وكبيرة جداً، ويجد الناس فيه متنزهاً وفسحة لهم، فإذا كانت مناسبة المحاضرة أو الموعظة أو الندوة رأيت الناس ينسلون من كل حدبٍ وفوج ويأتون من كل جانب ليحضروا.
فأقول: يا أحبابنا! إن هذه المناسبة تذكر بذلك المخيم الذي رأيت فيه اجتماعاً لخلقٍ كبير، وذكر أن النساء يجتمعن في مخيمٍ بجواره، وأقترح أن تكون المحاضرة في إجازة الربيع في مخيم وسط المخيمات، وإن كان المسجد هو مكان العبرة ومكان العظة والعبادة ومجتمع الملائكة، إلا أننا نقول: ما الذي يمنع من أن تقوم محاضرةٌ في مخيم بين المخيمات كما أن هذه المحاضرة تحت إشراف مكتبكم فإننا ندعوكم ونقترح عليكم أن تكون ثمة محاضرات وسط المخيمات ليحضر النساء في جهة والرجال في جهة ويسمعوا الكلام والنصائح والإرشادات والمواعظ.(64/2)
الشباب نبض الأمة
حديثنا اليوم توجيهات إلى الشباب؛ شبابنا الذين هم أثمن ما نملك في هذه الأمة وإن الأمة لا تقاس بالأطفال ولا تقاس بالكهول والشيوخ والعجائز، وإذا أصاب الأمة أو داهمها خطبٌ أو فاجأها أمر من الأمور؛ فإن أول ما يسأل عنه لا يسأل عن عدد الأطفال فيهم، ولا يسأل عن عدد العجائز والشيوخ فيها؛ وإنما السؤال عن الشباب، كم شبابها؟ ما مستوى تدريبهم؟ ما مستوى تجنيدهم؟ إلى أي درجة يتقنون الكر والفر والقتال والسلاح؟ ما درجة تعليمهم؟ ما درجة ثقافتهم؟ ما هي اهتماماتهم؟ ولأجل ذلك فإنّا أيها الأحبة لا نعجب حينما توجه المحاضرات تلو المحاضرات، والكلمات تلو الكلمات، موجهة إلى إخواننا الشباب؛ لأنهم هم مقياس قوة أمتنا؛ فإن قوي شبابنا فأمتنا قوية، وإن ضعف شبابنا؛ فأمتنا ضعيفة، وإن كان شبابنا على درجة من الوعي فأمتنا واعية، وإن كان شبابنا على مستوىً يندى له الجبين من الغفلة فأمتنا غافلة، إن كان اهتمام شبابنا بالجهاد والدعوة والعلم والعمل والإنتاج والقيادة والريادة والبحث والفكر والتطبيق والتنافس والتجربة؛ فأمتنا أمة ناهضة، وإن كان اهتمام شبابنا بالطبل والمزمار والناي والوتر والعود والرواية الجنسية والقصص التي لا تليق والأغاني الماجنة إذا كان هذا وضع شباب الأمة فأمتنا أمة متردية، وما من شيءٍ بدأ في انحدار إلا سقط في غاية الهوة وفي منحدرها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن إن من سنن الله عز وجل أن جعل لكل داءٍ دواء، وأن جعل لكل سقمٍ علاجا، فإذا كنا نرى من طائفة من شباب أمتنا أمراض الغفلة، وأمراض الشهوة، وأمراض الشبهات، إذا كنا نرى من شباب أمتنا إعراضاً أو تشاغلاً أو حيلاً وخططاً ومكائد دبرها الأعداء فانطلت على بعض الشباب، فإن ذلك مرضٌ وفي القرآن علاج؛ علاجه الدعوة والذكر والموعظة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] (نظر الله امرأً سمع مقالةً فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب مبلغٍ أوعى من سامع) (من دل على هدىً؛ فله أجره وأجور من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً).
إن كانت الأمة مصابةً بمرض الغفلة والمعصية، ومرض الشهوة والشبهة، فإن علاجها أن تعود إلى الله، إن الله لن يهلكنا ويعذبنا إذا كنا أمة مستغفرةً واعظةً مصلحة {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] ولم يقل: وأهلها صالحون، وإنما قال (مصلحون) فإذا وجد في الأمة في القرى والمدن والبلدان من يسعى لإصلاح الفساد، ومن يسعى لردع الصدع، وإنكار المنكر، ونشر المعروف والأمر به والتواصي بالحق والصبر، والبذل الدءوب، والسعي الذي لا يعرف الكلل والملل، إن كان في الأمة من يعيش هذا الهم ومن يدرك هذه القضية، فإن الأمة لا تهلك بإذن الله {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].(64/3)
حال شباب الأمة
أيها الأحبة! أين شبابنا؟ أين قوام أمتنا؟ أين رجال الغد فينا؟ أين هؤلاء الذين نعدهم للنائبات؟ إن طائفةً ليست بالقليلة نقولها والأسى يهيمن على النفوس، نقولها والأكباد تتجرح وتتقطع ألماً حينما ندرك ونصف ونقول: إن طائفةً من شبابنا قد اشتغلت في إضاعة الأوقات وصاحبت قرناء السوء، وأصبح النظر إلى النساء في الأفلام والمسلسلات عبر هذه القنوات التي ما تركت قليلاً أو كثيراً من ساعات الليل والنهار إلا واستغلته لتحدث هذا الشاب، اشتغل بعض شبابنا بالمجلات الخليعة، وبعضهم للسفر إلى بلاد الكفار لأغراض سيئة، وبعضهم يحاول أو يجامل أو يخادع نفسه فيقول: أسافر للسياحة، للمعالم، لمعرفة هذا الكون وما فيه ثم إذا حل في تلك البلاد ووطئت قدمه في تلك الأرضين اتجه إلى حيث ما كان منطوياً في سويداء نفسه وفي خافيةِ ضميره، ولا يخفى على الله خافية {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] والله لا تخفاه خافية وهو الذي: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
فقولوا: إن طائفة من شبابنا من أمراضهم التهاون بالصلوات وتركها بالكلية أو بعضهم يتركونها مع الجماعة، وبعض شبابنا أشغلهم الهاتف، والبحث عن الأرقام، وتعدد العشيقات والصديقات، وبعض الشباب قد وقع على أم رأسه في هذه المسكرات والمخدرات، وبعضهم ضاع وقته في الشيشة والتدخين، وبعضهم انطلت عليه أحابيل الغرب في دعاياتهم عبر وسائل الإعلام؛ فأصبحنا نراهم، وبتنا نلحظهم ونشاهدهم يقلدون الغرب في مشيهم، وفي أحوالهم، وفي تصرفاتهم، وفي لباسهم، وفي بعض كلماتهم وعاداتهم.
أيها الأحبة! لا تظنوا أن الكلام عن واقع الشباب هو ضربٌ من الخيال أو صورةٌ من صور التشاؤم، نعم.
إن في مجتمعنا ولله الحمد والمنة شباباً نافسوا ولله الحمد في طلب العلم، ونافسوا في حفظ القرآن، وإتقان السنة، ونافسوا في الأدب، والعلم، ونافسوا في الحاسب الإلكتروني، والعلم التطبيقي؛ في الكيمياء والفيزياء وفي الإلكترونيات، نافسوا في هذه الطائرات وقيادتها ومعرفة أسرار تحريكها، نافسوا في إطلاق الصواريخ، ونافسوا في مجالاتٍ عديدة من البحوث النظرية والتطبيقية، ولكن إذا نسبتهم إلى عموم شباب الأمة وجدت أن هؤلاء قلة قليلة بالنسبة لعدد كبيرٍ من شباب الأمة، وإن المسئولية تقع على عاتقنا.(64/4)
الرسول الداعية
وحينما نصف أمراض الشباب فإنه لا يعفينا أمام الله أن نجلس على هذه الكراسي وفي هذا الجو العبق بالبخور والعطور الذي يهدى علينا فيه بألوان الشاي والزنجبيل والقهوة والماء العذب الزلال لنتكلم عن الشباب، ونظن أن مهمتنا قد انتهت، وأن ذمتنا قد برئت بمجرد الحديث ووصف أوضاعهم وأحوالهم، بل لا بد أن نبحث عنهم، أين هؤلاء الشباب الذين نتكلم عنهم؟ أهم في مخيم؟ هيا بنا نزورهم، أهم في شقةٍ معينة؟ هي بنا ندخل عليهم، أهم في ملعبٍ من الملاعب؟ هيا نغدو إليهم، أهم في مكانٍ قريب أو بعيد؟ هيا نتوجه إليهم لنحدثهم لنكلمهم لنجمعهم كما كان صلى الله عليه وسلم، يوم أن أمره ربه بأن ينذر عشيرته الأقربين وأن ينذر ليكون رسولاً للعالمين دعا قريشاً فخذاً فخذا، بطناً بطنا، وقال: واصباحاه، فلما اجتمعوا له قال: (يا معشر قريش، لو أنني قلت لكم: إن خيلاً تصبحكم أو تمسيكم من خلف هذا الوادي، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ماجربنا عليك كذباً يا محمد، قال: فإني لكم نذيرٌ مبين من عند رب العالمين ألا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له قولوا لا إله إلا الله، فقال أبو لهب وهو من أشقياء القوم: تباً لك يا محمد ألهذا جمعتنا سائر اليوم، دعوت قريشاً بطناً بطنا، فخذاً فخذا، ثم جمعتهم في هذا المكان ثم تقول بعد ذلك: اجعلوا الآلهة إلهاً واحد قولوا لا إله إلا الله) ونزل تصديق ذلك أو شاهده في كلام الله عز وجل: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] إنهم يستنكرون ويستنكفون أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، فقالوا بكل عجب: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] كيف جعل اللات والعزى ويغوث ويعوق ونسرا ومناة الثالثة الأخرى؟! كيف يريد أن يجعل هذه الآلهة التي كانت كل قبيلة من قبائل العرب تتنافس على سدانتها وخدمتها والشرف بها كيف جعلها إلهاً واحداً؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صبر.
وفي حادثةٍ أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه عمه أبو طالب ذات يوم وقال: يا بن أخي! إنك من قومك من المكانة بحيث تعلم وإنهم قد جاءوا يشكونك إلي يقولون يا محمد: إنك سببت آلهتهم، وشتمت أصنامهم وسفهت أعلامهم، وأغريت عليهم عبيدهم وصبيانهم وسفهاءهم وإنهم يعرضون عليك ما يعرضون، فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش؛ يخاطب هؤلاء الصناديد والكبار الذين بجوار عمه أبي طالب، فقال: إني أريد منكم كلمة واحدة إن أنتم قلتموها؛ فإن العرب تدين لكم وتخضع لكم وتنقاد لكم، وأما العجم فإنهم سوف يدفعون لكم الجزية، فقال أبو جهل: كلمة واحدة إن نحن قلناها العرب تطيعنا، والعجم يدفعون لنا المال والجزية، ما هي يا محمد؟! وأبيك عشراً نعطيك عشر كلمات ليست كلمة واحدة، فقال: قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقال أبو جهل: تباً وسحقاً لك يا محمد ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟! مستنكرين مستنكفين أن يوحدوا الله.(64/5)
الرسول يدعو في مواسم الحج
أتظنون أن سيد البشر خير من وطأت قدمه الثرى صلى الله عليه وسلم أتظنون أنه قد كلّ وملّ من هذا، بل ذهب يدعوهم ويتابعهم ويخرج إليهم في مواقع تجمعهم في مواسم الحج، ويقول: يا معاشر الناس، يا معشر قبائل العرب من منكم يمنعني حتى أبلغ رسالة ربي، أريد سنداً أريد عوناً أريد حصانةً، أريد ظهيراً، أريد معيناً يعينني، أريد ركناً شديداً آوي إليه حتى أبلغ رسالة ربي، ثم يلحقه أبو سفيان ويقول: يا معشر العرب، إنه صابئ منا ونحن أهله وقبيلته ونحن أدرى به فلا تصدقوه، أي عذاب وألم نفسي؟ والله لو أن واحداً منا تكلم في مجلسٍ من المجالس، فقال كلمةً معينة، أو قصةً معينة، ثم قام آخر بالمجلس قال: لا، لا تصدقوه القصة الصحيحة عندي أنا، ما هو شعور هذا المتكلم الذي هو في مجلسه لا يعدو حضوره وشهوده عن عشرين أو ثلاثين شخصاً؟ فما بالك بنبي مبعوث من عند الله مؤيد بالوحي والمعجزة من لدن الله عز وجل، ثم يلحقه أقرب الناس إليه فيقول للعرب: لا تبايعوه ولا تسمعوا ولا تصدقوه والغوا في كلامه.(64/6)
الرسول يدعو في الطائف
هل كف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدعوة؟ لا.
بل سافر إلى الطائف إلى بني عبد يليل بن كلال رجاء أن يكون فيهم قلبا ًرحيماً رءوفاً لبقاً لطيفاً يألف ويؤلف ويسمع وينصت وينقاد إلى الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبعثت قريش سفراءها وشياطينها ومخابراتها ورجال الأمن عندها إلى بني عبد يليل بن كلال وقالوا: إن صابئاً اسمه محمد بن عبد الله سوف يأتيكم فإذا جاء فاحرصوا ألا يغري عليكم سفهاءكم، ألا يفسد عليكم صبيانكم، ألا يغير عليكم دينكم واحترام ملة آبائكم وأجدادكم، فما كان منهم إلا أن قاموا وجعلوا صبيانهم سماطين أي: صفين وفريقين، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا في يد كل صبي وسفيه وجاهل حجراً يرمي به أقدام النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي حتى خرج من بني عبد يليل بن كلال وقد أعرضوا عنه وما سمعوه وآذوه وأغروا الصبيان والسفهاء به حتى ولى من عندهم وعقبه الشريفة تدمي، يقطر الدم من قدمه صلى الله عليه وسلم خرج هائماً على وجهه حتى آواه المقام إلى مكان يقال له: قرن الثعالب، ثم خر مغشياً عليه صلى الله عليه وسلم.
أتظنون أن هذا النبي قد ملّ وكلّ من هذه الدعوة؟ أتظنون أنه صلى الله عليه وسلم قد سئم من هذه الدعوة وهو الشريف النسيب الكريم ذو القدر والأمانة والجاه والكرامة في قومه؟ أم جميل زوجة أبي لهب تضع الشوك والزبالة في طريقه صلى الله عليه وسلم.
لما خرج من بني عبد يليل بن كلال وآواه المقام إلى قرن الثعالب وخر على وجهه مغشياً عليه فلما أفاق قال: (اللهم أنت ربي ورب المستضعفين، إلى من تكلني؟ أإلى عدوٍ يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي).
بعد هذا المشوار الطويل من العذاب والأذى يقول صلى الله عليه وسلم: إن لم تكن غاضباً يا رب فما عندي مشكلة، إن لم تكن غاضباً فأنا سعيد، إن كنت راضياً فهذا هو نجاحي، أما أنهم يجعلون سلى الجزور وخلاص الناقة على ظهري فلا أبالي بهذا، أن يضعوا الشوك في طريقي فلا أبالي بهذا، أن يضعوا الأذى في طريقي، أن يرموني بالحجارة فلا أبالي بهذا، أن يكذبوني ويتهموني ويقولوا: ساحرٌ أو كذابٌ أو أساطير الأولين تملى عليه، يأخذها من كتب الأولين بكرةً وأصيلاً فلا أبالي بهذا، إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي.(64/7)
متى يستيقظ شباب الأمة؟
أين من شبابنا اليوم من يتحمس لهذا الدين الذي من أجله ضحى النبي صلى الله عليه وسلم هذه التضحيات؟ أين شبابنا الذين يتحمسون للدين الذي لأجله ضحى الصحابة بأموالهم وأنفسهم وبذلوا الغالي والرخيص في سبيله؟ أين شبابنا ونحن في زمنٍ تباع فيه بلدان المسلمين رغماً عن أنوفنا؟ أين شبابنا وأخواتنا المسلمات في البوسنة والهرسك يدخل عشرين أو ثلاثين صربياً على فتاةٍ عمرها تسع سنوات فيغتصبونها واحداً تلو الآخر فتموت متشحطة بدمائها؟ أين شبابنا وأنتم ترون الدبابات والطائرات تقصف في جروزني ومناطق القوقاز ولا من معين ولا نصير إلا الله عز وجل.
