فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله
إن الله عز وجل قد بين فضل الجهاد في كتابه سبحانه، ورتب عليه أعظم صفقة وتجارة، وهي: بيع النفس لله عز وجل، وقد وردت الأحاديث المستفيضة التي تبين فضل الجهاد والشهادة والرباط في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولكن الناظر في حالنا اليوم يجد خلاف ما كان عليه الصحابة من بيع نفوسهم رخيصة في سبيل الله، وإقدامهم على الموت، وفي هذه المادة بيان لفضل الموت في سبيل الله في الدنيا والآخرة.(1/1)
المرء مع من أحب
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبادئ ذي بدء! أتوجه إلى الله جل وعلا متوسلاً إليه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، واسمه الأعظم، أن يجعل لي ولكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كلٍ بلوىً عافية، ومن كل فاحشةٍ أمناً، ومن كل فتنةٍ عصمة، كما نسأله سبحانه أن يجعل مجلسنا هذا روضة من رياض الجنة، وحلقةً من حِلق الذكر التي تكتب لنا في موازين أعمالنا، تغشاها السكينة، وتحفها الملائكة، وتتنزل عليها الرحمة، ويذكر الله هذه الوجوه فيمن عنده.
أحبتي في الله! شأن الجهاد والرباط والشهادة في سبيل الله عظيم، وإن من المصائب -وأقولها- أن يحدثكم في هذا الأمر واحدٌ من القاعدين، وسامح الله الإخوة حيث اختاروني للحديث في هذا الموضوع، وكان الأولى أن يختاروا واحداً من المجاهدين الذين عرف النقع لهم أثراً، وعرفت الميادين لهم بلاءً، ولكن:
أعيذها نظراتٍ منك صادقةً أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
الحاصل أنهم ما أحسنوا الاختيار، وكان الأولى أن يتحدث في هذا الموضوع ممن عرفوا بالبسالة والبذل والجهاد في سبيل الله جل وعلا، ولكن: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وما أعددت لها؟ فقال الأعرابي: ما أعددت لها كثير عمل، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت يوم القيامة).
وجاء آخر وقال: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب) وحسبنا أن نكون ممن أحبوا الجهاد، ونسأل الله أن يكون حبنا للجهاد في سبيله خالصاً لوجهه، وأن يكون حديثاً للنفس، وأن يكون بذلاً صادقاً، والله جل وعلا يقول: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46].
ونسأل الله ألا نكون ممن قال فيهم في بقية الآية: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] نسأل الله جل وعلا أن يجعل حبنا للمجاهدين والجهاد في سبيل الله في موازين أعمالنا، والهوى نوعٌ من المحبة، والمحبة في الموازين: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ومن أبغض دين الله، أو أبغض شيئاً من دين الله ولو عمل به فإنها من الأمور التي تخل بعقيدته، بل قد تجعله من المارقين من الدين، قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نوّر الله ضريحه، وجمعنا به وإياكم في الجنة: ومن نواقض التوحيد: من كره شيئاً مما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، واستدل بقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9].(1/2)
التجارة العظيمة والصفقة الرابحة
أيها الأحبة: شأن الجهاد عظيم، وفضله جليل:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
والحاصل أيها الأحبة! أن لذة الجهاد لا يحصرها قلم، ولا يصفها لسان، ولا يحيط بها بيان، ولكن أن نتعرف إلى الشيء بملامحه وسماته، ففي هذا خيرٌ عظيم من عند الله جل وعلا، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] إن الله أصدق قيلاً، وأصدق حديثاً، وأوفى بالعهود والمواثيق: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] تأملوا هذه الآية العظيمة التي فيها شراء، وفيها صفقةٌ عظيمة، ولـ ابن القيم كلامٌ أجمل مما نقول ويُقال في هذا الباب: المشتري هو الله، والمتفضل هو الله، والمنعم هو الله؛ خلق هذه النفس من العدم وأطعمها وسقاها وكفاها وآواها، ودفع عنها النقم، وأسبل عليها وابل النعم، ثم هو جل وعلا يشتريها من صاحبها ويبذل له عوضاً وثمناً ألا وهو الجنة؛ فيها مالا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ولو أن القلوب سليمة، كما قال ابن القيم في نونيته:
والله لو أن القلوب سليمةٌ لتقطعت ألماً من الحرمان
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن كيف تصبّر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
إذا كان الثمن هو الجنة، فإنه لا يجتهد في هذه الصفقة أو أن يكون ممن يبتاعها إلا واحدٌ ممن عرف الثمن وعرف القيمة والعوض والمعوض.
أيها الأحبة في الله! هذا فضلٌ من الله، والله دعانا أن نستبشر بقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} [التوبة:111] أي: اضمنوا أنها صفقةٌ رابحةٌ لا تَندُّم بعدها، لو أن أحداً اشترى بضاعةً أو عقاراً أو داراً، ثم عاد وخلا بنفسه وأخذ يقلب الحال، هل غُبن في هذه الصفقة؟ وهل اشتراها بأكثر من قيمتها؟ أما هذه فهي صفقةٌ مربحةٌ رابحة: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
واعلموا أن هذه السعلة العظيمة الجليلة الكريمة قد عُرضت والناس قد اختلفوا في التوجه إليها، ولكن لا يستوي من طار على خيله، أو انطلق والشوق يدفعه والهوى يجعله محباً لما عند الله وفي سبيل مرضاته، لا يستوي مع من قعد عنها.
خودٌ تزف إلى ضريرٍ مقعدٍ يا محنة الحسناء بالعميان
شمسٌ لعنِّينٍ تزف إليه ما حيلةُ العنِّين في الغشيان
حينما تصف أروع الجمال لرجلٍ لا يبصر هذا الجمال، فما حيلة هذا الوصف، انطلق أقوامٌ إلى هذه السلعة، وأرادوا هذه السلعة العظيمة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) انطلق لها أقوامٌ وقعد آخرون: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة:46] ونسأل الله ألا نكون ممن قال الله فيهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] فإن القعود عن الجهاد مظنة أن يشك الإنسان في نفسه، ما الذي أقعده عن الجهاد؟! أهو نفاق في قلبه؟! أهو تقصيرٌ في صدق تحقيقه وإيمانه واعتقاده بأمر الله وأمر رسوله، ووعد الله ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم؟! يقول جل وعلا: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:95] وإن الله جل وعلا قد أعد مائة درجةٍ في الجنة للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، فما ظنكم بالبون الشاسع والفرق الواسع بين درجات المجاهدين ودرجات القاعدين؟ إنها تجارة فمن دُل عليها ونالها فقد هدي إلى خيرٍ عظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف:10 - 12] إلى آخر ما بين الله من فضله العظيم وخيره العميم، فيما أعده لعباده المؤمنين.(1/3)
حقيقة الدنيا وحقارتها
أحبتنا في الله! هذه الدنيا ما الذي يجعلنا نقعد عن الجهاد بألسنتنا وبأنفسنا قبل ألسنتنا، وبأموالنا أيضاً؟! ما الذي يجعلنا نتعلق بها أهي دنيا قد سلمت من المنغصات؟! لا والله.
ما أضيق العيش ما دامت منغضةً لذاته بادكار الموت والهرم
هذه الدنيا:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما وأعماركم سفرٌ من الأسفار
إننا في هذه الدنيا على سفرٍ وعلى رحيلٍ، فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا بالزاد النافع، وأن يثبتنا بفضله ودينه.
فما دامت هذه الدنيا لذاتها مُنَغصة، ما رأينا صحيحاً إلا وأعقب المرض صحته، وما رأينا رجلاً سعيداً باجتماع أحبته إلا وفرق الموت أحبابه وشتت شملهم، وما رأينا قوماً في عزٍ إلا ونالهم من طوارق الزمان، ومآسي الحدثان ما أصابهم:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الحياة كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمان
وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شان
أين الملوك ذوي التيجان من أرمٍ وأين ما ساسه في الفرس ساسان
أين أولئك جميعاً؟
أتى على الكل أمرٌ لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
هذه الدنيا التي نتعلق بها ونقعد فيها بخلاً بالنفوس أن تنال منازل المجاهدين وفضل الشهداء، نتعلق بأي شيءٍ في هذه الدنيا؟! هل نتعلق باجتماعها الذي يعقبه الفراق؟ أم بعزتها التي يكدرها الذل؟ أم بمالها الذي يعقبه الفقر؟ أحوالٌ لا يعلمها إلا الله:
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً
والذين تعلقوا بالدنيا، لأنهم في حالٍ من اللذة والنعيم، لا يعرفون ما يحوي هذا الزمان في جوانبه وأحشائه
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبه
فيا أيها الأحبة! اعلموا أن هذه الدنيا التي نخاف عليها، ونتعلق بها، وتشدنا بالطين إلى أوحال الأرض، وتجذب النفوس من أن تُحلق في ملكوت الله، وتدنو من رحمة الله جل وعلا، إنها دنيا لا يؤسف عليها، هذه الدنيا: (لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضةٍ، ما سقى منها كافراً شربة ماء) ولكن: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7].
أيها الأحبة! ثم هذه الدنيا وقد تأملنا وإياكم في ملذاتها وما فيها، ليس فيها والله أمرٌ يدعوك إلى أن تتعلق بها غاية التعلق، الطعام الذي تأكله: في أي بلادٍ زُرع؟ وبأي أيدٍ حصد؟ وعلى أي سفينة نُقل؟ وعلى أي شاطئ نزل؟ وبأي أيدٍ وصل؟ حتى وصل إليك، فجمعت أخلاطه وأنواعه؛ من طعامٍ وشراب وألوانٍ، حتى إذا تهيأ وأصبح لقمةً تزخرفت لآكلها، وسال لعاب مشتهيها إليها وعليها، لم يجد لذتها إلا وقت وضعها على لسانه، ثم لما دخلت في جوفه أصبحت حبيسة الجوف، يعذب بها عذاباً شديداً، لولا أن الله فرج عنه بأن جعل له منها مخرجاً، وهذا أمرٌ عجيب!! غاية اللذة التي تريدها سرعان ما ترجو الله أن تتخلص منها! وغاية الشراب الذي تبذل كل شيءٍ من أجله سرعان ما تسأل الله أن يُفرج لك لو احتبس شأنه! قيل: إن أحد الخلفاء كان في فلاة، فجاءه من الصالحين رجلٌ فقال: أيها الأمير! أرأيت لو عُدمت الماء أكنت تشتري شربةً بنصف ملكك؟ قال: إي والله أشتري هذه الشربة بنصف ملكي، قال: فإذا شربت فاستقرت الشربة في جوفك واحتبست ولم تجد سبيلاً لإخراجها إلا بنصف ملكك الآخر، أكنت تبذل نصف ملكك في إخراجها؟ قال: إي والله لأخرجنها ولو بنصف ملكي، قال: فتباً لملكٍ لا يساوي شربة ماء! من أجل هذا نعلق النفوس بالله، وما عند الله، وبنعيم فضل الله.
أيها الأحبة! وهذه الدنيا التي نتعلق بها، ما رأينا أحداً فيها إلا وفيه من الهموم والمصائب ما الله به عليم، ولا يخلو أحدٌ فيها من عداوة:
ليس يخلو المرء من ضدٍ ولو حاول العزلة في رأس جبل
إن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
كيف تجد إنساناً في هذه الدنيا يريد أن يسلم من عداوة أهلها، لا والله لا يستطيع أحدٌ أن يسلم من عداوة الناس في هذا الزمان، أو أن يناله الناس من منتقدٍ أو مجرحٍ أو حاقدٍ أو حاسدٍ، أو ممن ينال من عرضه، أقل من ذلك أو أكثر، وما دامت هذه أحوال الناس فلا تغبطوا أحداً على دنيا مهما تنافسوا في التطاول بالقصور أو تفاخروا بسعة الدور، أو تشاحوا على المراكب والمفارش وغيرها، هذه الدنيا شأنها عجيب:
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الرجل العقيم كمينةٌ في صدره
أو ما ترى الملك الكبير بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فتراه يمضي مشغلاً في باله همٌ تضيق به جوانب قصره
ولقد حسدت الطير في أوكارها فرأيت منها ما يُصاد بوكره
ولرب طالب راحةٍ في نومه جاءته أحلامٌ فهام بأمره
والحوت يأتي حتفه في بحره والوحش يأتي موته في بره
كيف التخلص يا أخي مما ترى صبراً على حلو القضاء ومُرِّه
إذاً: هذه الدنيا كما قال الله تعالى فيها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وأقول هذه المقدمة وأسوقها لكي نعلم أن الذين يتعلقون بالدنيا قعوداً بها، ولأجلها ولشأنها ولملذاتها عن الجهاد في سبيل الله، والبذل لدين الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله؛ إنما يدعون هذه اليواقيت والدرر العظيمة من أجل دنيا لا يؤسف على فراقها.
وكما قال أحد الصحابة -ولعله معاذ بن جبل - لما حضرته الوفاة وكأنه أجهش، فقالوا: وأنت صاحب رسول الله تبكي، قال: [والله ما على فراق دنياكم هذه أبكي، وإنما أبكي على فراق ليالي الشتاء -طول القيام والتهجد- وظمأ الهواجر -أطول النهار في هاجرة الصيف- ومجالسة أقوامٍ ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر آكله].
نعم.
لا يحزن على الدنيا إلا لأجل هذه الثلاث، أما ملذاتها وغير ذلك فهو لا يحزن على فراقها بأي حالٍ من الأحوال.(1/4)
نهاية الرحلة وبداية النهاية
أيها الأحبة في الله! وبعد رحلة طويلة في هذه الدنيا من الصغر والنمو والترعرع والشباب ومصائب الزمن وما يلقى الإنسان في ذلك، تأتي نهاية الرحلة، وخاتمة المطاف، إن لكل بداية نهاية؛ ولكل نهاية غاية.
من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، تأتي الآتية، وتأتي القيامة الصغرى ألا وهي: الموت؛ وهذه القيامة أول ما تبدؤك في أنامل رجليك، تأتي ملائكة الموت فتجذب هذه الروح جذباً بعد أن أقفلت الأرصدة، وأعلن الحساب الختامي، ما بقي ريالٌ إلا كسبته، ولا درهمٌ إلا أنفقته، ولا شربة إلا شربتها، ولا أكلة إلا أكلتها، ثم يأتي الوداع والختام: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] ولكل بداية نهاية، وهذه بداية النهاية، تأتي الملائكة فتجذب الروح من أنامل قدميك، ثم تأتي إلى ساقيك فتبرد الرجلان، ثم ترتفع إلى فخذيك وتبرد الساقان، ثم تنزع من جوفك نزعاً فتحشرج في صدرك حشرجةً عظيمة.
ثم بعد ذلك تصل إلى مخارجها، ثم تخرج مع أنفك ويقال: فلانٌ مات حتف أنفه؛ لأن الروح تخرج مع الأنف، رحلةٌ شاقةٌ طويلة في بداية النهاية، في نزع الروح وآلام السكرات، تعوذ منها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت).
فما دامت هذه بداية النهاية، وفيها ما فيها من الآلام والمصائب والمشاق إلا أن الله جل وعلا قد جعل لطائفةٍ من عباده اختصاراً سهلاً، وإيجازاً لذيذاً يختصر رحلة الحياة كلها، ويختصر عملية الموت بأكملها ألا وهو الجهاد في سبيل الله في حال الشهادة التي تختصر عملية الموت، وخروج الروح من أطراف القدمين إلى أطراف الأنف بقرصةٍ، لا يجد الشهيد من آلام الموت إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة، لأنه مات شهيداً في سبيل الله فأعانه الله وثبته ويسر ميتته.(1/5)
الحديث عن الجهاد والرباط(1/6)
سبب الحديث عن الجهاد
أيها الأحبة! لماذا نتحدث عن الجهاد؟ ولماذا نتحدث عن الرباط؟ ولماذا نتحدث عن الشهادة؟ لأن أمة الإسلام في هذه الزمان ذاقت ألواناً من الذل والهوان لا يعلمها إلا الله، بعد أن كانت حاكمةً أصبحت محكومة، وبعد أن كانت مسيطرةً أصبحت مسيطراً عليها، وبعد أن كانت آمرةً ناهية أصبحت مأمورةً منهية، وما ذاك إلا لترك الجهاد، ما ترك قومٌ الجهاد إلا ذلوا، وبينه صلى الله عليه وسلم: (إذا تبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم) فإن الذلة قد كتبت على أمة المؤمنين ما لم يعودوا إلى الجهاد في سبيل الله، وما لم يكن كل واحدٍ منكم يُحدث نفسه أن يقدم واحداً من أبنائه، يراق دمه، وتُقطع أشلاؤه قرباناً لدين الله.
حق على الأيام ألا تهزموا النصر ينبت حيث يرويه الدم(1/7)
مؤهلات الشهيد عند ربه
والدماء شأنها في قضايا المسلمين عجيبة!! ما رأينا قضية للمسلمين نضجت وأثمرت وأينعت، وقطف المجتنون ثمارها إلا يوم سقيت بالدماء، ورحم الله سيد قطب يوم أن قال: إن كلماتنا وعباراتنا تبقى جوفاء هامدةً لا حراك لها حتى نسقيها من دمائنا.
ووالله إننا لنتمنى أن يبسط الله لنا في الذرية والولد، ونسأل الله ألا يحرمنا هذا الأجر أيضاً لكي نبذل من أولادنا مجاهدين يموتون في سبيل الله، ولعل الله بمنه وكرمه أن يختارنا من الشهداء في سبيله، لماذا نخشى الموت في سبيل الله والموت ساعةٌ لا تتقدم أو تتأخر؟ لو قلنا لأحدنا: سيموت فلان بن فلان غداً الساعة العاشرة صباحاً، فما الفرق بين أن يموت على السرير الأبيض تحت أجهزة الإنعاش، ومساعدة التنفس، وضربات القلب، وأن يموت في لحظة غبار المعركة فيها طائر، وصليل السيوف فيها ملتهب، وأصوات القنابل والمدافع فيها يتأجج؟ تلك الميتة التي على السرير الأبيض ميتة طويلة، وأحوال ضعفٍ وهوان.
وأما ميتة الشهادة في سبيل الله في المعركة فتطير الروح إلى باريها، تبقى معلقةً في أجواف طير خُضرٍ في قناديل الجنة تأوي من غُصنٍ إلى غصن، ومن فننٍ إلى فنن، فمن ذا يا عباد الله يحرم نفسه هذه الميتة؟!
إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعم الموت في أمرٍ عظيم
يقول قطري بن الفجاءة وهو من شعراء الخوارج وهم على باطلٍ عجيب يقول يخاطب نفسه:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لك لم تُطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع
ويقول عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
وضربة بيدي حران مجهزةٍ بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
يسأل ربه أن تكون ميتةً يتفنن فيها، يتفنن في نوع الميتة، قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً وطعنةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أي: يقول: أريد الدم أن يفور من بدني فوراناً عجيباً.
وضربة بيدي حران؛ برجلٍ مجهز، برجلٍ يريد أن يشفي غليله، بيدي حران مجهزةٍ؛ بحربةٍ حادةٍ، مسنونةٍ نافذةٍ من أجل أن تُخرج الأحشاء والكبدا، حتى يقول: يا رب! هذه شهادتي، إذا أراد الناس منصباً أو منزلاً أو وظيفة فماذا يقولون؟ يقولون: مؤهلاتنا ماجستير، مؤهلاتنا دكتوراه، فيقال: ادخل، أنت عندك دكتوراه تفضل، أنت عندك ماجستير تفضل، أنت عندك بكالوريوس أو ثانوية عامة تفضل، بحسب مؤهلك تدخل، لكن مؤهلات المجاهدين لدخول الجنة يقول: يا رب! هذه مؤهلاتي، يأتي يوم القيامة بمؤهله الدم والجرح، اللون لون دم والريح ريح مسك، هذه مؤهلات المجاهدين التي بها يُؤمّنون من فتان القبر، ويلبسون حلل الوقار والمنزلة العظيمة، ويُشفعون في سبعين من أهل بيتهم.(1/8)
مؤهلات تنتصر بها الأمة على أعدائها
أيها الأحبة! إن أمة الإسلام يوم أن أصبحت تخاف الموت أصابها ما أصابها من الذُل، وقد كنا فيما مضى يقول قائلنا:
لنا فرسٌ لم تنجب الخيل مثلها فتحنا بها الدنيا يقال لها الردى
هذه مؤهلات الأمة التي جعلت الأعداء والحضارات التي سادت مئات السنين وقروناً متوالية تتهاوى أمام سيوفهم القصيرة المثلمة، وخيلهم الهزيلة، وثيابهم البالية المرقعة، لما أرسل قائد المسلمين رسوله يفاوض رستم، قال: ماذا تريدون منا؟ قال: ندعوكم إلى دين الله جل وعلا، وترك عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
قال: فإن لم نجبكم؟ قال: تعطون الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون.
قال: فإن لم نفعل؟ قال: فقد جئناكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة، هذا الأمر الذي كان يروع أعداء المسلمين من الكافرين، هذا الأمر الذي روع الكفار جميعاً عربهم وعجمهم، بعض الناس يتوقع أننا حينما نتكلم عن الكفر نتكلم عن العجم.
الكفر ملة واحدة، واللغة لا تغير في الكفر شيئاً، فإن كان كُفراً بعثياً أو غيره فكله كفر، والكفر ملةٌ واحدة عربه وعجمه.
فيا أيها الأحبة! لما ضاعت من نفوس المسلمين هذه المعاني العظيمة أصبح الأعداء يفاوضون عليهم بحبهم بالدنيا، بملذات الدنيا ونعيمها، ومن أجل هذا أصاب الأمة ما أصابها من الذلة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! كان الصحابة يعدون الكلام في الموت مسألة انتهى أوانها، يقول علي بن أبي طالب:
أي يومي من الموت أفر يوم لا قُدِّر أم يوم قُدِر
يوم لا قُدِّر لا أرهبه ومن المقدور لا يغني الحذر
فما الذي يجعل الأمة بهذه الذلة أو هذا الخوف؟! نخاف من الموت في يومٍ ما قُدر فيه!! لن يأتي، ونخاف من الموت في يومٍ قدر فيه!! قدر الله نافذ: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].(1/9)
صور إيمانية عظيمة(1/10)
أبو زيد القمري وكرامته في أرض أفغانستان
أبشركم بحمد الله جل وعلا أن طائفةً من شبابنا قد أثبتوا في هذه الأحداث وأثبتوا في أفغانستان قبل هذا صوراً إيمانيةً عظيمة، منّ الله عليهم فيها بالعز والسؤدد والكرامة، كثيرٌ منهم عرفناهم، منهم رجلٌ من شباب المسلمين يقال له: أبو زيد القمري من جزر القمر لكن الإسلام لا يعرف الاختلافات العصبية والعرقية والقبلية.
يقول إخوانه: كان في قندهار وهي أرضٌ مبسوطة، وكان لا يجد شيئاً يجعله ترساً يتترس به أو يقف وراءه، فماذا كان يصنع؟ كان يحفر خندقاً برميلياً!! يعني: الأرض المنبسطة يحفر فيها خندقاً أشبه ما يكون بالبرميل ويجلس فيه، قال: ويجلس يُسبح ويهلل ويقرأ القرآن الكريم، ويسأل الله الفرج والنصر والرزق والغنيمة والشهادة في سبيل الله، فإذا سمع صوت الحنين والطنين أخرج رأسه فإذ بدبابة جاءت تشق الطريق، فيقوم ومعه سلاح (الآر بي جي) فيأخذ القذيفة ويركبها ثم يرمي باسم الله الرحمن الرحيم: ((وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وهو لا يضربها وهو في خندقه بل يخرج، ثم ينتظر حتى يصوب هدفاً قاتلاً في الدبابة فيضربها في برجها فيشطرها شطرين، ويجعل سائقها يتشحط في دمه والدبابة تحترق، وذات يومٍ كان في خندقه البرميلي ثم خرج وإذ بدبابتين تشقان الطريق، فقام وضرب الأولى وأخذ وقتاً لكي يجهز القذيفة، لكي يضرب الثانية، وإذ بالدبابة الثانية قد وجهت فوهه مدفعها نحوه لكي تضربه وتقتله شر قتله، أتظنونه عاد إلى خندقه وإخوانه يقولون: يا فلان! ارجع، يا فلان! تراجع، قال: والله لا أريد من ربي أكثر من أمرٍ واحد، ألا يتقدم أجلي لحظة ولا يتأخر لحظة، فقام والدبابة توجه نحوه وهو يوجه نحوها، باسم الله الرحمن الرحيم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ثم أطلقت-الدبابة- قبله، وإذا بالقذيفة تمر بجواره وهو ما تحرك من مكانه: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61] ثم سمى الله ووجه قذيفته، فإذ به يشطر هذه الدبابة بعد أن صوب في برجها.(1/11)
كرامة طيار من قاعدة الظهران
أحد إخوانكم من الشباب في قاعدة الظهران الجوية في هذه المعركة القائمة مع أعداء المسلمين البعثيين الكافرين، قابلته في القاعدة الجوية وكنت في حديثٍ مع بعض الإخوة الطيارين فقال لي: والله يا أخ سعد! إن الكلام عن الموت مثل الذي يحدثنا عن مادةٍ درسناها في الابتدائية ونحن في الجامعة، ما عدنا نفكر بالموت، لكنني أسألك إذا ركبت الطائرة وأنا بنية الجهاد في سبيل الله جل وعلا وأصبحت أتصل بجهاز الاتصال مع القيادة، ثم صار هناك نوع من الكلام أو الابتسامة أو الضحك في هذا الكلام هل هذا يقطع نية الجهاد؟ قلت: أبشر بالخير هذا لا يقطع نيتك، ولكن صوب واستعن بالله، وتذكر قول الله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وبحمد الله جل وعلا قد أكرم الله إخوانكم، بعد أن بلغوا هذه المرحلة الطيبة باحتسابهم فعلهم خاصةً في هذه المعارك الحالية التي تدور الآن على حدود المملكة مع العراق البعثي حكومة لا شعباً؛ لأننا حينما نتكلم؛ نتكلم عن الأنظمة الكافرة، أما الشعوب البريئة المسلمة فمن وافق القوم في كفرهم فعليه من الوزر ما وافق به، ومن برئ من فعلهم فإنهم براء بإذن الله جل وعلا.
أحد الطيارين يُقلع بطيارته وهذا الكلام قلته بخطبة الجمعة، وطائرة (الترنيدو) مزودة بجهاز (رادار) حينما تنطلق صواريخ سام ستة أو غيرها من أنواع الصواريخ المضادة للطائرات، فإنها بإذن الله جل وعلا حينما يرى قائد الطائرة في (الرادار) توجه الصواريخ نحوه، وحينما يرى أيضاً إذا كان طيرانه في الليل أو في وقتٍ يتضح منه لهب الصواريخ المتجه إلى طائرته، فإنه يخبر الرامي الذي يقعد في المقعد الخلفي وراءه في نفس الطائرة ويقول له: أطلق أشعة؛ هذه الأشعة هي البالونات الحرارية، يخرج من جهاز الرادار بالون حراري يتبعه الصاروخ، فالصاروخ حين ينطلق للطائرة يترك الطائرة متجهاً إلى البالون الحراري، فيقول رأينا حمماً من الصواريخ متجهةً إلى الطائرة وأنا أقول للرامي الذي خلفي: أطلق بالوناً حرارياً أطلق أشعة معدنية، ونطلق والصواريخ تذهب يميناً ويساراً، فلما انتهينا من المهمة وعدنا إلى القاعدة، وجدنا أن (الرادار) ما أطلق ولا بالوناً واحداً وأنه ما عمل أصلاً، فسبحان الله العلي العظيم! لعله بنيته بل إنه بنيته بفضلٍ من الله جل وعلا ومنّ ورحمة، وإلا ما الذي يجعل الصاروخ يصل إلى الطائرة ثم ينفصل عنها.
وهذا الكلام ما فيه حدثنا فلان عن فلان، والسند فيه مجاهيل وضعفاء ومساكين، لا، الرجل نفسه يخبرني والحديث بيني وبينه بحضور قائد السرب، فالحمد لله رب العالمين، الذي منّ على أحبابنا وإخواننا بهذه الكرامة لأن المسائل تتعلق بالنية.
القضية أن الجهاد في سبيل الله لا يتعلق بمسألة وجود كافرٍ معك في المعركة، أو يتعلق بوجود قوات مشتركة، الجهاد في سبيل الله يتعلق بنيتك أنت، فإذا كانت النية في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم عندما قيل له: (يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل حمية، أي ذلك في سبيل الله؟ -النبي ما أنكر على من يدخل المعركة يريد الغنيمة، ولم ينكر على من يدخل المعركة يريد العصبية والجاهلية والحمية- وإنما قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).(1/12)
الأحاديث الواردة في فضل الجهاد في سبيل الله
أيها الأحبة! وأما الكلام في الجهاد والرباط والشهادة فشأنه عجيب، حينما تريد أن تستقصي الأحاديث الواردة في الجهاد والرباط والشهادة، وما يتعلق بأحكام الجهاد، تجد أن هذه الأبواب والمواضيع قد نالت حظاً عظيماً وافراً من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد النصوص القرآنية، والكلام أيضاً في الجهاد ليس كلاماً بدلالات الاستنباط، أو بدلالات مفاهيم المخالفة أو الموافقة وإنما بأصرح الدلالات ألا وهي دلالة النص.
أي: النص الذي يأتي من عند الله جل وعلا في كتابه ومن عند رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته فإنك ترى في هذا دلالةً واضحةً لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو تأويل إلا شيئاً من ذلك يفهمه أهل العلم.
ونشرع الآن يقول النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الجهاد: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة -أي: قدر ما بين حلبتي الناقة من الوقت- فقد وجبت له الجنة).
وهذا من عظيم الفضائل بإذن الله جل وعلا، ومن تأمل حال الجهاد وجد أنه أعظم أنواع العبادة ولأجل ذلك فإن ابن المبارك رحمه الله أرسل إلى الفضيل بن عياض وكان منقطعاً للعبادة في البيت الحرام، قال له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا، أي: في المعارك والقتال، وصهيل الخيل، وصليل السيوف.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تعلب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يُتعب خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الكريهة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نارٍ تلهب
ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذب
في الحديث عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بناقةٍ مخطومة، فقال: يا رسول الله! هذه الناقة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة) رواه الإمام مسلم.
وعن أبي سعيدٍ الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث إلى بني لحيان، ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعدين: أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره) رواه الإمام مسلم.
وعن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره، ومن خلف غازياً في أهله بخيرٍ وأنفق على أهله فله مثل أجره) رواه الطبراني بإسنادٍ صحيح.
وحسبكم أن الغدوة إلى الجهاد في سبيل الله جل وعلا، أن للإنسان به أجراً عظيماً بإذن الله جل وعلا، قال تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:121].
عن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (رباطُ يومٍ في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لغدوةٌ في سبيل الله أو روحة خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيده -يعني: موضع سوطه- خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة طلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، وإن نصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها) رواه البخاري ومسلم.
فهذه الدنيا خيرٌ منها غدوةٌ في سبيل الله، وخيرٌ منها موضع سوط أحدنا في الجنة، وخيرٌ منها روحةٌ في سبيل الله جل وعلا، فلماذا نقدم الدنيا على الآخرة وهذه الدنيا ما متاعها في الآخرة إلا قليل؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تضمن الله لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي، وإيمانٌ وتصديقٌ برسلي، أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة) رواه البخاري ومسلم.
واعجبوا أيها الأحبة! لشأن المجاهدين الذين ودعوا الدنيا وطلقوها، وتفرغوا لأمر الآخرة بحالٍ عجيبة، أتعلمون أول زمرةٍ تدخل الجنة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول زمرةٍ تدخل الجنة من أمتي أتعلمونها؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، فيستفتحون -أي: يطلبون فتح باب الجنة- فيقول لهم الخزنة: أو حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيءٍ نحاسب وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟! قال: فيفتح لهم، فيقيلون في الجنة أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس) أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وجاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: (دلني على عملٍ يعدل الجهاد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: لا أجده، ثم قال صلى الله عليه وسلم: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تُفطر؟ قال: من يستطيع ذلك؟!) -ومعنى ذلك: أن الجهاد لا يعدله شيء- رواه البخاري.
عن البراء قال: (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ثم تقدم فقاتل حتى قُتل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عمل يسيراً وأجر كثيراً) رواه الإمام مسلم.
فحسبنا أن فضائل الشهادة عظيمة إلى درجة أن من لم تكن له حسنة أبداً، وسيرته فيما مضى كلها كفرٌ وعدوانٌ وإنكارٌ وشركٌ، أن أول عملٍ عمله بعد أن نطق الشهادتين أنه جاهد في سبيل الله؛ فاعتُبِر عَمَلُه هذا خيراً كثيراً بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث عن أبي بردة بن عبد الله بن قيس قال: (سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف، فقام رجلٌ رث الهيئة، قال: يا أبا موسى! أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتل رضي الله عنه) رواه الإمام مسلم.
وحسبكم أن الله جل وعلا يقول في محكم كتابه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19] وجاء في سبب نزول هذه الآية ما حدث به النعمان بن بشيرٍ قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في يوم جمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فلما استفتاه أنزل الله قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19]) رواه الإمام مسلم.
هذه أيها الأحبة! فضائل الجهاد في سبيل الله، وهذه كرامات المجاهدين في سبيل الله، فهل حدثنا النفوس بالجهاد؟ هل حدثنا النفوس بصدق بالجهاد في سبيل الله جل وعلا؟ حتى الجهاد بالمال؛ أن نخلف الغزاة والمجاهدين في ذويهم وأهلهم بخير، الكثير من المسلمين قد فرط وتساهل وبخل بهذا، حتى كفالة أيتام المجاهدين الكثير من المسلمين قد فرط في هذا وبخل به.
ووالله إن من أقل القليل وأدنى الواجب، إذا كان لك أربعة أولاد أن يكون خامسهم من أيتام المجاهدين، وإذا كان لك سبعة أولاد أن يكون ثامنهم من أيتام المجاهدين، حتى تنال أقل المراتب، أن تخلف مجاهداً في أهله بخيرٍ وفي ذريته بخيرٍ.
والجراح في الجهاد هو أيضاً من فضائل آثار الجهاد، لأن الجهاد لا يمكن أن يكون وروداً ورياحين وكرامات كما يظن البعض منذ أن ينزل الجبهة وساحة القتال الكرامات تتناثر، لا، حتى لو لم تر كرامةً واحدة، يكفيك كرامةً أن الله أعانك وثبتك وأيدك حتى انطلقت لقتال أعداء المسلمين، والدفاع عن أعراض المؤمنين، والذود عن حرمات المسلمين وأملاكهم ومقدراتهم، فإن في هذا جهاداً عظيماً بإذن الله جل وعلا.
روى الإمام مسلم والإمام أحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يُكلم أحدٌ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم، اللون لون الدم والريح ريح المسك) وروى الشيخان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من عبدٍ يموت له عند الله خيرٌ فيسره أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد في سبيل الله؛ لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى).
وهذا يذكرنا بقصة عبد الله بن حذافة السهمي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما أسره الروم ففاو(1/13)
خصال الشيهد عند الله(1/14)
مغفرة الله للشهيد
وخصال الشهيد معلومة، كما صح في الحديث: (إن الله يغفر للشهيد عند أول دفعة تخرج من دمه) وهذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الجنود قد يقول: أنا حليق، أو أنا أدخن، أو أنا أسمع الغناء، أو أنا عندي بعض الذنوب والمعاصي، فتجده يتردد ويأتيه الشيطان ويقول: كيف تريد أجر الشهداء حتى وإن أخلصت نيتك وجعلتها في سبيل الله، وخوفاً على أعراض المؤمنين، وعلى أرض المسلمين أن تقام عليها الفجور والدعارة والوثنية والأضرحة، حتى لو أخلصت نيتك بهذا القدر فإن ذنوبك لا تجعلك من الشهداء، نقول: لا، لأن الشهيد يُغفر له عند أول دفعةٍ من دمه، يغفر له كل شيءٍ إلا الدين بإذن الله جل وعلا.(1/15)
زواج الشهيد من الحور العين وشفاعته
هذه من خصال الشهداء أن الله يغفر لأحدهم أو للشهيد عند أول دفعةٍ من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُلبس حلة الإيمان، ويُزوج بالحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور، ويشفع في سبعين من أهل بيته، وإني والله لأهنئ من مات ولده أو أخوه أو أبوه في سبيل الله أو قتيل المعركة في سبيل الله، هنيئاً له، سواء مات على حدودنا هذه أو مات في أفغانستان؛ لأنه يأمل بإذن الله وفضلٍ من عند الله جل وعلا أن يُشفع فيه فيكون معه في الجنة، وهذا حديثٌ صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان.(1/16)
الشهيد يجد من ألم الموت كما يجد من ألم القرصة
والشهيد كما قلنا آنفاً يختصر مراحل آلام الموت كلها، فلا يجد من آلام الموت إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة، وهي أن يُشد على الجلد بشيء قليل، قد ينال شيئاً من الأذى أو الألم لكنه يسيرٌ جداً لا يمكن أن يُقارن بآلام الموت وسكراته، يقول الشيخ عبد الله عزام أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، وهذا رجل ٌ ظُلم حياً وظُلم ميتاً.
أما الذين ظلموه حياً فقد تكلموا في عرضه وأسرفوا، وأما الذين ظلموه ميتاً فقد نالوا منه بعد أن وارى التراب جدثه وجسده وأقول: أسأل الله أن يغفر لنا وله ولهم، هذا المجاهد الهمام لما تكلم في إحدى رسائله حول حديث: (الشهيد لا يجد مس القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القرصة) قال: وهذا رأيناه مع شابٍ من أهل المدينة المنورة يقال له: خالد الكردي؛ يقول: خالد هذا كان يمشي ثم انفجر به لغم طارت منه قدمه، وانبقرت بطنه، واندلقت أقتابه -أمعاؤه خرجت- وجرح جروحاً بسيطةً في يده، فجاءه الدكتور: صالح الليبي، وهذا قتل نسأل الله أن يجعله من الشهداء، وجعل الدكتور صالح يلمم أمعاءه ويعيدها إلى بطنه، والدكتور صالح يبكي رحمه الله، فقال خالد الكردي لماذا تبكي يا دكتور صالح؟!! ما في إلا جروح ويشير إلى يده ولا يعرف أن رجله كسورة وأن بطنه مفتوحة، وهذا دليل على مصداقية هذا الحديث، والحديث صدقٌ بهذا وبغيره أن الشهيد لا يجد من آلام الموت إلا كما يجد أحدنا ألم القرصة.
فيقول خالد الكردي رحمه الله: يا دكتور صالح! هي جروحٌ بسيطةٌ في ظهر يدي، وأخذ خالد الكردي يحدث الذين حوله ساعتين كاملتين وهو يسبح ويهلل، حتى فاضت روحه ولم يعلم أن رجله مكسورة، وأن بطنه مبقورة.
وفضائل الشهداء عند الله عظيمةٌ جداً؛ شهداء غزوة أحد رضوان الله عليهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (لما أصيب إخوانكم بـ أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ، ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]) فهذه من فضائل الشهداء، أن الله تكفل بإجابة ما تمنوا أن ينقله إلى إخوانهم في الدنيا قال الشهداء: يا ليتنا نخبر إخواننا بما نحن فيه لئلا يضعفوا عن الجهاد في سبيل الله، فقال الله جل وعلا: أنا أبلغ إخوانكم عنكم، ربٌ عظيم، جليلٌ كريم.(1/17)
فضل الشهادة والرباط في سبيل الله
واعلموا أيها الأحبة! أن فضل الشهادة عظيم جداً بما سمعتم وبما تسمعون، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه؛ ما تخلفت عن سريةٍ تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل).
النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى أن يقتل أربع مرات في سبيل الله جل وعلا! من فضائل الشهادة: أن منهم من ينال الفضل العظيم وإن لم يركع لله ركعةً واحدة، أحد الصحابة عمرو بن أقيش كان له رِباً في الجاهلية فمات، فلما مات جاء سعد بن معاذ قال لأخته: سليه أقاتل حميةً أم عصبية؟ فقال: بل لله جل وعلا، وقصة أخ لـ سلمة بن الأكوع في خيبر قاتل بشدة فارتد عليه سيفه، فتكلم الصحابة فيه؛ لأن سيفه ارتد عليه هل يعتبر شهيداً؟ هل مات شهيداً في سبيل الله؟ فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كذبوا، مات جاهداً مجاهداً فله أجره مرتين) متفق عليه.
وختام الحديث نجعله في فضائل الرباط في سبيل الله جل وعلا.
والرباط: هو لزوم الثغر في مواجهة الكفار للدفاع عن المسلمين.
عن أبي أمامة في الحديث: (أن أربعةً تجري عليهم أجورهم بعد موتهم، ومنهم من مات مرابطاً في سبيل الله) حديثٌ صحيحٌ رواه الإمام أحمد.
ورباط شهرٍ كما في الحديث خيرٌ من صيام الدهر، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغُذي عليه برزقه، ورِيحاً من الجنة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يلقى الله جل وعلا، أي: أن كل واحدٍ منا إذا مات يختم عمله إلا من ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلى من ثلاث) المعروفة في الحديث (ورباط يومٍ في سبيل الله -كما في الحديث- أفضل من صيام شهرٍ وقيامه، ومن مات فيه أمن أو وقي من فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
ومن الفوائد المهمة أن من مواطن الدعاء بإذن الله جل وعلا الجهاد، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقام الصلاة، ونزول الغيث) حديثٌ صحيح.(1/18)
كل له دور وعليه مسئولية
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرةٌ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤذن له، وإن شفع لم يشفع) رواه البخاري عن أبي هريرة.
وهذا الحديث -أيها الإخوة- شأنه عظيم وعجيب، ونتأمله في كل وقتٍ وفي كل زمن، شبابنا وإخواننا ورجالنا بفضل الله جل وعلا في عددٍ من القواعد الجوية منهم: فرق طيران مكلفة بالأمن والسلامة والإنقاذ، هذه مسئوليتها حينما تسقط طائرة ويهبط الطيار منها مظلياً، أن تتحرك فرقة أو من يُكلف من فرقة البحث والإنقاذ والسلامة إلى هذا، قابلت عدداً منهم في قاعدةٍ من إحدى قواعد الجوية، وإذ بأكثرهم بفضل الله جل وعلا، إن لم أقل كلهم يقولون: لماذا يجعلوننا فقط للبحث والإنقاذ نريد أن ندخل ونجاهد كما يجاهد غيرنا؟ قلنا لهم: يا إخوان! حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعبدٍ) وأنت آخذ بعنان طائرتك هذه العمودية أو غيرها، إن كنت في الساقة كنت في الساقة، وإن كنت في الحراسة كنت في الحراسة، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا بطوبى أي: الجنة لمن كان في هذا المقام مستجيباً لما ينفع المجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فليس الأجر مقصوراً على الذين يهجمون للقتال، فإن من يكون في خطوط الإمداد والتموين لا شك أنه مجاهد.
هذه الطائرة مراحل إعدادها متعددة، الذين يقومون بالعناية بوقودها، لو لم يعتنوا بوقودها لما قامت بدورها ولما قام هذا المجاهد به، الذين يقومون بتسليحها ووضع الصواريخ فيها، لو لم يقم أولئك بدورهم ما نفعت، الذين يقومون بصيانتها وتفقد أجهزة الاتصالات فيها، لو لم يقوموا بدورهم ما نفعت.
إذاً فكلٌ له دورٌ وعليه مسئولية، والله إن الكثير منهم ما اقتنع إلا بعد أن كررنا عليه هذا الحديث: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة) فيطمئنون بفضل الله جل وعلا، ويقولون: نسأل الله أن يكون أجرنا كأجر إخواننا من المجاهدين في سبيل الله جل وعلا.
وحسبكم أن فضل الله واسع، فإن من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه، والذين يسألون الله الشهادة بصدق يتضح هذا من أعمالهم، أما أن تجد رجلاً بخيلاً في الإنفاق في سبيل الله، جباناً خواراً خوافاً ضعيفاً جزوعاً وهو يقول: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، ويتمنى ألا تُقبل، هذا كيف يريد أن ينال منازل الشهداء وإن مات على فراشه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46].
فينبغي لنا أن نتمنى وأن نُحدث النفس وأن نُعدها إعداداً طيباً للجهاد في سبيل الله جل وعلا، وبعض الإخوة سألوني آنفاً أن أحدثكم عن بعض كرامات الله جل وعلا لإخوانكم المجاهدين خاصة الذين قُتلوا في مدينة الخفجي، لا أقول: يقولون، وإنما أنا بنفسي سألت الأخ: محمد بن مهدي، برتبة رائد في كتيبة المشاة الآلية في الحرس الوطني، قابلته في تلك الكتيبة وسألته قلت: يقولون فما صحة هذا؟ قال: أنا بنفسي أخرجت عدداً من القتلى من الكمين الذي يكمنون فيه، وكنت قبل ذلك دفنت عدداً كبيراً من القتلى وكثيراً من الموتى في جماعتنا وفي قبيلتنا وباديتنا يقول: في الغالب يكون لبعض الموتى رائحة تنزعج منها النفس، وبعضهم تكون له رائحة بحكم ما يخرج من جوفه، يقول: وهؤلاء تجد الرصاص قد تخطف بطنه وتخرج أمعاءه، واختلفت أجزاء جهازه الهضمي والباطني يقول: والله تخرج الواحد منهم من الكمين ما تجد رائحةً تكرهها، قال: وأما بعضهم فو الله لقد شممت منه رائحةً زكيةً فائحة ليست من روائح الدنيا أبداً.(1/19)
الرد على من اعترض على مشاركة التحالف مع السعودية ضد العراق
فهذا أيها الأحبة! من فضل الله جل وعلا على الأمة، وهذا أيها الأحبة! من دلائل صدق أولئك؛ لأن كثيراً من الناس أشكل عليهم وجود قوات التحالف في هذا القتال، نحن ما قلنا بريطانيا جاءت تجاهد في سبيل الله، وما قلنا أمريكا جاءت تجاهد في سبيل الله، لكن هذه القضية المعقدة المتعددة الأضلاع واحدٌ من أضلاعها يتعلق بنا وبجنودنا وقواتنا وهو الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فمن اعتقد منهم أنه يُقاتل في سبيل الله لدفع عدوان البعث العراقي الكافر الذي تُقام القبور والأضرحة في بلادهم، وتعبد من دون الله، ويذبح وينذر لها، ويصلى عندها، وتسأل دفع الكربات، وجلب الحاجات، وكلها شرك أكبر.
من قاتل وهو يعلم أنه يدفع هؤلاء حتى لا يدخلوا بالشرك إلى بلاد المسلمين، ويقاتل وهو يعلم أن النظام الكافر في العراق قد جعل الدعارة والزنا مقنناً يحميه القانون والنظام، وجعل تصنيع الخمور محلياً يحميه القانون، من قاتل وهو يعلم أنه يدفع هذا الكفر وهذا الضلال وهذا الانحراف، من قاتل وهو يعلم أن في داخل حدود بلاده من المتحجبات خلافاً للمتبرجات في أرض غيره، من القانتات خلافاً للفاجرات في أرض غيره، من أطفال المؤمنين أبناء الفطرة، من الدعاة إلى الله، من المساجد التي تمتلئ بالندوات والمحاضرات، يقاتل وهو يعلم أنه إن تقدم الأعداء على بلاد المسلمين ما سمحوا بشيءٍ من هذا، بل ستحكم القوانين الوضعية ويُعطل ما بقي مما يُعمل به من الشريعة، من قاتل فهذا جهاد في سبيل الله، والجهاد أنواع: أوله: جهاد الطلب وهو: أن يتوجه المسلمون إلى الكفار فيفتحوا بلادهم ويخضعوهم للإسلام، أو للجزية أو القتال، هذا جهاد الطلب.
والنوع الآخر: جهاد الدفاع؛ وهو أن يحشد الأعداء على بلاد المسلمين، فمتى يكون الجهاد في سبيل الله؟! يكون جهاداً إذا دخل البعثيون مدينة الخفجي قلنا: لا، نصبر نتأكد حتى يصلون الجبيل، وإذا دخلوا الجبيل قلنا: نتأكد حتى يصلون الظهران، ويبدأ الناس في ضعفٍ وجبنٍ وخور حتى يطرق البعثيون الأبواب ويأخذون نساءهم، ويفعلون الفواحش بأعراضهم وبناتهم، متى يكون جهاداً إذاً؟! تجد بعضهم يقول: يا أخي! لا تبالغوا، اتقوا الله لا تنافقوا على الأمة.
يا أخي الكريم! نحن ما قلنا: أمريكا جاءت تقاتل في سبيل الله، ما قلنا: بريطانيا جاءت تقاتل في سبيل الله، أكلمك عن جنودنا، أحدثك عن أبنائنا، أحدثك عن رجالنا ونقول: من كان يعتقد هذه الأمور التي ذكرناها، فإن الله لا يضيع عمله، وإن الله لا يضيع جهاده، وهذه بوادر كرامات التي ظهرت صواريخ تضل يميناً ويساراً، ودماءٌ زكيةٌ تفوح مسكاً، وعدد منهم بفضل الله جل وعلا ممن ثبتهم الله قبل موتهم بالذكر والتهليل والتكبير، فكيف لا نسمي هذا جهاداً؟ ماذا نسميه؟! نسميه وطنية؟! ماذا نسمي قتال هؤلاء الذين فاحت دماؤهم بالمسك؟ نسميه وطنية؟! حتى الذين يتحدثون عن الوطنية، الحديث ينبغي أن يُبين ويوضح إن كان الكلام عن الوطن لأجل التراب، فالتراب موجود في كل مكان، وإن كان الحديث عن الوطن متعلق بالبحار فالبحار في كل الدنيا، وإن كان الكلام عن الوطن متعلق بالمنشآت والطرق والكباري فالطرق والمنشآت موجودة في دول العالم كلها.
وإن كان الكلام عن الوطن فينبغي أن يُبين، مرتبطٌ بوطنٍ فيه الجباه الساجدة، والأنوف التي تتمرغ ذلة بين يدي الله، الكلام عن الوطن الذي فيه شريعة تُحكم بإذن الله ونسأل الله الكمال والثبات، الكلام عن الوطن الذي فيه الدعوة والدعاة إلى الله جل وعلا، هاأنتم تجتمعون وتلتقون وإخوانكم يحاضرون ولهم دورٌ بارز في الدعوة إلى الله جل وعلا، وإن حصل ما حصل، فالمرد والعود أحمد بإذن الله جل وعلا.
لا يمكن يا إخوان أن نكون جفاةً في الأحكام، أو أن نكون بهذه الدرجة من الجهل أو البلاهة حتى نؤيد أعداءنا على ما يفعلون، يقول لي أحد الطيارين: المصيبة أن العراق الكافر -النظام العراقي الكافر- الذي يقول في البث الإنجليزي في إذاعة بغداد -نداء موجه إلى الجنود الأمريكان- لماذا تقاتلوننا ونحن عندنا مئات الكنائس تُتاح لكم فيها حرية تعبدكم الدينية؟ لماذا تقاتلوننا والجندي السعودي لو تلمست زوجته يقاتلك، ونحن أبناؤنا ينتظرونكم بالترحاب؟ لماذا تقاتلوننا ونحن نبيح لكم حرياتكم الشخصية من المشروبات وغيرها وهناك أنتم تمنعون؟ وفي المقابل في إذاعة أم المعارف تسمع آيات الجهاد وأحاديث الجهاد.(1/20)
الرد على شبهة التزام وإيمان صدام حسين
النفاق الواضح في هذه القضايا الخطرة، ومع ذلك من بلهاء المسلمين يحدثني اليوم دكتور بعد صلاة الظهر يقول: أجلس مع جماعة أتحدث معهم ويقولون: -وهم ليسوا من أهل هذه البلاد- يقول: لا يا أخي! إن صدام آمن والتزم.
سبحان الله العلي العظيم! بالأمس مذابح الأكراد في حلبجة والدعاة وأطفال المسلمين يقتلون، وشباب المسلمين لما جمعوا التبرعات لصالح أفغانستان يقتلون لأنهم جمعوا التبرعات، وفي النهاية يأتي أغبى الأغبياء يقول لي: صدام التزم وآمن!! ما هذا الكلام الفارغ؟! مصائب ولكن حقيقة أمة الإسلام لا تزال غوغاء ساذجة، في ليبيا خدعت الأمة بالإسلام، وانقادت وطبلت، والآن تكتوي بنار المحنة الاشتراكية.
في تونس خُدعت بالإسلام والآن تكتوي بنار الفتنة والمحنة، في مصر خدعت باسم الإسلام والآن تكتوي بنار المحنة، ما من قائدٍ تسلط على رقاب المسلمين إلا بدعوى الإسلام، فلما تمكن أخذ يذبحهم، رفع شعار الحرية وقتلهم لأجل حريته، ورفع شعار المساواة وقتلهم لأجل الاستبداد بسلطته، ورفع شعار الاشتراكية وقتلهم لأجل إغناء زمرته، فمصيبة الأمة المسلمة اليوم أن تختلط الأوراق عليها، ما أصبحوا يعرفون ماذا الذي يتعلق بهم.
ولأجل ذلك تجد البعض مسكيناً؛ لا يفقه كيف يكون دور الشاب المسلم في ظل الأحداث الراهنة؟ هذه المعركة القائمة لكل شابٍ دور، ليس دورنا في قيادة المرأة فقط لكي نواجه، نعم.
قيادة المرأة خطرٌ على المجتمع وقام الجميع لينفضوا أيديهم أمامه، ويبرءوا إلى الله من هذا الفعل، الذي هو خطوة للإباحية وخطوة للاختلاط الخطير في المجتمع، لكن لما تأتي قضية اجتياح دولة نقف هكذا أو لا نعرف ما هو دورنا؟ ينبغي أن نعرف الدور جيداً؛ دورنا أن نسعى بتثبيت إخواننا، دورنا أن نتصل بمن نعرف من أبنائنا وجنودنا لكي نشد على أيديهم ونذكرهم بالاحتساب في سبيل الله، وأنهم لا يقاتلون عن وطن الكفار، ولا عن البيع، ولا عن الكنائس، ولا عن حانات الخمور، ولا بيوت الدعارة.
وإنما قتالهم عن أعراض المؤمنين، عن المحجبات المتسترات، عن الدعاة وعن كل هذه الأمور، ما قلنا: والله هذا زمن عمر بن عبد العزيز أو عمر بن الخطاب حتى نقول: ما شاء الله اكتملت الآيات، لا، في كل زمنٍ حسنات وسيئات، لكن نحسب وندين لله جل وعلا أن مجتمعنا أفضل مجتمعات المسلمين في هذا الزمان، وما من مجتمعٍ إلا وفيه ما فيه من المعاصي، ولكن نسأل الله أن يعيننا على إصلاح ما في أنفسنا.(1/21)
واجبات على القاعدين لابد من القيام بها
أما أن يقف البعض موقف المتفرج على هذه الأحداث، تجد الشاب المسلم عنده وعي في القضايا الجزئية، والقضايا الكلية الخطيرة تجد الشاب المسلم متخلفاً أقول: هذا واحدٌ من أمرين: إما أن العقلية الإسلامية للشاب المسلم أو شباب الصحوة ما بلغت النضج الفكري الذي يتعامل مع القضايا السياسية الخطيرة كقضية دولة تجتاح دولة.
وإما: أنهم بأمرٍ أو بآخر خُطط لهم أن يبعدوا عن الساحة حتى لا يشاركوا، لكن الذي نراه أن من أراد أن يُشارك فالباب مفتوحٌ له، فلماذا نقعد هكذا ونضعف ونجبن عن المشاركة بحجة التخوف أو التردد؟ ينبغي أن نعرف دورنا وأن ندرك مهمتنا وأن نبدأ بمسئوليتنا.
أحد الذين يقاتلون على الحدود تعرَّف على أهله وبيته من أقاربك أو من جماعتك أو من جماعة جماعتك تتصل بهم، تكفل حاجاتهم، لهم مراجعات في المستشفى تذهب بهم، وما معنى: (من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا)؟ تكتب لوحةً وتقول: لقد خلفتكم بخيرٍ في رجلكم، وتضعها عند الباب، لا، تخلف الرجل المجاهد الغازي على الحدود بخير، أنك تتولى أسرته، أطفاله يمرضون تراجع بهم المستشفى، تجد خطراً على البيت تنتبه له، تذود عن عرضه كما تذود عن عرضك، تنتبه لبيته.
الباب مثلاً تجده مفتوحاً، باب أخيك المجاهد الذي الآن على الجبهة في الحدود، تنتبه: لماذا الباب مفتوح؟ أغلقوا بابكم، الصباح تأتي بالخبز لأولادك، تأتي لهم بالخبز، أي: أن تشعر أن بجوارك أسرة كأسرتك، فتخلفها بخير، تزورون الشرط؛ مراكز الشرطة، الأمن الداخلي، الأمن السري، الأمن العلني، في كل مكان تتصلون برجال أمن وتبينون ما هو الدور الخطير في هذه المرحلة، وتبينون أيضاً أن شباب الصحوة وأن جيل الصحوة جيلٌ ينتبه إذا كان يوجد لص يدور في الحارة في الليل، يوجد رجلٌ مشكوكٌ فيه مع بداية الأزمة كثُر الدخول والخروج عند الشخصيات الغريبة، تتتبع وتبلغ وتبحث، هذه من واجباتنا في هذه المرحلة.(1/22)
واجب طلاب العلم نحو الجنود
من واجبات طلبة العلم أن يذهبوا إلى الحدود، إلى القواعد الجوية والقوات البرية، وأن يثبتوا الجيوش ويقولوا لهم: إن ما تعملون جهاداً إن خلصت نياتكم لله، واعتقدتم ما تعملونه لوجه الله جل وعلا، حتى لا تختلط الأمور علينا، ونحن في أمس الحاجة إلى أن نشرح لأبنائنا وجنودنا كيف يكون العمل جهاداً؟ لسنا بحاجة إلى سرد الأحاديث والآيات عن الجهاد، بقدر ما نحن بأمس الحاجة إلى تكييف وشرح كيفية موقفنا في هذه الفتنة.
وهذه الفتنة -يا إخوان- فيها مصالح متعددة، ولا تكرهوا قدر الله فيها، إن الله ما قضى قضاء إلا بقدر، ما كان من أمرٍ إلا بقدر وما من قدرٍ إلا لحكمة، لأن الله لا يقدر عبثاً، وما كان قَدَرُ الحرب إلا لعدل؛ لأن الله لا يقدر ظلماً، وهذا القَدَرُ فيه تمام العدل.
البارحة الناس على أجهزة الراديو ينتظرون؛ تبدأ الحرب البرية أو لا تبدأ؛ لكن لماذا؟ لعله ينسحب! والله يا إخوان أسأل الله: اللهم إن كان في الحرب البرية خير للإسلام والمسلمين اللهم فأشعل فتيلها، يا إخوان! {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما بعده سبب
أتظنون لو انسحب هذا الفاجر -في نظري القاصر- لو انسحب وعنده قرابة ستين قاعدة جوية، رابع قوة في العالم قضية ليست سهلة، ولكن بفضل الله ضربت ودكت دكاً عجيباً، لكن إذا قيل: بقي قبل نشوب الحرب البرية قرابة 40% من القوة العسكرية العراقية، فإن الأربعين في المائة قد لا تساوي بقية قوة دول الخليج أو بعض دول الخليج، خاصةً الدول الصغيرة منها، فضرب مثل هذه القوة فيه خير للإسلام والمسلمين.(1/23)
الرد على شبهة: إذا دمرت قوات العراق لم يبق لإسرائيل ضد
وقد يقول قائل: ولماذا تُضرب القوة العسكرية العراقية ونحن بأمس الحاجة إلى إبقائها لكي نقاتل بها إسرائيل؟ من يقاتل إسرائيل؟ الذي يقول:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثاني
من يقاتل إسرائيل؟ من يرضى بشعار البعث:
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم؟!
أين عقول الأمة؟ إذا كان لنا في هذه المنطقة عدوان: إسرائيل والعراق، فإن ضرب العراق عسكرياً يجعل العدو واحداً، إذا كان أعداؤك اثنين فاجعلهم واحداً ففي هذا مصلحة، إذا كانت دول التحالف جاءت للحفاظ على النفط، فإنك أنت أيضاً مستفيد من المحافظة على النفط، وإلا ماذا سنفعل به؟! نشرب النفط إذا ما جاءوا من أجل حراسته والعناية به؟! وقد أثبت الواقع أننا بحاجة إلى قوات أجنبية.
هل كان جيشنا على المستوى العسكري المؤهل عدداً وتعداداً في مواجهة قوى العراق؟! قولوها صريحة وجدت شاباً في مجلس قال لي: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] قلت: والله يا أخي! قول الرسول أبلغ بعد قول الله جل وعلا: (خير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) لكن اثنا عشر ألفاً لا أنا ولا أنت منهم، من الذين يقاتلون إذا كان الله جل وعلا لا يحابي صحابة نبيه في ترك السنن والأخذ بالأسباب، في أحد يقتل سبعون من الصحابة بترك سنة من السنن، تدخل حلقتان من حلق المغفر في رأس النبي صلى الله عليه وسلم؛ يشج رأسه؛ تُكسر ثنيته صلى الله عليه وسلم، ما هناك محاباة في السنن، نأتي بعد غفلة طويلة لكي نقاتل العراق، ونظن أننا والله ستتنزل علينا الكرامات من ابتداء ما ندخل حتى ننتهي، لا.
إن جاء شيءٌ من التثبيت فهذا بحمد الله وفضله ومنّه، لكن الواقع يشهد أن الأمة ليست على مستوى مقابلة الجيش العراقي الذي جاوز المليون، لا في الإعداد الفردي الإيماني، ولا حتى في الإعداد العسكري، فكانت الحاجة ماسة إلى قوة أجنبية وللأسف إن الذين خالفوا فتوى العلماء في هذه المسألة الآن يعظون أنامل الندم في هذا، ولست أقصد أحداً بعينه.
ومن قال في هذه المسألة قولاً فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، حتى لا يظن البعض أنني أعرض بالدعاة أو بعض من تكلم في هذه المسألة، أحبابنا ومشايخنا ودعاتنا من الفضلاء الذين تكلموا في هذه القضية أقول: غاية ما هنالك إن أخطئوا فلهم أجرٌ واحد بدلاً من أن يكون لهم أجران:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ جاءت محاسنه بألف شفيع
أنسينا ما لهم في الدعوة إلى الله؟! أنسينا ثباتهم؟! أنسينا مواقفهم؟ كم هدى الله بهم من الضلالة؟! كم أنار الله بهم من عقول الغافلين؟! كم هدى الله بهم من الضلال من المسلمين؟! لكن الحقيقة يا إخوان هناك مسائل ينبغي أن نتعود على أخذها بالهدوء واللين والحكمة.(1/24)
واجبنا نحو العلماء
الحُباب بن المنذر في معركة بدر، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل قال: (يا رسول الله! أهو منزلٌ أنزلكه الله أم هو الحرب والرأي والمشورة؟ فقال: بل هو الحرب والرأي والمشورة، قال: إذاً يا رسول الله فامض حتى نصل أدنى ماءٍ بـ بدر ثم نشرب ولا يشربون) أي: الحباب اقترح على النبي صلى الله عليه وسلم، فخذوها قاعدة يا إخواني، والله إن علماءكم الذين شابوا في الإسلام، وأخص منهم بالذكر سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، وثلةً طيبةً من أمثاله الأبرار الأطهار الذين ما أفتوا والله خوفاً من السلاطين.
وما أفتوا مجبرين أو مكرهين، وما أفتوا لأجل مصلحةٍ من مصالح الدنيا، وإنما لعين الحكمة التي يرونها للأمة، يأتي شاب ما عرف الاستقامة إلا قبل ثلاث سنوات يتكلم في وجود القوات الأجنبية، وفتوى العلماء، والعلماء قالوا وقالوا، متى التزمت حتى تتكلم في فتوى العلماء؟! ينبغي أن نعرف قدرنا وقدر علمائنا وشبابنا حتى نعرف حقيقة المواقف التي بها نستفيد، وكيف نستثمرها أيضاً.
أقول: إن ما يدور فيه خيرٌ عظيم، ولست بهذا أقول: إن وجود القوات الأجنبية كله شهدٌ مصفى، لا والله، أليس الله يقول: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] أي: المال والولد فيه عداوة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا) أي: النفس فيها شر، الزوجة حينما تبني بها تضع يدك على ناصيتها وتقول: (وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) أي: أن فيها شراً، أتريدوننا أن نقول: إن القوات الأجنبية خيرٌ محض، فيها خيرٌ وشر، إذا كان النفس فيها شر، المال والولد فيه عداوة، الزوجة فيها شر، أفلا يكون شر في القوات الأجنبية؟ فيها شر، ولكن قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، فيها خيرٌ وشر، فنسأل الله أن يزيد سُخرتهم لنا فيما ينفعنا بخيرنا، وأن يكفينا شرهم لأن كل نفسٍ فيها شر.
هذا هو منطق العدل -يا إخوان- ومنطق الوعي والفهم الذي يجعل الأمة في أفضل حالٍ وأهنأ حال، ودائماً خذوها قاعدة إذا أفتى العلماء بأمرٍ فإياك أن تتعجل بمخالفة فتوى العلماء، حتى ولو رأيت أن ما تراه قد يكون أحوط أو أكثر دقة وصواباً من فتوى علمائك.
لماذا؟ على الأقل حتى تبقى وحدة الأمة مع علمائها، إذا أنكرنا أمراً نقول: العلماء قالوا هذا، على العين والسمع، ولما قال العلماء هذا الأمر قلنا: العلماء ما أصابوا في هذا، هذا خطر عظيم، بل ينبغي أن نذعن لعلمائنا، وأن نسمع لهم، وأن نحسن الارتباط بهم، وألا نتجرأ على الكلام فيما يتعلق بفتواهم خاصةً فيما يتعلق بمصالح المؤمنين، أقول: هذا في غاية النصح لنفسي ولإخواني وأحبابي، وحباً ودعاءً بظهر الغيب لعلماء المسلمين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك واسمك الأعظم أن تهلك شقي بغداد، اللهم أهلك طاغية العراق، اللهم أهلك البعثيين أجمعين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اكفناهم بما شئت إنك أنت السميع العليم، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم اجعل اللطف والخير فيما قدرت للمؤمنين، واجعل البأس والشدة فيما قدرت على الكافرين والبعثيين، اللهم اجعل اللطف والخير فيما قدرت للمؤمنين، واجعل البأس والشدة على البعثيين أجمعين يا أرحم الراحمين! يا من لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء!! أقول قولي هذا، فإن كان صواباً فمن عند الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/25)
حقوق ولاة الأمر
في هذا الدرس تحدث الشيخ عن مسألة التبعية وشرعية الحاكم والنظام في المملكة، مبيناً بعض الحقوق الخاصة بولاة الأمور الذين لم يحدثوا كفراً بواحاً وإنما جاروا وظلموا، وموقف أهل السنة من الخروج على الحكام الظلمة الفجرة.(2/1)
ضرورة الكلام عن حقوق ولاة الأمر
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله؛ على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، ومن بين هذه النعم العظيمة اجتماعنا في بيت من بيوت الله، نتلو كلام الله، ونتدارس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أحبابنا! موضوعنا اليوم يحتاج إلى العلم أكثر من العاطفة، ويحتاج إلى النقل أكثر من الاجتهاد، ويحتاج إلى الفهم والوعي أكثر من غير ذلك، والكلام عن حقوق ولاة الأمر فرع عن أصل اعتقاد لزوم البيعة وشرعية الحاكم والنظام، وليست هذه المسألة محل شك أو نزاع حتى نطرح تفصيلها، أي أن مسألة استقرار البيعة وشرعية الحاكم والنظام في هذه البلاد مسألة لا تحتاج إلى نصب كثير من الأدلة أو إقامة عدد من الحجج والبراهين، فأراها جلية واضحة لمن سلمه الله من الهوى ونفعه بعلمه وعقله.
لكننا حينما نقول: إن هذه المسألة فرع عن اعتقاد لزوم البيعة؛ لأنه لا قيمة للحديث عن حقوق ولاة الأمر إلا إذا كنا نرى ونعتقد أن هؤلاء الولاة لهم في أعناقنا بيعة، وحكمهم ونظامهم شرعي يجب الإذعان والسمع والانقياد له ويحرم الخروج عليه، ومن كان يرى غير ذلك؛ فإنا نبرأ إلى الله من قوله، بل نبرأ إلى الله من كل قول ينص أو يفضي إلى عدم القول بشرعية هذا النظام ولزوم طاعته.
أيها الأحبة! لا أعرف أن من منهج أهل السنة والجماعة أن يمتحن الناس في مسألة البيعة، بمعنى: أن نفترض الشك في آحاد الناس أو أعيانهم أو أفرادهم ثم نأتي لنمتحن كل واحد فنقول له: ما رأيك في هذه القضية وما قولك في هذه المسألة؟ لا أعلم ولا أعرف أن من منهج أهل السنة والجماعة أن يمتحن الناس في مسألة البيعة، خاصة وقد تواطأت مقاصد الشريعة وقول أهل الحل والعقد ومصالح الناس، واستقرت الأحوال على هذه البيعة، بل الذي أرى أن النزاع حول هذه القضية وأن امتحان الناس فيها هو كالتشكيك في نسب الأبناء إلى الآباء؛ لأنها قضية واضحة المعالم في لزومها وثبوتها فلا تحتاج إلى امتحان، وكما قال الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
أيها الأحبة! ومع ذلك فلا بأس أن يتكلم في هذا الأمر إذا اتهم أحد بالقول بضده دفعاً للريبة، ولا بأس أن يتكلم فيه من يخشى أن يتهمه الناس بضده، والدليل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما، إنها صفية) إذ فيه مشروعية القول والفعل إذا وقعت الريبة في شخص بأمر هو منه بريء، أو خشي أن تحوم حوله ريبة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خشيت أن يقذف الشيطان في قلبيكما أمراً) فحينئذ لا بأس بطرح هذا الأمر لتندفع هذه الريبة.