الشباب إذا لم يستيقظوا في هذه المرحلة فمتى يستيقظون؟!! ضاعت فلسطين فما استيقظ الشباب! وانتهكت الحرمات في البوسنة فما استيقظ الشباب! وفعل اللواط بالأبرياء من الشباب في الهرسك وما استيقظ الشباب! والروس يذبحون الأطفال هذه الأيام فما استيقظ الشباب! والطغاة والشياطين يعذبون المسلمين فما استيقظ الشباب! فبالله عليكم متى يستيقظ الشباب؟ هل يستيقظ الشباب إذا جاءت طلقات النار فوق رأسهم؟ هل يستيقظ الشباب إذا استبيحت حرماتهم؟ هل يستيقظ الشباب إذا ديست مقدساتهم؟ هل يستيقظ الشباب إذا بلغ الأمر الزبى وبلغ السيل غايته يوم أن تحل المصيبة حولهم أو قريباً من داره؟! إن من لم يتحرك لهذه الأحداث؛ فإن في قلبه علة الموت والبعد عن طاعة الله عز وجل، والله إنه لأمر يؤلمنا غاية الألم، وما كأن شبابنا ينتسبون إلى أمة ذات تاريخ قد سطر فيه القادة بمداد الذهب على صفحات النور البطولات التي بها كانوا يرهبون ويخيفون الكفار، هل في الشباب من ينازل هؤلاء الكفار؟ هل في الشباب من يتحداهم بالتزامه واستقامته؟ هل في الشباب من يقول: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121 - 123] هل في الشباب من يقول: بالأمس خمر واليوم أمر، بالأمس سكرة واليوم فكرة؟ هل في الشباب من يستيقظ من هذه الغفلة الطويلة؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.(64/8)
الشباب وقضاء الأوقات
ما هي أوقات شبابنا؟ سهرٌ بالليل {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] لا، سهرٌ في التفحيط، وفي الدوران، وفي هذه البطولات بين الصخور والرمال، وأين هم في الصباح؟ يشهدون صلاةً تشهدها ملائكة الليل والنهار، لا، على الفرش تراهم نائمين، ويضيع الصباح وما بعد الصباح وربما ضاع الظهر، ويستيقظون قرب المساء، ثم يحيون الليل الذي هو سكن بالحياة التي تضرهم وليست حياةً تنفعهم، والنهار الذي هو معاش بالغفلة التي تضرهم؟ أين هؤلاء الشباب؟!
والله لو أن القلوب سليمةٌ لتقطعت ألماً من الحرمان
لكن قلوب كثير من الشباب أصابها نوعٌ من الشلل نخشى إلا تفيق إلا بصدمة كهربائية، إن بعض الأعضاء الضعيفة في جسم الإنسان مثل يد ضعيفة، أو رجل ضعيفة، ربما تحتاج إلى شيءٍ من التدليك الطبيعي والعلاج الطبيعي حتى تقوى، وبعض الأعضاء الضعيفة لا ينفع فيها التدليك، ينفع فيها الصعقة الكهربائية حتى تستيقظ، حتى تعود الحياة إلى هذه العضلات والأعصاب وإلى هذه الشعيرات الدموية فيه، فنحن نريد من شبابنا أن يفيقوا قبل أن يحتاجوا إلى إفاقةٍ بالصدمات الكهربائية، ولن تكون الصدمة الكهربائية عدواناً من أحبابهم الدعاة، ولن تكون شراً نتمناه لهم، ونخشى أن تكون مصيبة تحل بأحدهم.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإحسان إمكان
اليوم أنت تملك ساقين تسابق بها الخيل، وتتخطى بها الريح، فما يدريك أن هذه الساق تمضي معك وتستمر قوية سليمة؛ لتتخطى بها إلى المساجد وإلى أماكن الطاعة.
كم من شاب في عداد المعوقين الآن يتمنى أيام كانت قدماه تحمله يقول: يا ليتني مشيت عليها إلى المساجد! يا ليتني مشيت عليها إلى حلق الذكر ورياض الجنة! يا ليتني مضيت عليها إلى مواقع ترضي الله عز وجل حتى إذا ابتلاني الله بما ابتلى وقدر ما قدر من هذا الشلل كتب ما كنت أعمله صحيحاً مقيماً.
لو أن رجلاً أصيب بشلل أو عاهة أو مصيبة وقبل أن يصاب بهذه العاهة كان مديماً على استخدام جارحته في الطاعة والعبادة، فإنه بعد أن يصاب تمضى له الحسنات، وتستمر له الدرجات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض المسلم أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً) أي رجل تعود قيام الليل فأصابه مرض نقول له: اطمئن إن أجر التهجد يكتب في صحيفة أعمالك ولو كنت على فراش المرض، رجلٌ تعود أن يعتمر أو أن يحج كل عام، ولكن حال دونه ودون الحج والعمرة مصيبة مالية أو بدنية نقول: اطمئن فإنها مكتوبة في موازين أعمالك؛ لأنك يوم أن كنت قوياً صحيحاً قد مضيت على هذه الطاعة فالآن تكتب لك وإن لم تفعلها ولكنك تفعلها بنيتك هذه.
أما الذي كان أيام قوته وعنفوان شبابه وربيع عمره يملك قوةً لكن ما سخرها في طاعة ولا في حلق الذكر ولا في رياض الجنة ولا في مجالسة الأخيار والدعوة، وإنما سخرها في صعود وهبوط، وسفرٍ وعودة، وسهرٍ وغفلة، نومٍ عن عبادة، وذهابٍ وإياب، ومعاكسةٍ ومشاهدة، وجلوسٍ وقهقهة، وسخريةٍ وضحك، وتحدٍ واستهتار، فحينما يصاب بمصيبة أو يبتلى ببلية، فما الذي يريد أن يكتب له بالعمل الصالح، إن من نعمة الله أن الإنسان إذا أذنب كتبت سيئةً واحدة، وإذا أصابه بعد الذنب ما أصابه فلا تكتب بقية السيئات إلا سيئةً كان يدعو إليها، أو كان يروجها وينشرها فعليه وزرها وأوزار من عمل بها إلى يوم القيامة.
مثال السيئات التي إذا مات صاحبها فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وهذا مثالٌ واقعي وليس من الخيال: رجلٌ كان يملك محلاً كبيراً فيه عدد من الفتحات يبيع فيه أشرطةً لأفلام الفيديو، فيها رقص هندي، ومصارعة حريم، وهبال وجنون، وحب، وغزل، وقلة حياء ومصائب متعددة، المهم أن هذا الرجل كان تاجراً من تجار محلات الفيديو، وربما بلغت الأشرطة الأصول التي عنده في ذلك المحل أكثر من مائة وثلاثين ألفاً أصل شريط فيديو، كتب الله أن سهام المنية وملائكة الموت تحل في داره وتأخذ برقبته وتنتزع روحه.
فما الذي حصل؟ كنا نظن أو يُظن أن الورثة من بعده يقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون هذا والدنا مات ولكن خلف معصية كبيرة، خلف فساداً وانحرافاً، فلعلنا أن نعالج وضعه وأن نحرص على أن نفعل حسناتٍ تكفر سيئاته.
فما الذي كان من الورثة؟ كانوا أذكى من أبيهم في هذا الضلال، قالوا: لو أننا بعنا محل الفيديو لن يباع بقيمة جيدة طبعاً؛ لأن قنوات الدش قد هبطت أسعار محلات الفيديو، شرٌ يهون شراً كما أن الإم بي سي إف إم خربت على تسجيلات الأغاني، فكذلك قنوات الدش خربت على محلات تجارة الفيديو، ولأن فيها من الفساد ما يوجد في المحلات وأكثر وأشد ولا حول ولا قوة إلا بالله، الحاصل أن الورثة بعد أبيهم قالوا: لو بعناه ما جاب قيمة، ولوصفينا الأشرطة لا أحد يشتري أشرطة، نبيع الأجهزة ونقفل المحل، الديكور واللوحة والشهرة العالمية لا تصلح شيئاً، والحل يا شباب فليضع كل واحدٍ منا يده في يد الآخر ولنتعاهد ولنتعاقد ولنعقد بالخناصر والأكف أن نحفظ هذا الكنز الثمين والميراث والرسالة التي كان والدنا مستمراً عليها، فنمضي ويستمر المحل والريع نتقاسمه مجتمعين.
يعني: كان المتوقع من هؤلاء أن يقولوا: أبونا مات وفرق بينه وبين الشيخ عبد الله الجار الله الذي مات في العام الماضي ليلة سبع وعشرين، ولما مات عشرات إن لم تكن مئات الرسائل من الكتب والنشرات والكتيبات والمذكرات كلها في الدعوة والطاعة والعبادة والإنابة والتوبة والإرشاد والتحذير والنصيحة، كلها قال الله قال رسوله قال السلف:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان
فهنيئاً له في هذا الميراث الذي خلف، لكن صاحبنا الذي نتحدث عنه نسأل الله أن يعاملنا وإياه بعفوه، فإن رحمة الله واسعة لا يضيق بها ذنب عبدٍ مهما عظمت ذنوبه، صاحبنا هذا الذي مات عن أفلام الفيديو الخليعة الماجنة، وأولاده من بعده يشغلون المشروع ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهذا نوعٌ واقعيٌ ومثالٌ واقعيٌ للسيئات التي ذنبها يستمر على صاحبها بعد فراقها أو بعد رحيله عنها بموتٍ أو بغيره.
فالعاقل أيها الأحباب: يحرص أن يقدم عملاً ينفعه بعد موته، وحين ننادي شبابنا نقول لهم: اغتنموا هذه الأوقات، واغتنموا ما جعلكم الله مستخلفين فيه؛ فإن الله عز وجل سائلكم عن هذه النعم التي أنتم فيها.(64/9)
الحكمة من خلق البشر
يا أحبابي: أتظنون أننا خلقنا من أجل أن نشرب ومن أجل أن نأكل وننام؟ أتظنون أننا خلقنا لهذه المتع والملذات؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] هذا كلام الله {فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون:116] يعني: الله أجل وأكرم من أن يخلقنا عبثاً: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115] ما ظنكم لو أن تاجراً من التجار استقدم ألف عامل من كوريا، وألف عامل من اليابان، وألف عامل من الصين، أي ثلاثة آلاف عامل وجعلهم في الكنبات ومواقع شركات، ثم بعد ذلك لما جاءوا واجتمعوا ما أعطاهم عملاً معيناً، أخرجوا لهم تأشيرات وفيز ونقلتهم الطائرات، واستقبلتهم العلاقات العامة في الشركة ثم أتوا بهم وأدخلوهم في المخيمات والكنبات وتركوهم هكذا، سبحان الله! ثلاثة آلاف عامل بكل تكاليف استقدامهم ونقلهم وتذاكرهم وتأشيراتهم؛ ثم بعد ذلك تتركهم عبثاً وسدى، هذا مجنون!! هذا ليس برجل أعمال!! هذا ليس بمخطط أبداً!! إن الشخص لا يستقدم عاملاً براتب بخمسمائة ريال إلا وقد أعد له ألف شغلة، إن عجز عن هذه؛ أشغله في الأخرى.
فإذاً أتظنون أن الله خلق هذا الخلق بمليارات البشر عبثاً هكذا فقط يأكلون، ويشربون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:115 - 117].
أيها الأحبة! إننا نغفل عن قيمة الزمن، والواقع يؤكد أن كثيراً من إخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات غافلون عن إدراك قيمة العمر وهذه الدقائق والساعات، إن الكثير غافلون عن إدراك الحكمة من وجودهم في هذه الحياة، نعم إن الشيوعيين والدهريين والذين لا يعلمون لأي حقيقة وجدوا يجهلون ذلك، لكن المسلم يعلم.
ذلك الإلحادي المستهتر المستهزئ الذي يقول:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
سأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت كيف أبصرت طريقاً لست أدري؟
ولماذا لست أدري لست أدري؟.
وعمرك ما تدري ولن تدري إن لم يكن لك دراية من كتاب الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، لكننا ندري من أين جئنا، وندري إلى أين نتجه، وندري ما الذي ينتظرنا إن أحسنا العمل، وندري ما الذي يدركنا إن أسأنا السعي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(64/10)
وعن عمره فيمَ أفناه؟
أيها الأحبة! قولوا للشباب: إننا جميعاً سوف نحشر بين يدي الله عز وجل ولن يمر أحدٌ إلا وسوف يسأل: (لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي.
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
(لن تزول قدما عبدٍ حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟) أذكر من سنين طويلة من قرابة سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة حينما كنت صغيراً، أن رجلاً كان يزور أحد أقاربي، والذي كان يشد انتباهي أن هذا الرجل على كبر سنه، كان مشجعاً متعصباً يموت في الهلال، ويصبح على الهلال ويسره ما يسر الهلال ويسوءه ما يسوء الهلال وكأنما هو على حد قول القائل:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
هناك من يقول: الهلال على عيني ورأسي، وأقول: لو يصبون له زنجبيل وبما أن الزنجبيل أصفر والنصراوية أصفر لا يشرب أبداً، والعجيب قبل شهرين أو ثلاثة كنت في مناسبة زواج، فقابلت الرجل وإذ بالرجل قد كبرت به السن وسألت واحداً قلت: فلان أهو صاحبنا الذي كان هلالياً حتى الموت؟ قال: هو هو، قلت: ولعله إن شاء الله بعد هذه السنين الطويلة قد أفاق، وعلم أن هذه الأندية كلها بل المنتخب لن يدخله الجنة ولن يخرجه من النار، ولن يشتري له بيتاً إن كان ما عنده بيت، ولن يدفع له ضماناً إن كان ما له ضمان، ولن يعطيه شيئاً إذا عجز عن امتلاك المال، هل لا يزال الرجل على طبيعته وسجيته تلك؟ قال: بل وأشد، هذا عمره أفناه في الصحافة الرياضية، من الذي راح؟ وما الذي حصل؟ ومن الذي جاء؟ ومن الذي ذهب؟ ومن الذي عزل؟ ومن الذي فعل؟ ومن الذي قدم وأي عقدٍ حصل وأي؟ بالله يا مسكين! عمرك أفنيته في هذه الرياضة فهل ستنفعك عند الله عز وجل؟! وآخر عمره أفناه في السامري، فما يسمع بضربة طارٍ عند جمرٍ من النار إلا جاء وطبلته معه يسخنها قبل أن يستنزل، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأناس قد بلغوا من الكبر عتياً ومنذ شبيبتهم إلى هذا اليوم وهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- مشغولون والله في هذه البلوة، قولوا: الحمد الله الذي عافنا مما أبتلى به كثيراً من خلقه وفضلنا على كثيرٍ ممن خلق تفضيلا، لا تظنوا أن هذا ضرب من الخيال بل هو موجود عند طائفة من الناس، وبعضهم أفنى عمره في عرضات وسامر، وبعضهم أفنى عمره في فنٍ وطرب، وبعضهم أفنى عمره في بداية المسلسلات مع الممثل القدير، وأي قدير؟! الممثلة القديرة، وأي قديرة؟! عمرٌ مضى في اللهو، والغفلة، ومقارفة المنكرات، ومخالطة النساء، والخلوة بغير المحرمات، وأمور ومصائب لا ترضي الله عز وجل، هذا أسألكم بالله إذا سأله ربه عن عمره فيم أفناه ماذا يقول؟ لعل فينا من يستيقظ، لعل بشبابنا من يتذكر إذا سأله أو سئل يوم القيامة عن عمره فيم أفناه؟ قال: أستغفر الله وأتوب إليه، وأفني ما بقي من العمر سواء كان شاباً في العشرين أو أقل أو الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو الستين أفنيت عمري في طاعة الله والدعوة إلى الله، وشهود المساجد، وزيارة الأقارب، وصلة الأرحام، وفي التجارة الرابحة، والتجارة الحلال، والبيع والشراء، وطلب المعيشة، والاستثمار المباح فيجوز للإنسان أن يشتغل بهذا ويتشرف به، لكن هذا الذي أفنى عمره في هذه المسائل -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فوا خجلة الحال إن كان الإنسان يجيب بذلك! أيها الأحبة! إن كثيراً من الشباب تضيع أوقاتهم، ونحن حينما نتكلم عن الوقت لا نقول: إن الواجب ألا يجعل الإنسان لنفسه أو لأصحابه أو لأقاربه أو لأحبابه أو لأهله أياماً أو أوقاتاً أو ساعات يمرح ويتنزه ويخرج للبرية ويتسفر ويتنقل ويتمشى ويتمتع بما أباح الله، نحن لا نقول: حرم على نفسك هذه المتع الطيبة، لكن نقول: الحذر من أن ينقضي أو تنقضي سحابة العمر في معصية الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله، تضيع هذه الأوقات على كثيرٍ من الناس وبعضهم معروفون ومشهورون، في ليالي الشتاء البلوت ساخن، وفي ليالي الصيف البلوت ساخن، لو جمعت ساعات البلوت من عمره لوجدتها أخذت جزءاً لا بأس به من عمره، فهذا إذا سئل يوم القيامة عن العمر قال: قضيت جزءاً من العمر في النوم وجزءاً في البلوت، وجزءاً في الغدو والرواح والذهاب والإياب، فلم يبق للعبادة والطاعة إلا أقل القليل من الساعات والدقائق ولا حول ولا قوة إلا بالله! كان العلماء يتمنون زيادة الوقت مع عنايتهم وحرصهم على أوقاتهم، كان علامة الشام جمال الدين القاسمي رحمه الله في دمشق إذا مر على الناس وهم جالسون على المقاهي، قال: آه لو أن الأوقات تباع وتشترى؛ لاشتريت من هؤلاء أوقاتهم.