وقد يطرح هذا الأمر أيضاً لا من باب دفع الريب القائمة أو المتوقعة وإنما من باب تقرير هذا الأمر والتحذير من الشبهات الواردة حوله، وهو أصل مهم قبل حلولها أو تفاقمها وتناقلها بين الطغام والجهلة والعوام، وليس هذا بغريب، فقد ورد تقرير توحيد الله عز وجل، وورد التحذير من الشرك ودفع الذرائع الموصلة إليه، وأمر التوحيد أهم من هذه القضية، لكن الأمر إذا كان مهماً احتاج أيضاً أن يكرر وأن يقرر وأن يؤكد وأن يبدأ فيه ويعاد، فدل على أن الأصول المهمة حتى مع القول بالتسليم بها وعدم قبول النزاع فيها إلا أن ورود التأكيد عليها والتحذير مما يعارضها أمر مشروع، ولأجل ذلك نطرح هذه القضية ولهذا السبب: وهو أهمية هذه القضية وضرورة التأكيد عليها.(2/2)
أسباب الهروب من الكلام عن حقوق ولاة الأمر
ليس من الصواب أن نطرح القضايا والأمور الصغيرة بكل وضوح وحماس وجرأة، ثم نغفل أو ننسى الحديث عن هذه القضية الكبيرة والمهمة والخطيرة، فهذا الموضوع نادر ما يطرح، والسبب في نظري: لا يعود إلى نزاع فيه أو تشكيك، فهو مسألة محسومة بل هي من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، وإنما السبب هو الهيبة من طرح هذا الأمر، والنظر إلى كبار العلماء أن يطرحوه وحدهم دون غيرهم؛ ليؤكدوا على أهميته حتى لا تصبح هذه القضية على لسان كل مرشد أو واعظ قد لا يحسن عرضها أو دفع الشبهات الواردة حولها، ولكن لما انتقلت عدوى مناهج التكفير والخوارج بات لزاماً على كل داعية يأنس في نفسه القدرة والبيان أن يطرح هذا الأمر حسبة وقربة وعبادة لله، مع عدم اتهام الآخرين بالسوء لأنهم لم يطرحوه؛ لأن العبرة في طرحه بالقدرة عليه؛ ولأنه ليس من الأصل أن يمتحن الناس فيه كما قلت آنفاً.
أما الذين يتهمون إخوانهم ممن يطرحون هذا الأمر بالرجعية أو المداهنة أو النفاق والتزلف، فنقول لهؤلاء: إن كنتم تجهلون هذا الأمر ومنزلته من الدين فتعلّموا، وإن كنتم ترون ضد ذلك؛ فإلى الله نبرأ مما تقولون، وإن كنتم ترون هذا الأمر لكن لا تحبون الحديث فيه؛ فهذا هو الهوى {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] وإلا فبمَ نفسر كراهية الحديث عن هذا الأمر مع الإيمان والإقرار به؟ لا نفسر كراهية الحديث حول هذا الموضوع إلا بالهوى، وصاحب الهوى في مثل هذه الحال لا يرد النصوص الثابتة في هذا الأمر حتى نقول: إنه من المكفرين الذين لا يرون هذه المسألة، لكنه لا يستجيب لمقتضى هذه النصوص ولا يحب الحديث حولها، فهو كمن لا يشك في نسبته إلى والده لكن لا يريد أن يلتزم بحقوق والده عليه، فلم يبق لهذا تفسير إلا الهوى الذي حذر الله عز وجل منه.(2/3)
أثر الهوى في الموقف من ولاة الأمر
والهوى -أيها الأحبة- مستحكم في هذا الزمان، وأضرب لذلك أمثلة رأيتها رأي العيان وناظرت وحاورت وجادلت وناقشت فيها كثيراً من أهل الهوى، وسأضرب مثالاً أو اثنين على ثبوت الهوى والأعراض عن العقل والدليل حينما ترد بعض المسائل الخطيرة والكبيرة.(2/4)
أثر الهوى في إطراء الجماعات الإسلامية
فأول ذلك خذ على سبيل المثال: ماذا يقول أهل الهوى عن الجماعات الإسلامية المباركة الصالحة الموفقة التي عندها خير كثير؟ فلا نلغي جهودها ولا ندعي لها العصمة والصواب في كل أفعالها، ماذا يقول أهل الهوى عن الجماعات الإسلامية في الخارج؟ لو استطاعوا أن يحكموا بلدانهم ليحولوا أوضاعها إلى ما نحن فيه وعليه اليوم في هذه البلاد، ماذا سيقول أهل الأهواء عن إنجاز الجماعات الإسلامية هذه؟ يوشكوا أن يقولوا: إنها خلافة راشدة عادت من جديد، ولن يقبلوا من أحد صرفاً ولا عدلاً إلا بالقول بشرعية نظامهم وكيانهم هذا، لكن أهل الأهواء لا يرون هذا الإنجاز في هذه البلاد خيراً كثيراً ينبغي المحافظة عليه، وحكماً شرعياً ينبغي الطاعة له في طاعة الله ورسوله، بل ترى أهل الأهواء تارة يكرهون الحديث عن هذه القضية وتارة يعدونه نظاماً لا ينتسب إلى الإسلام، وبعضهم يكفر ولاته مع أنه يعده خلافة لو كان الذي يحكمه واحد أو آحاد ممن ينتمي إليهم.
بعبارة أخرى: لو استطاعت بعض الجماعات الإسلامية في بعض الدول المجاورة أن تصل إلى الحكم -وأسأل الله أن يمكن لهم في بلدانهم- فقلبوا وغيروا أوضاع بلدانهم مما هي عليه إلى ما نحن عليه اليوم فهل ترون ذلك أمراً يسيراً؟ وهل تظنون أنهم سيعدون هذا الإنجاز قليلاً؟ لا والله، لقد طبل وزمر وصفق وعظم وضخم إنجاز هو أقل من هذا بكثير ولا ينسب إلى هذا إطلاقاً، وقال بعض أهل الهوى: تجب الهجرة إلى تلك البلاد على رغم مما فيها من الخلل والنقائص الخطيرة والكبيرة في مسائل العقيدة، فأولئك إذا أنجزوا خيراً قريباً مما نحن فيه قالوا: هذا انتصار وفتح، وبعضهم يقول: خلافة، وبعضهم يقول: تجب الهجرة، أما الخير الذي نحن فيه فيرون أننا في مداهنة، وأننا في ولاء للكفار، وأننا في ضلال، وأننا أبعد ما نكون عن الإسلام، وهذه القضية أيها الأحبة دلائل الهوى فيها أن بعض الذين يسمعونها لا يطيقون الحديث أو لا يطيقون تمام الحديث عنها.
بعض الذين يستمعون إلى هذه القضايا أو يناقشون فيها لا يستطيعون استمرار الحديث فيها إطلاقاً، والسبب أنك تحجه بالدليل، وتحجه بالواقع، وتحجه بالمنطق، فلا يستطيع أن يرفض الأدلة، وليس عنده من الاستجابة ما يذعن لها فلا يبقى إلا الهوى الذي يصرفه عن الاستجابة لها، وإن شئتم مثالاً فسأعطيكم مثالاً آخر.(2/5)
أثر الهوى في التماس الأعذار لأربكان
ماذا قال أصحاب الهوى عن نجم الدين أربكان؟ هذا زعيم حزب الرفاة الإسلامي، وأنا واحد ممن فرحوا فرحاً عظيماً كبيراً لما استطاع هذا الرجل الوصول إلى سدة الحكم في تركيا، ولكن حصلت له مواقف منها: أنه وقف عند قبر أتاتورك، وأقسم أنه لن يحيد ولن يخرج بـ تركيا عن العلمانية، وماذا قال أهل الهوى؟ قالوا: إنه مضطر لهذا أمام الغرب، ولم يطعنوا في دينه، ولم يطعنوا في اعتقاده، ولم يطعنوا في نسبته إلى الإسلام، وأنا كما قلت فرحت بوصوله إلى سدة الحكم، ولست بصدد التصريح عن موقفي أو رأيي بالتفصيل تجاهه، لكن لو وأقول لو ولو مراراً: لو فعل أدنى من ذلك بكثير في بلادنا تحت ظروف حرجة مما لا يصل إلى درجة ما فعله أربكان -هداه الله إلى الحق- لعده أهل الهوى نصاً صريحاً في التكفير وإسقاط الشرعية ونقض البيعة، وما أزمة الخليج عنا ببعيد، ماذا قيل عنا وعن بلادنا وحكامنا وعلمائنا لما استدعينا قوات أجنبية لضرورة نحن أدرى بها، لكن أحكام الضرورة حلال لغيرنا حرام علينا، لكن أحكام الضرورة حلال عند أهل الأهواء ولغيرنا ولكنها حرام علينا! والأمثلة على تعامل كثير ممن ينتسبون اليوم إلى الإسلام بالهوى كثيرة، ولست بهذا أقف خصماً لجماعات أو دعاة أو أحباب، بل أسأل الله أن يسدد الجميع وأن يوفقهم لكننا نقول مع حبنا لهم نحن أدرى بما يصلح لنا وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحق أحب إلينا منهم.(2/6)
الرد على مواقف الاستهزاء والسخرية بالعلماء وطلبة العلم
أما الذين موقفهم الاستهزاء والسخرية بالعلماء وطلبة العلم الذين يطرحون هذه القضية بنصوصها وضوابطها الشرعية فإنني أذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود بسند صحيح عن ابن عمر: (من قال في مؤمن ما ليس فيه؛ أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال وليس بخارج) فإن تذكر وانزجر وارعوى بهذا الحديث، وخاف الله واتقاه في أعراض العلماء والدعاة الذين يطرحون هذه القضية نصيحة للأمة وبراءة للذمة؛ وإلا فله قول القائل:
إذا الكلب لم يؤذيك إلا بنبحه فدعه إلى يوم القيامة ينبح
ويا سبحان الله! كيف ينظر طائفة إلى آراء المكفرين وأذناب المعتزلة والخوارج بأنها اجتهاد أقل ما فيه أن يعد وجهة نظر لابد من احترامها وسماعها، فإذا ورد قول الذين وفقهم الله في هذا الأمر إلى الصواب وموافقة السنة والكتاب وجمهور العلماء وأولوا العقول والألباب؛ عد قولهم هذا نفاقاً وتزلفاً ومداهنة، وهذه المسألة المهمة وهي أن كثيراً ممن لا يرون تكفير الولاة والحكام لكن لا يرغبون في طرح هذه القضية ولا الحديث عنها، بل وربما انتقدوا واغتابوا من يطرحها ويتناولها فإلى هؤلاء نقول: إن القول بوضوح المبادئ والمواقف في الدعوة من أسباب استمرار الدعوة ونجاحها بإذن الله، فإذا كنت تؤمن بحقوق ولاة الأمر المتفرعة عن أصل الشرعية ولزوم البيعة؛ فبادر بقبول الحق بدليله، ثم إن هذا لا يمنعك أن تنكر المنكر الذي تراه بالسبل الشرعية، سواءً كان المرتكب للخطأ سلطاناً أو حاكماً أو وزيراً أو أميراً أو محكوماً، ولكن سبيل الإنكار عليه وطريقه ليس من العقل فيه أن يسوى فيه بين المختلفات، بل أنزلوا الناس منازلهم تحقيقاً للمصالح ودرءاً للمفاسد.
وهنا مسألة مهمة وهي أن كثيراً ممن يجدون في صدورهم حرجاً من طرح هذا الأمر أو لا يحبون سماع الحديث فيه يظنون أن الكلام عن حقوق ولاة الأمر يعني بالضرورة عدم الكلام عن حقوق الرعية لا، فكما أنه ينبغي أن تفصل وأن تشرح وأن يفهم وأن يوضح حقوق ولاة الأمر؛ فكذلك لابد أن تبين حقوق الرعية على ولاة الأمر، ولابد أن يبين عظم الأمانة التي سيسأل الله عنها الحكام يوم القيامة تجاه شعوبهم ومن ولاهم الله أمرهم.(2/7)
من حقوق ولاة الأمر: السمع والطاعة
أيها الأحبة! إن هذه القضية حينما نتكلم عنها فلا تعني أننا لا نتكلم عن غيرها، فإن هذا من الفهم القاصر الذي أتي من جهته كثير من الناس، ولا أريد أن أطيل بهذه المقدمة، لكن أقول هذا أوان الشروع بالمقصود فالقول بعون الله: إن أهل السنة وسط عدول بين طوائف الرافضة وطوائف المعتزلة والخوارج.
فـ الرافضة يقدسون الأئمة والولاة إلى درجة الغلو والعصمة، فلا يرون في فعل الأئمة منكراً فضلاً عن الإنكار عليه، وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم يرون الأمر والنهي مع الولاة بالسيف، والخروج عليهم بالشوكة وكسر البيضة مع القول بتكفيرهم وتخليدهم في النار، ويرون ذلك من صميم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طرف يغلو ويقدس الولاة، وطرف يسل السيف على الولاة، فجاء أهل السنة وسطاً عدولاً في هذا الأمر، لا يعتقدون للولاة عصمة من الخطايا والكبائر والصغائر، ولا يغلون فيهم، بل يتصورون وقوع الأخطاء والكبائر والصغائر منهم، ويرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاههم، لكن يحفظون حقهم ومنزلتهم في تحقيق الحكمة حال الأمر والنهي وهي: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي دون الخروج والتأليب أو التحريش بهم.
ويمكن أن نجمل حقوق ولاة الأمر في العناصر الآتية: أولها: السمع والطاعة في المعروف.
ثانيها: النصح ومنه الدعاء والإعانة على الحق.
ثالثها: توقيرهم في النفوس وعدم الاستهانة بشأنهم لما في ذلك من المفاسد العظيمة.
رابعها: تأليف الشاردين عنهم إليهم لما في ذلك من درء الفتنة وجمع الكلمة.
وهذا هو موجز الحقوق وإليكم الإيضاح بالتفصيل ما أسعف الوقت بذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] قال ابن كثير رحمه الله تعالى: والظاهر والله أعلم أن هذه الآية عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) وهذا الحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) لذلك الذين يريدون الانقلاب ويريدون الخروج على الأئمة، ويريدون القيل والقال في علمائنا وفي ولاة أمرنا حينما يريدون أن يحدثوا الفتنة في هذا المجتمع الذي نعيشه لا يبدءون بمسألة قبل مسألة، إقامة أدلة، بل لوي أعناق نصوص، وتكلف أدلة، وتمحل أدلة حتى يقولوا بأن هذه البلاد التي نحن فيها كافرة، فإذا كانت بلادنا كافرة؛ إذاً لا قيمة للحكام ولا قيمة للولاة ولا قيمة لهؤلاء العلماء الكبار ولا مكانة ولا منزلة لهم؛ ولأجل ذلك رأينا أن الذين شقوا العصا وخرجوا وكفروا، بدءوا بالاستهانة بالعلماء وبالتقليل من شأن كبار العلماء، تكلموا في شأن الشيخ/ ابن باز وقالوا: هذا الإنسان لا يفقه ولا يفهم، وتكلموا في الشيخ/ ابن عثيمين وقالوا: هذا إنسان ليس له رأي بين، وتكلموا في كبار العلماء وقالوا فيهم ما قالوا؛ هل بينهم وبين ابن باز عداوة؟ لا، هل بينهم وبين ابن عثيمين عداوة؟ لا، إنما أرادوا أن يكسروا السفينة حتى يغرق من فيها، أردوا أن يكسروا هيبة العلماء حتى إذا انتهت مكانة العلماء تلفت الناس يميناً ويساراً يريدون أحداً يقتدى بقوله ويتأسى بفعله، فلا يجدون إلا هؤلاء الخوارج ولا يجدون إلا هؤلاء المكفرين الذين يستهينون بالعلماء، ويسقطون قدرهم ومنزلتهم، فإلى الله المشتكى، وهو المستعان على ما يصفون ويقولون.
ومن أدلة لزوم الطاعة والجماعة ما أخرجه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمرني بالجماعة، وإنه من خرج من الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) ومن ذلك ما أخرجه الإمام أبو داود وأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة شبراً خلع ربقة الإسلام من عنقه) ولله در عبد الله بن المبارك المجاهد التاجر الغني الثري العالم المحدث الفقيه قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
كم يرفع الله بالسلطان مظلمة في ديننا رحمة منه ودنيانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا(2/8)
حادثة الحرة في عهد يزيد بن معاوية
جاء في صحيح مسلم: أن عبد الله بن عمر جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، يزيد بن معاوية لما تولى كان والياً فاسقاً، كان يشرب الخمر ويترك الصلاة، ويفعل محرمات عظيمة وكبيرة، حتى أنكر عليه علماء وأنكر عليه أئمة كبار هذه الأفعال، وكان من بين من أنكر عليه عبد الله بن مطيع.
لما كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد جاء عبد الله بن عمر زائراً لـ عبد الله بن مطيع، فقال عبد الله بن مطيع: اطرحوا لـ أبي عبد الرحمن وسادة.
فقال ابن عمر رضي الله عنه: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة؛ لقي الله لا حجة له، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
عبد الله بن مطيع بن حارثة أحد كبار التابعين، وقيل له صحبة، نزع بيعة يزيد بن معاوية من عنقه لما كان من يزيد من المعاصي والكبائر، وكان عبد الله بن مطيع وعبد الله بن حنظلة هما المتزعمان لفكرة الانقلاب أو الخروج على يزيد بن معاوية في المدينة، وكان سبب الخروج عليه كما قلت: إسرافه في المعاصي، بل قال عبد الله بن حنظلة: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة.
فلما كان منهم الخروج جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، وأخبره بهذا الحديث؛ ليكون رادعاً له عن الاستمرار في معصية الخروج، فلم يستجب عبد الله بن مطيع، وظن أن ما هو عليه سوف يزيل المنكرات، حتى أرسل يزيد بن معاوية سنة 63 للهجرة جيشاً لحرب عبد الله بن مطيع بقيادة مسلم بن عقبة المري، ويسميه أهل السنة مسرف بن عقبة فكانت وقعة الحرة المشهورة التي جرت فيها الدماء كأنها في يوم عيد الأضحى، وهرب عبد الله بن مطيع فكانت النتيجة أن قتل العشرات من القراء والحفظة والتابعين والعلماء بسبب هذه الفتنة وهي الخروج على هذا الحاكم الغاشم الظالم يزيد بن معاوية.
ولذا كان من مواقف عبد الله بن عمر في هذه الفتنة -فتنة الحرة- كما جاء في الصحيحين وغيرها عن نافع أنه قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع عبد الله بن عمر أولاده وأهله ثم تشهد وقال: أما بعد فإنا بايعنا هذا الرجل -يقول: نحن بايعنا يزيد - بايعناه على بيعة الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذا غدرة فلان وإن من أعظم الغدر -إلا أن يكون الإشراك بالله- أن يبايع الرجل رجلاً على بيعة الله ورسوله ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر فيكون الفيصل بيني وبينه).(2/9)
طاعة الإمام المتغلب على الناس بسيفه
يقول الإمام أحمد رحمه الله في شأن لزوم الطاعة حتى ولو للإمام الذي قهر الناس بسيفه، ولو للإمام المتغلب، يقول: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً براً، كان أو فاجراً.
وقد جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك -والمراد: اجتماع الكلمة عليه- وكانت الكلمة قبل ذلك متفرقة بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان كل ينادى بأمير المؤمنين، يقول عبد الله بن دينار: شهدت عبد الله بن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك فكتب ابن عمر -بعد الاجتماع-: [إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك].
يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله معلقاً على هذا الأثر في الفتح: وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وهذا الكلام كما تلاحظون هو في الإمام المتغلب، وهو الذي تسمى بيعته بيعة الإجبار، وفي ذلك يقول الشوكاني رحمه الله أيضاً: لا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أو تنفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل ذلك المنازع إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته.
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله ما معناه: إن الحاكم والسلطان المتغلب إذا لم يستجمع شروط الإمامة لكن تم له التمكين واستتب له الأمر؛ وجبت طاعته وحرمت معصيته، حتى لو جاء إمام آخر مستجمع للشروط، فلا يطاع ولا يستجاب للإمام الأخير، ويسمع للإمام المتغلب الأول الذي انعقد له الأمر واجتمع الناس إليه.(2/10)
السمع والطاعة في غير معصية الله
أيها الأحبة! مسألة الطاعة ليست من مسائل الفروع، بل هي من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، يقول الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، وتأملوا كلمة "ولا ندعو عليهم" فما أكثر الجهلة والأغبياء الذين يدعون على السلاطين اليوم.
ومعلوم أن الطاعة إنما تكون لسلطان له شوكة ومنعة، فمن لم تكن له شوكة ولا منعة فهذا لا سمع له ولا طاعة، إن السمع والطاعة لولاة الأمر من المسلمين في غير معصية مجمع على وجوبها عند أهل السنة والجماعة، وهي كما قلت من أصولهم التي تميزوا بها عن أهل البدع والأهواء، وقل أن ترى في مؤلفاتهم وفي عقائدهم إلا وتجد النصوص المتواترة الكثيرة على وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا، وإن ظلموا، وإن فسقوا، وإن فجروا وهذا الإجماع ليس اجتهاداً بل هو مبني على الأدلة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تواترت الأدلة في ذلك.
أخرج البخاري في صحيحه في باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ورواه مسلم أيضاً كذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) وقوله "فيما أحب وكره" أي: فيما وافق غرضه وهواه أو خالف ما يشتهيه أو يهواه.
يقول بعض أهل العلم: إن طاعة الحاكم واجبة على كل مسلم بما يوافق طبعه أم لم يوافق بشرط ألا يأمره بمعصية، فإن أمره بمعصية؛ فلا تجوز طاعته، ولا يجوز له محاربة الإمام أبداً.(2/11)
السمع والطاعة وإن منعوا الحقوق
ومن الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الإمام ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك) وقوله "في منشطك" يعني حالة نشاطك، وقوله "في مكرهك" أي حالة ما تكرهه من الأمور، ومعنى الأثرة الواردة في الحديث: أي الاختصاص بأمور الدنيا، أي: حتى لو أن الحكام استأثروا بالأموال واستأثروا بالدنيا واختصوا بها عن سائر الناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اسمعوا وأطيعوا ولو رأيتم أثرة في هذا الأمر، والمعنى: اسمعوا وأطيعوا ولو اختص ولاة الأمور بالدنيا، ولو لم يصلكم حقكم مما عندهم فهذا هو معنى الحديث.
ومما أخرجه مسلم في صحيحه وبوب عليه النووي فقال: باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق، عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سلمة: (يا نبي الله! أرأيت إن قام علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا، فماذا تأمرنا؟ فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فسأل سلمة ثانية، فأعرض عنه، فلما كانت الثالثة جذبه الأشعث بن قيس فالتفت صلى الله عليه وسلم وقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) وفي رواية لـ مسلم أيضاً (فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) والمعنى: أن الله تعالى حمل الولاة وأوجب عليهم العدل بين الناس، فإذا لم يقيموا العدل أثموا، والله حمل الرعية السمع والطاعة للولاة، فإن قاموا بذلك أثيبوا عليه، وإن لم يقوموا بذلك أثموا.
والمعنى: أن الله عز وجل أمر الولاة بالعدل وأمر الرعية بالطاعة، فإذا خرج الولاة عن العدل؛ فليس هذا بمبرر أن تخرج الرعية عن الطاعة.(2/12)
السمع والطاعة مع الصبر على الأذى
ومن الأدلة ما أخرجه مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنا كنا في شر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل وراء هذا الخير شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم.
قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم.
قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال: قلت: يا رسول الله! كيف أصنع إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع).
أنا أعلم أن هذه الأحاديث قد لا تعجب كثيراً من الذين لا يشتهون الكلام عن هذه القضية، لكن هذه مسألة دين، وهذه مسألة عقيدة، فكما أن الله عز وجل شرع أن صلاة الظهر أربع ركعات والعصر أربع ركعات والفجر ركعتان، فكذلك شرع لنا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسمع وأن نطيع ولو جلد ظهر مظلوم، ولو أخذ مال مظلوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بذلك، وهنا تكون الاستجابة لله ورسوله، أن تستجيب لله ورسوله فيما تشتهيه وما لا تشتهيه، فيما تحبه وما لا تحبه، نعم لا يوجد أحد يشتهي أن يضرب ظهره، وأن يؤخذ ماله ثم يقول: أنا أريد أن أسمع وأطيع، لكن إذا ورد الدليل وفقهنا؛ فحينئذ يكون التزامنا وإقدامنا وقبولنا بهذا الأمر طاعة لله وطاعة لرسوله وليس حباً في ظلم وليس حباً في مظلمة تكون على مسلم.
وتأملوا هذا الحديث أيها الأحبة فهو من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه سيأتي أئمة لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته، وذلك أمر عظيم في الضلال والفساد والزيغ والعناد، ومع ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم، أي أنه حتى لو كان حال الحكام وحال الأمراء على هذه الصفة؛ فإن المسلم مأمور بالطاعة في غير معصية الله، كما جاء ذلك مقيداً في أحاديث أخر حتى ولو بلغ الأمر ما علمتم من ضرب الظهور وأخذ الأموال؛ فإن هذا لا يحمل على ترك الطاعة أو عدم سماع الأمر، ولا يحمل على شق الجماعة والخروج على ذلك، فإن هذا الجرم عليهم سيحاسبون ويجازون به يوم القيامة، فإن قادك الهوى إلى مخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم، فلم تسمع ولم تطع لأميرك؛ فقد لحقك الإثم ووقعت في المحذور.
وهذا الأمر النبوي هو من تمام العدل الذي جاء به الإسلام، فإن هذا المضرور إذا لم يسمع ويطع وذاك المضرور إذا لم يسمع ويطع، والآخر الذي أخذ ماله لم يسمع ويطع؛ ماذا تكون النتيجة؟ يفضي هذا إلى تعطيل المصالح الدينية والدنيوية، فيقع الظلم على جميع الرعية أو على أكثر الرعية، وبذلك يرتفع العدل عن العباد والبلاد، فتتحقق المفسدة وتلحق بالجميع ولا تكون مقصورة على واحد أو اثنين أو عشرة أو مائة أو مائتين، بينما لو ظلم هذا فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج وسمع وأطاع، وكذلك الآخر إذا أخذ ماله فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج وسمع وأطاع؛ لقامت المصالح ولم تتعطل ولم يضع حقه عند الله سبحانه وتعالى، بل ربما عوضه الله خيراً منه وربما ادخره الله له في الآخرة، وهذا من محاسن الشريعة؛ فإنها لم ترتب السمع والطاعة على عدل الأئمة، ولو كان الأمر في ذلك لكانت الدنيا كلها هرجاً ومرجاً.
ومن الأدلة أيضاً ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم -فسماهم أئمة- الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم.
قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة) وفي لفظ آخر لـ مسلم أيضاً: (ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة).
ومن النصوص أيضاً ما أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة).
ومن النصوص الواردة في لزوم السمع والطاعة والصبر على جور الأئمة وعدم الخروج عليهم وعدم النزاع حتى لو كان منهم ما كان، ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث في الصحيحين - فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) هذا لفظ الإمام مسلم رحمه الله.(2/13)
كلام الشيخ ابن باز في وجوب طاعة ولاة الأمر
يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز متع الله به على طاعته: الواجب على جميع المسلمين في هذه المملكة السمع والطاعة.
وهنا مسألة: سماحة الشيخ يقول: الواجب على المسلمين في هذه المملكة؛ حتى لا يقول قائل: إن الكلام في السمع والطاعة عن ولاة الأمور، لكن نحن ما حددنا ولاة الأمور أو أننا نضمر في أنفسنا ولاة أمور آخرين غير ولاة الأمور الموجودين، فهذا أمر مهم: أننا حينما نتكلم عن السمع والطاعة لولاة الأمور، فنقصد بذلك السمع والطاعة لحكامنا هؤلاء الذين يحكمون البلاد المسئولين الحكام الأمراء، فالمقصود بولي الأمر هؤلاء الحكام، وليس كما يقوله آخرون: نحن نقول: ولاة الأمور، لكن نقصد ولاة أمورنا الذين في لندن! أو نقصد ولاة أمورنا الذين في مكان آخر لا، الصلاة على الميت الحاضر، حينما نتكلم عن ولاة الأمور فالكلام عن ولاة أمورنا في هذه البلاد كما يصرح بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
يقول: فالواجب على جميع المسلمين في هذه المملكة السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف كما دلت على ذلك الأحاديث -والسمع والطاعة بالمعروف- الصحيحة والثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن ينزع يداً من طاعة بل يجب على الجميع السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج على الطاعة، وخرج على الجماعة ومات؛ مات ميتة جاهلية) فالواجب على المؤمن السمع والطاعة بالمعروف، وألا يخرج عن السمع والطاعة بل يجب عليه الإذعان والتسليم لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول سماحته: وهذه الدولة السعودية دولة إسلامية والحمد الله، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتأمر بتحكيم الشرع، وتحكمه بين المسلمين، فالواجب على جميع الرعية السمع والطاعة لها بالمعروف، والحذر من الخروج عليها، والحذر من معصيتها في المعروف، أما من أمر بمعصية فالمعصية لا يطاع أحد فيها لا من الملوك ولا غير الملوك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة بالمعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) فإذا أمر ملك أو رئيس جمهورية أو وزير أو والد أو والدة أو غيرهم بمعصية كشرب خمر أو أكل الربا لم يجز الطاعة في ذلك، بل يجب ترك المعصية، وألا يسمع لأحد فيها، فطاعة الله مقدمة (إنما الطاعة في المعروف) هكذا جاءت السنة الصحيحة.
اللهم إنا نشهدك على ما في أنفسنا أننا ندين ونعتقد بما سمعتموه وبما قلناه من كلام سماحة الإمام الشيخ/ عبد العزيز بن باز.
ويقول سماحته -متع الله به على طاعته-: ننصح الجميع بلزوم السمع والطاعة كما تقدم، والحذر الحذر من شق العصا، والخروج على ولاة الأمور فهذا من المنكرات العظيمة، بل هذا دين الخوارج والمعتزلة -الخروج على ولاة الأمور وعدم السمع والطاعة لهم إذا وجدت معصية- وهذا غلط خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة بالمعروف وقال: (من رأى من أميره شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتاكم وأمركم جميع، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم؛ فاضربوا عنقه) أي أنه إذا أتى أحد يريد أن يشق العصا ويفرق الجماعة؛ فاضربوا عنقه، فلا يجوز لأحد أن يشق العصا أو يخرج عن بيعة ولاة الأمور أو يدعو إلى ذلك؛ فإن هذا من أعظم المنكرات ومن أعظم أسباب الفتنة والشحناء، والذي يدعو إلى ذلك يقتل.
يقول سماحة الشيخ: الذي يدعو إلى الخروج يقتل؛ لأنه يفرق الجماعة ويشق العصا، فالواجب الحذر من هذا غاية الحذر، والواجب على ولاة الأمور إذا عرفوا من يدعو إلى هذا؛ أن يأخذوا على يديه بالقوة حتى لا تقع بين المسلمين فتنة.
وسئل سماحته عمن يقول: أنا لم أبايع الوالي، ولهذا لا تلزمني بيعة، وليس في عنقي بيعة.
فأجاب سماحته: إذا اجتمع المسلمون على أمير وجبت الطاعة على الجميع ولو لم يبايع بنفسه، فالصحابة والمسلمون ما بايعوا أبا بكر كلهم، إنما بايعهم من بـ المدينة، بايع بعضهم ولزمت البيعة على الجميع، إذا بايع أهل الحل والعقد ولي الأمر وجبت الطاعة على الجميع وإن لم يباشر البيعة كل واحد من الرعية بل تلزمه البيعة وإن لم يصافح وإن لم يتول البيعة بنفسه.
هذه -أيها الأحبة- من النصوص المهمة العظيمة في شأن لزوم السمع والطاعة.(2/14)
النصيحة لولاة الأمور وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر
الثاني من حقوق ولاة الأمور: النصيحة لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة؟ قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم) ويدخل في هذه النصيحة: تنبيه الولاة والحكام على ما يقع في البلاد من مخالفات شرعية أو كبائر ومعاصٍ تكون سبباً لحلول النقم والبأس بالعباد والبلاد، والله سبحانه وتعالى يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقط لعامة الناس، بل حتى الحكام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فإن من ترك ذلك؛ فقد تشبه ببني إسرائيل الذين تركوا هذا الأمر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
وحديث أبي سعيد رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع؛ فبلسانه، فإن لم يستطع؛ فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) إذاً مناصحة الحكام وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أمرهم بالمعروف بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بغير منكر؛ من الحقوق التي تجب علينا تجاههم، وما أحسن ما قاله العلامة ابن رجب رحمه الله: والنصيحة لأئمة المسلمين معاونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وحث الأغيار على ذلك.
وأخرج الإمام أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم أبداً: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من وراءهم).
لكن هذه المناصحة وهذا الحق الذي يجب علينا تجاه ولاة أمورنا وهو نصيحتهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لابد لها من ضوابط شرعية، لما يترتب عليها من قبول أو رد يفضي إلى فتنة أو إصلاح.
إن السكوت عن مناصحة الحكام خيانة للحكام، إن السكوت عن أمر الحكام بالمعروف ونهيهم عن المنكر، إن السكوت عن بيان الأخطار التي تحل في العباد والبلاد خيانة للحكام هؤلاء الذين نحن نقول: يجب السمع والطاعة لهم.(2/15)
حسن الأسلوب في مناصحة الحكام
وإن من تمام الولاء لهم ومن تمام البيعة ومن تمام الإخلاص والنصيحة لهم، أن تبين لهم الأخطار وأن يرفع إليهم بشأن المنكرات، وأن يتابع معهم في هذا الأمر، روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وهذا الحديث نص في ضرورة مراعاة الكيفية التي يناصح بها الحاكم.
يا أحبابي! لو أن واحداً من الآباء جاءه واحد من أولاده فقال: يا أبت أنت فاسق، في بيتنا دش.
يا أبت أنت ديوث، أنت تفعل كذا وأنت تفعل كذا وأنت تفعل كذا، ما ظنك بالأب وهو يسمع من ولده هذه النصائح التي يقول فيها بعلم وبجهل وبحق وبباطل؟ والله يوشك أن يتخلص من حياته، إذا كانت نصيحة الولد للوالد تحتاج إلى مراعاة وأسلوب وكيفية؛ فكذلك مناصحة الحاكم لابد لها من كيفية تناسب المقصود وهو إيصال الخطر والمنكر وبيانه لهم وتحذيرهم من مغبته، وإيصال ما نقص من المعروف لهم حتى يأمروا بتمامه وإكماله.
روى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه عن عياض بن غنم قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبذله علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه) وهذا حديث عظيم وحجة قوية في مناصحة الحاكم، ما تأتي تناصح الحاكم أمام الناس فربما جعلته يستشيط غضباً ويتحداك عناداً وإصراراً، لكن كما في الحديث: (من أراد أن ينصح لسلطان بأمر فلا يبذله علانية -أي: لا تنصحه أمام خلق الله- ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان بن عفان لتكلمه؟ أي: يقولون: يا أسامة لماذا لا تنكر بعض الأمور على عثمان بن عفان الخليفة الثالث الراشد؟ فقال أسامة: أترون أني لا أكلم عثمان إلا أن أسمعكم؟! أي: أتريدونني أن أنصحه وأنتم تسمعون؟ تريدون أن أكلمه وأنتم تنظرون؟! والله لقد كلمته فيما بيني وبينه دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه.
أي: لا أريد أن أسن سنة في الجرأة على السلاطين والكلام عليهم في مجامع الناس العامة.
يقول سماحة الشيخ ابن باز: ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة بالمعروف، ويفضي إلى الخوف الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غيره، ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه -كل هذا من كلام الشيخ ابن باز- قال بعض الناس لـ أسامة بن زيد: ألا تنكر على عثمان.
قال: أنكر عليه عند الناس؟ لا، لكن أنكر عليه بيني وبينه، لا أفتح باب شر على الناس، ولما فتح باب الشر في زمن عثمان، وأصبحوا ينكرون على عثمان جهرة، ويتكلمون في عرض الوالي والخليفة الراشد في المجالس؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال آثاره إلى اليوم حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بسبب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه نسأل الله السلامة والعافية.
نعم أيها الأحبة! هذه أجوبة مسددة من إمام عالم مسدد قد شابت لحيته في الإسلام، وشهد له القاصي والداني بالحب، نحسبه من أولياء الله ولا نزكي على الله أحداً.
قال ابن مفلح رحمه الله: وقال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم يا من لا يخاف الله؛ فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شررها أو ضررها إلى الغير؛ لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء، قال: والذي أراه المنع من ذلك انتهى كلامه رحمه الله.
نعم هنا حديث صريح صحيح وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه، فقتله) لكن هذا رجل دخل على السلطان وقام إليه وقال له كيت وكيت وكيت، اتق الله، يوجد كذا، لا يوجد كذا، يحصل كذا، وقع كذا، فحينئذ إن سمع منه وخرج فالحمد الله، وإن دحرج رأسه على الأرض فهذا المناصح شهيد بإذن الله عز وجل، وهذا أمر ينبغي أن نفقهه؛ لأن بعض الناس يقول: هؤلاء الذين يتكلمون عن حقوق ولاة الأمر لا يحبون أن يأتي أحد لينصح ولاة الأمور لا والله، بل نحن نحرص ونعلم أن هذا من صميم حقوق ولاة أمرنا علينا، أن ينتخب لمناصحة ولاة الأمور العقلاء، العلماء، أهل التجربة، أهل الكلام الحسن، أهل المداخل الطيبة، الذين يحسنون الحديث ويعرفون الحسنات ويقدرونها، ويعرفون الأخطاء والسيئات ويقدرونها قدرها، ثم يأتون ليناصحون (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره فنهاه فقتله) نعم انظروا إلى كلمة (إمام) وكلمة (عند سلطان) من كان شجاعاً أو قوياً أو على درجة من العلم ويريد أن ينصح؛ فجزاه الله خيراً بالضوابط الشرعية والآداب المرعية.
وإننا نرى ولله الحمد والمنة أن هذا لن يحصل، أعني: لو قام أحد في بلادنا ودخل على الحاكم أو على أمير وقال له: اتق الله يوجد كذا أو لا يوجد كذا يسلم رأسه من الآن بإذن الله عز وجل، لن يقطع رأسه، يطمئن من ذلك، لكن الشاهد من الحديث أنه يكون هذا النصح مشروعاً إذا كنت في وجه الحاكم وجهاً لوجه، إلى إمام أو عند سلطان أما أن تجلس في أربعة جدران أو في جلسة خلوية وتجلس وتقول: الحاكم فيه والحاكم فيه والحاكم قال والحاكم فعل والحاكم صلح والحاكم زين ماذا ينفع الكلام مع الناس؟ بعض الناس لو ينقطع عليه الماء لا يستطيع أن يوصل ماء؟ بعض الناس لو انقطعت عليه الكهرباء لا يستطيع أن يصلح الكهرباء، تأتي وتكلم مساكين فقراء ضعفاء ليس لديهم خبرة ولا سالفة ولا حيلة وتكلمهم عن أخطاء الحكام؟! لا، هذا ليس من العقل وليس من المنطق بأي حال من الأحوال.
يقول ابن النحاس: ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رءوس الأشهاد بل لو كلمه سراً ونصحه خفية من غير ثالث لهما.
أي: كلما كانت النصيحة ما بينه وبين الحاكم سراً كلما كان هذا أفضل، والنصيحة يراد بها إبراء الذمة، ويراد بها إصلاح الأحوال، فأما إبراء الذمة فيقع بإبلاغ النصيحة، أي أنك تقول: والله أنا أريد أن أبرئ ذمتي، لا، لا تبرئ ذمتك أمام العامة أو أمام الناس، تريد أن تبرئ ذمتك ترفع برقية تذهب وتبلغ هذه الرسالة إلى من يصل إلى السلطان أو يدخل على السلطان، فتبرأ ذمتك بإذن الله عز وجل.
وأما الأمر الثاني من النصيحة فهو التحويل من حال إلى حال، أي إصلاح الأوضاع وإصلاح الأحوال من حال رديئة إلى حال جيدة، فأنت في هذا ما عليك إلا إبلاغ النصيحة وأما تغير الأحوال فبيد الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7].(2/16)
التفريق في النصيحة بين حال الأمن وحال الخوف والحرب
وهنا أيضاً في النصيحة يجب التفريق بين حالين: بين حال الأمن والرخاء والاستتباب، وبين حال الخوف والحرب والفتن التي تقع في البلاد، فلنضرب مثلاً أن بلادنا في حالة حرب وفي حالة معركة فهل من المنطق أن نأتي ونتكلم: أصلحوا زينوا بدلوا عدلوا غيروا لا، ليس هذا وقته، وليس هذا من الحكمة أبداً، بل ننتظر حتى تنتهي الحرب وينصرنا الله على من عادانا، ويبتعد العدو عن بلادنا، ويبتعدون عن حدود أرضنا، فإذا استقرت أوضاعنا؛ عدنا إلى حكامنا وقلنا: اتقوا الله، غيروا وبدلوا وعدلوا وأصلحوا، أما في هذه اللحظة الخطيرة، في لحظة الدبابات على حدودنا والطائرات تقصف والصواريخ ترمي ثم تأتي وتقول: الآن هي الفرصة المناسبة حتى يجتمع الناس على الحاكم فأضغط عليه ضغط إجبار يغير الأوضاع هذا ليس من الحكمة وليس من الدين بأي حال من الأحوال، إنما يجب أن يتحين لهذه النصيحة وقت الرخاء ووقت الطمأنينة، أما في حالة الخوف والحرب والخطر والفتن فحينئذ الخطر علينا جميعاً، يمكن أن يأتي العدو ويستبيح أرضنا من جهة شمالية وجنوبية وشرقية وغربية، ويطأ الأعداء هذه البلاد، فيقتلون الحاكم والعالم والداعي والآمر والناهي والغيور والفاسق والفاجر يقتلون جميعاً.
فليس من الحكمة أن يغيب عن ذهن المغير أو الناصح أن يعرف أو أن يقدر للزمن وللظرف والمناسبة قدرها ومكانها.(2/17)
التفريق بين الإصلاح وبين تكوين معارضة أو إثارة فتنة
وكذلك أيها الأحبة هنا مسألة مهمة لا يميزها كثير من الناس أو كثير من الشباب خاصة: تكوين معارضة شيء وإصلاح الأحوال شيء آخر، مثلاً يوجد بلاد أو في أي مجال في أي جانب يوجد فساد أو يوجد خلل أو يوجد انحراف فتغيير هذه الأمور وإصلاح هذه الأحوال شيء، أما تأليب الناس وتهييج الناس شيء آخر، ولذلك في حديث أو حوار ساخن حول ذلك المارق الماجن الذي يسمى " محمد المسعري " صاحب لجنة الحقوق في لندن، أتحدث مع أحد الإخوة وكان يتحدث عن الفاكسات التي أصبحت الآن أثراً بعد عين، ولا يوجد من يسمع بها، ولا من يقرأها ولا من يلتفت لها، بل أصبح الناس إذا ابتلوا بها يأخذها فوراً دون أن يقرأها ويرميها في الزبالة، وربما يجر عليها السيفون، هذا يكون معارضة ويريد أن يثير فتنة، يريد أن يؤلب فريقاً من الناس في هذا المجتمع، فتأليب الناس، تكوين معارضة، إثارة فريق من الناس هذا عمل، لكن الإصلاح عمل آخر، لا علاقة لهذا بهذا أبداً، ولا يمكن وباستقراء التاريخ ما عرف أن التأليب والفتن والخروج وهذه الأمور كونت إصلاحاً، بل الإصلاح شأن آخر، لكن بعض الأغيار وبعض الأبرار وبعض المساكين انطلت عليه الحيلة حتى أصبح أحدهم ينافح عن هذا المارق بكل ما أوتي.
أذكر مرة بعد صلاة التراويح وقف لي شاب وقال: لماذا أنت تعرضت لما قاله المسعري في الفاكس الفلاني.
قلت: أولاً: يا أخي الحبيب هذا الرجل نعم هو كذب علي مراراً، ودينه الكذب، يكذب كذبات كالشمس في رابعة النهار، وأنا ممن كذب علي، لكن يا أخي الحبيب ما حاجتك في هذا الكلام وما حاجتك في هذه القضايا التي يطرحها؟ قال: لا، هو سبق أن عرفته وسبق أن وثقت فيه.
قلت: أردت أن تضعه إماماً يقتدى، هذا بينك وبينه، الله يصلحك، لكن يا أخي الحبيب اعلم أن ما يفعله هذا المسكين هو تكوين معارضة، وقد حصل من قبله ما حصل، الذين يعرفون التاريخ السياسي للمملكة العربية السعودية وجد من حاول أن يفعل مثل ما فعله المسعري، بل وملك من قبله أموراً ما ملكها المسعري، وأوتي قوة ما أوتيها المسعري، وأوتي أساليب ما أوتيها المسعري، ومع ذلك أخمده الله وقتله في فتنته، وشتت شمله، ووأد حركته وفتنته في مهدها، فمن باب أولى هذا المسكين.
لذا أقول أيها الأحبة: فرق، وهذا الكلام قاس وجاف وصعب، وبعض النفوس لا تتحمله، لكن الحق لا بد أن نتحمله وإلا كنا أصحاب هوى، إذا جاء ما يعجبنا نشطنا له، وإذا جاءت النصوص عن رسول الله في أمر لا نحبه؛ نعرض عنها ونتجافى ولا نقبلها، حينئذ يكون هذا هو الهوى، فأقول: شتان بين تكوين المعارضة وبين إصلاح الأحوال.
يقول حنبل: اجتمع فقهاء بغداد بولاية الواثق إلى الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل فقالوا: إن الأمر تفاقم وفشا -يعنون إظهار القول بخلق القرآن- يقولون: ولا نرضى إمارته ولا سلطانه، فناظرهم في ذلك وقال: عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقوا عصاً من طاعة، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر، وقال: ليس هذا صواباً، هذا خلاف الآثار.
المأمون والواثق حملوا الناس وامتحنوهم وجروهم إلى القول بخلق القرآن، يمسكون الواحد تلو الواحد يقولون: ماذا تقول؟ القرآن كلام الله منزل أم مخلوق؟ إن قلت منزل؛ جلدوك وضربوك وآذوك، وإن قلت مخلوق؛ تركوك، مع أن القول بخلق القرآن فرية شنيعة وأمر خطير، كفر أو يفضي إلى الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومع ذلك يقول الإمام أحمد: لا.
يحاور فيه الفقهاء ويقول: لا، أنكروا في قلوبكم، ولا تنزعوا يداً من طاعة ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم.(2/18)
من الحقوق: توقير الأمراء والنهي عن سبهم
أيها الأحبة! ومن حقوق ولاة الأمر توقير الأمراء والنهي عن سبهم، فذلك أمر عظيم يقول عبد الله بن المبارك: من استهان بالعامة ضيع مروءته، ومن استهان بالعلماء ضيع دينه، ومن استهان بالحكام ضيع دنياه.
وروى الترمذي وأحمد عن زياد العدوي قال: كنت مع أبي بكرة عند منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس لباس الفساق.
فقال أبو بكرة رضي الله عنه: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله).
ثم أنا أسألكم يا أحبابي! لو أن الواحد أغلق لسانه، وأغلق فمه، وما تكلم في السلطان بخير ولا شر، هل سيحاسبه الله يوم القيامة؟ لا، ولو دعا للسلطان دعوة صالحة فهذا هو الأوفق والأقرب والموافق لمنهج أهل السنة والجماعة، لكن الذين يتكلمون في السلاطين بالشر ويسبون ويتهكمون ويستهزئون ويسخرون هؤلاء والله يهدون أعمالهم إلى هؤلاء الحكام والسلاطين، لا تظن أنك حينما تستهزئ بملك أو أمير أو مسئول أو سلطان أنك بهذا تزداد رفعة وإن أعجب بك بعض من حولك من أصدقائك وزملائك، لكن ثق أنهم يعجبون بك ولكنك أنت تتصدق بحسنات أعمالك على هذا الحاكم الذي تسخر به أو تستهزئ به أو تتكلم عنه.
وأخرج ابن عبد البر في التمهيد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [كان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهون عن سب الأمراء -وفي لفظ- نهانا أمراؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تسبوا أمراءكم ولا تغشوهم ولا تعصوهم، واصبروا واتقوا لله عز وجل، فإن فرج الله قريب].
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن هلال بن أبي حميد قال: سمعت عبد الله بن عكيم يقول: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان.
فقالوا: يا أبا معبد أو أعنت على دم عثمان؟ هل أنت ممن أعان على دم عثمان؟ فقال: إني أعد ذكر مساوئه عوناً على دمه.
أي: كأن عبد الله بن عكيم قد عدد أو تكلم في عثمان وذكر أن من مساوئ عثمان كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك ابن عكيم رضي الله عنه يستغفر ويقول: لا أعين على دم خليفة أبداً بعد عثمان.
قالوا: هل أعنت على عثمان؟ قال: إني أعد ذكر مساوئه إعانة على دمه.
ومعلوم -أيها الأحبة- أن هذا هو الحق والصواب، ومعلوم أن منهج أهل السنة في هذه القضية لا يصلح للطائشين ولا أصحاب الأهواء والمطامع؛ لما ينطوي عليه من اعتقاد الصبر والعمل به، لأننا أمرنا بالصبر مهما رأينا من أثرة أو رأينا من أحد أخذ ماله أو ضرب ظهره، أو رأى مسلم ما يكرهه، فإن الأمر مطلوب من المسلم أن يصبر على هذا الأمر، ومطلوب منا أن نناصح ولاة أمورنا بالحسنى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة، ولا يرون قتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفساد من القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة، فلا يدفع أدنى الفسادين بالتزام أعظمهما، ولعله لا تكاد تعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضاً: وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد في المدينة، وكـ ابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك في العراق إلى أن قال: وغاية هؤلاء إما أن يغلِبوا وإما أن يغلَبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم فلا أبقوا ديناً ولا أبقوا دنيا، والله لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.
وإن كان فاعل ذلك من عباد الله المتقين ومن أهل الجنة فليسوا أفضل من علي وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، ومع ذلك لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية من غيرهم.
يقول ابن تيمية أيضاً: وكذلك أهل الحرة كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم، والله يقدر لهم كلهم، وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء.
وكان الحسن البصري يقول: [إن الحجاج عذاب الله فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]].
نكتفي بهذا القدر أيها الأحبة من حقوق الولاة وضوابط أهل السنة والجماعة في هذه الحقوق، أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا، وأن يجمع شملنا، وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، وألا يفرح علينا عدواً، وألا يشمت بنا حاسداً، ونسأله أن يكون كلامنا وطرحنا لهذا الموضوع خالصاً لوجهه الكريم، لا نريد به غير وجهه عز وجل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(2/19)
الأسئلة(2/20)
الدعاء على الإمام الظالم
السؤال
بالنسبة لذكركم قول الطحاوي رحمه الله ومما جاء فيه أنه لا يشرع الدعاء على الإمام الظالم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن دعوة المظلوم مستجابة وأنه ليس بينها وبين الله حجاب) نرجو من فضيلتكم توضيح ما أشكل.
الجواب
معلوم أن الله عز وجل يقول: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] والكلام هو في سياق عموم مواقف أهل السنة تجاه الأئمة حينما يرون من الأئمة خللاً أو نقصاً أو رضاً بالكبائر أو عدم إنكار لها، فهل يشرع لهم ذلك؟ فالواجب: أنه لا يشرع الدعاء عليهم بل يدعى لهم، ومعلوم الكلام عن أهل العلم كالإمام أحمد والفضيل قوله: لو علمت لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان.(2/21)
كيفية المبايعة للإمام
السؤال
كلنا يعلم أن الناس في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم كانوا يقومون بالبيعة للخليفة كلهم أو غالبيتهم، ولصعوبة هذا الأمر في هذه الأيام فمن ينوب عن المسلمين في مسألة بيعة الإمام؟ أرجو التوضيح.
الجواب
أولاً: ليس بصحيح أنه في زمن الخلفاء الراشدين أن جميع الناس أو أغلبهم يبايعون لا، بل يبايع عدد من الأشياخ والأكابر وأهل الحل والعقد، وكذلك في هذا الزمن إذا مات الحاكم، قام الحاكم الذي بعده، وقد استقر له الحكم أصلاً، أي أنه انتقل إليه مباشرة بالنص عليه بولاية العهد؛ فتنتقل عليه ويبايعه كبار العلماء كبار القضاة وجهاء الناس رؤساء العشائر أهل الحل والعقد، ولا يلزم أن يأتي كل فرد وكل نفر أن يصفق بيده على يد الحاكم ليقول: بايعتك على كتاب الله وسنة رسوله.
ومعلوم أن البيعة تستقر إما بأن ينتخبه أهل الحل والعقد، أي قوم أو أناس وإن شئت أن تطبق على بلدنا هذا في المملكة: الحاكم إذا بايعه أهل الحل والعقد انعقدت له البيعة، أو أن يكون الحاكم الذي قبله حاكماً مقطوعاً بشرعية بيعته، فأوصى الحاكم السابق بولاية العهد لحاكم لاحق، فلما زال السابق انتقلت الإمامة إلى هذا الذي نص عليه بالولاية فصار إماماً ثم بايعه أهل الحل والعقد وانتهى الأمر.
وقد تتحقق شرعية الحاكم إذا استطاع أن يقهرهم بسيفه، وأن يجمعهم تحت سلطان واحد، فمثلاً لو كان الناس قبائل وفوضى ومشتتين ومشردين وهؤلاء يغيرون على هؤلاء، ويسلبون هؤلاء، ويغزون هؤلاء، ويسرقون من هؤلاء المهم حياة فوضى، كل قبيلة تعدو على القبيلة الأخرى فجاء حاكم وأخضع جميع القبائل بسيفه، وأخضعهم بسلطانه، وقال لهم: إنه يحكم فيهم كتاب الله وسنة نبيه؛ فهذا بيعة شرعية يجب فيها السمع والطاعة.
أما ما يسمونها الديمقراطية والله لا تصير عندنا ديمقراطية، الديمقراطية تعطي الممثل صوتاً، وتعطي الفنان صوتاً، وتعطي المهرج صوتاً، وتعطي الساحر صوتاً، وتعطي للماجن صوتاً، وتعطي للداعرة صوتاً، وكل إنسان له صوت سواءً كان عاقلاً أو فاسقاً أو كبيراً أو صغيراً أو جاهلاً أو متعلماً أو خبيثاً أو طيباً أو صالحاً أو طالحاً كلهم يعطى صوتاً بالانتخاب والترشيح، وهذا ليس بصحيح، إنما الذي يرشح ويعطي صوتاً هم أهل الحل والعقد من العلماء الأبرار ومن وجهاء الناس وسادات القبائل وكبار العشائر هؤلاء هم أهل الحل والعقد، فإذا اجتمعوا على إمام عقدت له البيعة، أما قضية ما عندنا ديمقراطية حسناً انظر إلى الديمقراطية الآن ماذا تفعل في الجزائر، ماذا تفعل الديمقراطية الآن في كثير من البلدان، مذابح طاحنة، والذين يكرهون مجتمعنا اليوم، والذين يكرهون واقعنا اليوم، والذين يتمنون تغير أحوالنا اليوم؛ هم كأناس يعيشون في بيت يتمنون أن يهدم حتى يعيشوا في العراء فيفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
إذا كان بيتك ينقصه باب، تنقصه نافذة، بعض الإضاءات غير صالحة، الماء أحياناً ينقطع، الكهرباء أحياناً تنقطع هذا ليس بمبرر أنك تأتي بجرافة وتهد البيت، إذا كنت تلاحظ في مجتمعك أو في بلادك بعض النواقص هذا ليس بمبرر لأن تدعو أو تتمنى أو تتسلط أو تروج أو تحب أو تشيع الفكر الذي يدعو إلى إسقاط هذا النظام بالكامل لا، بل تحرص أن تحافظ على هذا النظام، وينبغي أن نفهم هذه القضية فهماً دعوياً علمياً شرعياً أننا لا نستطيع أن ندعو إلا مادام هذا النظام قائماً، لو اختل هذا النظام -لا قدر الله- لا تستطيع أن تقوم بأي عمل خيري، لا تستطيع أن تقوم بدعوة أو طباعة كتب أو كفالة دعاة أو كفالة أيتام أو أعمال خيرية أو محاضرات كل هذه الأعمال في ظل النظام القائم، فلو اختل النظام تريد أن يسقط النظام ثم تأتي تدعو بمحاضراتك وأفلامك وكتبك وخطبك وأشرطتك هذا من الحماقة وقلة العقل، وهذا من السفه ونقص العلم، ولكن أصحاب العقول كما يقول القائل:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
الجاهل مرتاح، أكلف ما عليه أن يصدق إشاعة، يتبع صيحة، يتبع ناعقاً، لكن العاقل من الصعوبة أن يقبل، ومن الصعوبة أن يصيح إذا صاح الناس، ومن الصعوبة أن يتابع الناس فيما يقولون؛ لأنه ينظر في أمور لا ينظر إليها الصغار أو لا ينظر إليها الطغام والعوام والجهلة.(2/22)
كيفية نصرة المظلوم إذا كان خصمه الوالي
السؤال
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) فكيف أقف مع آخر إذا كان على حق وخصمه الوالي وهو على باطل؟
الجواب
والله يا أخي الحبيب نحن مر بنا أن الولاة ليسوا معصومين من الأخطاء أو الكبائر أو الصغائر هذا أولاً، الأمر الثاني: تستطيع أن تنصره إذا استطعت أن تصل إلى الوالي وتبلغه هذه النصيحة إما بلسانك أو ببرقيتك أو برسالتك، وإن لم تستطع اذهب إلى أحد العلماء الأجلاء الذين يسمع لهم وبلغ له هذه المظلمة.
وافرض أن هذا لم يستطع أحد أن ينصفه من هذه المظلمة، لا استطعت أنت لا ببرقية ولا برسالة ولا دخلت على الوالي ولا استطاع العالم أن يغير شيئاً، وبقي أخوك المسلم هذا مظلوماً صبراً على قدر الله، إنا لله وإنا إليه راجعون نصبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى أن تنجلي الغمة وتصلح الأحوال.
إذا لم تتعدل الأحوال فلابد أن نطلق النار من الزناد! ونرفع السيف! ونرى الخروج ونعلن التكفير؟! هذا هو بيت القصيد، بيت القصيد هو أنك إذا أتيت للوالي أو الحاكم وقلت: هذا ظلم هذا مسكين هذا مظلوم، وهذا لا يجوز، فرضاً قال الوالي: لا، ليس عندي استعداد، ولن أقبل قولك ولن أقبل كلامك.
تقول: نعم، لست بقابل كلامي بالحسنى أو بالرشاشات! هذا ليس منطقاً، قيمة المحاضرة كلها أنه حينما يصيبك هذا تقول: سمعاً وطاعة لكم في طاعة الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون في هذه المظلمة التي ما أنصفتم صاحبها، وعملاً بمقتضى معتقد أهل السنة والجماعة المؤيد بالأدلة من الكتاب والسنة من كلام الله وكلام رسوله أننا نصبر على جور الحكام، ونصبر على جور الأئمة، إلى أن تنجلي الغمة هذا معنى التفصيل في مسألة حقوق ولاة الأمر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وجزاكم الله خيراً.(2/23)
أسباب هلاك الأمم
لا يزال الله يبسط نعمته على خلقه مالم يأشروا ويبطروا، ويفسقوا ويفجروا، ولا يزال عذاب الله مدفوعاً وانتقامه مرفوعاً عن الناس حتى يجاهروا بالفواحش، ويتفاخروا بالزنا وشرب الخمر ومعصية الله، وليس بعيداً عنا ما نزل بالكويت من تسليط غيرهم عليهم، وإذا بهم قد تبدلت أحوالهم بين عشية وضحاها، والمقصود الذكرى والاعتبار!!(3/1)
سبب الهلاك وماهيته
الحمد لله حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله ملء السماوات وملء الأرض، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، اللهم لك الحمد حتى ترضى، اللهم لك الحمد لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، سبحانك اللهم ربنا ما عبدناك حق عبادتك، وما شكرناك حق شكرك، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحدٌ في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله: أعود مثنياً بالسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع شاهداً لنا، به تقوم الحجة لنا لا علينا بإذن الله جل وعلا.
معاشر الأحبة: والأمر كما ذكر فضيلة الشيخ المقدم: عنوان هذه الكلمة "أسباب هلاك الأمم" وتعلمون، ويعلم كل من نظر في مسرح التاريخ أن هناك أمماً سادت وملكت وشيدت، ثم أهلكت وبادت، وكأنها لم تكن.
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
أين الملوك ذووا التيجان من إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
أتى على الكل أمرٌ لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
والهلاك -يا عباد الله! - من سنن الله الكونية لكل أمة أعرضت عن الأخذ بكتابه، وأعرضت عن التمسك بوحيه الذي أنزله صراطاً هادياً للبشر أجمعين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] إن من أعرض عن ذكر الله جل وعلا، فإن سنة الله فيه أن يهلكه، وأن يعذبه حياً وميتاً، وإن من تمسك بكتاب الله، فإن سنة الله فيه أن يحفظه، وأن ينصره حياً وميتاً، والأمر معروضٌ للبشر، فما سلكوا من أمور الخير، وجدوا ثمرته، وما سلكوا من طريق الشر، جنوا عقوبته الوخيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والهلاك -أيها الأحبة! - تغيرٌ يصيب أمة من الأمم بسبب ما غيرته وأحدثته، لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] لا يأتي الهلاك ابتداءً، ولا يعذب الله أمةً حتى يقيم الحجة عليها: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، فتقوم الحجة على الأمم بالرسل، أو بالوحي، أو بالشرائع، أو بالهدي المبين، ثم بعد ذلك إن هي أخذت وتمسكت بكتاب الله نجت وأفلحت وفازت، وإن هي أعرضت حقت عليها سنة الله في الأولين والآخرين {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43] سنة لا تحابي أمةً من الأمم، سواء كانت أمةً كردية، أو أمةً عربية، أو أمةً فارسية، أو أمةً أعجمية، فإن سنن الله في هذا الكون لا تتغير ولا تتبدل أبداً.
واعلموا أيها الأحبة! أن أي هلاك يحل بأي أمة من الأمم إنما هو بسبب إحداث وتغيير كما قلنا، فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، فإذا كنت في نعمة من دين الله، ونعم الله وفضل الله، فارع هذه النعمة بالمحافظة والتمسك.
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم(3/2)
من أسباب هلاك الأمم
أيها الأحبة: وندخل في موضوعنا مباشرة ألا وهو: ذكر شيء من أسباب الهلاك التي بها تهلك الأمم.(3/3)
الظلم
من أوائل الأمور التي يحق عليها أمر الله على أمة من الأمم بالهلاك: الظلم؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأظلم الظلم الشرك بالله جل وعلا، وهو: وضع العبادة وصرفها عمن يستحقها إلى من لا يستحقها، ولذلك قال الرجل الصالح لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الظلم درجات، فأعظم الظلم وأشده وأخبثه، وبه يكون هلاك الأعمال، وبه يكون إحباط العمل ألا وهو الشرك بالله، والكفر به جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] {مَثلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} [إبراهيم:18] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39]، فإن من وقع في أعظم الظلم وهو الكفر، أو الشرك، فإن الله لا يقبل منه عدلاً ولا صرفاً، كما في الحديث: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)؛ لأن الله جل وعلا لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:13 - 14]، ويقول تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الحج:45] وقال سبحانه وتعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35].
الظلم -يا عباد الله! - بمراتبه المختلفة التي قال عنها شيخ الإسلام: إن أعظمها صرف العبادة لغير الله، ويليها درجة ظلم العباد بالتسلط على حقوقهم، وعلى دمائهم، وأعراضهم.
ثم يلي ذلك الظلم درجةً ظلم العبد نفسه بالذنوب والمعاصي.
فأما الظلم الأول: فكما قلنا: لا يقبل الله معه صرفاً ولا عدلاً، ولا يقبل من صاحبه قليلاً ولا كثيراً.
وأما الظلم الثاني: فلا بد لمن وقع فيه أن يتوب إلى الله، فمن وقع في الظلم الثاني ألا وهو أخذ حقوق العباد، والتسلط على حرياتهم وأعراضهم، ودمائهم وأموالهم، فلا يمكن أن يسلم من عاقبة وخيمة لهذا النوع من الظلم إلا من تاب إلى الله توبةً صادقةً نصوحاً، ورد إلى العباد ما ظلمهم وغصبهم، ونال من حقوقهم ومقدراتهم.
والظلم الثالث: وهو ظلم النفوس بالمعاصي والذنوب، فإن كانت ذنوباً تقع من غير إصرار فتلك مكفرة بآيتي النجم والنساء -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - ألا وهي قول الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] والآية الأخرى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] فمن وقع في صغائر الذنوب من غير إصرار ومن غير استمرار؛ فذلك بإذن الله يكفره ما ورد في هاتين الآيتين، وتكفره أعماله الصالحة؛ من الخطى إلى المساجد، والوضوء، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، والصلاة مع الجماعة، والاستغفار، والحسنات الماحية للسيئات، ومن أصرَّ على الذنوب إصراراً فلا بد أن يقلع؛ لأن من أصرَّ على صغيرة كانت في حقه كبيرة، ومن فعل كبيرةً ثم تاب عنها محيت عنه بفضل الله ومنه وكرمه.
فعلى أية حال: لنعلم أيها الأحبة! أن تسلط العباد على أنفسهم سببٌ لهلاكهم في الجملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولنعلم أن من أخبث الظلم: ظلم العباد، وأخذ أموالهم وأراضيهم، ومقدراتهم وحقوقهم، هذا الظلم الذي شاع في عصرنا وفي زماننا هذا، وأصبح الناس لا يهمهم إلا ترتيب حيلة تنطلي على الحكام الذين يقضون بين الناس حتى ينالوا بها أموال غيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا من أخبث أنواع الظلم بعد الشرك:
تنام عينك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنم
النبي صلى الله عليه وسلم قال ل معاذ: (واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فالظلم شأنه خطير حتى ولو ظلمت كافراً من الكفار، والله! لو ظلمت كافراً من الكفار فلينتقمن الله له إن هو دعا: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، لا يعزب عن علمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
إذاً: فالتسلط على حقوق العباد لضعف، أو لمسكنةٍ هم فيها، أو لأنهم لا جاه لهم، لا سلطان ولا منزلة، هذا أمرٌ واقعٌ في هذا الزمان، واقعٌ في كثير من أمم الأرض، التسلط على الضعفاء، التسلط على المساكين، الوشاية بالأبرياء، من أخبث أنواع الظلم أن تشي، وأن تقول: في فلان بن فلان كذا وكذا، وهو خليٌ مما رميته وبهته به، فهذا من أعظم الظلم لعرضه، والله جل وعلا منتقم، والله جل وعلا بالمرصاد، والظلم مكيال؛ بقدر ما تظلم فإن الله يستوفي لك استيفاءً وافياً كاملاً، ويزاد على ذلك عقوبة من الله بسبب جرأة عبده على ظلم غيره.
الظلم يا عباد الله! أمرٌ خطيرٌ جداً، وبه يحصل هلاك الأمم، ضرب البرامكة ونكبوا نكبةً عظيمةً خطيرةً حتى أصبحوا من سوقة الناس وعامتهم، وبالأمس كانوا في قصور الملوك والخلفاء، فجاءت واحدة من بنياتهم تحدث أمها، تقول: يا أماه! ما الذي حول بنا الأحوال، وغير بنا الأمور حتى صرنا إلى ما نحن فيه؟ فقالت: يا بنية! دعوة مظلوم سرت بليل، ونحن عنها غافلون، ثم أنشدت:
رب قومٍ أمنوا في نعمةٍ زمناً والدهر ريان غدق
سكت الدهر زماناً عنهمُ ثم أبكاهم دماً حين نطق
ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإني أحذر كل مسلم من أن يظلم واحداً من إخوانه في عرضٍ أو مالٍ، أو في قليلٍ أو كثير، ومن أخبث هذا أن يشي، أو ينقل المسلم عن أخيه شيئاً ليس فيه، أو أن يزور ويعظم في شأنه أمراً ليس فيه، فإن هذا من أخبث أنواع الظلم، ولقد رأينا مصارع الظالمين في هذا الزمان، والله لقد عرفنا ممن تسلطوا على أهل الخير، ممن تسلطوا على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فكان همهم وجل اهتمامهم أن يتتبعوا زلاتهم، وأن يتربصوا بهم الدوائر، فما كانت العاقبة إلا أن يحيق المكر السيء بأهله، وعلى الباغي تدور الدوائر، ولا نقول هذا شامتين، نعوذ بالله من الشماتة، لا يشمتن مسلمٌ بأخيه فيبتلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إذا ما الدهر جرَّ على أناسٍ حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
والله لا نشمت، لكنا رأينا مصارع الظالمين، وأقولها وعن تجربة: والله! إن من ظُلم في باب الوشاية والنقل السيء عنه، فعليه بآخر الليل، وعليه بالوتر، وعليه بالدعاء في السجود، والقنوت، والله لينتقمن الله لك ممن ظلمك حتى يفضحه بين رءوس الخلائق؛ لأن الظلم معصية متعدية، رب نوع من الذنوب والمعاصي تكون قاصرة، فالذي يفعل معصية من المعاصي القاصرة على نفسه، لاشك أن وزرها وإثمها عليه، وعاقبتها وخيمة، لكن من اقترف مظلمة تتعدى إلى واحد من المسلمين، سواء في عرضه، أو في ماله، أو بالوشاية عنه، أو في دمه، أو في التسلط عليه، فوالله لينتقمن الله منه، وأخبث الظلم ظلم الضعفاء، هذا أسلوب يمارسه الجبناء، أهل الخسة والدناءة الذين يظلمون الضعفاء، الذين يجدون أقواماً.
أو بعض أقوامٍ ليس لهم سلطان، ولا نصير إلا الله جل وعلا، ونعم المولى ونعم النصير، فأولئك يوم أن يظلموا هؤلاء الضعفاء، والله! إن لهم من الله عقوبة عاجلة في الدنيا، وبلاء وعذاباً مستطيراً في الآخرة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى في أول سورة النساء لما بين شأن أولئك الذين يُوَلَّون أمور الأيتام والوصاية عليهم، قال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:9] اتق الله في الآخرين يحفظ الله ذريتك من بعدك، إذا أردت أن تسلم ذريتك، أن يسلم أطفالك، أن يسلم أهلك وأولادك من بعدك، فاتق الله في الآخرين تحفظ ذريتك من بعدك: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] صلاح أبيهما، وهذا الصلاح يعني: السلامة من الظلم، سَخَّر الله له نبياً من الأنبياء يبني جداراً ليحفظ مال هذين اليتيمين: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:9 - 10] والله ما من إنسان يَقْدُمُ على الظلم إلا وهي بداية الهلاك، والفلس، والنهاية، والخراب، له ولماله ولبيته.
فيا عباد الله! لننتبه إلى هذه المسألة، ولنحذر منها، وإذا رأينا ظالماً متسلطاً على مسلم فقير لا حول له ولا قوة، فلنجتهد في أن نذهب له، وأن نخوفه بالله.