عنده مشاريع سوف يملأ بها أوقات هؤلاء لو اشترى منهم، لكن كثيراً من شبابنا اليوم يملون من الوقت إذا أصبح قال: أخ! متى يأتي الغداء نأكل ونرتاح؟ وإذا تغدوا جاء الظهر متى يأتي العصر نطلع نشم هواء؟ وإذا انتهى اللف في السيارة قال: متى يأتي الليل نسمر وننبسط، وإذا انتهى وقت السمر والسواليف والخبال قال: متى يأتي وقت النوم نرتاح، متى يأتي هذا ومتى يأتي هذا:
وحلفت ألا أبتديك مودعاً حتى أهيئ موعداً للقائي
أودع هذا لأستقبل هذا وتلك والله مأساة يضيع فيها كثير من أوقات شبابنا.
أيها الأحبة! نريد وقفة تأمل وتدبر لما نعيشه ويعيشه كثيرٌ من شبابنا؛ من إضاعةٍ للأوقات، وتبذير للأعمار إلى حدٍ جاوز السفه.(64/11)
عصيان الله بنعم الله
أيها الأحبة! هذه الصحة والعافية التي في جوانحنا وفي جنباتنا؛ هذه الصحة في الأسماع والأبصار والأبدان، والله إننا ما عصينا الله إلا بطاعته ونعمه، هل تتصور أن رجلاً مشلولاً يرقص دسكو أو بريك دنس أو باليت أو روكي؟! أبداً، لأن الذين يرقصون يرقصون بنعمة الله في أقدامهم ولو سحبت منهم نعمة القدم ما رقصوا، والذين يسمعون الحرام لو كانوا في معاهد الأمل للصم والبكم ما سمعوا هذه الملاهي، والذين ينظرون إلى الحرام لو أخذ الله أبصارهم ونعمة البصر ما كانوا ينظرون إلى الأفلام والمسلسلات التي لا ترضي الله عز وجل، إذاً: فما من عبدٍ يعصي الله إلا بنعمة الله، أروني عبداً يعصي الله بنعمةٍ من عند غير الله عز وجل أبداً، فلنعلم أنه مع زوال العمر وانقضاء العمر وضياع الوقت الذي سوف نسأل عنه، أننا أيضاً نعصي الله فيه بنعم الله فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله!(64/12)
من شب على شيء شاب عليه
أيها الأحبة! إنك لترى في الحياة رجالاً تخطوا عتبة الشباب، وقاربوا الشيخوخة أو بلغوها تراهم يعلنون الحسرة والندامة أنهم لم يأخذوا حذرهم، يأسفون أنهم فرطوا في حق أجسامهم فلم يرعوها حق رعايتها، فجنوا في ذلك علةً من الشبهة ومن الشهوة ومن الغفلة استحكمت في نفوسهم، حتى إن بعض الكبار قد بلغ الأربعين والخمسين ولا يزال يهجر الصلاة ولا يصلي! ولو كان في شبابه مصلياً ما تركها في شيخوخته، ولكنه شب على ما نشأ عليه وبات كهلاً وشاخ عمره فيما شب عليه وشاب في ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تصوروا أناساً يبلغون الستين إلى الآن يشربون الخمر شرب مجانين، ولا يشهدون الصلاة، وبعضهم يقول: يكفيني صلاة الجمعة، يا أخي بلغت الستين وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين، وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك) وعند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أعذر الله إلى امرئٍ بلغه الستين من عمره) يعني: من بلغ ثلاثين فقد بلغ الورقة الأخيرة من نصف العمر، فماذا قدمت في النصف الأخير.
إن من شب على الطاعة شاب عليها، ولذلك تجد بعض الشيبان يقول: للأسف أن هذه أصبحت قليلة، قديماً كنا نرى هذا والآن أصبح أمراً قليلاً أن تجد في المسجد شايب ينتظر من العصر إلى المغرب، ومن المغرب إلى العشاء (انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط) هذا الشايب يكيف في المسجد إذا دخل المسجد كأنه سمكة في ماء لا يريد أن يخرج منه، لأنه شب على الطاعة وشب على حب الصلاة (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصبٍ وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ أنفق نفقةً فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه الخ).
أيها الأحبة! لو أن شبابنا تعلقوا بالمساجد ليكبروا بإذن الله متعلقين ببيوت الله متعلقين بالرباط، لكن تعودت كثير من نفوس الشباب الغفلة عن الجماعة، أصبح الواحد يكبر ويكبر ويكبر وما يزال في أنفة وفي ضيق من دخول المسجد، والله إني لا أحصى عدد الرسائل والمكالمات الهاتفية من فتيات متزوجات كل واحدةٍ تقول: هل يجوز أن أطلب الطلاق من زوجي، والأخرى تقول: ماذا أفعل وقد بليت بزوجٍ ولي منه أولاد، والثالثة تقول: قد أصبت بحسرة وملل وكآبة في معيشة كلهن يشكين شباباً ورجالاً لا يشهدون الصلاة أبداً ولا حول ولا قوة إلا بالله، لو شبوا على الصلاة، لو تعلقت قلوبهم على المساجد، لو كثرت خطاهم إلى المساجد وتعودوا الرباط لوجدوا خيراً عظيماً ولكن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- شبوا على الغفلة، ومر الليل والنهار والشهر والشهران والسنة والسنتان وتتالت الأعوام وهم على هذه الغفلة، فلما شاب القذال، واحدودب الظهر وذبل الجنبان وتغير وتجعد الوجه يريدون أن يتجهوا إلى المساجد لا، سوف تردهم شهواتهم ونفوسهم وأهواؤهم، ويغلبهم شيطانهم {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].(64/13)
الندم على ما مضى من أيام الشباب
أيها الأحبة! ما أكثر الذين يندمون على ما مضي من أيام شبابهم، بل إننا والله ونحن الآن في الثلاثينات إن الواحد يندم على الفترة التي مضت من عشرين إلى ثلاثين كيف راحت عشر سنوات من زهرة العمر الذهبية لم نستغلها الاستغلال الأمثل الأوفر، فما بالك فيمن ضيع وضيع وغفل ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنا وإياهم على خطر أن تفاجئنا المنية ونحن لم نستعد استعداداً يرضي الله عز وجل ويجعلنا ممن يفوزون بجناته ومرضاته.
أيها الأحبة! إن للزرع والبذر موسماً معيناً، فإذا جاء وقت الحصاد؛ فإن الزرع لا ينفع حينئذ، إذا جاء وقت حصاد البر ما ينفع أنك تبذر الأرض وتشغل الرشاش، فللبذر والزرع وقت، وللحصاد وقتٌ، ولا بد أن تعلم أنك ما دمت في مرحلة الشباب، فإنك في مرحلة البذر
ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد
إن الذي يأتي يوم القيامة وقد ضيع هذا الشباب في المعاصي والسيئات، وقد غفل عن الصالحات هو المفلس والخاسر حقاً، وعليه أن يبادر نفسه قبل أن يفاجئه الأجل أو يحل فيه ما قاله الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ} [المؤمنون:99 - 101] لا جنسية، لا تابعية، لا جواز، لا إقامة، لا قبيلة، لا فخذ، لا أسرة، لا عائلة، لا هوية {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] إذاً ما القضية؟ أموال ما تنفع، أنساب ما تنفع {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] إذن ما الذي ينفع؟ {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] الله يجعلنا وإياكم منهم {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:103 - 105] ماذا يجيبون؟ ماذا يقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:106 - 111].
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يقول الله فيهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون:109].(64/14)
اغتنم خمساً قبل خمس
أيها الأحبة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمسا ًقبل خمس) وقد قال النبي اغتنم؛ لأن الغنيمة أمر يفوت إذا لم تبادره بالسعي، هل الغنيمة في المعارك؟ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء} [الأنفال:41] الغنيمة تحتاج إلى كر وفر وسعي وإقدام وإقبال وعناية وحرص وتجاهد عدواً حتى تقتله وتهلكه وتفوز بالغنيمة بعده، فكذلك الغنائم الخمس يبينها لنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) رواه البيهقي عن ابن عباس والحديث صحيح.
فكم من عبدٍ وكم من شابٍ وكم من رجلٍ وكم من امرأةٍ الآن هم قادرون على المسارعة إلى الخيرات، قادرون على التوبة والإنابة، قادرون على العمل الصالح، وهم الآن عنها قاعدون، وذلك والله عين الغبن؛ لأن الغبن الذي يغبن فيه الناس اليوم هو غبنٌ في الصحة والفراغ، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ) أما الصحة فتضيع في اللهو والغفلة والمعاصي، والفراغ فيما لا يرضي الله عز وجل، فيأتي الإنسان يوم القيامة ذلك القوي النشيط كمال الأجسام يسبقه النحيل الضعيف المريض؛ لأن هذا النحيل المريض قد سخر القليل الباقي من صحته في طاعة الله عز وجل، وذلك القوي صاحب كمال الأجسام قد ضيع هذه العافية والقوة في معصية الله عز وجل، وربما يأتي الرجل المشغول بلقمة العيش منذ أن تطلع الشمس إلى أن تغيب وقد سبق ذلك الفارغ الذي ما عنده شغلٌ يشغله، لأن ذلك الفقير المشغول قد أنفق وأمضى وصرف البقية الباقية من وقته في طاعة الله عز وجل، وذلك المتفرغ قد ضيع الوقت وجعله في معصية الله سبحانه وتعالى.
نقول أيها الأحبة: إننا نحذر إخواننا وأنفسنا وشبابنا ألا نغبن في صحتنا فتضيع القوة في غفلة، وفي معصية، وألا نغبن في أوقاتنا فيضيع العمر من غير أن نجني منه أرباحاً في العمل الصالح، ودرجاتٍ تقربنا إلى مرضاة الله عز وجل، ونقول لكل واحدٍ منا ما قاله الشاعر قديماً:
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد
وتب مهما جنيت وأنت حيٌ وكن متنبهاً قبل الرقاد
ستندم إن رحلت بغير سعيٍ وتشقى إذ يناديك المنادي
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زاد
إذا أدرك شبابنا هذه القضية وعرفوا أن الله عز وجل قال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:4 - 11] من أي الفريقين أنت أيها الشاب: أفمن يرضى لنفسه مخالطة الأشرار، وأصحاب السوء أهدى، أمن لا يرضى إلا بمخالطة الصالحين والأخيار قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] أفمن ثقافته المجلة الخليعة والفلم الماجن أهدى، أمن اشتغل وامتلأ قلبه بالقرآن والسنة وكلام أهل العلم؟ أفمن يعيش ليأكل ويشرب وينكح وينام ويتسمى باسم المسلمين أهذا أهدى، أمن يعيش لهذا الدين ويعيش لهذه العبادة؟(64/15)
ماذا قدمنا للإسلام؟
إن الإسلام يخدمنا ويعطينا ويمنحنا، لكن نحن ماذا قدمنا للإسلام؟ أنا أعطيك أقرب مثال على ذلك: لو حصل لا قدر الله حادث لرجل على الطريق، وجاء واحد قال: يا إخوان هناك رجل شاب صار له حادث وعنده نزيف ومحتاج إلى تبرع بالدم، يا إخوان تبرعوا له، أنا واثق أن السيارة ستمتلئ كلها تبرعاً له لأنه مسلم، لأن الإسلام خدمه.
إذاً: الإسلام خدمنا ونحن باسم الإسلام أكلنا وشربنا وحققنا وأنعمنا وحصلنا خيراً كثيراً؛ فماذا قدمنا للإسلام؟! أحد الإخوان في زغرب في المركز الإسلامي بـ كرواتيا بجوار البوسنة يقول: جاءنا ذات مرةٍ شاب بسنوي يقول بلغته البسنوية وكان المترجم موجوداً: هل يوجد أحد من شيوخ العرب أريد أن أتكلم معه؟ قال: فجيء إليه برجلٍ من الشباب فيه خير نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، قال: فجئنا إليه، فقال له: يا أخي تعال -هذا كان في بداية غزو الصرب للبوسنة - أنا مسلم جاء الصرب واغتصبوا أخواتي، وأحرقوا بيوتنا، وطردونا وشردونا وفعلوا بنا الأفاعيل، وأنا مسلم أقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا أعرف عن الإسلام إلا هاتين الكلمتين، فيا أخي علمني شيئاً عن هذا الدين الذي أقتل لأجله، علمني شيئاً من هذا الدين الذي يحرق بيتنا لأجله، علمنا شيئاً عن هذا الدين الذي يعتدى علينا لأجله، أنا أريد أن أقاتل هؤلاء الكفار من الصرب والنصارى حتى أموت ولن أتركه لكن علمني.
الآن لو أتينا إلى شاب في سجن المخدرات وقلنا له: تعال اكتب لنا عشر صفحات عن الإسلام، لكتب خمسين صفحةً عن الإسلام، فهذا بسنوي لا يعرف عن الإسلام إلا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يقول: علموني هذا الدين الذي أقتل لأجله حتى أقاتل على بصيرة وأستمر من أجل هذا الدين، وكان بإمكان هذا الشاب البسنوي أن يقول للصرب: قفوا ماذا تريدون؟ نعلق الصليب، نصلي لليسوع، ننحني للقداس، نسوي التعميد، نسوي صلاة الكنيسة، ونرتاح من الهم والغم لكنه مصر على الإسلام، ومن أجل الإسلام الذي لا يعلم عنه إلا هاتين الكلمتين يتحمل هذه التضحيات.
فنحن يا معاشر الشباب الذين نعرف الكثير الكثير عن الإسلام؛ في الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وأمور كثيرة في العلاقات والعبادات والأخلاق والمعاملات والعقائد وأشياء كثيرة، ماذا قدمنا لهذا الدين؟ هناك جهلة لا يعرفون عن الإسلام إلا كلمتين يقاتلون من أجله، ونحن أقل شاب فينا يعرف عن الإسلام الكثير ولا يقدم من أجل الإسلام التزاماً! لا يقدم من أجل الإسلام توبة! لا يقدم من أجل الإسلام تضحية؟! لا يقدم من أجل الإسلام يقظة في مواجهة هذه الحرب المسعورة علينا؟! لسواد أعيننا أعداء الإسلام يخسرون نفقات المحطات الفضائية والأقمار الصناعية المستقبلة والمرسلة مجاناً؟ لسواد أعيننا يبثون علينا هذه القنوات؟ لا، ولكن حتى يبقى الضال ضالاً، والفاسق فاسقاً، والمنحرف منحرفاً، والغبي غبياً، والجاهل جاهلاً، المهم ألا يستفيق الشباب والرجال والنساء للإسلام، المهم ألا تعود هذه الأمة إلى الإسلام.
قال أحد البريطانيين الخنازير: إن هذا المارد -يعني الإسلام- سوف يعود ويستيقظ عما قريب ونحن لا نملك أن نرد يقظته، لكننا نملك أن نخدره لنبطئ ساعة يقظته.
نحن لا نملك أن نرد هذا المارد، بل اليهود الذين عجزت أمة الإسلام وقد بلغت المليار أن تسحقهم وهم لا يتجاوزون سبعة عشر مليوناً في العالم، والشكوى إلى الله عز وجل، وإلا والله لو يفتح الطريق إلى هؤلاء الخنازير لوجدت الشباب مستعدين أن يموتوا ويريقوا الدماء من أجل أن يذبحوا اليهود ذبح النعاج والشاه، لكن إنا لله وإنا إليه راجعون، سيأتي اليوم {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122].