أعرف قصةً حصلت: رجل في قرية من القرى اشترى بئراً، ولها حريمها بحق التملك، فلما اشتراها أخذ يبسط نفوذه يمنةً ويسرةً على أراضٍ للفقراء والمساكين من حولها، فما كان لهم نصيرٌ إلا الله، فما تركو(3/4)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السبب الآخر -أيها الأحبة! - من أسباب هلاك الأمم: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح في زمن المتمدنين، وزمن الحضارة تدخلاً في شئون الآخرين.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح في هذا الزمن تسلطاً وفضولية.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أصبح في زماننا هذا مثلبة لا منقبة عند كثير ممن لا حظ لهم من الفهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن اعلموا -يا عباد الله! - أن سنن الله -كما قلنا- لا تتغير ولا تتبدل، إذا خلت الأمة أي أمة من الأمم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مؤشر هلاكها وزوالها، كم تبقى بعد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من السنين؟ عشرين سنة، مائة سنة -الله أعلم- المهم أن أية أمة تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تحاربه وتقف في طريقه، فاعلموا أنها منتهية زائلة هالكة لا محالة، وإن هي تمسكت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنها أمة محفوظة؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دليل وسبب من أسباب التمكين: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] حينما يحصل التمكين، فمقومات بقاء التمكين: إقامة الصلاة والعناية بها، وإيتاء الزكاة وعدم التهاون في جبايتها وصرفها لمستحقيها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم، يوجد في بعض الأمم أمرٌ بالمعروف، ولا يوجد نهيٌ عن المنكر، فلابد أن يوجد الأمران كلاهما، لا بد أن نوجد الأمر بالمعروف، وأن نوجد النهي عن المنكر، ليس كما يقول بعضهم: دعها ديمقراطية، الذي يريد أن يعمل خيراً يعمل خيراً، والذي يريد أن يعمل شراً يعمل شراً، تباً وسحقاً وبعداً لهذه الديمقراطية!! بل لابد أن يؤمر بالمعروف، وأن يوطأ أنف صاحب المنكر إذا لم ينقد إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإلا فإن سنة الله ماضية فيه وفي غيره.
انتبهوا إلى هذه المسألة، بعضهم يقول: يا أخي! لماذا التدخل في حريات الآخرين؟ عندك مشاريع خيرية تفضل، عندك أعمال خيرية تفضل، عندك أمور نافعة تفضل، لكن اترك الناس في ما هم فيه، ونقول: لا يمكن أن تتنازل، أو أن تتساهل أمة من الأمم تريد البقاء والتمكين، تريد العز والرخاء والنعيم بشيء من هذا، لابد أن يؤمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، ولذلك لا يذكر الإيمان بالله إلا ويقرن غالباً بالكفر بالطواغيت: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر:17]، ما يذكر شيء إلا بنفي وإزالة ضده بتاتاً، وإلا فما هي فائدة الأمر بالمعروف وترك المنكر يمضي على ما كان عليه؟ فلابد من تتبع المنكر والقضاء عليه حتى تسلم الأمة من شؤم ذنوب الآخرين والعياذ بالله، يقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117] لا تهلك أمة وأهلها أهل صلاح يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أبداً.
ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] بعض الناس يقول: لا يضرنا من ضل إذا اهتدينا، نحن الآن مهتدون إن شاء الله بمنَّ الله وتوفيقه، ما هي الحاجة إلى أننا نتسلط على الآخرين؟ لا.
إن هذه الآية كما في الحديث: (يأخذها الناس مأخذاً غير ما نزلت فيه) كما قال ذلك الصحابي: (إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها في غير موضعها، وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده) حتى لا يقول أحد: ذنبه على جنبه {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] هذه الآية حجة، والدليل لنا وليس لهم؛ لأن تمام الهداية إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم التساهل في هذه المسألة بأي حال من الأحوال.
في الآية الأولى التي ذكرناها: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} [هود:116] فما بالك إذا أصبح في الأمة من يخطط للفساد ويحميه؛ ومن يذب ويذود عن الفساد، حينئذٍ يكون الهلاك مضاعفاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/5)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسئولية الجميع
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف) لام الأمر المؤكدة بنون التوكيد الثقيلة: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن-يعني: أطاع، أو لم يطع، أعجبه أو لم يعجبه ما علينا- ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه عل الحق أطراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثم ليلعننكم كما لعنهم) تضرب القلوب بعضها ببعض، وتحدث الأحقاد والفتن والكراهية، ثم تعم اللعنة حينما يسكت الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن عقولاً استقر فيها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسئولية الدوريات والجيوب التابعة للهيئة: صلوا صلوا، أغلق الدكان جزاك الله خيراً، توجه إلى المسجد جزاك الله خيراً، هذا لا يعفي الأمة من مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحد من أهل الهيئة رأى منكراً؟ لا.
بل قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) لماذا لا ننكر المنكرات ونحن نراها صباح مساء؟ قد يقول بعضكم: والله إذا كنت يا فلان! تريد أن تلزمنا بهذا الشيء، وكل منكر ضروري أن نغيره، الظاهر أن الواحد لم يعد يقدر، وأقول: لا.
من واجبك أن تغير كل منكر قدرت على تغييره، ولكن لكل شيء ظروفه وأحواله المناسبة في إطار لا يخرج عن الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] والحكمة هي: فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي، المهم ألا يظن أحد أنه معفي من مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى من عنده منكر في نفسه مطالب أن يغير المنكر الذي يراه في غيره، بعض الناس يقول: إذا كان الإنسان صاحب معاصٍ فلا يستطيع أن يغير منكراً؟ لا.
أتجمع بين سوءتين حشفٌ وسوء كيلة، أن تكون صاحب منكر في نفسك، أو في سلوكك، وترى منكراً وتسكت عليه؟ بل من واجبك أن تغير المنكر لعلك أن ترفع بذلك الحجة على نفسك، هذا أولاً، وأن تقر بالذنب على نفسك، هذا ثانياً، وألا تقع في الإثم برؤية المنكر والسكوت عليه، هذا ثالثاً.
ومن باب أولى حينما ترى في أحد منكراً أعظم، مثلاً: رجل حليق -منَّ الله علينا وعليه بالهداية- يعرف جاراً له لا يصلي، أيهما أعظم: كونه حليقاً أم كونه لا يصلي؟ إن ترك الصلاة مع الجماعة مصيبة، إذاً نقول لهذا الحليق: من واجبك، ويتعين عليك أن تطرق الباب على جارك، أو تمسك به في أي فرصة مناسبة، وتقول: فقدناك في المسجد، نصيحة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً في حدود النصيحة، وإطار النصيحة والمقدرة والأسلوب الذي تستطيعه، لا أن تطرق الباب وتمسكه من تلابيبه: اخرج وصلِّ، لا.
ليس هذا من الحكمة في الدعوة، ولا في الأمر بالمعروف، ولا في النهي عن المنكر، لكن من الحكمة في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر إما أن تطرق عليه الباب ومعك طعام، وهدية اطمئنان: فقدناك، ما رأيناك، ما الذي أصابك؟ فتتناقش معه، لربما أكرمك الله بثواب أمرك بالمعروف ونهيك عن هذا المنكر، فَمَنَّ عليك بالهداية والاستقامة في اتباع سنة نبيك فيما كنت فيه مقصراً، لا يظن أحد أن مسئوليةً في هذا الدين تخص طائفة دون طائفة، وبعض الناس يقول: والله أنا من (الزكرت) لا أستطيع أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، لا.
وإن كنت من هذه الطائفة، أو تسمي نفسك، وليس عندنا هذه الطائفة، لكن باللهجة العامية كما يقال، فأنت مسئول مكلف أن تأمر بالمعروف، وأن تنهى عن المنكر، وإن كان فيك ما فيك من الذنوب والمعاصي، لعلها أن تكون سبباً في إقامة الحجة على نفسك، يقول الله جلا وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] لعنوا لعناً بسبب أنهم كان الواحد منهم يلقى صاحبه -كما ورد في بعض الروايات- فيقول: يا فلان! اتق الله، أو لا تفعل هذا، فإذا جاء من الغد لا يمنعه أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، ويرضى بما هو فيه من المنكرات.(3/6)
عدم المداهنة والحياء في الأمر بالمعروف
والله يا إخوان! كم فينا من المداهنة!! كم فينا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! ندخل مجلساً وفيه ممن يهاب من القوم، فنسمع الموسيقى، وتجد طالب العلم، أو الشاب الصالح، أو غيره يكسر في يديه، ويكسر أصابعه يريد أن ينكر المنكر، ويهاب هؤلاء أن يقول: إن هذا منكر، لا يجوز، فغيروه، أو أغلقوه، أو اشتغلوا بحديث غيره، بل إن بعضهم من ضعف شخصيته لربما وافق القوم في حديثهم، بل وربما شاركهم فيه، ولربما سكت مطرقاً، أقل الأحوال: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] أقل الأحوال إذا ما استطعت أن تغير، أو عجزت نفسك عن التغيير فقل: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، واخرج، لماذا؟ لأن الفساق يحتقرون من يوافقهم في الفسق، ويزدرون من يراهم على المعاصي ويسكت عنهم حتى وإن قالوا: ما شاء الله هذا شيخ متطور هذا شيخ عصري هذا شيخ الشباب الممتاز، فهؤلاء يلعبون بالبلوت، وهؤلاء يتفرجون على الفيديو، وهؤلاء قاعدون على كذا، وهؤلاء قاعدون على كذا، والسجائر طفاية ذاهبة وطفاية آيبة، وانظر هذا الشيخ ممتاز يا أخي، والله شيخ ما مثله، آخر موديل من المشايخ، إنهم وإن مدحوه بألسنتهم لكنهم احتقروه بقلوبهم، يقول ابن حزم في معنى كلامه: إن الفساق أول ما يحقرون من وافقهم، أو شاركهم في فسقهم، لكن إذا خالفت القوم فلأنهم خالفوا الله جل وعلا، وقام في قلبك حب وغيرة، وتعظيم لله، كيف هؤلاء يخالفون ربك الذي خلقك وخلقهم، وقلت: اتقوا الله، أو بالأسلوب الذي رأيته مناسباً: هذا لا يجوز، هذا لا ينبغي، اذكروا نعمة الله عليكم، تعصون الله بأعين خلقها، بآذان خلقها، بأيد خلقها، وتقوم وتؤدي ما عليك، ولا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تتيقن أنهم سينتهون، يعني: أناس مثلاً يلعبون الكرة أثناء الصلاة، وأنت تمر تريد أن تأمرهم، يأتيك الشيطان، يقول: انظر سواء تكلمت أو لم تتكلم، هؤلاء لن يغيروا ما هم فيه، تكلمت أو لم تتكلم، هؤلاء سيكلمون من هذه المباراة، لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يغلب على ظنك أنهم يستجيبون لك فيما طلبت: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، بعض الناس يستدل بهذه الآية على ترك الأمر، لا.
أنت عليك الأمر، والهداية بيد الله سبحانه وتعالى، فلننتبه لهذه المسألة، فما مررنا بمنكرٍ وما رأينا قوماً في منكر إلا ووجب علينا أن ننكر عليهم بقدر وبدرجات المنكر الواردة في الحديث، سواء تيقنا أنهم سيستجيبون أم لا، وعلى أية حال: وطنوا أنفسكم، فإنكم ستجدون من يستهزئ، ستجدون من يسخر: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30]، لكن هل يسكت المسلم؟ لا: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] ولكن عادت الدائرة عليهم، وكانت الجولة لنبي الله نوح عليه السلام، فينبغي ألا نتردد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أنا أعرف أن كثيراً من الناس يود أن يأمر بالمعروف، يود أن ينهى عن المنكر، لكن يقول: يا أخي! والله إحراج، والله أستحي، يقولون: ما شأن هذا الفضولي؟ سيضعون عني تصوراً أني أتدخل في شئونهم، وهؤلاء إذا تصوروا عنك تصوراً خاطئاً فلا يدخلونك النار، وإذا تصوروا عنك تصوراً -مثل ما قلت- تصوراً عصرياً، فلن يدخلوك الجنة لماذا؟ لأن أكثر الناس ليسوا على الحق، يقول الله جل وعلا: (يا آدم! قم فأخرج بعث النار، فيقول آدم: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار، وواحد في الجنة).
يا سلعة الرحمة ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
أكثر الناس ليسوا بعبرة: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف:102] فمسألة الكثرة ليست عبرة، والجماعة كما يقول ابن مسعود: [الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك] ينبغي أن نأخذ ديننا بقوة: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
إن مصيبة الأمة في هذا الزمن من أناس أخذوا الدين ضعفاً، أخذوا الدين على استحياء، أخذوا الدين وهم إذا قام أحدهم يصلي انسل حتى لا يشعر أنه قام يصلي، أخذوا الدين وهم يدافعون عن الإسلام، لا يحاربون، أو يقاتلون أو يهاجمون به، والدين قوة، أنت تملك سلاحاً أقوى من أولئك جميعاً، ما الذي يمنعك أن تكون قوي الشخصية، لا أن تكون مسلماً منهزماً، الهزيمة النفسية التي حصلت في كثيرٍ من المسلمين، فتجده يسكت ويستحي، ويجامل في كثير من أمور الدين والشريعة، وهو يضيف وهناً على الأمة بهذا السكوت وهذه المداهنة، تصوروا أن الذين عرفوا الإسلام على حقيقته، ولعلنا وإياكم ممن يوفقون إلى هذا بإذن الله جل وعلا: شابٌ أمريكي أسلم بعد أن تأمل وقرأ واطلع، وماذا كان من شأنه؟ غير اسمه فوراً، وما قال: إن الشعب الأمريكي سيحتقرني، لا.
لأنه يعرف أن اسماً فيه فضل، وفيه أجر وثواب، أحوج إليه من اسم لا ثواب ولا أجر ولا فضل فيه، الأمر الثاني: صار يلبس مثل ثيابكم ما قال: إن الأمريكان يقولون لابد من بنطلون، هو لم يحرم البنطلون، لكن رأى أنه يرتاح لهذا الشيء، بعض الناس تجده يفعل أموراً لا يحبها، لكن حتى يوافق القوم فيما يشتهون، أين الحرية؟ أنت حر في نفسك، أَوَ أصابتك الذلة في نفسك إلى درجة أنك وافقت القوم فيما يريدون وأنت تكره، هذه ذلة أصابت كثيراً من المسلمين.
فهذا الشاب الأمريكي كان يبحث عن وظيفة بمؤهلات كانت عنده، فنزل في الجريدة إعلان عن وظيفة في ولاية من الولايات، ما الذي حصل؟ سافر إلى تلك الولاية، وقدم طلب الوظيفة، وكتب في الطلب: ليكن لدى اللجنة التي تحدد من يشغل هذه الوظيفة علماً أنني مسلم واسمي فلان، وإذا وافقتم عليَّ بهذه الوظيفة، فإني أشترط أن أقطع من وقت وظيفتكم جزءاً للصلاة.
انظروا عزة المسلم!! الآن الذي يبحث لابنه عن وظيفة، لو قال له: إن العمل ثمان ساعات؛ من الساعة التاسعة وحتى الساعة الخامسة، قال: ليس مهم العصر والمغرب نجمعها فيما بعد، بعض المسلمين ضعيف، وَوُجِدَتْ في مختلف الأماكن، تسأل: الأخ مسلم؟ يقول لك: نعم، صليت العصر؟ يقول: والله نجمعها مع المغرب، كيف تجمع؟ قال: يا أخي! معي وظيفة ولا أستطيع.
أهو لأجل العمل؟ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وليس أصحاب الوظائف، أو أصحاب الشركات، أو أصحاب الأعمال.
فيا أحبتنا في الله! يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كان يشعر بعزة وهو يحمل الدين، من كان يشعر بعظمة، ما يشعر بأنه يستحي لأنه متدين، أنا أذكر زمناً -والله- مرَّ بنا، كان المتدين في المجلس ترمقه الأبصار، وتسلقه الألسنة، وينظر إليه شزراً، ولكن بحمد الله جل وعلا، فقد منَّ الله علينا بهذه الصحوة المباركة، فأصبح الذي لا يوافق الدين، ولا يلتزم بالسنة هو الذي يستحي ويخجل إلا من كان مجاهراً معانداً مخالفاً، فذلك حقه وحظه من العناد ما يصيبه، لكن المشكلة في هذه المسألة التي هي من أسباب هلاك الأمم: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا نقول: إن الأمة اجتمعت على ترك الأمر ونبذه.
لا، وإنما بعضهم يستحي، وليس هذا بحياء؛ لأن الحياء خلق حميد يبعث على طلب مرضاة الله، وترك ما نهى عنه، ليس الحياء مجاملة الناس والسكوت عن المنكرات-والعياذ بالله- ولا حول ولا قوة إلا بالله!(3/7)
ما يجب توفيره لدعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الزمان تعرفون ما ينبغي أن يكون له من الدور والمكانة، خاصة في وقت كثرت فيه المنكرات في البيوت وفي الأسواق، وفي مختلف مجمعات البشر، ومن هنا يلزم الأمة على المستوى الإداري أن تجند الوظائف الطيبة المناسبة لرجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يلزم الأمة أن تبوئ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أطيب الوظائف، وأن تكفل لهم ما يكفيهم، لا أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ضعيفاً، أو مسكيناً، أو فقيراً، أو قليل ذات اليد.
كذلك يلزم الأمة إعداد فريق من المتطوعين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ما يقال: حدي العمود، أو حدي السكة، لا.
حتى يكون حب الأمر بالمعروف والغيرة على دين الله، وحب إنكار المنكر في كل مسلم.
الآن يا إخوان: نعمة في جانب، ولكنها مصيبة في جانب: كثرة الأسواق، انتشار السلع، تيسر حاجات الناس في كل مكان، ولعله جانب من جوانب النعم، نسأل الله ألا تكون استدراجاً، وإن كانت كثرة الأسواق من علامات قرب نهاية الزمان، ولكن ما يحصل ويدور في هذه الأسواق من المعاصي والمنكرات؛ خاصةً التبرج والمعاكسات يحتاج من كل واحد منكم أن يشارك ولو مرة واحدة في الأسبوع أو الشهر، لكي يشارك بجولة ميدانية عملية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا علمنا أن شيخنا شيخ الجميع الشيخ/ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين قد خرج جزاه الله خيراً لكي يضرب القدوة للعلماء وطلبة العلم محتسباً وهو عضو الإفتاء في الرئاسة العلمية، في رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، خرج ذلك الشيخ الكبير، وليس ذلك من سعةٍ في وقته، مشاغله كثيرة، الناس يحتاجونه، يتشفعون إليه في بعض الحوائج حتى يشفع لهم؛ فتاوى، أسئلة، ومع ذلك يخرج مع بعض طلبة العلم ليدور في الأسواق، وما رأى من متبرجة إلا ويتجه إليها: يا بنية! استري نفسك ستر الله عليك، ويدعوها بالحكمة والموعظة.
شيخ جليل يخرج بنفسه، ليقول لنا: أنتم يا طلبة العلم! أنتم يا جيل الصحوة! أنتم يا معاشر الشباب! مسئولون أن تدخلوا الأسواق ولو لغير حاجة، خمسة أو ستة أو سبعة من الشباب يلبسون شيئاً يلقي عليهم هيبة، أو هيبتهم في قوة إيمانهم، المهم أن يرى أهل السوق أن أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الساحة، وحينما يريد شاب أن يدخل للمعاكسة ويرمي أرقاماً وكلاماً فارغاً، يعرف أنه إن وقع فلا تسأل عن أمره، حينما يقوم بهذا العمل جملة من الشباب أسواق ريمان، أسواق الدولية، أسواق العويس، أسواق طيبة، أسواق الديرة، جميع الأسواق، ماذا يضر سبعة أو ثمانية من الشباب إن فعلوا ذلك؟ هؤلاء يدخلون العصر، وهؤلاء يدخلون المغرب، وهؤلاء يدخلون العشاء، ليس معهم رشاشات: استسلم، لا.
يدخلون أولاً: والله يقذف الهيبة في قلوب الناس منهم.
ثانياً: ما رآهم صاحب منكر إلا وخرج؛ لأن صاحب المنكر يسوقه الشيطان، والشيطان إذا رأى الحق ولى مدبراً ولم يعقب.
المسألة الثالثة: تكون فيه النصيحة، ربما امرأة جاهلة مسكينة، ربما شاب جاهل مسكين، تجد رجلاً يمشي هو وزوجته في منتهى البساطة، ويسير بزوجة متبرجة، ما الذي يمنع الشباب أن تقولوا: السلام عليكم يا فلان! لو سمحت كلمتين جزاك الله خيراً، هذه الزوجة، أو البنت، أو الأخت نسأل الله أن يستر عليك وعليها، حجبها يا أخي! استرها حتى لا تكون سبباً في نوالي ونوالك إثماً ووزراً بفعل أحد الناس الفاحشة، أو حتى لا تكون سبباً ومدرجاً إلى المنكر، أو حتى لا تكون أنت مقراً لمنكر من المنكرات، أفي هذا شيء أيها الإخوة؟ أفي هذا خطورة؟ المصيبة الآن أن الناس أصبحوا حينما يرون رجلاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لا أقول الناس كلهم؛ لكن جزء منهم يتجهمون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، يا أخي! ما دخلك؟ هل أنت من الهيئة؟ أعندك تصريح؟ نعم عندي تصريح.
ممن؟ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] التصريح من عند الله عز وجل، أحتى أقول لصاحب المنكر: هذا لا يجوز أحتاج لتصريح مختوم؟! لا يمكن هذا الكلام، نعم، إذا وردت صفة معينة ينظم بها النشاط، أو جهود المتعاونين مع الهيئات والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فأهلاً وسهلاً بالصدر والأحضان، نكون أول من يتعاون مع هذه الجهات المنظمة لجهود المتعاونين مع الهيئات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، لكن هل عدم وجود هذا الشيء يمنعني، أو يمنع أن أنهى عن المنكر، وأن آمر بالمعروف؟ والله، ما أظن أن هذا موجود في زماننا، ولا يقول بهذا أحد، ولله الحمد والمنة.
إذاً: الناس قذف الشيطان في قلوبهم وهماً ووسواساً وخوفاً، فظنوا أن هذا من الأمور الممنوعة، وليس من الأمور الممنوعة أبداً، هل يوماً من الأيام واحد منكم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقيل له: تعال، لماذا تأمر؟؟ بفضل الله ما حصل هذا، ونحن في دولة يختلف شأنها عن سائر الدول، نحن في بلد تتعلق آمال المسلمين فيها بعد الله جل وعلا، شأننا يختلف عن شأن أي دولة، وأي بلد آخر.
إذاً: فالمصيبة وسواسٌ قذفه الشيطان في قلوب الكثيرين منا، فظننا أن الأمر بالمعروف لا يمكن إلا لمن عنده جيب، أو تصريح، وبالمناسبة -أيها الإخوة! - وعلى أية حال: سأتطرق إلى هذا في لقاء قادم إن شاء الله في الملز بعنوان "مجالات جديدة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى" الشباب الطيب الآن كثر، أصبحوا عشرات الآلاف، لكن الكثير منهم ليس له عمل في الدعوة، وليس له عمل إسلامي، وليس له عمل ينفع الأمة، سنذكر من هذه المجالات: أن يتعاون عدد من الشباب، فيتكفلون، ويقولون: نحن فريق مسئول عن الحسبة في الأسواق، نتعاون مع الهيئات، الأسواق التي لا تستطيع الهيئة أن تصلها، أو كانت الهيئات أقل من أن تحيط بها، فنحن مجموعة نمر بكل حكمة، معنا كتيبات مسموح بتوزيعها من قبل الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والإرشاد، مصرحة من وزارة الإعلام، امرأة متبرجة: تفضلي يا أختي! هذه رسالة: (من أمرك بالحجاب) (وجوب الحجاب) شريط من الأشرطة المسموحة، المهم نستطيع أن نصلح المجتمع، فعندنا مئات المجالات لإصلاح المجتمع، ودفع أسباب الهلاك، لكن المشكلة: من ينظم جهودنا؟ من يرتب هذه الطاقات؟ من يوظف هذه الطاقات؟ هذه المشكلة التي يواجهها الكثير من شباب الصحوة، لذلك سوف أتطرق بإذن الله جل وعلا للقاء قادم بهذا العنوان "مجالات جديدة للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى" وإن شاء الله أخبركم بمكانها.
كذلك أيها الأحبة: عندما نقول إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب نجاة الأمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا ومثَّله بمثال واضح، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان لبعضهم أعلاها، ولبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفل السفينة إذا أرادوا الماء، مروا بالذين من فوقهم) الذين في الدور السفلي لابد أن يمروا على الذي في الدور العلوي من أجل أن يطلِّوا على البحر ويأخذوا الماء، قال الذين في أسفلها: هذا عمل طويل (فلو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعاً، وإن هم تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً) فنحن الآن في سفينة المجتمع فريقان: فريق من العصاة المستهترين الواقعين في المعاصي المجاهرين بها، الذين لا يخافون من الله، ولا يستحون من الخلق، وفريق من الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الغيورين على نعم الله، الغيورين على أمن بلادهم، الغيورين على نعم هم فيها مع علمائهم وولاة أمرهم.
الفريق العاصي لو ترك لخرق سفينة المجتمع من أجل تحصيل الماء بسهولة كما ظن وتصور، فهلك الصالحون والطالحون، وهل المسألة على مزاجك؟ تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بل يقال: هذا لا يجوز، هذا لا ينبغي، هذا حرام، لكن إذا ما استجابوا أخذوا، وفيه الإشارة بالقوة، والإشارة بالتعزير وبالعقوبة، إذا انقاد وانصاع لأمر الله، واستجاب للمعروف وانتهى عن المنكر، وإلا أخذ على يده، والدليل صريح من قوله صلى الله عليه وسلم: (ولتأطرنه على الحق أطراً)، وفي بعضها: (ولتقسرنه قسراً) أي أن المسألة ليست بالشورى، نأمرك بالمعروف وننهاك عن المنكر، ثم لك أن تطبق أو لا تطبق، لا.
ليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلعة إن أعجبتك أو فارجعها، لا.
بل وجوباً أن تلتزم، نعم من حقك علينا أن نأمرك باللين، بالحكمة، بالهدوء، بالموعظة، بالهدية، باللطف، نعطيك فرصة فرصتين، لكن أن يستمر هذا ديدنك وطبعك فلا، الجزء الفاسد في البدن (جزء صار فيه سرطان) يقطع، ويبتر وينتهي، فلابد أن يكتم نفس الفاجر، وأن يفرك، ويمرغ أنفه في التراب، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ليس عندنا فيه أدنى شك، ما أخذناه من قول فلان ولا علان، بل من كتاب الله جل وعلا الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
ولنعلم أننا إن تساهلنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإننا -أيها الأحبة! - نسلم أنفسنا، ونجر هذه الرقاب لكي يقع فيها البلاء والهلاك، والفتنة والعقوبة، يقول الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] يا ليت الفتن تصيب الظالمين وحدهم، ولكنها تعم الصالح والطالح.
إن المعاصي والمنكرات إذا ظهرت فهي فتنة ليس شؤمها وإهلاكها يخص العاصي وحده، وإنما يتناول العاصي والصالح معه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].(3/8)
انتشار الزنا
كذلك أيها الأحبة: تقول عائشة رضي الله عنها (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) وهو الزنا وما يدعو إلى الزنا والعياذ بالله، ومن المؤسف أن بلاد المسلمين إلا ما رحم الله قد انتشر فيها هذا الأمر، حتى أصبحت مواخير الدعارة، وحانات الفجور، وأماكن الرذيلة، والعلب المغلفة موجودة في كثير من بلدان المسلمين، ولنعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كثر الخبث) فيه إشارة إلى الزنا، والزنا لا يكون إلا باستهتار المرأة بحيائها وحجابها وقرارها في بيتها -خروجها إلى الشارع- فإذا رأيتم المرأة زاحمت الرجال في الطرقات والأسواق، وفي الوظائف والتعليم، فاعرفوا أن هذا طريق إلى كثرة الخبث وهو الزنا: (ما خلى رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) ومن هنا تبقى صيحات الغيورين الأغيار من هذه الأمة؛ من علمائها ودعاتها، من الناصحين لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، تبقى صيحاتهم: حذارِ حذارِ من الاختلاط في الوظائف والتعليم، حذارِ حذارِ من الاختلاط في الوظائف والتعليم، لماذا؟ لأن الاختلاط خطوة إلى كسر جدران الحياء والفضيلة، وبدايةٌ في اللقاءات الجانبية والجلسات المستقلة التي تفضي إلى الزنا والعياذ بالله، فحينما ترى رجلين مع امرأة في مكتب، أو رجلاً مع امرأة في مكتب قاعدين أيخرجان صفراً، أم أن نظرات بعضهم في بعض يتفكرون في خلق السماوات والأرض سبحانك ما خلقت هذا باطلاً؟! لا.
إنما يفكر بعضهم فيما يفكر فيه الآخر من الرذيلة والفساد، والسخفاء السذج، البسطاء الأغبياء، يقولون: لماذا أنتم يا مطاوعة دائماً تفكيركم سيء؟ لماذا أنتم يا مطاوعة! تفكرون بالأمور الشينة؟ لا يا حبيبي! نحن ما قلنا هذا من ذوات أنفسنا، نقوله بقول من لا يقول إلا من وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] كلام النبي: {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم:3] يقول: (ما خلى رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطان ثالثهما) ثم الشواهد في دول الغرب ودول الشرق كثيرة، ولكن ما أجمل كلمة واحد من المفكرين المسلمين الذي قال: إن ما نراه من دعوة في الإعلام والمجلات والصحف في كثير من دول المسلمين، التي تدعو إلى حرية المرأة، وخروج المرأة، وتحريك النصف المعطل من المجتمع، ليست والله دعوة صادقة لتحرير المرأة، وإنما هي دعوة لحرية الوصول إلى المرأة.
هناك فرق بين كونك تحررها ,وبين كونك تجد الحرية في الوصول إليها، نعم، في المجتمع المسلم لا يمكن أن واحداً من الباب إلى النافذة يكلم امرأة، أو يأخذ معها ويعطي (خير يا طير) هو يقيس أمعها محرم أم لا؟ ما علاقتك بها؟ تجد الإنسان لا يستطيع أن يدخل على بيت إلا وله علاقة، علاقة نسب، علاقة سبب، علاقة مصاهرة، أمر معين وبضوابط شرعية، لكن الذين ضاقت نفوسهم، وكبتت أنفاسهم من هذه الرياحين والعطور الطيبة من أخلاق الإسلام، لأنهم جعلان، والجعلان تهلكها الروائح الطيبة وتؤذيها، أرادوا أن يتنفسوا في الصهاريج، وأن يتنفسوا في أماكن النجاسات والقذارات، ولا نفس لهم إلا بأن يكسروا الحواجز بينهم وبين النساء من خلال مجالات جديدة، اختلاط في الوظائف، في التعليم، في أماكن معينة، ثم بعد ذلك تصبح الفاحشة أمراً عادياً ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما دامت المعصية خفية فلا تزال الأمة بخير؛ لأنه لا يوجد مجتمع -أيها الإخوة! - لم تحصل فيه المعصية، حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وجدت جريمة الزنا، والسرقة، وحصل ما حصل، لكن هل كان هذا أمراً شائعاً؟ هل كان هذا طابعاً عاماً للمجتمع؟ لا.
كانت حالة شاذة ونادرة، فحينما تكون المعصية حالة شاذة ونادرة، والصلاح والطهر والعفاف والخير صفة عامة في المجتمع، مع قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعند ذلك يحصل الخير للمسلمين بإذن الله، وحينما يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفتح الأبواب على مصاريعها للاختلاط بين الشباب والشابات، والرجال والنساء، فذلك نذير الهلاك: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].(3/9)
تسلط المترفين
كذلك أيها الإخوة: تسلط المترفين من أسباب هلاك الأمم، يقول جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29].
فيا أيها الأحبة: حينما يصبح المترفون المدللون الذين (يفحطون) عند العزيزية، والذين يفحطون في شارع الثلاثين، وشارع الموت، ويصبح أبناء المترفين والمدللين يعبثون بالنعم، سيارات تسَعَّر بمائة ألف، وثمانين ألفاً تلعب في الشوارع يميناً ويساراً، هذه علامات هلاك، هذه بوادر خطيرة ومؤشرات للأمة، أممٌ لا تجد ما تلبس، وأممٌ تموت جوعاً، وأممٌ تموت عطشاً، وأممٌ تستباح ديارها وتغتصب أعراضها، وأمةٌ تلعب بالمائة ألف، والمائتي ألف بالتفحيط واللف والدوران يميناً ويساراً، أين من يأخذ على أيدي هؤلاء السفهاء؟ أليس من الواجب أن تصادر سيارته، وأن تباع بالمزاد العلني، وأن يدخل مالها في بيت مال المسلمين؟ نعم، هذا الواجب؛ لأن من لا يعرف قدر النعمة، فإنه يُعَرَّف بقدرها بالحرمان والتعزير، أما أن يترك ليعبث ويفحط يميناً ويساراً إلى آخر ذلك، فهذا لا يرضي الله جل وعلا، وهؤلاء الذين يعبثون ترفاً وإسرافاً بالأموال، لا تظنوا أن جريمتهم يكون شؤمها عليهم، بل هي والله عليكم، ولندفعن الثمن من أنفسنا، ومن أعراضنا، ومن أموالنا، ومن طمأنينتنا، ومن هدوئنا واطمئنانا إذا لم نأخذ على أيديهم، ونأطرهم على الحق أطراً، لكن نسأل الله جل وعلا أن يبرم لأمتنا أمر رشد يخسأ فيه فعل أولئك المفسدين المسرفين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/10)
انتشار الربا وعموم الذنوب
كذلك أيها الإخوة: من أسباب هلاك الأمم: عموم الذنوب جميعاً، يقول الله جل وعلا: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6]، ويقول تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً} [الكهف:59] ومن أعظم الذنوب التي هي سبب للهلاك العام، والمصائب العامة: جريمة الربا، كبيرة الربا، مصيبة الربا التي في هذا الزمان جاء من خفافيش المسلمين الذين درسوا في الغرب يحاولون أن يقنعوا الناس بأن الربا الموجود في البنوك ليس هو الربا المحرم، أن نبدأ بغسيل أدمغة البشر في أن نغير الجريمة التي جَرَّمها الله، والمنكر التي عده الله منكراً، والحرام الذي جعله الله حراماً، أن نغسل عقول البشر، ونقول: لا، إن الربا الموجود في البنوك ليس هو الربا المحرم، وذلك مثل: أن يأتي واحد يشرب خمراً، يقول: انظر هذا ليس هو الخمر المحرم، الخمر الحرام شيء آخر، ويأتي آخر يزني، يقول: هذا ليس هو الزنا الحرام، الزنا الحرام شيء آخر، هذه مسألة لا تنتهي، إذا أصبح الفجار المفسدون الخبثاء، الذين يتكلمون بألسنتنا، وهم من بني جلدتنا، ويلبسون كثيابنا يغسلون أدمغتنا، كونه والله يتعامل بالربا مصيبة تخصه، لكن أن يقول للناس: إن الربا الموجود ليس هو الربا المحرم.
أجل ليس هو الربا المحرم يا سماحتك؟! طاغوت من طواغيت الأرض يسمي نفسه دكتوراً وينشر بحثاً، ويقول: إن الربا الموجود ليس هو الربا المحرم، هذه المصيبة مصيبة مركبة، أن يرتكب الإنسان الفاحشة الكبيرة والجريمة، وأن يقول: ليست هذه هي الجريمة المحرمة، انتبهوا لهذه المسألة حتى لا تغسل أدمغة الشعوب في آخر الزمان، ولذلك صح في الحديث: (يأتي على الناس زمان يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وعلى ذلك فقس، سيأكلون الربا ويسمونه القروض الإنتاجية التي لا يدخلها الربا، ويأكلون الربا ويسمونه سندات الخزينة، ويأكلون الربا ويسمونه خصم الأوراق المالية.
كونك تفعل منكراً؛ هذا منكر، لكن كونك تقول: الذي أفعل ليس بمنكر، قف عند هذا الحد، وما عرفنا يوماً واحداً رجلاً يريد أن يميز عِقْداً له من أي الذهب هو، فذهب به إلى سوق الغنم، واحد عنده ذهب، يريد أن يعرف هل هو ذهب عيار واحد وعشرين، أو سبعة عشر، يذهب به إلى سوق الغنم، يقول: لو سمحتم أعطوني جواباً، هل هذا ذهب عيار واحد وعشرين أو سبعة عشر؟ هذا مجنون، كذلك إذا أصبح الذين يتكلمون في أمور الشريعة، ويحددون الربا المحرم من الربا غير المحرم غير أهل علم، أصبحنا كمن يصدق تمييز الذهب من أهل الغنم ليس هذا صحيح، ولا بمعقول أبداً، وإنما يعرف الذهب أهلُه، وإنما يعرف الجواهر أهلها، وهم العلماء، ولذلك فإن سماحة الشيخ/ ابن باز رد رداً جميلاً، أسأل الله أن يمتع به على طاعته، وأن يبقيه، وأن يمد في عمره، وأن يبارك في حياته، يجعله ظلاً على هذه البلاد، وعلى الإسلام والمسلمين، رجل والله ما عرفت الأمة قدره حتى الآن، نعم نحن نحبه، ولكن:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
الناس ما عرفوا قدر الشيخ/ محمد بن إبراهيم إلا لما ولى وانتهى، وأفضى إلى ربه، أسكنه الله فسيح جناته، وجمعنا به في الجنة، وكذلك -أيها الأحبة- يبقى عدد من العلماء الذين ننصحكم بالتعلق بهم، دعوكم من فتاوى المرتزقة، وأذناب المادة الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل، وأصبحوا يحللون ويحرمون بما يمليه عليهم أصحاب الأهواء والشهوات حتى يقولون: هذا رباً حرام، وهذا رباً ليس بحرام، وغيره، لا.
الزموا هؤلاء، والزموا غرزهم، وخذوا الدين والعلم منهم، فهم أتقى وأخوف وأخشى لله جل وعلا، فمن هؤلاء يؤخذ الدين، وإلا إذا أردنا أن نسمع لقول كل ناعق، فآخر مصيبة أتتنا: الشيخ الغزالي رده الله إلى الحق رداً جميلاً يقول: الغناء ليس بحرام؛ مصيبة المصائب، كذلك إذا أراد الإنسان أن يأخذ دينه بالفتاوى الهامشية، ويترك الثقات الذين عرفوا بالتمسك بالدين والزهد، والصلاح والورع وقيام الليل، والتعفف عن أموال الناس، وعن الدنيا، إذا ترك أخذ الدين من هؤلاء الصالحين، وأخذ من هؤلاء وهؤلاء، هذه مصيبة الأمة.
كذلك خذوا مثالاً آخر: وجد شيخ يقول: لا بأس لمن أردن أن يسبحن على الشاطئ أن يجمعن بين الظهر والعصر؛ لأن الشريعة جاءت برفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير، لا حرج أن تجمع الظهر والعصر على الشاطئ، نعم -يا أيها الإخوة! - حينما نريد أن نسمع الرخص والفتاوى، التي تخرج بفلوس وبغير فلوس، أو للأهواء والشهوات، ولا تخرج توقيعاً عن رب العالمين، في أشياء كثيرة، ولذلك يقول السلف: من تتبع الرخص تزندق، أقول: إن الربا من أسباب هلاك الأمة، يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:178 - 279].
الحرب من الله ما نوعها؟ ما شكلها؟ حرب ليست بالكيماوي المزدوج، وإنما بجنود الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] خسف، مسخ، زلزال، براكين، اجتياح، تسلط.
أيها الإخوة: اعلموا أن من أسباب الهلاك، لما تسلط هولاكو التتري على أمة الإسلام، كم تتصورون مات من المسلمين في ذلك الزمن؟ أقل الروايات تقول: مات ثمانمائة ألف مسلم من أهل السنة، لكي نعلم أن الذنوب من أسباب هلاك الأمة، نحن لا نزال نظن أنه ربما تهلك دولة وراءنا، تهلك دولة جنبنا، تهلك دولة عن يميننا، لكن ما خطر في بالنا أنه يُحتمل أن نهلك نحن، لماذا؟ هل بيننا وبين الله عهد أو ميثاق؟ هل أخذنا صكوك الجنة؟ هل أخذنا الميثاق بأن لا يصيبنا ما أصاب الأمم السابقة؟ لا.
فقد أهلكت أمة بذنب وبذنبين وبثلاثة، فما بال أمة اجتمع فيها كثير من الذنوب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ولا نقول شؤماً هلكتم، أو هلكنا: (من قال هلك الناس فهو أهلكُهم)، وفي رواية: (أهلكَهم) لكن نقول: احذروا وهذه الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله جل وعلا يغار على نعمه حينما يرى العباد يجمعون ويتفقون، ويسكتون ويداهنون وينافقون، ويرتكبون المعاصي بنعم خلقها، وخيرات رزقها، وأمور سخرها، يرى عباده يعصونه بها، والله إن أخذه أليم شديد، ثمانمائة ألف في أقل الروايات، وفي بعض الروايات: هلك مليون، وفي بعضها مليون وزيادة، بعض الناس يقول: لا يمكن أن يموت خمسمائة ألف جميعاً؟ نقول: لماذا لا يموتون؟ أليس الذي خلقهم قادراً على إبادتهم؟ {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] لا تظنوا أنكم أكبر شيء في هذا الوجود، هناك من هو أعظم منكم، وخلقه الله جل وعلا بأمره، بقوله: كن فيكون، أفيعجزه أن يهلك أمةً بلغت الملايين، أو بلغت أكثر من ذلك، أو أقل؟ كذلك أيها الأحبة: يرد الظلم في القرآن ويشمل معنى الذنوب التي بها تهلك الأمم، ولا حول ولا قوة إلا بالله جل وعلا، يقول تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:11 - 15].
أيضاً: لا تظنوا أنه يدفع عنا الهلاك أن نقول: الله يعفو ويتسامح، إنا والله مذنبون! إنا والله ظالمون! اسمع قول الله جل وعلا: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء:15] يعني: يقولون {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:14] مازالت هذه الكلمة دعواهم، لكن هل دفعت عنهم البلاء: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء:15]، ويقول الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:110 - 101].
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف:100] أمة محمد جاءت بعد هذه الأمم السابقة: ((أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)) [الأعراف:100] أهلكناهم بذنوبهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(3/11)
الإسراف والبطر
كذلك أيها الإخوة: من أسباب هلاك الأمة: الإسراف والبطر، يقول الله جل وعلا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص:58]، ويقول سبحانه وتعالى: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء:9].(3/12)
تكذيب ما جاء به الأنبياء
كذلك: تكذيب ما جاء به الأنبياء، فإنه من أسباب هلاك الأمم، يقول سبحانه وتعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139]، والله إن الذين يأتون لكي يغسلوا عقول البشر، ويقولون: الربا الموجود ليس هو الربا المحرم، والخمر الموجود ليس هو الخمر المحرم، والفاحشة الموجودة ليست هي بالفاحشة المحرمة، هؤلاء إنما هم يُكذِّبون الأنبياء فيما جاءوا به، والله! أنهم يُكذِّبون الأنبياء فيما جاءوا به، والله جل وعلا يقول: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} [الشعراء:139]، ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات:16 - 18] بالمجرمين: الذين كذبوا رسل الله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى سنته في العباد ماضية.
يقول تعالى أيضاً: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98] لما آمنوا، ورجعوا، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وأنكروا الذنوب، وتعاهدوا تعاونوا على التجهم للمنكرات، والنصيحة، لما حصل هذا؛ كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ومتعهم الله متاعاً حسناً.(3/13)
صماما الأمان
ولنعلم أيها الأحبة: أنه لا سبيل لنا إلى النجاة والاستمتاع بهذه الخيرات التي تنعم بها بلادنا؛ طرق، جسور، كباري، مستشفيات، حدائق؛ نعم، خيرات، ثروات؛ أسواق مليئة بالخضار واللحوم والفواكه والأرزاق، خيرات متتابعة، والله لا سبيل إلى حفظها وبقائها إلا بشكر الله جل وعلا، والتعاهد عهداً مع الله أن ننكر ونغير المنكرات، ما ظنكم لو أن كل واحد مر على صاحب فيديو فاختصر به كلمتين: الله يجزيك خيراً، والله إن ما تفعله من نشر الرذيلة بين الناس، وإن هذه الأفلام الذي فيها الرقص، والمصارعة النسائية، والحفلات الماجنة، والأفلام التي فيها القبلات والضم، والأفخاذ والصدور العارية، هذه والله إنها سبب للهلاك، هذه تصد الشباب عن المساجد، وتجعل النفوس تشتهي الزنا، تبحث عن الفاحشة، وتخطط للجريمة، يا أخي! نحن في نعم، نحن في خيرات، أما ترى هذه النعم، أما ترى هذه الجسور، هذه الكباري، هذه الخيرات، هذه المساجد، الأسواق.
ذكِّره بنعم الله، أنت والله تقول له: إذا لم تقلع عن هذا الشيء، فإنه سيكون سبباً في زوال هذا، تكون شؤماً علينا، يا أخي! اتق الله، وابحث لك عن بضاعة غير هذه، ابحث لك عن تجارة غير هذه، ثم تذهب ويأتي الآخر ينصحه، ثم الثالث وهكذا، والله ليستحين على وجهه، ثم يغير تجارته ونشر الفساد والرذيلة.
لكن إذا كان الواحد إذا مر قال: نسأل الله العافية، يبيعون الأفلام الخليعة، لا حول ولا قوة إلا بالله، ويهز رأسه، وما دخل على صاحب فيديو ينصحه، لماذا المسلم جبان؟ لماذا المسلم ضعيف الشخصية؟ هل أنت سوف تنصحه من الكتاب الأخضر، أو من نظرية إنجلز، أو ماركس، أو لينين؟! تنصحه من كتاب الله جل وعلا، فما عليك خطر، تعرفون أن أكثر صاحب تسجيلات أغانٍ يكون حول تسجيلاته تسجيلات إسلامية، فبفضل الله، ثم بفضل شابين مروا عليه وكلمتين طيبتين، بعد أن كان حيران ضنكاً، تتعاقب السجائر يده يشعلها تباعاً، ففتح الله قلبه واستقام وتاب، وبدلاً من أن يبيع الغناء واللهو، والمجون والطرب، أصبح ينشر بين الناس كلام الله وكلام رسوله، والخطب والندوات والمحاضرات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].(3/14)
مثال واقعي لهلاك أمة
ختاماً: أيها الأحبة! هذا جزءٌ مما يسر الله في بيان بعض أسباب الهلاك التي وقعت فيها من الأمم، فاستحقت سنة الله بإهلاكها: {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} [القصص:78] تهلك وتنتهي، فهل من معتبر؟ هل من مدكر؟ والله إننا نرى الأمثلة صارخةً واقعةً: الكويت أمسوا -ولا نقول شماتة، ولكن لكي نعتبر ونتعظ، لأننا نعلم أن مصيبتنا مصيبتهم، فمآسينا مآسيهم- لكن غابت عليهم الشمس وهم أغنى خلق الله، من الأثرياء من خلق الله، من أهل النعيم من خلق الله، وأشرقت عليهم الشمس وهم لا يملكون إلا ثيابهم التي يلبسونها: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97].
أحد الأساتذة كان في أمريكا يتصل بأهله في الكويت: ما الذي صار؟ يقولون: والله لا نعرف ماذا حدث؟ هو في أمريكا عبر الأقمار الصناعية الـ ( cnn ) ينظر الذي حصل، يتصل بأهله: يا جماعة! نحن ننظر دبابات داخلة عليكم!! ننظر الإطلاق!! هناك ضرب للقصر!! والله ما نعرف شيئاً، والله ما أدري: مناورة: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97 - 98] ولقد حصلت: بعض الأمم هلكت، كان الناس يبيعون ويشترون في الأسواق، وفجأة ما وجدوا إلا والأعداء قد دخلوا وحلوا بهم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] وهذا كما في سورة يس: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس:49] يتخاصمون ويتبايعون ويشترون في الأسواق، ويأخذون ويعطون ويردون.
فيا عباد الله: فوالله إن النذير والعبرة ماثلة لنا، هلكت لبنان وما اتعظ كثير من الناس، وهذه الكويت هلكت، ونسأل الله أن يردها؛ لكي يحكم فيها كتاب الله وسنة نبيه، ويؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وتكون عبرةً لأهلها وأصحابها وقومها، فالعبرة ينبغي أن تؤخذ، وإلا: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] أي: ننتظر حتى يأتي الأعداء ويجثمون على رقابنا وصدورنا، وبعد ذلك نقول: مذنبون!! نحن ظالمون!! لا.
ينبغي أن يغير الناس، لكن في الحقيقة التغيير ليس على المستوى المطلوب، بعد هذه الفاجعة والله كنا نظن المساجد سوف تمتلئ، والناس سيرجعون إلى الله، أصحاب المحلات الفيديو سيتوبون إلى الله ويغلقونها، أصحاب محلات الأغاني، التبرج، السفور، المعاكسات، المخدرات، أشياء كثيرة، ولكن نسأل الله السلامة والعافية.
مصيبة أن العدو يتسلط على الأمة، ويكون لك فيه عبرة ولا تعتبر أبداً، العدو يريك الله في بأسه عبرة وآية، ولا تتذكر أبداً، فمتى نتذكر؟ مثل إنسان جاءه السرطان في رجله، قال: هون عليك يا رجل! ما زال لم يصل إلى قلبي، ورقى السرطان إلى ركبته، قال: إن شاء الله أُرَكِّب طرف صناعي، ووصل السرطان إلى فخذه، إلى جوفه، حتى أهلكه، فالذي لا يبادر بعلاج نفسه، ولا يبادر بتصحيح أوضاعه، متى يبادر؟ إذا دب السرطان في قلبه، واختلط بدمه وأهلكه، ولا ينفع فيه عندئذٍ حبيب ولا طبيب.
فنسأل الله لنا ولأمتنا وولاة أمرنا، وعلمائنا وشبابنا أن نعود إليه عوداً حميداً، ونسأله المرد إليه رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك، واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت أن تحمي حوزة الدين، وأن تحفظ أعراض المؤمنين، وأن تعز الإسلام والمسلمين.
اللهم أهلك البعثيين، اللهم أهلك البعثيين في أنحاء الأرض جميعاً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم، واجعل سلاحهم في صدورهم، اللهم اخسف الأرض بهم، وأرسل طيراً أبابيل من فوقهم، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم افضحهم بين الخلائق، اللهم من أَسَرَّ في نفسه سوءاً ومكراً وخديعةً لنا ولولاة أمورنا وعلمائنا، اللهم اخزه وافضحه على رءوس الخلائق.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].(3/15)
دور الشباب في حمل رسالة الإسلام
الشباب نعمة من الله عز وجل يجب علينا أن نؤدي شكرها بأنواع الطاعات المختلفة، ولكن الشاب قد تستهويه الشهوات، وتزين له نفسه المخالفات، وفي هذه المادة بيان للشباب يحملهم مسئولية الدِّين وتبليغه إلى العالمين، وما ينبغي أن يكونوا عليه من قدوة.(4/1)
فضل مجالس الذكر
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1 - 2] الحمد لله على نعمه التي لا تحصى وعلى آلائه التي لا تنسى، نحمده أن هدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، ومن كل خيرٍ سألناه أعطانا.
ثم الصلاة والسلام على رسوله وصفيه من خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وأزواجه ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أحبتي في الله: أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب، أن يجعل هذا الاجتماع للجميع خالصاً لوجهه، وأن يجعله في موازيننا: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أحبتي في الله: لستم بحاجة إلى أن أذكركم؛ لأن استحضار النية والاحتساب أمرٌ لا شك موجود لدى الجميع، ولكن ما جلس قومٌ يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وفي الحديث: (إن لله ملائكة سيارين يبتغون حلق الذكر ورياض الجنة، فإذا رأوا ذلك نادى بعضهم بعضاً أن هلموا -والحديث طويل- وفيه: أن الله جل وعلا يسأل ملائكته: علام اجتمع عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يسألونك، ويقول الله جل وعلا: وما الذي يسألون؟ فتقول الملائكة: يسألون الجنة).
ووالله ما جاء بنا وما جاء بكم، وما أقض مضاجع العارفين إلا طلب الجنة، وطلب الرحمة النجاة من النار، ولما جاء ذلك الأعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله قال: (يا أعرابي! ما تقول في صلاتك؟ قال: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، ولكني أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن) كلنا نريد الجنة ونعوذ بالله من النار.
وتمام الحديث: (أن الله جل وعلا يسأل ملائكته وهو أعلم: ومم يستجير عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: من النار، فيقول الله جل وعلا: وهل رأوها؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا! فيقول جل وعلا: كيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد منها خوفاً وبُعداً، فيقول الله جل وعلا: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت لهم) الله أكبر! والله -أيها الإخوة- إن مجاهدة النفس لحضور مثل هذه المجالس الطيبة العطرة لَعبادة جليلة لا يغني عنها بديل، فلو أن آخر قال: أنا أستمع الشريط -مثلاً- ولا أريد الحضور، لا شك أن في استماعه الشريط خيراً وبركة ولكن لا ينال أجراً كأجر الذي جلس في هذه الروضة، واستمع وذكر، وسبح وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم.
فبادئ ذي بدء: وددت أن أذكركم بهذا ولا أظن أنه يخفاكم.(4/2)
عظمة الله تعالى
أحبتي في الله: أما موضوعنا فكما تعلمون وكما تفضل فضيلة الشيخ أنه مرتبطٌ أو متعلقٌ بواجب الشباب المسلم تجاه نفسه وحمل دينه، والحديث في هذا شيقٌ جداً.
وأول ما نبدأ به هذا الأمر -أيها الإخوة- نقول: ما هو هذا الدين الذي نحمله؟ وهذا الدين الذي نتحدث به ونتكلم عنه؟ ندين به لمن؟ إننا ندين به لله جل وعلا.
فحمل هذا الدين، والحرقة له، والاشتياق والولع والاشتغال بنشره فرعٌ عن معرفة الله جل وعلا الذي شرعه لنا، وإذا عرفتَ ربك حق المعرفة، كنت قائماً له حق القيام، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن علم خشي: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
أيها الأحبة: والله لو تفكرنا وتأملنا عظمة هذا الرب الجليل الذي شرع لنا هذا الدين لأدركنا أننا في كرامة ولأدركنا حقيقة قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء:70] والله إن الله كرمنا كرامة ما تفكرنا في حقيقتها، بل إن من الناس من ضلت به مذاهبه وأغوته شياطينه حتى رضي الخسة والدناءة والحضيض والهوان لنفسه، واشتراها بديلاً عن تكريم الله له ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: أسألكم سؤالاً واحداً: أنتم الآن في هذه القاعة وفي هذه الصالة، كل واحد منكم ماذا يشغل من حيز هذه الصالة؟ هذه الصالة قرابة (20) متراً، أو (30×20) متراً.
هل تملأ متراً واحداً منها؟! أنت تنظر إلى هذه الصالة معجباً مندهشاً لهذا الارتفاع والسعة وحسن البناء، هذه الصالة موجودة في مدينة الزلفي وهذه المدينة، أنت لا تشغل شيئاً منها بالنسبة للصالة.
ما الذي تشغله بالنسبة لمدينة الزلفي؟ لا تشغل شيئاً يذكر، أقل من متر! وماذا تشغله بالنسبة للمملكة العربية السعودية بأكملها؟ أنت كذلك لا تشغل شيئاً يذكر.
والمملكة العربية بأكملها ما الذي تشغله بالنسبة لقارة آسيا؟ شيء بسيط بالنسبة للقارة.
وقارة آسيا ما الذي تشغله بالنسبة للكرة الأرضية بجميع القارات؟ -أيضاً- هذه القارة جزءٌ يسيرٌ من الكرة الأرضية.
والكرة الأرضية أي حيز تشغله، أي مكان تشغله بالنسبة للمجرة المليئة بالكواكب الأخرى والتي تقاس المسافات بيننا وبينها بالسنين الضوئية لبُعد المسافة؟ أيضاً الكرة الأرضية لا تشغل شيئاً بالنسبة للمجرة.
والمجرة لا تشغل شيئاً بالنسبة لمجموع المجرات السابحة في السماوات.
يقول تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] الله أكبر! هذه الأرضين والسماوات هي قبضة الله ومطوية بيمينه جل وعلا.
إذاً من أنت بالنسبة لعظمة الله؟! من أنت بالنسبة لقوة الله؟! من أنت بالنسبة لملكوت الله؟! ما حجمك بالنسبة لجبروت الله جل وعلا؟! ثم بعد ذلك تجهل أن الله يوم أن شرفك وأمرك ونهاك، تجهل أنها كرامة لك! والله لو وقف أمامنا على هذه المنصة أربعة قلنا: هذا وهذا يعملان عند الأمير أو عند الملك أو عند الخليفة، وهذا وهذا يبيعان في السوق، لتبادر إلى أذهاننا أن الذي يعمل عند الأمير بحكم قربه من ذوي المناصب من خلافة أو ملك أو إمارة، أعظم في نظرنا، ولأن الخليفة أو الرئيس أو الملك أو الوزير يكلفه ويأمره وينهاه، ولا يأمر هذا ولا ينهاه لأن هذا له شرف ومقدرة ومكانة، ولذلك يُشَرَّف ويكلف بأن يفعل وبأن يُطلِق وبأن يتصرف فيما وُكِل إليه، نعرف أنها كرامة.
فأنت ألا تشعر بكرامة الله جل وعلا لك الذي أمرك؟! أليس هذا تكريماً؟! الذي نهاك! أليس هذا تكريماً؟! الذي فضلك! أليس هذا تفضيلاً؟! لو وقف ذو منصبٍ عظيم وأخرج واحداً من بينكم وقال: أنت، قلت: نعم.
لم يختر هذا من بيننا إلا لأن له شأناً.
فالله جل وعلا قد جعل لكل مسلمٍ شأناً وقدراً عظيماً إن هو عرف حقيقة الكرامة والفضل، وحقيقة العزة التي حباه بها، ولكن أكثر الناس لا يفقهون {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
بل إن من الناس من يريد أن يتقمص أو يطلب ويستحث ما يسميه كرامة من البشر، وما هي إلا ذلة والله قد كرمه فوق هذا كله.
فيا أحبتي في الله: ينبغي أن نشعر ونتفكر في عظم هذه المخلوقات، وفي عظم هذا الكون، وما فيه من مجراتٍ وسماواتٍ وجبالٍ وأرضينَ وظواهرَ كونية، وأمورٍ يعجز اللسان عن وصفها والقلم عن حصرها وذكرها، ثم ندرك أنها كلها في كنف الله جل وعلا وتحت أمر الله.
إذاً هذا الدين الذي شرعه الله ورضيه لنا وأمرنا أن نلتزم به دينٌ عظيمٌ؛ لأن الذي شرعه وأراده عظيم وهو الله جل وعلا.(4/3)
أهمية القدوة الحسنة في نشر الدين
أحبتي في الله: لنعلم أن كل أمرٍ وكل تكليف إنما هو مزيدٌ في الرفعة والكرامة، وإذا أردنا أن ننهض بديننا وأن نرفع بهذا الدين رأساً وأن نعتز به، وأن نتشرف في أن نبذل له الأوقات، ونضحي لأجله بالنفس والنفيس والغالي والرخيص؛ فلنعلم أن التزامنا بأحكامه وآدابه هو خير ما يجعلنا نرتفع بأنفسنا ونرتفع بديننا نحو انتشار أوسع وأفضل، فالقدوة المسلمة التي تطبق أحكام هذا الدين لا شك أنها تمارس دوراً عظيماً وبارزاً وفعالاً في السمو بهذا الدين وإدراك أهمية نشره ودعوة الناس إليه، أنت يوم أن تكون داعية مطبقاً لأحكام دينك في كل مكان هذا ارتفاعٌ بنفسك إلى درجة وسمو هذا الدين، وبذلٌ منك في نشر دينك بالقدوة الحسنة.
وكم عجبت لحادثة أخبرني بها أحد الأطباء، عن طبيبٍ في أحد المستشفيات في هذه البلاد سافر إلى أمريكا ليشهد مؤتمراً مدته ثلاثة أيام، وكان موضوع هذا المؤتمر يدور حول الكالسيوم ودوره في جسم الإنسان، لكن يخبرنا هذا الأخ الفاضل عن الطبيب الذي ذهب ليمثل بلاده ويقدم بحثه أو أطروحته في هذا المؤتمر قال: لما ركب الطائرة وحان الوقت قام فيها مؤذناً فعجب مَن حوله، فلما رأوا هذا التصرف العجيب أخبرهم قال: أنا في ميعاد محدد لا أتقدمه ولا أتأخر عنه أصلي لله جل وعلا، وهذه الصلاة يسبقها الأذان فلما عرفوا ما الذي يريد -يعني: كانوا يخافون أن يكون هذا إعلاناً لاختطاف الطائرة أو هبوط اضطراري، فتركوه وشأنه في الأذان- فعجب مَن حوله مِن فعله هذا وأخذوا يسألونه ويناقشونه وانتهى النقاش في هذه الطائرة إلى رغبة ملحة من أحد الركاب في أن يتعرف على هذا الدين وأن يقرأ عنه، وعلى أية حال لو كل مسلمٍ مارس وطبق واجتهد في أن يتأدب بآداب الإسلام وأن يلتزم بأحكامه لكان لذلك أثر عظيم، فلو أنني طرحت مسألة ثم ذهبت، وجاء آخر في رحلة أخرى ووافق هذا الذي تعجب واستغرب وأكمل الدور، وجاء رجل ثالث ورابع حتى يتواتر في أذهان الذين لا يعرفون عن هذا الدين شيئاً أن أمة ورجال هذا الدين أمة عزة وافتخار وشرفٍ بدينهم الذي ينتسبون إليه، لأصبح مجموع المسلمين يمثلون سلسلة متكاملة في الدعوة ولو لم يقدم أحدهم إلا موقفاً واحداً، إذ ليس من شرط المقابلة أن يسلم في أول لحظة، لكنك أثرت في ذهنه السؤال والبحث عن هذا الدين.
المهم: هذا الرجل -يعني: ليس هذا الشاهد من الحديث- الشاهد: أن هذا الطبيب لما حل ونزل بأرض المؤتمر وسمع الأبحاث التي طرحت أراد مقرر أو أمين ذلك المؤتمر أن يسند إليه الكلام في آخر يوم من أيام المؤتمر، قال: معنا ضيف من بلاد المملكة العربية السعودية، ونريد أن نسمع كلمته في هذا المقام، فقام ذلك الرجل حامداً ربه مصلياً ومسلماً على رسوله صلى الله عليه وسلم -وكم يؤسفنا أن هذه خصلة تُفْقَد في بعض المجامع والمنتديات، من واجب المسلم في أي مكان كان، وفي أي دولة كانت، وفي أي جهة كانت، أن يبدأ بحمد الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم- ثم قال: أشكر للسادة المؤتمِرين الأطباء هذه البحوث التي قدموها، ولكن أعرف أن هذا المؤتمر كان يدور حول دور الكالسيوم في جسم الإنسان، وسؤالي: ما هو دور الإنسان في الحياة؟ أريد أن أسأل ما هو دور الإنسان في هذه الحياة؟ هل هو: الأكل، والشرب، والنكاح، والنسل؟ فأثار استفساراً عجيباً في أذهانهم، ثم أخذ يحدثهم بما فتح الله عليه من كلامه ومما يفهمه ويعتقده من كلام ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى شرح الله صدور بعض المؤتمِرين، وكانت نهاية آخر يوم في المؤتمر أن أسلم على يده ستة من الأطباء وطبيبتان من النساء.
فهكذا المسلم دائماً إذا كان دينُه أمراً مهماً بالنسبة له في كل مكان، وحديث نفسه في أي موقفٍ يقفه؛ هل هذا يرضي الله؟ هل هذا لا يرضي الله؟ هل هذا يقربني من الله؟ هل هذا يبعدني من الله؟ هل يسرني أن ألقاه بين يدي الله؟ هل هذا يؤسفني ويخجلني أن ألقاه بين يدي الله؟ إذا كان هذا شأنك وموقفك والله تكون دائماً في رفعة بنفسك واعتزاز بدينك، وتقوم بدورٍ إيجابيٍ فعال في نشر هذا الدين الذي أنت تنتسب إليه.(4/4)
أهمية الالتزام بهذا الدين وتطبيقه
المسألة الأخرى -أيها الأحبة- بعد القدوة الالتزام: لنعلم أن هذا الدين يحتاج إلى تطبيق وأنه دين عمل وليس دين كلام، لو كان هذا الدين دين كلام لاكتسح القارة كلها، لأنه لا يوجد أكثر من العرب -ولله الحمد- في الفصاحة والبيان، ولا أقول أكثر منهم في الكلام.
كما يقول شاهد القوم:
إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
الكلام كثير؛ لكن أين التطبيق وأين الالتزام؟ وأين البذل والتضحية؟ إذاً: فحتى نعرف واجبنا تجاه هذا الدين، وواجبنا للرقي بهذه الرسالة العظيمة ينبغي أن نطبق لأن التطبيق هو غاية العلم ومن علم ولم يعمل كان علمه بلا فائدة، والله جل وعلا يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] فالإنسان إذا عمل بما علمه كان خيراً له، والخير جاء نكرة خيراً مطلقاً عظيماً فيفتح الله عليه فتحاً لا حدود له، بل ويزيده الله تثبيتاً لهذا الدين، وإذا أردت أن تتفقه في مسألة من المسائل فقهاً طيباً جيداً فطبقها فإن تطبيق العلم يجعله أكثر رسوخاً ويفتح عليك أبواباً أخرى.
من عمل بما يعلم شرح الله صدره وهيأه، ويسر له علم ما لم يعلم.
فهذه مسألة مهمة، واجبنا -أيها الأحبة- تجاه هذا الدين الذي كلنا نعلم عنه الكثير أن نعمل به وأن نطبقه.
الصحابة رضوان الله عليهم، وهم ثلة طاهرة نقية قليلة جداً بسيوفٍ نحيلة وبِخَيْلٍ هزيلة، مع الفقر والجوع كسروا أمماً وحضارات جعلوها تتهاوى في الحضيض تحت صيحات التكبير والالتزام العملي بهذا الدين، والاستعداد والقدرة على التضحية، حينما يشعر أعداء الإسلام أن أبناء المسلمين بلغ بهم الأمر حرقة وحباً وتفانياًَ في دينهم إلى درجة أنهم يبايعون على الموت، ويساومون على الأرواح من أجل نشر دينهم؛ عند ذلك تنتهي مخططاتهم، لأن المخطط الماسوني والصهيوني الذي نراه يسري درجة درجة، ومرحلة مرحلة في شعوب المسلمين وأبنائهم سرى أمام عنصرٍ واحدٍ وضع في الحسبان وهو أن أبناء المسلمين قد أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم، ولكن يوم أن تحرك الجهاد في بقعة من بقاع المسلمين اختلفت الحسابات وانهارت المخططات، وأصبحت تظهر عليهم صور ما كانت في حسبانهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر:2].
كان أعداء الإسلام يظنون أن مخططاتهم وأن انتشارهم ورقعتهم وقواهم الضاربة في كثيرٍ من بلدان المسلمين تمنعهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] متى؟ يوم أن تحرك الجهاد في سبيل الله.
فحينما يوجد من المسلمين أمة تبرهن وتبرز وتحقق للعالم أننا على استعداد أن ننشر هذا الدين وأن نرفع به رأساً، وأن ندعو إليه، أياً كان الثمن، كما قال رستم القائد لأميره أو لرئيسه: هل المسلمون أكثر منكم؟ قال: لا.
نحن أكثر منهم.
ولكن رستم لما جاءه أحد قادة المسلمين قال: [مال الذي تريدون؟ قال: ندعوكم بدعوة الإسلام، أن تدخلوا في هذا الدين ولكم ما لنا وعليكم ما علينا.
قال: فإن أبينا؟ قال ذلك المسلم الذي كان فقيراً ضعيفاً هزيلاً يفاوض أكبر القواد قال: تعطون الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون.
قال: وإن لم نعطكم؟ قال: إن لم تقبل بهذه ولا هذه فقد جئتك بقومٍ يحبون الموت كما تحبون الحياة.
فلما أخبر رستم أميره أو رئيسه بهذا قال: بهذا غلبوكم].
قومٌ يُربطون بالسلاسل حتى يثبتوا في أرض المعركة والقتال، وقومٌ يشترون ويشتهون الموت شهوةً ويتسابقون إليه.
فحينما نكون على درجة من الالتزام والحرقة والتطبيق والعمل لهذا الدين والله -يا أيها الأحبة- سينتشر، وكما يقول أحد مفكري الإسلام: إن البشرية لا تستجيب لمنهجٍ مقروء -الإسلام لو طبعنا منه ملايين الكتب- أو منهجٍ مسموع -أرسلنا منه آلاف الأشرطة إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها- وإنما تستجيب لمنهجٍ قد تمثل في صورة جماعة من البشر.
فإذا رأى الأعداء أن المسلمين قد طبقوا دينهم وإذا جاء أعداء الإسلام إلى أرض المسلمين فوجدوا المسلم لا يمكن أن يوجد فيه ثغرة من رشوة أو خيانة أو ضعف أو فساد أو فسق أو اختلاس أو أي جانبٍ من جوانب النقص والخزي والمحرمات والمخالفات، عند ذلك يعلمون أن هذه أمة قد أحاطت سوارها، وأحكمت إغلاقه، فلا يستطيع أحدٌ أن يدخل إليه، أما إذا وجدوا أمة قد فتحت أبوابها على مصارعها وقد رُسِّيت نوافذها مشرعة، استطاعوا أن يدخلوا مع النوافذ ومع الأبواب ويتفكهون حتى بتسلق الأسوار.
فإذا وجدت الأمة التي تكون نعم القدوة ونعم الالتزام لدينها؛ عند ذلك ترتفع بنفسها إلى كرامة أكرمها الله جل وعلا بها.
وفي المقابل فإن أي فردٍ أو أي مجتمعٍ أو أي أمة تخالف أمر الله وتسلك طريقاً معاكسة فيما شرع، والله إنها تختار لنفسها درجة مغرقة في الحضيض والهوان.
وكما يقول الحسن البصري رحمه الله: [إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية لا يفارق وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه].
ويقول جل وعلا، وقول الله أبلغ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
فمن نُسِّي ونَسِيَه الله فهذا هوان وهذا انحطاط، وأنت تلاحظ يوم أن ينساك أحد أحبابك أو ينساك من هو حولك ولا يلتفت إليك ولا يعبر أو يلتفت لوجودك، فإنك تتضايق من هذا الشيء وتعرف أن هذا هوان واستهتار ونقص، فكذلك من نسيه الله جل وعلا -ولله المثل الأعلى- فهو في غاية الهوان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فغاية الأمر -أيها الأحبة- أننا حينما نريد أن نرتفع بأنفسنا لا بد أن نتمسك بهذا الدين جيداً.