يقول أحد المسلمين ليهودي من اليهود: سيأتي يومٌ نقاتلكم فيه وسوف ننتصر عليكم، فقال: اليهودي نعم صدقت! ستقاتلوننا وتنتصرون علينا، ولكن ليس هذا الجيل الذي أنتم منه هو الجيل الذي سينتصر علينا، جيل الأغنية والتمثيلية والدش والمسلسل والغفلة والزمر والطرب والكأس والمعاكسة والمرأة والعبث بالخارج والربا والخنا والمعاصي والضياع، ليس هذا الجيل الذي سوف يطرد اليهود من فلسطين، لكنه جيل العباد الزهاد الصالحين أسود في النهار، رهبانٌ بالليل
وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
رقاقٌ إذا ما الدجى زارنا نصبنا محاريبنا للحزن
وجندٌ شدادٌ إذا رامنا عدوٌ رأى أسدنا لم تهن
هذا هو الجيل الذي سوف يفتح فلسطين وسوف يفتح القدس ويردها ويرد غيرها من بلدان المسلمين إليهم.
نقول يا شباب الإسلام: القضية أكبر من أن تضيع في حب فتاةٍ عبر رسالةٍ أو مكالمة، والقضية أكبر من أن تضيع الأيام في متابعة مسلسل ونعرف في الحلقة الأخيرة، هل تزوجها أم طلقها؟ وهل وجدها أم فقدها؟ وهل انتصر عليها أم انتصرت عليه؟ القضية أكبر من أن تضيع الأمة في هذا الهراء والضياع، لكن من يوقظ الأمة؟ من يوقظ الشباب من هذا النعاس؟ وهذه المؤامرات؟ {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق:15] {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33] مكر عجيب يخططه أعداء الإسلام وأذنابهم والشباب ينقادون في هذا المخطط.(64/16)
لا عزة إلا بالإسلام
كم نتمنى أن نعيش في عزة.
الآن انظر لو أن أفضل مطعم أتى بأكلات شعبية نظيفة ذات قيمة غذائية عالية، لأعرض عنها شبابنا إلى هذه الأكلات التي لا تجد فيها من القيمة الغذائية شيئاً، والسبب أن هناك تيار تغريب الأمة وتغريب الشباب، انظر إلى ملابس الشباب انظر إلى بنطلوناتهم وترنكاتهم والفنايل الرياضية والقبعات التي توضع على الرءوس، والكلمات التي تكتب على الفنايل، والعبارات التي تكتب على زجاج السيارات تجد هناك اتجاهاً تغريبياً لهؤلاء الشباب، نحن نتمنى أن شبابنا يرون الغرب كالعذرة والخنزير.
قديماً فيما مضى، كان في عصر الخلافة العباسية والأموية وغيرها يوجد فساق وأهل معاصٍ وشربة خمور، لكن ما كان في قلوبهم شيء من المحبة أو المودة للغرب والكفار، ما كان في قلوبهم تنازل أن ينظر إلى الغربي والكافر نظرة احترام وتقدير، ما كان يرضى أن يَعُد هذا الكافر شيئاً، اللهم إلا إنسان ذمي فله حقوق أهل الذمة فقط، لكن مصيبتنا الآن أن الشاب يدرس في الصباح التوحيد والفقه والحديث والثقافة الإسلامية، وفي المساء تجده مولع بالرياضة الغربية، الملابس الغربية، والأفلام الغربية، والأغاني الغربية، والموسيقى الغربية، وهذه المصيبة التي أورثت في نفوس الشباب هذا التغيير وهذا الاتجاه، والقضية قضية ولاء والخطر على جيل الأمة أن يكون جيلاً يعيش في بلد وجيله في بلد آخر، أن يعيش في بلد وانتماؤه إلى بلد آخر وإن لم يصرح بهذا، لكن الخطورة أن تكون هذه الفيروسات والأمراض قد دخلت في العصب والشعيرات الدموية، ونياط القلوب، وخفقات الأفئدة لشبابنا ونحن لا نعلم، نحن نريد شباباً يعتزون بالإسلام.
يعجبني موقف يذكرون فيه أن شاباً كان ثرياً منعماً، جيء في ذات يوم برجل يصلح ديكوراً في بيته، فكان هذا الشاب جالساً مع شلته يتفرج على فيلم خليع، وهذا الرجل جالس على السلم يشتغل، فالظاهر في لقطة من لقطات الفلم وإن كانت خليعة لكن فيها شكل مضحك، كان هذا الذي على السلم في عقيدته خلل أو ينتمي إلى النصيرية تقريباً، فالتفت يضحك مع هؤلاء الشباب الضاحكين، وقال: هذا كأنه ابن تيمية؛ لأن النصيريين يكرهون ابن تيمية كراهيةً شديدةً حتى في زمن من الأزمان قيل: إن واحداً من الشياطين قال: هاتوا لي ابن تيمية حياً أو ميتاً قالوا: هذا ميت من سنة سبعمائة وعشرين هجري، من أين آتي لك به الآن؟ فالحاصل أن هذا الذي يعمل في الديكور استهزئ بـ ابن تيمية، ففي تلك اللحظة قام ذلك الشاب الذي يجلس ينظر إلى هذا الفلم وأصبحت يقظة؛ لأنه ضرب ضربةً في صميم مثله ومبادئه وقيمه وقادته الأوائل، فأخذ الحذاء وقام يضرب ويلطم على وجه ذلك العامل إلى أن أخرجه قال: ما عاد إلا ابن تيمية، إذا كان هذا المجلس جعلنا نصل إلى هذه الحالة من سب علماء الإسلام وجعل هؤلاء يتجرءون علينا انتهت القضية، وكانت فكرةً بعد سكرة، وكان أمراً بعد خمر، وكانت يقظةً بعد غفلة، نحن نريد من شبابنا يقظة، نريد من شبابنا عزة، نريد من شبابنا ألا يروا الغرب إلا كالأحذية، ونريد منهم أن يسابقوا الغرب في التكنولوجيا والعلوم التطبيقية والاختراعات، ولا يكفي أن نسخر بالغرب ونستهزئ به ونحن فقط لا نملك إلا سب الغرب وشتمه، نريد أن ننافسهم في الذرة والإلكترون وبما استطعنا من جدٍ ومثابرةٍ واجتهاد {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] هذا أمر نريده من شبابنا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] الشباب اليوم يكدحون لكن بعضهم يكدح ثم يسعى في غضب الله، وبعضهم يكدح ويسعى في طاعة الله ومرضاته {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] الأمر بين أيدينا إن شئنا أن نكون ممن يشترون أنفسهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فإن الله رءوف بالعباد يقبل توبة عبده ولو أسرف على نفسه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزمر:53] ومن أعرض ونأى وغفل وأصر على معصيته وسوف وقال بعد أن نشيب وبعد أن نكبر، لعل وربما نتوب فقد تفاجئه المنية:
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(64/17)
دور جليس السوء
ختاماً: أيها الشباب انصحوا وذكروا من تعرفون ممن وراءكم من الشباب أن تحذروهم من جلساء السوء، كم من شابٍ كان عابداً فأصبح فاجراً بسبب جليس، كم من شاب كان عفيفاً فأصبح داعراً بسبب جليس، كم من شابٍ كان طاهراً فأصبح مدمناً بسبب جليس، كم من شابٍ كان غيوراً فأصبح ديوثاً بسبب جليس، الله الله تفطنوا والتفتوا وانتبهوا لهؤلاء الجلساء؛ لأن الفساد لا يقع فجأة، لا يوجد شاب يحاكم في الزنا يقول: والله كنت ماشياً ذاك اليوم وقابلتني امرأة فرمت بي أو رميت بها فزنيت بها، لا، إنها خطوات أولها: الجليس، أو النظرة أو السهام التي يقذفها الشيطان لتقرب إلى هذه المعصية، ولذلك قال الله عز وجل: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] فقبل الزنا نظرة وابتسامة، كما قال الشاعر:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
نظرةٌ فابتسامة فسلامٌ فكلام فموعد فلقاء
أيها الشاب: قل لمن تعرف من هؤلاء الشباب الضالين عودوا إلى الله عز وجل قبل أن يفيق الواحد ويقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] قبل أن يقول {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27].
{يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29] إن أخطر ما على الشباب اليوم رفقاؤهم الذين يزينون لهم المعصية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
واختر من الأصحاب كل مرشد إن القرين بالقرين يقتدي
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأرداء فتردى مع الردي
أود أن نكمل هذه المحاضرة حتى لا أطيل عليكم في مناسبة أخرى، عسى الله أن يجعلها قريبةً بمنٍ منه وكرم، ونجعل ما بقي من الوقت للأسئلة وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(64/18)
الأسئلة(64/19)
علاج سوء حال المخيمات
السؤال
فضيلة الشيخ سعد: بارك الله فيكم، لسان حال بعض الشباب في المخيمات يقول: خرجنا لهذه المخيمات للترفيه والمرح والسعادة، ولكن مع الأسف الشديد نضيع الصلوات؛ سهرٌ في الليل ونومٌ في النهار نرجو التوجيه؟
الجواب
أيها الأحبة! إن كثيراً من الشباب يقعون في معصية الله وسخط الله وغضبه ولكن لا يصارحون أنفسهم، ويصدقون في نقد بعضهم لبعض والمجاملة تغلب عليهم فيقولون: نخرج من أجل النزهة، ونخرج من أجل الترفيه المفيد، نحن لا نقول: هذا عيب ولا حرام أن يخرج إلى النزهة، ما الذي يحرم عليك أنك توسع صدرك في مخيم في استراحة {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] لا أحد يحرم عليك هذا لكن حينما تجد أن هذا العمل قد أفضى بك إلى ضياع الواجبات وفعل المحرمات، فاعلم أن هذا عمل يضرك ولا يسرك، وهل هناك ما يمنع أن تتواصوا قبل أن تخرجوا إلى المخيم بضوابط، أولها: إذا دخل وقت الأذان فلانٌ يؤذن وفلانٌ يصلي الفجر، فلان يوقظنا لصلاة الفجر، لا نسهر في الليل ثم نصليها في الضحى أو الساعة العاشره أو الحادية عشرة، وبعض الشباب للأسف لا يصليها، وبعضهم لو دخل عليهم طالب علم أو شاب فيه خير يريد يعطيهم كلمة توجيهية إرشادية لمدة عشرين دقيقة، قال: يا ألله! حتى في البر نلقى مطاوعة، سبحان الله العلي العظيم، يا أخي الحبيب أين تريد أن تلقاهم؟ في المقبرة إن الأموات لا تنتصح، أنت المحتاج إلى النصيحة، ثم اسمع ولا تجعل الشيطان حجاباً بينك وبين النصيحة، بعض الناس حينما يأتي أحد ينصحه يقول: كلها عشرين دقيقة وما عليك إلا أن تتحمل فقط، لكن حالهم في آذانهم وقر، وعلى أبصارهم عمى، وعلى قلوبهم أكنة، وما عنده استعداد يسمع كلمة، يعني: ما يضرك حتى لو الشيشة قدامك، والطيران على يسارك والكمنجة وراءك والعود على يمينك والتلفزيون أمامك، لا يضرك أنت ركز فقط على الكلام واسمع هل يعطيك كلام خرافات أو كلاماً حقيقياً؟ هل هذا الكلام صحيح أو كذب؟ هل هذا الكلام ينفع أو يضر؟ هل هذا الكلام معقول أو غير معقول؟ وكثير من الشباب يحجب الشيطان عن النصيحة.
كان الطفيل بن عامر الدوسي يحذرونه ويقولون: انتبه إن قدمت على محمد فإن عنده كلاماً ليس بسحرٍ بل أشد من السحر يفرق بين المرء وزوجه ويجعل الرجل صابئاً في دينه، فإن ذهبت إليه؛ فاجعل في أذنيك قطناً يعني: انتبه تسمع له فوضع الطفيل القطن في أذنيه يوم قدم: قال إني لمن شعراء العرب وأعرف سجع الكهان وأعرف مليح الكلام من قبيحه فلماذا لا أسمع منه، فإن كان حقاً قبلت، وإن كان غير ذلك رددت، فجاء وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زدني فزاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وللأسف بعض الشباب عنده فكرة أنه يؤجل الدور الثاني الذي هو عقله، فقد أعطى عقله الشباب ورئيس الشلة ورئيس المخيم ورئيس المجموعة إن كان فلان ذاك التزم وتاب، فسألتزم، وإن ظل سيئاً فنحن مثله، وإن كان استقام فحن سنستقيم، هذا جهل: (لا يكن أحدكم إمعة إن أحسن الناس أحسن، وإن أساءوا أساء، ولكن يكن ذا رشدٍ وعقل، إن أساءوا أحسن، وإن أحسنوا أعان على ذلك).(64/20)
برنامج يومي لمخيمات الشباب والعوائل
السؤال
آمل إعطاء برنامج يومي لنا في مخيم الشباب أو العوائل لأن كثيراً من المخيمات يضيعون الوقت.
الجواب
ينبغي أن يكون الإعداد للمخيمات قبل وقتها، فإذا كان يوجد في المخيم سواء كان مخيماً عائلياً، أو مخيم شباب إذا كان يوجد فيه من العقلاء أو من طلبة العلم، أو من الشباب مهما كان تخصصه ودراسته سواء كان ميكانيك أو كهرباء أو لحام أو سمكرة، المهم عنده احترام لشخصيته وعقله ووقته، يجعل وقتاً محدداً يعني: احترام الزمن يجعلك تجد لذة الوقت، النوم في هذه الساعة فيطفئ نور المخيم ويستسلم الجميع للنوم، فيأتيك شخص يقول لك: والله أنا ما أتاني نوم ماذا أعمل؟ قل له: قل: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير قلها مائة مرة، لو قلتها عشرين مرةً جاء الشيطان قال: يكفي نم خلاص، يخليك تنام وهذا مجرب والله يقول بعض الإخوان وهذا شيء ربما نحن جربناه أيضاً يقول: والله إن الأستاذ أحياناً على السرير يأتي الشيطان يطير عليه النوم ويسهره من أجل أن يضيع عليه الفجر، يقول: إذا جاك النوم ضع المصحف بجانبك وإذا ما جاك افتح المصحف والله ما تقرأ صفحتين إلا وأنت تغط في نومٍ عميق وهذا مجرب، فنقول: يحدد وقتاً معيناً للنوم، تطفئ أنوار المخيم والجميع ينامون، وقت الفجر يقوم أحدهم يؤذن، يصلون الفجر ويذكرون الله ويقرءون قليلاً من القرآن ويعودون إلى النوم إن شاءوا وإذا كانوا شباباً يتدربون، ثم سيجدون لذة النهار بالاستفادة من الصباح.
لكن بعض الشباب هذه الأيام يسهرون طوال الليل ثم من آخر الليل من الساعة الثانية أو الثالثة نوم ولا يصلي الفجر ولا شيء، ثم يقوم الساعة الحادية عشرة كسلان وهذا مضيعة وقت ثم يقومون لا يشتهون فطوراً ولا يتمتعون بالغداء بسبب ما أصابهم من العجز والكسل، لكن انظر إلى نشاطهم عندما يستيقظون من الصباح ويستمتعون بهواء الصبح إذا تنفس، وصفاء الجو ونقائه ثم الضحى ثم يتناولون فطوراً جميلاً ورياضة وشيئاً من القراءة وقيلولة قبل الظهر وفي الظهر إعداد الغداء، وبعد العصر قراءة في كتاب، ثم يوزعون أنفسهم فريقين أو ثلاث فرق، إن كانوا يلعبون كرة قدم أو طائرة إلى المغرب يصلون ثم قراءة إلى العشاء، وفي نفس البرنامج يجدون متعة وليس بشرط كرة القدم أضف إليها ألعاباً أخرى، تمرينات وتدريبات فسيجدون وقتاً.
كذلك الأسر عندها المسابقات والكتيبات والقراءة والأمور النافعة وعندهم الحديث الطيب في قصص الأولين والآخرين والمغازي وما حصل أيام الجاهلية وأيام كذا وما الذي حصل قبل فتح الرياض وأيام زمان، لكن أن يضيع الوقت بهذه الطريقة التي عليها كثير من الشباب والله إن الإنسان يرثي لحاله.(64/21)
شاب متردد في التوبة
السؤال
فضيلة الشيخ شابٌ متردد في التوبة هل من توجيه إليه؟
الجواب
لا تتردد يا أخي يقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] والله ما يردك عن التوبة إلا الشيطان يريد أن يفاجئك فيها قبل أن تتوب وإن تبت إلى الله، فأبشر فإن الله يفرح بك: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحد أضل ناقته وعليها طعامه وشرابه الخ) إن الله يفرح بتوبة العبد وإذا تبت توبةً صادقةً أبشر؛ فإن الله يبدل سيئاتك حسنات وبالمناسبة كثير من الشباب إذا أراد أن يتوب يذهب إلى عند أحد المشايخ يقول: يا شيخ أنا سافرت يوم كذا وسويت يوم كذا وأخطأت وفعلت لا تقل ذلك، بل إذا تبت إلى الله فاشكره ولا تخبر أحداً بشيءٍ أبداً ولا تتكلم عما ستره الله عليك ولا تكشف أوراقاً قد أودعها الله في كنف الستر.