هذه الحياة قافلة، من الناس من يمشي حافياً، ومن الناس من يمشي منتعلاً، ومنهم من يركب دراجة، ومنهم من يركب سيارة، ومنهم من يركب طائرة، فالناس بقدر تمسكهم بهذا الدين يحددون الدرجة والفئة التي هم فيها، فمن كان متهاوناً ضعيفاً، فهو كمن يمشي حافياً لا تسأل عما يجرحه من الشوك ويعترضه من القاذورات ونحوها، ومن التزم بدين الله جل وعلا فقد اختار لنفسه درجة عالية، وبقدر ما تسمو بنفسك في دين الله جل وعلا، فأنت تختار لها مكانة أسمى وأعلى، وكلٌ يضع نفسه حيث ما شاء؛ ولكن:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبتْ في مرادها الأجسامُ
من الناس من يقنعه حفنة من التراب، ودريهماتٍ معدودة، ودويرة صغيرة.
ومن الناس من أبت همته وشمخت عزته، فلا يريد غير النجوم مطلباً، فلا يريد غير أسمى الأماكن والدرجات العلا عند الله جل وعلا، وهي الجنة وثمنها؛ تعرفون أنه السير الحثيث: (من سار أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
المسلم الذي ترتفع به الأمم وتعز به الدول، المسلم الذي نريده في هذا الزمان: ليس ذلك الظبي الجهول، ليس ذلك المسكين الذي إذا رأى منكراً قال: اللهم حوالينا ولا علينا، كأنه امرأة رأت رجالاً، إذا رأى أمراً مخالفاً لدين الله مر وكأن الأمر لا يعنيه، أو كأن محارم الله لم تنتهك، انظروا إلى أحدهم يقطع إشارة مرورية فيسلقه القوم بألسنة حداد، ويحرقونه ويزلقونه بأبصارهم، ما هذا التخلف، ما هذه الرجعية، إشارة مرورية عنوان التقدم، عنوان الحضارة، إشارة تُفُوهِم عليها دولياً، هذا الأبله المسكين المعتوه، لا يفهم التعامل معها؟! فما بالك بمن خالف أمر الله وشرع الله؟! من الناس من لا يلتفت، وغاية الأمر كما يقول العامة: (ذنبه على جنبه) لا.
أراد أعداؤنا منا المسلمين أن يكون هكذا، السجادة ما هناك مانع، تريد أن تسبح سبح، خذ لك سبحة، اقرأ أورادك كلها، امش من البيت إلى المسجد ليس هناك مانع، لكن تريد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر! تريد ألا يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً! تريد أن تكون كلمة الله هي العليا! هذا هو الذي لا يريده أعداء الإسلام، ولذلك في بعض الدول التي تحارب الإسلام عداوة وصراحة توجد بعض الجماعات التي تنتسب للإسلام، أو تدعي أنها تعمل للإسلام وما هو نوع التزامهم؟ إما على عقائد محرفة، أو على نوع التزام أو حصر مفهوم الدين في المحاريب والطقوس والعبادات المحددة، أكثر من ذلك لا يُسمح لهم بشيء.
فيا أحبتنا في الله: حينما نريد أن نسمو بهذه النفوس وأن نسمو بهذا الدين، لا بد أن نبذل ولا بد أن نضحي، ولا بد أن نقدم.(4/5)
محبة الصالحين والدعاء لهم بظهر الغيب
كذلك -أيها الأحبة- بعد التفكر في مخلوقات الله التي تنتهي بنا إلى عظمة الله جل وعلا، ثم عظمة هذا الدين الذي شرعه الله لنا، وقدر الكرامة التي كرمنا بها، بعد ذلك القدوة، وبعد القدوة التلقي للتنفيذ، العمل، الاجتهاد، الالتزام، بعد ذلك المحبة، جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله متى الساعة؟ -وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يجيب السائل بما ينفعه؛ لأنه لو قال له: الساعة بعد ألف أو مليون سنة أو أقل، أو أكثر، يعني: ليس هذا الأعرابي موكَّلاً بالنفخ في الصور أو بفتح أبواب الجنان، أو بإيقاد النيران، ليس له شأن بذلك- متى الساعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا أعددت لها؟ فقال: والله ما أعددت كثير عملٍ ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب) وجاء آخر وقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم لَمَّا يلحق بهم) ولَمَّا تفيد قرب حدوث الشيء إلا أنه لم يحصل، كما يقول الشاعر:
أزف الترحل غير أن ركابنا لَمَّا تزل برحالنا وكأنْ قَدِ
فقال صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت يوم القيامة).
فمن هذا أيها الأحبة: إذا قصرت بنا الهمم عن أن نكون في مصاف الرجال والقادة والدعاة، والأساتذة والمربين في هذا الدين فلا أقل من أن نكون في عداد المحبين، والموالاة هي الحب والبذل، وأن نكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً، فلا أقل أن نكون معهم.
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليُسْعِفِ النطقُ إن لم تسعف الحالُ
إذا لم تستطع أن تكون من المجاهدين، أو من الدعاة إلى الله، أو من المربين، أو من الوعاظ، أو من الذين لهم دورٌ نافع؛ فلا أقل من أن تكون من الذين يدعون لهم بظهر الغيب، وينافحون عن أعراضهم، ويذبون عنهم قالَةَ السوء وأقوال الناس.
أيها الأحبة: يؤسفنا ويجرح قلوبنا أن نجد من أحبابنا وإخواننا من بني جلدتنا ويلبسون كملابسنا، ويتكلمون بمثل ألسنتنا، أن إذا ضمتهم المجالس كان حديثهم انتقاد الصالحين الطيبين، أو الحديث في أعراضهم، أو انتقاد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والنيل من جانبهم، هذا والله مما يزيد حظ الشيطان من نفوسهم ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإلا فإلم يكونوا قادة ومربين وعلماء وأساتذة، فلا أقل من أن يكونوا محبين، أن يكونوا داعين، لا تقل: عجائز المسلمين ونساؤهم فيما مضى خيرٌ من كثير من الناس في هذا الزمان، امرأة أرادت أن تشارك في الجهاد، ولم يكن لها سبيل، فأخذت المقص وقصت ضفيرتها وجاءت بها إلى قائد المجاهدين وقالت: [اجعل منه لجاماً لفرسك] تريد أن تشارك، تريد أن تقدم شيئاً.
جاءت سليمان يوم العرض قُنْبُرَة قد أقبلت بجرادٍ كان في فيها
وأنشدت بلسان الحال قائلةً إن الهدايا على مقدار مهديها
لو كان يُهدى إلى الإنسان قيمتُه لكان قيمتك الدنيا وما فيها
أرادت أن تشارك بما استطاعت، ولقد تجددت ولله الحمد والمنة هذه الصورة في هذا الزمان يوم أن يأتي الكلام عن الجهاد أو عن البذل في سبيل الله؛ تفاجأ بفتياتٍ يرسلن أساورهن وأقراطهن وحليهن.
موقف جميل جداً: جاء شاب عليه سيما ضيق الحال مثلما نقول: (مبروكة هذه المحدودة) قال: أنا أريد أن أتبرع بفروتي هذه للمجاهدين.
قلت: الله يكثر خيرك، هذه يلبسها مجاهد إن شاء الله ويستشهد فيها، ويُدْعى لك.
طبعاً التبرعات النقدية أيسر بكثير من التبرعات العينية؛ لكن هذا الرجل جاء وما عنده إلا فروته نقول: توكل على الله ما نقبل منك شيئاً؟! على الأقل نشكر هذا الشعور الذي بلغ به أن يخلع معطفه أو فروته أو قميصه ثم يقول: خذوه للمجاهدين، فنريد -أقل الأحوال- أن يحدث هذا الشيء، أن تحدث الموالاة المحبة النصرة التأييد الذكر العاطر الدعوة بظهر الغيب، هذه من الأمور التي تجعلنا نرتفع بأنفسنا ونرتفع بديننا إلى ما يرضي الله جل وعلا، وديننا رفيع والحاجة لنا.(4/6)
القوة في الإعداد
هذا الإسلام عزيز قد أعزه الله جل وعلا وحفظ هذه الشريعة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
(ليبلغن هذا الدين مبلغاً حتى لا يدع بيت شجرٍ ولا حجر ولا مدر إلا أدخله الله هذا الدين، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله) هذا الدين منتصر: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرها من خذلها) إن نحن نمن على إسلامنا وعلى ديننا، من نحن؟! يقول الله جل وعلا: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] يتواضعون لإخوانهم المؤمنين، أعزة أقوياء في وجوه الكافرين، فنحن بحاجة إلى هذا الدين أن نرفع أنفسنا به.(4/7)
قوة الإعداد العلمي
إن مما يعيننا على أن ننهض بأنفسنا لكي نكون على مستوى هذا الدين: الإعداد، والإعداد يكون بالعلم، والتفقه، والجهاد في سبيل الله.
فحينما نكون على مستوى قوي واضح من العلم فلا تنتشر بيننا البدع ولا الخرافات، ولا تسري بيننا الأقوال الشاذة والأباطيل والخرافات، ولا يمكن أن يكون اضطراب أقوال الذي هم على هامش الإسلام أو يُنسبون إلى الإسلام لا يمكن أن تكون مصدر خلافٍ أو زعزعة بيننا، ولا يكون ذلك إلا بالقوة والإعداد، بقوة العلم وبقوة الفقه في دين الله، وهذا لا بد له من وسائل، يحتاج إلى طلب العلم، ويحتاج إلى حلق العلم، وإلى المزاحمة بالركب على المشايخ في حلق الذكر في المساجد، أو في بيوتهم، أو في مجامع الخير، ويحتاج إلى القراءة، وإلى البحث، والاستماع، ويحتاج إلى التنقيح والتحليل والتفكير.
كثيرٌ منا قد حفظ نظام التقاعد كالفاتحة، لأنه يعرف متى ينتهي، ومتى تنتهي الخدمة، وكم خُصِم من راتبه أيام كان يأخذ راتباً؛ لأنه فكر وقدر كثيراًَ في هذا الأمر حتى استوعبه وفهمه؛ لكن الكثير ما فكر كيف ينشر خُلُقاً حميداً أو فكرة نافعة في بيته أو في حارته أو في حيه أو مجتمعه، ولو أهمه الأمر لاشتغل به، لكن للأسف مجرد انتسابٍ، لا توجد عنده حرقة أو لهفٌ وشوقٌ إلى نشر هذا الدين.
فلا بد -أيها الأحبة- من أن نُعِد، لا بد من أن نُعِد، بقوة العلم بقوة التفقه بالحجة الظاهرة، والله إن العلم -أيها الأحبة- خير سلاح بعد رحمة الله جل وعلا يحفظ صاحبه من الانزلاق في المعصية، وكم زل وهلك وضاع من العُبَّاد! ولكن ما أندر -يعني: قلة- مِن الذين يحصل منهم الزلل والهلكة من العلماء! لأن العابد يُغْوَى أو يفتن بشبهة فلا يعرف كيف يتصرف، ثم ينساق في معصية لا يعرف أنه منذ بدايتها قد جنح وذهب مسلكاً بعيداً عما يرضي الله جل وعلا؛ لكن طالب العلم، المتفقه يعرف الأمور من بداياتها، فإن كانت بداية حسنة اتخذ سبيلاً مباركاً إليها، وإن كانت بداية مشبوهة، عرف أن الحق أبلج، والحق نظيفٌ عطرٌ طاهر لا يمكن أن تكدره شوائب.
وكم عجبت ذات يومٍ من شاب وقف بعد صلاة العشاء في يومٍ من الأيام يريد الحديث معي، فلما التفتُّ إليه أكلمه، أخذ يبكي وانهمرت دموعه غزيرة وانساق في بكائه، فقلت: أكيد في نفسه عبرات يريد أن يخرجها، لا نستعجل بالحديث معه دعه حتى يخرج بقية عبراته، فلما انتهى من بكائه التفتُّ إليه وقلت: ما الذي بك؟ قال: والله أنا مستقيم وكنت أشهد الصلاة في هذا المسجد وصلاة التراويح وو إلى آخره؛ إلا أني سافرت مع صديقٍ أراد مني أن أرافقه في السفر إلى مدينة ما، وسافرت معه وحصل مني الزنا -والعياذ بالله-! قلت: سبحان الله العلي العظيم! صدق الإمام الشافعي: لا تنظرن إلى بكائهم في السجود، ولكن انظرهم عند الحلال والحرام.
كثرة الصياح والنواح والبكاء ليس بعلامة فارقة مميزة، لا شك أنها دليل على حضور القلب والإخبات والخشوع لمن خرج منه من غير تكلفٍ؛ لكن المقياس الحقيقي: أين هو عند الحلال والحرام؟ المقياس الحقيقي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير: (ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة) إلى آخر الحديث.
فالإنسان تعرفه جيداً عند الحلال والحرام، فهذه من الأمور المهمة أيها الأحبة.
فشاهد الكلام: هذا الشاب لما بحثتُ معه عرفتُ أنه يحب الخير ويحب الطيبين، يُشكر على هذه المحبة وهذه الموالاة؛ لكنه ما زود نفسه بالعلم، ولو زود نفسه بالعلم ما زَلَّ هذا الزلل، ولكان العلم بإذن الله وبمشيئة الله ورحمته عاصماً يعصمه من الوقوع في الخنا والرذيلة والفاحشة.
فالعواطف -أيها الأحبة- لا تقوم عليها أمم، ولا تنتشر بها دعوات، ولا ينتشر هذا الدين ويتأثر الناس به إلا إذا رفعه علماء لديهم من العاطفة والحرقة ما يؤثر على الآخرين، لكن العلم العلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] الله جل وعلا في شأن توحيده وألوهيته لم يرضَ بالمعرفة، أو تفكرْ أو تأملْ أو تثقفْ أو تعرفْ، ولكن، {فَاعْلَمْ} [محمد:19] فلا بد من العلم والعلم بالله أولاً ثم العلم بنبيه والعلم بأحكام الله جل وعلا، هذا مما يعصم الإنسان ويرفع منزلته ومكانته إلى خير حالة أو خير درجة تُرجى أن تكون للمسلم الذي يرجو ما عند الله جل وعلا.(4/8)
قوة الوعي والفهم والاطلاع
كذلك -أيها الإخوة- من القوة في الإعداد: الوعي والفهم والاطلاع، ومن الناس من يعتبر دار الإذاعة البريطانية بالنسبة له متفقٌ عليه، يعني: ما تقوله هو الصحيح، لا يعرف أن الذي يدير هذه الإذاعة رجلٌ يهوديٌّ حاقدٌ مارقٌ فاجر، من الناس من تجد عنده اطلاع لكن من غير وعي، ما تقوله الجرائد والمجلات هو الحجة، وما يقوله أصحاب الكلمات الزائفة والعبارات الجوفاء هو الحجة، لا.
لا بد أن يكون لديك وعي، لا بد أن يكون للمسلم فهم، والمسلم الذكي هو الذي إذا قرأ سطراً قرأ ما وراء السطر، وما تحت السطر، وما خلف الأحرف، هو ذلك الواعي الذي يعرف أبعاد الكلمة وأهدافها ومقاصدها، ليس ذلك المسكين الذي تقال له العبارة ولا يفهم ما فيها، ومن جميل ما يذكر في ذلك أن الحطيئة لما رأى الزبرقان بن بدر قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فالرجل شك هل هي مديحة أم ذمة؟ ثم شكا إلى عمر بن الخطاب، فسأل عمر حسان بن ثابت قال: [أتظنه هجاه؟ قال: بل سلح عليه].
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
يعني: فهم الإنسان للعبارة لابد أن يكون فهماً ذا أبعاد، هذا أمر مهم بالنسبة لشباب المسلمين، وأنا أعلم أن الذين يكرمهم الله بالوعي هم ثلة وقلة، لكن لا يمنع أن تكون هذه الوجوه الطيبة وإخواننا في هذه القاعة ممن يكرمهم الله جل وعلا بالوعي والفهم ودقة التأمل فيما يكتب ويدور حول هذا الدين.(4/9)
ترتيب الجهود وتوحيد الصف من الأشياء التي تعين على حمل رسالة الدين
كذلك -أيها الإخوة- مما يعيننا على حمل رسالة هذا الدين وواجبنا نحوه: أن نرتب جهودنا، وأن نوحد صفوفنا، لو أن رجلاً عنده أرض زراعية مساحتها: (كيلو×كيلو)، وأحضر مائة عامل لكي يحرثوها، فعامل أخذ يحرث في الزاوية الشمالية، وعشرون يحرثون في الجنوبية، وواحد في الوسط، لأصبحت مقابر وليس أرضاً زراعية، كل يحفر في طريق وفي مكان لم تنسق ولم تنظم ولم ترتب هذه الجهود في الأرض، ولو ترتبت جهود هؤلاء العمال لاستطاعوا أن يمشطوا هذه الأرض وأن ينظفوها من الأحجار والأشواك، وأن يعدوها وأن يبذروها بأيسر جهدٍ وأقل وقت.
فأقول: ومما يؤسف له أن جهود المسلمين في هذا الزمان جزءٌ منها مبعثر وغير مرتب يجعلهم كالذي نثر عمالاً من غير ترتيب ولا إعداد ولا كيفية منظمة، هذا يحفر وادياًَ، وهذا يحفر خندقاً، وهذا يحفر بركة، وهذا يحرث، وهذا يمشط، ربما تمضي سنة وتفوت مواسم الزراعة ولم يزرعوا شيئاً، والأرض قد خُرِّبَت، لكن لو كان هناك ترتيب في هذه الجهود، لكانت في وقتٍ قليل وجهدٍ أقل قد أصبحت خضراء مصانة مورقة، وجنى الناس ثمار زراعتها، لكن نتيجة لخبطة الجهود التي تحصل في كثيرٍ من أبناء المسلمين هي التي تجعلهما -وللأسف- جهوداً ضائعة وأشد من هذا: التنافر أو البغضاء ولا حول ولا قوة إلا بالله!(4/10)
معرفة أن أعداء الإسلام لا يملون في حربهم على الإسلام وأهله
أخيراً أيها الأحبة: ينبغي أن نعلم أن أعداء هذا الدين لا يفترون، ومع علمهم أنهم على الباطل، وعلى ما يسخط الله جل وعلا، وأنهم على الضلال المبين، يحترقون لعقائدهم الباطلة، ومذاهبهم الهدامة، وهذه والله مصيبة، كم منظمة تنصيرية تعمل بين المهاجرين في أفغانستان؟! قرابة خمس وسبعين منظمة، تملك سيارات الإسعاف، وتملك الوسائل، والمطبوعات، والغذاء، واللباس وأشياء كثيرة كثيرة، المنصرون يدخلون في أدغال أفريقيا، وأحدنا نقول له: يا أخي! ادعُ إلى الله جل وعلا بما يسر لك.
قال: أتريد أن يضحك الناس علي؟! ما قالها ذلك المنصر، ولم يحتقر جهده في الضلالة والباطل، بل أخذ يدعو بما استطاع.
آخر تقول له: ادعُ إلى الله.
فيقول: من يستقبلني؟! ومن يقف بالمدخنة؟! ومن يعطيني كرامة؟! ومن يصرف لي انتداباً؟! لا يا إخوان! هذا الدين يريد احتساباً، ولا يريد انتداباً.
فجهود أعداء الإسلام عجيبة جداً، وكما يقول عمر: [اللهم أشكو إليك جلد الفاسق وضعف الثقة]، (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).
فحينما ننظر إلى جهود هؤلاء الأعداء، سواءً في ترتيب جهودهم، أو تنظيمها أو تخطيطها نتعجب، نحن نفكر كيف نواجه الخطر الداهم الموجود الآن، وأولئك يفكرون فيما بعد عشرين وثلاثين سنة قادمة، أين المسلم الذي يفكر لهذا الدين والدعوة إلى الله والعمل للإسلام بعد عشرين سنة؟! كيف سيكون حال الدعوة إلى الله جل وعلا؟! الناس كانوا فيما مضى لا يعرفون إلا واعظاً يقوم فيتكلم بعد الصلاة في المسجد وتنتهي، هذا أسلوب الدعوة المنتشر عند كثير من الناس، لما بدأ الناس يستخدمون التسجيل أنكر طائفة: مَن هذا المجنون الذي يأتي بمسجل في المسجد، صار هناك نوع من الإنكار، استخدمت وسائل جديدة في الدعوة، (ومن جهل شيئاً عاداه).
وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فطائفة جهلوا بعض الوسائل وعادوها في حين أن أعداء الإسلام سبقوا هذه الوسائل بمئات المرات لكن صدق الله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].
والله ما دار بخلدهم أن هذه المكبرات ستكون في مساجدنا، ما دار بخلدهم أن أجهزة التسجيل ستكون وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله في البيوت والأماكن التي قد لا يصلها حتى الكهرباء، ما دار في خلدهم أن كثيراً من منتجاتهم ستستخدم، لكن لما وعى المسلمون وفهموا واستخدموا مثل هذه الوسائل، احتاجوا إلى مزيد منها، نعم.
نحن لا ننتظر الغرب أن ينتجوا شيئاً ثم نحن نبرمجه ونحوله لكي يخدمنا، نحن بحاجة -أيضاًَ- إلى أن نطرح وسائل تخدمنا نحن، الذين صنعوا التليفون أول ما بدءوا في صناعته كان مبرقة، وبعد ذلك طاحونة يفرها حتى تَصِلَ شُحنةٌ ويكون من خلالها إرسال، وبعد ذلك توصلوا إلى هاتف يدور بالقرص -يعني: أهمهم أمر دنياهم فاشتغلوا- بعد ذلك توصلوا إلى هاتف بالأزرار، ثم بعده هاتف يحفظ الأرقام، ثم بعده هاتف بإمكانيات أكثر، وتوصلوا إلى هاتف يعطيك رقم المتصل أو يخرج صورة المتصل، وما زالوا في سباق متطور؛ لأن أمر دنياهم أهمهم.
فنحن معاشر المسلمين هل أهمنا أمر ديننا، هل رفعنا من قدراتنا، ومن ثقافاتنا، ومن وعينا، ومن معلوماتنا، والإمكانيات الموجودة بين أيدينا، من إخواننا وأحبابنا؟! قبل عشر سنوات من تاريخ الآن وهو كما كان لم يتغير، المسلم دائماً في نمو وفي تقدم وفي تطور، فلماذا لا ترفع نفسك؟ لماذا لا تثقف نفسك؟ لماذا لا تزيد حظك من القرآن، ومن السنة ومن الوعي ومن الدعوة ومن الهداية؟ هل يحول أحد بينك وبين هذا؟! أبداً والله؛ لكن المصيبة -أيها الإخوة- أننا لا يهمنا، يعني: الكثير لا يهمه أمر هذا الدين.
أحد السلف يقول: وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وأن جسمي قرض بالمقاريض.
يعني: فلتذهب روحي فداءً ولو قُطِّع لحمي قطعة قطعة في سبيل أن الناس يهتدون إلى أمر الله ودين الله جل وعلا.
فمن منا قدَّم؟! القليل القليل هو الذي يقدم، ومن الناس من يقف موقف المرجف المثبط أو ناشر المقالة السيئة عن إخوانه الطيبين ولا حول ولا قوة إلا بالله! ومن المواقف التي تدل على أن المسلم يحتاج إلى الصبر ويحتاج إلى استعداد للمعاناة التي يمكن أن تمر به من خلال ما يدعو إليه.
الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، لما اتخذ الفساد منحىً دخل في العقيدة، القول بخلق القرآن، مسألة ليست مسألة فروع، فوقف وقفة قوية، من العلماء من تأول، ومنهم من تغير، ومنهم من انصرف، لكن الإمام أحمد ثبت، فسُجن وعُذب وأُوذي، ذكر أهل السير أنه رُبِط وعلِّق وانقطع به الحبل، والقيود الثقيلة ترسف في قدميه رضي الله عنه، ذكر ابن الجوزي في مناقبه: أنه جلد ثلاثة آلاف سوط.
ذلك الإمام الجليل.
وقال: والله لستُ أخشى الموت، ولكن أخشى سياطهم -حرارة السوط على الظهر، إذا كُشِف الظهر ثم جاء جلد السوط- فقال أحد تلامذته: يا أبا عبد الله! إنما هما سوطان، ثم لا تدري ماذا يُفعل بك.
يعني: يُغمى عليك ثم لا تعرف ما الذي يُفعل بك.
يقول الإمام أحمد: ما عزاني أحدٌ مثل رجلٍ سماه قال: كان من العيارين -من اللصوص- قال: يا أبا عبد الله! إني جُلِدْتُ ستة عشر ألف سوط منذ أن بدأت في هذا السبيل، -يعني: في طريق السرقة، وقطع الطرق والعبث والاعتداء على الناس وغير ذلك- وصبرت وأنا على الباطل، أفلا تصبر وأنت على الحق، قال: فما عزاني أحدٌ مثله.
فيا إخوان: لنعلم أن سبيل الدعوة إلى الله جل وعلا وحمل هذا الدين لا نقول: إنه مفروش بالورود والرياحين، لا؛ ستجد من يسخر، وستجد من يستهزئ، وستجد من يشكك فيك، وستجد من يرميك بما ليس فيك، ولكن: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] سيعلمون يوماً من الأيام أنك من الصالحين، أنك من المحبين {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44] عقول مَن تخاطبهم قد تكون يوماً ما قاصرةً عن إدراك الحق الذي تبينه لهم، لكن في يومٍ ما يعرفون أنك على الحق.
فينبغي لنا أن نكون على مستوىً في رفعة أنفسنا بهذا الدين.
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمامِ
والله يا إخوة! من تأمل حال هذا الكون أمواتٌ يدفنون، ومرضى في المستشفيات، وأناسٌ يشردون، وقومٌ يعانون من الجوع والعري، وقومٌ يموتون من العطش، وأقوامٌ في فيضانات، وهذه الدنيا تطوي أناساً ليس لهم ذكر أبداً، أيسرك أن تكون مع الغثاء؟! أم تريد أن يكون لك وجود ومكانة، وأن يكون لك شرف ومنزلة، وأن تبقى لَبِنَتُك باقية؟! كم شهد التاريخ من الأثرياء؛ ومن الملوك والعظماء! هل يُذْكَرون في كل مجلس؟! لا.
ما ذكر إلا العلماء فقط، أما الأثرياء وأصحاب الدنيا وما يتعلق بها، لم يذكروا، ذُكِر عالم فقير رباني جليل زاهدٌ ورع، ذُكِر هؤلاء الذين رفعوا أنفسهم بدين الله جل وعلا، وسمت نفوسهم إلى أن ثبت بناؤهم على الأرض، فما مر جيلٌ من الأجيال إلا قال: هذا بناءٌ كان لفلان عليه رحمة الله.
يقول إبراهيم بن أدهم في شأن هذا الكون، وشأن هؤلاء الناس الذين تراهم، وهذه أبيات أحب أن أكررها دائماً، أحبها وأحب أن أُسْمِع إخواني بها:
إذا ما مات ذو علمٍ وتقوى فقد ثُلِمَت من الإسلام ثُلْمَهْ
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمهْ
وموت فتىً كثير الجود محلٌ فإن بقاءه خصبٌ ونعمهْ
وموت الفارس الضرغام هدمٌ فكم شهدت له بالنصر عزمهْ
وموت العابد القوَّام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمهْ
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمهْ
الخمسة الذين ذكرهم في الأبيات: العالم، المجاهد، العابد، الشجاع، الكريم.
فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمهْ
وباقي الخلق همجٌ رعاعٌ وفي إيجادهم لله حكمهْ
فيا إخواني الشباب! أيها الإخوة جميعاً: هل نحن من الرعاع، مثل البهائم؛ ثغت ورغت، وأكلت وشربت ثم ثلطت، وأخرجت ونُحرت أو ماتت! أم يكون لنا شأن! كم هدى الله على يدك من ضال؟! كم أسلم على يدك من كافر؟! وكم فرج الله على يديك من كربة؟! أين العمل؟! أين الجهد؟! أين البذل؟! وأقول في المقابل -أيها الإخوة- هناك أقوامٌ رءوسهم لامست السحب عزة وكرامة، وأناسٌ يقولون: نتوب أو لا نتوب! نترك أغاني، أو لا نترك، نترك المعاكسات أو لا؟! نسحب الثوب أو نرفع فوق الكعب لكي نطبق السنة! ننظر للنساء في التلفاز أو لا ننظر! لاحظ! الإنسان يريد أن يشتري الموت شراءً.
من مدة كنت في أحد مكاتب الخطوط، جاء إليَّ شاب في وظيفة محترمة ممتازة قال: والله أنا أريد أن أذهب إلى أفغانستان، ولا أريد أن أعود أبداً.
قلت: وما معنى هذا؟ قال: قبري هناك.
سبحان الله العلي العظيم! بين شابٍ هذا شأنه، وآخر لا يزال في مفاوضات وعقد اجتماعات وقمم مع الشيطان: نترك نصف الأغاني أو ربعها؟ نسحب نصف الثوب أو بعضه؟ نشاهد المسلسلات أو لا نشاهدها؟ نترك الأفلام الماجنة أو لا نتركها؟ نترك الورق والعبث والبلوت والأشياء التي لا تليق أم لا؟ فسبحان الله! هذا المجتمع فيه طبقات متباينة، فانظروا أنتم مع مَن؟ ضعوا أنفسكم في المكان الذي يسركم ويشرفكم أمام الله أن تلقوه به.
وختاماً أيها الأحبة: أشكر لله جل وعلا وحده ثم لكم على هذه الفرصة الطيبة المناسبة، وأعتذر أن تحدثت بين يدي أساتذتي، أو ممن هم في مقام الأساتذة والمربين، وما ذاك إلا لتفض(4/11)
الأسئلة(4/12)
ثمرة العلم العمل
السؤال
كثيرٌ من الشباب وخاصة في المجالس يتكلمون عن دور المسلم، ولكن لا نرى منهم تطبيقاً إلا في القليل، وأحياناً يعلقون هذا الدور بالعلماء وكأنهم ليسوا مكلفين، فما هو رأي فضيلتكم أثابكم الله؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ثمرة العلم: العمل.
العلم يهتف بالعملْ فإن أجابه وإلا ارتحلْ
لا بد من التطبيق، وكما يقول ابن عثيمين:
والعلم إن كان أقوالاً بلا عمل فليت صاحبَه بالجهل منغمر
لا شك أن من واجب المسلم أن يدعو إلى كل خيرٍ، وقد يقول البعض: إذا كنت لا أقول إلا ما سوف أطبق إذاً سأقتصر على حدود ما أطبقه أنا وحدي فقط، نقول: لا.
أما الواجبات والمندوبات والسنن المؤكدة، فمن واجبك أن تطبقها وأن تعتني بها وأن تدعو لها، وقد يكون هناك من الآداب ما تضعف عن تطبيقها؛ لكن تُوَفَّق إلى تطبيق غيرها، لكن لا يمنع من أن تدعو إليها، فيفتح الله على قلب غيرك فتحاً يهيئ لهم العمل بما دعوت إليه.(4/13)
أسباب الانتكاسة ووسائل الثبات
السؤال
يلاحظ أن بعض الشباب يلتزم بطريق الحق بعد أن كان يرتكب بعض المعاصي، ولكن سرعان ما يعود إلى ما كان عليه، فأرجو منك بيان وسائل الثبات على طريق الحق.
الجواب
والله -يا أحبتي- هذا مثلما قلنا، البداية العاطفية، جاء وأحضر له مصحفاً في رمضان، وقام يصيح، وصاح العالم، وتأثر لمدة وانتهت المسألة على هذا، مجرد عاطفة، أو تعرَّف على شباب: إني أحبك في الله، إني أحبك في الله، الله يجمعنا بك في الجنة، ويجعلني أراك في الجنة، وفقط، هل طلب علماً؟! هل حضر حلقة؟! هل وضع لنفسه منهجاً؟! هل اجتهد في حفظ شيء من القرآن؟! لأن العلم حينما تبدأ وتأخذ بأسبابه تستمر في طريق وفي رحلة طويلة بإذن الله جل وعلا تكون عاصمة من الوقوع في الزلل، لكن مجرد العواطف، الآن لو أعطيتكم قصة مؤثرة لتأثرتم، ولو أعدتها عليكم لكان التأثر أقل، وإذا أعدتها أربع وخمس وست مرات تصبح مملة، فتكرار العواطف شيء ممل؛ لكن حينما يكون العلم، ومع كل بادرة وجديدٍ وجديدة من جديد العلم عاطفة تحثه؛ نكون دائماً على زيادة علمٍ وزيادة عاطفة، فنستمر على هذا (ومن كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) من الناس من يكون له ماضٍ عفا الله عنا وعنه، وسالف لا يسره أن يلقاه عند الله جل وعلا؛ لكن إذا تاب، فهو مثل قوم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نريد أن نسلم لكن لا نقدر على دفع الزكاة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] يعني: إذا تُبْتَ إلى الله فتب توبةً كاملة، وليس هذا نتوب عنه وهذا لا نتوب عنه! وهذا شديد وهذا ضعيف، وهذا وسط وهذا زائد وهذا ناقص! لا.
لابد أن تكون بدايتك جادة (من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) أما أن يكون الإنسان بدايته ضعيفة هزيلة ثم يريد أن ينافس العلماء والدعاة، ويريد أن يكون أقواهم وهو ضعيف، فلا.
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجيء أولا
هذا لا يمكن، لا بد من بداية قوية، بداية محرقة؛ لترى النهاية الوضاءة المنيرة المشرقة، وكما يقول الشاعر:
وكل امرئٍ والله بالناس عالمٌ له عادة قامت عليها شمائلُهْ
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائلُهْ
البدايات تحدد النهايات في الغالب، العمارة ذات اثني عشر دوراًَ لو كانت القاعدة منحرفة سنتيمتراً واحداً لاتضح الانحراف جلياً في الدور العاشر، وانهارت العمارة، يعني: الذي يبني عمارة من عشرين دوراً وكان هناك انحراف في القواعد وهو بمقدار اثنين سنتيمتر -مثلاً- فإن الانحراف في الدور الأول ليس واضحاً، وفي الدور الثاني ليس واضحاً، لكن يكون الانحراف في الدور العاشر، حيث يتضح الميل الذي يئول بالعمارة إلى السقوط، فكذلك الذي تكون بدايته ضعيفة أو بداية خلل أو بداية انحراف، في السنة الخامسة في السادسة، بل في الشهر السادس أو الشهر السابع قبل وضع الحمل ينهار سريعاً.
فلا بد أن يكون للإنسان بداية جادة، بداية منهجية، وإذا كنا نعرف أن الاقتصاديين، وذوي المشاريع يضعون الخطط الخمسية، والبرنامج الزمني لتنفيذ الخطة الخمسية، فأنت ينبغي أن تضع خطة خمسية وبرنامجاً زمنياً للتنفيذ، يعني عندك عام: (1410هـ) أو (1411هـ) ما هي قراراتك؟ أنت الآن وزير التخطيط في بيتك، أنت الأمير والملك والحاكم والخليفة ومجلس الوزراء في بيتك، تملك كل هذه الأمور في بيتك؟ الآن أمسك دور التخطيط، ماذا خططت في بيتك خلال سنة قادمة، ربما تبدأ السنة وتنتهي وعامٌ بعد عام، وما كأن الأعوام مرت! من تخطيطك على الأقل لنفسك خلال عام أن تحفظ ثلاثة أجزاء إن لم تكن من المتفرغين للحفظ أو من المهتمين، أو أربعة أجزاء خلال سنة كاملة، لا أظن أن هذا صعباً، اقسم ثلاثمائة وستين يوماً على عدد صفحات الأجزاء الثلاثة، ستجدها شيئاً سهلاً، وكذلك حفظ عشرة أو عشرين أو ثلاثين حديثاً، والصدقة بكذا، وزيارة مقدارها كذا، والارتباط بدرس أسبوعي لأحد العلماء في المسجد، أو درسين، وتجعل الجدول فيه مرونة متوافقة ومتناسبة مع ارتباطاتك وأعمالك الاجتماعية واشتغالاتك، فأنت حينما ترسم الخطة، وتبدأ تعيش في تنفيذها، وتحترم وقتك احتراماً جيداً؛ عند ذلك تخرج بنتيجة، لكن مجرد عواطف مع عواطف مع عواطف لا نخرج بنتيجة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَمِن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: أنتم يومئذٍ كثير لكنكم غثاء) والله إنك ترى الغثاء الآن في أبناء المسلمين.
شابٌ مسلم قبل يومين كان يسجل في الكلية طلاباً، وإذا بأحد الطلاب الواقفين يقول:
أعطِني حريتي أطلقْ يديَّا
كان يغني لـ أم كلثوم، سبحان الله العلي العظيم! آتٍ إلى صرح علمي وكان يسجل له مواد تخصص دراسات إسلامية، والرجل مُقْذِع مع أم كلثوم.
أمر هذا الدين يحتاج إلى قدرة، وإلى كفاءة وإلى بناء متين، الواقع -لا أقول هذا يأساً أو تيئيساً أو تقنيطاً- الواقع لا شك أن عليه ملاحظات كثيرة، نحتاج أن نرتفع بهذا الواقع، ما هو واقعنا؟ واقعنا الشخصي أضعف من أن نرتفع بواقعنا الحضاري والثقافي والأخلاقي والمعاملات إلى حد كبير، لِمَ هذا الضعف؟! نحتاج أن نبني، نحتاج أن نعمل، باحترامك لوقتك، واحترامك لنفسك، واحترامك لجهدك يجعل منك شيئاً، من الناس من يقول: أنا من أنا حتى أفعل؟! أنت كل شيء يا أخي.
دواؤك فيك وما تبصرُ وداؤك منك وما تشعرُ
وتزعم أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبرُ
الإنسان يستطيع أن يحقق، ويستطيع أن يصنع إذا التزم بهذا الدين، وكان فعلاً محترِماً لنفسه ووقته، والله يسمع منه، الكافر إذا احترم نفسه صنع شيئاً، هتلر صرخ بـ النازية وأشغل العالم بها، كان طفلاً صغيراً علق صورته وعليها الزي العسكري والنياشين والبُرَيه، واستيقظ من النوم ووقف وضرب تحية جامدة لنفسه ثم خرج من الباب، احترم شخصه ونفسه، ولا أقول هذا مثلاً لأبناء المسلمين؛ لكن يوجد -أيضاً- هدفٌ للكفار، وهو في المسلمين من باب أولى، وُجِد من أبناء المسلمين من احترموا أنفسهم، واحترموا قدراتهم، وحققوا شيئاً.
فلا بد أن تحترم وقتك وتحترم شخصيتك وتحقق، لا تقل: أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً.
شرط العمل لهذا الدين: العلم ولو بمسألة واحدة، (نضَّر الله امرءاً سمع منا مقالة -لم يسمع كتاب العبادات كله أو كتاب المعاملات كله، لا، ولا مسألة واحدة- سمع منا مقالة فوعاها فبلغها كما سمعها فرُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع).
من أطرف وأجمل ما عرفتُ ما حدثني أحد الإخوة أن رجلاً كبيراً في السن كان لا يعرف من الحديث إلا أقل القليل، ويحفظ ما صح في آخر صحيح البخاري -وكل صحيح البخاري صحيح لا يشك أحد في هذا-: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) فكان ذلك الرجل الشائب الكبير الطاعن في السن إذا جلس الجماعة عنده في البيت يقول: يا إخوان! اذكروا الله وصلوا على النبي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) فيسبحون الله ويحمدونه وينال أجرهم، يخرج من بيته يقابله أحد يقول له هذا الحديث، ويدخل على البقال، فيقال له: ماذا تريد يا أبا فلان؟ قال: تعال، فإذا دنا منه قال الشيخ: يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) يعني: حيثما ذهب يدعو بهذه الكلمات التي علمها حتى مرض في آخر حياته، وفي مرضه الأخير يغشى عليه من السكرات، فأفاق من سكرة من السكرات، وإذ بالطبيب واقف فوق رأسه فأمسك بيد الطبيب قال: يا دكتور! يقول صلى الله عليه وسلم: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) ثم أدركته المنية وتشهد: أشهد أن لا إله إلا الله، وفاضت روحه إلى ربه، فتأثر ذلك الطبيب والتزم واستقام بسبب ذلك الموقف.
فيا إخوان: دعوة الإنسان بما يعلم فيها خير عظيم، لكن مع الحرقة والإخلاص، والله جل وعلا ينفع ويحقق.(4/14)
ليس من شرط الحق أن يقبله الناس جميعاً
السؤال
هناك بعض الشباب يقولون: إن توبة الشاب التي ذكرتها في شريط توبة صادقة لا تخلو من الزيادة والمبالغة، وإنه لا يمكن أن يحدث مثل ذلك، أرجو منك يا فضيلة الشيخ أن تجيب عن هذا؛ لأنه لو أن من لا يقتنع بصحته قد يؤثر على مَن سمعها وجزاك الله خيراً!
الجواب
والله -يا إخوان- ليس من شرط الحق أن يقبله الناس كلهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورأيت الأنبياء، ورأيت النبي ومعه الرجل) نبي مؤيد بالوحي، والمعجزة والكرامة من الله، ما تبعه إلا رجل؟! يعني: أهذا النبي يقول باطلاً، يقول كذباً؟! أيُعْقَل هذا؟! أبداً، هو يقول حقاً؛ لكن لم يتبعه الناس، يعني: ليس من شرط الحق أن يلتزم به الناس كلهم، من الناس من حقت عليه الضلالة، (ورأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد) إلى آخر ما جاء.
فحينما نورد قصة من الواقع: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] في قصص الأنبياء السالفين عبرة؛ ولكن أمرنا أن نستلهم العبر لما يحدث: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} [النمل:69] ننظر ماذا يحدث في هذا الكون ونعتبر بما حل فيه، والله جل وعلا يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21] وضرب المثل من الواقع أمرٌ مشهود: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت:41] {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] فضرب المثل والإخبار بالواقع أمرٌ شرعيٌ لا نزاع ولا جدال فيه.
فإذا جاء من يصدق بمخالفات المطربين، وخرافات المشعوذين، أو من عَجَز عقله عن تصور توبة وأوبة وخشوع ورجعة إلى الله جل وعلا؛ إذاً من باب أولى أن يقول: أن قصة الغامدية وقصة ماعز التي حصلت كذب، إذا صح السند فما لك إلا التصديق، وأقل الأحوال إذا لم يطمئن قلبك للشيء فاسكت، اجعل غيرك يعتبر، وانظروا إلى هذه القصة، يعني: لا أنسب لي فضلاً فيها، الفضل لله جل وعلا، ثم لمن أخبرني بها، أنا مجرد ناقل، والذي أخبرني هو الذي عاشر القصة من أولها إلى آخرها، وهو ثقة ورجل صالح مستقيم ولا نزكي على الله أحداً.
فيا إخوان حينما يوجد من يقصُر عقله عن تصور حقائق أكبر من شخصيته، هذا لا يلام، مسكين، يبقى على قصوره؛ لكن كم عدد الذين تأثروا؟ كم عدد الذين أعلنوا توبتهم؟ كم عدد الذين استجابوا؟ الحمد لله هم كثير، فلا يكون مثل هذا وغيره سبباً في التشكيك وعلى أية حال ليس من شرط الحق أن يقبله الناس كلهم.(4/15)
حكم الوديعة إذا كانت منكراً
السؤال
هذا شابٌ يقول: إنه يستمع إلى الأغاني وقد تركها على إثرِ سماع موعظة لأحد المشايخ -أثابهم الله- ولكنه محتفظٌ بالأشرطة ولم يكسِّرها، وقد أودعها عند أحد أصدقائه أمانة فيقول: هل عليَّ إثم بذلك؟
الجواب
لماذا أودعها؟! هل وضع له خط رجعة؟! تعرفون أن الأشرطة أمرٌ سهل، مجرد جهاز مغناطيسي يدخل الشريط من هنا ويخرج من هنا وجميع المادة الموجودة فيه تكون قد محيت وانتهت، فما عليه إلا أن يسجل على جميع المواد التي عنده مادة نافعة من كلام الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ من المحاضرات والخطب والندوات، والأمور النافعة، والأناشيد الإسلامية، كل هذا فيه خير ويسمعه ويستفيد، أما أن يكسرها أو أن يتركها، فقد يأثم أنه أودع أمراً فيه منكر وقد يسمعه هذا، فعليه أن يستردها، وأن يحل محل المادة السيئة مادة طيبة نافعة، سئل فضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان في مسجدنا في درس أسبوعي له بعد صلاة العشاء من يوم السبت، قيل: يا شيخ! إن صديقاً لي أودعني أشرطة فيديو خليعة -وكان درس الشيخ في كتاب العدة في باب الوديعة- وأنا التزمت الآن ولا زالت الأشرطة عندي، تبتُ إلى الله واستقمت والأشرطة عندي، وهذه وديعة، فقال الشيخ: امسحها وردها عليه، يعني: المنكر يُزال، والأمانة تعود، فهذا من أجمل ما سمعت.(4/16)
بر الوالدين وحسن معاملتهما
السؤال
يلاحظ على بعض الشباب الملتزم حسن أخلاقه ومعاملته لزملائه وأصدقائه، إلا أنه مع والديه سيئ المعاملة غير مبالٍ بهم، فهل من كلمة توجه بها أمثال هؤلاء ممن فرطوا في بر والديهم وبيان عاقبة العقوق الوخيمة أثابك الله؟
الجواب
والله يا أحبابي إن مَن وُجِد أبوه أو أمه وهما في حال الكبر؛ خاصة إذا كانا عنده في بيته والله إنها كرامة ونعمة وفضل لا يحلم به، ولن يعرف ذلك إلا إذا فقدهما، هما بابان من أبواب الجنة، فمن شاء فليلزم ومن شاء فليترك، في بعض الآثار أن الأم إذا ماتت نادى منادٍ: ماتت التي كنا نكرمك لأجلها فاعمل صالحاً تكرم به.
يا إخوان: الوالدان شأنهما عظيم، وقد قُرن حقهما بحق الله جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] شأنهم عظيم جداً جداً، والبعض يتعامل مع أبيه كمن يتعامل مع تحفة، على مرور الزمن أصبح شيئاً عادياً بالنسبة له، كما قيل لأحدهم: هذا أبوك؟ قال: من زمان وهو عندنا، يعني: مليت منه؟! لا.
يا أخي نعمة من الله جل وعلا، أن تصبح كل صباح فتقبل جبينه وأنفه، أن تقبل حذاءه، أن تقبل ظهر كفه، أن تتلطف معه، وتخفض الجناح، وتليِّن العبارة له، وتقدم الطعام، ألذ ما تشتهيه إذا وقعت عينك عليه ووالدك معك في مائدة، أو على إناء، أن تأخذه وتقدمه له، وتقدمه لأمك، إذا اصطُفِيتَ بشيءٍ أو مُنِحتَ شئاً جميلاً فتذكر نصيب والدك ونصيب والدتك منه، يعني: تتبع هذا الرضا حتى تلقى الله جل وعلا بهذا البر، وما من عملٍ أسرع من أن يرى الإنسان بركته في الدنيا مثل بر الوالدين، وصلة الرحم، وما من عملٍ أسرع من أن يرى الإنسان شؤمه وعقوبته في الدنيا مثل: عقوق الوالدين، وقطيعة الرحم.
أنا أذكر من مدة أن رجلاً جاء إلى المسجد فقال: يا أخي! أنا ولدي فلان مع الملتزمين وفيه خير وديِّن.
وما هي المشكلة؟ لكن لا أراه، لم يعطنا وجهه أبداً، ما هذا الدين الذي عنده! أنا أعرف أن الدين بر ولطف ومعاملة.
لكن لا بد أنك تحلم عليه وتصبر عليه، والحمد لله ولدك خيرٌ من كثير من الفساق الفجرة، أو من الذين تورطوا وشوهوا سمعتهم وأسرهم بالمخدرات والفساد والأمور الخبيثة؛ لكن عليك أن تنصح بالتي هي أحسن، أو توجه من حوله لأنه لا يزال تحت تربية مَن يؤثر عليه، فتنال إن شاء الله حسن بره وحسن صلته.
فأوصي نفسي وإخواني: عاملوا آباءكم وأمهاتكم كما يعامل خدم الملوك الملوك، إذا أراد الملك أن يخرج من الباب تجد ستين ممن يقدم حذاءه، أنت قدم حذاء والدك، قبِّل يده إذا سلمت عليه، إذا كان في مجلسٍ إياك أن تكون في الصدر وهو في طرف المجلس أو في جنبات المجلس، هو الذي يكون في الصدر، تُفْسح له، تقدمه في خروجك، تحمل الثقيل عنه، لا يمكن إلا أن تعامله كما يعامَل الملوك في الحاشية، هذا خيرٌ لك، وستجد ذلك عند الله جل وعلا.(4/17)
الوسائل المساعدة على قيام الليل
السؤال
وهذا سائلٌ يسأل عن الوسائل المساعدة على قيام الليل يقول إنه حاول لكنه لم يتمكن!
الجواب
والله يا أخي! لا أقول: (فاقد الشيء لا يعطيه) لكن الله يرحم الحال! لكن هنا سؤال لمن يسأل عن هذا الأمر: هل يشعل النار بعد صلاة العشاء ويقطع الصدر، ويشوي، ويلاحِظ هل أنه استوى من هنا أو من هنا؟ يعني: أن الذي يريد أن يقوم الليل عليه أن ينام مبكراً، ويستعد لقيام الليل، تجد الواحد من السهولة عليه أن يجلس ساعة وساعتين يحدث فلاناً وفلاناً، والله يا إخواني نتحدث عن عيوب أنفسنا، وإذا جاءت ساعة يريد أن يصلي فيها ركعتين، أو يوتر قبل بزوغ الفجر، أخذ يتقلب ستين قلبة على فراشه القطيفة، ما طلع ليصلي، وما قام ليصلي، مصيبة والله! ولو نام مبكراً متوضئاً طاهراً استعان بالله جل وعلا، لكن أصبح السهر بعد العشاء مصيبة لا يمكن أن ننفك عنها أبداً، حتى أن البعض لو أراد أن ينفك ما تركه الناس، يُعَلَّقُ هذا البوري قليلاً، مرتين وثلاث فتبلغ هذه الضربة نشوة في نفسه فينزل فوراً ناسياً ما أراد وما خطط أن يفعله.
فالذي يريد أن يقوم الليل -لا شك- الذي أراد أن يقوم من باب أولى أن يكون حريصاً على صلاة الفجر مع الجماعة، وهذا أمرٌ مفروغ منه، لكن أقول: إذا نام مبكراً فإنه سيحصل خيراً إن شاء الله، وعليه أن يهيئ الجهاز المنبه وأن يستعين ببعض العبادات إذا عجز عنها، وأن يتعاون مع بعض إخوانه، يعني: إذا لم يحب أن يصوم وحده ويصعب عليه فحوله أربعة أو خمسة من الجيران والشباب: يقول لهم: ما رأيكم أن نصوم الإثنين القادم؟ اتفقنا، استعنا بالله.
فاجتماعكم على هذه العبادة لا يُعَد رياءً ولا يُعَد بدعة، أعان بعضكم بعضاً على عبادة مشروعة، كذلك قيام الليل، إذا أردت قيام الليل وتريد من يعينك على هذا ابحث عن أقرب أحبابك وإخوانك في الله، فتتعاون أنت وإياه على ذلك، إذا جاء قبل الفجر بساعة؛ كلٌّ نزل والتقيتم بالمسجد المجاور أو في مكان أحدكم، وصليتم لله جل وعلا ما قُسِم لكم، هذا فيه خير عظيم.(4/18)
التحذير من الفتن
لا تخفى على مسلم تلك الفتن التي انتشرت في الأسواق، بل ودخلت إلى أعماق البيوت، حتى صار القابض على دينه كالقابض على الجمر، وفي هذه المادة زجر عن أسباب الفتن، وذكر لما يخرج الناس منها أو يقيهم الوقوع في أوحالها، فاقرأ لعل الله يوفقك إلى الخير.(5/1)
معاني الفتنة لغة واصطلاحاً
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى، وإن من أجل نعم الله علينا أن تجتمع هذه الوجوه في هذا المكان الطيب المبارك لا ينتظر أحدنا ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً (فتقول الملائكة: يا ربنا! اجتمع عبادك هؤلاء يذكرونك، ويسبحونك، فيقول الله جل وعلا: ماذا يسألون؟ فتقول الملائكة: يسألونك الجنة -والله ما جئنا إلا نريد الجنة، والله ما اجتمعنا إلا طلباً للجنة، والله ما ركعنا وسجدنا إلا ابتغاء رضوان الله في الجنة والنجاة من النار- فيقول الله جل وعلا للملائكة: وهل رأى عبادي جنتي؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا ما رأوها، فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوا جنتي؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد طلباً لها، فيقول الله جل وعلا: ومما يستعيذ عبادي هؤلاء؟ فتقول الملائكة: يستعيذون بك من النار، فيقول الله جل وعلا: وهل رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا).
ووالله ما اجتمعنا هاهنا إلا لنسأل ربنا النجاة من النار، نسأل ربنا النجاة يوم العرض الأكبر على الله، نسأل ربنا النجاة يوم يمر العباد على الصراط؛ منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من تدركه كلاليب جهنم فتخطفه إلى النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم يا مطلعاً على ما يعمل عبادك نشهدك ربنا أنا ما اجتمعنا هنا إلا لنستعيذ بك من النار ولنسألك الجنة، إنك هديتنا إلى الإسلام وما سألناك، فأعطنا الجنة وقد دعوناك، ونجنا من النار وقد رجوناك.
تتمة الحديث -أيها الأحبة- يقول الله جل وعلا للملائكة: (وهل رأى عبادي ناري؟ فتقول الملائكة: لا يا ربنا، ما رأوها، فيقول الله جل وعلا: كيف لو رأوا ناري؟ -كيف لو رأوها وهي تجر بسبعين ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12]- كيف لو رأوا ناري؟ فتقول الملائكة: يكونون أشد خوفاً وهرباً منها، فيقول الله جل وعلا: أشهدكم أني غفرت لهم).
الله أكبر يا عباد الله! الله أكبر يا إخواني في الله! ليخرجن برحمة الله هذه الساعة من هذا المسجد شباب ورجال لم يكتب عليهم سيئة وقد غفرت لهم خطاياهم التي مضت (أشهدكم أني غفرت لهم) فتقول الملائكة: من بينهم في هذا المكان، وفي هذا الصف، وفي تلك الناحية، قوم ما جاءوا يستمعون الذكر، وإنما جاءوا لأغراض أخرى، فيقول الله جل وعلا: (ولهم غفرت أيضاً، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
الله أكبر يا عباد الله! {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] من ذا الذي يتعرض لها؟ من ذا الذي يتعرض لنسماتها ونفحاتها؟ إن كثيراً من العباد عنها لفي غفلة.
أيها الأحبة! لا أزال أكرر وأردد في كل مناسبة، أن حضور الندوات والمحاضرات في المساجد له شأن أبلغ من استماعها في الأشرطة والمسجلات، نعم، إذا فاتتك الموعظة، فينبغي لك ألا تفوتك الفائدة من سماعها، فتشتري شريطها فتسمعه، ثم تهديه وتدفعه إلى من لم يسمعه، ولكن الحضور له شأن آخر حيث تحضره الملائكة، ويذكر الله من حضره في ملأ أزكى وأعظم منهم، وتغشاهم السكينة، وتتنزل عليهم الرحمة، هذا أمر لا يكون في سماع الأشرطة في المسجلات، وعلى أية حال ففضل الله واسع.
أيها الأحبة! الحديث كما تفضل الشيخ مقدم هذه المناسبة الطيبة جزاه الله خير الجزاء عن الحذر من الفتن، والفتن -أيها الأحبة في الله- تطلق ويراد بها معان عدة، يقول ابن منظور في لسان العرب: فتن من الفتنة، وهي: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فَتَنْتُ الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد، ويقال: دينار مفتون، أي: مميزٌ، والله جل وعلا قد ذكر الفتنة في مقامات مختلفة، ومواضع عدة من كتابه، فمنها قول الله جل وعلا: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يحرقون.
وترد الفتنة بمعنى الاختبار، وترد بمعنى المحنة، وترد بمعنى المال، وترد بمعنى الأولاد: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] وترد الفتنة بمعنى الكفر: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] وترد الفتنة بمعنى الناس، وترد الفتنة بمعنى المغالاة في الطلب، كقولهم: فلان رجلٌ مفتون بالدنيا، أي: مغال في طلبها، وترد الفتنة بمعنى الإعجاب، كما جاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس:85] أي: لا تجعل لهم نصراً علينا فيعجبون بهذه الفتنة وهي نصرهم علينا، وترد الفتنة بمعنى الوله والمحبة، إذا فتن الرجل بالمرأة وشغف بها حباً.
فالفتنة يراد بها معان عدة من حيث اللغة، وإذا أردنا بحثها في مجال الاصطلاح والشريعة، فإنها تكاد تنحصر حصراً اجتهادياً في أمرين: فالأمر الأول: فتنة الرجل في ماله وأهله وولده، وما يعرض له في هذه الدنيا.
والأمر الثاني: الفتنة بمعناها الأعظم وهي: ضياع الناس وهرجهم ومرجهم، وتخبطهم في بعضهم، وسفك دماء بعضهم لبعض، وغياب الإمامة العظمى، أو ضياع الخلافة أو الرئاسة والملك، فإذا وجد قوم بلا خليفة أو رئيس أو ملك، ثم تخبط بعضهم في بعض يقال: هؤلاء في فتنة، أي: أنهم ضاع أمرهم، وفتن بعضهم ببعض ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتنة واردة لهذه المعاني المجتمعه.(5/2)
الأحاديث الواردة في الفتن
تفضل مقدم هذه المحاضرة جزاه الله خيراً، بإيراد الحديث الصحيح، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل) هذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة، أي: إن من مقدماتها، وإرهاصات ومقدمات نزولها وقيامها، أن توجد هذه الفتن، وهي الفتن التي نراها في زمننا هذا، فتن ماجت في الناس واضطربت، وتلاطمت أمواجها فيما بينهم، في أرحامهم، في آبائهم وأمهاتهم، في منازلهم، في أسواقهم، في مجتمعاتهم، فيما يسمعون، فيما يأكلون وفيما يشربون، فتن الناس بأعظم فتنة حتى شاع المتشابه بينهم، وقل الحلال عند كثير منهم، وأصبح الحرام سهلاً ميسوراً عند بعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) وهذه الفتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، فاكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم، أي: فليكن كهابيل الذي تهدده أخوه قابيل بالقتل، فقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29] ولا حول ولا قوة إلا بالله! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ستكون فتن، ألا ستكون فتن، ألا ستكون فتن، فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، قيل: يا رسول الله! فمن لم يكن له إبل ولا غنم؟ قال: يعمد إلى صخرة فيدق سيفه عليها -أي: يكسر سيفه- ويعتزل هذه الفتن أجمع) وكان الصحابة رضوان الله عليهم وهم قريبون من عهد النبوة، وهم حديثو عهد بالنبوة يتساءلون فيما بينهم عن شأن هذه الفتن وعن أمرها.
جلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم، فقال: (أيكم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن؟ فقال حذيفة بن اليمان، وهو أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحدثك عنها يا أمير المؤمنين! فقال عمر: والله إنك لجريء، حدثنا عنها، فقال حذيفة: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله وولده وماله يكفرها الصلاة، والصيام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عمر: ما عن هذا سألتك، وإنما سألتك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: نعم يا أمير المؤمنين! وإن دونها باباً، قال عمر: أيكسر أم يفتح؟ فقال حذيفة: بل يكسر يا أمير المؤمنين! فقال عمر: لا أبا لك) وهذه الكلمة مما يرددها العرب ولا يقصدون معناها، كقولهم: تربت يمينك، أو ثكلتك أمك، أو لا أبا لك، مما يقال لفظاً ولا يقصد معنى.
قال حذيفة: بل يكسر يا أمير المؤمنين! فعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه بموته يقع في الأمة فتنة عظيمة، وسئل حذيفة رضي الله عنه هل كان عمر بن الخطاب يعلم أنه هو الباب؟ فقال حذيفة: نعم.
إن عمر يعلم أنه هو باب الفتنة، أي: إذا قتل عمر فبعده ينفتح باب الفتنة، ثم بعد ذلك يموج الناس ويكون في شأنهم ما يكون، وفي هذا عبر ومواعظ، إذا حصلت الفتنة والناس بعد خليفتين من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنكم بالفتن في زماننا هذا.
ولا أزال أسرد عليكم مزيداً من الأحاديث التي اخترتها في باب الفتن، قال حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قال حذيفة: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم.
وفيه دخن.
قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف فيهم وتنكر.
فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم -هذا هو باب الفتنة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.
فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا، فقال: نعم.
أصفهم لك -يقوله النبي صلى الله عليه وسلم- قال: إنهم من جلدتنا -يلبسون هذه المشالح، ويلبسون هذه الثياب، وهذه الغتر والعقل، أو من سائر ما يلبس الناس من القمص وغيرها- ويتكلمون بألسنتنا.
فقلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال صلى الله عليه وسلم: عليك بجماعة المسلمين، واعتزل تلك الفرق، قلت: فإن لم يكن للمسلمين يومئذ جماعة ولا إمام، قال: تعتزل تلك الفرق، ولو أن تعض بأصل شجرة) هذا حديث عظيم في باب الفتن.
وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه حذيفة أيضا لما سأله عمر في رواية أخرى عن شأن الفتن، فقال حذيفة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها -أي أنكر الفتن- نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر -أي: والقلب الآخر- أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً).
أيها الأحبة في الله! الأحاديث في شأن الفتن كثيرة جداً، ولكن حسبنا أن نتأمل فقه ما أوردناه من هذه الأحاديث، أما الأحاديث الواردة في الفتن العظمى، فأنتم ولله الحمد والمنة في هذا المجتمع الذي تعيشون فيه لستم إلا في باب الفتن التي تعرض على قلوبكم في أعمالكم، وأولادكم، وأسواقكم، وأموالكم، ومآكلكم، وفي مشاربكم، أما الفتن بمعناها الأعظم وهو: القتل والهرج، وتخبط الناس في دماء بعضهم، هي واقعة في هذا الزمان، لكن هذا المجتمع بفضل الله قد سلم منها، ولا يشترط أن تكون السلامة برهاناً أو ضماناً لدوام سلامة المجتمع، فكل شيء جائز، وإن الأمور بأسبابها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإذا أخذ الناس بالأسباب التي تبعدهم عن الفتن حفظهم الله منها، وإن أهمل الناس شأنها تورطوا ووقعوا فيها، والأمثلة في ذلك كثيرة، انظروا الآن ما يدور في لبنان، والله إن الذي يحمل السلاح ويطلق النار لا يعرف لماذا يقتل؟! والمقتول لا يعرف فيم يقتل؟! وفي أماكن كثيرة من بلاد المسلمين القاتل لا يدري لم قتل، والمقتول لا يدري فيم قتل، وهذه من الفتن العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وفي بلاد المسلمين أمثالها كثيرٌ، إلا أن الله قد نجى هذه الرقعة وهذه البلاد من هذه الفتنة، ولا نقول ذلك مديحاً أو ثناء، وإنما هو إخبار بالواقع، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ليس على الله ضمان للعباد أن يبقوا على ما هم عليه، بل إن الله جل وعلا جعل الأمور بأسبابها، بسنن كونية، فإن هم أطاعوه حفظهم وأعزهم، وإن هم ضيعوا أمره وكلهم إلى أنفسهم، وحسبك بامرئٍ هلاكاً أن يكله الله إلى نفسه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!(5/3)
تفاوت الناس في الإيمان
أيها الأحبة! ثم ندخل في باب الفتن التي تعرض لكل واحد منا في نفسه وأهله وماله وبيته، الفتنة كما قلنا في المقدمة هي من باب الامتحان، ومن باب الاختبار، ومن باب الابتلاء لكي يثبت من يدعي صدق الإيمان ممن يتزيا ويتزين به، ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، لو قلنا: من المسلم فينا؟ كلٌ يرفع يده، ونحن إن شاء الله مسلمون على التحقيق والتصديق.
من المؤمن فينا؟ كلنا مؤمنون، الذي يثبت ويصدق برهان إيمانه أدنى فتنة؟ والله لتجدن القليل من البشر هم الذين يبرهنون على صدق إيمانهم عند الفتن.
أيها الأحبة في الله! أبسط الأمثلة على ورود الابتلاء والامتحان والفتنة، كما في الحديث (تعرض الفتن على القلوب عوداً عوداً) وفي رواية: (عَوداً عَوداً) أي: مرة بعد مرة، هذه الفتن شبهت في صغر حجمها ودقتها، وتراص بعضها ببعض، كما يتراص أعواد الحصير في نسجه المتكامل، تعرض الفتنة على الواحد من بداية يومه حتى يمسي، فأول ذلك يوم أن يسمع داعي الله: حي على الصلاة حي على الفلاح، هذا نوع ابتلاء وامتحان، من الذي يغلب إيمانه وسادته وفراشه؟ إيمان لا يغلب الوسادة أحقٌّ أن يدعى إيمانا؟ إيمان لا يغلب الفراش والوسادة أيسمى إيماناً ويدعي صاحبه به ويتزين؟! كلا والله -يا عباد الله- هذا إيمان ضعيف جداً.
نحن لا ننفي الإيمان بالكلية عن مؤمن من المؤمنين، أو مسلم من المسلمين؛ لأنه مهما ارتكب من المعاصي فلا يزول عنه الإيمان بالكلية، وإنما يقل الإيمان عنده إلى درجة قليلة جداً جداً، وهذا ما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تكلم عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) قال: هذا الحديث لا يدل على أن الإيمان يزول بالكلية، أي: يصبح الإنسان فاسد الإيمان؛ لأننا لو قلنا: ضاع الإيمان بالكلية فمعناها أنه لم يعد يؤمن بالله ولا برسول الله ولا بالقدر والبعث، ولكن يقل الإيمان عنده إلى درجة قليلة قليلة جداً.
فالناس يتفاوت الإيمان في قلوبهم بحسب نور لا إله إلا الله في قلوبهم ذاتها، بحسب نور هذه الكلمة في قلوبهم، فمن الناس من يغلب إيمانه على نومه، فإذا سمع داعي: حي على الصلاة حي على الفلاح: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] كان الفراش حريراً وثيراً، كان الفراش ناعماً، كان الضجيع جميلاً، فلما سمع: حي على الصلاة، حي على الفلاح، انقلب الحرير جمراً، والنعومة خشونة؛ لأنه دعي إلى ما هو ألذ وأطيب، دعي إلى ساحات السجود والركوع، وإلى أماكن التسبيح والتهجد لله جل وعلا، وحضور الصلاة مع الجماعة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].(5/4)
نماذج من السلف في صدق الإيمان والثبات عند الفتن
نعم يا عباد الله! نحن ندعو ربنا خوفاً منه، وطمعاً في جنته، لا كما يزعم مخرفة الصوفية، يقولون: أنا أعبد الله؛ لأنني أحبه هو، ليس حباً في جنته أو خوفاً من ناره، بل أنا أحبه!! لا، لن نكون بأي حال من الأحوال أكرم وأطوع لله وأقرب من أنبيائه الذين أثنى عليهم بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] رغبة فيما عندنا من النعيم، ورهبة فيما أعددناه للعصاة من الجحيم والعذاب.
جاء أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ؛ لكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أعرابي! أنا ومعاذ حولها ندندن) نسأل الله الجنة وتعوذ بهم من النار.
فيا أيها الأحبة في الله! من الناس من تغلبه فتنة النوم والفراش والضجيع، فلا يقوم ليسجد لله مع المصلين صلاة الفجر، أين دعوى الإيمان؟ أين الذين يرغبون في الجنان؟ أين الذين يريدون الفردوس؟ أين الذين يريدون لذة النظر إلى وجه الله الكريم؟ أين الذين يريدون شربة لا يظمئون بعدها أبدا؟ أين الذين يريدون أن يكونوا في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله؟ تريدون هذا كله ومع ذلك تأتون بإيمان يعجز أن يقاوم فراشاً ووسادة، غلبت فتنة النوم والوسادة والفراش على هذا القلب، حتى لان لها، وترك أمر الله تحت وسادته وظهره ظهرياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ثم بعد ذلك يصبح أحدنا ليتوجه إلى عمله أو إلى أي مكان آخر، فيدير مذياع سيارته، فإما أن يسمع كلام الله، وإما أن يسمع الغناء والطرب واللهو ومزمور الشيطان، هذه ثاني فتنة تقابلك، الفتنة الأولى جاءت إليك في الفراش، الفتنة الثانية موجودة في السيارة، أدرت مذياع السيارة، إما أن تسمع غناء، وإما أن تسمع دعاء وقرآناً وكلاماً يرضي الله جل وعلا، تبدأ الفتنة، الاختبار، الابتلاء، الامتحان، هذا الإيمان الذي ندعيه في القلوب، هل يستطيع أن يغلب موجة الإذاعة إلى إذاعة القرآن الكريم، أم أن الشيطان يغلب بهذه الفتنة صاحب القلب المريض؛ فيعود بهذه الإذاعة يمنة أو يسرةً حتى يبحث عن المزمار والطرب، وعن الملهاة عن ذكر الله جل وعلا؟ في الغالب عند كثير من الناس لا يحلو له النوم إلا على أنغام الموسيقى الهادئة، ولا يحلو له ركوب السيارة إلا على أوتار الأنغام الخالعة، ولا يحلو له النزول إلا على مثلها.
الفتنة الثانية سهلة وبسيطة ويسيرة، ومع ذلك يدعي الإيمان ويعجز أن يختار كلام الله على كلام المطرب والمطربة والمغني والمغنية، فأين الإيمان؟ هل ثبت الإيمان أمام هذه الفتنة؟ هل ثبت الإيمان أمام هذا الابتلاء؟ لا والله هذا إيمان ضعيف، هذا إيمان مدخول، هذا إيمان فيه دخن ودخل.
ثم بعد ذلك ينزل صاحب هذه السيارة إلى متجره أو سوقه أو عمله، فتقوده نفسه اللوامة إلى أن يخلص في العمل، إلى أن يغض بصره، إلى أن يحسن معاملته، إلى أن يتقي الله فيمن يقابلهم، لكن نفسه الأمارة بالسوء مع هذه الفتنة تغلبه، فلا يغض بصره، فأين الإيمان وهو لم يستطع أن ينتصر على نظرة، الفتنة غلبت دعوى الإيمان:
والدعاوى إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
كلنا ندعي الإيمان، لكن أين الذي يثبته ويبرهنه؟ أين الذي يصمد إيمانه أمام المحنة؟(5/5)
سعد بن أبي وقاص وثباته على الدين عند إسلامه
آمن أحد الصحابة رضوان الله عليهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغته، وكانت أمه عنيدة، كانت عجوزاً كبيرة شمطاء، فلما علمت أنه آمن أرادت أن تفتنه وتصرفه عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا ولدي! والله لا أستظل بظل، ولا أسيغ شراباً، ولا أذوق طعاماً، ولا أمشط شعراً، حتى تترك دين هذا الصابئ، أو أمضي على ذلك، أي: إما أن تترك دين محمد، وإلا فسأظل في الشمس، ولن أشرب شيئاً، ولا آكل شيئاً حتى تترك دين محمد، فالتفت إليها وقال: يا أماه! والله لو أن لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً، ما تركت هذا الدين، ولكن عودي إلى الظل فاستظلي، وكلي واشربي وامشطي شعرك، هذا أفضل لك أنك تعودين إلى الظلال وتأكلين وتشربين، وتربحين العافية، أما أنك تظنين بهذا الأسلوب أني سأترك دين محمد، والله لو كان لك مائة نفس ما تركت دين محمد.