والحمد لله رب العالمين.(64/22)
إن ربك لبالمرصاد
إن الله جل وعلا يهلك الظالمين والطغاة على مر العصور والدهور ولو بعد حين، ولكن يجب على الأمة أن تنتبه من أعدائها، وأن تحرس أوطانها، وكذلك يجب عليها أن تعود إلى الله بالدعاء والتوبة والإقلاع عن جميع ذنوبها، هذه هي أسباب النصر بالإضافة إلى العدة والعتاد.(65/1)
الله بالمرصاد لكل طاغية
الحمد لله، الحمد لله الذي بأمره تنسف الجبال نسفاً، فتكون قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، الحمد لله الذي بأمره تنكدر النجوم، وتنفطر السماء، وتنشق السماء، وتمد الأرض، وتسجر البحار وتفجر، الحمد لله الذي بيده مقاليد السماوات والأرض.
الحمد لله العظيم الذي تكون الأرض بيده يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، الحمد لله منزل النعم، ودافع النقم، الحمد لله منشئ السحاب، منزل الكتاب، هازم الأحزاب.
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي سبب الفوز والنجاة، وهي سبب النصر والرفعة، وهي سبب العزة والكرامة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: يقول ربنا جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] ويقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:6 - 14].
الحمد لله القائل: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات:38 - 45].
الحمد لله الذي لا يعلم جنوده إلا هو: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].(65/2)
طاغية العراق يتعدى حدود الله
عباد الله: كلكم قد سمع وتابع بمنتهى الحرص والعناية والاهتمام ما كان قبل ليلتين، وذلك بحلول وعد الله، وسوء عقابه على يد جندٍ من جنوده، بذلك الطاغية الذي طالما تكبر وتجبر، وطالما دعي إلى السلم مع أهون شروطه وأبسط قواعده وأهون التزاماته، ومع ذلك أبى إلا هذه المعركة.
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجّمِ
أبى إلا تلك الساعة، فكانت بأمر الله الساعة، كانت ساعةً أقضت مضجعه، ومزقت شمله، وفرقت جمعه، ولا عبرة بما تسمعون من بعض الإذاعات المرجفة أو العميلة والدخيلة التي تهون من شأن المصائب التي وقعت على أم رأسه، أو تبالغ، أو تفتري مصائب وقعت بمن وقفوا في وجهه.
عباد الله: كل ذلك بقدر الله، كل ذلك بأمر الله، ووالله لقد سألنا الله أن يدفع البلاء عن المؤمنين، وإن كان في الحرب خيرٌ للأمة، فقد سألناها الله أن تكون مدمدمةً لهذا الطاغية، لقد آن له أن يستوفي حسابه، وأن ينال جزاءه، أين دماء الأكراد؟ هل ينساها التاريخ بوضع كلمة الله أكبر على راية الجيوش؟ أين دماء الأكراد؟ وهل ينساها التاريخ بدعوى الإسلام والجهاد زوراً وبهتاناً؟ أين علماء العراق؟ أين عبد العزيز البدري؟ أين العلماء الذين شردوا من العراق؟ أين العلماء الذين قتلوا شنقاً وغيلةً؟ أين أولئك جميعاً؟: (بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين) {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
أعطى زعماء الدول المجاورة وعوداً بالكف عن جيرانه، وعدم الاعتداء والغزو عليهم، وفي ليلة ليلاء مظلمة ظلماء إذ به يجر جيوشه لتزحف على جارة صغيرة وادعة، وفي نفس الليلة جاءته الجيوش الجرارة من بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته، اعتدى على الكويت قبل فجر الخميس اعتدى على الكويت في الساعة الثانية والنصف، وضرب في الثانية والنصف، في اليوم والساعة واللحظة والتاريخ، إن الجزاء من جنس العمل، ومع ذلك -يا عباد الله- لا يزال المغرورون به المخدوعون بوهم عظمته يطبلون ويغنون له، ويزعمون أنه هو الذي سيصمد لهذه الأمة في الساحة.
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامةٍ يا مربع(65/3)
إياكم أن تغتروا ببعض أعمال الطغاة
وإن مما زادني عجباً ودهشةً ما سمعت البارحة أنه وجه بعض الصواريخ إلى إسرائيل، وهذه حركة المذبوح، ليست غيرةً على اليهود، فليس بأهلٍ أن يغار لهم، ولكن أين هذه الصواريخ في اليوم الذي ضربت فيه الكويت؟ لماذا لم تبدأ بها إسرائيل؟ أين هذه الصواريخ في بداية معاركه، أيام تهديده ووعيده؟ ولكن وكان العقلاء يقولون هذا في اللحظة التي لم يبق ولن يبقى معه إلا قليلاً من العدد والعدد سيوجه اثنين أو ثلاثة منها إلى إسرائيل لا حباً في الجهاد، ولا كراهيةً في اليهود، وإنما ليقول الغوغاء والبسطاء والسذج والعامة: انظروا فهذا قائد مخلص، ولكن ما سبق من أفاعيله وأباطيله لا تجعل عقلاء الأمم تنطلي عليهم هذه الحيلة، من ضربه بعض الصواريخ لتلك البلاد، مع أننا لا نشك في وعد الله لأمة الإسلام، التي ستواجه اليهود يوماً ما، ولكن من الذي يواجه اليهود؟ هل هم البعثيون الذين يقولون:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
أولئك الذين يواجهون إسرائيل؟ من الذي يواجه إسرائيل؟ أولئك الذين يقولون:
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
لا.
يواجه إسرائيل الفئة المؤمنة الطاهرة المتوضئة، التي أخلصت ولاءها لله ولرسوله ودينه، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! -ولا يقول يا بعثي- يا مسلم! ورائي يهودي تعال فاقتله، تلك الموقعة التي هي بشارة المؤمنين بالمعركة الفاصلة مع اليهود، أما هذه فتمثيلية تنطلي على السذج والبسطاء إذا رأوا قذيفة أو اثنتين سقطت في تل أبيب، قالوا: إن الرجل بحق يجاهد اليهود في فلسطين، لا والله، إن الذي يدرك سيرته، وتاريخ حزبه، وأفكار منظمته، وحقائق ملته وبدعته هذه، بل وكفره وطغيانه، يعرف أنه ليس بكفءٍ وليس أهلاً أن ينال شرفاً يدعي به جهاداً يواجه به اليهود.
عباد الله: هذه عقوبة الله لهذا الطاغية المتجبر، فكم من طفل مات في الصحراء عطشاً! وكم من عذراء انتهك عرضها! وكم من حصون رزان عفيفةٍ منيفةٍ اغتصبت غصباً! وكم من أناسٍ فتحت عليهم أفواه البنادق والرشاشات ظلماً وعدواناً! وكم من أناسٍ سلبت أموالهم وشردوا، حتى بحثوا عن أهليهم وذويهم في الإذاعات، هذا في الشرق، وهذا في الغرب، هذا في الشمال، وهذا في الجنوب! نسأل الله أن يعجل وأن يضاعف له العقوبة، وأن ينتقم للأيامى والثكالى، والأرامل واليتامى، والأطفال والشيوخ، والعجائز والمعوقين منه، لقد فعل بهم الأفاعيل {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:132].(65/4)
واجب الأمة عند المحنة
معاشر المؤمنين: وأمام هذه الأحداث ماذا ينبغي علينا فعله؟ ما هو واجبنا تجاه المرحلة التي تعيشها أمتنا؟ هل ينقسم المجتمع إلى رجال أمن في الداخل، وجنود على الحدود وفي الميادين؟ لا.
كلنا في هذه الأيام جنودٌ لأمتنا، كلنا خدمٌ لإخواننا، كلنا عونٌ لبعضنا البعض، إلا نفعل ذلك: {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].(65/5)
حراسة الأوطان
ينبغي أن ندرك تمام الإدراك أن على كل واحد منا مسئولية عظيمة، وواجبات كريمة، شرفنا الله بها، وكلفنا فضلاً بها، فلنتمسك بما أوتينا، ونلتزم بما عهد إلينا، وأصرح بعد العموم قائلاً: إن واجب الناس في المجتمعات والأحياء أن يكونوا حراساً لمجتمعاتهم، وأسواقهم ومتاجرهم، وليعرفوا تمام المعرفة أن الأمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ما من مجتمع يخلو من المتربصة والمرتزقة والدخلاء والعملاء، فلننتبه لوجود هذه الطائفة، ولنحرص تمام الحرص أن نكون عيوناً ساهرةً، وجنوداً باصرةً، لنعرف ماذا يدور في المجتمع تمام المعرفة.
واجب الشباب في كل حي من الأحياء أن يرتبوا أنفسهم، وأن يعرفوا عدد الشباب الموجودين في كل حي، بترتيب مع عمدتهم، أو إمام مسجدهم، ويعدوا أنفسهم وأسماءهم في قائمة، وأن يبلغوها لأقرب مركز من مراكز الشرطة، ويقولوا: هؤلاء الشباب بأرقام هواتفهم تحت طلبكم في أي لحظة، إضافةً إلى أنهم موجودون في الليل دوريةً راجلةً، أو سيارةً في الحي لكي يتتبعوا أي وجهٍ غريبٍ، أو حركةٍ عجيبةٍ، أو فعلٍ مشبوهٍ، أو تصرفاتٍ تثير العجب والدهشة، من واجب الشباب أن يهتموا بهذا تمام الاهتمام.
ومن واجب أهل الأحياء أن يتعرف كل واحد على أسماء جيرانه، ومن حوله، فعدد الفلل التي عن يمينه، والتي عن شماله، ومن المصيبة أن نقول هذا الكلام اليوم؛ لأن واجب المسلم أن يعرف جيرانه حق المعرفة من قبل، ولكن كيف وقد حصل عند بعض المسلمين تقصير في معرفة جيرانهم وأهل حيهم، من واجب كل واحد أن يطرق الباب على جاره، وأن يسأله عن اسمه إن كان يجهله، ورقم هاتفه وعدد أولاده الشباب، ثم يأتي إلى الذي بعده، وأن يتناوبوا الليل بين الفينة والأخرى، يخرج اثنان منهم فيلتفتوا ويدوروا وينظروا ويتأملوا، هل يدور في هذا الشارع أمرٌ غريب أم لا؟ حينئذٍ يبقى المتربصون محبوسين في كيدهم، وفي باطنهم لشدة ما يرون من إعداد المؤمنين لهم.
فيا معاشر الإخوة: هذا واجبنا إن لم نكن على الحدود، وإن لم نكن في مهمة مدنية أو عسكرية، فإن واجبنا في أحيائنا قائم، وانتبهوا جيداً لكل مرفق من مرافق أرضكم ومجتمعكم وأمتكم، لا تقل هذا ليس في حيٍ لنا، أو هذه ليست بمملوكة لنا، لا.
وإنما كل عمل ترى فيه عجباً ودهشةً، فعليك بأن تضاعف، وأن تثير حب الفضول، وأن تعرف ماذا يدور، إن كان تحت سمع وبصر، وإلا فبلغ وتابع وتحر وابحث، لكي تعرف ماذا يدور في مجتمعك تمام المعرفة، هذا من واجبنا، ومن مسئولياتنا، أن نشهد جميعاً هذه الحرب وأن نواجهها، والحمد لله على كل حال إن كان قدر للأمة أن تواجه حرباً، فالحمد لله على مقاديره التي تدور على تمام العدل؛ لأن الله لا يقدر ظلماً، والحمد لله على مقاديره التي تدور على تمام الحكمة؛ لأن الله لا يقدر عبثاً، والحمد لله على مقاديره التي تقوم على الرحمة، لأن رحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء.(65/6)
تقديم الأمة أبناءها للجهاد
الحمد لله على كل حال، ثم ماذا؟ كذلك على الأمة أن تقدم من فلذات أكبادها من أبنائها من رجالها شباباً شهداءً، نسأل الله أن يكرمهم بهذا، إن يمت لا يجد من آلام الموت إلا كالقرصة، وما أن يسيل دمه إلا يغفر له عند أول دفعة من دمه ويرى مجلسه من الجنة، ويؤمن من فتنة القبر، وله اثنتان وسبعون حورية، ويشفع في سبعين من أهل بيته، هكذا أعد الله وعداً جزيلاً لعباده المؤمنين الصادقين المجاهدين المخلصين لإعلاء كلمة الله، للذود والذب عن أعراضهم، وعن مقدساتهم، وعن أموالهم وأنفسهم وحرماتهم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد) بفضل الله ومنه وكرمه أن جعل الموت ساعةً لا تتقدم ولا تتأخر، مع أن الموت ساعةٌ لا تتقدم ولا تتأخر جعل الله لمن مات في جهاده مخلصاً من قلبه، جعل الله ميتته شهادةً في سبيله، وإلا فإن الموت يدركه سواءً كان في الجبهة والميدان، أو كان على فراشه وسريره، لكن لما عظمت همته، وعلت نفسه، أكرمه الله بمنه وفضله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113].
معاشر المؤمنين: لقد رأينا من شبابنا -بفضل الله ومنه- ما يثلج الصدور ويطمئن القلوب والأفئدة، فنسأل الله لأولئك الشباب -سواءً كانوا من الطيارين، أو كانوا في القوات البرية، أو من المشاة والمدفعية، أو في أي مجال من المجالات، أو كانوا في عداد المتطوعين- نسأل الله أن يربط على قلوبهم، وأن يقذف السكينة في نفوسهم، وأن يثبتهم، وأن يرفع درجاتهم في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعل عملهم هذا خالصاً لوجهه، نسأل الله أن يرزقهم الاحتساب، نسأل الله أن يجعل هذا في أثقل أعمالهم يوم القيامة، فاسألوا الله أن يجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافيةٍ، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمةً بفضل الله جل وعلا.
عرفنا منهم عدداً من الطيارين، ورأينا منهم عدداً من الضباط والأفراد، كلهم بمعنويات عالية، وحديثهم ونشيدهم:
خرجنا إلى الحرب شُمَّ الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمرُّ على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابها
ونعلم أن القضا واقعٌ وأن الأمور بأسبابها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نلق حتفاً فيا حبذا الشهادة تجي لخطابها
وكم حيةٍ تنطوي حولنا فننسل من بين أنيابها
الحمد لله الذي جعل في أمة الإسلام أمثال هؤلاء الشباب، ونسأل الله أن يجعل جميع شباب الأمة على هذا القدر، وعلى هذه المعنوية، وبهذا الإخلاص والاحتساب.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(65/7)
الحمد والثناء لله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر الأحبة: من صنع للأمة نصرها؟ أهم أولئك الذين يطنطنون: سنحرق إسرائيل بالكيماوي؟ من الذي صنع للأمة نصراً؟ من الذي أنزل على الأمة نصراً؟ من الذي نصر الأمة في هذه المواقع، أو جعل الدائرة لهم في رحى الحرب القائمة؟ أهم أولئك الذين طنطنوا زمناً طويلاً؟ أهي دباباتنا؟ أهي طائراتنا؟ إنه الله وحده، إنه الله وحده، إنه الله وحده، لأن كل ما بين أيدينا هي أسبابٌ مع تهيئ الظروف عامة، الطقس المناخ الضباب الأجواء تحديد الهدف سلامة الآليات من العطب أن يكف الله جنوده في الأرض ألا يكون لها سعيٌ إلى هذه الآليات فيفسد فيها شيء هو الله جل وعلا، ولما واتت هذه الظروف، واجتمعت هذه العناصر، كان لهذه الآليات فعلاً عجيباً، ولو اختلفت السنن والظروف التي تعمل فيها هذه الآليات والمعدات لما استطعنا أن نحقق شيئاً، فالفضل لله، فالفضل لله، فالفضل لله، الحمد لله أولاًَ وآخراً، ظاهراً وباطناً الحمد لله، اجعلوا هذا الحمد والثناء على الله في كل مجال، احمدوا الله في كل حال.
قيل: وإن كان المثال فيه نوع بعد عن الحادثة، لكن حتى نعرف كيف يتعلق الناس بالله جل وعلا، طارق بن زياد طلب منه أن يستسقي بالناس، فأمر قبل خروجه بالناس أن يخرج الناس بأطفالهم وصغارهم وبهائمهم، ثم قال: حيلوا بين الإبل وحيرانها، وبين النعم والبهائم وصغارها، وبين الأمهات وأطفالها حتى علا الصياح وارتفع النحيب، وجأر الجميع إلى الله جل وعلا، كلهم يصيح: يا ألله -حتى البهائم تعرف ربها في الشدة- ثم خطب الناس خطبةً بليغةً، وفي ختامها قال له أحدهم: هلَّا دعوت للخليفة، فقال: هذا مقامٌ لا يحمد فيه إلا الله، فالحمد لله، الحمد لله.
الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، علقوا هذا النصر، وعلقوا هذه الجهود، أو هذه الدائرة التي تميل كفتها لصالح أمة الإسلام، احمدوا الله جل وعلا عليها، احمدوا الله وحده، ثم ثنوا بالشكر والدعاء لأبنائكم ولقادتكم ورجالكم، فيما بذلوه وعملوه في هذه المواقع، أما أن يعتقد الناس -وحاشا وكلا، ومعاذ الله أن يحصل هذا من مسلم- أن يعتقد أن النصر بيد الدولة الفلانية، أو القوة الفلانية، لا.
إذا تعلقنا بالله جل وعلا تنزّل النصر: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] كانوا في بدر أذلة، قلة، ضعفة، وكان تعلقهم بالله عظيماً، فنصرهم الله جل وعلا، ويوم حنين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، فلما وكلوا إلى كثرتهم: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
فينبغي أن نحمد الله جل وعلا، وأن نكثر من حمد الله والثناء عليه، حمد الله بالفعل، وحمد الله بالقول، وحمد الله بالاعتقاد، إذ لولا فضل الله وهذه السنن التي سخرها الله، لما استطاعت هذه الآليات، ولا هذه الدبابات، ولا هذه الطائرات أن تفعل فعلها، فالحمد لله الذي سخر هذه السنن الكونية في ظروف لتعمل معها هذه الآليات أجود كفاءة وأفضل عمل، ثم الحمد لله على ما هيأ للأمة، وسخر لها، ونسأل الله أن يتم النصر للمؤمنين، وأن يهلك أعداء الدين، وأن يمحق، وأن يقطع دابر الكافرين أجمعين.(65/8)
من أسباب النصر ترك المعاصي واللجوء إلى الله
معاشر المؤمنين: ينبغي أن نتقرب إلى الله في هذه الأيام، مزيداً من التقرب ليس بفعل الطاعات أولاً، بل بترك الذنوب والمعاصي، إن ترك الذنوب والمعاصي أعظم قربة من فعل الطاعات والعبادات، إن ترك الذنوب والمعاصي مع فعل الواجبات أفضل وأحب إلى الله جل وعلا من كثير من النوافل وغيرها.
فترك الذنوب والمعاصي، ترك المخالفات الشرعية التي يتهاون بها كثير من المسلمين، من أعظم أسباب النصر والثبات للأمة، ثم الاجتهاد في الطاعة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدنَّكُم} [إبراهيم:7] فلنشكر الله جل وعلا بمزيد من الطاعة، بمزيد من الثناء والحمد والتسبيح والتهليل والتكبير، بمزيد من الأعمال الصالحة.
الدعاء، الدعاء يا عباد الله، نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد أعد ما استطاعه، لما باتت الحرب وشيكةً في بدر أخذ يرفع يديه إلى السماء، ثم يرفعها ويرفعها وتعلو ويرفعها ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعد اليوم) ويدعو ربه دعاء المضطر الملح، فيأتيه أبو بكر، ويقول: [يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، إن ربك منجزٌ لك وعدك] رسولٌ معصومٌ مؤيدٌ بالوحي والمعجزة، ومع ذلك تنتفض يده ويرفعها في السماء، وهو يدعو ربه، ولكن لا غنى له عن الدعاء، فليس لنا غنىً عن الدعاء، فلندع الله جل وعلا أن يثبت أقدامنا، وأن يجمع شملنا، وأن ينصرنا على أعدائنا، ولنكثر من الدعاء أن يؤمننا في أوطاننا، وفي دورنا، وأن يحفظنا في أدياننا وفي أعراضنا وأبنائنا.
أكثروا من الدعاء يا عباد الله، وتتبعوا عجائز المسلمين، الذين لا يعرفون في الصحافة، ولا يعرفون في الإعلام، ولا يعرفون على المنابر، ولا يعرفون في المواقف، لكن لهم أبواب معروفة في وسط الليل، تتبعوا عجائز المسلمين وشيوخ المسلمين، وارعوا أحوالهم، وتفقدوا حاجاتهم، واطلبوا منهم مزيداً من التضرع والدعاء لأمة الإسلام، فإن الدعاء يرفع من البلاء أمراً لا تعلمونه، الدعاء الدعاء: (إن القضاء والدعاء ليعتلجان في السماء فأيهما غلب على الآخر غلب عليه) القضاء قدر ينزل، والدعاء قدر يرتفع، وأقوى القدرين بقدر الله يغلب الآخر، كلها بقدر الله، فاجتهدوا في الدعاء يا عباد الله خاصةً في المساجد، في صلاة الفجر، في صلاة المغرب، في الصلوات كلها، صح في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في المغرب والفجر، وقنوت النوازل أمرٌ مشروع، وأي نازلة أعظم من هذه.
نسأل الله جل وعلا أن يستجيب دعاء المؤمنين، وألا يحجبه بذنوبهم وغفلتهم.(65/9)
عليكم بالإكثار من الصدقات
ثم الصدقة الصدقة، هذه أيامٌ ينبغي أن يلاحق الفقير لكي يتصدق عليه، لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع سبعين باباً من أبواب البلاء، والصدقة تذهب شؤم المعصية والخطيئة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فتتبعوا المساكين، وعلى كل سامع هذا الكلام، وعلى كل واحد في هذا المسجد أن ينقل الفكرة إلى جماعة مسجده؛ لكي يجعلوا مستودعاً للأغذية والأطعمة والملابس يجمعونها ليفرقوها على الضعفاء والمساكين، وليس من شرط الضعفاء أن يأتوا إلينا، بل من واجب كل حي أن يجعل شبابه من أنفسهم عملاً مرتباً يومياً يملئون ما حصلوا عليه من المعونات والأطعمة وغيرها، ثم يذهبون بها ليوزعوها على الفقراء والمحتاجين في بيوتهم، ويطلبوا منهم أن يسألوا الله للإسلام والمسلمين، ويطلبوا منهم أن يدعوا الله بنصر الإسلام والمسلمين، ويطلبوا منهم أن يدعوا الله بنصر المؤمنين والمجاهدين: (وهل ترحمون وتنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).(65/10)
إياكم ورفع الأسعار
الله الله في وقتٍ يغلو أو تزداد قيمة الريال في نفوس الناس وزناً في هذا الوقت، وشحة الناس على الأطعمة والأرزاق، ينبغي أن نقابل هذا بضده، فلنرخصه صدقةً في سبيل الله، ولنرخص الطعام والشراب كلٌ بما يستطيع، كلٌ عليه واجب أن يساهم في نصر الأمة، إذ أن نصر الأمة ليس طائرةً ودبابةً فقط، إن نصر الأمة دعاء، ٌ وصدقةٌ، وتضرعٌ، وقيامٌ، وتهجدٌ، وحربٌ، ومواجهةٌ، وطائرةٌ، ودبابةٌ، كل هذه عوامل النصر، وليست عوامل النصر أمراً واحداً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم احقن دماء الأبرياء في العراق، اللهم احقن دماء الأبرياء في العراق، اللهم احقن دماء الأبرياء في العراق، وأنزل بأسك الذي لا يرد على البعثيين، اللهم احقن دماء الأبرياء في العراق، وأنزل بأسك الذي لا يرد على البعثيين وعلى الحرس الجمهوري، وعلى أذناب هذا الطاغية، وعلى أعوانه، وأنصاره وجنده وحزبه.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد، اللهم جمد الدماء في عروقهم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعل سلاحهم في صدورهم، واجعل كيدهم في نحورهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم احفظنا بالإسلام، اللهم احفظنا بالإسلام، اللهم احفظنا بالإسلام.
اللهم لا تكلنا إلى قواتنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم ارفعنا بما آتيتنا، ولا ترفع يد الحفظ والعناية عنا، اللهم لا ترفع يدك الكريمة عنا، اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بحفظك، وأن تكلأنا برعايتك، اللهم ثبت جنودنا، اللهم ثبت قادتنا، اللهم ثبت رجالنا، اللهم أنزل السكينة في قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ارزقهم الاحتساب وحب الأجر والثواب، اللهم اجعل من مات منهم شهيداً، ومن عاش منهم سعيداً، اللهم عجل فرجك للمؤمنين، اللهم عجل فرجك للمؤمنين، اللهم عجل فرجك للمؤمنين يا رب العالمين يا أرحم الراحمين.
اللهم انتقم للأيامى والأرامل والثكالى والعجائز والمشردين والشيوخ أجمعين، اللهم اشف صدور المؤمنين من طاغية العراق، اللهم أهلك طاغية العراق وأذنابه ونوابه وأعوانه ومن عاونه، ومن بقي في حزبه وصفه من المفسدين والمرجفين والمضللين، اللهم اجمع شمل ولاة أمورنا، اللهم اجمع شمل ولاة أمورنا وعلمائنا، اللهم اجمع شمل الأمة أجمعين، اللهم اجمع شمل الأمة أجمعين، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وحوبنا وإصرارنا وإسرافنا في أمورنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم المجرمين.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم كما نصرت هؤلاء العزل الضعفاء المساكين، اللهم كما نصرتهم على روسيا، فانصر عبادك المجاهدين على طواغيت البعث، اللهم عجل نصرك لهم أجمعين بمنك وكرمك يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم انصر المجاهدين في فلسطين، اللهم ارحم المستضعفين منهم، اللهم ثبتهم، اللهم احفظهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة، وأهل الشجرة، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ومنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.(65/11)
أسباب شرح الصدور
إن مسألة انشراح الصدر مسألة مهمة، فقد امتنَّ الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن شرح صدره، فقال تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ).
وشرح الصدر: كرم في الخلق، وطمأنينة في النفس، وتواضع في المعاملة، وإقبال على الآخرة، وقناعة في الدنيا، وقد تحدث الشيخ هنا عن حقيقة انشراح الصدر وأسبابه.(66/1)
حقيقة انشراح الصدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء أن يكتب لنا ولكم جزيل الأجر وعظيم الثواب على ما نرجوه ونحتسبه عند الله عز وجل، من ستر العيوب وغفران الذنوب، ورفعة الدرجات ومضاعفة الحسنات.
أحبتنا في الله! كلمة أرددها دائماً في مستهل كل محاضرة، وهي أن كل من شغل وقته برياض الجنة، وحِلق الذكر، ومهابط الرحمة، ومنازل الملائكة؛ فلن يندم أبداً على مجيئه وجلوسه، وحسبه أنه في عبادة ينتظر بعدها عبادة، وفي مجلس تغشى أهله السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، فأسألكم بالله هل فينا من سيندم على مجلسه هذا بين يدي الله يوم القيامة؟
الجواب
لا.
وإنما الندم كل الندم يوم أن نتحسر على ساعات وأوقات ضاعت لم تكن في مرضاة الله، أو لم تكن في مباح يُعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.
وإني لشاكر ومقدر دعوة صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن غالب السدلان متع الله به ونفع بعلمه، لافتتاح هذا الموسم بهذه المحاضرة، التي أجدني محتاجاً إلى موضوعها، وربما بعض أحبابي بقدر الحاجة تلك.
أحبتنا في الله: أسباب انشراح الصدر كثيرة، ولماذا الحديث عن انشراح الصدر؟ لأنه منّة عظيمة امتن الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1 - 4].
واهتمامٌ بقضية انشراح الصدر لأنها منة وفضل دعوة دعا بها موسى عليه السلام لما حُمّل قولاً ثقيلاً، وتبعة جسيمة ليدعو ظالماً غاشماً طاغية جباراً يدعي الألوهية، فلما أدرك عِظم هذا التكليف العظيم، سأل ربه أن يشرح صدره، فقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:25 - 26].
واهتمام بقضية شرح الصدر؛ لأنها منة وفضل يختص الله به من يشاء من عباده: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] ولأن شرح الصدر هداية من الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
أحبتنا في الله! شرح الصدر: سلامته من الغل والحسد والحقد والكبر، وما أكثر الذين يدّعون لأنفسهم انشراح صدورهم، لكن صدورهم لما تزل فيها علائق من الحقد أو الحسد أو الكبر أو الإحن والضغائن، وشرح الصدر اتساع للمعرفة والإيمان، وشرح الصدر تنوره، ومعرفته للحق وثباته عليه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أكثر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شأن المرتدين، يقول: [فعلمت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للحق] لما رأى من وضوح الحق بين عيني أبي بكر وثباته عليه.
وشرح الصدر: طمأنينة النفس، وكرم في الخلق، وتواضع في المعاملة، وإقبال على الآخرة، وقناعة في الدنيا، ورضاً لا سخط معه، وشكر لا كفر فيه.
ولا شك أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم هو شرح حسي ومعنوي، قد اشتمل على صبره في الدعوة، وصفحه وعفوه عن أعدائه، ومقابلته الإساءة * بالإحسان، وثباته على الدين.
ولذا كان كما قلت أو أسلفت كان شرح الصدر مما دعا به موسى يوم أن أُمر بتبليغ الطاغية فرعون: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:24 - 31].
فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل بدأها بشرح الصدر، ثم تيسير الأمر، وهذان عاملان ذاتيان، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون وهو اللسان في الإقناع وبيان الحجة، وأن تُحل عقد لسانه ليفقه قوله، ثم العامل المادي الذي يحتاج إليه ممثلاً في المؤازرة: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه:29 - 31].
أيها الأحبة! وإذا تأملنا هذه الآية وجدنا أنه قد قُدم فيها شرح الصدر على هذا كله لأهميته؛ لأن من شرح الله صدره للحق قابل كل الصعوبات ورآها يسيرة، ولم يبال بأي عدو واجهه مهما كان عدده وعتاده، ولذا قابل موسى عليه السلام ما جاء به فرعون من السحر والسحرة بكل ثبات وطمأنينة ويقين بما شرح الله به صدره، ومن هنا ندرك أهمية انشراح الصدر.(66/2)
أسباب انشراح الصدر
أحبتنا في الله! ما أحوجنا إلى أن نبحث عن مظان هذه السعادة! وما أحوجنا أن نحقق لأنفسنا هذا الخير! وهو انشراح الصدر.(66/3)
التوحيد
أيها الأحبة! اعلموا أنه لا انشراح بدون عقيدة نقية أو توحيد خالص، فالتوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، السجود لله وحده، والخضوع له وحده، والخوف منه وحده، والرغباء إليه وحده، فهو الذي يُدعى سبحانه لا شريك له، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت، وإليه المنتهى في كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، قدر المقادير، وكتب الآجال، ووسع على العباد في الأرزاق، وضيق على من يشاء، يذل من يشاء ويعز من يشاء، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، العبادة كلها دقيقها وجليلها له وحده لا شريك له، لا يُدعى ولا يسمى إلا بما هو أهله وما يليق به، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، فلا يسمى أو يوصف إلا بما سمى أو وصف به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
من حقق التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فإنه بإذن الله ممن يجدون انشراح الصدر ولذته، وطمأنينة الفؤاد وثباته، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأعظم أسباب شرح الصدور التوحيد، وعلى حسب كمال التوحيد وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، انتهى كلام ابن القيم.
وهذا معلوم -أيها الأحبة- لأن من تعلق بالله غاية التعلق، وتوكل إليه منتهى التوكل، فإنه في غاية الانشراح؛ إذ لا يكون أمر إلا بتقديره وتدبيره، ولا يستطيع العباد أن يقضوا شيئاً لم يقضه الله، أو يرفعوا شيئاً قد قضاه الله، أو يقبضوا شيئاً قد بسطه الله، أو يبسطوا شيئاً قد قبضه الله عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2].