هكذا يصمد الإيمان أمام الفتن، هكذا تظهر دعاوى الإيمان ويظهر صدقها وبرهانها أمام الكير وأمام النار، أمام الصقيل الذي يظهرها ويميز صحيحها من سقيمها، وزائفها وصادقها من كاذبها.(5/6)
خبيب بن عدي وثباته أمام فتنة قريش حتى قتل
جيء بـ خبيب بن عدي، وصلب على خشبة، وجعلت سهام قريش تخطيه يمنة ويسره، يريدون أن يخاف، شخص لا حول ولا وقوة إلا بالله لو يصلب في هذا العمود، ثم يؤتى بأربعة جنود يطلق أحدهم رصاصة عن يمينه، ورصاصة عن يساره، ورصاصة فوق، ورصاصة تحت، هاه أتترك هذا الدين أو لا تترك هذا الدين؟ سيقول: يا جماعة موافق أطلقوني فقط، تجده ولا حول ولا قوة إلا بالله ممن لا يصدق في دعوى إيمانه، بل يتنازل عند أتفه شيء.
جيء بـ خبيب بن عدي وصلب على خشبة، وجاءت قريش برجالها ونسائها وسفهائها، وجعلت السهام تتخطاه يمنة ويسره، فقيل له: أيسرك أن محمداً مكانك؟ معناها: دع محمد ينفعك، انظر ما أنت الآن فيه، وهكذا يأتي المرجفون المثبطون إذا وقع أحد الصالحين في نوع من البلاء أو الفتنة، إنسان قد يكون عنده أسهم ربوية، إنسان قد يكون عنده تجاره محرمة، ثم يأتي من ينصحه يقول له: يا أخي! اتق الله! فتنة المال لا تغويك، فتجد هذا الشاب أو هذا الرجل يبرأ إلى الله من الحرام، ويقنع بالحلال فيفاجأ بنوع ابتلاء وامتحان، فتصيبه فاقة وفقر، وقلة ذات اليد، فيأتي المرجفون الذين يتحدثون، دع دينك ينفعك، لو عندك أسهم في البنك، وأنت كل سنة تأخذ أرباحها، وتصرف على نفسك، وتسدد الكهرباء والماء والهاتف، وتصلح جميع هذه الأمور من هذه الأسهم، لكن دع هذا الذي ينصحك ينفعك الآن.
جاءت قريش تقول لـ خبيب: هل يسرك أن محمداً مكانك؟ يختبرونه وفي نفس الوقت يعرضون بالنبي أمامه، فأخذ يضطرب ويبكي ويقول: لا، لا.
ولا أن يشاك بشوكة في بدنه صلى الله عليه وسلم، لا أرضى أن يكون محمد مكاني، ليس في القتل بل في شوكة يشاكها في بدنه لا أرضى، وكان أول من سَنَّ سُنة ركعتي الشهادة؛ لأنه لما أرادوا أن يصلبوه، قال: اتركوني، ثم صلى ركعتين، تجوز فيهما، أي: أسرع، فقال: لولا أن تقول قريش: خاف من الموت، لأطلت في ركعتي هاتين، ثم قال أبياتاً:
لقد جمع الأعداء حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
نعم يا عباد الله! ثبت ذلك الصحابي حتى تخطفته الرماح والسهام، وأفضت روحه إلى بارئها، ثبت إيمانه، دعوى الإيمان خرج صدقها، وظهر برهانها، وهكذا ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على إيمان يقاوم الفتن، أما إيماننا -أيها الإخوان- نسأل الله ألا يفتننا في ديننا.
يا إخوان! مثلما يقول العوام: "الإيمان في القلوب" والله إن فُتِن لرأيت العجائب والمصائب ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا بليتم فاصبروا، لا تتمنوا الفتنة واسألوا الله العافية، لا ينبغي لأحد أن يعرض نفسه للفتنة ليقول: أنا أريد أن أعرف درجة نجاحي في الإيمان، لا، لكن الإنسان يصدق في دعواه مع الله جل وعلا، وينتبه لنفسه فذلك خير له.(5/7)
عبد الله بن حذافة وثباته أمام مغريات ملك الروم
أحد الصحابة أسره أحد ملوك الروم أو الفرس وهو عبد الله بن حذافة السهمي فلما جيء به أرادوا أن يفتنوه، قبضوا عليه، وهذا من لؤم وشؤم وخبث الكفار؛ لأنه كان معروفاً أن الرسل لا تقتل، المرسول والمندوب والسفير لا يتعرض له أحد، فجيء به ليفتن في دينه، قالوا له: تترك دين محمد؟ قال: لا.
فحثوا التراب على رأسه إهانة له، ومن الناس من تؤذيه الإهانة المعنوية أشد من الإهانة الحسية، ومع ذلك رفض، أخذوا يعرضون عليه المال، النساء، المنصب إلى غير ذلك، فرفض، فأمر ذلك الملك رجاله بأن يجمعوا ناراً عظيمة، ويضعوا فوقها قدراً كبيراً فيها زيت يغلي، قيل: ارموا بهذا الرجل في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، إما أن يتنازل عن دين محمد وإلا فارموا به في هذا القدر الذي يغلي بالزيت، فلما جيء به إلى هذا القدر الذي يغلي بالزيت ويتقلب، بكى ذلك الصحابي رضوان الله عليه.
فقال الملك: قفوا لا ترموه، ائتوني به، قال: بلغنا أنك بكيت، أترجع عن دين محمد؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا بكيت؟ قال: تمنيت أن لي مائة نفس كلها تموت هذه الميتة! الله أكبر، انظروا عظم الإيمان.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
النفس الكبيرة عنيدة عظيمة قوية، لا يمكن أن تتنازل على مكافئات أو أموال أو نقود أو سيارات أو مراكب أو توافه، لا.
فلما سمع الملك قول عبد الله بن حذافة، مائة نفس تتمنى أن ترمى في القدر نفساً بعد نفس قال: إذاً تقبل رأسي وأعفو عنك، فقال عبد الله بن حذافة: وتعفو عن أصحابي؟ قال: نعم، فوافق على أن يقبل رأسه، فلما عادوا إلى عمر بن الخطاب، علم أن عبد الله بن حذافة ما قبل رأس هذا الرجل وهو يريد السلامة لنفسه، وإنما قبل رأسه من أجل إخوانه من الصحابة، فقال عمر: حقٌ على كل واحد منا أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة، فجاء الصحابة رضوان الله عليهم، وقبلوا رأسه واحداً بعد الآخر.
أيها الأحبة! الإيمان يثبت عند المحن، يظهر عند الابتلاء، وانظروا الفارق؛ رجل يمتحن إيمانه عند قدر يغلي بالزيت والماء، وآخر يبتلى في إيمانه إلى حد قطع الرقبة وتناوش السهام والرماح له يمنة ويسرة، وآخر يبتلى ويفتن في إيمانه عند وسادة وفراش، فهذا يغلبه الفراش والوسادة، وهذا ينتصر على القدر والعذاب والترغيب والترهيب! أيها الإخوة! الفتن ماضية، والواقع مليء بهذه الفتن، يفتن الرجل الآن في ماله، يقال له: تعال يا فلان! ومن قال لك إن الربا حرام؟ لقد لقينا الدكتور: فلان بن فلان وهو سعودي يقول: إن الربا حلال، فلا تصدق هؤلاء العلماء والمشايخ؟ فيبدأ الرجل تدخله الفتنة، فيقول: إي والله الدراهم المودعة عند المصرف الفلاني، لماذا نودعها بدون فوائد؟ فلابد من أن نجعل لها فوائد، وكما يقول الناس: (ضع بينك وبين النار مطوع) ألم يفت بجوازها الشيخ الفلاني من الأزهر وبهذه الطريقة يفتن الرجل في هذا الباب، فتغلبه فتنة الريال والدينار والدرهم، فيضع أمواله في حساب الفوائد، يصبح حساب وديعة لأجل، إما وديعة متوسطة الأجل، أو وديعة طويلة الأجل، أو وديعة قصيرة الأجل، ونسبة الفائدة بحسب مدة الوديعة، ثم بعد ذلك يأخذ منها.
ثم يقال: أي نعم، هذه هي الحياة؛ لا تتعب نفسك ولا هم يحزنون، إذا دارت السنة فاذهب لتأخذ أرباحك، واصرف على أولادك، وجدد سيارتك، وافعل هكذا وهكذا، ثم يفتن الرجل في هذا المال، فينساق لهذه الفتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله! فتن عظيمة جداً، يفتن الإنسان فيما يعرض له في هذا الزمن -خاصة الشباب- بأمور المنكرات ومقدمات الفواحش، لا نقول الفواحش مباشرة، مقدمات الفواحش؛ لأنه لا يمكن أن يقع الإنسان في الفاحشة مباشرة، وإنما تكون درجات، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] لماذا؟ لأن الزنا لا يمكن أن يقع فيه الإنسان فوراً، وإنما درجات؛ مكالمة، ابتسام، غمز، التفات، كلام، سلام، اتصال، لقاء، ثم تقع الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يعرض على بعض الشباب فتنة بأن يسافر للدراسة في الخارج، يكون في إحدى الدول العربية في تجارة أو في علاج، يطرق الباب عليه، ثم بعد ذلك من عند الباب؟ فيسمع صوتاً ناعماً، ويعرف أنها باغية من البغايا، زانية من الزواني، فاجرة من الفاجرات، أفتح لها أو لا أفتح؟ سوف أفتح لها لأنظر ماذا تريد، أنت تعرف أساساً ماذا تريد بالضبط، يبدأ الإنسان يقلب إيمانه على جمر الفتنة، فإما أن يثبت إيماناً صحيحاً، وإما أن ينهار الإيمان، فينساق وراءها حتى يقع في الفاحشة إلى أقصى درجاتها وغاياتها.
وقديماً قيل: الزنا أول امرأة، إذا وقع الزنا بالمرأة الأولى، صار أمر الزنا هيناً، وأصبح يتفنن صاحبه فيه، ويتفنن في تدبيره والتخطيط له، والإيقاع بالنساء فيه ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما لم تدركه توبة صادقة نصوح، والخمر أول كأس، يجلس الإنسان مجلس رجال أعمال، كبار شخصيات، ثم تدار الكأس، يا أخي! على الأقل فقط ضعها أمامك، من أجل لا يقولون: هذا معقد، أنت لا تلاحظ أنهم ينظرون إليك، يا أخي! خذ ولو رشفة واحدة مجاملة، اليوم الناس (اتكيت وعلاقات) اليوم الناس مصانعة إلى غير ذلك، وهكذا قليلاً قليلاً حتى يهون عليه أمر الله من أجل إرضاء الفساق والفجار الذين هان عليهم أمر الله، ثم بعد ذلك نسوا الله فنسيهم.
إذا نسي الله وذكر الذين أمامه أوكله الله إليهم، فقادوه إلى واد سحيق، وقادوه إلى هوة سحيقة من المعصية والضلالة، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم! يوسف عليه السلام: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] امرأة ملكة عزيزة ذات منصب وجمال، هي سيدة القصر، تقفل الأبواب فلا يمكن أن يطلع أحد، هي التي طلبته وأرادته، لو امتنع تهدده، ومع ذلك غلقت الأبواب وتهيأت وأعدت كل شيء، قال: معاذ الله! لا يمكن أن أفعل ذلك، ولذلك: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله -وذكر منهم- شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) ثبت الإيمان على جمر فتنة الجمال والإغراء والفاحشة، وغلب وسيطر فانتصر، فكان جزاؤه برحمة الله أن يكون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.(5/8)
محمد المسكي وثباته أمام فتنة الزنا
ومما قرأت من قصص التاريخ الواقعية أن شاباً يسمى بـ محمد المسكي، هذا الشاب كان شاباً وسيماً جميلاً، وكان يبيع المراوح التي تصنع من القش وغيرها، وكان يدور في السوق، فرأته امرأة وأعجبت به، وهي امرأة جميلة وغنية، فصاحت إليه: أعندك مراوح، قال: نعم.
وكان شاباً تقياً يصنع هذه المراوح، ويبيعها ويأكل من عمل يده، فقالت: ادخل وأعطنا ما عندك، فلما دخل أغلقت الباب دونه، قالت: إما أن تفعل الفاحشة الآن، وإما أن أصيح بأهل السوق أجمع بأنك دخلت علي وهتكت ستري، وأردت الفاحشة بي، ثم بعد ذلك لا تخرج حياً أو ميتاً.
فأصبح الرجل في مصيبة عظيمة، ولما أراد الله أن ينجيه، فتح له باب الصبر؛ لأن الصبر على المعصية أن تصبر حتى تتجافى وتبتعد عن المعصية، قال: نعم.
إذا كان ولا بد فافتحي لي الحش حتى أتهيأ، لم يكن هناك حمامات، بل برج ويوضع فيه مخلفات الإنسان، وكان معروفاً قديماً، فلما فتحت الحش ودخل أخذ يفكر: إن زنيت بها فهي فاحشة وعصيان لله، وإن رفضت فضحتني أمام الأولين والآخرين، ومن الذي يصدقني وأنا الآن في بيتها، فجال بخاطره أن يفتح غطاء البرج والحش فيغرف من الغائط بيده، ويلطخ على رأسه وبدنه، فيخرج إليها بنتن الغائط حتى تتقزز منه، وتفتح الباب له وتجعله يخرج.
ولما هم بذلك أصبح الأمر بالنسبة له صعباً، كل إنسان بطبيعة الجبلة يأنف من الروائح الخبيثة، فضلاً عن أن يمسها بيده، فضلاً عن أن يجعلها على رأسه وبدنه، ولكن غلب نور الإيمان على جمر الفتنة، فمد يده وأخذ يغرف من هذا الغائط، فلطخ رأسه وثيابه وبدنه، ثم فتح الباب وخرج فإذا هي تنتظره متزينة متعطرة، فلما رأت هيئته بهذه القذارة من الغائط والأوساخ، طردته ونهرته وفتحت الباب وأخرجته، فعاد متسللاً إلى بيته يسأل الله الستر ألا يراه أحد، وفعلاً وصل إلى بيته وأزال الغائط والأوساخ، فما أن انتهى حتى فاحت رائحة المسك من بدنه، وبقيت هذه الرائحة فيه حتى مات، واشتهر باسم: محمد المسكي؛ لأنه عوضه الله جل وعلا على أن تحمل هذا الأمر الذي لا ترضاه النفوس في سبيل ألا يقع في معصية الله، وألا يرتكب فاحشة من محرمات الله، فعوضه الله في ذلك عوضاً عظيماً، ولأجر الآخرة أكبر وخير.(5/9)
سبيل النجاة من الفتن
أيها الأحبة! الفتنة متهيئة للنفوس، النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نستعيذ بالله من فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، يقول البعض: أنا لو يخرج المسيح الدجال الآن عرفته ولا أصدقه، والله لو خرج المسيح الدجال ليتبعنه أقوام كنا نظنهم من الصالحين، نسأل الله أن يثبتنا وألا يفتننا.
أضرب لكم أمثلة، رجل يقال أنه يداوي، يجعل طلاسماً وأوراقاً وأشياء، تجد الناس طوابير على بيته، يفتن الناس بالشعوذة، ويقبلون والعياذ بالله أموراً تخالف التوحيد، وتنافي كمال التوحيد، حبهم في العافية، وما جعل الله عند المشعوذين عافية، يجعلهم يفتتنون، ولا تثبت دعوى إيمانهم على نار الفتنة؛ فيصدقون بهذه الشعوذة؛ وهذه الأمور الشركية، ويقعون في ذلك ولا يمتثلون.
أنتم تسمعون قصة البئر التي في حائل، هاجر الناس إليها أفواجاً وفئاماً وجماعات منهم من اعتقد بها، ومنهم من ظن أن بها جناً، ومنهم من ظن أن بها شخصاً، وأناس سافروا إلى شخص يدعى فلان بن فلان يداوي الناس، الناس عقولهم -إلا ما رحم ربك- عقول سخيفة، لا أقول سخيفة من باب الاستهتار والاستهزاء، لا، أي: يقال ورقة سخيفة، أي: ضئيلة، يصدقون ويتعلقون بأتفه شيء.
إذا خرج الدجال ومعه من المعجزات كأن يقطع الرجل نصفين ثم يعيده يمشي من جديد، ويقطع رقبة الرجل فيريك الرقبة في مكان والجسم في مكان، ثم يدعوه ويقول: يا فلان! قم، فتقوم الرقبة والرأس إلى الكتف، ويقوم الرجل يمشي، يأتي إلى الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، الأمر عجيب.
إذاً الناس قد تهيئوا للفتنة، ولا سبيل إلى الحذر من الفتن، إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عضوا عليه بالنواجذ، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بلغية ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، قلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصينا قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ) تمسكوا بها (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله).
فتمسك الناس بالكتاب، وتطبيقهم للسنة، وتمحيص دعوى الإيمان عند المرتشين أين هي؟ دعوى الإيمان عند الذين لا يحضرون الجماعة أين هي؟ دعوى الإيمان عند الذين يأكلون الربا أين هي؟ دعوى الإيمان عند أفلام الفيديو الخليعة، أفلام المصائب والعري والكشف أين دعوى الإيمان عندهم؟ دعوى الإيمان عند من يعاقرون الخمور ويحضرون مجالسها أين هي؟ دعوى الإيمان عند من يرابون أين هي؟ دعوى الإيمان عند من يعقون أين هي؟ دعوى الإيمان عند الذين يعادون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أين هي؟ دعوى الإيمان عند الذين يبغضون الدعاة ويتقربون بسبهم وشتمهم والاستهزاء بهم أين هي؟ يا إخواني! والله إن الإيمان في هذا الزمان يكاد يكون دعوى لا صحة لها؛ لأن أفعال العباد تخالف وتناقض، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(5/10)
الأسئلة(5/11)
فتنة الرياضة وكرة القدم
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والله إني لأحبك في الله، ما رأي فضيلتكم في فتنة الرياضة وبالأخص كرة القدم، وأيضاً مشاهدتها أثناء تأدية الصلوات، أفيدونا أثابكم الله عز وجل؟
الجواب
لا شك أن الرياضة في هذا الزمان فتنة، وكل شيء يخرج بصاحبه عن حده فهو فتنة، وإذا كان تعامل الإنسان معه على حد معقول مسموح به شرعاً فلا حرج إن شاء الله، فتن كثير من الشباب في الرياضة إلى حد أنهم تركوا الصلاة، ينظرون على المدرجات، تحرق الشمس وجوههم وجباههم، والعرق يتقاطر على أبدانهم، ومع ذلك يتركون الصلاة من أجل الرياضة، لكن هذا والله هو عين الفتنة.
لكن أيها الأحبة! لنا تعليق على مسألة الرياضة، نحن لا نقول: الرياضة حرام، حتى لا يظن بعض الذين يستهزئون بالملتزمين الصالحين أن المطاوعة معقدون كما يقال أو متشددون، أو لا يعرفون لعب الكرة، أو يحرمونها، لا أحد يحرم عليك شيئاً أباحه الله أو الأصل فيه الإباحة، ولكن الرياضة نافعة، وعلى الأقل فإنها مشغلة للوقت خير من أن ينشغل الإنسان بالفساد والمخدرات والانحراف والاختطاف والجرائم والإفساد والتخريب، ومع هذا أيضاً إذا قعدت بك من أجل أن تتابع الهدف الثاني من الذي يسجله عن الصلاة فهذه فتنة، إذا عرضت وقت الصلاة فهي فتنة، إذا جعلتك تطلق زوجتك من أجل هذا الفريق وهذا الفريق فهي فتنة، وهذا حصل.
إذا جعلت الإنسان يحدث السباب والفسوق بينه وبين إخوانه المسلمين فهذه فتنة، فالرياضة كغيرها من الوسائل التي يقضى فيها الوقت، لا يمكن أن نقضي الوقت كله في الرياضة، ولكن لها وقتها المحدد، ترويح عن البدن لا بأس، لكن باللباس الساتر، في الوقت المناسب، من غير تضييع للعبادة، بالآداب والأخلاق الإسلامية، لا أحد يمنع من ذلك، وكل شيء خرج بصاحبه عن حده فهو فتنة ولا حول ولا قوة إلا بالله!(5/12)
فتنة المجلات الخليعة والأفلام الهابطة
السؤال
فضيلة الشيخ تكاثرت الأسئلة حول فتنة النساء فحبذا لو أنكم علقتم على هذه الفتنة، وأيضاً فتنة المجلات الخليعة والأفلام الهابطة؟
الجواب
أما النساء ففتنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) فسماهن النبي صلى الله عليه وسلم فتنة، وهن والله فتنة.
يفتن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
هن ضعيفات، لكن كيدهن عظيم، يفتن ويفتتن أيضاً؛ لأنهن ضعيفات:
فاتقوا الله في قلوب العذارى فالعذارى قلوبهن هواء
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
هن ضعيفات فاتنات مفتتنات، ولكن فتنة النساء هذه من عدة جوانب: الجانب الأول: أما بالنسبة للرجل فالذي ينبغي لك غض بصرك؛ لأن فيه لذة وراحة وعزة، حين أن تدخل السوق أو تدخل المستشفى، فما أن تغض بصرك حتى تشعر أن هامتك فوق مستوى هذه الأجسام التي أمامك، أجسام حرم الله عليك أن تنظرها، فأنت ترتفع بنفسك، تشعر في نفسك بعزة، وتشعر في خطواتك بسمو؛ لأنك اتبعت أمر الله جل وعلا.
كذلك ينبغي للإنسان ألا يتهاون بالنظرات؛ لأن فتنة النساء أولها النظرة.
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ويقول ابن القيم مما أودعه في كتابه: إغاثة اللهفان، قال:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
إذا كنت تقدر على هذه المرأة التي أنت تراها فتذكر أنها ليست بحلال لك، والنظر لا يشفي غليلك؛ إذاً ستتعب قلبك، وتنهك فؤادك، ولا تخرج بنتيجة، وقال عبد الله بن المبارك: اترك فضول النظر توفق إلى الخشوع، وهذا والله حاصل، فمن غض بصره وجد حلاوة في قلبه كما في الحديث (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركه مخافة الله؛ أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم القيامة).
فالرجل والمرأة كل منهم مأمور بغض بصره.
فإذا عرفت ذلك فإنك تغض نظرك عن المرأة، سواء رأيتها في المستشفى، أو في السوق، أو في أي طريق، أو في التلفاز، بعض الناس يقول: ليس فيها شيء، لا تصبحوا معقدين أنتم يا المطاوعة، ففلم السهرة برنامج ممتاز، وفيه بعض الممثلات، ونحن قاعدين نشرب الشاي أو نتعشى وليس في ذلك حرج، لماذا هذا التعقيد كله؟ نقول: أمر الله ليس فيه تهاون: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:31].
أقول لك شيئاً: لو قلنا لك: إن رجلاً ينظر إلى زوجتك من خلال زجاجة، وابنتك وأختك يتفرج عليها هذا الرجل، فهل توافق؟ وأين الحمية والدين؟! أليس في قلبه إيمان؟ كذلك أنت أين الحمية والدين؟ أما أولئك الممثلات العاهرات الفاجرات، اللائي لا يخرجن إلى مستوى النجوم ومستوى التمثيل إلا بعد أن تباع الأعراض، والله ما تصعد ممثلة ترونها إلا بعد أن يخلو بها المخرج، والممثل، وصاحب السيناريو، والمونتاج، والمكياج، والماكيير، والباذيكير إلى غير ذلك، كل منهم يأخذ نصيبه منها، لو كانت امرأة عفيفة ما عرضت هذا اللحم والزند والساق والوجه والنحر وغيره لآلاف المتفرجين، لكن المصيبة أن هؤلاء ينسبون إلى الإسلام، نسأل الله أن يبصر الجميع بدينهم الحق.
فغض البصر ليس فقط في الشارع أو في المستشفى أو عن بنات الجيران، لا، غض البصر عن الصورة في المجلة وفي التلفاز، هذا أمر الله جل وعلا، ومن الشباب من تتعجب منه، يقول: فلان استقام والتزم وهداه الله، يا أخي! هل أنت تصبر، ولا تشاهد التلفاز؟ وهل هو طعامي وشرابي؟ وهل هو نفسي؟ وهل هو تسبيحي؟ وهل هو ذكري وعبادتي؟ لا وألف لا، وإذاً أنا في غنىً عنه بالكلية، إذا حصل لي من هذا التلفاز ضرر فإخراجه من البيت أولى، إذا تحقق لي الضرر من وجوده فإخراجه من البيت أولى، أما إذا كنت تقول: والله أنا محتاج إليه، أتابع الأخبار، لي وضع معين، وأتحكم في الجهاز فأنت وشأنك هو جهاز كسائر الأجهزة، إما أن تسمع محاضرة أو أغنية، فإذا استمعت فيه واستفدت منه فيما ينفعك فأنت وشأنك فيما ذكرت.(5/13)
المخرج من الفتن
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالفتن كثيرة كثيرة جداً،
و
السؤال
وما هو الحل والخلاص من هذه الفتن، سائلك بالله إلا أجبتنا عنها وجزاكم الله خير الثواب؟
الجواب
من سألكم بالله فأجيبوه، ولا يسأل بوجه الله إلا الجنة، الفتن لا شك أنها كثيرة، والعصمة منها كما قلنا بالتمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا بد من معين يعينك على حفظك من الفتن؛ لأن الفتن متجددة بألوان براقة، دعايات وأشكال وألوان، وزخرفة وبهرجة، وأشياء متقلبة ينساق الناس وراءها، حتى أن بعضهم لا يعود يقيم لدينه وزناً أمام الفتن التي يراها.
لذلك ينبغي أن نقول للإنسان: اعلم أن الله خلقك لعبادته، وكل أمر أشغلك عما خلقت له، فاعلم أنه فتنة، واعلم أن كل أمر أعانك على ما خلقت له، أو كل أمر يؤدي بك إلى أن تثبت أو تعين أو تهدي أو تدعو إلى ما خلقت له، فهذا أمر فيه خير إن شاء الله، لكن مع كثرة هذه الفتن لا ينجي منها إلا اعتزالها، ليس أن تذهب تضع لك خيمة في كيلو أربعين على طريق خريس وتقول: أنا معتزل الفتن، هذا من الحماقة، هذا من السفاهة، هذا من الجهل، لا أحد يظن أن هذا هو المنجى الآن، لا يزال في الناس بقية خير، لم ترفع السيوف بعد في وجه البعض، ولن يكون ذلك بمشيئة الله، مادام الناس على إمام واحد، وولاء وسمع وطاعة لكتاب الله وسنة رسوله، وأئمة المسلمين.
لكن اعتزال الفتن، مثلاً فتنة الفواحش في دول الخارج، يأتي إنسان يقول: والله أنا سأسافر، فما هو الداعي إلى السفر؟ والله ما لي داعي إلا أن أتمشى، وأنا أحب أن أتعرف على كل شيء، وأنا واثق من نفسي أني لن أقع في فاحشة، نقول: لا.
يا أخي، لست أنت الذي تمتحن إيمانك، لكن إذا عرضت المحنة والفتنة والابتلاء على إيمانك فأظهر صدقه، لكن إنسان يقول: أنا أسافر للخارج، إلى دول مشهورة بالدعارة والفساد، ويقول: والله أنا لم أذهب لأفسد؛ نعم.
هناك جماعة يفسدون، لكن أنا ليس لي دخل بهم، ثم بعد ذلك تقول: أنا أثبت، لا.
العصمة من الفتن بالابتعاد عنها، أنتم أين ذاهبون؟ ذاهبون مكة، الصلاة بمائة ألف صلاة؟! ذاهبون المدينة الصلاة بألف صلاة، ذاهبون لطلب علم! أليس هناك هدف إلا معصية الله جل وعلا؟ عليك الوزر في صحبة من يسافر لذلك، ولا يجوز لك أن تسافر مثل هذا السفر، لأن العصمة من الفتنة أن تجتنبها، وأن تبتعد عنها.
أما إنسان يقول: لا، أنا أسافر وأعصم نفسي فحاله:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
شخص جئنا وكتفناه بملابسه، ورميناه في البحر، وقلنا له: لا يأتي فوق ثوبك ماء، أيعقل هذا الكلام؟ لا يعقل هذا الكلام.
نلقيه في البحر ونقول له: لماذا في ثوبك ماء؟! وكذلك الذي يزج بنفسه في الفتنة، ثم يقول: أنا ما يأتيني شيء، لا، كثير من الشباب يمن الله عليه بالهداية، ويبقى له شلة من الجلساء السابقين، يقول: أنا لم أعد أدخن مثلهم، ولا ألعب البلوت مثلهم، لكن فقط آتي لأحضر الجلسة، انظر يا أخي! إن المرء من جليسه، والطبع استراق، والله ليعودن تأثيرهم عليك من جديد.
فالعصمة من الفتن بكتاب الله وسنة نبيه، واعتزال الفتنة، فبدلاً من الجلوس في الشيشة والقهاوي اجلس في حلقة من حلق الذكر، وروضة من رياض الجنة، وبدلاً من ضياع الوقت في السهر زوجتك أولى بك، أطفالك أولى بك، وحديثك معهم أولى بك وهو عبادة، ورضاً لله جل وعلا، وكسب لسعادتك في حياتك الزوجية، بدلاً من ضياع الوقت واللف والدوران يميناً ويساراً، اذهب فاشتر لك شحنة بطاط أو بطيخ وبعها لتعود بكسب حلال، وقد آجرك الله على ما فعلت، وهذه من أعظم النعم.
بدلاً من ضياع الوقت في الأفلام والمجلات الخليعة، استمع إلى الأشرطة النافعة، الجلساء الطيبين الصالحين، المحاضرات، المنتديات النافعة، ففي هذه خير عظيم، فالاعتصام بالكتاب والسنة، والابتعاد عن الفتن كله مما يرضي الله جل وعلا، ولذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، وجاء إلى راهب، وقال: هل لي من توبة؟ قال: لا، فذبحه وقال: وأنت تمام المائة، ثم ذهب إلى آخر، قال: هل لي من توبة؟ قال: نعم.
من ذا الذي يغلق باب التوبة؟ لا يمكن أحد أن يغلق باب التوبة، إني أوصيك أن تلحق بأرض كذا وكذا، فإن فيها أقواماً يعبدون الله، جعله يترك أرض الفتن والمعاصي والجرائم، ليلحق بأرض فيها من يطيع الله، فمن ضعفت نفسه عن محاربة ومجاهدة الفتن من حوله؛ فعليه أن يعتزل مجتمعه وجلساءه وأصدقاءه وزملاءه من معاملاته والوسط الذي يعيش فيه.
والله إذا كان جيرانك من شلة السوء فلك أن تبيع هذا البيت، وتنتقل إلى حي فيه من الصالحين من تجاورهم فيكون جوارك معهم على ما يرضي الله جل وعلا حتى تلقى الله، وإنما هي سنوات، ونفس يمضي ويعود، حتى تنتهي الحياة، وتتوقف ضربات القلب، وفجأة إذ بالإنسان ينتهي، فاحرص على ألا تكون فجأتك وساعتك في معصية اجعلها في طاعة الله.(5/14)
حكم اللعب بالبلوت
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ، أما بعد: فأنا أحبك في الله، وأخبرك بأني شاب مغرم بلعبة البلوت، فما حكم لعبة البلوت؟ وما نصيحتك لي بذلك؟
الجواب
والله يا إخوان الناس في هذا الزمان فتنوا بما ضيع أوقاتهم، البلوت هذه فتنة، فلم السهرة فتنة، القهاوي هذه فتنة (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) البلوت تفتتح بحمد الله والصلاة على نبيه؟ أجيبوني -يا إخوان- نعم أو لا؟ لا والله.
ألبلوت فيها تسبيح وتهليل؟ لا.
لا، البلوت فيها حسنات؟ لا، هل هي حق أم باطل؟ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32].
كأن الإنسان إذا لم يلعب بلوتاً يريد أن يقطع الأبهر، وشريانه الأكبر في قلبه، سبحان الله العلي العظيم! هل لهذا خلقت؟ (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه) يا عبد الله! فلان بن فلان -يوم القيامة- أين أمضيت وقتك؟ يا رب! غلبناهم في البلوت خمسين مرة، أهذا جواب يقال لله؟! أهذا عمل يقابل به الله يوم القيامة؟! والله إن الإنسان ليستحي أن يلقى ربه بخزي من الأعمال، وندامة في خلقه ونفسه إذا قابل ربه بهذا العمل.
طول النهار عبادة ولم يبق إلا هذا الوقت لكي يقضيه في البلوت؟!!! (حشفاً وسوء كيلة) طول النهار والإنسان في غفلة وفي بلوت يجعله متأخراً عن صلاة الفجر، زوجته المسكينة تتقلب في فراشها، كلما سمعت الباب قالت: وصل ما وصل؛ مصيبة! يأتي الصباح فتقول: قم اذهب بأولادك المدرسة، فيقول: سهران.
أين سهران، أكنت تتهجد؟! لا.
في البلوت.
هذا الطفل يحتاج مراجعة المستشفى.
سهران.
أين سهران؟! في البلوت.
هذا الأمر في المنزل يحتاج إلى إصلاح.
دعوه ينام؛ لأنه أمس ساهر في البلوت.
هذا لا يرضي الله جل وعلا.
يا إخوان! الكلام في البلوت وفي كثير من التوافه التي وقع فيها كثير من الشباب، والله ليس البحث في جزئية البلوت، وإنما البحث في هذا القلب، هل استعبد القلب لله أم لا؟ هل عبد القلب لله أم لا؟ هل وظفت الجوارح في مرضاة الله أم لا؟ ثم بعد ذلك الكلام في البلوت فرع عن هذا، إذا صلح القلب وسلم وانقادت الجوارح لطاعة الله، لن يوجد عندك وقت لهذا البلوت وغيره، الواجبات أكثر من الأوقات، لكن لأن القلب سقيم، وجدت فجوات ودكاكين مفتوحة في القلب وفارغة، فلا عجب أن يدخلها الشيطان وأن تسكنها الأهواء والفتن.
أما إذا امتلأ القلب بطاعة الله، فلا مكان لمعصية الله، إذا امتلأ الكأس بماء عذب زلال، فلا مكان لأن نضيف عليه ماءً أجاجاً ملحاً، لكن إذا كان القلب فارغاً، ضع في القلب بلوتاً وسهراً وشيشةً، وضع كل ما يتعاطاه الناس ويتداولونه في هذا الزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(5/15)
حكم المشاركة في الشركات المساهمة
السؤال
السائل يقول: فضيلة الشيخ! ما حكم الاشتراك في الشركات المساهمة، وهل يدخل فيها الربا، أفتونا أفادكم الله عز وجل؟
الجواب
الشركات المساهمة أنواع، فأما شركات تتعاطى وتتعامل بأعمال ربوية، فهذه لا تجوز، أو شركات خلت من هذه المعاملات فالمساهمة فيها جائز والله أعلم.(5/16)
آخر الأحداث في أفغانستان
السؤال
السائل يقول: فضيلة الشيخ! بعض الإخوة يطلب من فضيلتكم أن تتكلمو عن آخر مجريات الأحداث في أرض أفغانستان المسلمة، لعل الله عز وجل أن يفتح بهذه الكلمة قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، فأفتونا أفادكم الله؟
الجواب
والله يا إخوان إن الحديث عن الجهاد والمجاهدين قد كثر وطال وتعدد وتنوع، أفغانستان أرض ملغمة، وبستان أُحرق، وبهيمة أُهلكت، ورجل قطعت، وعين سملت، ويد شلت، وطفل يتيم يصيح أين أبوه، وامرأة أرملة، وعجوز ضعيفة، وكهل لا حول له ولا قوة، هذه أفغانستان، زر، اذهب، انظر، اقرأ، هذا وضع أفغانستان، الأراضي مليئة بالألغام، المستشفيات مليئة بالمشوهين والمعوقين ومقطعي الأيدي والأرجل، الأيتام بالمئات بل بعشرات الآلاف، النساء الأرامل، الثكالى الشيوخ البيوت مهدمة، قد أهلك الحرث والنسل، وأفسد في الأرض، هذا وضع أفغانستان.
تدبيج الخطب والعبارات، والله يا إخوان:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
إن كان في القلب إسلام وإيمان، لا يسعنا إلا أن نخصص من رواتبنا دخلاً شهرياً للمجاهدين، الذي يؤلمه ما يدور لإخوانه المساكين في أفغانستان فلا يسعه إلا أن يخصص لهم دخلاً شهرياً في أفغانستان، نخصص راتباً للخادم أو الخادمة على أساس أن يلمع الأبواب والزجاج ندفعه شهرياً، ولا نستطيع أن نلمع قضية إسلامية، لا نثبت ولا نصمد أمام دعم شريعة وعقيدة ونظام ودولة إسلامية تقف أمام المد الشيعي، والشيوعي، والوثني، دولة أفغانستان إذا قامت دولة سنية، تقف أمام المد الشيعي في إيران، والمد الوثني في الهند، والمد الشيوعي في روسيا، مصلحة قيام أفغانستان أعظم مصلحة للمسلمين.
فلا أقل من أن ندعمهم بأموالنا، لا أقل من أن نهتم بهم، وبالمناسبة -يا إخوان- ففي هذا الزمان الذي ظن الناس أنه سيضيع فيه الدين بالكلية عاد الناس إلى أصل الدين وهو الجهاد، وعلم الناس وعلمت دول العالم ودول الكفر العظمى أن المسلمين بدءوا يفكرون بالجهاد، وطبقوه عملياً وسيلة لاسترداد أراضيهم، ستين سنة مفاوضات مع بريطانيا وإسرائيل ما أرجعت فلسطين، هل نفعت المفاوضات؟ قرار الأمم المتحدة رقم (242) التراجع إلى ما قبل حدود (67م) الاعتراف بحدود (48) إقامة دولة في الضفة والقطاع، كلام جرائد لم نر فعلاً أبداً، لكن الجهاد في سبيل الله هو الذي يفرض.
لما قامت حركة حماس في فلسطين انظر العجائب، لكن هناك عدم العلم الإعلامي، نحن لا ندري ماذا يدور الآن في فلسطين إلا من خلال بعض الأخبار البسيطة التي تصلنا، وما سوى ذلك لا نرى كل شيء بالتفصيل، الآلاف والملايين يذبحون ويقتلون في العالم، في دولة شرقية أحد الرعايا الأمريكان صدم كلبه، فتدخل السفير الأمريكي في تلك الدولة، وتابع القضية حتى حوكم الرجل، ودفع الغرامة والعقوبة، لماذا يدهس كلب الراعي الأمريكي، أصبح المسلمون أهون من الكلاب، لا حول ولا قوة إلا بالله! (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها؟ قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، يصيبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا) أصبح الريال أهم من عشر رصاصات في قلوب الشيوعيين، الجيب هذا أحب إلينا نسقطه في الخبت، والله لو كان في القلب حياة لأمسكت راتبك وقلت: أين المجاهدون في العالم؟ انطلاق الجهاد في إريتريا المسلمة، إريتريا الآن عجزوا سنين طويلة، بناتهم يشردن ويغتصبن، ونساؤهم ينتهكن، عجزوا وهم يطالبون، يا مجلس الأمن! يا هيئة الأمم! المحافل الدولية! العالم! كلب يتدخل فيه السفير، إن مئات من البشر يموتون ولا أحد يتدخل، لم يلتفت إليهم أحد، فلم يروا إلا الجهاد سبيلاً لنصرة قضاياهم، فانطلقت الآن شرارة الجهاد في إريتريا.
في الفليبين من سنوات طويلة، يوجد جبهة إسلامية في مندينار، وفي أفغانستان وفي فلسطين.
أعداء الإسلام مستعدون لدعم المجاهدين حتى يقيموا دولة ويقفلوها عليهم، لو كان الهدف إقامة دولة سنية وتقف، انتهى الأمر، لكن الخطورة التي يسعى أعداء الإسلام لمناوأة ومعاداة الجهاد بسببها أن تنتشر عدوى الجهاد في العالم، فـ أفغانستان حدودها الشمالية المتاخمة لـ روسيا، قبائل الأوزبك والطاجيك المنتسبة للدول الشيوعية تقوم بالجهاد ضد الشيوعيين، وجميع الأمم والأقليات والشعوب المستضعفة تبدأ تنادي بالجهاد سبيلاً لتحقيق مطالبها ورغباتها، هذه العدوى الذي يخاف منها أعداء الإسلام.
ولذلك يا إخواني ينبغي أن تخصص شهرياً مائة ريال أو خمسين ريالاً للمجاهدين في أفغانستان، وخمسين ريال للمتضررين في أفريقيا، للمسلمين في الفليبين لـ أريتريا، لو كل مسلم يدفع مائة ريال لحققنا شيئاً كثيراً، لو يتعطل المكيف، أو أتفه الحاجات الكمالية في البيت فإننا ندفع الآلاف حتى نصلحه، إذا انطفأت الكهرباء عشر دقائق، خرج الناس إلى الشوارع وأمرهم عجيب، فأين أنت من الذي يعيش بدون كهرباء ولا ماء ولا أمن ولا طمأنينة.
فيا إخوان لا أقل من أن ندعم إخواننا في كل موقف ومناسبة، علم أولادك بدلاً من أن تعطيه عشرة ريال، أعطه اثنا عشر ريالاً، تقول له: خذ ريالين للمجاهدين، وعشرة لك، ازرع في قلبه حب الجهاد والمجاهدين، بقي من مصروفه شيء، تبقيه في حقيبتك أم تدفعه للمجاهدين؟ ازرع في قلبه حب الجهاد والمجاهدين، ازرع في قلبه حب البذل في سبيل الله، ازرع في قلبه حب شراء الجنة، بالنفس والنفيس والمال وكل شيء، فبذلك تنتصر الأمة.
انتصر الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوام افتدوا وبذلوا دماءهم وأموالهم وأرواحهم في سبيل الله، نحن نريد الجنة ولكننا لا نريد أن نضحي بأنفسنا، لا، الجنة تريد عملاً وتضحية وأداء، فلا أقل من أن نتبرع لإخواننا، وأرجو أن يقف عند الأبواب من يجمع تبرعاتكم جزاكم الله خيراً، ومن ثم تسلم إلى إمام المسجد وهو بدوره ينسق تسليمها إلى الجهات المعنية وجزاكم الله خيراً.(5/17)
اعرف عدوك
إن العداوة سنة ماضية، ووجود الأعداء أمر محتوم فهناك عداوة الشيطان، وعداوة الإنسان نفسه لنفسه، وعداوة الزوجة والبنين والبنات هذا ما تحدث عنه الشيخ، ثم تحدث عن درجات العداوة، وذكر بعضاً من صورها، ثم ذكر أن وجود العداوة لا يضرنا شيئاً ما دمنا واثقين بالله وبنصره.(6/1)
التذكير بعظمة الله تعالى وقوته
الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه وتعالى جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً.
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا أهل هذه البلدة الطيبة! يا أهل القويعية! علم الله أنا نحبكم فيه، وعلامات المحبة بادية واضحة، ولعل التكرار على التقصير منا قد ظهر، وعلى أية حال فأقول كما قال القائل:
يا رب لا تحرمني حبهم أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا
إني والله أحبكم في الله، وما أرى الخطى في الطريق إليكم إلا كماءٍ عذبٍ رقراقٍ تدفق إلى قاعة من الصفاء والمودة، أسأل الله أن يجعل اجتماعكم وسعينا إليكم وجلوسنا وحديثنا وفائدتنا منكم أن يجعلها خالصةً لوجهه، كما أسأله سبحانه وتعالى ألا يجعل عملنا هباءً منثوراً، وأسأله بأسمائه وصفاته ألا يجعل أعمالنا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ألا يجعل أعمالنا كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف.
أيها الأحبة: لا تَنْفعِ اللهَ أعمالُنا، ولا كلامنا واجتماعنا، فالله غنيٌ عنا، كما قال ربنا في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما ضرني ذلك شيئاً يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما نفعني ذلك شيئاً يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم، ثم اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ، فغفرت لهم، ثم سألوني، فأعطيت كل واحدٍ مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
الله الغني، الله القوي، الله الجبار، الله القهار، الله المدبر، الله المتصرف، مكور الليل على النهار، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ما يعبأ الله بكم، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147]، {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] وإن تتولوا لا تضروه شيئاً.
يا عباد الله! فلنتذكر عظمة الله، ولنذكر عز الله وذلنا، وقوة الله وضعفنا، وغنى الله وفقرنا، وقوة الله ومسكنتنا، فإن هذا من أعظم أبواب العبودية.
من أعظم أبواب العبودية -أيها الأحبة- أن نشهد الفرق في عظمة الخالق وانحطاط المخلوق، وقوة الخالق وذلة المخلوق، فمن تأمل هذا استحى من ربه، ومن عرف ذلك استحى من خالقه، ومن عرف ذلك كان لله في قلبه قدر ووقار، ولذلك قال نوح: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] لقد كان عدم الوقار في قلوبهم لله سبباً أدى بهم إلى أن استغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، ولم يستجيبوا بعد أن دعاهم سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً.
أيها الأحبة: لا أطيل في هذه المقدمة، ولكن أود أن نشهد في كل مقام عظمة ربنا وذلنا وضعفنا اللهم إنا نتوسل إليك بقوتك وضعفنا، اللهم إنا نرجوك بقوتك وضعفنا، اللهم إنا نرجوك بحلمك وعلمك وقوتك، نسألك اللهم بعلمك الذي لم يسبق بجهلٍ، ولا يلحقه نسيان، ونسألك اللهم بحياتك التي لم تسبق بعدمٍ، ولا يلحقها فناء، نسألك اللهم بقيوميتك التي لا سنة فيها ولا نوم، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى في هذه الحلقة المباركة، والروضة الطيبة من رياض الجنة، إلا غفرت ذنوبنا، وسترت عيوبنا، وقضيت حاجاتنا، وكشفت ضرنا، وأجبت دعاءنا، وهديت ضالنا، اللهم من كان في هذا المسجد على ضلالة فاهده، اللهم من كان في هذا المسجد على بلوى فارفع عنه، اللهم من كان في هذا المسجد على مصيبة فاجعله يقلع، اللهم من كان في هذا المسجد على شر فاجعله ينزع، اللهم من كان في هذا المكان على أمر لا يرضيك فاصرفه عنه، واصرفه إلى مرضاتك يا رب العالمين.(6/2)
التذكير بنعيم الجنة
أحبابنا: من نحن بلا ربنا؟ من نحن بلا ديننا؟ من نحن بلا رسولنا؟ حياتنا هذه اجتماعٌ ينتهي إلى الفراق، ولذة تكدرها الأسقام، العافية والصحة يهدها المرض أرضاً، ويطرحها طولاً وعرضاً، قوتنا تفنى، وتبقى قوة الله لا تفنى أبداً، الشراب الذي نتمناه يتحول بولاً لا نطيق سماعه ورؤيته، والطعام الذي نأكله ينتهي إلى عذرة لا يطيق الرجل سماع اسمها وذكرها.
تفكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل
تفكر إذا أردت أن تعرف حقيقتك يا مذنباً يا ضالاً يا مقصراً يا متردداً، يا من تقدم خطوةً في الهداية وترجع خطوتين، يا من تشاور نفسك هل تلتزم أو لا تلتزم؟ هل تدعو أو لا تدعو؟ هل تستقيم أو لا تستقيم؟ تنصر دين الله أو لا تنصر دين الله؟ قبل هذا اسأل نفسك: من أنت؟ وما هي حياتك؟ فحينئذٍ والله لن تستكثر ما بذلته من نفسك ونفيسك، وغاليك ورخيصك، وأنت وأهلك وبيتك ومالك، لا تستكثرها لجنة عرضها السماوات والأرض، يقال لأهلها: خلودٌ ولا موت، ويقال لأهلها: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، لا يمكن أن يأتي الطبيب ليأخذ عنك الضغط، أو يرى مقياس السكر، أو يرى نسبة الكوليسترول، أو يرى فيك صداعاً، أو يرى فيك فشلاً كلوياً، أو ضعفاً في البصر، أو آلاماً في الرأس، أو ضعفاً في الأعصاب، أو وجعاً في المفاصل، أو بلاءً في فقار الظهر، لا والله يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً صحة دائمة لا تنقطع أبداً، عافية مهما بذلت فيها من العمل وأي عملٍ لك؟ عملك في لذتك، شغلك فيما تتلذذ به، إننا حتى لذاتنا تتعبنا، حتى اللذات تؤذينا، حتى ملذاتنا تقتلنا، لذتنا في الشراب إذا زاد آلم أجوافنا، ولذتنا في الطعام إذا زاد قتلنا، ولذتنا في كل شيء تنتهي إلى ضعف، أما لذاتنا في الجنة -نسأل الله أن نكون وإياكم من أهل الجنة- فلذات لا تنقطع أبداً يا أهل الجنة! إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً لن ترى في الجنة حدباً يتوكأ على عصا، لن ترى في الجنة ضعيفاً قد هدته السنون، مع أن النعيم في الجنة مقيم، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، الله أكبر! سنين طويلة لا يتحول سواد الشعر إلى شيب، ولا طول القوام إلى انحناء وحدب، سنين طويلة لا تتجعد فيها البشرة، ولا تضعف فيها الأبدان أبداً، هذا نعيم أهل الجنة (إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تسعدوا فلا تشقوا أبداً).
الله أكبر! اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك ألا تحرمنا الجنة، اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك ألا تحرمنا جنتك يا رب العالمين، اللهم هديتنا إلى الإسلام وما سألناك، فأعطنا الجنة وقد طلبناك ورجوناك.
أيها الأحبة: ينبغي أن نعرف مقامنا في ضعفنا وذلنا وهواننا، وأن نعرف مقام الله في عظمته وربوبيته وألوهيته وكمال أسمائه وصفاته.(6/3)
وجود الأعداء وكثرتهم
أحبتنا في الله: حديثنا: اعرف عدوك.
من هو العدو؟ لاشك أن الله جل وعلا قد ذكر وسمى جملةً من الأعداء في القرآن، فقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14]، فجعل من المال والولد عدواً، وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82].(6/4)
عداوة الشيطان
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ} [فاطر:6]، هذا الشيطان الذي يدعو كل واحد فينا، والله ما فينا أحد ما دعاه الشيطان، أنتَ وأنتِ، ومن يسمع ومن تسمع، كلٌ دعاه الشيطان، إما في ليل أو في نهار، أو في ظلمة أو في ضوء، أو في صيف أو في شتاء دعاه الشيطان، ومنا من لا يزال الشيطان يدعوه، ولكن الشيطان -كما تعلمون- خذول، الشيطان يخذل أصحابه؛ لأن الشيطان حينما يتحاجون في النار يقف خطيباً على أهل النار ويكلمهم، قال جل وعلا: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، الشيطان يأتي ويعترف، عدونا يأتي يوم القيامة ويعترف، ويجلس خطيباً عند أهل النار ويقول: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22].
ولماذا نطيع الشيطان؟ والله يخبرنا أنه سيقف ويقول لمن تبعه، ويقول لمن انقاد معه، ويقول لمن وافقه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، والله ما جررت أحداً بحبل حتى أخرجته من المسجد، أو أجلسته في فراشه حتى لا يصلي الفجر مع الجماعة، أو أرغمته حتى يشتري شريط الغناء، أو سقته حتى يتفرج على فيلم الفيديو، أو سحبته حتى يساهم في بنك ربوي: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، مجرد أن عرضت صورة وزينتها في مخيلتكم؛ فقبلتموها وأتيتم إليها، وسعيتم حثيثاً نحوها، نغمة اجتهدتم في طلبها ورددتموها وسمعتموها، وضيعتم كتاب الله من أجلها، يقول الشيطان: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم:22]، وكفى أن هذا الوعد وعد الحق {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] لا أنقذ أحداً أبداً، هكذا شأن الشيطان {قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16]، لكن متى؟ عندما يقع الفأس في الرأس كما يقال، بعد أن يقع المحذور، وينتهي المقدور، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.(6/5)
العداوة سنة ماضية
أيها الأحبة: إن العداوة موجودة عداوة من الشيطان، وعداوة من الإنسان للإنسان، وعداوة من البنات والبنين والزوجات، وعداوة من الأموال، وعداوة في كل شيء، وإننا يوم أن نقول لرجل: إن عدواً يتربص بك الدائرة عند الباب، ثم ترى هذا الرجل يخرج يقلب كفيه وينظر في عطفيه غير مبالٍ بما حذر منه، نرى فيه لوثة من الجنون، لأن عدواً يتربص به فلا يستعد لمواجهته فما بالنا؟ وأي لوثة بلغت في ضعف إيماننا حتى أصبحنا نتقلب في أحوال ربما قادتنا فوق المعصية إلى فتن عظيمة من غير أن نأخذ سلاحاً نتقي به العداوة؟ أيها الأحبة: لا أحد يسلم من العداوة أبداً، لا تظنوا أن أحداً يسلم من العداوة
ليس يخلو المرء من ضدٍ ولو حاول العزلة في رأس الجبل
إن نصف الناس أعداءٌ لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
هذا الكلام يقال للقضاة أيضاً، القاضي العادل نصف الناس أعداءٌ له الذين حكم عليهم.
إن نصف الناس أعداءٌ لمن ولي الأحكام هذا إن عدل
هذا مع أنه قضى فعدل، ومع ذلك الناس أعداء له.
وقال الآخر:
لو كنت كالقدح في التقويم معتدلاً لقالت الناس هذا غير معتدل
لو كنت في قمة الاعتدال كالقدح، لقالت الناس: هذا إنسان غير معتدل، وما يسلم أحد من عداوة أبداً، وكما قال موسى عليه السلام: يا رب! إن بني إسرائيل يؤذونني.
فقال له: يا موسى! قد سألت لنفسك ما لم أجعله لنفسي، ألم تقل اليهود: يد الله مغلولة؟ ألم تقل اليهود: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء؟(6/6)
العداوة ليست دليلاً على الضعف
إذاً: العداوة لا يخلو منها أحد وحتى الله جل وعلا له أعداء، وليس هذا أمراً وقهراً وجبراً عليه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ولكن لحكمة أرادها الله جل وعلا، إذاً فلا تجزع إذا قيل لك: إن لك أعداء، الله أعلم بأعدائكم؛ ووجود الأعداء ليست مشكلة كبيرة جداً، المشكلة ضعفك أمام الأعداء، المشكلة أعداءٌ يجهزون، ونفسٌ لا تبالي، أعداءُ يخططون، وشخصٌ نائم، أعداءٌ يتابعون، وشخصٌ متساهل، أعداءٌ ينظمون، وشخصٌ متكاسل، هذه هي البلية، أما وجود العداوة فليست بخطر، وليست دليلاً على الضعف، الله جل وعلا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60]، فبين الله أن له أعداءً، وهل يعني كونهم أعداء لله أن الله ضعيف؟! حاشا وكلا! وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
إذاً: فليس وجود العداوة دليلاً على ضعف، بل ربما كانت العداوة دليلاً على قوتك؛ لأن الذي ليس له أعداء هذا دليل على ضعفه، قال القائل:
قُبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل
إنهم مسالمون، وهذا يدل على أنه ليس لهم أعداء، وهو دليل على ضعفهم، لكن على أية حال الإنسان لا ينزعج من العداوة، فالعداوة موجودة، والعداوة قائمة، والشر موجود حتى في أنفسكم وفي نفسي، كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب قال: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) أنفسنا هذه فيها شر مستطير، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فالشر موجود، طريق الخير وطريق الشر، والذي يقول: ليس عندي إلا الشر، نقول: كذبت، عندك خيرٌ وشر، فإن أسلمت الزمام لداعي الشر، والنفس الأمارة بالسوء، وجعلت الشح مطاعاً، والهوى متبعاً، والدنيا مؤثرةً، وتبعت ما تزين لك وتزخرف لك؛ أصبح جانب الشر فيك عظيماً جداً، وإن خالفت ذلك؛ أصبح جانب الخير عظيماً جداً.(6/7)
عداوة الإنسان لنفسه
إذاً: فلا تنزعج من وجود العداوة، ولا تعجب، فالعداوة موجودة من نفسك لنفسك عداوة من نفسك لأذنك، وعداوة من نفسك على لسانك، وعداوة من نفسك لعينك، وعداوة من نفسك لفرجك، وعداوة من نفسك لجيبك عداوة من نفسك لأذنك؛ أن تصرفك عن سماع ما ينفعك إلى سماع ما يضرك.
حب الكتاب وحب ألحان الغناء في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
والإناء إذا ملأته تراباً لا مكان للماء فيه، والقلب إذا ملأته بالملاهي لا مكان للذكر فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فإذاً هناك أولاً: عداوة من نفسك لنفسك في أذنك بسماع كل شر، وكما قال ابن القيم في الجواب الكافي: ثم يعقد الشيطان عرشه-أي: كرسيه- ويدعو جنده من الجن والشياطين، ويقول: عليكم بثغر الأذن، فلا يدخل معه شيء يطردكم عمَّا تربعتم إليه، فإن غلبتم، فجاهدوا حتى لا يصل ذكرٌ إلا ضعيفاً لا يؤثر، وعليكم بثغر العين، فاجعلوا نظرها تلذذاً لا تفكراً، واجعلوا نظرها باباً إلى رسم الأماني والخيال، بتصرف وبمعنى كلام ابن القيم رحمه الله.
فإذاً من نفسك شرٌ على عينك أن تنظر إلى هذه الصور، وأن تنظر إلى ما حرم الله جل وعلا، وكم من رجلٍ قتل نفسه بسلاحه، هل رأيت رجلاً أخذ المسدس، ثم قلب فوهة المسدس، أو الرشاش، ثم وجهها إلى قلبه، ثم أطلق النار، نعم، ذلك الذي قتل نفسه بلحظه.
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصبِ
فالإنسان هو الذي يقتل نفسه بنفسه، وتعرفون الأبيات التي يقول فيها القائل:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
من الناس من إذا رأى صورة حرام جعل رجله وعينه ويده وشعر رأسه، جعل كل ذلك عيناً تلتهم الصورة، وتتأمل هذا المنظر بفتنة وشهوة واجتهاد، مسكين لا يدري أنه يقتل نفسه، ولو أن هذا المسكين يوم أن رأى صرف بصره، ولو أن هذا المسكين تأمل جميع صنع الله جل وعلا، الله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [محمد:10]، فالنظر مطلوب، الله جل وعلا ما خلق عينك حتى تجعل عليها نظارة سوداء لا تبصر بها أبداً، إنما خلق العين لكي تنظر بها وتتفكر.
فيا أخي الكريم! تفكر كيف رفعت السماء بغير عمد؟ ولو دخلت صالة من صالات القصور الضخمة، فوجدت مائة متر بلا عمود واحد، لهالك الأمر في دقة الإنشاء والتصميم، وتقول: كيف وجدت صالة مائة متر مربع ليس فيها عمودٌ واحد؟! فيا حبيبنا! انظر إلى السماء التي رفعت بغير عمد! وإذا رأيت قنديلاً عظيماً جداً يضيء في بلد، ومفتاحه في بلد آخر، تعجب من هذا الأمر! ولكن انظر إلى هذه الشمس التي هي سراج تنير الدنيا كلها، وما جاءت شاحنات تعبيها بالبترول من أجل أن تشتعل، وما جاءت جهات معينة تعطيها الوقود، بل خلقها الله جسماً مضيئاً، فلماذا لا تتفكر وتتدبر؟! {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، لماذا لا تتفكر وتتدبر أيضاً في نفسك؟! أنت يوم أن كنت جنيناً صغيراً في بطن أمك، وأول ما يكون الإنسان في رحم المرأة يكون نطفة، ثم يكون علقة، ثم مضغة، ثم هذه المضغة تبدأ تأتيها الخلايا بأمر الله تتخلق فيها، وإذا بلغت الأشهر نفخت فيها الروح، ثم أخذت تنمو، فذهبت خلايا لتبني الأذن، خلايا مفصلة لإيجاد الزاوية التي فوق الأذن بالضبط، شحمة الأذن وزاوية، وشيء من المادة شبه العظمية الرقيقة جداً، كل خلية تذهب لتعطي هذا الدور في نفس المكان، وخلية تذهب لإنبات الشعر على العين والجفن، وخلية تذهب لإيجاد الطبقة الرقيقة على الشبكية أو القرنية، وخلية تذهب لبناء الشفة الرقيقة، وخلية تذهب لبناء العظم الصلب فيا إخوان: هل رأينا يوماً رجلاً نبتت أذنه في ركبته؟! أو رأينا رجلاً نبتت عينه في ظهره؟! أو رأينا رجلاً ظهرت أنفه في ساقه؟! هذه الخلايا ما الذي دلها وأعطاها مخططاً لكي تتجه الخلية رقم كذا إلى الموقع كذا، وتباشر العمل في مكان كذا! هذا هو التفكر، لكن عداوة الشيطان، والشر والأعداء من نفسك ومن أعدائك، وأولهم الشيطان، يصرفك عن تدبر ما ينفعك إلى إشغالك بما لا ينفعك، وأقل الأحوال أن تشتغل بالتافه عن العظيم، وبالحقير عن الجليل، والآن انظر إلى رجلين: أحدهم قد شنف آذانه، والآخر يسمع أغنية للمطرب الفلاني ويرددها: يا ليل يا عين، يا ليل يا عين، يا ليل يا عين، وانتهى الليل، وما رأينا ليلاً ولا عيناً، وبعد ذلك كتبت سيئات، وقام مهموم القلب في حسرة وقلق، وبمقدار سماع ذاك للأغنية انظر إلى رجل أخذ يسمع كلام الله، أو يتلو كتاب الله، له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.(6/8)
العداوة الزوجية
إذاً: فأعداء الإنسان كثر، وأول العداوة ما كان في النفس، وتحقيقاً لهذا المعنى من العداوة في النفس أيضاً الزوجة فيها عداوة، وكما في الحديث: (إذا بنى أحدكم بجارية أو زوجة أو أمة، فليضع يده على ناصيتها، وليقل: اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) أيضاً في الزوجة عداوة، وفيها شر، وربما يتوجه إليك، ويتسلط عليك، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وما أكثر الذين ظهرت عداوة زوجاتهم لهم! وليس من شرط العداوة أن يعلو فيها الصراخ، وأن يطول النياح، وأن يكثر العويل، وأن يظهر البكاء، وأن تصل الخصومة إلى المحاكم، قد تكون العداوة كما قال الشاعر:
قد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي
قد تبقى العداوة متمكنة مستحكمة قاتلة مؤذية، وظاهرها جمال، وظاهرها لذة، وظاهرها صحة، ولذلك بعض الأمراض حينما ترى وجه صاحبها، تقول: ما شاء الله ما هذه العافية؟ ومثاله مادة اسمها (الكورتيزون) هذه مادة يحذر الأطباء المتخصصون من الإغراق في استعمالها، أو استعمالها بلا استشارة، هذه المادة عجيبة جداً، وهي مادة عدوة للإنسان، مادة خطيرة للإنسان، بمجرد أن تدخل عضوه تعطي إفرازات وتقوم بوظائف صناعية، وتعطل الجهاز الذي يعطي الوظيفة الطبيعية، ثم بعد ذلك يظهر على الإنسان صحة في الوجه غير طبيعية، يبدأ وجهه كالمشرق، يسمونه في المصطلح الطبي ( Face Moon ) وجه القمر، ثم يكبر يكبر، وينظر إلى الرجل كأنه ازداد عافية، وازداد صحة، وحقيقة الأمر أن الرجل تتعطل أجهزته الصحية الحقيقية التي تؤدي الوظائف الطبيعية، وهذا السم القاتل (الكورتيزون) يعطي نتائج كذابة في الظاهر قاتلة في الباطن.
إذاً: ليس من شرط العداوة أن يكون لها صياح وصراخ وعويل وبكاء، ولأجل ذلك كم رأينا من رجل ظهرت عداوة زوجته عليه! وكم من امرأة رأينا عداوة زوجها عليها! مع أن ظاهر عش الزوجية المحبة، لكن دلائل العداوة أن الفتاة دخلت على ذلك الزوج وكانت محجبة، فأصبحت سافرة، كانت عفيفة الأذن لا تسمع إلا القرآن، وكلام الله وكلام رسوله، والخطب والمحاضرات والأمور النافعة، فأصبحت مطربة من المطربات، مغنية من المغنيات كانت حسيرة الطرف كسيرة الطرف لا تمد عينها إلى أحدٍ أبداً، فلما تزوجت بذلك العدو، ليس عدواً بالشجار والقتال، وإنما عداوة نفسها، وعداوة شيطانه عليها؛ جعلتها تنتقل إلى مرحلة ضعف، ومرحلة انهيار، وتحول خطير جداً والعكس كذلك كم من شاب عرفناه كان مستقيماً، فلما تزوج انقلب بعد زواجه بعداوة خفية، وظاهرها التعلق والمحبة والتفاني والتعاطف، انقلبت المسألة إلى أن الشاب أصبح يحلق لحيته، ويسبل ثيابه، ويسمع الأغاني، وقطع جلساءه الطيبين بعد أن كان يجلس مع الصالحين، وأصبح عدواً للأبرار بعد أن كان دفاعاً وحصناً منيعاً يدافع عنهم في كل ميدان.(6/9)
الشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم
إذاً: هذا معنى الآية، وما ذاك إلا لوجود العداوات السرية المتمكنة فينا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما كان خارجاً من معتكفه يقلب صفية بنت حيي إلى منزلها، ورأى اثنين من الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنها صفية، قالوا: سبحان الله! يا رسول الله! -أي: نحن نشك فيك- قال: خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم).
إذاً: فما ظنك بعداوة واحد قد دخل في عروقك، وقد دخل بين عصبك وعظمك، لا تنتظر أن يأمرك بخير أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم إلا وله قرين، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا إنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم).
أيها الأحبة: إذا تحققنا من وجود العداوة في شرور أنفسنا، وأموالنا، وأولادنا، فيمن حولنا، في اليهود والنصارى، في الشيطان، فيمن يزينون شياطين الجن والإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] فكل يشعر أن كل ما حوله عداوة، وقد يقول أحدكم: والله الشيخ حقيقة شحننا شحنة بحيث لو يقرب أحد منا لقال: ابعد يا عدو، لا تقترب يا عدو!! لا، نحن لا نقول: كل من نظرت إليه تقول له: قبحك الله أيها العدو، قاتلك الله! ابتعد وإلا سوف أطلق عليك النار، نحن لا نقول هذا الكلام، لكن أقول: تأكد أن في النفس عداوة كامنة ربما كان حالها معك ظاهرة، وربما كان حالها معك جامدة، وربما كان حالها معك متحركة، المهم أن الفتيل موجود، والمسألة قابلة للاشتعال في أي لحظة، فإذا تحقق هذا الأمر عندك، وأن المسألة موجودة، أخذت حذرك في كل مقام ومكان وزمان.(6/10)
درجات العداوة(6/11)
الإبادة بالإحراق في جهنم
أخي الحبيب: أما عن درجات العداوة فلا شك أن عدوك يبدأ أولاً بمحاولة إبادتك عن الوجود إبادة كلية، وأي عداوة أخطر من عداوة إنسان لنفسه عداوة شيطان ونفس أمارة بالسوء تجرُّ صاحبها إلى جهنم، هل هناك إبادة أعظم من نار جهنم؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21]، هل هناك عداوة أشد وأخطر من عداوة تنتهي بإحراق الإنسان في جهنم؟ بل عذابٌ متجدد {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
أيها الأحبة: لندرك جيداً أن الإبادة هي هدف من أهداف العداوة، فشيطانك الذي هو عدوٌ لك لا يألو جهداً في أن تكون نهايتك إلى النار، ليس من شرط الإبادة أن يبيدك الآن برشاش، أو بطلقة نارية، لكن ما كان أخطر من ذلك أن تكون إبادة دائمة ألا وهي إغراق الإنسان في الذنوب، وقبوله بالهوان، وتدحرجه في المعاصي والمنكرات حتى ربما قاده الأمر إلى موت على فتنة وضلالة، أو كفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحينئذٍ قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، تصور إنساناً يصيح وينوح ويبكي ويتقطع، زفير وشهيق من شدة العذاب، ومن شدة الألم، قد يتألم الإنسان، ولكن ما يبلغ به الألم، لكن من شدة الآلام {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37]، ويصطرخون أبلغ من يصرخون، والزيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى؛ لأن الاصطراخ فيه نوع إيحاء، أو فيه نوع وصف بأن النار متجلجلة، والصدى فيها متردد، يصيح ويصرخ ذلك المعذب، ثم يعود إليه الصوت في وقت هو يرفع صرخة جديدة ً، هذا العذاب الشديد الذي هو أخطر شيء، وهو هدفٌ من أهداف العداوة {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} [هود:106].
إذاً: ليس من شرط أهداف العداوة الأولى وهي الإبادة أن تكون الإبادة فورية، لكن أخطر من الإبادة الفورية الإبادة طويلة المدى {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107]، قد يعاديك إنسان فيقتلك الآن {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169]، فليست الإبادة الفورية دليلاً على العداوة في كل حال، أو ربما كانت من طرفك دليل عداوة، لكن ليس منتهاها دليلاً أنك بعداوة نفسك قدت نفسك إلى العداوة، أو إلى مؤداها، ربما كانت هذه طريقاً إلى الجنة والخلود في الجنة، لكن قد تعيش حياة في إضاءة، ونور، وقصور، وطعام، وشراب، وأكل، في بيوت، وأمن، وشيء من الرفاهية والنعيم، لكنها هي طريق إلى إبادة طويلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(6/12)
الإبادة بالقتل
إذا لم يستطع عدوك أن يبيدك إبادة كاملة، سواءً كانت إبادة بعد زمن طويل كحرص الشيطان أن يبيد الإنسان في نار جهنم، أو كحرص أعدائك مثل اليهود والنصارى الذين لا يرضون عن أحد أبداً حتى يتبع ملتهم، وسواء قالوا لكم: تعالوا على مائدة الوحدة الوطنية، أو تعالوا -أي: اليهود والنصارى- ننفي الخلافات التي بيننا، ولا يبغض أحدٌ أحداً، أنتم اعبدوا ما تشاءون، والنصارى يعبدون ما يشاءون، والمسلمون يعبدون ما يشاءون، ولا أحد يمد يده على أحد، ولا أحد في الصحيفة ينتقد أحداً، ولا أحد في المجلة ينتقد أحداً، نريد أن نعيش السلام والوئام والحب واللقاء هذا كلام لا ينفع عند اليهود، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، فهؤلاء الأعداء كما قال تعالى: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران:119 - 120]، العدو من أهدافه الأولى: الإبادة النهائية، وصورة من صور العداوات ما يحصل الآن لإخوانكم في يوغسلافيا في جمهورية البوسنة والهرسك في العاصمة سراييفو على يد الجيش الاتحادي والصربيين النصارى الأرثوذكس الذين هم الآن على قدم وساق، يقتلون ويذبحون ويشردون، وقد تأكد لدى هيئة الإغاثة الإسلامية أن عدد الضحايا حتى الآن واحد وعشرون ألف مسلم، ما بين طفل وطفلة وعجوز، وكهل كبير، ورجل وامرأة، وفتى وفتاة، واحد وعشرون ألفاً! يا إخوان: والله لو سافر أحدكم من الرياض إلى القويعية، ومشى ورأى عشرة مذبوحين بعد عشرة كيلو، وبعد عشرين كيلو رأى عشرة آخرين، وبعد ثلاثين كيلو رأى عشرة آخرين، حتى وصل الرياض، كان مجموع المذبوحين ثلاثين رجلاً، سوف يصيبك جنون تلك الليلة، ولا تستطيع أن تنام، وأنت تتخيل خمسة رجال وخمس نساء مذبوحين، وثلاثة رجال مقتولين، وهؤلاء مطعونون، وهؤلاء ممثل بهم، وهؤلاء مكبلون، وعليهم آثار الاغتصاب والبلاء والمصيبة، وأيضاً كانت نهايتهم إزهاق أرواحهم يأتيك جنون، فما بالك بواحد وعشرين ألفاً!! تخيل ملء هذا المسجد أكثر من ثلاثين مرة تقريباً مقتولين!! جاء الصربيون في الليلة الأخيرة من رمضان، وأول اثنين خرجوا من المسجد ذبحوهم ذبح الشاة على عتبة المسجد، ثم دخلوا وأطلقوا النار في المسجد، وهرب الناس، فأخذوا يرمون بالقنابل حتى الذي يريد أن يهرب لا يصل إلى الباب، ومات خلق عظيم، والدماء تفوح وتفور، والناس كالغنم التي لم تذكَّ، ترفس في المسجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا مقطوع وبقي فيه نخاع، وهذا مذبوح وبقي فيه عرق، وهذا مذبوح وبقي فيه عصب، الناس كالمجازر، ثم بعد ذلك دخل الصربيون وأخذوا يتبولون على الجثث، ثم بعد ذلك أخذوا يكشفون عورات المسلمين، ويأخذ السكين أو خلف البندقية ويخط على ظهر المسلم صليباً، يجرد المسلم من ثيابه ويخط على ظهره صليباً! يا إخوان: أي عداوة بعد هذا؟! هل هناك عداوة أشد من هذا؟! لا والله.