إذاً أيها الأحبة! المؤمن على غاية اليقين: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] فهو على انشراح في صدره لا يخشى مصيبة؛ لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله، ولا يخشى أحداً في تقريب أجله؛ لأن الآجال بيد الله، ولا يخشى أحداً في قطع رزقه؛ لأن الأرزاق بيده سبحانه وتعالى، فعلام يخاف إذاًَ؟ وعلام ينقبض صدره؟ وهو يعلم أن الأرزاق والآجال والمنايا والمقادير كلها بيد الله، والمقادير كل المقادير تنطوي على تمام عدل الله؛ لأن الله لا يظلم، وتنطوي على كمال حكمته؛ لأن الله لا يعبث، وتنطوي على تمام رحمته؛ لأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه.
إن أولي العزم من الرسل الذين شرح الله صدورهم بهذا التوحيد، واجهوا كل الصعاب، وواجهوا كل التحديات بهذا التوحيد الخالص، وبهذا اليقين المنقطع النظير، فهذا نوح عليه السلام، لما جمّع قومه وألبوا، قال: {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] وانظروا قول الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} [الأنعام:80] وقوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام:81].
بل وهذه امرأة فرعون كانت تحت طاغية غاشم ظالم، وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم تلك التي شرح الله صدرها للتوحيد والإسلام فعرفت ربها، وآمنت بدينها وهي تحت هذا الضال الغاشم، يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
بل سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله عليه عز وجل قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
هل كل هذا الثبات؟ وهل كل هذا التحدي؟ وهل كل هذه المواجهة الصادقة التي لا يعترضها ريب أو تردد أو شك، إلا بسبب توحيد الخالق، ويقين عظيم أن الله عز وجل مُدبر الأمور ومقدر المقادير، وهو معهم أينما كانوا يحفظهم وينصرهم ويُعينهم، ومن حقق التوحيد فهو مُكرم بعناية الله ورعايته.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
إن الفتى الذي واجهه النمرود الطاغية الذي خدد الأخاديد، وشق الأحافير وملأها وأضرمها نيراناً، وألقى الناس رجالاً ونساءً وشباناً ورضعاً وشيباً فيها، ماذا قال ذلك الغلام؟ اللهم اكفنيهم بما شئت، ثقة بالله عز وجل فما ضره كيدهم إلا يوم أن أراد أن ينذر دمه في سبيل الله ونشر دعوته، إلا يوم أراد أن يسقي عقيدته بما يتناثر من أشلائه لما جعل صدره مسرحاً لسهام الطاغية، والثمن نشر كلمة التوحيد، قال له: إن شئت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، ثم أخرج سهماً من كنانتي واجعله في كبد قوسك، فإذا أردت أن ترمي به، فارفع صوتك وقل: باسم الله رب الغلام.
بعد أن كان لا يتسمى إلا بألوهية ذاته، وربوبية شخصه، وتصرفه وإرادته المطلقة، ظناً منه أنه المتفرد، فأراد ذلك الفتى أن يجعل من أشلائه ودمه قرباناً لكلمة لا إله إلا الله، وما أطيب هذا القربان! وما أجمل هذا العمل! في نشر هذه العقيدة.(66/4)
الإيمان
ومن أسباب انشراح الصدر: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، وسببه تلذذ بالعبادة، ومداومة لذكر الله، وأنس بطاعته، وطمأنينة إلى الخلوة بذكره عز وجل، إذا اجتمعت هذه العوامل، فإن الله يقذف في قلب العبد نوراً يورثه انشراحاً في صدره، وفي الحديث الذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟! قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله).
وهذا ملاحظ في أصناف معروفين معدودين من الناس، إن من الناس من جمع الله له من الأموال ما جمع، وجعل له من السلطان ما جعل، وهيأ له من أسباب النعم والجاه والسلطة ما هيأ له، ثم ترى انصرافه إلى مرضاة الله، وترى أنسه في طاعة الله، وترى لذته في تسلطه على أمواله لينفقها في سبيل الله عز وجل، فمن كان هذا شأنه يجمع حلالاً وينفق حلالاً في سبيل الله وجد انشراح الصدر كله.(66/5)
طلب العلم الشرعي ومذاكرته
أيها الأحبة! واعلموا -أيضا- أن من أسباب انشراح الصدر: طلب العلم ومذاكرته والاجتهاد في تحصيله، يقول ابن القيم رحمه الله عن العلم: فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يُورث الصدر الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً، انتهى كلامه رحمه الله.
ومما لا شك فيه أن مما يشرح الصدر كثرة المعرفة، وغزارة المادة العلمية، واتساع الثقافة، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وأصالة الفهم، والغوص في الدليل، ومعرفة سر المسائل، وإدراك مقاصد الأمور، واكتشاف حقائق الأشياء: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وإن العالم رحب الصدر، واسع البال، مطمئن النفس، منشرح الفؤاد، وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله، يحكي شيئاً من سيرته في طلب العلم، يقول: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، وهنا نصيحة أقولها للشباب وللناشئة، ولكل شاب لم يتزوج بعد، وأقولها لكل متزوج لم يعدد، وأقولها لكل متزوج لم تشغله مشاغل الذرية والزوجات، ومشاغل الحياة، أقول: إن صفاء الذهن وصفاء القلب وهمة النفس في طلب العلم قبل أن تمتلئ النفس بمشاغل القوت والولد والزوجات والبيوت.
يقول ابن الجوزي: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابلة ما يناله من لذات العلم، وهذا رأيناه في علماء أجلاء في كبر من سنهم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد منهم، تراه أشرح الناس صدراً فيما رأينا وعرفنا مع أنه فاقد البصر وكبير سن، قد لا يجد من لذات الدنيا ما يجدها بعض الشباب، لكن ما عوضه الله به من بركة العلم، والأنس بالدعوة، والاجتهاد في نفع الخلق يساوي أضعاف أضعاف ما يجده الشباب، أو ما يفوت في الكبر والمشيب.
وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله: فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابل ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب التي كان تأمل به إدراك المطلوب.
أيها الأحبة! لله در القائل:
اهتز عند تمني وصلها طرباً ورب أمنية أحلى من الظفر
الذي يتلذذ ويطرب في طلب العلم وسعيه وسبيله وطريقه لتحصيله يجد لذة، فما بالك بمن جنى العلم وحصله وتأمله، وغاص في أسراره وبحاره، ويقول ابن الجوزي أيضا: ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبية والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه -كلام نفيس وجميل لـ ابن الجوزي - قال: ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يُقاوم.
يقول ابن الجوزي: فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟ فقلت له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي من قبل النسوة لا وقع له عند رؤية يوسف، يذكر الآية {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:31] هول جمال يوسف عليه السلام، وهول لذة منظره ورؤيته، أنست كل واحدة منهن أن في يدها سكيناً قد حزت بها أناملها وسال الدم من يدها، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من أصبح وهمه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة تَكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته) وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى الله المسير إليه خيراً وإن ترك المطايا كالمزار
يقول ابن الجوزي أيضا: ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
ونمضي -أيها الأحبة- مع أهل انشراح الصدر من أهل العلم، الذين علموا أن العلم نشاط النفس ومتعة الروح، هذه المتعة تُنسي طالب العلم ما يلحقه من متاعب، وتخفف عنه ما يبذله من عناء؛ لأنه يجد في العلم مرتعاً يأوي إليه ويرتاح عنده، وبذلك تقوى همته في طلب العلم، ولا يشبع منه أبداً، وهذا مصداقه ما أشار إليه الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال).
ولقد عرفت من الصالحين ممن جمع بين التجارة والعلم، وممن جمع بين التجارة والدعوة، يُقسم بالله العظيم أن لذته في درس يحضره، أو محاضرة يُلقيها، أو مسألة يتعلمها؛ ألذ في نفسه، وأوسع لفؤاده، وأشرح لقلبه من مائة أو مائتي ألف أو أكثر من ذلك يجدها في صفقة تجارة، وما ذاك إلا لأن:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران
أيها الأحبة! النهم في طلب العلم دافع للعمل، مغذٍ للنفس، يزكيها ويشفيها من أمراضها، ويبعدها عن كل لذة محرمة أو شهوة خبيثة، قال الإمام الماوردي: العلم عوض من كل لذة، ومغنٍ عن كل شهوة، ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، فلا سمير كالعلم، ولا ظهير كالحلم، وما أحسن قول الشاعر:
شربت العلم كأساً بعد كأس فما نفد الشراب ولا رويت
وقد أورد الإمام ابن القيم قصة في هذا المجال عن شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر عن ذلك! أي: لا أصبر عن المذاكرة والمطالعة، فقال له الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقال له شيخ الإسلام: لا أصبر عن ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، شيخ الإسلام يناظر ويحاجج الطبيب إلى علمه، أليس النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى.
قال شيخ الإسلام: فقلت له: فإن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا، أي: أنت تصف لنا وصفة ودواءً ما درسناه وما عرفناه.
وختاماً في هذا الباب: إن أهل العلم هم أهل الشرف الحقيقي، وأهل العز الدائم والمنزلة العالية في الدنيا والآخرة، وهم أعلم الناس، وأحظى الناس بانشراح الصدر وكيفيته.
وأسوق قصة حُكيت عن خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله يُظهر فيها شرف العلم وانشراح الصدر في الدنيا والآخرة، وهذه القصة هي أن الحافظ ابن حجر رحمه الله خرج يوماً بتلامذته وأحبابه الذين يطيفون حوله كالهالة حول القمر، وكان آنذاك رئيساً للقضاة بـ مصر، فاعترضه في طريقة رجل يهودي في حال رثة، فقال اليهودي: قف يا ابن حجر! فوقف ابن حجر رحمه الله، فقال اليهودي: كيف تُفسر قول نبيكم؟ (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) -وهذا الحديث رواه الإمام مسلم - ثم قال اليهودي: وهأنت تراني في حال رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن.
فقال الحافظ: أنت مع تعاستك وبؤسك تُعد في جنة بالنسبة لما ينتظرك في الآخرة من العذاب الأليم إن مت كافراً، وأنا مع هذا الذي ترى إن أدخلني الله الجنة فهذا النعيم يعد سجناً بمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنان، فقال اليهودي: أكذلك يا ابن حجر؟ قال: نعم.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
وبذا نعلم أن السعادة كل السعادة وانشراح الصدر في العلم النافع والعمل بمقتضاه، كذا العز الدائم والرفعة في الدنيا والآخرة كلها في طلب العلم، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحال
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُفقر والإقدام قتال(66/6)
الإنابة إلى الله عز وجل ومحبته
ومن أسباب شرح الصدر: الإنابة إلى الله عز وجل، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم والتلذذ بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إن العبد أحياناً وهو في طريقه إلى المسجد، أو وهو في حال سجوده أو في حال ركوعه، أو في حال تلذذه بالمناجاة، أو بكائه في جوف الليل، أو وهو يمسح دموعه وهي تسفح على خديه، ويجد مع ذلك أنساً ولذة وانشراحاً، يقول: إن كانت الحال في الجنة كهذه الحال التي أنا فيها، فإنهم لفي عيش رغيد.
وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس أو تجربة أو ذوق لذلك، وكلما كانت المحبة والانكسار والذلة والخشوع والمناجاة بين يدي الله عز وجل أعظم، كلما كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق الصدر حينئذ إلا عند رؤية البطالين الفارغين، فرؤيتهم قذا عينه، ومخالطتهم حمى روحه.
إن من أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله عز وجل، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئاً غير الله عُذب به، انظروا إلى الذين أحبوا الدنيا حباً تعلقوا بها من أجله، فأصبحت الدنيا أحلامهم، وحديث صباحهم، وأنس عشيتهم، وسبيلهم ومطلبهم في صيفهم وشتاهم، وفي غدوهم ورواحهم، أحبوها فأذلتهم وعذبوا بها.
أما من أحب طاعة الله عز وجل فإنها ترفعه، وتشرح صدره، وتجمع له اللذات من جميع أطرافها، أما أولئك الذين لا هم لهم إلا الدنيا فقد جعلها الله عذاب أنفسهم وسجن قلوبههم، فما في الأرض أشقى منهم، ولا أكسف بالاً ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، إلا من جعل الدنيا قنطرة إلى الآخرة، وقال بالمال ها وها، وأنفق المال في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وفي تجهيز الغزاة في سبيل الله، وكفالة أيتام المسلمين، ونشر العلم، وفي كل ما ينفع أمة الإسلام، فحينئذ تكون تجارته بركة ورحمة، بل ومن أسباب انشراح صدره أيضاً.
وبالخلاصة: فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح، وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، ومحبة طاعته، ومحبة هدي نبيه، وانجذاب الميل والإرادة وكل الجوارح إلى ذلك.
ومحبة أخرى هي عذاب الروح، وغم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه سبحانه، انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم.
وصدق الأول:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكياً في كل وقت مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق
أما من تعلق قلبه بالله، فهو في أنس دائم، وفي سعادة، وفي نعيم مستمر، أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم لذة وانشراح الصدر بذكره.(66/7)
ذكر الله عز وجل
أحبتي في الله! ومن أسباب انشراح الصدر: دوام ذكر الله عز وجل، والذكر شأنه عجيب، عبادة يسيرة بجارحة صغيرة، وأجورها وحسناتها كثيرة، أما كونها عبادة يسيرة فلأن الذكر ليس بهز الأيدي، ولا بحركات الأرجل، ولا بتحريك الرقاب والرءوس، إذاً لانفصمت وتقطعت، لكنه بأصغر جارحة في البدن، وهي اللسان، وما أسهل تحريك اللسان على الإنسان، هذا اللسان الذي يجد الواحد منا بأبسط الأمثلة أنه يدفع فاتورة كلامه حينما تأتيه فاتورة الجوال، وآخر الشهر يجد ضريبة حركات لسانه في القيل والقال عبر الجوال أربعة آلاف، أو خمسة آلاف أو ثمانمائة ريال أو أقل أو أكثر، وكلٌ يجد ضريبة حركات لسانه في هذا الجهاز الذي يُحصي؟ ومن الذي يحصي؟ ليسوا ملائكة مقربين، لا.
الذي يحصي في هذه الفاتورة أجهزة تحسب على الإنسان كل دقيقة وثانية من كلامه.
فما بالك بالسجل الآخر الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فلتات اللسان وحركات اللسان، إن أطلقت في خير فلا تسل عن الطيبات والحسنات والدرجات العلا، وإن أرسلت في شر فلا تسل عن الهلكات والدركات والأمر الذي لا يسر صاحبه، فذكر الله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، وإني لأدعو على سبيل اليقين بهذه الوصفة والعلاج الرباني فأقول: من وجد منكم في نفسه ضيقاً، أو في حاله كرباً، أو في فؤاده شيئاً من الاكتئاب والاضطراب، فأوصيه بحسن الطهارة في ملبسه وبدنه، وأن يعمد إلى بيت من بيوت الله، أو يصلي ركعتين في بيته، فيصلي ما كتب الله له، ثم يستقبل القبلة ويسبح الله ما استطاع، ويستغفر الله ما استطاع، ويحمد الله ما استطاع، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل ما استطاع، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطاع، وإني لأتحدى أن يقول: إنه قام من مجلسه كساعة جلوسه.
بل شتان بين أول لحظة جلسها، وبين آخر لحظة قام فيها بعد الذكر، آخر لحظة بعد ذكر طويل قام فيها يجد أن صدره اتسع، وأن فؤاده انشرح، وأن الدنيا قد أصبحت آفاقاً بعيدة، وميادين متعددة، ومجالات واسعة، وأن الخير ينتظره، وأن البشر على موعد معه في كل حال وفي كل مجال.
أما هذا الذي:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
إذا ضاق صدره فزع إلى الأغاني، فإذا زادته الأغاني ضيقاً فزع إلى مسكر، فإذا انتهى وزاده المسكر خبالاً
شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول
فيخرج من داء إلى داء، ومن سقم إلى بلاء، ومن مصيبة إلى أعظم.
وحينئذ تكون دوامة النكد والقلق والمصائب التي لا تنتهي.
فإني لناصح، وإني لداع نفسي وكل إخواني والسامعين والسامعات، من وجد في نفسه ضيقاً فليفزع إلى الله، وليأنس بذكر الله عز وجل، ولقد جرب ذلك، بل عمل بذلك على سبيل اليقين ليس التجربة، عمل بذلك أقوام كانوا يترددون على مصحات نفسية، فعوضهم الله بذكره، والأنس بتسبيحه وحمده وشكره، بدلاً من هذه العقاقير التي تجعل النفس في خُمول وكسل، والبدن في انحطاط وضعفٍ، يظن صاحبها أنه قد انتهت مشكلاته وقد انتهت مهماته، وما هي إلا تخدير بعد تخدير، حتى يحتاج إلى جرعة أخرى.