إن ديننا الحنيف دين عظيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قرآنه دستوره، قد أوصانا نبينا فيه أن إذا قتلنا كافراً ألا نمثل به فقال صلى الله عليه وسلم: (وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رحمة حتى في قتل القاتل! رحمة حتى في إزهاق روح المؤذي! الخلاصة أن هؤلاء الأعداء هدفهم بالدرجة الأولى الإبادة، وحينما يأتي علماني، أو فيلسوف، أو خريج هارفارد، أو خريج السربون، أو خريج متشيجن، أو كلورادو، ولا أقول كل خريج، لكن يأتيك إنسان متخرج من هناك، ويضع يداً على يد، أو يضع الشماغ على هذه الطريقة، ويقول: يا أخي! يا متشددون يا مطاوعة يا معقدون! تتوقعون أن الغرب لا يزال يعيش بعقليات البربر وهمجية الوحوش القديمة؟! لا يا أخي، الغرب تطوروا الآن، أصبحوا يتعاملون بالرمز، والاختزال، والشفرة، والنداء، والكود، عالم راقٍ جداً، أنتم لا تزالون تتصورون أن الغرب يذبح وينحر ويقتل، ما هذا التخلف عندكم؟! ونقول لكل من مدح الغرب يوماً، أو أثنى على حضارة الغرب يوماً: انظر ماذا أنتجته حضارة الغرب، من أعلى درجات الرحمة التي بلغت خط الصليب على ظهر المقتول! وقطع ذكر المقتول ووضعه في فمه كما حصل في ذلك المسجد في سراييفو! ويدخل على الرجل من قبل شباب الصرب، فيجدونه مع أولاده، فيربطونه ثم يجردون زوجته، ويفعلون بها وهو ينظر، ثم ينظرون إلى أبيه ويجعلون وجهه مسرحاً لأقدامهم يركلون خده وأنفه بأقدامهم وأحذيتهم.
العداوة هدفها الأول هدف إبادة، وأما ما نسمع من بعض الجرائد والمجلات الوافدة أننا ننتظر الوحدة في مجتمع تظلنا فيه سماءٌ واحدة، ونشرب فيه من نهر واحد، ويعيش الجميع على مائدة الوحدة الوطنية، فهذه مسخرة! قرأت ذات مرة في أكثر من مجلة وجريدة أن احتفالاً أقيم يجمع رجال الصليب البابا شنودة ورجال الدين -المفتي والشيخ- ورجال الفكر والسياسة والإعلام في يوم الوحدة الوطنية في إفطار جماعي ضم عدداً في يوم مشهود، افتتح بآيات من كتاب الله جل وعلا، وبماذا افتتح؟ افتتح بقول الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71]؟ هل افتتح بقول الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]؟ هل افتتح بقول الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]؟ الشاهد أن العداوة، وبالذات عداوة الدين، فإن من عاداك في دينك، فاعرف أن غايته إبادتك، قال الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8]، فبين أن من قاتلك في الدين، وعاداك في الدين هدفه عداوتك، ولكن من لم يعادك في الدين {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، من المنقطعين في الأديرة والصوامع، وغيرهم من الذين ما رفعوا سلاحاً في وجه المسلمين، وقبلوا بالجزية والذلة والصغار، أما ونحن الضعفاء وندعي أننا على وفاق ووئام مع أعدائنا فلا
كل العداوات قد ترجى مودتها إلا مودة من عاداك في الدين(6/13)
الاحتواء والتجيير
قلنا: الهدف الأول من العداوة هو: الفتك والقتل وإزهاق الروح والإبادة بكل معانيها.
المرحلة الثانية من صور العداوة المغلفة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ظاهرها المودة وباطنها الكراهية عداوة ظاهرها الوئام وباطنها الخلاف عداوة ظاهرها الرفق وباطنها القسوة والوحشية ألا وهي: عداوة الاحتواء والتجيير، وهي ما تسمى بعداوة غزاة الأفكار.
إن المسلمين وإن كانت الكثير من دولهم اليوم قد نالت الاستقلال، ورسمت حدودها بعد اتفاقيات سايكس بيكو وغيرها، إلا أنها انتقلت من مرحلة العداوة الصريحة المعلنة عداوة الفتك والإبادة إلى عداوة الاحتواء والتجيير، فبدلاً من أن ينزل عشرة آلاف جندي فرنسي إلى الجزائر يقتلون الناس، خطط المستعمر الكافر أن يوجد من أبناء الجزائر من يحافظ على أرواح الجنود الفرنسيين في قلب باريس، ويقوم الجزائري بقتل الجزائري، والمغربي بقتل المغربي، والتونسي بقتل التونسي، وكلٌ يقتل من بني جلدته، هذه الطريقة التي صرح بها القس صموئيل زويمر في مؤتمر القاهرة عام (1934م) لما عقد المؤتمر في الإسكندرية، وقام المنصرون يعرضون جهودهم، فكلٌ يقول: نصرت كذا ثم عاد إلى الإسلام، ودفعت كذا، وتنصر اثنان ثم عادوا، تنصر ثلاثة ثم عادوا، ولما أنهوا استعراض أعمالهم، وأنهوا استعراض مشاريعهم، قام القس صموئيل زويمر، وقال: اسمحوا لي معاشر القسس والرهبان رجال الكنيسة الأفاضل! إنكم حتى الآن لم تعرفوا مهمة التنصير، إن دورنا أن نخرج المسلم من الإسلام، وليس ضرورة أن ندخله في الكنيسة والنصرانية، إن دورنا أن نعد في بلاد المسلمين عضواً منهم يقاتلهم ويطعنهم، ويؤذيهم، وإن دورنا أن نحافظ على قطرة دم نصراني، فلا تراق هناك، ثم استشهد بقول القائل: إن الشجرة لا يقطعها إلا غصن من أغصانها! العداوة قد تكون في البداية ظاهرة
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطبُ
أحياناً تكون العداوة ظاهرة، لكن العداوة الظاهرة -بالمناسبة- تدفع النفس إلى الانتقام، وتدفع المتفرقين إلى الاجتماع، وتدفع الضعفاء إلى جمع الشمل على القوة العداوة الظاهرة تثير في النفس النخوة والحمية والإباء، حتى ولو استشهدوا واستماتوا وقتلوا، لكن العداوة المغلفة التي هي عداوة غزاة الفكر، عداوة الاحتواء والتجيير، فوائدها كثيرة، فإن كانت العداوة الصريحة فيها خسارة أرواح، فإن عداوة الاحتواء والتجيير هي عداوة ليس للأعداء فيها ضحية في روح أبداً، إن تكاليف نقل السلاح وأخطار التدخل السريع قد تكون باهظة جداً، لكن عداوات الاحتواء والتجيير لا تكلف هذا كله أبداً، رب عداوةٍ كانت مباشرة، فالتأم جرحها سريعاً، لكن عداوة الاحتواء والتجيير يطول ويطول علاجها، وشعوب المسلمين اليوم بعد أن جرب الأعداء فيهم عداوة القتل من خلال سنين الاستعمار، والاستعمار -بالمناسبة- حتى الآن لم يعرض عرضاً جيداً حقيقياً، إن الإعلام العالمي لو يسخر لتصوير واقع الاستعمار مع الدول المستعمرة؛ لأصبح الناس يكرهون شيئاً اسمه المستعمر ودول الاستعمار كما يكرهون السم في الطعام، لو صور للناس ما فعل الهولنديون في إندونيسيا، وما فعل الإيطاليون في ليبيا، وما فعل الفرنسيون في الجزائر والمغرب وتونس، وماذا فعل البريطانيون في الهند، وما فعل المستعمرون في كثير من الدول لو صور الإعلام حقيقة ما فعله المستعمرون؛ لأصبح عند الناس حساسية شديدة جداً، لكن الإعلام العالمي لا شك أنه يُخطط ويقاد -إلا ما رحم الله منه- بأيدي يهود، ولأجل ذلك يكون اهتمام الإعلام العالمي بقضايا أخرى تمييع عقائد، وجمع بين متناقضات، وتأليف بين مختلفات، وصرف الناس عن التذكير بأمور أخرى، صرف الناس عن التذكير بأمور ربما كان من غاياتها أو من أهدافها إثارة الناس، أو كانت تؤدي إلى ذلك، هناك فيلم مع أنه لم يخدم من حيث الرسالة الخفية إلا شيئاً قليلاً، وهو فيلم عمر المختار أنتج عليه ملايين، ولعل بعضكم اطلع عليه، وليست هذه دعوة إلى الأفلام، ولكن أقول: احتج من اليهود طائفة، واحتج من المستعمرين طائفة، وقالوا: إن هذا الفيلم يثير الأحقاد علينا! نعم.
ولو صورت الحقائق على وجهها الصحيح لرأيتم كيف يكون موقف الناس تجاه العداوة، عداوة التجيير.
فالحاصل أن عداوة الاحتواء والتجيير عداوة خطيرة جداً، إذا عجز العدو عن العداوة المباشرة -عداوة الإبادة والقتل الجماعي- ينتقل إلى عداوة الاحتواء والتجيير، وربما لمصلحة وليس لعجز، ومن أجل هذا يكون العدو جاهزاً، يبقى عدونا قابعاً في عاصمته، وعبر أجهزة الدس والمؤامرات والخونة والخيانات تصنع التمثيليات على مسرح الواقع، يمثل الممثلون الذين يعرفون الدور، ويدخل في التمثيلية الذين هم هدف الفيلم بالكامل، ثم تدور الدائرة على الرءوس، ويسدل الستار على المسرحية، ويخرج الجمهور من المسرح، وتفتح صفحة جديدة لقضية جديدة في واقع العالم الإسلامي.
إن عداوة الاحتواء والتجيير عداوة خطيراً جداً جداً، ولأجل ذلك كان علينا أن ننتبه لعداوة أعدائنا، وقد ننسى يوماً كنا نسب فيه، أو نشتم فيه عدواً، وصافحناه اليوم، لكن لا يعني ذلك أن عداوته قد زالت من قلبك، أنت لا تقيس الناس على طيب قلبك خاصة أعداء الدين، لا تتصور أنهم ينسون أنك مسلم، قبل كل شيء وأولاً وآخراً أنت مسلم؛ ولأجل أنك مسلم فالعداوة باقية، والتعامل معك بحذر.
قيل لرجل من رجالات الساسة: من هو عدوك في المنطقة الفلانية؟ قال: ليس لنا عدوٌ دائم، وليس لنا صديقٌ دائم، إنما لنا مصالح دائمة، فلو كانت القضية قضية عداوة واضحة لعرفناها وفهمناها، لكن العداوة الجديدة عداوة الاحتواء والتجيير أن يستغل أبناء الأمة لكي تطعن الأمة بالسيوف التي صنعتها، وتقتل الأمة بالسلاح الذي أنتجته، ويذبح أبناء الأمة شبابها ورجالها، ويغتصب نساء الأمة أبناؤها وشبابها، هذا ما يخطط له العدو من خلال البرنامج الطويل الذي يسمونه: البطيء المؤكد، برنامج الغزو الفكري الذي أقبل الناس عليه الآن زرافات ووحداناً، فالذي ليس عنده تلفزيون مسكين، والذي ليس عنده فيديو مسكين، والذي ليس عنده أنتل مسكين، ما ركب الأنتل الذي يأتي بـ ( mbc) أو البث المباشر، والذي ليس عنده دش (ستلايت) مسكين ما أتى بالقنوات الأخيرة! ولماذا نذبح أنفسنا بأنفسنا؟! لماذا نقتل أرواحنا بأيدينا؟! لماذا نطعن قلوبنا بسهامنا؟! الناس من عداوة أنفسهم لأنفسهم يجلبون ما يطعنون به أنفسهم، ويتسلطون به على أنفسهم إلا من رحم الله وقليل ما هم.(6/14)
عداوة التثبيط والإرجاف
إذا عجز العدو عن أن يبيدك إبادة مباشرة، ثم عجز عن احتوائك وتجييرك لكي تكون عدواً لأمتك وأنت في صفوفها، ينتقل إلى مرحلة ثالثة وهي: عداوة التثبيط والإرجاف.
تجد إنساناً ليس من شرط أن نكرهه أو نبغضه، لكن هو مصدر عداوة، كيف؟ تجده إذا جلس في مجلس يقول: يا إخوان انتبهوا، إنكم على خطر، كل واحد يدخل في بيته ويسكت ويذكر الله، لا تجتمعوا، اتركونا من الأشياء هذه، رجاءً المدرج الفلاني لا توزعوا فيها أشرطة، الكتاب الفلاني فكونا من شره، يا إخوان! اتركوا هذا العرس يمر على خير، اتركوا هذه المناسبة تمضي على ستر تجد الرجل ليس عدواً يقتل، وليس منافقاً دخيلاً، ولكنه عدو من جهة الإرجاف والتثبيط، إذا رأى ثلاثة يخرجون في رحلة، قال: يا إخواني أين تذهبون؟ دعونا من المشاكل والفتن والمصائب! إذا رأى مخيماً أو معسكراً قال: يا ناس خافوا رب العالمين، نحن آمنون ومطمئنون، أهؤلاء العشرون ذاهبون يتدربون على إنزال مظلي من أجل أن تخاف أنت؟! سبحان الله العلي العظيم! فهذه عداوة الإرجاف والتثبيط، وهذا هو الأمر الذي أريد أن أطيل النفس فيه.(6/15)
الجمود والخمول
أعود من العنصر الثالث لأنتقل إلى النقطة الرابعة، ولا أسميها عداوة، ولكنها نوع من وسائل الضعف والهوان، ألا وهي: الجمود والخمول.
تجد إنساناً طيباً، لكنه غبي جهول، وحملٌ وديع، يخاف من الظل، ويفزع من السوط، ويرتاع من الوجبة، وتجده مجرد إنسان صالح وصلاحه لنفسه، ونحن نقول: الله يجزيه خيراً ويثيبه ويحفظه، وندعو لمثل هذا الشاب، وكما جاء في الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) لكن إذا انتشر في الأمة داء الضعف، وداء الهوان، وكلٌ يقول: نفسي نفسي، وتجد الرجل أول من يدخل المسجد، لكن جاره الذي لا يصلي لا ينصحه تجد الرجل يصوم الإثنين والخميس، لكن يرى المتبرجات غاديات رائحات في الطريق ولا ينصحهن تجد الرجل خير من يبذل ويتصدق في سبيل الله، لكنه يرى من الأشياء التي بوسعه وبمقدوره أن يقوم بتغييرها أو إنكارها، أو عمل شيء تجاهها، ومع ذلك لا يعمل، وهذا كما يقال: فيه غفلة الصالحين، ونحن لا نسمي هؤلاء أعداء، بل وجود هؤلاء على مستوى الخير والبركة والصلاح رحمة للأمة، لكن ماذا عليهم لو أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؟ ماذا عليهم لو قاموا بدورهم وواجبهم تجاه هذه القضية؟ أقول: هذا فريقٌ ليس -والله- من الأعداء، بل نحن نحبهم وندعو لهم، ونرفع بهم الرءوس، ولكن كما قال القائل:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمامِ
ألا وهو ذلك الضعف أو الجمود أو الخمول الذي إذا اجتمع الخامل مع الخامل، والضعيف مع الضعيف، والكسول مع الكسول؛ انتشر الداء فيما بينهم، وأصبح المتحرك النشيط بدعاً غريباً عجيباً شاذاً نشازاً في صفوفهم، لأجل ذلك نقول: ينبغي لمثل هؤلاء أن يتحركوا حتى لا يقع أحدهم يوماً ما بضعف أو كسل ربما يقوده، فيكون -ولا حول ولا قوة إلا بالله- شجن أو شوكة أو غصة في نحر إخوانه في المستقبل، وما يدريه قد يكون كذلك، نسأل الله لنا ولكم الثبات.(6/16)
العداوة بالتخويف
الصنف الثالث الذي هو صنف المثبطين والمرجفين، الذين لا نقول: إنهم أعداء في ذواتهم وأشخاصهم، لكن هم في الحقيقة يمثلون دور عدو من حيث لا يشعرون، ألا وهم الذين يمثلون دور الإرجاف والتثبيط، وهذه القضية لاحظتها كثيراً في كثير من المناطق، تجد منطقةً الشباب الطيب فيها كثير، الملتزمات فيها كثير، الصالحون فيها كثير، الصالحات فيها كثير، ولكن يوم أن تقول لأحدهم: يا أخي الحبيب! ما الذي يمنعك وما الذي يردك عن أن تقوم بدورك وواجبك تجاه الدعوة إلى الله جل وعلا؟ وأنت قادرٌ أن تتكلم، فإن عجزت عن الكلام فأنت قادرٌ على أن تجمع من إخوانك عدداً تذهب أنت وإياهم إلى درس لأحد العلماء، أو لسماع محاضرة، أو لحضور ندوة، أو لزيارة عالم من العلماء، فإن عجزت عن ذلك فلست بعاجزٍ عن أن تشتري عدداً من الأشرطة توزعها في مناسبات، أو في زواج، أو في لقاء، وإن عجزت عن ذلك فلن تعجز عن كتيبات توزعها في أي مناسبة؛ لعل الله أن ينفع بها فيقول: والله تعب، أنا ليس عندي قدرة على الكلام، لكن عندي جلد فأنا مستعد أن أمر على شباب من الفاسدين المنحرفين يومياً وآخذهم، وأذهب بهم، وأحاول أن أحفظ أوقاتهم من الضياع، وبدلاً من أن يجلسوا مع أهل الشر أضمن لهم الجلوس في أماكن الخير، وبدلاً من أن يسهروا على الفساد أذهب بهم إلى حلق الذكر ومجالس العلماء، وبدلاً من أن يسافروا إلى دول فاجرة أسافر بهم إلى مكة والمدينة، ونزور الشيخ ابن عثيمين في القصيم، ونزور الشيخ ابن باز في الرياض فيقول لك: أنا أقدر على ذلك، أو يقول لك آخر: أنا قادر، عندي خير، وعندي فلوس أن أشتري مائة شريط شهرياً بثلاثمائة ريال، ما أعجز عن توزيعها على أقاربي وجماعتي، أو في مناسبة من المناسبات، أو شباب أعرف عنهم الاجتماع والتسكع في الطرقات، وإشغال بنات المسلمين بالمعاكسات لكن هنا تبدأ صورة العداوة حينما يقول: أنا أقدر أن أدعو لكن أخاف، أنا أقدر أن أوزع شريطاً لكن أخاف، أنا أقدر أن أوزع كتاباً لكن أخاف حسناً! تخاف ممن؟ هذه هي عداوة الوهم، أن الإنسان يتخيل أنه على خطر، وهو ليس على خطر، قيل: إن أحد الأطباء جاءه رجل إذا مشى يطأطئ رأسه، فقال له: ما بك؟ ارفع رأسك.
قال: لا، لا، فأخذ يعالجه فوجد أنه مصاب بمرض نفسي، يتوقع أن فوق رأسه جرة كبيرة من الطين من الفخار، ويمشي هكذا ويخاف أن تقع الجرة، حتى جاء أحد الأطباء، وقال: ائتوني به في اليوم الفلاني، فلما دخل كان قد وضع فوق بوابة المدخل جرة، فلما دخل كسر الجرة المعلقة على البوابة، فالتفت الرجل وقال: آه، تصدق يا دكتور هذه الجرة كانت تشغلني سنوات طويلة، ما كنت أستطيع أن أمشي!! والله لا على رأسه جرة ولا هم يحزنون، فالذين يخافون من دور الدعوة، والذين يخافون من المشاركة في الدعوة إلى الله، والقيام بالمشاركة في شرف الدعوة إلى الله؛ هم في الحقيقة مثل الذي يتخيل أن على رأسه جرة فخارية، ولذلك تجد الخوف قد كسر ظهره وأحنى ظهره، فلا يستطيع أن يتصرف أو يتحرك.
أقول: يا أخي الحبيب! لماذا الخوف؟ أسألك بالله حينما تشتري مائة شريط من تسجيلات إسلامية وتوزعها، الشريط الذي اشتريته هل أتيت به سراً ما عرف عنه موظف الجمارك في المطار؟ الشريط الذي اشتريته ونسخت منه مائة نسخة هل أتيت به مع باخرة لم تكتشفها خفر السواحل؟ الشريط الذي أنت الآن توزعه هل هو ممنوع؟ أبداً، تجد عند كل تسجيلات إسلامية شريط: احفظ الله يحفظك المحاضر: فضيلة الشيخ الداعية عائض القرني، فسح هذا الشريط من وزارة الإعلام برقم وتاريخ، شريط مفسوح من وزارة الإعلام، قد مرَّ على رقابة ليست رقابتك، وفتحته وأذنت ببيعه، فقل لي بالله عليك: ما الذي يخيفك من شرائه وتوزيعه وإهدائه؟ والله -فعلاً- نحن عندنا وهم أننا نمارس أشياء ممنوعة! وآخر تقول له: الزواج الفلاني سوف يحضر فيه مائتا رجل ومائتا امرأة، فما رأيك أن توزع على النساء كتيب: يا فتاة الإسلام احذري سماعة التليفون، وتوزع على الحضور كتيباً اسمه: العقيدة الصحيحة وما يضادها لسماحة الشيخ ابن باز؟ فيقول: لا والله، أنا أخاف أن يلتفت الناس إليَّ ويقولوا: فلان صاحب توزيع، فلان صاحب نشرة! أنت توزع ماذا؟! هل توزع مخدرات؟! تيكونات؟! كبتل جول؟! كوكائين؟! هروين؟! ماذا عندك؟! توزع كتاباً صدر الإذن بطباعة هذا الكتاب من إدارة المطبوعات والنشر من وزارة الإعلام برقم وتاريخ، ما دام صدر الإذن في طبع وتوزيع ونشر هذا الكتاب، فما الذي يخيفك من الدعوة؟! هنا تظهر عداوة الإنسان لنفسه، عداوة الوهم، أو كما يظن البعض ويقول: والله يا أخي أنا إنسان مراقب، ولأجل ذلك لا أستطيع أن أمارس الدعوة باسم الله عليك أيها المراقب! أين أنت؟ هل أنت في العراق وشياطين البعث تراقبك؟! وافرض أنك مراقب، ماذا يحصل؟ إذا اشتبه رجل الأمن في قضية فمن حقه أن يراقب حتى تتضح المسألة، وأهلاً وسهلاً برجل الأمن، إذا أتى، فافتح له البيت، أنت ما عندك شيء، وقل له: تفضل، مع أن هذا ما حصل، لكن أنا أريد أن أزيل هذه الشبهة والأوهام التي تعلق بها بعض الشباب وقعدوا عن الدعوة، وبعض الناس الذين يرون أن من الاتزان والحكمة والهدوء والرزانة أن الإنسان لا تصير مهمته توزيع أشرطة وكتب وأشياء مثل هذه، هذا من الاتزان والهدوء والرزانة! لا، هذا -يا أخي الكريم- من الخوف والعداوة التي استحكمت بوهم جعلك رعديداً خوافاً، ترغب أن تمارس الخير فتعجز عن فعله، فيا أخي الحبيب! إياك أن تبلغ عداوة نفسك لنفسك، أو عداوة الوهم فيك ومن حولك إلى درجة أن تعطلك عن الدعوة والمشاركة في الدعوة إلى الله جل وعلا.(6/17)
عداوة الأوهام والخوف
أيضاً صورة أخرى من صور العداوات: عداوة الأوهام والخوف يأتي إنسان ويقول: والله يا أخي هؤلاء الدعاة أناس طيبون، والشباب الملتزمون أيضاً طيبون جداً، لكن -يا أخي- يقولون: إن عندهم أشياء وما هذه الأشياء؟! هل معهم تحت الأرض طائرات فرلين؟! أو هناك مطار سري في أي مكان؟! هذه مصيبة، فعلاً لما يقول لك: عندهم أشياء، تعال ما هذه الأشياء؟ مدفعية ميدان! صواريخ! مضاد طائرات أباتشي! قاذفة! دبابات! يا أخي الكريم تعال وأخبرني ماذا عندهم، أنا أقول: من واجبك أن توضح كل تساؤل يطرأ في ذهنك، لكن عداوة الوهم والخوف التي تعشعش في ذهنك، وتقول: هؤلاء عندهم، وهؤلاء عندهم، تعال يا أخي ادخل بيتنا، وادخل بيت الشيخ، وادخل بيت فلان، وتعال وستجد فتح الباري لـ ابن حجر، وتحفة الأحوذي، ومعالم السنن للخطابي، وصحيح سن أبي داود للألباني، وشرح الرحبية، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ما هي الكتب الموجودة عندك؟! قضية عندهم وعندهم وعندهم هذه من الأشياء التي سمعتها أكثر من مرة عند بعض الناس، ويقول لك: فقط يا أخي ما أدري ما وراء هؤلاء المطاوعة؟ إنها مسألة غريبة ومضحكة وعجيبة! وإني أعجب من أناس تعرفه مرة تلقى معه دكتوراه، أو ماجستير، أو يدرس في جامعة متطورة متقدمة، ويقول: هؤلاء عندهم كذا! تجد الرجل -لو تدخل المعمل- اكتشف أدق الميكروبات، أو لو عمل معادلة حسابية لاكتشف (سين) المجهولة، أو يعمل شيئاً يكتشف العلة بالضبط، لكن أكبر حقيقة لا يعرفها، سبحان الله العلي العظيم! أكبر حقيقة إطار هذا الموضوع تجده لا يراها! إن بعض الناس يصدق فيه ما حصل للطفيل بن عمرو، لما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، قيل له: إنك تأتي إلى رجل كلامه السحر، فاجعل في أذنيك الكرسف -وهو القطن- حتى لا يؤثر عليك، فأخذ الطفيل بن عمرو القطن ووضعه في أذنيه، وذهب إلى مكة حتى لا يسمع، ثم قال: أما وإني من أشعر العرب، وأميز سجع الكهان من الشعر وغيره، فلماذا لا أزيل هذا القطن وأسمع، فإن كان ما يقول محمد حقاً قبلته، وإن كان باطلاً رددته؟ فجاء وسمع من النبي، فسمع كلاماً حقاً، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فنحن نقول للذي قتله الشيطان بعداوة الوهم والخوف والإرجاف والتثبيط (عندهم ما عندهم، وراءهم ما وراءهم): هل هي منظمة سرية؟ ثم إن الدعوة إلى الله جل وعلا بفضل الله ينبغي ألا يوجد فيها حزبية، وأن تخرج عن إطار الحزبية الدعوة إلى الله في المساجد، الدعوة إلى الله علناً، لا يتردد الداعية أن يطرح الحق الذي عنده على الرصيف، أو في مقهى في شيشة، أو في مطعم، أو في مسجد، لأن عنده حقاً لا يتردد في تقديمه، وليس عنده شيء يخفيه أبداً، الحق واضح، وبفضل الله جل وعلا ما قد رأينا محاضرة سرية، وإلى الآن ما رأينا مشروعاً سرياً أبداً، بل يدعى الناس أن يأتوا، ولعلنا نطلع على ما يخطط العلمانيون الذين كانوا كفأر يوسوس خلف حائطٍ، نعم هؤلاء أعداؤكم، ولا تقولوا: ما عندنا أعداء، لنا أعداء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أعداء يخططون في الليل والنهار، سراً وجهاراً.
إذاً: فالدعاة الذين كلامهم ومحاضراتهم وحديثهم على الملأ في وضح النهار والله ليسوا بأعداء، إنما الأعداء كما قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48]، الأعداء الذين يتهامسون سراً، ولا ينبغي أن يوجه إليهم الإعلام حتى يفسدوا الأمة، هم يتمنون ذلك، ولا يلزم من كلامي هذا أن يوجد الآن من يفسد، قد يوجد ونحن لا نعلم الغيب، لكن عداوة الإرجاف والتثبيط هذه هي التي قتلت، لذلك أقول: أخي الحبيب! إياك إياك أن تكون عدواً لإخوانك أو لنفسك بعداوة الوهم والإرجاف والتثبيط التي يزخرفها ويزينها ويوسوس بها الشيطان عليك.(6/18)
هل وجود الأعداء يضرنا؟
ختاماً: هل وجود الأعداء يضرنا؟ لا والله {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15 - 17] {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50 - 51] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36]، كم أنفقت روسيا في أفغانستان من مليارات؟ وماذا كانت النتيجة؟ حسرة التمزق، وحسرة التفكك، وحسرة الضياع التي انتهت إليها تلك الإمبراطورية الهشة على عقيدة مضادة للفطرة، أو على نظرية مضادة للفطرة.
إذاً: فوجود العدو لا يزيدنا إلا تماسكاً، ولا يزيدنا إلا إعداداً، ولا يضرنا، وموقفنا تجاه الأعداء أن نعمل ونجتهد، وأن ننشر الخير في مجتمعاتنا يا إخوان! الأعداء يخططون من مبدأ انتج اسمه: تنبؤات المستر أداموت، هذا الفيلم عجيبٌ جداً، والذي أنتج هذا الفيلم ذكي بطريقة عجيبة، أراد من خلاله أن يقول: إن رجلاً اسمه أداموت، تنبأ منذ القدم بوقوع كوارث في العالم فوقعت، وتنبأ بأشياء كثيرة، منها مقتل كذا رئيس أمريكي، فقتل في المكان والزمان الذي حدده، وتنبأ بسقوط شاه إيران؛ فحصل، وتنبأ بـ النازية وهتلر وحصل، وتنبأ بـ موسليني؛ وحصل، وتنبأ بالحرب العالمية الأولى والثانية؛ وحصلت، ثم يقولون: الآن وقد تنبأ بحصول معارك طاحنة ستكون بين رجل يخرج من جزيرة العرب، فيقاتل الغرب، ثم يضرب نيويورك، ثم بعد ذلك تستخدم في هذا الأسلحة الروسية، ويرد على المارد العربي القادم بأسلحة مضادة، ثم يشمل العالم دمار رهيب، ويصيب العالم رعب مخيف جداً.
عداوات متطورة، ليست عداوات شتم، ولا عداوات سباب، وللأسف نحن -معاشر المسلمين- حينما نقف في مواجهة عدو، وحينما نثبت في مضادة خطر، تجد أن عندنا سبعين في المائة كلام، وثلاثين في المائة عمل، إلا من رحم الله من المسلمين، لكن الأعداء ما رأينا يوماً زعيماً كافراً يسب ويشتم المسلمين، لكنه يطحن المسلمين طحناً، ويعذب وهو ساكت نعم، العداوة التي تترجم إلى عمل، نحن نريد أن نترجم مواقفنا تجاه الخطر، وتجاه العدو، وتجاه كل شيء يهددنا أن نترجمها إلى عمل، عندنا خطر وافد علينا، نترجم هذا الخطر بالاهتمام بأولادنا، بالاهتمام بالنشء، بالاهتمام بالشريط الإسلامي الاهتمام بالكتاب نشر الخير مضادة المنكر مضادة أهل الفساد مضادة الذين يريدون قلب الهوية من إسلامية إلى علمانية، ومن توحيد خالص إلى شوائب مختلفة، نترجم هذه المواقف إلى برامج عملية فهل تستطيعون؟ وهل تقدرون؟ وهل تفعلون؟ نسأل الله أن نكون من العاملين، وأسأله سبحانه وتعالى أن يكون ما سمعناه حجةً لنا لا علينا، وأنتم -يا أحبابي- ما سمعتموه من حق وصواب فهو من الله وحده لا شريك له، ليس مني، ولا بي، ولا إليَّ، ولا لي، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً على حضوركم، وصلى الله وسلم على محمد.(6/19)
كشمير ومآسيها
كشمير مأساة بيّنت الحقد الهندوسي على الإسلام والمسلمين، فيها قصص تقشعر لها الأبدان، وإحصائيات تفوق الخيال.
ومن أجل ذلك كان لابد لكل مسلم يعيش قضايا إخوانه المسلمين أن يعلم مآسي المسلمين هناك وماذا يفعل الهندوس بهم، وما هي أساليبهم وسياساتهم للقضاء على المسلمين، وما هو دور اليهود في هذه القضية، وبعد ذلك سيتضح لك أن لا خيار للشعب الكشميري إلا الجهاد والجهاد فقط، فهل سيجدون منكم ناصراً ومعيناً؟!!(7/1)
لمحة عامة عن كشمير
الحمد لله، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: حديثنا اليوم رسالةٌ مهمة، وبرقيةٌ عاجلة خطيرة، عن قضيةٍ منسية، أو مجهولةٍ عند بعض المسلمين، صرخات لم نسمعها، حتى رأينا أفواه القتلى مفغورة تدل عليها، وحناجر بُحَّت لم نلتفت لها حتى رأينا بصمات المُدى وآثار السكاكين على حلوق الأبرياء، ودموع سكيبة لم تُمسح حتى سال الدم بدل الدموع على الخدود.
ولكنني لما رأيتك غافلاً وقد كنتَ لي كفي وزندي ومعصمي
بكيت دماً يوم النوى فمسحته بكفي فاحمرت بناني من دمي
فلو قبل مبكاهم بكيت صبابةً لكنتُ شفيتُ النفس قبل التندمِ
ولكن بكوا قبلاً فهيَّج للبكا بكاهمْ فقلت: الفضل للمتقدمِ(7/2)
حال مسلمي كشمير
استغاثات تترا من مسلمات تُهتك أعراضهن، ولم يجدن من ينجدهن حتى رأينا جثثهن في النهر شاهدةً على الفرار من الاغتصاب، وبيوت هُدِّمت، ومنازل أحرقت، فلم يُلتفت لدخان الحريق، أو وجبات الجدران والأعمدة حتى رأينا المهاجرين والمشردين والجوعى والعراة، فهل بتنا لا نصدق حفوف المخاطر بنا حتى نرى فعل الطغاة والبغاة في أبداننا! أيها الأحبة: هذا كله في كشمير أرض المستضعفين الذين يقولون: ربنا هيء لنا من أمرنا رشداً، واربط على قلوبنا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.(7/3)
موقع كشمير
كشمير أقليم كأنه جنةٌ من جنان الله في الأرض، يجاوره جواراً غاشماً الاستعمار الهندوسي من الجنوب الشرقي، والصين الشيوعية الملحدة من الشمال الشرقي، وما يسمى بـ الاتحاد السوفيتي سابقاً من الشمال الغربي، ودولة الباكستان من الجنوب الغربي.
وتمتد حدود هذا الإقليم (جامو وكشمير) مع باكستان إلى أكثر من سبعمائة كيلو متر، بينما الحدود المتاخمة للهند لا تجاوز ثلاثمائة كيلو متر.(7/4)
أصناف السكان وأعدادهم في كشمير
وعدد سكان كشمير: اثنا عشر مليوناً، (85%) منهم مسلمون، والبقية سيخٌ وهندوس.
أرضٌ ريانةٌ فينانة بحدائقها وأنهارها وجبالها التي يجللها بياض الثلوج، أصبحت الآن إقليماً ملتهباً، حرارةٌ على سطحٍ بارد.
وكشمير الآن قسمان: قسمٌ محرَّر.
وقسم محتل.
يتكون من الوادي الكبير؛ وادي كشمير، وجامو، ولداغ، والغالبية العظمى -كما قلنا- للمسلمين.(7/5)
تاريخ كشمير مع الإسلام والمسلمين
ما تاريخ هذه الولاية مع الإسلام والمسلمين؟ في أواخر القرن الرابع عشر قَدِم داعيةٌ مسلم اسمه: بلبل شاه، قدم هذه البقعة الجميلة، فدعا مَلِكَها الذي يسمى: رينجن شاه، فأسلم الملك البوذي، واختار لنفسه اسماً إسلامياً، فتَسمى بـ صدر الدين، وأسلم معه كثيرون من القادة ورجالات الدولة.
واستمر الحكم الإسلامي في كشمير حتى سنة (1819م) حيث استولى عليها السيخ.
وفي عام (1846م) احتلها منبع كل شر، وأصل كل فتنة، ودعاة كل فرقة، احتلها البريطانيون الإنجليز، ثم قام الإنجليز ببيع الولاية وسكانها إلى طائفة من القبائل الهندوسية والوثنية، واسمها: الدوجرة، باع البريطانيون المسلمين والإقليم الذين يعيشون عليه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] بِيْع الرأس المسلم ذكراً كان أم أنثى، صغيراً أو كبيراً بسبع روبيات.
وفي تلك الفترة نشأت حركة التحرير لولاية جامو وكشمير، بقيادة مؤتمر مسلمي جامو وكشمير، وكانت تلك الحركة تهدف إلى إنقاذ الولاية المسلمة من براثن الملك الهندوسي هيري سنغ، وانضمامها إلى دولة الباكستان المجاورة، فتحرك العملاء ونشط المفسدون وأسسوا حزب المؤتمر القومي لولاية جامو وكشمير؛ لأجل إفساد عمل المسلمين والسعي إلى انضمام الولاية إلى الهندوس، وهذه مصيبة كل المسلمين في هذا الزمن؛ أن تتسلط الأقليات المنحرفة الكافرة على الأغلبيات المسلمة الصالحة؛ أن يتسلط الكفار على المسلمين، ولا أستثني إلا بقاعاً معدودةً محدودةً على وجه الأرض.
لقد تحركت الشبيبة المسلمة في كشمير، واستبسل المسلمون وقاموا بتحرير جزء كبيرٍ من ولايتهم على إثر تلك الإهانات والخيانات، وسَمَّوا ما حرروه: كشمير الحرة، عام: (1947م) واستطاعوا بفضل الله أن يخيبوا وينقُضُوا بمنطق القوة تلك الاتفاقية التي أجراها الملك الهندوسي، والتي تنص على إبقاء وضع كشمير كما هو معلقاً لا يُحسم حسبما وعدوا سلفاً، وما أكثر مواعيدهم، وعدوا أن الشعب الكشميري هو الذي يقرر مصيره بنفسه بأن ينضموا إلى الهند أو إلى الباكستان، ولكن لم يفُوا بهذا.
ولم يقف الظلم عند هذا الحد، بل تعدى الملك الهندوسي وتسلط فأبرم اتفاقيةً أخبث من آنفة الذكر بعد فراره على إثر حملات التحرير المسلمة من قبل الشباب المسلم، حيث وقَّع اتفاقيةً بموجبها يضم كشمير إلى الهندوس، والعجيب أن يتم هذا ويجثم الهندوس على صدور المسلمين في المناطق التي لم تحرَّر من كشمير في وقتٍٍ تتابعت فيه تصريحات زعماء الهندوس السابقين واللاحقين، ومن أبرزها: تصريحات عديدة للهالك جواهر لال نهرو، حيث يقول: إن ضم أي إقليم أو ولاية متنازَعٍ عليها ينبغي أن يبت فيها طبقاً لرغبات الشعب، وإن شعب كشمير سوف يقرر مسألة الانضمام إلى من شاء.(7/6)
خيانة الهندوس لأبناء كشمير
أيها الإخوة: لقد كانت القرارات الدولية المتعلقة بتقسيم منطقة جنوب آسيا عام: (1947م) تنص على: أن تنضم ولاية جامو وكشمير لـ باكستان، وفقاً للقرار القاضي بأن المناطق ذات الأغلبية المسلمة تنضم إلى الباكستان، ولكن وعلى إثر تلك الاتفاقية الزنيمة استعمل الهندوس المحتلون ما ورد فيها، وجعلوا ذلك ذريعةً للسيطرة على الولاية وأهلها، فانتشر الجيش الهندوسي مع جيش الرئيس الدعي الفار، وبتأييد من روسيا، وبدءوا مسلسل القتل والنهب والهتك والحرق على فصول داميةٍ أليمةٍ، لم تنتهِ حتى هذه الساعة.
وفي تلك الفترة هرب ما يزيد على نصف مليون مهاجر إلى الباكستان، وقامت الحكومة الهندوسية، فأعلنت خدعةً لمن يريد السفر إلى باكستان أنها سوف تساعده، ولا تمانع من هجرته، فلما اجتمع الأغرار الراغبون في الهجرة فُتحت أفواه الرشاشات على صدورهم ورءوسهم فسقطوا على إثر ذلك، وسقط ما يربو على نصف مليون قتيل ما بين رجلٍ وامرأة، وعجوزٍ ورضيع، وبعد هذا كله رُفعت هذه القضية إلى أروقة الأمم المتحدة (الأمم المتحدة على المسلمين) رُفعت أوراق القضية لتتمطى في أدراج ومقاعد هيئة الأمم ولتعيش مخاضاً أليماً أنتج قراراً مشوهاً، وهو: وقف إطلاق النار في الولاية، وعدم انسحاب الهندوس من أرض المسلمين.
وفي عام: (1949م) تم ذلك وليس ببعيد أن يكون هذا القرار وميلاده لَمَّا خيف على الهندوس من حملات المسلمين وجهادهم المستميت، ولَمَّا خُشي أن تسري روح الجهاد في نفوس الناس هناك، ثم أنتجت تلك القرارات التي نصت على إجراء الاستفتاء في الولاية ليقرر الشعب مصيره، ولكن لم يذعن الهندوس لهذا، أو يظهروا جديةً في تطبيق القرار، أو يفوا بوعود زعيمهم جواهر لال نهرو، بل تجاهلوا ذلك كله، واليوم بدءوا ينكرون القضية من أصلها، متجاهلين ما سلف منهم وعنهم؟ وفي عام: (1965م) قرر المسلمون أن يقوموا بالجهاد المقدس ضد الاستعمار الهندوسي، ولما انطلقت شرارة القتال الأولى حمل المسلمون حملاتٍ باسلة أفزعت الهندوس، فلم يجدوا مخرجاً سوى توسيع دائرة المعركة، فلما نشبت المعركة رد الهندوس بهجومٍ شامل استهدف كشمير وباكستان بالدرجة الأولى من أجل خلط أوراق القضية، ومع هذا باء الهندوس بفشلٍ ذريع، وهزائم مخزية، ولما رأى أعداء الإسلام أن الكفة في هذه المعارك لصالح المسلمين تدخَّل الاتحاد السوفيتي سابقاً ليكون حَكَماً في هذه القضية، وكالعادة قُلِبَت الموازين وجُعِل الظالم بريئاًَ، والمظلوم غاشماً معتدياً.
وبعدها التفت الهندوس مرةً أخرى التفاتة الذئب إلى فريسته بعد مطاردةٍ مضنيةٍ منهكة، فقام يجر شحنات هوانه والخزي الذي لحقه، لينتقم في أبدان الجياع والعزل والأبرياء من أبناء كشمير المسلمة، وتلكم صورةٌ من صور انتقام الجبناء.(7/7)
أساليب وسياسات الهندوس
ولم يكتف الهندوس بسلوك الطرق العشوائية البربرية لتصفية المسلمين، بل درجوا على الاستفادة من تجارب السابقين، الذين شهد عليهم التاريخ بممارسة تلك الأدوار الدامية الأليمة، حيث أرسل الهندوس خبراء كباراً إلى أسبانيا ليتعلموا من ملفات محاكم التفتيش، وخبراء إلى الاتحاد السوفيتي ليتعلموا من اضطهاد المسلمين في تركستان الشرقية، وليدرسوا السياسات والأساليب التي انتُهجت لإجهاض صحوة المسلمين وتصفيتهم، وكان أول قرارٍ خرجوا به:(7/8)
نشر الفساد وطمس الهوية الإسلامية
محاربة التعليم الإسلامي، وطمس الهوية الإسلامية، وتشجيع الزواج بالهندوسيات، كل ذلك يسير جنباً إلى جنب مع نشر الفساد، وأشرطة الدعارة، ومواخير الرذيلة، وأماكن الزنا، لإفساد الشعب الكشميري المسلم.
لذا دأب الشباب المسلم في كشمير المحتلة على التحذير من الزواج بالهندوسيات، بل والتهديد، ومهاجمة محلات الخمور والفيديو والسينما، مع السعي الحثيث إلى نشر التعليم الإسلامي ولو بأبسط الأساليب للمحافظة على الهوية الإسلامية في المنطقة.(7/9)
تنشيط العمالة والنفاق بين الشعب
وأما سعي الهندوس لشق صفوف المسلمين، وتشجيع وتنشيط العمالة والنفاق بين الشعب، فحدث عن هذا ولا حرج، ولأجل ذلك شجَّع الهندوس قيام حركةٍ في وسط كشمير؛ حركة علمانية يسارية باسم (جبهة تحرير كشمير المحتلة) والتي ربما تكون سبباً في إشعال حربٍ قادمة بين الهند وباكستان، علماً أن أتباع هذه الجبهة العميلة لا يشكلون نسبة اثنين في المائة من كشمير الحرة.
أيها الأحبة: وحيث يسعى أتباع هذه الجبهة إلى عبور خط الهدنة الفاصل بين كشمير الحرة وكشمير المحتلة وذلك: لتقوم السلطات الهندوسية بالقبض على زعيم الجبهة العلمانية، ولتصنع منه بطلاً ورمزاً يتفاوض الهندوس معه وليغطَّى بذلك على القيادات الإسلامية، ويسحب البساط منها ويسلط الضوء على العميل اليساري.
هذا أولاًَ.
وثانيا: ً لإيجاد فوضى لا حدود لها في باكستان حينما تمنع مسيرة عبور الحدود، حتى لا تندلع الحرب من جديد مرةً ثالثة أو رابعة بين الهند وباكستان.
ومما لا شك فيه أن هذه سياسةٌ هندوسية غربية لفصل كشمير الحرة عن المسلمين، وصرف الأضواء عن القادات الإسلامية، وقادات الجهاد الإسلامي في كشمير إلى قيادات علمانية، كما حصل في كثيرٍ من البلاد المسلمة التي نالت استقلالها ونشرت نفوذَها على أراضيها.(7/10)
الدعوة للردة بعد التهديد
لقد دأب الهندوس ومضوا في عرض أفلامٍ على جماعات السكان من الرجال والنساء والأطفال، يخرجونهم ثم يعرضون عليهم أفلاماً تحمل صوراً ومشاهد وثائقية -صوراً حية- مليئة بالذبح والقتل، والتعذيب والإهانات، ثم يقال لهؤلاء العزل بعد مشاهدة المشاهد الحية والوثائقية: هذا جزاء من أصر على الإسلام ولم يعتنق الهندوسية، وبعد ذلك لا يملك بعض الأبرياء العزل والخائفون الجهلة إلا أن يذعنوا ويرتدوا.(7/11)
محاربة المسلمين ومحاولة إبادتهم
وأما سياسات الهندوس وأساليبهم في القضاء على المسلمين فتتلخص فيما يلي: تغيير المناهج التعليمية في المدارس.
إيقاف تدريس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
نشر الإباحية والفساد الخلقي في المعاهد والكليات.
تشجيع التبرج والسفور.
تشجيع الزواج بين المسلمين والهندوس.
تنشيط الخلاف والشقاق في صفوف المسلمين.
منع ذبح البقر تقديساً لها.
إباحة الخمور والمخدرات.
تأسيس دور السينما والملاهي الليلية وحمايتها.
المنع من تعدد الزوجات.
تحديد نسل المسلمين بنشر كل غذاءٍ ودواء في تركيبه ما يُسبب العقم للرجال والنساء.
هذه الأساليب السلمية ظاهراً، وأما أساليب القمع فأستأذنكم في إزاحة الستار عن مشاهد الحزن والأسى كي نسمع ونرى وقود المعركة، وضريبة المواجهة، وثمن العزة.
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجَّمِ
آلافٌ من المعتقلين دون محاكمة أو وفق قانون يسمح بذلك.
شيوع أعمال العنف.
سوء المعاملة لكل مسلم على نطاقٍ واسع مما سبب موت الكثير من الأفراد.
وتخصيص الهندوس؛ يخصص الهندوس وقد نطق بهذا أحد الدعاة السلفيين الصالحين المعروفين؛ جاء إلى مسجدنا هنا في ليلةٍ من ليالي رمضان، وأخبر والدموع تترقرق من عينيه، وقال: إن الهندوس الآن حينما يريدون أن يمارسوا نوعاً من الذل والهوان، فإنهم ينزلون في قرية مسلمة وبمكبرات الصوت ينادَى المسلمون في بيوتهم أن افتحوا أبوابكم هذه الليلة لأجل ماذا؟ لكي يدخل عبدة البقر فيزنوا بمن أرادوا، ويغتصبوا من شاءوا، ويشذوا ويلوطوا بمن شاءوا، والويل لمن أغلق بابه، فالموت بإطلاق النار من فوهات البنادق والرشاشات لمن أبدى أدنى مقاومة.(7/12)
نماذج من القهر والتسلط على الأبرياء العزل في كشمير
وهاكم نماذج من القهر والتسلط على الأبرياء العزل في كشمير المحتلة: في قرية كنام بوشي بورا، في ليلة الثالث والعشرين من شباط فبراير عام: (1991م) -واسمحوا لي أن أنقل هذه التواريخ بالميلادي- دخل القرية مئاتٌ من جنود الكتيبة الرابعة التابعة للفرقة (68) مشاة، وفي ليلة باردة أُخرج السكان من منازلهم، وأوقف الأطفال والرجال والنساء في ملابس نومهم في العراء، وهم ينتفضون ويقشعرون من البرد، ودقت ساعة الصفر، فدخل الجنود ينهبون ويحرقون ويغتصبون؛ فحطموا الأبواب وطافوا بالبيوت واغتصبوا ثلاثاً وخمسين امرأة؛ أصغرهن: الطفلة ميشرا البالغة من العمر ثلاثة عشر عاماً، وأكبرهن: العجوز جانا البالغة ثمانين سنة، وكل واحدةٍ من الثلاث والخمسين امرأة تعرضت للاغتصاب الجماعي المتتابع المتوالي.
وهاكم قصةً أليمةً لمسلمةٍ انتهك الهندوس عرضها، فكتبت هذه الرسالة تقول فيها: نحن أخواتكم بين براثن الجنود الهندوس منذ أكثر من أربعين سنة، تُنتهك أعراضنا ليلاً ونهاراً، يتعاقب عبدة البقر على عوراتنا، غير أننا منذ سنتين بدأ الهندوس في مزيدٍ من هذه الأفعال، وبصفة جماعية ووحشية، وكم انتظرنا من إخواننا في العالم الإسلامي أن يهبوا لنجدتنا كما قام محمد بن القاسم الثقفي لنجدة مسلمةٍ في السند، ولكننا عندما لم نجد ولم نرَ أي استجابةٍ لصرخاتنا ظننا أن المسلمين لا يعرفون عما حدث بنا، ولا يدرون عما حل بنا على أيدي الهندوس فقررت أن أكتب هذه الرسالة.
تقول المسلمة المغتصبة الهاربة: قررت أن أكتب هذه الرسالة، وأضعها في عنقي وألقي بنفسي في نهر جيلم لعل جثتي أن تصل إلى كشمير الحرة، أو إلى باكستان، وتصل الرسالة معها إلى إخواننا في العالم الإسلامي.
وبالفعل لقد وُجِدت تلك الجثة الغريقة طافيةً على شاطئ النهر، وُجِدَت في كشمير الحرة، ونُشِرت الرسالة في الصحف الباكستانية، ونُشِرت في الصحف الإسلامية، وتُلِيت على أسماع المسلمين وكان ماذا؟
تسعون ألفاً لعمورية التهبوا
واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا نضجاً وقد عُصِر الزيتون والعنبُ
وأما تصفية قادة المسلمين في كشمير: فقد قتل الشيخ محمد فاروق إمام أكبر مسجدٍ في كشمير، أطلق عليه الرصاص في مكتبه بوابلٍ من الطلقات، وعندما شيع المسلمون جنازته لم يقف الحقد الهندوسي في الحياة، بل تبعه حتى بعد فراق الحياة وبعد الممات، أطلقت الشرطة الهندوسية على مشيعي الجنازة بل وعلى الجنازة فوق النعش نيرانها وقتلت الكثير من مشيعي الجنازة.
وأما إخصاء المسلمين وتحديد نسلهم وتهجيرهم وتوطين الهندوس مكانهم كما يفعل اليهود الآن في فلسطين: فحدث عن هذا ولا حرج.
أيها الأحبة: لقد نشطت الجمعيات الهندوسية الداعية إلى تكفير المسلمين وردتهم عن دينهم، وكثفت جنودها في كثيرٍ من المناطق التي يسودها الجهل، وحققت بعض ما تصبوا إليه، إذ ارتد حتى الآن أكثر من (مائتي ألف مسلم) حسب الإحصائيات الواردة، ولا يملك المسلمون في الهند إلا القلق والأسى أمام إخوانهم الذين يرونهم يرتدون وهم عاجزون أن يقدموا لهم شيئاً.
أما هذه الواقعة التي ستسمعونها الآن فتهيئوا بجأش ربيط، وصبروا مشاعركم لاستماعها: استغاثة إلى الضمير من أحد الكشميريين الذين ابتلوا على أيدي مفترسي الهندوس.
يقول المظلوم: في لحظاتٍ غير بعيدة دخلت فرقة من قوات الأمن الحدودية، دخلت بيتي كأنها حيواناتٌ مفترسةٌ من الغابة، وكنت الرجل الوحيد في البيت، أردت الفرار لإنقاذ حياتي ولكن وجدت العافية في إلقاء القبض علي لما رأيت الأسلحة في أيديهم، كنت الرجل الوحيد بين يدي أطفالي وزوجتي، أخرجوني من البيت ثم ربطوا الرباط على عيني، وربطوا يديَّ خلف ظهري وزوجتي وبناتي وأطفالي كلهم ينظرون ويصرخون لهول هذا المشهد، ولكن لم يستطيعوا أن يقدموا شيئاً من شدة الرعب والوحشية، أدخلوني في الشاحنة بعد أن غطوا عينيَّ وربطوا يديَّ، والشاحنة كانت مليئةً بشباب كشمير المسلم، والصراخ والأنين يمزقان نياط القلوب، والجنود يسبون ويضربون بأطراف البنادق، فجأةً علت صرخة مؤلمة حين ضُرِبَت جمجمة المسلم الكشميري بعقب البندقية، فسقط على ظهره مغمىً عليه، ضحك الجنود وقهقهوا؛ لأنهم يتمتعون بهذا المشهد، وكانت الشاحنة تتوجه إلى مقرها المجهول، وما كان لنا إلا أن نتحمل ضربات البنادق، وكان هؤلاء الظالمون يمشون أحياناً على جثث الناس، ثم يدوسون أجسامنا بأحذيتهم، وقفت الشاحنة بعد مسافة استغرقت الساعات، وبدأنا ننتظر مصيبةً جديدةً متوقعة، ما علمنا عن مكان وجودنا إلا بأصوات الطائرات كأننا بجوار مطار سرنغار، كانت أيدينا مربوطة والعيون مغطاة غير مفتوحة، فكيف ننزل من الشاحنة، هذا ما كنت أفكر به حين ضربني أحد الجنود بقدمه وركلني من ظهري فسقطت على كومة الناس كما يلقى كيس الدقيق، ثم تتابع سقوط الآخرين علينا، وأثناء سقوطي شعرت أن في فمي حصاة ملحٍ، نُقِلْتُ في هذه الحالة إلى غرفةٍ حيث وجدت أنني وحيد، وأخرجت من فمي حصاة الملح، ولكنني وجدتها سناً من أسناني فما كان الملح في الفم إلا الدم الذي سال بسبب نزع السن لأن الإصابة كانت شديدة، وفجأةً ضرب أحدهم بساق البندقية على رأسي، فساد الظلام في عيني، ثم وقعت على الأرض مغمىً علي، ولما استعدت الوعي وجدت رجلين، واحداً يمسكني من اليدين، والآخر من القدمين، ونثرا في عيني مسحوق الفلفل فبدأت أتململ من شدة الألم، طلبت شربة ماء، فقيل لي: أتريد ماءً ردد ونادِ وادعُ إلهك الذي تسبح به، ادع إلهك وردِّد كلمةً يرددها المسلمون، يريدونه أن يقول: (لا إله إلا الله) فأخذ يصرخ بملء فيه: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) فقيل له: قف، فقد دنا وصول الماء إلى فمك، وما هي إلا لحظات إلا وجنديٌ هندوسي يبول في فم هذا المسلم، ثم علقوه من رجله إلى سقف الزنزانة والصرخات كانت ترتفع من كل جانب، يقول: شَمَمْتُ رائحة احتراق اللحم، كانوا يطفئون السجائر في أجسام السجناء، والسجين ينادي بصوتٍ عالٍ: الله الله والجنود يستفسرون منه: أين ولدك يا حمار؟ والشيخ يتضرع إليهم بقوله: ابني لم يعد منذ سنتين ولا أعلم عنه شيئاً، أنا أبٌ لأربع بنات، ارحموني لله، فيرد الهندوسيون بقهقهة وهم يتمتعون بتعذيبه: هل تأتي لنا ببناتك لو أطلقنا سراحك؟ ثم ضرب أحدهم الشيخ بقدمه فيسقطه مغمياً عليه، ثم تنبعث رائحة احتراق الشعر، كان الظالمون الهندوس يحرقون لحية الشيخ، ولما بدأ هذا الحريق يشتعل في لحية الشيخ وبلغ وجهه وأخذ يصرخ تقدم أحدهم يطفئ الحريق ببول يبول به على وجه الشيخ.
إلى الآن يقول هذا المسلم: كنت معلقاً وأشعر بأن الدم يجتمع في رأسي ووجهي، وكاد رأسي ينفجر، ولما أفاق الشيخ الذي بجواري من الإغماء، طلب الماء للوضوء، فقال أحدهم: قم وتوضأ بالبول يا حمار.
ثم تقدم الوحشيون إلى شيخٍ آخر، وقالوا له: يا حمار لقد قُتِل ابنك، ولو سلمت إلينا بنتك لأطلقنا سراحك، ثم بصقوا على وجه الشيخ واحداً بعد الآخر، ثم مزقوا لباسه وأظهروه يجرون سوءته، ويسألونه ويقولون: أين كلاشينكوف ولدك؟ كان معظم المعتقلين يقضون حوائجهم من الغائط في أحذيتهم، أما الماء فيقدم في الصباح قليلاً وفي المساء قليلاً في آنيةٍ مملوءةٍ ممزوجةٍ مقذرةٍ بالبول والغائط.
ولا تسل عن عدد الشيوخ والصالحين المسلمين الذين نراهم يهانون بإظهار عوراتهم وسوءاتهم أمام الآخرين، أنواعٌ وألونٌ من الهوان.
وبعد هذا يقول: نقلنا بالطائرة إلى مدينة جامو، وكنا ثلاثين شاباً، بعد الخروج من المطار وصلنا إلى مركز التفتيش، حيث كانت جماعة من المفترسين في انتظارنا.
ثم ماذا جرى علينا من أنواع التعذيب بعد ذلك؟ ألقونا في حافلةٍ ونحن في حالة إغماء، وعاد إلينا الوعي حين مررنا من سوق جامو والجيوش يصبون علينا ألوان النجاسة من البول والغائط والماء الفاسد، وهنا ازدحموا وبصقوا علينا وركلونا، وقالوا لنا: مبروك التحرير، خذوا الحرية، وذوقوا لذة الاستقلال.
بعد ذلك: وصلنا إلى مركز تعذيبي في جامو وواجهنا أشد أنواع التعذيب في أول وهلة، كووا أجسامنا بقضائب متأججة، وأدخلوا شموعاً مشتعلةً في بطون الشباب، وأنواعاً من الحديد ملتهبة في أدبار الرجال، وكانوا يسوقون الإسطوانات الثقيلة على الأجساد، ومن أنواع الأذى كانوا يجرون الأجفان، والألسنة، والشفاه، وشعر اللحى، وبعد شهرٍ كامل تركونا على شوارع سرنغار في ليلةٍ باردة، سلبوا منا النقود وسلبوا منا كل شيء وبعد ذلك رموا بنا في الشارع، ولما عدنا إلى بيوتنا علمنا أن أقاربنا قد قتلوا، والشباب ألقي القبض عليهم، والنساء المسلمات اغتصبن وانتهكت أعراضهن، وسمعت وعلمت أن كثيراً من النساء ألقين بأنفسهن من سطوح المنازل حفاظاً على أعراضهن في عملية دخول الجنود للقرية، وعملية اغتصاب الأطفال والنساء.
لماذا يذبحون ونستكينُ ولا أحدٌ يرد ولا يُبينُ
أللإسلام نسبتنا وهذا دم الإسلام أرخص ما يكونُ
تغوص خناجر الهندوس فينا وينحرنا التسلط والجنونُ
ونحن نغط في نومٍ بليدٍ وتضحك من بلادتنا القرونُ
وإن المؤمنين بكل أرضٍ شريدٌ أو سجينٌ أو طعينُ
لقد ضاقت سجون الأرض فيهم وما ضاقت بهندوسٍ سجونُ
دم الإسلام مسفوحٌ فمن ذا يرد له الكرامة أو يصونُ
تحاصرنا المجازر كل يومٍ وتهدم في مرابعنا الحصونُ
فكم من مسجدٍ أضحى يباباً وعاث به التهتك والمجونُ
نباد نباد والأموال فينا على هلعٍ يضن بها الضنينُ
فلا خيل الفتوح ت(7/13)
إحصائيات الأحداث في كشمير
عدد الشهداء والقتلى -نسأل الله أن يجعلهم شهداء: (21.
780شهيداً)! والجرحى من الرجال والنساء: (22.
000 جريح)! والطلاب الصغار الذي أحرقوا وهم أحياء في منطقة كبوارة: (220 طفلاً)! و (400) طفلٍ في مدرسةٍ ابتدائية هُدمت المدرسة عليهم! والسجون مليئةٌ بما يزيد على (18.
000) شابٍ، يَلْقَون ألوان التعذيب، والمسجونون غيرهم كثير! وأما الذين أحرقوا: فقد جاوزوا المئات! والمهاجرون: جاوزوا عشرات الآلاف! ومن عزلوا من وظائفهم من المسلمين: جاوزوا الآلاف! وأما اللاتي انتهكت أعراضهن: فقد نِفْنَ على الخمسة آلاف امرأة! عدد النساء اللائي قُتِلن بسبب هتك الأعراض، بسبب توالي الهندوس على فروج المسلمات: مات أكثر من (110) نساء! عدد النساء اللائي هربن وألقين بأنفسهن في النهر: أكثر من (200) امرأة! عدد الحوامل اللائي أجهضن: بلغن (60) امرأة! عدد اللائي توفين خلال عملية الولادة، إذ لا عناية ولا علاج: أكثر من (200) امرأة! عدد الذين قطعوا خصيهم جبراً وقهراً في قرية كيلو بورا: أكثر من (400) شاب، يجرد المسلم، وتُجَر خصيته، وتقطع، ويقال له: حتى لا يخرج من نسلك أو من ظهرك مسلم أبداً! وأما الذين ذبحوا ذبح الشياه أمام الآباء والأمهات: ينيفون على الثلاثمائة شاب! وعدد الأطفال الذين ماتوا بسبب المجاعة والتشرد: أكثر من (230) طفلاً! والمتاجر التي أحرقت: تزيد عن (20.
000) متجر! والمدارس؛ مدارس تعليم القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تزيد عن (550) مدرسة: كلها أُحْرِقت وهُدِّمت! والأنعام التي أحرقت؛ المواشي، البهائم التي يملكها المسلمون، وهي مصدر رزقهم بعد الله؛ تحرق أمام المسلم، وتتدحرج دمعة المسلم وهو يرى مواشيه وأنعامه تحرق: أكثر من (1000) حيوانٍ وبهيمة! أما الزروع: فقد أتلفوا ما تزيد قيمته على (1000.
000.
000)!(7/14)
بيان أن الخيار الأوحد للشعب الكشميري هو الجهاد
أيها الأحبة: ماذا عن إخواننا هناك؟ ومنذ أربع وأربعين سنة وأرض كشمير تودع الخضرة وترويها الدماء، وشعب كشمير يئن تحت وطأة الظلم والبغي الهندوسي ولا من سميع أو مجيب.
نناديكم وقد كثر النحيبُ نناديكم ولكن من يجيبُ
كان لا مناص ولا خيار عن الجهاد على أرض كشمير لإقامة دولةٍ إسلامية، حتى ولو أريقت الدماء، أو تدحرجت الرءوس، فلأن نقدم قرابين النصر والعزة من شباب الأمة لتحيا الأمة عزيزةً أبداً خيرٌ من أن نستسلم للذل والهوان، فتُذْبَح الأجيال تلو الأجيال خوفاً على الحياة، ثم لا نجد الحياة إلا بذلٍ وهوان، وقهرٍ واغتصاب، وهل من سبيلٍ غير الجهاد؟ رغم الوعود الهندوسية ووعود هيئة الأمم الزائفة والقرارات المتحدة ضد المسلمين لم يجرِ استفتاء لأجل مسألة الحكم الذاتي، أو انضمام كشمير لـ باكستان.
هنيئاً للعالم بالنظام الجديد! هنيئاً للعالم بـ هيئة الأمم! هنيئاً للمستضعفين بهذه! هنيئاً لأولئك الطواغيت بهذه الأنظمة الجائرة! أيها المسلمون: هل من سبيل سوى الجهاد، وقتل الكشميري قانونٌ هندي؟! وهل من سبيل غير الجهاد، واغتصاب المسلمة الكشميرية أمرٌ عسكريٌ ملزِمٌ للجندي الهندوسي؟! وهدم المنزل، وإحراق الزرع ضرورةٌ تمليها مصالح الوثنيين؟! لأجل هذا بدأ الجهاد في كشمير، وتفجر في مواقع عديدة، والنصر قادمٌ بإذن الله، بدأ الجهاد بوصيةٍ من أمر الله وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وبدأت المواجهة، وكان ذاك ميراثاً ورثه الجيل المسلم في كشمير من شيوخه وعلمائه، أمثال: الشيخ/ نور الدين الداعية والواعظ المعروف ورئيس جمعية أهل الحديث المتوفى عام: (1405هـ).
والشيخ/ غلام مباركي.
والشيخ/ محمد يوسف شاه.
والدكتور/ غلام علي.
والشيخ/ أحمد وفائي.
والشيخ/ سعد الدين.
من المشايخ الذين حملوا لواء الجهاد هناك.
وبالفعل وعلى أرض الواقع انطلقت شرارة الجهاد، وذاق الهندوس الألم كما ذاقه المسلمون، وصدق الله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
فبحمد الله وعونه بلغ حتى الآن عدد القتلى من جِيَف الهندوس: ما يزيد على (10.
000) هندوسي.
ناهيك عن المغامرات الليلية المثيرة الممتعة في خطف واغتيال القيادات الهندوسية.
وأما تدمير المصالح الاستراتيجية للهندوس فحدث عن هذا ولا حرج.
لقد كانت استجابة الشعب المسلم في كشمير المحتلة أكبر من الإحصائيات، وأكبر من التوقعات المحتملة، فعلى الرغم من هذه المسلسلات البطشية والاعتدائية اليومية إلا أن جموع المتدفقين في مسيرات عارمةٍ أمام الهندوس يزيدون في بعض الأحيان على ثلاثة ملايين ونصف مليون مسلم يملئون الأزقة والطرقات، ويرفضون الاستبداد الهندوسي، يقفون ليسجلوا مع إشراقة كل صباح في الوادي الكبير أو سرنغار أو غيرها بياناً يبشر بفجر قادم للمسلمين، وخيبةٍ وهزيمةٍ لتأبين وطرد الهندوس.
إن المعركة الدائرة التي يقودها المسلمون بقيادة الاتحاد الإسلامي لتحرير كشمير المسلمة والذي يضم إحدى عشرة منظمة إسلامية، قد توحدت في قيادةٍ واحدة ليكسبوا التأييد الشامل من شعب كشمير، الذي وجده قوياً أميناً على حمل هذه الأمانة، وبالفعل تراجع الهندوس وعرضوا عروض الهزيمة والانسحاب، عرض الهندوس على المسلمين في كشمير المحتلة أن يشكل المسلمون حكماً ذاتياً تحت وصاية هندوسية؟ فأبى المسلمون ورفضوا، وأبوا إلا طرد الهندوس والاستقلال التام، وهذا هو الجواب؛ الإباء، الرفض، الامتناع من تقديم وقبول أنصاف الحلول، هذا خيرٌ من العبث في القضية بعد إراقة الدماء.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السَّلَمِ
ولله در القائل:
دعموا على الحرب السلام وطالما حقنت دماءً في الزمان دماءُ(7/15)
نتائج الجهاد الكشميري
فكان من نتائج هذا الجهاد أن تألف ستون ألف شاب مجاهد كشميري، ومنذ سنتين ونصف اختفت المؤسسات الحكومية المدنية الهندية على المستويَين: الرسمي، والشعبي في كشمير، وأما الحاكم الهندوسي في كشمير المحتلة فيسكن ويدير الولاية من ثكنةٍ عسكرية لأنه لا يستطيع أن ينزل في المدينة أو أن يسكن في المناطق المدنية.
وإن النصر قادمٌ بإذن الله، وبوعد من الله القائل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وقد ظهرت علامات هذه الهزيمة للهندوس، حتى أمام الغرب الحاقد، فهذا مراسل مجلة التايم الأمريكية يقول في تحقيق نشره: إن الروح المعنوية للجنود الهندوس في تدنٍ وانهيار، الأمر الذي جعل الحكومة تلجأ إلى فتح باب تعاطي المخدرات بينهم للهروب من أزماتهم النفسية.