لذا أيها الأحبة! عليكم بذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله شعار المحبين لله، والمحبوبين من الله، والله عز وجل يقول: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله.
فصاحب الأذكار مذكور عند الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] والله عز وجل قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
والله سبحانه وتعالى قد أمر بالإكثار من الذكر فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] نحن كم نذكر الله عز وجل في يومنا؟ الواحد لو أراد أن يُحصي عدد ذكره لله لوجدها في بعض الأحيان لا تتجاوز عدد أنامله في يديه.
والحق -أيها الأحبة- أن الواجب علينا أن نتعود على ذكر الله، وأن نجعل ذكر الله شهيقاً وزفيراً، ونفساً يدخل ويخرج في أجوافنا.
عود لسانك ذكر الله تحض به إن اللسان لما يعتاد قوال
وإن الله أثنى على الذاكرين وعدهم أولي الألباب، وأهل الذكاء، وأهل الحجا والفطنة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] من هم أولو الألباب؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] وأنت قادر على ذكر الله في كل أحوالك، في السيارة والطائرة، وفي السفينة والباخرة، وفي حلك وترحالك، وفي وقوفك واضطجاعك، وفي ذهابك وإيابك، وفي متجرك ودكانك، وفي المستشفى وفي كل حال فأنت لا تعجز عن ذكر الله، وذكر الله كنز لا تخشى عليه.
لو أن أحداً قال لك: تفضل هذه مائة ألف ريال، فإذا دخل البيت ظل يفكر أين يستثمر هذا المال في عقارات الإيراد؛ لكن نسبة الربح خمسة إلى ستة في المائة، تمور نظيفة لكن أخاف أن تفشل - المملكة إن شاء الله فيها خير، وكلها فيها خير، حتى لا يقال هذه دعوة مضمونة لقطع الاستثمار- ويظل يفكر تصلح أو لا تصلح هل أساهم أم لا وهلم جراً، وتجده في حيرة من أمره ماذا يفعل بالمائة ألف؟ أين يضعها؟ لكن اجعله يجمع كنزاً اسمه كنز ذكر الله، قل سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، قد خُتم عليها، وسجلت لك، عبد الله فلان بن فلان ذكر الله في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، ولا يسرق هذا الكنز أحد، ولا تخشى عليه انخفاض أسعار النفط، أو ارتفاع الأسهم، أو تغير أحوال البورصة، كنز الذكر لا تخشى عليه شيئاً أبداً، أما كنز الدنيا فأنت مشغول به.
أحد العلماء أتاه بعض الشباب جزاهم الله خيراً، يريدون أن يدخلوه معهم في مجال استثمار، وكان هذا العالم من القصيم متع الله به على طاعته، ومتع الله بأهل المملكة جميعاً على الطاعة، قالوا له: يا شيخ! عندنا مساهمة طيبة ونظيفة وممتازة، وحباً فيك فضيلة الشيخ أعطنا إذا كان عندك قرشين تساهم بها معنا، قال: أنا ليس لي حاجة في هذه الأمور، دعوني في التعليم والتدريس ولا تشغلوني، قالوا: يا شيخ! والله إنا لك لمن الناصحين، أعطنا القرشين الذي عندك نستثمرها، قال: تضمنون أني لا أفكر بها، قالوا: والله هذا يرجع لك، قال: إذاً دعوني، ما جمعت وأنفقت وأكلت واسترحت من همه.
إذاً ما يجمعه من حطام الدنيا مُشغل له لا محالة، وما يجمعه من كنز الآخرة فلا خطر عليه، بل إنه يدعوك إلى المزيد، وشتان بين من اهتم بالآخرة أو ضيعها، هما على سبيل أمثلتنا المنظورة في واقعنا كرجلين أحدهما منح أرضاً مساحتها كيلو في كيلو، فسورها، وحفر فيها بئراً، وغرس نخلاً، وبنى فلّةً، وجملها وزينها، وجعل فيها كل شيء، هل ترون هذا الذي خسر على منحته هذه، وبنى وأنفق من أجلها، هل ترونه يسمح للكلاب أن تدخل داره وقصره، أو استراحته ومزرعته؟
الجواب
لا.
هل ترون أن هذا الرجل يسمح للغادين والرائحين أن يجعلوها مرتعاً لهم؟
الجواب
لا، هل ترونه لا يبالي من جاء أو ألقى عندها من الزبالات والأوساخ ومخلفات البناء؟ الجواب: لا.
والآخر الذي منح مثله كيلو في كيلو ترك المنحة هكذا، لا سورها، ولا غرس فيها نخلاً، ولا حفر بئراً، ولا بنى داراً، ولا جعل مسبحاً، ولا زينها، جاءوا قالوا له: هناك أناس جلسوا فيها، قال: ماذا أصنع؟ جاء آخرون فقالوا: هناك سيارات وضعت بعض المخلفات، قال: سنكلمهم فيما بعد أن أخذوا المخلفات، فلا يهمه الأمر، لأن الذي عمر الاستراحة الأولى والمنحة الأولى، لما أنفق عليها أهمته، فأصبح يخشى عليها ما يُفسدها، ويكبر ما فعل فيها، أما الذي لم يبال بالثانية فلا يهتم أن يُلقي الناس فيها الأوساخ.
فكذلك من عمر الآخرة بالصيام والتعبد والصدقات والجهاد وطلب العلم والدعوة والاستغفار والذكر، وأصبحت آخرته كالاستراحة الأولى، فهو لا يرضى أن تدنو إليها منكرات، أو أن تسكن فيها فواحش، أو أن يتجول فيها فجار، بخلاف الآخر الذي لم يُعمر آخرته، فإنه لا يبالي أن يجلس فيها من جلس، أو يُرمى فيها ما يُرمى، وهذا مثل واضح جلي.
الشاهد أيها الأحبة! أن ذكر الله من أعظم أسباب انشراح الصدر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فأكثروا من ذكر الله عز وجل، فلا شك أنه من أعظم أسباب انشراح الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم وهذه خصوصية من خصوصية الذكر، ليس الذكر الانقطاع فقط في المسجد، بل كل محاضرة وكل حلقة ذكر من رياض الجنة هي من حِلق الذكر ومن أسباب الذكر، التي هي من أسباب انشراح الصدر بإذن الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه).
فذكر الله -بإذن الله- أنس العبد من الوحشة، ونوره من الظلمة، وسكن للقلب، وهدوء ونجاة وسلامة من القلق والاضطراب، يقول ابن القيم حول الآية الآنفة: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] يقول: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) أي: الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يُوجب اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأن إليه القلب) أي: سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.
وفي المقابل الذين ليس لهم من ذكر الله حظٌ أو نصيب، وإنما حظ ذاكرتهم الألبومات جديدة، يتلو ما يسمى بالألبوم الجديد، وأصبح ال(66/8)
الإحسان إلى الخلق
ومن أسباب انشراح الصدر: الإحسان إلى الخلق، ونفعهم بما تستطيع نفعهم به من مالك أو جاهك أو شفاعتك أو بدنك، أو بأي نوع من أنواع الإحسان.
ولم أر كالمعروف أما مذاقه فحلو وأما وجهه فجميل
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان
إذا هيأ الله لك، وأقدرك الله على نفع إخوانك بمالك أو بجاهك أو ببدنك أو بكلمتك أو بما تستطيعه، فلا تتردد لأمرين: الأمر الأول: تستعبد القلوب بالإحسان فتنال حظاً من الدعاء، والذكر الحسن في الأولين والآخرين: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] تجعل لك ذكراً حسناً حتى بعد موتك.
يبقى الثناء وتذهب الأموال ولكل عصر دولة ورجال
والثاني: أنك اليوم قادر وغداً عاجز، وأنت اليوم قوي وغداً ضعيف، وأنت اليوم نشيط وغداً ربما تخور القوى، فما دمت ذا مقدرة، وما دمت على استطاعة في نفع العباد فأحسن إليهم، وإني لأعلم من بعض إخواني جزاهم الله خيراً، من يقسم بالله قائلاً: إني لأجد انشراحاً في صدري ونفسي، وأجد لذة إذا هيأ الله أو يسر الله قضاء حاجة مسلم على يدي، أعظم من فرحي وانشراحي بكسب مالٍ قد أدخلته جيبي.
وهذا واضح، بل ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في رسالة قيمة أنصح كل السامعين والسامعات باقتنائها وقراءتها وهي رسالة بعنوان: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة، ذكر منها الإحسان إلى الناس، والذي يُحسن إلى الناس يعيش عالمياً، يعيش لا لذاته، بل يعيش لغيره، وحينما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة صغيرة وقصيرة ومحدودة، وتبدأ من حيث بدأنا وتنتهي من حيث انتهينا في حدود ملذاتنا، أما حينما نعيش لغيرنا؛ لفكرة أو لهدف أو لدعوة أو لنفع الناس وتعبيدهم لله عز وجل، فإن الحياة طويلة وباقية تبدأ منذ أن بدأ الحق، ولا يفنى الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ما أجمل أن تكون باذلاً ما استطعت في الإحسان إلى إخوانك! والبخيل من بخل بجاهه، فلا يتردد أحد في داره.
إن من أعظم المناقب التي بلغ بها سماحة الإمام العلامة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز وبلغ بها الثريا بين نجوم العلماء، فالعلماء كثير لكن ابن باز شيء بينه وبينهم مرحلة، والسبب أمور عديدة منها: قضاء حوائج الناس، والشفاعة للخلق، ولا يرد أحداً سواءً تجنساً أو إقامة، أو أراد منحة جامعية، أو سداد دين، أو علاجاً في الخارج، أو كفالة داعية أو يتيم، أو إصلاح قضية زوجية كأمور الطلاق، قد فتح الشيخ قلبه قبل بابه، وفؤاده قبل مجلسه، واعتبر نفسه أباً للناس جميعاً، مسئولاً عن كل حوائجهم، فلا يألو جهداً في قضاء حوائجهم ما استطاع، وهذا من مناقبه التي أورثته انشراح الصدر العجيب.
أنا أقول لبعض الإخوان: هل سمعتم أحداً يأتي إلى الشيخ يبشره، لا يأتي إلى الشيخ إلا ويقول: يا شيخ! حصلت مشكلة، يا شيخ! وقعت مصيبة، يا شيخ! حدث منكر، قلّ من يأتي إلى الشيخ ببشارة، أكثر من يأتي إلى الشيخ يشكو حاجةً، أو يريد مالاً، أو يسأل شيئاً، فما الذي جعل هذا الشيخ يتصبر؟ لو آتي لك بواحد بعد كل فريضة يأتي يسلم عليك ويقبل رأسك، هل تصبر؟ تقول: يا أخي! مللنا ضروري تحب دائماً، وتسلم دائماً، وإذا رأيته في الطرف الأيمن تصلي في الطرف الأيسر، وقد تذهب وتصلي في المسجد الثاني، وتأخذ رقم لوحته من أجل أن تعرف سيارته.
من الذي يصبر على الناس؟ يقول ابن الوردي:
نصب المنصب أوهى جلدي وعنائي من مدارات السفل
ليس كل من يقابلهم الإنسان من كرام القوم والنبلاء والطيبين الذين يشرف ويفرح ويلذ بمقابلتهم.
لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم طبائع لست تحصيها ولا شان
فمن الذي جعل هذا الشيخ جلداً حتى آخر ليلة فاضت روحه فيها؟ من أعظم أسباب ذلك قضاء حوائج الناس، والجلد على ذلك، والصبر على ذلك، يدخل المستشفى فيحجبون عليه الهاتف، فيقول أعطوني التلفون لا تردوا أحداً عني، يا شيخ! أنت في فحوصات، يقول: أريد التلفون، من له فتوى أنا أجيبه، ومن له حاجة أنا أقضي حاجته، من الذي يتحمل إلى هذه الدرجة؟ أسأل الله أن يخلف على أمة الإسلام بخير منه، وأن يجعل منازله في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
فالإحسان وقضاء حوائج الناس والبذل والجود، كل ذلك من أسباب انشراح الصدر.
مر بنا أحبتي أن الإحسان والكرم، والبذل ولين الجانب وخفض الجناح، والتواضع وقضاء حوائج الناس وتحسس أحوالهم؛ من أعظم أسباب انشراح الصدر، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن يُعطي ومن يمنع، ولمن يجود ومن يبخل، فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد؛ كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، وكلما هم البخيل بالصدقة لزمت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه).
فهذا مثل ينطبق على انشراح صدر المؤمن بالبذل والعطاء، وعلى ضيق حال البخيل بالكف والقبض والمنع، وإذا تأملت ذلك وجدت هذا جلياً، انظر إلى نفسك وقد دعوت إلى وليمة وأكرمت الناس، نعم.
دفعت ألفين أو أكثر أو أقل، لأجل هذه الوليمة لكن انظر إلى انبلاج أسارير وجهك، انظر إلى تهلل وجهك، انظر إلى لذة تجدها في نفسك، يوم أن أصبحت كريماً.
والكرم الحقيقي مثل كرم الشيخ ابن باز أسكنه الله الجنة، أن يكون الباب مفتوحاً للفقير قبل الغني، وللضعيف قبل القوي، وللعامة قبل السادة، وللصغار مع الكبار، هكذا مجلس الشيخ، وكم نصحه أناس يظنون أنهم يحسنون صنعاً في نصحه، فقالوا: يا شيخ! إن شر الرعاء الحطمة، ولقد حطمك الناس، فاجعل لك مكاناً أنت والخاصة تتغدى فيه وتفطر وتتعشى فيه، والضيوف الله يحييهم على حِدَة، قال: لا.
لا تحبسوني ولا تحجبوني عن ضيوفي.
بل تجد الله يحسن إليه -كما يخبرنا الشيخ محمد الموسى مدير مكتبه- يقول: والله ما جاءنا قوم أو ضيوف أو شباب أو غيرهم، إلا وهو يهمس يقول: لعل الأمور على ما يرام! لعل كل شيء كافٍ، عسى أن الناس ما قصروا في شيء، يفرح وينشرح صدره بإكرام الناس، وحسبنا بهذا الشيخ حباً، نسأل الله أن يجمعنا وإياه في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
يقول الشيخ محمد الموسى: ذات مرة سلم على الشيخ شابان، وقالا: جئنا من مكان كذا نريد أن نسلم عليك، وكان ذلك في رمضان، فقال الشيخ: أفطروا معنا، قالوا: إن شاء الله، إذ رأى الشابين معهما أتوبيساً فيه خمسون شاباً، والشيخ ظن أنهم قلة، قال: فلما جاء قبيل المغرب دخل علينا هذا الأتوبيس كأنه النقل الجماعي قد اجتمع في ذلك اليوم كله، وملئ مجلس الشيخ، قال: تفاجأنا، فسألنا الشيخ، قلنا: الله يحسن إليك، الإخوان جاءوا بعدد كبير وما كنا مستعدين لهذا، قال: لا تتركوا أحداً يذهب، صلحوا من هذا، وأعطوا من هذا، قال: فمازال الشيخ يتابعنا لحظة بلحظة حتى جلسنا على الإفطار ومُدت الموائد وأفطر الناس، وجلسوا للعشاء وتعشوا، قال: فما رأيت الشيخ إلا كعادته بل زيادة على ذلك، تهللاً وانبلاجاً وانشراح صدر.
البذل والعطاء والكرم والجود من أعظم أسباب انشراح الصدر، فكن كريماً وجواداً وكن باذلاً، وإذا بذلت فاحتسب عند الله المثوبة، بعض الناس يُنفق على أولاده، لكن إذا ذهب يشتري لهم بعض الاحتياجات، يقول لهم: كلوا جعله الله مراً، الله لا يحله لكم ولا يبيحكم، إذاً لماذا تصرف هذا مادام الوضع هكذا؟! يا أخي الكريم! أنفق بروح طيبة، وابذل بنفس سخية، وإذا بذلت فاجعله بذلاً من قلبك بنية صالحة صادقة يخلف الله عليك و (ما نقص مال من صدقة) إنك لا تضع في في امرأتك، أي: في فم امرأتك، وما تنفقه على أولادك إلا يُحتسب لك صدقة عند الله عز وجل، فلا تظن أن الصدقات مجرد إعطاء الفقراء والمساكين، حتى كسوة أولادك وزوجاتك صدقة، وإكرام ضيوفك صدقة، والإحسان إلى جيرانك صدقة، وكل ذلك من الكرم الذي هو من أعظم أسباب انشراح الصدر.(66/9)