وأما حالات الاستسلام وإلقاء السلاح والهرب فحالات كثيرة ولا غرابة.
أقول أيها الأحبة: لا عجب أن يغيبوا بالمخدرات والحشيش عن واقع ما هم فيه؛ لأن من يقدم ليموت ويقتل شهيداً في سبيل الله، ليس كمن يُدْفَع بالتهديد وبالتخدير ليموت في سبيل وثنٍ؛ فَرْجاً كان أو بقرةً أو شُعلةً من نار.
أيها الأحبة: والله لو أن ما حل بالمسلمين حل بالنصارى لدقت نواقيس الكنائس، وما كفَّت أجراسها عن العزف، ولما خلع النصارى ثياب الحداد في جميع أنحاء العالم؛ ولكن فليعلم الكفار أن الإسلام قادم، وليعلم الكفار أن العملاق ينتفض ليقوم، وتلك سنة ووعد من الله وعقيدةٌ ننتظر حلولها، إن أدركناها أو سوف يدركها أبناؤنا أو أبناء أبنائنا: (ليُظْهِرَن الله هذا الدين، وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يبقى بيت مدرٍ ولا حجرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل).(7/16)
اليهود وراء كل حدث
أيها المسلمون: لقد بات جلياً واضحاً أن اليهود مع الهندوس ليسوا غصةً في حلوق الدول الإسلامية المجاورة فحسب، بل امتد شرهم -كما هو من قبل- إلى كل منطقةٍ للمسلمين فيها قوة أو طريقٌ إلى القوة، لقد بات جلياً أن الهندوس يقومون بدور السكرتارية المطيعة للخطط اليهودية، ويقومون بتنفيذها أيضا لإيذاء المسلمين وإبادتهم.
ولقد ظهرت فضيحةٌ عجيبة؛ كشفت الكوماندوز الإسرائيليين الذين اختطفوا وهم في مهمةٍ لمساندة الجيش الهندوسي، وقد تستر الهندوس عليهم بدعوى أنهم سواح قدموا من تل أبيب؛ ولكن أبى الله إلا أن يكشفهم ويفضحهم، فقد شهد شاهدٌ من أهلها، وأفاد المحللون العسكريون من مصادر عسكرية في لندن وغيرها، أن هؤلاء الكوماندوز تدربوا خمسة أشهر في تل أبيب، ثم توجهوا إلى نيبال والهند ودخلوا حتى في كشمير، ودنوا حتى بلغوا موقعاً قرب المفاعل النووي الباكستاني ومعهم من المتفجرات ما يكفي لتفجير المفاعل من بُعد أو عن طريق الرادار.
ولم يعُد اتحاد اليهود مع الهندوس أمراً جديداً فهم يقفون على خطٍ متقدم في مواجهة قضيتين مهمتين: الأولى: يقف اليهود مع الهندوس لتنفيذ أمرين مهمين في كشمير: كسر شوكة المسلمين في كشمير.
وفي الهند عامة.
والثانية: ضرب المفاعل النووي الباكستاني، الذي صرح رئيس هيئة أركان الجيش اليهودي عام: (1986م) عنه بقوله: إن المفاعل النووي الباكستاني هدفٌ لا بد من ضربه؛ لأنه قوةٌ إسلامية تهدد أمن اليهود.
وإلا فما الذي يعنيه أيها الأحبة: وجود (350) رجل كوماندوز يهودي يتعاونون مع الهندوس لضرب المسلمين في كشمير؟! لقد كشفت هذه الحادثة؛ حادثة اختطاف الكوماندوز الإسرائيليين أبعاداً لتعاونٍ وثيق الصلة، ومتين الرابطة بين عُبَّاد العجل وعُبَّاد البقر، بين اليهود والهندوس، ألا وهي: أن وجوداً نشطاً للموساد الإسرائيلي يعمل في الهند على تجنيد العديد من الهندوس وإرسالهم للعمل في البلاد العربية تحت مهنٍ متعددة، ووالله لو يعلم المسلمون ما يسعى الهندوس أولئك الذين ترونهم فتحتقرونهم وتظنون أنهم يهزون رءوساً غبية، لو تعلمون ما تسعى إليه قياداتهم وما يسعون إلى تحقيقه من تنامٍ وسيطرة لما ترددنا لحظة في مقاطعة هذه الشريحة النجسة من البشر؛ مقاطعةً اقتصادية لا تقف عند حد الصادرات الضرورية، بل مقاطعةً عامة، ولا تقف عند حد استيراد السلع منهم بل تتعداها إلى تسريح كل رعاياهم من بلادنا ونستثني المسلمين منهم.
هل يعلم المسلمون أن الهندوس يحلمون أن يجعلوا المحيط الهندي من سنغافورة إلى السويس بحيرةً هندية؟! وهل يعلم المسلمون أن الهندوس يسعون ليكونوا قوةً عسكرية يمدها الغرب لتكون عصا التهديد لكافة دول منطقة شرق آسيا؟! وإلا فما الذي يعنيه سكوت الغرب عن أفعال الهندوس؟! وما الذي يعنيه تصريح متعصبٍ هندوسي اسمه الدكتور/ باتين! يقول: إن حاجة الهند إلى البترول تلح عليها بضرورة الالتفات إلى الجزيرة العربية والعراق والخليج وأن الهند قوةٌ بحرية عظيمة، ومن الواجب أن يتحول المحيط الهندي من سنغافورة إلى السويس ليصبح خليجاً تملكه الهند؟ وقد لا يظهر كل ما يضمره الهندوس، قد لا ترونه في لحظةٍ واحدة؛ لأنهم يعملون بالحكمة الهندوسية التي ورثوها عن أبيهم الروحي جوتليه، حيث يقول: إذا أردت قتل عدوك فأظهر له العلاقة، وإذا عزمت على قتله فعانقه ثم اطعنه وحينها اذرف عليه الدموع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون.
وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(7/17)
لا خيار إلا الجهاد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة: تصبروا ولو تصبب العرق على أجسامكم فقد صُبَّ الرصاص على إخوانكم.
قد يقول قائل: لماذا يَزُج المسلمون بأنفسهم في حروبٍ سابقةٍ لأوانها، ومعارك غير متكافئة، أو لا نجد فيها على الأقل أوليات وأسس العمل العسكري، حتى إذا اصطلى المسلمون بلهيب المعركة صاح الصائحون، وناح النائحون، يبكون بالدموع ويتحدثون بالدماء عما حل بهم على إثر تلك المواجهة الجائرة؟ الجواب على هذا أيها الأحبة يتضح حينما نسأل ونقول: وهل ترك الأعداء للمسلمين شيئاً يخافون عليه؟! هل بقيت مساحة لم تلوث بالقتل والسلب والاغتصاب والاعتداء؟! ماذا بقي للمسلمين حتى يحافظوا عليه في كشمير بدعوى العقلانية والاتزان؟! هل بعد ذبح الأئمة، وهدم المساجد، وإخراج الناس، واغتصاب العفيفات حيزٌ لمصلحةٍ أو مكاسب يحافظ عليها المسلمون حتى لا يدخلوا في الجهاد مع أعدائهم؟! وإلى متى العيش في ذلٍ وهوان؟ حتى يخرج الغائب صاحب السرداب.
وهل في السرداب أحد؟! وإلى متى هذا كله؟! لأجل هذا لم يكن أمام المسلمين خيار في إعلان الجهاد، حتى ولو أدى وأفضى إلى مُضِي الأرواح والدماء والأشلاء في الطريق؛ لتكون وقود المعركة الحاسم، ومعالم في طريق الفجر المرتقب.
وما الذي يضير الأمة أن تبذل العشرات والمئات أو الآلاف من دمائها وأموالها بإرادة واختيار، وعزةٍ واستشهاد؛ ليجني الملايين ثمرة هذا الغرس الطاهر الذي سُقِي بالدماء، ليجنوا ثمرتهم نصراً وتمكيناً، فيعبدوا الله وحده لا شريك له؟! إذا كان الدم في كشمير ثمناً لا بد من تقديمه، ولا بد من بذله ضريبةً على الإسلام، فلأَنْ نبذل الدماء في الوقت الذي نريد، وفي الزمن الذي نريد، وعلى المساحة التي نريد، وفي المعركة التي نريد، خيرٌ آلاف المرات من دماءٍ تسفح رغماً عن أنوف أصحابها.
لست بهذه الخطبة أدعو إلى شن هجومٍ شامل، أو حربٍ مباغتة، فهذا أمرٌ يقدره المرابطون عن قرب، المصطلون بجحيم المعركة الملتهبة على ذلك السطح البارد في أرض كشمير، وما أخال أولئك المرابطين قد فعلوا هذا أو أقدموا عليه إلا بفتوى من علماء المسلمين الذين يعنيهم الأمر، يقدرون معها رجحان المصلحة على المفسدة، وأياً كان الواقع في كشمير المحتلة؛ جهاداً، أم إعداداً، أم حرباً شاملة على المشركين والوثنيين، فإننا وإياكم لا نعذر أبداً في الإعداد للمعركة قبل بدايتها، وما دامت قد بدأت فهذا يحملنا مسئولياتٍ جسام أن نتخذ مواقعنا في كل مكانٍ منها.(7/18)
دعوة للمشاركة في الجهاد الكشميري
أيها المسلمون: لسنا بهذا ندعو كل أقلية مسلمة أن تزج بنفسها في أتون الصراعات ولهيب المواجهات، تحت حماس العاطفة، وجبال الأمل التي ربما ذابت على طول الأمد، وحرارة المعارك.
ولكنا نقول: هل انتظمت فينا واطردت آلية المساندة للجهاد، وآلية الإعداد للمعركة قبل نشوبها؟! هل بدأنا بتجهيز الغزاة؟! هل أعددنا قوائم الكفالات والرعاية للأرامل والأيتام الذين يتزايدون حتى الآن نتيجة حرب العصابات؛ فإذا تضاعفت الأرقام بعد المعركة لا نجد حرجاً في استيعاب المزيد؟! هل رُتِّبت وأُعِدت خطوط الإمداد والمساندة بتكوين مخازن الذخيرة، ومواقع التدريب، ومراكز العمليات هناك؟! هل فتحت المكاتب الإعلامية للقضية الكشميرية في كل عاصمةٍ ومدينةٍ من مدن العالم الإسلامي؛ ليكون المهتمون بالقضية على علمٍ وصلة بآخر تطوراتها وأنبائها؟ ألا تحنكنا التجارب؟! أليس لنا في الجهاد الأفغاني والبوسنوي دروسٌ وعظات؟! هذا جهاد، وهذه عقبات منها: التعتيم الإعلامي، وحاجات منها: الحاجة الشديدة إلى السلاح والدعم المتواصل.
وإنا نخشى أن تقطف الثمار.
فإلى كل مسلمٍ ومسلمة: نرجو منكم الدعاء! وإلى كل إعلاميٍ وصحفي من تليفزيوني وإذاعي: ماذا قدمتم لـ كشمير؟! هل من ندوة؟! هل من تقرير؟! هل من تغطيةٍ دوريةٍ لهذه القضية؟! إلى كل معلمٍ ومعلمة: هل شرحتم للطلاب والطالبات قضية كشمير؟! إلى كل نادٍ أدبي: أين شعركم ونثركم، وقصتكم ورواياتكم ومقالاتكم عن كشمير؟! إلى كل نادٍ رياضي: هل خصصتم شيئاً لـ كشمير؟! إلى كل جريدةٍ أو مجلة: أين زاوية كشمير الدائمة في مجلتكم؟! إلى كل خطيبٍ وإمام: هل أسمعتم المصلين وراءكم شيئاً عن كشمير؟! إلى رب كل أسرة: هل جعلت صندوقاً صغيراً لتجعل القضية في نفس أبنائك؟! إلى المسئولين عن اللجان الثقافية في الجامعات والكليات والمعاهد؛ إلى المسئولين عن مكاتب الدعوة: هل أعددتم ندواتٍ ومحاضراتٍ عن كشمير؟! هل استضفتم أحداً من أبناء كشمير ليشرح القضية وآخر ما وصلت إليه إلى المولعين بالسياحة والسفر؟! هل زرتم كشمير الحرة الآمنة؛ لتطلعوا عن قرب حال إخوانكم في كشمير المحتلة، فتكون أموالكم دعماً ولو غير مباشر؟! أيها المسلمون: وما لكم لا تبذلون؟! {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) [النساء:75]؟! ما لكم لا تنفقون؟! ما لكم لا تجهزون الغزاة؟! ما لكم لا تمدون بالسلاح والعتاد؟! أيها المسلمون: إن تحرير كشمير من أيدي الهندوس، وطرد عُبَّاد البقر من أراضيهم ليس أمراً مستحيلاً أو معجزاًَ! أيتحرر الصرب من اتحاد يوغسلافيا ويبسطو نفوذهم، ويُحْكَم على المسلمين في كل مكان بأن يبقوا أذناباً وأذلاء تحت الوثنيين؟! لقد خرجت روسيا وانسحبت من أفغانستان! ولقد انسحب الأمريكان من فيتنام، ولم يكن للفيتناميين من عقيدةٍ حقة سوى إيمانهم بعدالة قضيتهم! فما بالكم بـ كشمير وقد اجتمع فيها شرعية الجهاد، وعدالة القضية؟! وتصرخ كشمير، وتئن كشمير، وتبكي كشمير؛ إذ يطول فيها ليل الذل! وبعد هذا كله، هل نجد لها موقعاً من اهتمامنا، ومكانا ًمن عطفنا ونجدتنا؟! هل تجد المساجد والمآذن والمنابر من يثأر؟! هل تجد العفيفات من ينتصر؟! هل يجد الأبرياء من يهب؟! هل لليتامى والأرامل والأيامى من يمسح الدموع، ويضمد الجراح، ويوقف النزيف؟! أمسى يكون حالنا كما قال القائل:
فلا الأذان أذانٌ في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذانُ
أيها المسلمون:
أتُسْبَى المسلمات بكل أرضٍ وعيش المسلمين إذاً يطيبُ؟!
أيها المسلمون: إن كان للمسلمين في كشمير أمل فلن يكون لهم أملٌ في نصرٍ أو تمكين إلا بالله وحده ومددٍ من عنده أولاً، ثم في إخوانهم المسلمين.
لن يكون للمسلمين في كشمير أملٌ في الشعوب الوثنية، أو البوذية، أو النصارى واليهود، وإنما أملهم في المسلمين، وأنتم يا أهل هذه البلاد أَمْثَلُ المسلمين طريقة، وأهداهم سبيلاً.
لئن كان للمسلمين في كشمير أملٌ في عقيدةٍ تخلِّصهم من هذا الظلم والعدوان، فلن يكون أملهم في صلبان الكنائس، أو الهيكل المزعوم، أو الغائب المنتظر، وإنما أملهم في عقيدة التوحيد النقية.
وأنتم يا أهل هذه البلاد! مهبط نزولها، ومقر تجديدها، ومختبر نقائها وصفائها.
لئن كان للمسلمين في كشمير أملٌ في قوةٍ مالية، فلن تكون آمالهم في جياع الصومال أو مشردي البوسنة، أو اللاجئين في طاجاكستان، وإنما أملهم بعد الله فيكم يا من تملكون الفضل من الأموال.
ولئن كان للمسلمين في كشمير أملٌ في قائدٍ مسلم أو زعامة موحدة فلن تكون إلا في حاكمٍ مسلمٍ، وزعيمٍ موحد يخدم الحرمين ويحدب عليهما، لن يكون أملهم إلا في زعيمٍ مسلم، وعلماء مسلمين، ودعاةٍ مسلمين، لن يكون أملهم بعد الله إلا في قائدٍ مسلم يخدم الحرمين ويحدب عليهما، ولن يكون إلا فيمن جعل العقيدة الإسلامية شعاره ودثاره.
ومن هذا المنبر أرسلها برقيةً عاجلةً دامية إلى ولي أمرنا وولاة أمرنا، وإنا على ثقةٍ بالله أن صدورهم لن تضيق بـ كشمير فلن يضيق صدركم يا ولاة الأمر! في هذه البلاد بقضية كشمير وقد اتسعت قبلها لقضية أفغانستان.
وما الصلح الذي حصل للمجاهدين في مكة المكرمة إلا ثمرةٌ من ثمرات سعيكم المباركة، لقد اتسعت صدور ولاة الأمر هنا للمسلين وقضية أفغانستان على مدى ثلاثة عشر عاماً، واتسعت صدورهم لجراح البوسنة والهرسك، واتسعت صدورهم لجياع الصومال وما حل بهم وما ينتظرهم.
فأملنا يا ولاة الأمر! في هذه البلاد أن تجعلوا لهذه القضية من صدوركم نصيباً ومكاناً، وأملنا أن يكون لخادم الحرمين وللعلماء والدعاة ولكم أيضاً أجر كل يتيمٍ كفله كافل، وأجر كل أرملةٍ عالها عائل، وأجر كل مَدْرَسة تُلِي فيها كتاب الله، وعُلِّم فيها توحيد الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن قضية كشمير قضيةٌ كبيرة تحتاج إلى رجلٍ كبير، وقلبٍ كبير، وهَمٍّ كبير، ولن يُعْدَم ذلك فيكم.
أيها المسلمون: دعوةٌ صادقة؛ قاطعوا المنتجات الهندية، قاطعوا منتجات الهندوس، وقاطعوا العمالة الهندوسية، واللهِ لو سُرِّحت العمالة بعد إعطائها أجرها حتى لا نظلمها في ذلك، فأصبحت غداً على أرصفة كلكتا وبومباي، لو سُرِّحت هذه العمالة وطُرِد الهندوس، وقاطعنا الإنتاج الهندوسي -والله- لأخضعناهم رغم أنوفهم أن يلتفتوا للمسلمين، وأن يوقفوا مسلسل الذبح والقتل.
أيها الأحبة: رسالةٌ إلى أثرياء المسلمين: شعب كشمير يناديكم، يستعد ببذل دمه وروحه، وأبنائه وفلذات أكباده، ولا يريد منكم سوى المادة! ما ظنكم يا إخواني! لو أن أثرياءنا وتجارنا اجتمعوا اجتماعاً واحداًَ فبذلوا عن قوس واحدة، ورموا عن قوسٍ واحدة هذه القضية بجميع جوانبها، ألا ترون أن ذلك يحقق خيراً؟! إن أموال الأثرياء قد تكون بإذن الله وأموالكم أيضاً من عوامل الحسم وتقرير المصير المنشود لإخواننا بعد رحمة الله.
ختاماً: إن (650.
000) جندي، وحَضْرَ التجوُّل اليومي، وحَضْرَ التجول الطارئ لمددٍ قد تصل لأسابيع، وإن الاغتصاب، والقتل، والتجويع، وقطع المصالح، وإذاقة الشعب الهوان، كل هذا لن يقف في وجه الإرادة الصادقة، والحتمية المقبلة بإذن الله، وهي: أن كشمير ستطرد الهندوس في يومٍ {مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51].
إن هذه الأحداث ربما كان فيها الخير للمسلمين: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216] {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
إن المصادمات الأولى بين المسلمين والهندوس قبل انفصال باكستان كانت سبباً في استقلال باكستان، ولعل المصادمات الحامية الآن بين الكشميريين والهندوس سبب لتفكك الهند بأسرها، كما تفكك الاتحاد السوفيتي! وقد يقول أحدكم، أو يقول من يسمع هذا الكلام: إني لا أقدر أن أقدم شيئاً! أقول لك: أخي الحبيب! لا تنس كشمير وأهلها وأبطالها وشبابها المجاهدين بالدعاء؛ في سجودك، وفي السحر، والوتر، وإنك تملك بعد هذا شيئاً كثيراً؛ تستطيع أن تجمع التبرعات، وتستطيع أن تنشر هذه القضية بنشر كل كتابٍ أو مطويةٍ أو منشورٍ أو خطبةٍ عن هذه القضية، فإن نشر ذلك مما يخدم هذه القضية المنسية.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
اللهم دمر أعداء الدين.
اللهم انصر المسلمين في كشمير، اللهم انصر المسلمين في كشمير، اللهم انصر المسلمين في كشمير.
اللهم اربط على قلوبهم.
اللهم آمن روعاتهم، واكفل ذرياتهم، واستر عوراتهم.
اللهم أهلك الهندوس الوثنيين.
اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم فكك اجتماعهم.
اللهم فرق شملهم.
اللهم اجعل سلاحهم في نحورهم.
اللهم اجعل الدائرة عليهم.
اللهم(7/19)
من هنا نبدأ
ما هي نقطة البداية؟ وما هي الخطوات التي تليها؟ وما هي مقدمات هذه البداية؟ أسئلة محورية لهذه المادة فصل فيها الشيخ غير مكتف بالكلام النظري، بل ومقدماً برنامجاً عملياً مقترحاً لهذه البداية.(8/1)
مقدمات من أين نبدأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد الله إليكم الذي هو أهلٌ للحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأسأله في مستهل اجتماعنا ولقائنا هذا أن يجعل لي ولكم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوى عافية، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل فاحشة أمناً، نسأل الله جل وعلا كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسأله سبحانه وتعالى العزيمة على الرشد، والسلامة في الأمر كله، كما نسأله أن يحبب إلينا دينه، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار كلمته، وأن يرفعنا وإياكم بطاعته، وألا يخزينا أو يذلنا بمعصيته، وأن يبارك لنا فيما أباح لنا.
أيها الأحبة في الله: لا أشك أن من بينكم من هو أجدر بالحديث في هذا الموضوع، ولكن نعاتب أنفسنا بتقصيرنا في أمر دعوتنا، ونلوم أنفسنا بأننا ندَّعي ما ليس لنا.
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك
قد يسميك بعض إخوانك داعية، وأنت لا تعطي دعوتك إلا فضول الأوقات، ووالله لو قام في المنابر أبناؤها ورجالها لما وقفنا فيها، ولو قام في الساحة علماؤها لما قام أبناؤها، ولكن إذا غاب من تقوم به الكفاية انتقل الأمر إلى من ينوب عنه، وهذا زمنٌ صيَّر التلميذ أستاذاً، وكما قال سفيان الثوري أو سفيان بن عيينة رحمهما الله:
خلت الديار فساد غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد
إننا نعلم أن في صفوفنا رجالاً هم أعلم منا، ونحسبهم ولا نزكي على الله أحداً على قدرٍ من التقى والصلاح، والعلم والفقه والاجتهاد، ولكننا نلومهم أيضاً بأن الكثير قد استعذب الخلوة بالكتب، وتلذذ بالمناجاة دون الاختلاط بالناس، ووجد حلاوة العزلة في البعد عن رؤية المنكرات وأصحابها، وهذا مسلكٌ سهل يسير على النفوس؛ أن تخلو في عزلتها وأن تستعذب جميل الألفاظ والعبارات، والأبيات والنكات والنوادر في الكتب، بعيداً عن الإنكار، ومواجهة الإنكار، ومواجهة أصحاب المنكر، وما يوسوس به الشيطان ويعد به ويخوف به: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
عفواً أيها الأحبة! أن نبدأ بهذا العتاب، ولكن كما يقول القائل:
فإذا صرخت بوجه من أحببتهم فلكي يعيش الحب والأحباب
ويبقى الود ما بقي العتاب
لابد أن نكون صادقين حتى في عتابنا، والله جل وعلا كما قال في محكم كتابه: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8] فليس الصدق وحده هو نهاية المطاف أو منتهى الأمر، لا والله.
بل حتى الذين ظهر منهم الصدق أو ادعوا الصدق سيسألون عن صدقهم، فما بالكم بغيرهم؟! نسأل الله جل وعلا ألا يفتننا وألا يفتن بنا، وألا يجعلنا وإياكم فتنةً للقوم الظالمين.(8/2)
وجود الغيرة لدين الله
أيها الأحبة: أوان الشروع في المقصود بدأ، وأقول بتوفيق الله: الغيرة موجودةٌ لدى كثيرٍ من الشباب الصالحين، وحسبك أن ترى دليلاً على الغيرة، أن تجد من يطرق بابك، يكاد أن يكسر أقفاله، فإذا سمعت هذا الطرق الشديد، ظننت أن حريقاً حل بواحدٍ من بيوت أهل الحي، وإذا أزعجك تعليق المنبه ظننت أن الأمر قد انتهى، وأن الكيل قد طفا، وأن الطوفان قد فاض على البسيطة، فإذا فتحت بابك وجدت شاباً غيوراً مخلصاً صادقاً يهز يده في وجهك ويقول: رأيت منكراً في مكان كذا، ورأيت منكراً في مكان كذا، أين المغير؟ أين المنكِر؟ أين من يقول كلمة الحق؟ أين من يتقي الله؟ أين من ينطق بالحق فلا يخشى في الله لومة لائم؟ فحينئذٍ تحمد الله جل وعلا.
وما أكثر أن ترى هذه الصورة في مسجدك أو في بيتك، أو في اجتماعك مع إخوانك، تحمد الله جل وعلا على أن الغيرة لا زالت باقية، وهذا دليل حياة القلوب، وإلا لو كانت القلوب قد ماتت في مجموع الأمة لما وجدت من ينزعج من هذه الصورة، ومن هذه الحال؛ لأن الهوان إذا حل بالنفس لا تجدها تعرف معروفاً، أو تنكر منكراً:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلام
فالحاصل أيها الإخوة! أن الغيرة موجودة لدى كل واحد منكم، التمعُّر، الغضب، الانزعاج، التقلب، التغير موجودٌ لدى كل واحد منكم حينما يرى منكراً من المنكرات، وكما في الأثر: "يكاد في آخر الزمان يذوب قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: لِمَه؟ قيل: مما يرى من المنكر فلا يستطيع تغييره" وهذا والله شعورٌ يطوف ويلم بكل واحدٍ منا ومنكم -أيها الأحبة! - ولكن ليبتلي الله ما في قلوبكم، وليمحص ما في صدوركم، وليتخذ منكم شهداء، ليثبت الذين يرجون الحب والإخلاص للدعوة، والذين يرجون منازل الدعاة، ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.(8/3)
الدعوة خير من العبادة
لا يستوي الذين لا يجدون في واقعهم شيئاً من آلام المعاناة، وحسرة في رؤية المنكر، أو الضعف أو العجز في بعض الأحيان عن تغييره مع الذين لا يلتفتون قليلاً ولا كثيراً، أقول: حتى ولو كانوا ممن صنفوا الكتب أو قاموا الليل وصاموا النهار، واجتهدوا في الهواجر، وقاموا ليالي الشتاء لا يستوي أولئك مع الذين تتغير وجوههم لرؤية المنكرات في هذه الأرض.
إن العبادة أمرٌ قاصر، لا تحتاج فيه إلى مواجهة، ولا تحتاج فيه إلى كثير من المعاناة، أسهل ما عليك أن تأكل لقمة السحر، ثم تضع رأسك على وسادتك، ثم تصلي تتقلب بين بيتك ومسجدك، ثم تعود لتفطر هنيئاً مريئاً، لا تجد شيئاً قد غير ما أنت فيه، أسهل ما عليك أن تفتح كتابك في مكتبتك فتقرأ وتلخص وتجمع، وتُخَرِّج وتُحقق، وهذا خيرٌ عظيم.
وموت العابد القوام ليلاً يناجي ربه في كل ظلمة
من الذين يبكى عليهم.
ولكن أيها الإخوة! لا يستوي هؤلاء مع الذين يجمعون مع هذا الدعوة والإنكار والتغيير بقلوبهم وبألسنتهم وبأيديهم حسب الضوابط الشرعية المرعية.
إذاً أيها الإخوة: ينبغي أن نعلم أولاً: أن الناس يتفاضلون في دين الله جل وعلا، ليس بقدر عبادتهم في شكلها أو طولها، أو قصرها، وإنما يتفاضلون بحسب ما يقوم في قلوبهم، ولذلك لما ورد عن أبي بكر رضي الله عنه: (أنه لو وضع إيمان الأمة في كفة ووضع إيمان أبي بكر رضي الله عنه في كفة لرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة) وكيف يرجح إيمان أبي بكر بسائر إيمان الأمة؟ هل يستطيع أبو بكر أن يصوم رمضان بقدر صيام الأمة أجمع؟ هل يستطيع أبو بكر أن يحج ولو في كل لحظة فضلاً عن مرةٍ في كل سنة بقدر حجات أفراد الأمة أجمع؟ لا.
ولكن [أَمَا إنه ما سبقهم بكثير عمل، ولكنه بشيءٍ وقر في قلبه] ولما وقر هذا الأمر في قلبه استحق كرامةً ومنزلة من عند الله، والفضل لله أولاً وآخراً.
(لما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما أحسن من يقال له هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك يا أبا بكر! ممن يقال له هذا عند موته).
وفيه نزل قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
قد يكون الإنفاق يسيراً، لكن الإنفاق في مواجهة المجتمع الجاهلي في بداية الدعوة يكون صعباً جداً، لا سيما وأنت في موقف الضعف، والجاهلية في موقف المنتصر، ويعتق عبداً من عباد الله بلال بن رباح لكي ينضم إلى معسكر الإيمان، الحالة حينئذٍ صعبة جداً.
قد تقول خطبة عصماء في مشهد جمعٍ غفير، ولكن قد تكون كلمة مكونة من سطرين أو من حرفين أبلغ وأعظم وأقوى وأقبل عند الله حينما تكون في موقفٍ فيه الخوف على الروح والنفس، والخوف على الرزق، أو في مواجهة إمامٍ جائر، ينبغي أن يعلم هذا جيداً.(8/4)
الدعوة ليست حكراً على أحد
ومن هنا نقول لإخواننا في الله: بوسع كل واحدٍ منكم أن يبدأ، وعنوان المحاضرة (من هنا نبدأ) اخترت هذه العبارة لأقول لكل واحدٍ: من هنا تبدأ، من مكانك، من بيتك، من موقعك، من عملك، من وظيفتك، من الحي الذي تسكن فيه، من الجهة التي تأوي إليها، من هنا تبدأ.
وبفضل الله جل وعلا، ومن عظيم وواسع منه وكرمه أن هذا الدين لا يحتاج إلى تصريحٍ حتى تكون واحداً من الدعاة إلى الله فيه، لا يحتاج إلى أن تنال اجتياز المقابلات الشخصية، وإنما تحتاج أن تعلم ما تدعو إليه، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا مقالةً فوعاها، فبلغها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع) وهذه مسألة عظيمة (ومن دعا إلى هدى فله أجره، وأجور من عمل به إلى يوم القيامة) ولم يشترط لهذا الداعية أن يكون على هذا القدر، أو المكانة أو المجموع قل أو كثر فيما يحفظ أو يروي أو يفقه أو يعلم، وإنما يكفي أن يدعو ولو إلى مقالة واحدة يدعو إليها يريد بذلك وجه الله جل وعلا.(8/5)
الأوهام العنكبوتية
في حقيقة الأمر -أيها الإخوة! - كثيرٌ من شبابنا، كثيرٌ من أحبابنا، كثيرٌ من إخواننا -ولعل من بينكم من هو منهم، أو أكون أنا منهم- يبني حول نفسه أوهاماً من خيوط العنكبوت، ويظن أنه إذا تحرك فإن عشرات الأعين تراقبه، وآلاف الأجهزة ترصد حركته، ومئات الناس يسجلون ما يفعل خطوة خطوة، وهذا مما يصدق فيه قول الله جل وعلا: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] يصور لك الشيطان أنك حينما تريد أن تقف على قارعة الطريق وتجد شباباً تريد أن تجلس معهم، فتعطيهم كلمتين، وليس من شرط هذه الكلمة أن يقبلوها، أو يستجيبوا أو يهتدوا، أو يلتزموا بأول وهلةٍ أنت تخاطبهم أو تكلمهم فيها، لا.
يظن البعض أنه لو أراد أن يقدم شريطاً أو أراد أن يقدم هدية أن حوله عشرات الأجهزة تراقبه وترصد حركته، ولذلك تجد بعضهم يقول: لا.
أنا أختار أسلوباً آخر، أو أنا من الناس الذين لا أرى هذا المنهج، أو هذه الطريقة وهلم جراً.
وليت عدم رؤيته لهذا الأمر من اجتهادٍ توصل إليه بعد باعٍ طويل في علمٍ وفقه، وليس كذلك إلا أنه يظن أن حركاته وسكناته مراقبة ومتابعة، وهب أنك توبعت وروقبت في كل صغيرة وكبيرة، هل سيصدك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل سيردك هذا عن الدعوة إلى الله جل وعلا؟ هل هذا سوف يمنعك أن تنال حظك في منازل الأبرار والشهداء والصديقين والصالحين عند الله سبحانه وتعالى؟ إذاً: لماذا نبني هذه الخيوط، يقول لي ذات مرة شاب من الشباب الصالحين: أنا رأيت أربعة رجال يراقبونني، فسقطت ضحكاً، من أنت حتى يراقبك أربعة، أو واحد أو نصف واحد أو امرأة أو نصف امرأة؟ لماذا تخلق حول نفسك هذا الوهم العنكبوتي الذي لا حجة لك به؟ هل عشت في مجتمع الثورة البلشفية؟ أم أنك تعيش في لينين قراد أو تعيش في المجر، أو في دول الكتلة الشرقية قبل تحول الوضع الشيوعي؟ لماذا تخلق هذا الوضع حول نفسك؟ لست بحاجة أن تتصور هذا، ولكن الشيطان سول لك وخيل، وجعلك تتصور أنك تعيش في هذه الدائرة، وبالمناسبة هذا من الأساليب النفسية التي يؤثر بها على دعاة الإسلام في بعض بلدان العالم، ويسمونها بالمضايقة النفسية أو بعبارة تشابه هذا المعنى، يبدأ الإنسان يتضايق، يرفع السماعة يخشى أن يقول كلمة، يخرج من البيت يخشى أن ينظر إليه أحد، يمد شريطاً يتوقع أن الكاميرا قد صورته، يقرأ كتاباً يظن أنه قد حقق به وهلم جراً!! إن الله جل وعلا قد خلقك حراً، وأبقاك حراً، بل ولعن من أراد أن يجعلك رقيقاً: (ثلاثة لعنهم الله جل وعلا -وذكر منهم- رجلٌ باع حراً فأكل ثمنه) أنت تعيش حراً وستمضي حراً، وستفضي إلى الله حراً، فلا تخلق حول نفسك هالة من الأوهام العنكبوتية التي تتخيل أو تتوقع بها أنك يوم أن تفعل شيئاً في دين الله جلا وعلا سوف تنتهي من قائمة الناس الأسوياء وغيرهم، ربما يأتيك الشيطان ويقول لك: لا حرج.
ولكن هذا قد يعرقل مواصلة سيرك الوظيفي، إذا كنت رجلاً طموحاً في الوظيفة وترغب أن ترشح لأعلى المراتب، فانتبه، قف عند حدٍ معين، لا تتمادى بوضع معين حتى تستطيع أن تصل يوماً ما.
وأقول: ربما يكون الإنسان على خطرٍ في معتقده إذا أوغل في هذا الظن واعتقده، وظن أن الخلق يستطيعون أن يكفوا أو يمنعوا رزقاً قسمه الله له.
وكما في حديث ابن عباس الذي تحفظونه: (يا غلام! احفظ الله يحفظك -إلى أن قال- واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) إذا كان الإنسان يخشى على رزقه، فالله جل وعلا هو الذي خلقك وتكفل برزقك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود:6] وكما في الحديث: (جاءني جبريل ونفث في روعي: يا محمد! إنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها) والله لو بقي لك في الدنيا عشرة ريالات لتقاتلت الدنيا حتى تصل: (لن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ما قال: تشاحوا، تخوفوا، خافوا على الطلب، بل أجملوا في الطلب، أدنى أمرٍ من أمور بإذن الله جل وعلا يكون سبباً لوصول ما كتبه الله جل وعلا لك.
وإذا كان الخيط العنكبوتي الذي ينسجه الشيطان حولك أيها الأخ المسلم بأنك ربما تموت أو ربما ينتهي أجلك، أو ربما تخترم روحك قبل بلوغ أجلها، فهذا أخطر من الذي قبله، أن تعتقد أن قوةً من قوى البشرية تستطيع أن تخترم من أجلك يوماً أو ساعة واحدة قبل تمام أجلك، وكما كان الإمام علي رضي الله عنه يردد أبياته المشهورة:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
فلماذا التخوف إذاً؟ أقول: إن كثيراً من الشباب تجد فيهم عزوفاً عن الدعوة إلى الله جل وعلا، ليس كرهاً في الدعوة، وربما ليس عجزاً أو ضعفاً، بل هو قادر، ولو ناقشته لوجدته أفقه منك أيها المحاضر! وأعلم منك أيها الخطيب! وأصلح منك أيها المتكلم! وأجدر وأقدر في مخاطبة الناس، ولكن فيه أمرٌ لا زال ممسكاً به لم يجعله ينطلق في عالم الدعوة إلى الله جل وعلا، ألا وهو الخوف أو الأوهام العنكبوتية التي نسجها حول نفسه، إما على خطرٍ وإما على رزقٍ وإما على موت.
أقول: ليس هذا مجال تفصيل، وهذه الأمور كلها بيد الله، ولكن هذا واحدٌ من الأسباب التي تجعل كثيراً من الشباب يا للأسف يعزف عن هذا الأمر.(8/6)
مشكلات في طريق الدعوة
الأمر الآخر: أن بعضهم على مقدرة بالغة، جميلة جليلة طيبة، ومع ذلك:
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
يا فلان! انطلق، يا فلان! ادع إلى الله جل وعلا، يا فلان! انظر أعداء الله جل وعلا، هذا سافل ساقط خبيث حقير حداثي، جرثومة حداثية تبدأ تنشر قصيدة، يأتي من بعده بالتلميع والتعقيب وتسليط الأضواء، والشرح والاختصار، والتحقيق والتخريج فيجعل من كلمة الساقط التافهة مطولة من المطولات.
وأنت يا من تملك هذا! يا من تقدر على أن تأتي بالكثير الكثير! لا تزال تظن أنك لم تستطع، لم تقدر، ولذلك لما تأملت ذات مرة وكنت في زيارة لطلاب جامعة الإمام في السكن الجامعي، فلما نزلنا إلى صلاة المغرب في المسجد، وإذ بالمسجد يمتلئ قرابة ألفي شاب، الله أكبر! جامعة إسلامية وكل هؤلاء أغلبهم قد اجتاز المعاهد العلمية ونال حظاً وافراً من العلوم الشرعية، والأحكام الفرعية، والأصول والفقه، والتفسير، ولا تجد من بين هؤلاء كما في البخاري: (الناس كإبلٍ مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) لا تكاد تخرج من قرابة المائة طالب من ذوي التخصصات الشرعية واحداً أو اثنين أو ثلاثة، كلهم صالحون وعلى درجة من الصلاح والتقى، من قيام الليل، من صيام الإثنين والخميس، لكن أين أثرهم في الدعوة؟ أين بصماتهم في واقعهم؟ أين جهودهم في مجتمعاتهم؟ لا توجد.
وربما بعضهم من أهل منطقة نائية تبعد عن المدينة أو العاصمة أربعمائة كيلو، ثلاثمائة كيلو، قرية بعيدة جداً، وإذا جاء الخميس أو الجمعة أو يوم الأربعاء تجده أول من يخرج من الكلية لزيارة أهله والمكوث معهم بقية الأربعاء والخميس والجمعة، وربما جاء فجر السبت أو مساء الجمعة ما نقل إلى قريته شريطاً أو كتاباً واحداً، وما أقام في قريته درساً واحداً، ما دعا إلى الله جل وعلا في قريته، يذهب ويأوي فقط، تغدو خماصاً وتروح خماصاً، يعني: يذهب جائعاً ويعود جائعاً، أو ربما يروح بطاناً أي: مليئاً لكنه لا ينفق ولا يعطي مما عنده شيئاً، لماذا البخل؟ أهو غرورٌ أم احتقارٌ للذات، إن كان غروراً، أو أن قريتك أو أن مجتمعك حتى ولو كنت في هذه المدينة، أو الحي الذي تسكن فيه ليس بكفءٍ أن تدعوهم إلى الله، أو قد اكتملت جوانب صلاحهم واستقامتهم فليسوا بحاجة إلى طرح مواضيع تنفعهم، أو أنه احتقارٌ للذات، فترى أنك لست بشيء أبداً.
أما إذا كانت المشكلة (مشكلة احتقار الذات) مشكلة نفسية، فهذه تحتاج إلى وقتٍ طويل، وربما بعضهم اجتهدت في زيارته، وبعضهم والله زرته في بيته مراراً: يا فلان! والله إني أجدك أفصح مني، وأفضل مني، وأحسن مني، وأحفظ مني، وأرى لك مكاناً وموقعاً ومنزلاً، لو نزلت الميدان لنفع الله بك خلقاً عظيماً، فيقول: لا، لا يزال.
تقنعه: الذي يقصرني هل يقصرك؟ فصاحة، هل يقصرك معلومات؟ يقول: أنا عندي معلومات أكثر منك، هل يقصرك مقدرة؟ يقول: ربما أنا أكثر جلداً منك، إذاً: ماذا تنتظر؟ يقول: فقط الناس لا يعرفون هذا الشيء ولا يعترفون بهذا الشيء، أو لا يسلمون لي بهذا الشيء، هنا خطرٌ من أمرين: الأمر الأول: أن المشكلة النفسية لا تزال قائمة.
والأمر الثاني: أنك تريد أن يجتمع الناس لك كما يجتمع الناس لـ ابن عثيمين وابن باز حينما تلقي محاضرة.
ابدأ ولو لم يحضر معك إلا خمسة، سبعة، عشرة، عشرون مائة، المهم ابدأ، وثق بنفسك تمام الثقة، والله جل وعلا حينما يعلم منك الإخلاص والصدق في هذا الطريق سيجمع الناس لك، وسييسر لك وإن لم يحضر معك إلا أربعة، فربما سجل كلامك، وانتقل إلى أضعاف الذين حضروا معك، فنفعهم بإذن الله واهتدى من اهتدى بسبب كلامك هذا ولم تشعر بذلك، ولم تر ذلك إلا في موازين أعمالك يوم القيامة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] تأتي يوم القيامة وأنت تنظر: يا ربِّ! حسناتي قليلة، يا ربِّ! هفواتي كثيرة:
إلهي لا تعذبني فإني مقرٌ بالذي قد كان مني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
خائف على نفسك، فإذا البشارة تأتيك في سجل أعمالك: أبشر يا فلان! فقد تقبل الله هدايتك، أو كلمتك أو نصيحتك، أو دعوتك أو محاضرتك، فهدى الله بها فلاناً وفلاناً وفلاناً، وهاهم في موازين أعمالك، فيطيش ميزانك بالحسنات فتكون من أهل الجنة بسبب هذه الكلمة التي ربما ما حضرها إلا أربعة أو خمسة.
أيها الإخوة: ينبغي أن ندرك هذا الأمر جيداً، يقال: إن أحد السلف -ولا يحضرني اسمه الآن- ألف منظومة لا أدري أهي الشاطبية أم الرحبية أم كتاباً غيرهما، لما ألفها في نفسه سراً جعلها في رقعة ورمى بها في البحر، وقال: اللهم إن كانت خالصةً لوجهك فانفع بها، وإن كانت غير ذلك فلا تجعل بها لبشر حظاً ولا نصيباً.
فكتب الله لهذه الرقعة أن تطفو ووجدها قومٌ في مركب، فأخذوها وتناقلوها، وما زال الناس يحفظونها ويتدارسونها إلى يومنا هذا، فكلمة الحق حينما تقولها تريد بها وجه الله جل وعلا، والنصيحة والدعوة إلى الله؛ حينما تبذلها تريد بها وجه الله فأنت أديت ما عليك أولاً.
وثانياً: لن تكون أفضل من الأنبياء والرسل، كما في الحديث الصحيح: (وعرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرُهيط، ورأيت النبي ومعه الرجل، ورأيت النبي ومعه الرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد) الله أكبر! نبي مؤيد بالوحي والعصمة والمعجزة ولا يأتي معه يوم القيامة أحد، فما آمن معه من قومه إلا قليل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] وهم قلة، ومع ذلك هل ضاعت ثمار دعوته؟ هل ضاعت أجور أعماله وسعيه؟ لا والله.
إذاً أيها الأحبة: لابد أن نفقه أننا ينبغي أن نبدأ حتى لو كانت البداية مع الجيران في أربعة أشخاص، أو بخمسة أشخاص، ثم قليلاً قليلاً، وإذا كان الإنسان صادقاً مديماً على ما يعمل، مخلصاً لما يعمل، بإذن الله سيأتي اليوم الذي يكون له شأن، ويهتدي على يديه الخلق العظيم.
المشكلة الثانية التي هي مشكلة العقدة النفسية: واسمحوا لي أن أضرب هذا المثل الذي ربما ضربته في أكثر من مكان، يقولون: إنه يوجد رجل كان يعتقد -عنده مشكلة نفسية- عن نفسه أنه حبة شعير، رجل بطوله وعرضه كان يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير، ولذلك لا يزور أناساً عندهم دجاج، أو أحداً عنده حمام، لماذا؟ يعتقد عن نفسه أنه حبة شعير وأن الدجاجة أو الحمامة سوف تأكله، فعالجوه، وأقول: حبة الشعير الآن هو بعض إخواننا الذين عنده خيرٌ عظيم لكنه يعتقد أنه ليس بشيء، فهذا رجل لكنه يعتقد أنه حبة، فعالجوه ثلاث سنوات في علاج نفسي واختبارات نفسية حتى تماثل للشفاء وشفي بإذن الله، فلما جاء أوان خروجه من المستشفى، قالوا: هاه يا فلان! بشر اقتنعت أنك رجل، اقتنعت أنك إنسان، ولست بحبة شعير؟ قال: نعم.
أنا اقتنعت لكن أقنعوا الدجاج.
وهذه مشكلة أن نبدأ ننفخ في شخصية: يا فلان! فيك خير، يا فلان! عندك نفع، يا فلان! عندك مقدرة، يا فلان! عندك معلومات، يقول: أنا مقتنع لكن أقنعوا الناس أيستمعوا إليَّ، أقنعوا الناس أن يستفيدوا مني، اقنعوا الناس أن يتجمهروا لي.
يا أخي! أنت ابدأ، دعنا من عقدة الدجاجة والشعيرة هذه، فبإذن الله من سار على دربٍ في إخلاصٍ وصل إلى عاقبة حميدة.(8/7)
الدعوة لصيقة المعاناة
أيها الإخوة: نقطة أخرى، يظن البعض أن الدعوة تبدأ ومن أول لحظة يرى فيها بنوك الربا تدكدكت على أمها، أي أنه: يظن أنه لم يكن هناك بداية للدعوة، إلا إذا رأى البنوك الشامخة للربا تدكدكت وأصبحت رماداً، وإذا رأى المنكرات كلها قد جابت وانتهت، واضمحلت وتلاشت وفنيت، ومحلات الفيديو والأغاني قد أغلقت وشمعت بالشمع الأحمر، والاختلاط أصبح أبغض ما يكون إلى الناس، والله يا أخي! إذا كنت تظن أنك لن تبدأ بالدعوة إلى الله إلا حينما ننتهي من الربا، وننتهي من الاختلاط ومن الغناء والملاهي، وننتهي من العلمانيين ومن الفساق والفجرة، وأعداء الدعوة الذين يبغضون الحق، فما الحاجة إلى الدعوة أصلاً؟ إن الحاجة تبدأ في هذه الظروف الصعبة التي تجد فيها الربا شامخاً، وتجد فيها الاختلاط يشق طريقه، وتجد فيها الفساد ينخر في المجتمع، وتجد فيها المنافقين يتسللون إلى بصفوف الأمة، حينئذٍ تكون المسئولية أعظم، والواجبات أكبر، والأمانة أخطر، وتتعلق بالأعناق بقدر كل واحدٍ في موقعه ومكانته.
تجد بعضهم يقول: متى يأتي اليوم الذي نجد فيه هذه البنوك كلها أصبحت مصارف إسلامية؟ ومتى يأتي اليوم الذي نجد فيه كل هذه المحلات التي تبيع الملاهي والأفلام الخليعة، وتمارس الترويج للدعارة والزنا والفساد قد انتهت؟ ومتى نجد الاختلاط قد انتهى؟ ومتى ومتى؟ فهو يعيش على هذه الآمال ويعيش على هذه الأماني، لا والله، لسنا بحاجةٍ إلى من يضيع أوقاته وأثمن ساعات حياته التي هي لحظة شبابه، ولحظة حرقته، ولحظة حماسه، لمجرد الآهات والأماني، كلٌ يحسن الآهات:
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل ولا لو اني
لو أني قلت كذا لفعلت كذا، لو أني كنت كذا لفعلت كذا، أو لعل الأمر كذا، أو ليتني فعلت كذا، كلها لا تجدي في الدعوة شيئاً، أنت صادق فشق طريقك برائحةٍ طيبة ولو كان نتنُ النجاسات من حولك، تشق طريقك ولو على خيطٍ رفيع، ولو كانت الأشواك عن يمينك ويسارك، تشق طريقك وأنت ترجو حسن العاقبة والخاتمة من عند الله سبحانه وتعالى، ووالله إن لنا في رسول الله أسوةً حسنة كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] من كان يرجو بعمله أن يلقى الله جل وعلا راضياً عنه {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21] أن يكون يوم تكور الشمس، وتنكدر الجبال وتنفطر السماء، وتسجر البحار وتمد الأرض، من كان يرجو في ذلك اليوم من أهل الكرامة ومجالس النور؛ مع الأنبياء والشهداء، مع الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله، فليبدأ طريقه منذ هذه الأيام، من هذه اللحظة التي يرى فيها أن الحق والباطل أصبح يعيش مواجهة، لم يعد هناك غزل يعيش في الكواليس أو عمل في الخفاء، لا.
فليبدأ طريقه صريحاً واضحاً ولا يهدأ له بال، ولا تكتحل له عينٌ بنوم، ولا يلذ بطعام وشراب إلا وهو يمارس هذا العمل، ويجتهد فيه بإذن الله سبحانه وتعالى.(8/8)
إصلاح النفس نقطة البداية
هذه أيها الإخوة! مقدمات من أين نبدأ، هذه مقدماتنا والبداية فيك أنت.
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تبصر
وتحسب أنك جسمٌ صغيرٌ وفيك انطوى العالم الأكبر
البداية منك أنت، إذا زالت الأوهام وتحررت منها، ومزقت الخيوط العنكبوتية، وما نسجت دودة القز على جسمك وثوبك وعن يمينك وعن يسارك من هذه الأوهام التي كبلتك واستطعت أن تمسح الزجاج أمام عينيك، وأن تزيل بحرارة اليقين هذا الضباب المتكاثف في طريقك حينئذٍ ستبدأ.
والبداية كما قلت فيك أنت، فإذا بدأت بحق فاعلم أن الله جل وعلا قد قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] سواء كان الداعية في هذه الظروف أو في غيرها رجلاً أو امرأة، ذكراً كان أم أنثى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195].
أيها الإخوة: نقول: فلان رجل لا يضيع المعروف عنده، فلان رجلٌ بذول معطاء، كريم سخي، حينما تعامله بالهدية يردها بأضعافها، أفتظنونه أكرم من رب العالمين؟ جل ربنا أن يعامله العبد نقداً فيجازيه نسيئة، الله جل وعلا أكرم الأكرمين، ومن كرمه أن سيئاتك لا يكتبها عليك إذا هممت بها ولم تفعلها، ومن كرمه أن نياتك بالحسنات تكتب لك وفعلك بالحسنات يضاعف لك إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] أكرم الأكرمين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] الذرة لا تضيع عند الله من الخير، فلماذا تتردد في البداية؟ {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] إذاً فلا تخش شيئاً، بعض الناس يقول: من الذي ينظر؟ من الذي يجازي؟ من الذي يكافئ؟ أعملنا؟ وكما قلنا ليس من شرطك أن تهتدي البشرية على يدك، أو أن ترفع برقيات الشكر والثناء لك أنها هداها الله على يديك، فلست أفضل من الأنبياء الذين يأتون يوم القيامة وأحدهم معه الرُهيط، وآخر معه رجل ورجلان، وآخر ليس معه أحد.
ثم أيضاً الله جل وعلا بيَّن لنا وظيفة الداعية: إنما أنت منذر، ليست النتيجة عليك: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] واستمر حتى تجد النتيجة؟ لا.
ما طلبت منك ذلك لكن بلغ، إنما عليك البلاغ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
فيا أخي المسلم: لست بحاجةٍ أن تضمن النتائج، أو أن تعلق عملك على تكوين النتائج.
نعم.
إذا كان موقف من المواقف من خلال حكمتك في الدعوة، أو حكمة من تستشيرهم في الدعوة إلى الله ظهر لك أن المنكر الذي ستغيره يفضي إلى منكرٍ أكبر فقف، أو يفضي إلى منكرٍ يساويه فتوقف، ولكن إذا كنت تظن أن سعيك يقلل المنكر، ففي هذا خيرٌ عظيم، وهذه مشكلة نواجهها أحياناً مع بعض إخواننا ولنكن صرحاء، حينما تقوم بعمل معين في مجال معين، وأنت تعرف أن هذا المجال الذي ستدخل فيه: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] المسألة فيها أخذ وعطاء، مختلطة، فيها مصالح وفيها مفاسد، إذا غلب على ظنك أن هذا أفضل مكانٍ تعمل فيه وتنتج فيه، وتقدم نتائج إيجابية فيه، وسيكون حصيلة عملك التقليل من المنكر، فنقول: هذا خيرٌ عظيم، لا نظن أن المنكر بمجرد أدنى سعي منك سينتهي إلى غير رجعة، أو سيزول إلى غير بدل، لا.
قد يزول المنكر، لكن إلى بدلٍ أضعف منه، فيأتي آخر يتدخل في الوضع، فيزول المنكر إلى ما هو أضعف منه حتى يصبح المنكر شيئاً قليلاً لا يكاد يرى بل يضمحل وينتهي إلى غير رجعة.
فلابد أن نتصور هذه المسائل لكي لا نضعف حينما نريد أن نعمل، وكثير من الناس يقول: أغلقت السبل والأبواب، ما عاد هناك أمل، العلمانية تفرق، الفساد ينتشر، الواقع إلى جهنم وساءت مصيراً، الناس قد ضلوا ضلالاً بعيداً، وتجده مسكيناً كما في الحديث: (من قال هلك الناس فهو أهلَكَهم أو أهلَكُهم) فيصبح لا يرى إلا ظلاماً، ولا يرى إلا شراً، ولا يرى في الناس إلا جانب الشر، وهذه مصيبة نفسية عند بعض إخواننا أهل الخير، أن تجد الإنسان حينما يرى رجلاً في يده السيجارة وهو متوجه إلى المسجد، ينظر إلى السيجارة ولا ينظر إلى ذهابه إلى المسجد، لماذا لا تنظر فقط إلا بالعين التي تبصر المعصية؟ ولماذا لا تستعمل العين الأخرى فتنظر إلى جانب الطاعة؟ ولماذا لا تجتهد وتحول عينيك إلى جانب الطاعة، فتتسلط على هذا الجانب بالموعظة، بالنصيحة، بالكلمة، بالابتسامة، باللباقة، بالرفق، بلين الجانب، بالتواضع، بخفض الجناح، بما شئت حتى تستطيع أن تقضي على المنكر الذي بيدك؟ أما أن تعيش ناظراً إلى معاصيهم فلا، والله إني أعجب أحياناً، وأمل -لا أكتمكم- من مجالسة بعض إخواني، تجد إذا جلست معه لا يُسمعك إلا ما يحطم نفسيتك، لا يُسمعك إلا ما يجعلك تتحطم، لا.
تعيش في جو هذا كذا، هذا صار كذا، اختلاط، فساد، منكر، نشرة، مجلة، مقالة إلخ، فتجد أنك أينما التفت يميناً يساراً، فوق تحت، أمام خلف، تجد أنك محاط بالمعاصي ويخيل إليك الشيطان.
لماذا العبث؟ ولماذا مكانك سر؟ ولماذا الجنون هذا؟ انتهت المسألة فالمنكر استحوذ على الوضع من جميع جهاته، ما عاد هناك حاجة لأن تعمل، ما عاد بيدك شيء؟ وهذا هو ما يريده الشيطان؛ أن يجعلك تقنط، وتيأس من رحمة ومن روح الله، ثم لا تبدأ تقدم شيئاً، وينعكس هذا عليك؛ ترى منكراً: ما رأيت إلا المنكر هذا، يحلو لك: رأينا أكبر، وترى منكراً آخر: رأينا ما هو أكبر، وترى مصيبة أخرى: يا شيخ! سيذبحنا العلمانيون، ما عاد هناك أمل لأن تصلح الأحوال وهلم جراً، لا والله.
إن وقفة الشاب الغيور المناصح المخلص، الذي يغار على حرمات الله بالاتصال بالعلماء، بطلبة العلم، بالآمرين بالمعروف، كتابة مقالة، كتابة برقية، مناصحة مسئول، التردد في هذا الأمر، والله إنه يشغلهم.
ثم يا إخواني! {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] والله إن أهل الباطل، والله إن العلمانيين يتقلبون أسىً ومضضاً ومرضاً لا تشعرون به، حدثني أحد الإخوة وكان في مكانٍ بالقرب من واحدٍ من العلمانيين الذين أخزاهم الله وفضحهم، فقال: إنه لما علم بكذا وكذا سقط مريضاً أياماً عديدة، الله أكبر! والله أيها الإخوة! إن لدعائكم على أهل الباطل في الليل لآيات بينات واضحات، وإن لسعيكم في مقارعة المنكر وأهله لأثراً بالغاً عظيماً، الله جل وعلا يبتليكم وهو بأمره بكلمة (كن) يحول الأمور رأساً على عقب، ولكن حتى ينظر هل تقوم أنت أيها الداعية! أو أيها المسلم! أو أيها الملتزم المتدين بواجب الدعوة! هل وقف التزامك عند توفير لحيتك وتقصير ثوبك فقط؟ أم أصبحت أيضاً تتمعر وتتغيض وتتقلب وتنكر المنكر لأن فيه مخالفة ومعصية لله؟ لو وقف إنسان وقال: يا فلان! من أي قبيلة أنت؟ قلت: من قبيلة بني فلان، قال: اللعنة!! هل تسكت؟ لا.
لن تسكت، ستذب عن عرضك وعن قبيلتك وجماعتك، وربما وصل الأمر إلى الثأر والدم، وهو عند من يفتخر بعظمٍ نخر أصبحت الأنهار تجري دماءً عصبية للقبيلة والأرومة، ولكن حينما يكون الأمر لدين الله، ما كأن الأمر يعنيك.
يقاد للسجن إن سب الرئيس وإن سب الإله فعند الناس أحرار
لا ينبغي أن يكون هذا الميزان أبداً، أبو هريرة رضي الله عنه كانت أمه قبل أن تسلم على الجاهلية والكفر، وكان إذا دعاها: يا أمه! يا أميمه! أسلمي وآمني وصدقي بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكانت ربما شتمت أبا هريرة وسبته وطردته، وذات يومٍ جاء وقال: يا أماه! إلى متى وأنتِ حكامة في ضلالك، ألا تصدقين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ ألا تشهدين أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ فقامت أمه وسبته وسبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى الأمر بالنسبة لـ أبي هريرة؟ جاء ينتفض إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي: يا رسول الله! -ماذا بك يا أبا هريرة؟ - قال: كنت أحتمل ما ينالني، أما وقد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أرضى بهذا ولا أحتمل، يا رسول الله! ادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهد أم أبي هريرة إلى دينك) فعاد أبو هريرة إلى البيت، فلما سمعت بقرع نعاله، قالت: على رسلك يا أبا هر! فعجب، وإذ بخرير الماء يسمعه، وإذ بها تغتسل، فلما فرغت قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
أن يتغير الإنسان ويتمعر، وأن يضيق لأن دين الله يخالف فيه ما يخالف أو ينتهك فيه ما ينتهك، هذا هو الأمر، ولذلك علل نوح عليه السلام الضلال والبعد والإمعان والإصرار من قومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:5] بعض الناس مزاجه لا يفتح إلا في الليل، فلابد أن تزوره في الليل، أما في النهار فليس عنده استعداد أن يقبل الدعوة، مزاجه على الرصيف في الليل يقبل الدعوة، فلا حرج أن تزوره في رصيفه العادي، ومن الناس من لا يقبل الزيارة والدعوة إلا في النهار، وفي الليل كالدجاجة ي(8/9)
تغيير الوضع
ثم أيها الإخوة: البداية من هذه النفس، هل تكتفي بصلاح نفسك؟ أنت قد صلحت، وأن يقال: أسلم فحسن إسلامه، تفقه فزاد فقهاً وعلماً، كثيرٌ منا معلوماتنا في العام الماضي هي نفس معلوماتنا هذه السنة، وهي معلوماتنا بعد سنتين وبعد ثلاث سنوات إن كنا من الأحياء، لا تجد الإنسان يطور في برنامجه شيئاً، أو يحاول أن يغير من وضعه، تمر السنون الطوال وهو لا يزال على ركعة واحدة وتراً، تمر السنون الطوال وهذا شأنه لا يعرف إلا ست شوال فقط، تمر السنون الطوال وهو لا يعرف من النوافل إلا مسائل محدودة، أين مجاهدة النفس ولو رويداً رويداً، ولو قليلاً قليلاً؟ وسترى حسن عاقبة هذا، وستجد له أثراً إذا أنت أخذت النفس على رياضة مستمرة ولو تدريجية، بعض الناس ربما صام الشهر كله، أو صامه إلا قليلاً ثم انقطع مرةً واحدة، أو ربما قام الليل كله، ثم فاتته صلاة الفجر في أيامٍ متتابعة، أو تجده ربما انكب على محاضرات مدداً طويلة، ثم انشغل بعد ذلك بمجالس لهوٍ وغفلة، وتجد المنحنى البياني بالنسبة لاستقامته في هبوط وصعود، مرة طائراً فوق، ومرة نازلاً تحت.
المعروف أن الإنسان المستقيم الداعية، الخط البياني بالنسبة في الارتفاع، يحصل زلة ولكنه يرجع من جديد إلى ارتفاع، رب ذنبٍ أورث توبةً فأورثت عملاً وندماً واجتهاداً وعزيمة، قال ابن القيم: سألت شيخنا ابن تيمية عن الحديث: (ما يقدر الله لعبده قدراً إلا كان له به خير) قال: أليس الله يقدر الشر؟ قال: بلى.
-المعصية أليست من قدر الله؟ بلى.
المعصية من قدر الله- قال: إذاً كيف يكون للإنسان فيها خير، قال: بما يتبع ذلك من الذل والندم والانكسار، والإكثار من الحسنات الماحيات لهذا.(8/10)
العلاقات المتبادلة
ثم بعد ذلك أيها الإخوة! البداية بعد هذه النقطة في علاقتي بكم وعلاقتكم بي، تستمر علاقاتنا وصحبتنا على وتيرة واحدة، حيا الله فلاناً، أهلاً وسهلاً، حيا الله الداعية، حيا الله الشيخ، حيا الله فلاناً، حيا الله فلاناً، وأين نقدنا لبعض؟ أين الذين تواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر؟ أحد جاء وأمسك فلان بن فلان قال له: اتق الله، لقد فعلت كذا، فإن كان فعلاً قد فعله، قال: أستغفر الله وأتوب إليه، وإن كان لم يفعله قال: لم أفعله وجزاك الله خيراً حذرتني منه، قال ابن القيم: ومن مساوئ الخلطاء أو المجالس أن تجد بعضهم يتزين لبعض، وهذا أمر ملاحظ، تجد الواحد يجلس في مجلس، والله يا فلان ما مثلك! وأنت حقيقة ما بعدك، ثم نجلس فرشاة في بعض، كل واحد يمدح الآخر، ونقوم وكأن الواحد منا إبراهيم الحربي، وإبراهيم النخعي، وسفيان بن عيينة، وإسحاق بن راهويه ما شاء الله بلغنا قمة الأمر، أين المناصحة فيما بيننا؟ أين التواصي فيما بيننا؟ بالأمس وقت صلاة الظهر ولعل الكثير منكم حضر جنازة أبي عبد الملك الأخ في الله إبراهيم الشارق، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، كان صديقاً محباً، ربما زارني في سرٍ وزرته في سر، وجلسنا لوحدنا، وجلوسي معه وجلوسه معي على انفراد أكثر من جلوسنا على اجتماع، فكان الشيخ محمد الفراج جزاه الله خيراً يستغل فرصة اجتماع الشباب من أجل الصلاة على الجنازة ومن ثم التشييع واتباعها، فذكر كلاماً، والله قال كلمة تمنيت أني كنت الجنازة، والله أيها الإخوة! قال: وقد عرفنا الأخ إبراهيم عفيف اللسان عن الغيبة والنميمة، الله أكبر! أيها الإخوة! من يجد هذه المنقبة؟ هي مسألة سهلة، قد يقول واحد: ظنناك ستمدحه بأنه حفظ الصحاح أو السنن، أو القرآن بسبع قراءات، هذه خير، ولكن العفة عن الغيبة والنميمة أخير وأعظم، من منا أيها الإخوة! في تهذيبه وانطلاقه بالدعوة من نفسه، يبدأ مع إخوانه، فإذا بدأت أتكلم في عرض فلان قال: ما أنت بالشيخ سعد، أنت أقل من الأخ سعد، اصمت هذه غيبة، إن شئت قلها صراحة، إن شئت قلها بتورية، إن شئت قلها كناية، إن شئت أومئ ببصرك، إن شئت خذني على انفراد، إن شئت انصحني بأي طريقة، المهم ألا نسكت عن بعض، وألا يجامل بعضنا بعضاً.
من هنا نبدأ أيها الإخوة! أن نكون صادقين في علاقاتنا، ألسنا نتحاب في الله؟ ألسنا ندعي أن العلاقة والرابطة بيننا هي الحب في الله والبغض في الله؟ فلماذا إذاً يتزيا ويتزين ويتجمل بعضنا أمام بعض بالمديح المتبادل؟ ربما تفعل خيراً فتسمع ثناءً، وتلك عاجل بشرى المؤمن كما في الحديث، لكن والله يا أيها الإخوة! إن الإنسان يأتيه الشيطان، وأيضاً يحاسب نفسه، يقول: الله أكبر! مر شهر كامل ما واحد من إخوانك دس لك رسالة تحت الباب ينصحك، ما شاء الله، أنت الكامل!! أنت المثل الأعلى، والقدوة الأسنى!! ما فيك خطأ أبداً!! رغم مجالساتك وكثرة حديثك ولقائك وكلامك، ما نصحك أحدهم، وما أهداك عيباً من عيوبك.
لماذا؟ لأننا نكره أن ينصحنا إنسان في عيوبنا، نحب المديح، نتلذذ له: جزاك الله خيراً، أحبك الله كما أحببتني فيه وهلم جراً، لكن نصيحة، يا أخي! بعض الناس معقد، بعض الناس ما يفهم.
أعجبني ذات مرة أحد الإخوان، قلت له: أتمنى أن أكون ممن حفظ القرآن كله عن ظهر قلب كسائر الحفاظ، قال: تريد أن تحفظ القرآن وأنت تجمع في حياتك بين شغل الدنيا والآخرة؟ لا يمكن أن تحفظ إلا إذا تفرغت للآخرة تماماً، أعجبتني هذه الكلمات، والله تلذذت بها، قلت: يا أخي! الله يجزيك خيراً، لطالما اشتقت أن أسمع كلمة كهذه، لو كان غيره: لا يا أخ سعد! أنت مشغول في الدعوة، وهؤلاء الإخوان يشغلون وقتك وأنت وأنت وهلم جراً، وأخذ كل واحد منا يلمع ويرقع ويزين للآخر، لكن الصدق في العلاقة هو خير ما نربي به بعضنا البعض.(8/11)
الشعور بالمسئولية
أقول أيها الأحبة: إن البداية تبدأ من كل واحدٍ منا أن يشعر بأن له قدرة، وله مكانة وله منزلة، ولابد أن ينطلق ويبدأ، وأحب دائماً إذا طرحت موضوعاً أن أقدم مشروعاً، ومشروعنا أيها الأحبة! تحت التجربة، وقد أثبت بفضل الله جل وعلا نتائجه الإيجابية.
هذا المشروع بدأ بحيٍ من الأحياء، كان قبيل انفجار أزمة الخليج، ومع مواكبة الوضع في الأزمة وانتهائها بفضل الله جل وعلا، نسأل الله أن يجعل العواقب حميدة، ألا وهو أن المجالات عديدة وواسعة وخصبة، ولو أن كل واحد منكم، وأنا أخاطب الآن كل واحد منكم عرف أنه ينتمي إلى مسجدٍ -أقرب مسجد له في الحي- أنت تنتمي إلى جماعة بحكم أنك من جماعة هذا المسجد، تعد الشباب الطيبين الذين هم من أهل الحي، وكل الشباب المصلين على مستوى جيد من الخير والصلاح والاستقامة، تجمع هؤلاء الأخيار الأبرار، تقول: تعالوا أيها الإخوة! هذا الحي كم فيه من بيت؟ مثلاً قرابة مائتا بيت، اعتبر فقط أننا في قرية ليس فيها إلا مائتا بيت نريد أن نتعهد هذه البيوت بالدعوة والنصيحة بمختلف الأساليب، وقد طبق هذا البرنامج مجموعة من إخوانكم جزاهم الله خيراً على حي من الأحياء، أنت يا فلان! في الجهة الفلانية، البلكة التي تسكن فيها فيها عشرة بيوت، بيت فلان وفلان وفلان، كم عدد أولاد الحي؟ فلان كذا وفلان كذا وفلان كذا، وأنت في البلكة الفلانية، وأنت في البلكة الفلانية وهلم جراً، أول قرار: نجتمع أسبوعياً نحن شباب الحي، أو شباب المسجد، وهذه الفكرة لابد من نقلها وتوزيعها وانتشارها في مختلف أحياء مدينة الرياض ومن ثم في جميع مدن المملكة، بل في العالم الإسلامي كله.
أي أن يبدأ الإنسان بمن حوله، ثم تحدد أنت وإخوانك يوماً من الأيام تجتمعون فيه أسبوعياً بعد صلاة المغرب، وإذا أحضرت من المكتب العقاري (الكروكي) المختص بالحي: يحد الحي الشارع الفلاني شمالاً، ويحده جنوباً شارع العشرين، وشرقاً السوق الفلاني، هذا الحي أمامك في ورقة، الحي بين يديك في ورقة، هذا الحي فيه بيوت آل فلان وآل فلان، ادرس أحوالهم، طبعاً أنت لا تعرفهم كلهم، لكن أنا في طرف هذا الحي، وأعرف الذين هم بجواري، وأنت في طرف هذا الحي وتعرف الذين هم بجوارك، أنا بجواري أناس لا يصلون الفجر، بجواري أناس أرى منهم تساهلاً، أجد الموسيقى صاخبة مزعجة في بيتهم، أجد هناك تساهلاً وتبرجاً في وضعهم، وأنت ماذا ترى؟ قال: أرى أناساً يدخلون في أوقات متأخرة، وأجد أموراً أعرف شيئاً منها وأشك في بعضها.(8/12)
أهمية التخطيط والعمل الجماعي في الدعوة
إذاً: من هنا نبدأ، كل واحد منكم يستطيع أن يبدأ بداية متواضعة جيدة نافعة، من هذا الحي الذي بين يديك، ماذا نفعل؟ إخوانكم جزاهم الله خيراً قالوا: أولاً نريد أن يعرف أبناء الحي وأصحاب البيوت والمنازل أننا شباب المسجد، أننا بالتعاون مع إمام المسجد، مع إمام الجامع يهمنا أن نتعرف على جميع البيوت في الحي، ورسالة ودية أخوية: جارنا الحبيب، لعلك غافلٌ عنا، ونحن غافلون عنك، لعلك تمر فلا تعرفني، وأمر فلا أعرفك، لعلك تحتاجني في وقتٍ أشد ما تكون فيه محتاجاً إلى من يسعفك أو يعينك، أو ينقذك أو يقوم بحاجة أهلك في غيبتك فلا تجد أحداً، إني أخوك في الله، ومحبك في الله، وجارك في الحي فلان بن فلان، هذا اسمي وهذا عنواني وهذا رقم هاتفي.
رسالة أخوية، أسلوب من أساليب الدعوة، ثم ماذا بعد ذلك؟ الرسالة الثانية مظروف، مظروف نضع فيه الرسائل، لكنه ظرف كبير ونفس شباب الحي العشرة أو الإثنا عشر كل واحد منهم يتبرع من جيبه أو يحضر من المحسنين بعض المال، ثم نشتري قرابة مائة وخمسين شريطاً، ونضع في كل ظرف شريطاً، ومع كل شريطٍ رسالة قيمة وكتيباً، إذا كان الزمن قرب الحج كتاب عن الحج وشريط عن الحج والأضاحي، وفضل العشر من ذي الحجة، وكل بيت في الحي تستطيع أن تطرق الباب: السلام عليكم جارك فلان، هدية جماعة المسجد، تفضل، فتستطيع أن تغطي الحي بهذا، بعد ذلك انتهى الحج، وجرت عادة هؤلاء الشباب أن يخططوا لهذا العمل، يعني يوزعوا كل خمسة عشر يوماً على أعضاء الحي أو على بيوتات الحي شريطاً وكتاباً في الشهر مرتين، انتهى الحج توشك السنة الهجرية أن تنتهي، كتيب وشريط عن محاسبة النفس.
وأقول أيها الإخوة! خذوا هذا البرنامج وطبقوه، اكتبوه معكم، اجتهدوا في تطبيقه، فلعل الله جل وعلا أن يوقظ به مجتمعنا من الإثم، أن يرفع به المصيبة عن الأمة، أن يدفع به البلاء عن الأبناء والآباء والأمهات، والكبار والصغار، هذا وجهٌ من وجوه الدعوة، وأسلوبٌ من أساليبها وفيه خيرٌ عظيم، والله كنت أسمع في الحي الذي أنا فيه من بعض الجيران موسيقى وأغاني مزعجة، فلما قام الشباب في الحي جزاهم الله خيراً وبدءوا بهذه الطريقة؛ وزعوا على كل بيت كل أسبوع الظرف هذا وفيه شريط وكتيب، إذ بي أسمع تارة صوت القرني يجلجل، وتارةً مواعظ الحماد تجلجل، وتارةً خطب القطان تجلجل، قلت: اللهم لك الحمد، الناس بخير، الناس عندهم استعداد، الناس -أيها الإخوة! - وبالذات النساء في البيوت أرق أفئدة، أقرب عواطف، يتأثرن بسهولة، وربما التزمت واستقامت وتابت، واجتهدت في الطاعة قبل الرجل، وأعرف هذا جيداً، بعض البيوت الأب الأشهر الطويلة يقضيها في مانيلا وفي بانكوك وفي البيت الفتاة التي تحفظ القرآن وتملأ البيت بذكر الله، وتعليم أخواتها الدين والستر والحجاب.
فيا أيها الإخوة! لماذا نحرم أنفسنا؟ الكثير منا لم يجرب يوماً ما أن يكون داعيةً في الحي، أنا لا أريدك أن تسافر إلى جدة والدمام والشرقية وتلقي بها المحاضرات وتجمع الجماهير من كل مكان، لا.
أريد كل واحد منكم أن يبدأ التجربة في الحي، من هنا نبدأ، ومن الحي ننطلق.
ثم ماذا بعد ذلك؟ قام إخوانكم الشباب جزاهم الله خيراً، وأقول هذا بكل علنية، بكل صراحة، لا أخشى في ذلك شيئاً؛ لأنه ليس أمر يخشى منه، بعض الناس يقول: لا.
كيف تنشر أسلوبك في الدعوة، وتخطيطك للدعوة؟ هل أنا في دولة بلشفية؟ من أين جاءتني أفكار تجعلني أضع وأدس الحق الذي مكانه المقل والجبين والرءوس تحت الكواليس؟ من أين جاءني هذا الوهم الذي جعلني أنسج خيوطاً عنكبوتية حول نفسي، ولا أصارح وأعلن بدعوتي في منهجي وفي أسلوبي وطريقتي؟ لست بحاجةٍ إلى هذا، أنا لا أعيش بدولة كافرة؛ شيوعية أو بلشفية، أو بعثية؟ لا.
أنت في أمة مسلمة، فإياك إياك أن تحقق ظن إبليس فيك، فمن ثم يستطيع أن يقيدك ويكبلك وتظن أنك عاجز.
ماذا بعد ذلك؟ قام الشباب جزاهم الله خيراً وكل هذا أنا فيه شاهد عيان، فأنا أصف ما رأيت لا أصف ما نقل إليَّ، بعض الشباب رتبوا محاضرة، كتبوا إلى مركز الدعوة الإذن بمحاضرة، ولكن اجتهدوا أن تكون المحاضرة مخصصة لأهل الحي، إذا حضر أحد من حيٍ آخر فلا مانع، لكن اجتهدوا أن تكون المحاضرة لأهل الحي، جاء الإذن من مركز الدعوة بإقامة المحاضرة، فأرفقوا مع الإذن دعوة -صوروا هذا الإذن بعدد بيوتات الحي وصوروا مع الإذن دعوة-: جارنا العزيز! ندعوك ونتشرف بدعوتك لحضور هذه المحاضرة بالوقت الفلاني بحضور إمام المسجد، ووجهاء وكبار الجماعة في المسجد، نرجو أن نحضر سوياً، ووزعت الدعوة والإذن من مركز الدعوة مع دعوة إمام المسجد أو الجامع، مع شباب جماعة الحي إلى كل بيت، مع المظروف الذي تعودنا أن نضع فيه شريطاً ورسالة، ثم اجتمع الجيران في الوقت المحدد، وكان الحديث عن حقوق الجوار، اجتمع الجيران وإذا بنا نرى وجوهاً ما كنا نراها، وهذا يعني أن لنا جيراناً عندهم الاستعداد أن يشاركونا.
نعم.
رأينا وجوهاً متباينة مختلفة ليست على مستوى واحد من الصلاح، لكن الإطار العام فيهم: حب الخير، فيهم حب حقوق الجوار، التعاون، التناصح، التآلف، التقارب، فبدأ إمام المسجد مع ضيوف الندوة يتناقشون في قضية الجوار: نحن جيران الآن، أول مشكلة تواجهنا أطفالنا في الحي، لماذا يتعلم الطفل في الحي ألفاظاً بذيئة، نناقش هذه المشكلة يا جيراننا! ما رأيك يا أبا فلان؟ فهل من شرط الندوة: وأما الآن يتقدم فلان، ثم يقوم فلان، ويسكت الجمهور، ثم ينتهي ويقدم الأسئلة؟ لا.
ممكن أن يتناقش أهل الحي في اجتماع شهري، أو كل شهرين، المهم أن شباب الحي بدءوا يعملون فأنتجوا، ماذا تبع ذلك؟ تبع ذلك أن أصبح عدد العاملين في الحي بدل أن كانوا ثمانية شباب وهم الذين قاموا بالفكرة، أصبح عدد الدعاة في الحي أكثر من خمسة وعشرين أو ثلاثين شاباً، وهؤلاء لم يقف حد الواحد منهم عند مسألة نفع الجيران أو العمل مع الجيران فقط، لا.
بل أصبح الواحد منهم يتطعم ويتلذذ حلاوة العمل في الدعوة إلى الله جل وعلا، فلما وجد أثر الشريط والكتيب على بيته وجيرانه، وأثر الرسالة والاجتماع أصبح يدعو زملاءه في العمل ويتناقش معهم، ويعطيهم الأشرطة، ويواعدهم بالذهاب إلى المحاضرة، ويخرج معهم الرحلة، يرتب معهم العمرة، يخطط معهم الذهاب في رحلة للحج وهلم جراً، ومن ثم استطاع هؤلاء أن يقدموا أنموذجاً جيداً، فنحن أيها الإخوة! وشباب الصحوة في مختلف أنحاء الجزيرة عددٌ لا يحصيه إلا الله، عدد هائل كبير جداً، لكن حقيقة الأمر أشبههم برجل عنده ألف عامل، وكلهم ما شاء الله يلبسون الزي الرسمي للشركة، افرض هذه الشركة شركة دعوة، وزي الشركة البدلة الكاملة مكتوب على صدر العامل (دعوة) فتجد رئيس الشركة قد وظف مائتي عامل، ثمانمائة عامل مكملين بالزي لا أحد يمارس أي نشاط أو أي دور أو وظيفة في الدعوة، فأقول: هذا ينطبق على كثيرين من شباب الصحوة، تجده ملتزم الزيِّ الكامل؛ السمت، توفير اللحية، تقصير الثوب، الحرص على أمور طيبة، تجد الرجل متصفاً بالزي المناسب أو المطلوب شرعاً في هذه المهمة، لكن أين العمل؟ أين الخطوات الإيجابية؟ لا تجد شيئاً أبداً، لماذا يا أخي؟! أليس القادة، أليس الدعاة يقولون للناس: تعالوا نقودكم إلى نهج الخير والصلاح؟ جاء العامة والناس والتزموا، قالوا: يا الله! ها قد جئناكم ولحقناكم؛ وفرنا لحانا، وقصرنا ثيابنا، واستقمنا، أعطونا الجديد، مما عندكم، نقول: تعال وقف جنبنا، والحقني وقف جنبي ما استطعت، إذاً أن أقدم معه شيئاً ووقفت أنا ومن أدعو في خطٍ واحد، وهنا يكمن الخطر، ربما ضياع البرنامج أو عدم وجوده هو الذي يشغل هذه النفوس، يردها إلى انتكاسة، إلى انحرافٍ بعد استقامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فالمسألة -أيها الإخوة! -: حساسة جداً جداً، يتطور الأمر، بدأ عند هؤلاء الشباب لما كثروا بعد أن كانوا في البداية ثمانية، أصبحوا قرابة خمسة وعشرين أو ثلاثين داعية، لما كثروا ماذا حصل؟ قالوا: الآن ما شاء الله صرنا كثرة، كم عدد محلات الفيديو عندنا في الحي؟ عندنا ثلاث محلات فيديو، ما رأيكم أن ننقسم إلى ثلاث مجموعات؟ المجموعة هذه تزور المحلات يوم السبت، وهذه تزور المحلات يوم الإثنين، وهذه تزور المحلات يوم الأربعاء، لا صراخ ولا زعاق ولا تعويل، ولا صياح ولا نياح، تدخل على صاحب المحل: السلام عليكم، كيف الحال؟ (عساك طيب؟) (ويش لونك؟) إنَّا والله جيرانك في هذا الحي، وتفضل هذه رسالة، رسالة التنبيه بخطر، أكل الحرام، شرب الحرام، ما ظنك لو مت وأنت في هذا المحل؟ ما ظنك لو مت: هلك هالك عن خمسة آلاف شريط فيديو وستين جهاز GVC، وثلاثين جهاز سوني، هذه التركة، والمسألة من ستة، للأم السدس أم كيف نفعل بها؟ لو مت؛ أيسرك أن تلقى الله وهذه تركتك.
أيها الأخ! ربما لا تجد في السوق كتيباً أو رسالة مناسبة لصاحب محل فيدو أو محل أغاني، لكن إذا لم توجد رسالة جاهزة، اجتمع أنت وإخوانك وصوغوا رسالة بهذا الموضوع حساسة جميلة، اعرضوها على أحد طلبة العلم يُحبِّرها لكم، ثم تطبعها أنت، وربما تأخذ بها الإذن، وقد لا تحتاج إذناً وتوزعها أول ما تزور صاحب المحل، أو تكتبها رسالة خطية: تفضل يا أخي! هذه رسالة أرجوك، لست أرجو منك إلا أن تقرأها في لحظةٍ من هدوء نفسك وفراغها.
فيا أيها الإخوة! أصبح العمل متطوراً، بدل أن كان عمل جيران فقط، تطور إلى مسألة دعوة الوجوه الموجودة، وأضرب لكم مثالاً: واحد من الشباب الذين يعملون معنا في الحي جزاهم الله خيراً، قال لي: أريدك، قلت: ماذا عندك؟ قال: هناك شاب يعمل في بنك يريد أن يتوب.
المسألة تطورت، الدعاة بدءوا يدخلون البنوك، كيف ندخل إلى هذا الشاب؟ قلت: ابحثوا عن شاب كان يعمل في بنك فتاب إلى الله، وائتوا به معنا، فأخذنا هذا الشاب الذي كان يعمل في بنك من البنوك، ثم التقينا بهذا الشاب الذي لا يزال يعمل في البنك، وبدأنا نتحدث ونتكلم وهلم جراً، حتى دار الكلام عن العمل، فقال: والله إني أريد ترك العم(8/13)
التوازن في الحكم على الآخرين
إن مشكلتنا دائماً أننا نريد من يتعامل معنا أن يوافقنا بكل شيء، أنا أعرف رجلاً -ما شاء الله- ثرياً جداً، لكن شيء اسمه شريط إسلامي، يقول: هذا لا اعترف به، لا أعبره، أقول له: قاتلك الله، وكفانا الله شرك، وأنت وأنت إلخ؟ الرجل يبذل ويتفانى في طبع الكتب باللغات الأجنبية التي تدعو الكفار إلى الإسلام، أليست هذه خصلة إيجابية ينبغي أن أحبها في الرجل، وينبغي أن أستغلها فيه؟ نعم.
أم لكونه لا يحب الشريط، أو في ذهنه تصور معين يحتاج ربما إلى أشهر لإصلاح هذا التصور الذي رسخ في ذهنه، ربما تَكَوَّنَ هذا التصور خلال سنوات عدة، أو خلال أشهر، أتريد أن يتغير تصوره في خلال جلسة أو جلستين معك؟ لكن عنده جانب إيجابي، ألا وهو حب طباعة الكتب باللغات الأجنبية من أجل دعوة الكفار إلى الإسلام، أفلا تستغل هذا الجانب؟ بلى والله.
إذاً فيا إخواني: نحن في الحقيقة عندنا الارتجالية، الإنسان إذا قلت له: اتق الله، وقع يبكي ويصبح يعد ذنوبه، ورجعنا على توبة صادقة، وإلا فلا فائدة، لا يا أخي! قد لا يتوب لا في المرة الأولى ولا الثانية، ولا في الثالثة ولا الرابعة، لكن مثلما يقول العوام: الناقوط يخرج الحجر، الناقوط جربه نقطة نقطة ماء، تجد على مر الأيام والأشهر منذ مكان الحجر، يعني النقطة تسقط على هذا المكان في الحجر، فإذا بها قد أحدثت فيه فجوة أو خرقاً، أو مساماً معيناً، فأنت تحتاج إلى هذا التخطيط طويل المدى.
المسألة الأخرى: أيها الأخ الكريم! قد لا تستطيع أن تجعل مجتمعك يخلو من المعاصي والمنكرات لأول وهلة.
لكن كما قال الله جل وعلا: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] فقد يوجد من يحاجك ويجادلك في الربا، لا يمكن أن توجد أمة إلا بقوة، ولا قوة إلا ببنوك، ولا بنوك إلا بفوائد، كما يقول الملهم صاحب النظرية الاقتصادية، لكن إذا أنت تتمنى أن الله جل وعلا يبعد عن أمتك وعن بلادك شؤم الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] إذا تمنيت هذا ولم يتحقق فإنك تستطيع أن تحقق إثبات خطر الربا في كل مقام، في كل مناسبة، في كل خطبة، في كل منتدى، في كل لقاء، في كل مقالة، استغل كل ما يمكن أن يقع بين يديك؛ مقالة، إذاعة، تلفاز، أي شيء تستطيع من خلاله أن تحذر من خطر هذا الشيء الذي لم تستطع تغييره، ما استطعت أن تغير الربا، هل يعني ذلك أن تسكت، لم تعد تذكر بخطر الربا وشؤمه على الأمة، وأنه لعنة وبوار وهلاك؟ لا.
لابد أن تذكر: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33] تأتي بالحق وتبينه، وتفسره وتوضحه؛ تبين خطر الربا، خطر الاختلاط، خطر الفواحش، خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا.
إذاً: أيها الأحبة: باختصار: كل واحد منكم يعتبر نفسه الوحيد في الحي، لا تنتظر أن يأتي أحد يطرق الباب يقول: فلان! تعال لكي نبدأ، اعتبر نفسك أنت الوحيد، فإذا اعتبرت هذا الأمر تحركت لكي تدعو جارك، وإذ بجارك يقابلك تحرك ليدعوك، فالتقيت أنت وإياه، والتقيتم بمجموعة شباب، وجلستم في مجلس أسبوعي لكي تخططوا لهذا الحي.
أنا أقول لكل واحد منكم الآن: كم لك سنة وأنت ملتزم؟ أربع سنوات، خمس سنوات، ماذا قدمت للحي الذي أنت فيه؟ هل وزعت على جيرانك أشرطة أو كتيبات؟ هل جمعت أفراد الحي بمناسبة عامة؟ ألسنا نجتمع في العيد؟ أمر ليس غريب، إذا جاء العيد كل واحد منا يأتي بعيده معه، هذا يأتي بقرصان، وهذا بجريش، وهذا بدجاج، وهذا بغنم، وهذا بلحم جزور، وصفوا أصنافاً، وجلس الجيران وكلٌ يذوق من عيد فلان قليلاً، ما المانع أن نجعل لنا عيداً شهرياً؟ واحد يقول: والله فلان ابتدع علينا عيد النيروز، وإلا عيد الفصح، لا.
أقول: لقاء شهري يجمع الجيران في مكان معين، في فناء المسجد، في المكان الفلاني، ويجتمع الجيران، يتحدث بعضهم مع بعض، نفكر ما هي المشاكل التي عندنا، ما هي القضايا التي نواجهها في المجتمع، أطفال الحي ماذا يواجههم، النساء في الحي ماذا خططنا لهن، هل استطعنا أن نرسل كل شهر شريطاً يتعلق بالمرأة، هل رتبنا محاضرة للنساء، نجعل في ليلة من الليالي حراسات على أبواب المسجد، نستأذن باستضافة داعية من الداعيات، ندعو جميع نساء الحي فيحضرن المسجد، وتلقي فلانة محاضرة: ماذا ينبغي على المرأة أن تفعل.
هذه أيها الإخوة! مجالات نحن في غفلة عنها، وأنا أظن كما قلت في بداية المحاضرة أننا إن لم نر الربا يسقط، والاختلاط ينتهي، ومحلات الفيديو تغلق، إذا لم نر هذا فلا نعمل لا.
نريد العمل، من كل مستوى ومن كل لحظة، ومن كل مرحلة، وثقوا بالله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55] والله لتجدن الحق مستخلفاً: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص:5] وعد ما أنت مستضعف، من باب أولى أن تمكن، ومن باب أولى أن تجد للحق تمكين وقوة وقدرة: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5] فلماذا هذا الضعف؟ ولماذا هذا التكاسل؟ لماذا هذا الخور؟ لماذا هذا الجمود أيها الإخوة؟! كل واحد منكم أخاطبه، وكل واحد منكم أشهد الله عليه أنه عرف وعلم وسمع ودرى وخبر، وأشهد الله على كل من سمع هذا الشريط أن يتقي الله في نفسه، وأن يبدأ ولو بخطوة واحدة إلى الأمام، ما أكثر ما جلسنا في المجالس نسب العلمانيين والفساد والمنكرات، وما أندر ما نجد من كل من سب أولئك كلهم يقوم بخطوةٍ إيجابية (لأن توقد شمعةً في الظلام خيرٌ من أن تلعن الظلام ألف مرة).
أسأل الله جل وعلا أن يثبتني وإياكم، أسأل الله أن يثبتنا، أسأل الله أن يثبتنا، أسأل الله أن يثبتنا، وألا يكلنا إلى أنفسنا، اللهم اقبضنا إليك هداةً مهتدين، راضين مرضيين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم لا تفتنا، اللهم لا تفتنا، اللهم ولا تفتن بنا، ولا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، اللهم توفنا من غير انتكاسة أو ضعف، أو تقلب حال أو حورٍ بعد كور، أو ضلالة بعد استقامة، أو زيغٍ بعد هدى، نسألك اللهم الثبات إلى أن نلقاك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(8/14)
الشاب المبارك
شبابنا اليوم -إلا من رحم الله- مالوا عن الهدف الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله، ولقد نزعت البركة من شبابنا اليوم -إلا من وفقه الله- فلا تكاد تجد شاباً تعتمد عليه في نصرة هذا الدين.
فنحن اليوم نبحث عن الشاب المبارك المبارك في وقته وعمره وهمه وفكره وعمله.
وقد تحدث الشيخ عن هذا الموضوع وأفاض، وحث الشباب على علو الهمة.(9/1)
مقدمة عن مجالس الذكر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فأيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإني لأسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء الذي ما ظننت أن حضوره بهذا العدد المبارك ألا يدع لإخواننا الحاضرين ذنباً إلا غفره، ولا هماً إلا فرجه، ولا ديناً إلا قضاه، ولا توبةً إلا قبلها بمنه وكرمه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتنا في الله: وأنا في الطريق إليكم تجولت بفكري في كثير من المجالس والاستراحات والمناسبات والرَّدَهَات وأماكن اللقاء والاجتماع، فرأيت الناس لا يخرجون في لقاءاتهم عن أمور، لقاؤكم هذا هو أجَلُّها وأكرمُها وأشرفُها وأعلاها منزلةً وأكرمُها جناباً عند الله سبحانه وتعالى، وما ذاك إلا أنكم اجتمعتم على غير أنساب بينكم، ولا مصالح تجمعكم، ولا مقاصد من حطام الدنيا الفاني ألفتكم، وإنما جمعكم جميعاً أن تمجدوا الله وتثنوا عليه، وتحمدوه وتكبروه وتسبحوه، وتتفكروا فيما شرع الله لكم أن يتفكر فيه، وأن تصلوا على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تتذاكروا حديثه وسنته وأثره وسمته وهديه صلى الله عليه وسلم، فمن ذا يقول أن ثمة مجلس أرقى وأجل وأكرم وأكمل من مجلسكم هذا؟! ليس على وجه الأرض مجلس أجل وأعلى من مجلسٍ يُذكر الله عز وجل فيه ويُصَلَّى فيه على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون الحديث مرتبطاً بالوحي المعصوم بكلامه سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم يا أيها الأحبة: لما أكرمكم الله بالاجتماع على هذه المقاصد وطهَّر مجالسكم من مقاصد دنيئة أو تافهة أو ليست بشيء يذكر؛ عندما اجتمعتم إليه تذكّروا أن الله سبحانه وتعالى قد أكرمكم بهذا وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً.
ما أكثر الشباب! ولكن أين هم؟! ما أكثر الرجال! ولكن أين هم؟! ما أكثر المجالس! ولكن ما هي؟!(9/2)
الناس كإبل مائة
إذا تأملتم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة) هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري هو من جوامع الكلم ومن جوامع الحكم التي خُصَّ بها نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح جلي.
أنت تعد الكثيرين من الناس، ثم إذا أردت أن تخرج من بينهم واحداً يُعْتَمَد عليه بعد الله في الشدائد، أو يُعَوَّل عليه بعد الله في الملمات أو يُدَّخَر عند الكربات لم تجد أحداً، وما ذاك إلا أن الناس أعداد كالأصفار إلا النوادر منهم الذين هم كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
كم عدد الشباب! وانظر من هم الصالحون من بينهم، كم عدد الشباب الذين يملئون الشوارع ذهاباً وإياباً وغدواً ورواحاً! ولكن من هو الذي يكون بركة على نفسه وبركة على أهله وعلى أسرته ومجتمعه؟! الكثير من شبابنا اليوم كما قال الأول:
وأنت امرؤٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ وموتك فاجعُ
الآن لو سمعنا صوت فرامل سيارة على الشارع فكلنا تنصرف رقبته باتجاه الشارع، وأسماعنا تنصت، وتبدأ الخيالات تتصور أهو حادث انقلاب سيارة، حالة تصادم، وهل سلموا، أو لم يسلموا، وافترض مثلاً أن رجلاً جاء إلينا وقال: يا ناس! يا شباب! يا من اجتمعتم في هذا المكان! يوجد شاب نزل من سيارته، أو فحط بسيارته، أو صارت عنده مشكلة وهو الآن في حالة نزيف ونريد منكم أن تنقذوه؛ هل سيتردد منكم أحد أن يتبرع بقطرات من دمه لإنقاذ حياة هذا الشاب؟
الجواب
لا.
كلنا بحكم إسلامه، بحكم أنه محسوب على الإسلام والمسلمين قد يكون اسمه: عبدالله أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو عبد الملك أو أي اسم من الأسماء، ولإسلامه خرجنا نسعفه نريد أن ننقذ حياته، ثم لما تبرع هذا الجمع بدمه لهذا الشاب الذي نزف بعد الحادث ودبت الحياة إلى جسمه من جديد، هنا نسأل هذا الشاب ونسأل أنفسنا: ماذا قدم هذا الشاب في طاعة الله عز وجل؟ ماذا قدم لدين الله سبحانه وتعالى؟ ماذا قدم لنفسه في مرضاة الله؟ ماذا قدم لوالديه؟ ماذا قدم لأمته لمجتمعه لدعوته لعقيدته لدينه؟ الجواب كما قال الأول:
وأنت امرؤٌ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفعٌ وموتك فاجعُ
يوم أن صار عليه الحادث فُجِعنا وهرعنا وذهبنا نتبرع له من أجل إنقاذ حياته، ولما أنقذنا حياته ما وجدناه قد نفعنا بشيء، بل ربما لم يسلم الناس من شره، بل ربما عاد مصيبة وشؤماً وشراً وبلاءً على نفسه يوبقها ويهلكها بالذنوب والمعاصي، وعلى والديه بالعقوق وعلى رحمه بالقطيعة وعلى جيرانه بالإساءة وعلى دينه باللامبالاة وعلى المسلمين بعدم الاهتمام، وقس على ذلك صوراً وأمثالاً من اللامبالاة التي نجدها في شبابنا، ويعدون على أمة الإسلام، نحن حينما نقول: عدد المسلمين مليار ونصف مليار، أي: ألف مليون وخمسمائة مليون مسلم هل كل هؤلاء هم الذين تمتلئ بهم المساجد؟! هل كل هؤلاء هم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً؟! هل كل هؤلاء يتحاكمون إلى شريعة الله عند الشجار والنزاع؟! هل كل هؤلاء هم البررة الأطهار الأخيار الأبرار هل هل إلخ؟! لا.
القلة من هؤلاء بل لا تكاد توجِد من الألف واحداً، وكما قال الشاعر أولاً:
يا ألف مليار وأين هم إذا دعت الجراح هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
يعني: ينادي المسلمين.
يا ألف مليار وأين هم إذا دعت الجراح هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
هل نجد من ألف مسلم مسلماً واحداً؟! هل نجد من ألف شاب شاباً واحداً؟! هل نجد من آلاف المتسكعين والضائعين والمفسدين والفاسقين واللامبالين والعابثين والهازلين؛ هل نخرج واحداً من أمة الإسلام نقول: هذا هو الجاد بين الهازلين! هذا هو العابد بين الضائعين! هذا هو المجاهد بين المستسلمين! هذا هو الصابر بين المتسخطين؟! ستجد حتى الواحد من الألف لا يكاد يوجد، وتجد من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عمر: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة).
إذاً نحن نبحث عن الشاب المسلم المبارك، أما ذلك المسلم الذي يُحسب ولا ينفع، يُعد ولا يشفع، إن أصيب قيل: أيها الناس! أعطوه، وإن جاع قيل: أيها الناس! أطعموه، وإن ظمئ قيل: أيها الناس! اسقوه، وإن عري قيل: أيها الناس! اكسوه، إلى غير ذلك، هؤلاء ماذا يقدمون؟! تجد الواحد منهم كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12].
إذا الواحد منهم في لحظة خطر ومرض وأنين ووجع وألم وسقم ويئن: آه آه من الأمراض يقول: يا ألله، وفي تلك اللحظات ربما يلتفت يتوضأ ليصلي، ربما يحاسب نفسه ويعد نفسه أن يستقيم؛ لكن: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} [يونس:12] لما رفع الله عنه البلاء وكشف عنه الداء وجرت العافية في دمه: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] ما كأن مصيبة أصابته، بل تجده يبارز ربه بألوان الذنوب والمعاصي، وتلك -وايم الله- من أعظم المصائب.
أحبتنا! نحن نريد من هؤلاء الألف: الشاب المبارك الذي ينفع الله به كما قال عيسى عليه السلام، أو كما أخبر سبحانه في سورة مريم عن عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ} [مريم:31] نحن نريد ذاك الشاب المبارك أينما كان، المبارك في مسجده المبارك في مدرسته المبارك في تعليمه المبارك في حيه في أسرته في عمله في تجارته في ذهابه وإيابه، هذا هو الذي نريده، أما هذه الأعداد فماذا تقدم؟ أما أن نجد صوراً بلا حقائق فماذا تنفع الصور بلا حقائق؟!(9/3)
شبابنا اليوم وحقيقة إسلامهم
أبو الحسن الندوي رحمه الله من علماء الإسلام؛ كتب كتاباً وهو من الكتب الفكرية النافعة، ونحن إذ نوصي الشباب أن يقرءوا القرآن وتفسيره والسنة وشروحها؛ لكن أيضاً نوصي بقراءة بعض الكتب التي تنفع؛ يقول: إن الصور لا تغني من الحقائق شيئاً، تجد الطفل الصغير يدخل في متحف من المتاحف فيجد أسداً محنطاً فيدخل الطفل يده بين فكي الأسد، بل يتحسس أنياب الأسد بأنامله، بل وتجد هذا الطفل يمتطي صهوة الأسد ويتمسك بلمته ولا يخشاه ولا يخافه، سبحان الله! أسد سبع مفترس مخيف، لو زأر لاهتزت القلوب من زئيره، كيف هذا الطفل يحوم حوله! وربما يستلقي تحته! ما الذي حدث؟! الجواب واضح: لأن هذا الأسد صورة، لكن دع قطاً يدخل فجأة، تجد هذا الطفل يصرخ، بل لو وجد وَزَغَاً أو صرصاراً أو خنفساء تجد هذا الطفل يخاف ويصرخ ويهرع، سبحان الله! هو يتقلب على الأسد والآن يخشى من صرصار أو خنفساء أو غيره، الجواب واضح: لأن هذا حقيقةُ صرصارٍِ، حقيقة خنفساء، حقيقة قط، أما هذا الأسد فهو صورة.
فكثير من شبابنا اليوم هم صور والحقائق تكاد تكون قد انطمرت، نحن لا ننفي عن حقيقة الإسلام حتى لا يقول أحد: إن هؤلاء الشباب يكفرون الناس، أو هؤلاء الشباب ييئسون من صلاح الناس، لكن نقول كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] من كثرة ما كسبوا من السماع والرؤية والكلام والغفلة والقعود عن الصلوات، والبخل في الصدقات وو إلى غير ذلك، تراكم على أنفسهم طبقات من المنكرات أصبحت الحقيقة مندرسة مطمورة مختفية تحت طبقات الذنوب والمعاصي.
حقيقة الإسلام الموجودة عند الشباب هي مستقرة في القلوب، ولا أحد يكفرهم؛ لكن أين أثرها في الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر في الاستقامة في الصلاة في الطاعة في العبادة في الدعوة؛ في السمت الحسن: في في إلى آخره، لا تجد لها أثراً، ولما غابت الحقائق أصبح هذا الكم الكبير لا يؤثر ولا يضر شيئاًَ.
الآن أعداء الإسلام هل يخافون من الصائعين الضائعين من المسلمين؟! هل يخافون من الذين يتسكعون فيما يسمى بالفيديو كليب والأغاني وملاحقة الماجنات والراقصات؟! هل يخاف أعداء الإسلام من الذين يقضون حياتهم مع العراة والكاسيات العاريات والمعاكسات والضياع؟! لا يخشى أعداء الإسلام من هؤلاء، يخشى أعداء الإسلام من مسلمٍ حقيقي يعرفون أنه يحمل هماً للإسلام وينتظر موعداً لنصرة الإسلام، فهذا هو الشاب الذي يخشاه أعداء الأمة.(9/4)
بركة الشباب
أحبتنا في الله: كل واحد منكم يمكن أن يكون هماً يؤرق الكفار، كل واحد منكم يمكن أن يكون قَلَقاً لا يغادر عقول الكفار، كل واحد منكم يمكن أن يكون عدداً صحيحاً وليس صفراً على الشمال، وذلك إذا صدقت نيته مع الله عز وجل إذا صدق إقباله على دين الله إذا صدق طلبه للعلم في مرضاة الله إذا صدق اتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صدق سعيه في الدعوة إلى الله وبيان الحق وتوضيحه وسهولته لعباد الله عز وجل أما ما سوى ذلك فكما قال الأول:
فحسبك خمسة يُبْكَى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه(9/5)
ابن باز وبركة عمره
الشيخ ابن باز لما توفي -أسأل الله أن يجعله مع النبيين والصديقين والشهداء وأن يجمعنا به وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنكم ولأننا جميعاً نحبه في الله، والله قد وعد المتحابين في الله كما في الحديث الصحيح في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله- سماحة الشيخ ضجت الدنيا عليه في أنحاء العالم في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وقارة آسيا وصُلِّي عليه صلاة الغائب وهو رجل واحد؛ لكن لما كان يحمل هموم أمة ولما كان أمة، لما كانت نفسه أمة في رجل، ولما كان صادقاً مع الله سبحانه وتعالى جعل الله شأنه هماً في عقول العرب والعجم والسود والبيض والسمر والصفر وغيرهم، حتى الآن المجالس وهي تتحدث في مناقبه، وعلمه، وعفوه، وكرمه، وجوده، وحلمه، وفضله، وإلخ، كيف؟ لما أصبح رجلاً مباركاً، والبركة أمر مطلوب، وإلا فالعدد بدون بركة لا فائدة منه، لو قال لك رجل: أسأل الله أن يرزقك عشرين ولداً، وأسأل الله ألا يبارك في واحد منهم، هل تسرك هذه الدعوة؟! هل يسرك أن يكون لك عشرون ولداً ليس في أحدهم بركة؟! لا والله، بل كلهم عبء عليك صرف، ونفقات ومشكلات، وكل يوم من أجل هذا جارُّون بك إلى المخفر أو إلى الشرطة أو إلى العسكر، أو يميناً أو شمالاً، هذا دَعَسَ، وهذا صَدَمَ، وهذا اخَتَطَفَ، وهذا ضَرَبَ، وهذا آذَى، وهذا سَرَقَ، لكن يسرك أن يكون لك ولو ولدٌ واحدٌ قد بارك الله فيه، ذكراً كان أو أنثى: {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} [النساء:11].
إذاً البركة في الشاب مطلوبة، لو أن واحداً قال: أسأل الله أن يرزقك مائة مليون، وأسأل الله ألا يبارك لك فيها، يمكن أن تنفق كل هذه الملايين في ترميم المصائب والمشكلات التي صارت كالسيل المنهمر المتتابع على أم رأسك، فلا تتلذذ من هذه الأرقام والملايين في شيء أبداً.
لو قيل لك: نسأل الله أن يعطيك كذا وكذا وكذا، كم من شاب قال: آه، لو تزوجتُ فلانة الفلانية التي يصدق عليها قول الشاعر:
عراقية العينين نجدية الحشى حجازية الأطراف هندية الشعرِ
الجميلة الممتازة هذه لو تزوجتُها لدخلتُ السعادة من أوسع أبوابها، وهب أنك تزوجتها ولم يكتب لك بركة فيها، ما الذي يكون؟ ستكون آخر عهدك وعلمك بالسعادة، تقول: الله قبل أن أرى هذا الوجه القَذِر كنت أنام مرتاحاً، وأستيقظ مرتاحاً، وآكل مرتاحاً، وأخرج مرتاحاً، لما دخلت هذه الجميلة الكحيلة العسيلة النحيلة ال ال إلى آخره ضيَّعَت علينا السعادة وأصبح لا هم لنا إلا حل مشكلاتها، يوم ذاهب بها إلى أهلها، ويوم آتٍ بها، ويوم نوصلها، وهذه حياتك معها.(9/6)
كن رجلاً مباركاً
ليست القضية أن تملك أموالاً أو أولاداً أو زوجاتٍ بل القضية أن تكون رجلاً مباركاً ينفع الله بك أينما كنت، ومستحيل أن تكون فيك بركة إلا إذا تمسكت بشرع الله ودينه وسنة نبيه، هل يمكن أن تكون البركة في معصية الله؟! هل يمكن أن تكون البركة في الإعراض عن ذكر الله؟! هل يمكن أن تكون البركة في شخص لا يشهد الصلاة مع الجماعة؟! هل يمكن أن تكون البركة في عاقٍ لوالديه أو قاطع لرحمه أو آكل للحرام أو متربص بالناس، يريد أن يقفز إلى حرمات يسخطها الله ولا يرضاها فهل يمكن في هذا بركة؟!
الجواب
لا.
إذاً لينظر كل واحد منا موقعه، نحن لن نتكلم اليوم لنقول عن الناس فيهم وفيهم، نريد أن نتكلم عن أنفسنا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
دواؤك فيك وما تشعرُ وداؤك منك وما تبصرُ
وتحسب أنك جسم صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ
إن الله تحدى بك خلقه، وإن الله قد جعل فيك معجزات عظيمة وقال سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت:53] في الكون {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53].
هذه النفس التي أنت تتنقل بها إن شئت أن تقول: إنها ثروة فهي ثروة، بعض الشباب يقول: أنا فقير أنا مسكين أنا ما عندي في الرصيد ألف ريال أنا أنا أنا أنا! أجل أيها الشاب الفقير الذي لا ترى نعم الله إلا في المال! أيها المسكين لا يرى أن النعمة إلا في النقود! أيها المسكين الذي لا يعرف أن النعمة إلا في كذا! هل تريد أن ننزع منك الكبد ونعطيك ملياراً مقابلها، هل تريد أن ننزع منك يديك لتبقى معوقاً عن الحركة بهما ونجعل الملعقة في فمك؟! هل تريد أن نعطيك ونعطيك؟! لا.
لا تقبل بذلك.
إذاً أنت بنك متحرك، يداك مليارات، ولا ترضى أن تباع بمليارات، رجلاك بالمليارات، وأسأل الله أن يخلف على إخواننا الذين فقدوا من عافيتهم ما فقدوا بقضاء الله وقدره وأن يرزقهم الصبر والاحتساب حتى يكون مآلهم الجنة، وبشراهم عند الله إن صدقوا الاحتساب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، هل تريد أن تباع العين والأخرى بمليار ومليارات.
إذاً لا تنظر إلى المال فأنت عندك من الأموال في بدنك ما الله به عليم، ولا تنظر إلى الجاه أو المنصب فكم من أناس قد بلغوا فيها ما بلغوا وما نفعوا، ورب أناس ليس لهم في الأرض مناصب ولا مراكز ولا جاه ولا أحساب ولا أنساب نفع الله بهم نفعاً عظيماً.(9/7)
هل أنت ممن يبكى عليه إذا مات؟
يقول ابن أدهم رحمه الله:
إذا ما مات ذو علم وتقوى فقد ثلمت من الإسلام ثلمه
وموت الحاكم العدل المولى بحكم الأرض منقصة ونقمه
وموت فتىً كثير الجود مَحْلٌ فإن بقاءه قَسْمٌ ونعمه
وموت العابد القوَّام ليلاً يناجي ربه بكل ظلمه
وموت الفارس الضرغام هدمٌ فقد شهدت له بالنصر عزمه
فحسبك خمسة يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
أنت أنت، هل تستطيع أن تقول إنك ممن يُبكى عليه، ويُذكر بخير بعد موته؟! أم أن يقال: والله مسكين، ظاهرة طبيعية كوجود أي كائن حي وجد على الدنيا فترة ثم انتهى واختلط ترابه ودمه وجسمه ومخه ولحمه وعظمه بالأرض ولم يحقق أي شيء، لكن تستطيع أن تكون عالماً تستطيع أن تكون مربياً تستطيع أن تكون مجاهداً تستطيع أن تتولى مهمة، لا يُشترط أن تكون حاكماً تحكم البلاد طولاً وعرضاً، وقد تكون كذلك، وقد تكون مسئولاً في أي قضية من القضايا في أي جانب من الجوانب فينفع الله بك نفعاً عظيماً، قد تستطيع أن تكون عابداً قواماً مجاهداً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر فحينئذ تكون من هؤلاء الذين:
فحسبك خمسة يُبكى عليهم وباقي الناس تخفيف ورحمه
مشكلة شباب الإسلام اليوم وأقولها بكل مرارة أن كثيراً من الطيبين أصبحوا أعداداً لا حقيقة لها، نعم جزاه الله خيراً على تدينه واستقامته لكن ماذا يقدم؟! ماذا يجدي؟! لا دعوة، لا أَمْر بمعروف ولا نَهْي عن منكر، لا نَفْع ولا تربية، بل غفلة مطبقة وفيه من الضعف والخور والجبن والكسل ما الله به عليم.
والعجيب كما قال أبو بكر الصديق لـ عمر بن الخطاب: [أجبار في الجاهلية، خوار في الإسلام] لما كان قبل استقامته وقبل توبته كان لا يدع شراً إلا ركبه، ولا فتنة إلا وقف على رأسها، ولما مَنَّ الله عليه بالهداية أصبح حملاً وديعاً وظبياً جهولاً، لا يقدم ولا يؤخر، أين تلك الشيطانية أين تلك العربجة! أين تلك الشدة! أين ذاك الحماس! أين ذاك النشاط! أين تلك الهمة التي تقطع المسافات الطويلة ذهاباً وإياباً؟! أولاً قبل أن يهتدي الرجل يضرب له واحدٌ فقط ضربتين ببوق السيارة إلا والغترة على جنبة.
إلى أين؟ قال: الذي تريد، إن أردت الطائف هيا نذهب.
لا توجد مشكلة، الآن يأتي أحد إخوانه: يا أخي الحبيب! هيا بنا إلى محاضرة درس دعوة.
يا شيخ! مريض، دعني هذه الأيام، دعنا مرتاحين عند هذا المكيف.
يا بن الحلال! هيا نمشي، عندنا عمل ودعوة، مكتب الجاليات يحتاج إلى أناس يتابعون هؤلاء المسلمين الجدد.
والله -يا أخي- لا أعرف لهذا الشيء.
يا أخي! عندنا مجال دعوي آخر لنشارك فيه.
والله يا أخي أخاف.
ثم يصبح همه ماذا يقول الناس فيه، وإذا وجدت الشاب يهمه رأي الآخرين فيه فاعلم أنه قد احترق.
يا أخي الحبيب! كن مثل المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصمُ
يقول: أنا أقول الكلمة أفجرها، أرمي بها بين الناس ثم أنام.(9/8)
نريد دورك أيها الشاب
نريد أن يكون لك فعل، نريد أن يكون لك دور في بعض مكاتب الدعوة، كان المكتب ميتاً جاء شاب واحد فكأنما نفخت فيه الروح من جديد مع أنه ما زِيْد في دخلها ولا في مساعداتها ولا في طباعة كتبها ولا ولا؛ لكن جاءها شاب مبارك، فنفع الله به.
ولذا فإننا نقول: البركة أمر مطلوب، حتى أنك تلاحظ مسألة البركة في عبادتك إذا أثنيت على الله: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، بل في طعامك، فإذا مد الإنسان يده إلى الطعام قال: باسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، تسأل الله البركة في اللقيمات لأن الله إن جعل فيها بركة كانت سبباً في نشاطك على العبادة، وكانت سبباً في قوتك على الطاعة، وإن كانت مجرد ملء بطون ودورة هضمية انتهت بلا فائدة، بل إنك إذا دُعيت إلى مأدبة عند قوم ثم أحببت أن تدعو لهم بما جاء في السنة، تقول: اللهم اغفر لهم وارحمهم وبارك لهم فيما رزقتهم.
نلاحظ -يا أحبابي- أن البركة أمر مطلوب، نحن نريد أن نكون مباركين كما أن الإنسان يدعو بالبركة في الطعام والشراب، بل إذا هنَّأت أحداً بالزواج وعلمتَ أنه عُقِدَ له على امرأة قلت: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير، تدعو بالبركة له، وتدعو بالبركة عليه، وتسأل الله أن يجمع بينه وبين زوجته بخير؛ لأن اللقاء بينهما إذا لم يكن مباركاً، من أول أسبوع فسوف يصدر صَك طلاق لها.
والسبب في كثير من مشكلات الطلاق -هذه تحويلة عاجلة- أن الكثير يتزوج ليس لقصد العفاف: (ثلاثة حق على الله عونهم ومنهم: الناكح يريد العفاف) أقول: هذه من الأسباب، ليس كل من طلق معناه أنه لا يريد العفاف؛ لكن من أسباب فشل كثير من الزيجات أن كثيراً منهم يتزوج ولم يكن مريداً حقاً شرع الله في العفاف.(9/9)
نبحث عن الشاب المبارك
مسألة البركة مهمة، في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أم هانئ! اتخذي غنماً فإن فيها بركة) هذا ملاحظ! البركة اليوم تجدها في هذه الغُنَيْمات، الشاة تنتج واحداً أو اثنين، إذا سمعنا والله أن هناك نعجة أنجبت ثلاثة لصار شيئاً ورقماً قياسياً، وتسجل مع النعجة (دوللي) المشهورة بالاستنساخ، تسجل في الأرقام القياسية معها، ومع ذلك الناس من آدم إلى يومنا هذا وهم يذبحون في هذه الغنم وهذه النعاج ويأكلون، وما انتهت هذه الغنم؛ لأن الله جعل فيها بركة، الكلبة كم تنجب؟ تنجب تسعة، ولذلك تجد أثداء الكلبة كلها مقسمة (سنترال) على أساس أن تجعل أبناءها يشبعون، فالقضية هي أنها ما فيها بركة، ولذلك تكاد تنقرض الكلاب وقليلة ونادرة جداً، فلما كتب الله البركة في الغنم: (يا أم هانئ! اتخذي غنماً فإن فيها بركة) جعل الله فيها البركة، الناس يأكلون ويضحون ويهدون، ومع ذلك الغنم متوفرة وموجودة، لو أن الناس يأكلون في الكلاب ربع أكلهم في الغنم لانقرضت؛ لأنها ما جعل الله فيها بركة.
بعضاً من الكوريين جاءوا عندنا في المملكة، يوم أن اشتغلوا في الدَّهْن، واللحام، والأشجار، فانتهت الكلاب والحمير عن بكرة أبيها، ابحث الآن على حمار وكلب، لا تجد أبداً إلا ممن قال الله فيه: {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الأعراف:179].
فيا أحبابنا: نحن نريد الشاب المبارك.
نريد الشاب الذي يتسع صدره لإخوانه.
نريد الشاب الذي يصلح بين الناس.
نريد الشاب الذي يملأ وقته بما ينفع.
نريد الشاب الذي يغار على دينه.
نريد الشاب الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
نريد الشاب الذي أمله في جنة عرضها السماوات والأرض.
نريد نريد إلى غير ذلك، كل هذا هو الذي نتمناه.
وأنا واثق أن كل واحد منا لو نفض عنه غبار النوم وجدد الثقة بنفسه وأنه قادر على أن يحدث شيئاً، والله لَيُحْدِثنَّ، والله لَيَفْعَلَنَّ، والله لَيَعْمَلَنَّ ولَيَسْتَطِيْعَنَّ، ولكن من الذي يبدأ بأول خطوة على الطريق؟! الشباب بين مصيبتين: بين احتقار الذات.
وبين غرور النفس.
فالمغرور مسكين يظن أنه يفعل كل شيء وهو لا يفعل شيئاً.
والذي يحتقر نفسه لا يستطيع أن يتحرك خطوة، ونحن نقول: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].
نريدك وسطاً:
فلا تك فيها مُفرِطاً أو مفرِّطاً كلا طرفَي قصد الأمور ذميمُ
نريد الشاب المعتدل المتوسط الذي يعيش بنفس طويلة المدى.(9/10)
ظاهرة الانتكاس عند الشباب
بعض الشباب عنده شيء من التدين والاستقامة ولكن مثل علب الجبن والمربى تاريخ الصلاحية منتهية، متدين لمدة سنتين بعد سنتين تلقاه متسكعاً، وهذه مشكلة كثير من الشباب، أنه يوماً من الأيام كان من خيرة الشباب والآن تكاد ترجوه أن يشهد الصلاة مع الجماعة فلا يشهد، فهل وُجِد للتدين تاريخ صلاحية؟! نعم وُجِد عنده تاريخ صلاحية للتدين، من أين جاء تاريخ الصلاحية في التدين؟! فساد البدايات، (من كانت له بداية محرقة كانت له نهاية مشرقة) لما كانت البداية فيها خلل ودخن، فيها خور وضعف، فيها حماس وعاطفة من دون علم ومن دون اجتهاد، التزام لمدة سنتين وانتهت مدة الصلاحية وانتهى الموضوع.
بعض الشباب عهدك به كذا ثم تقابله حليقاً، عهدك به كذا ثم تجده -والعياذ بالله- في منتهى ألوان المعاصي، بل وتجده مصراً ولا يعترف بالتقصير ولا يفكر أن يتوب، ما الذي غيره؟! ما الذي أصابه؟! هل نام متديناً فأصبح فاسقاً؟! هل أصبح صالحاً وأمسى مجرماً؟! لا.
لكن هناك أمور ينطوي عليها بعض الشباب في سلوكه، ولا يعلم كالانحراف في المباني الطويلة، الآن عمارة المملكة أو العمارة الخيرية الطويلة التي في شارع الثمانين، لو يوجد انحراف سنتيمتر واحد في القاعدة في الدور رقم (35) أو (40) تسقط، قد لا تسقط في الدور الأول، ولا يظهر الميل والانحراف في البناء في الدور الثاني ولا الثالث ولا الرابع ولا العاشر لكن في الدور رقم كذا، فكذلك بعض الشباب قد يقع في انحراف، منهم مَن أساسه فيه ميل قوي لكنه غير ظاهر ثم ينحرف سريعاً، سنة سنتين وينتهي، والبعض ثلاث سنوات.
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، نسأل الله بمنه وأسمائه وصفاته أن يثبت قلوبنا على طاعته.
أقول: من مشكلات الشباب: عدم البركة عدم الإنتاج عدم العمل، أيضاً محدودية تاريخ الصلاحية، أو كمسحة طبية قد كُتِب عليها: صالحة للاستعمال لمرة واحدة فقط، بعض الشباب يمكن أ، يقرأ كتاباً واحداً وكفى، ربما يحفظ سورة واحدة وينتهي، جزء واحد وينتهي، دورة علمية واحدة وينتهي، لا يشعر أنه سيستمر في الطلب تلميذاً، ويستمر في الدعوة داعية، ويستمر في التعليم معلماً، ويستمر في الصدقة متصدقاً، ويستمر في المشاركة منتجاً معلماً، في أي مجال لا بد أن تستمر.
كثير من المسلمين اليوم تقول له: يا أخي! المسلمون في كل مكان، المسلمون في كشمير، المسلمون في كذا، قال: يا أخي! أنا تبرعت لـ أفغانستان وانتهت القضية، فعلاً صالح للاستعمال لمرة واحدة فقط.
فأنا أقول لهؤلاء الشباب: اتقوا الله في أنفسكم، واعتنوا بالبدايات فإنها مهمة.
وكل امرئ والله بالناس عالمٌ له عادة قامت عليها شمائلُهْ
تعوَّدها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كلَّ أمرٍ أوائلُهْ
نحن الآن في مرحلة الذي دنا من الأربعين يتذكر أياماً كان عمره فيها ثمان عشرة أو تسع عشرة سنة يقول: يا ليتني ضاعفتُ الجهود في تلك السنوات، قبل أن أُبْلَى بالزوجات والأعمال والمسئوليات والتربية والواجبات الوظيفية، والمهمات الرسمية، وو إلى غير ذلك، الكثير منكم قادر على أن يتفرغ وهي فرصة جميلة، بل إنك تجد نفسك أغلب جوانب العطاء والقدرة على البذل دعوياً وفكرياً وعلمياً وثقافياً هي من حصيلة أيام الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، والخامسة والعشرين، والثلاثين، وغيرها؛ لكن لما كبر الإنسان، وتقدمت به السن وتحمل مسئوليات وغير ذلك يكون العطاء أقل من ذي قبل؛ لكن المهم أن تستمر في العطاء، لكن مشكلتنا مشكلة الذي أعطى مرة واحدة وتوقف: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} [النجم:33 - 34] أعطى لنا قليلاً ووقف.
يا أخي الحبيب! لماذا تعتبر نفسك كأي منتج غذائي قد كُتِب عليه تنتهي الصلاحية في عام (1422هـ) بعض الشباب يظن أن تركه للمعاصي يكفي، لا.
لا بد مع ترك المعاصي أن تفتح صفحات بل مجلدات لتهذيب النفس وطلب العلم والمجاهدة والدعوة إلى الله.
أحد الشباب الذين تركوا الفن ذات يوم كنا معه في مجلس وكان معجباً لثناء الحاضرين عليه أنه ترك الفن، قلت له: أخي الحبيب! لاحظ ترك الفن فقط هي إزالة للحدث، أما الوضوء فلم تتوضأ بعد، الآن واحدٌ نريد أن نأمره ليصلي، ثم قال: عن إذنك، أنا أريد أن أذهب -أجلكم الله والسامعين بالعبارة العامية- أريد أن أذهب لأطيِّر الشرر.
ذهبَ وطيَّر الشرر، رفع الحدث أزال الحدث هل كونه أخرج البول من جسده واستجمر بعد ذلك أو استنجى هل هذا كافٍ للصلاة؟ أجيبوا لا.
لا يكفي، ما الذي بقي عليه؟ بقي الوضوء، كذلك تركه للفن كرفع الحدث وإزالة الخارج من الدبر أو القبل؛ لكن بقي الوضوء، أن تسبغ على نفسك العمل الصالح كما تسبغ الماء على أعضائك بالوضوء، أن تسبغ على نفسك العمل والعلم والعبادة والمجاهدة والصبر والدعوة والاستقامة هذا هو الأمر المطلوب، فكثير من الشباب يقول: الحمد لله، أنا كنت فناناً، وتركت الفن وانتهت القضية، لا.
ما انتهت القضية، أمامك مشوار طويل، ولكن خذ هذا المشوار بهدوء.(9/11)
أخطاء عند الشباب(9/12)
اليأس من واقع الأمة عند الشباب
إن التائب يظهر التقوى، ولا يرضى القضاء، تجد بعض الشباب يستقيم ثم فجأة يريد أن يصلح الكرة الأرضية ابتداءً بـ جزر هاواي وانتهاءً إلى مكة؛ لأن طرف الكرة الأرضية: جزر هاواي في المحيط، والطرف المقابل: مكة المكرمة، ونبدأ بـ مكة أكرم نقول: مكة طرف وجزر هاواي ثانٍ، فيريد أن يصلح الكرة كلها بين عشية وضحاها، ثم يقول: لا يمكن أن تصلح الناس تصلح، وجهود الأعداء والكفار والقنوات الفضائية والخلاعة في الإنترنت وو إلى آخره، كيف نستطيع أن نصلح الناس؟! لا يا أخي الحبيب: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] في أيام كنت وأنت غير مستقيم بل كنت من قادات الضلالة، بل كان البعض لا يطمع في استقامتك فانظر كيف مَنَّ الله عليك بالهداية! إن الله قادر -وهو الذي هداك- أن يهدي غيرك، ولا تستبعدنَّ على ضال هداية، ولا تأمننَّ على مهتدٍ ضلالة، قد تجد خطيباً يبكي في المنبر فيكتب الله عليه أن ينحرف، نسأل الله السلامة، ونسأل الله الإخلاص، وسداد القول وإخلاص العمل، والإنسان لا يدري.
يقول أحد السلف: لا تعجب بثناء الناس، فإن الله ينصر الدين بالرجل الفاجر.
وقد قال الله في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4].
لا تغتر بنفسك -يا مسكين- أياً كان موقعك، لا تدري بِمَ يُختم لك، فالإنسان على خطر وعلى مخافة.
الشاهد: لا تستبعدنَّ على ضال هداية، قد تجد واحداً مجرماً في زنزانة انفرادية من أجل مخدرات، فيخرج فيهديه الله وينفع به خلقاً عظيماً، وقد تجد إنساناً ربما يشار إليه بالبنان فيكتب الله عليه انحرافاً ولا حول ولا قوة إلا بالله! يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
وفي الحديث: (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وإن القلوب أشد تقلباً من القدر في غليانها) فمن الذي يأمن على نفسه؟! لذا أقول لهذا الشاب: خذ نفسك بالهدوء وبالطمأنينة وبطول النَّفَس، وإياك واليأس والقنوط، وقد يأتيك الشيطان عند أدنى هفوة أو أدنى زلة ويقول: من الآن جادة الطريق طويلة فلن تستطيع أن تستمر، فأرح نفسك من اليوم قبل أن تنحرف بعد سنتين، كما قالوا: (طيِّنها وعطِّنها من الحين)، من أول شهر أو ثاني شهر، لا.
لئن أغواك جليس سوء أو قادتك محنة، أو وقعت بك رِجْل في زلة فعليك أن تبادرها بالتوبة كما قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
الصحابة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم أخطاء ما قال: لا أرى وجهك، كفى.
انتهت قضيتك، اخرج من الصحوة، واخرج من الدعوة، واخرج من الصحابة، لا.
بل أمره بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الله سبحانه تعالى، والإكثار من الصالحات والحسنات الماحية للسيئات، هذه من أهم الأمور يا أحبابي، أما أن يريد الإنسان أن يهتدي الكون في لحظة، لو سأل نفسه: ما هو المشوار الذي قطعه حتى يهتدي، إن تجد أخاك في الله جزاه الله خيراً أهدى لك، ثم زارك، ثم سافر بك، ثم حج معك، ثم اعتمر، ثم ثم ورويداً رويداً حتى مكن الله الهداية في قلبك، وقد كنت من قبل تتأذى منك البهائم قبل البشر، فكذلك أعطِ الناس فرصة، المشوار والفرصة التي مررت بها حتى بلغت الهداية أعطِها الآخرين حتى يهتدوا، أما أن تقول: الدنيا خربة ضائعة ما فيها صالح، الدعوة فالتة، لا يمكن أن يهتدي أحد، ثم تذهب وتجلس في شِعبٍ من الشعاب أو جبل من الجبال وتقول: لم يعد في الناس خير، انظر إلى نفسك كيف منَّ الله عليك بالهداية، وأعطِ الناس نفس الفرصة لتجد أن الله سبحانه وتعالى سوف يهديهم.
أقول هذا الكلام لأني وجدت بعض الشباب بين اثنين: إما أنه يئس من صلاح الناس فاعتزل وأصبح كما قلتُ حملاً وديعاً وظبياً جهولاً، ما عاد يريد أن يرفع طرفه عن الأرض أبداً، تقول له: يا أخي! مُرْ بالمعروف وانْهَ عن المنكر وادعُ إلى الله يقول: يا أخي! ضائعة، فقط، دع المهدي ينزل، دع المهدي ينزل، دع الريح التي تهب وتقبض أرواح المؤمنين وتريحنا من هذا الفساد كله، متى يطلع الدجال ويذبحه عيسى بن مريم وننتهي من القضية؟ لا.
بل لا بد أن تصبر: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] هذا شخص هذا حاله.(9/13)
اليأس من الاستمرار على الاستقامة
وآخر تجده قال: أوه! المسألة طويلة، وأنا ربما تقع مني زلة، ربما ربما إذا متنا الآن لعلنا نسلم منها.
لا يا أخي الحبيب! استمر والمشوار طويل طويل طويل جداً، الاستقامة ليست مرحلة جامعية (أربع سنوات) وتأخذ شهادة، الاستقامة ليست دورة عسكرية أربع سنوات وتأخذ رتبة أو نجمة، الاستقامة كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: الموت: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112] (سددوا وقاربوا).
انظر سماحة الشيخ ابن باز، هل جاءه الناس بالبشائر والأخبار السارة؟ لا.
يا شيخ المنكر الفلاني.
أعطونا نكتب.
يا شيخ صار للمسلمين مذبحة في الفليبين.
أعطونا نكتب لهم فتوى يُتَبَرَّع لهم.
وربما الشيخ يفعل أموراً لا يطلع عليها الناس، تخص جهات عليا.
يا شيخ، وقع كذا، نُشر كذا، صار كذا.
طول نَفَس.
فأنت أعطِ نفسك الاستقامة والالتزام والنَّفَس، أما أن تتراكم عليك صور الفساد والمنكرات وتتخوف، فيأتي الشيطان ويقول: مساكين، خمسمائة مطوع قاعدون في استراحة والقنوات الفضائية تبث للملايين، شيخ قاعد يصرخ في المنبر والقنوات الفضائية تخاطب مئات الملايين، شبكة الإنترنت تتعامل مع سبعمائة مليون وهذا المطوع أبو شريط، يحسب أن شريطه يصلح العالم، نعم.
إنها كلمة لكن تقلب العالم كله، النبي صلى الله عليه وسلم بم دعا الناس؟ بإنترنت؟! بقنوات فضائية؟! بمؤتمرات دولية؟! جَمَعَ مجموعةً من قريش، وناداهم بطناً بطناً، فخذاً فخذاً، قال: (واصباحاه! فجاءوا، وقال: هل جربتم علي من كذب قط؟ قالوا: لا يا محمد! ما جربنا عليك كذباً قط، قال: قولوا كلمة واحدة تملكوا بها العرب وتدفع لكم بها جزية العجم، قالوا: وأبيك عشراً -نعطيك عشراً- قال: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: تباً لك! سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟).
وانطلقت كلمة (لا إله إلا الله)، وما زالت تجوب أقطار الدنيا حتى لا يبقى بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الشرك وأهله، فلماذا تيئس، هي كلمة.
إبراهيم عليه السلام لما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] قال: يا رب! من يسمع؟ قال الله: أذن وعلينا البلاغ، فجاء الناس من كل فج عميق، وعلى كل ضامر، وزرافات ووحداناً.
والله إن الإنسان إذا شاهد في التليفزيون أحياناً مشاهد الباخرات والحجاج ينزلون منها، والطائرات والحجاج ينزلون منها، والسيارات وهي تنزل بالحجاج يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، لقد نادى إبراهيم فتكفل الله بالبلاغ، أنت ادعُ إلى الله والله يتكفل بالبلاغ، لا يأتيك الشيطان ليقول لك: يا مسكين! ماذا تفعل؟! بعض الشباب عنده عدم صبر وإنما النصر صبر ساعة، يعني: حتى الفرح بنتائج الدعوة، والفرح بهداية الناس، والفرح بصلاح الخلق لا يمكن أن يتم خلال يوم وفي عشية وضحاها.
مات صلى الله عليه وسلم والمسلمون في عهده يوم موته أقل من عدد المسلمين في عهد أبي بكر، وفي عهد عمر.
إذاً أنت اغرس هذه الكلمة، وبلغ وستجد من يحملها عنك.
اليوم هذا اتصل بي شاب من أمريكا من مدينة اسمها أورنج كاونت في لوس أنجلوس، يقول: أنا سمعت شريطاً لأحد الإخوان، أحد المشايخ جزاه الله خيراً، ومنَّ الله عليَّ بسببه واستقمتُ وتبتُ، وأنا مع فلان وفلان وفلان وفلان من الصالحين -وسَمَّى بعضهم ممن يعيش معهم في لوس أنجلوس - بماذا تنصحني؟ قلت: سبحان الله! هذا الشريط أنا معرفتي به قديمة، نعم.
لأنها كلمة ينفع الله بها، وتبقى الكلمة ولها قوة ولها أثر، ولا تتهاون بالكلمة، شهادة الزور كلمة، والسب كلمة، والشتم كلمة، وإفساد ذات البين كلمة، وتقوى الله وذكره كلمة، وإصلاح ذات البين كلمة، والشهادة بالحق كلمة، والدعوة إلى الله كلمة.
إذاً لا تتساهل بالكلمة، قلها مخلصاً تريد بها وجه الله عز وجل وينفع الله بها ويبلغ بها أقواماً: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم:24 - 25] وهذا الفرق بين الكلمة الميتة والكلمة المباركة.
حفلة غنائية يجتمع فيها خمسة آلاف، أربعة آلاف، هي كلمات، لكن تنتهي بآثار الفسق عليهم، ولم يكن لها مزيداً إلا في ضلال؛ لكن كلمة الحق بعد حين.
الآن لو تأتي لك بكلمات المفسدين وغيرهم من الكلمات القديمة من أغانيهم، لقيل: أوه، هذا قديم، هذا مات، الآن شبع منه الدود، اليوم تجد هناك أغانٍي جديدة وخرجت استريوهات جديدة، وأشياء لم نعد نعرفها، في الأول كنا نكلم الشباب، يوم أن كنا نعرف، أما الآن كبرنا وعند الشباب أشياء كثيرة الآن لا نعرفها.
لكن انظر كلمات ابن تيمية في القرن السابع ولا تزال تتجدد؛ لأنها كلمة حق وانتشرت في الماضي.
الشيخ ابن باز لما قال له أحد الموريتانيين: يا شيخ! كيف تصبر على هذا الجهد والضيوف والأعمال والفتوى والتعليم والدعوة وأنت في عشر التسعين! يقول: بعد أن ألححتُ عليه، قال: يا بني! إن الروح إذا كانت تعمل فالجوارح لا تكل.
انظر نفسك الآن حين تحضر حفل تخريجك من الجامعة لتكرم بأنك حصَّلت الدكتوراه أو الماجستير، وتقف ويُشار إليك ويقال: والله هذا فلان بن فلان يتخرج إلى آخره والله تقف ساعة لا تشعر، لأن روحك هي الواقفة وليست أقدامك، فلا تشعر بالتعب، لكن دع الإمام يقرأ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] في الفجر، ستقول: لا نريد، وربما تترنح في الصلاة، لماذا؟ لأن الروح ما وقفت، وقفت الأقدام فترنَّح، نحن نريد أن تقف الروح وأن تعمل.
كلام ابن تيمية، وكلام الإمام أحمد، وكلام الحسن البصري، وكلام الله عز وجل كَلِمُه طيب، أطيب الكلام (إن خير الكلام كلام الله) - باقٍِ ومعجزةٌ تتجدد وتفجر في الناس الطاقات، وتقمع الباطل، وتحرك الشعوب، وتخمد شعوباً وتحرك أمماً، وتطفئ أمماً؛ لأنها كلمة حق.
فأنت -أخي الكريم- إياك أن تتهاون بالكلمة أو تظن أن الكلمة لا تنفع، رُبَّ مدرس يلقي كلمة في فصل فيه عشرون طالباً ثم يخرج الله من هؤلاء الطلبة داعية يغير الله به وجه أمة، وهي كلمة، وما كان لهذا الداعية أن يغير وجه أمة إلا بكلمة من هذا المدرس، فلا تتساهل أو يغلبك الشيطان في الباطل.
الحديث ذو شجون، ووجوهكم بعد فضل الله يستلهم منها المتحدث كثيراً من الأفكار والأحاسيس الطيبة.
وسؤالي وإلحاحي على الله عز وجل بمنِّه وكرمه وجوده وأسمائه وصفاته أن يبسط لي ولكم في عافية أبداننا، وسداد أقوالنا، وإخلاص أفعالنا، وسعة أرزاقنا، وصلاح ذرياتنا، وسداد أعمالنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأسأله سبحانه أن يثبتنا وإياكم على طاعته.
ونسأله سبحانه ألا يزيغ قلوبنا بعد إذا هدانا.
ونسأله سبحانه أن يتوفانا على أحسن حال ترضيه عنا.
اللهم توفنا على أحسن حال ترضيك عنا، شهادةً وسجوداً وركوعاً، وعبادةً، وطاعةً لك يا رب العالمين.
اللهم لا تقبض أرواحنا على فاحشة ولا تقبضها على خزي ولا تقبضها على معصية.
اللهم من كان فينا مذنباً فاغفر ذنبه واستر عيبه، ومن كان تائباً فاقبل توبته، ومن كان مفرطاً فأعنه على نفسه يا رب العالمين، ومن كان داعياً فسدده، ومن كان صادقاً فثبته يا رب العلمين.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
وجزاكم الله خير الجزاء.(9/14)
الأسئلة(9/15)
الفتور وعلاجه
السؤال
ما هو علاج الفتور؟
الجواب
الفتور يطرأ على كثير من الناس، بل قلَّ أن يسلم منه أحد، ولكن للنفس نشطة وفترة.
وينبغي للإنسان -إذا فتر- ألا يسمح للفتور أن يتجاوز حد ترك الواجبات، بمعنى: أنه قد يفتر الإنسان؛ لكن لا يكون هذا الفتور إلى حد ترك الصلاة مع الجماعة، أو ترك السنن المؤكدة، كالوتر، والرواتب، أو الوقوع في الفواحش والمنكرات والمعاصي.
لكن في النشاط بعض الليالي يجد في نفسه نشاطاً فيصلي أحدى عشرة ركعة، بعض الأيام يصوم كثيراً أو يقرأ من القرآن كثيراً لكن قد يفتر.
وخير ما يعينك على مجاهدة الفتور: هذه الوجوه الطيبة: قد يقول بعض الشباب: أنا أخشى على نفسي النفاق.
نقول له: كيف؟ يقول: يا أخي! إذا جئت مع الطيبين أجد نفسي متحمساً، ولو قالوا نصوم السِّنة كلها لصمنا، ولو قالوا: نقوم الليل كله لقمناه، وو إلى آخره، ولكني آتي في البيت ربما لا أصلي كذا، ولا أوتر بكذا، وربما يجاهدني أهلي في بعض الصيام، أو في بعض العمل.
أقول لك: لا يقولن لك الشيطان: هذا نفاق، بل ذلك من تشجع النفس وحماسها ورغبتها في الحق، إذا كثر الأخيار خنس الشيطانبإذن الله من مجالس الذكر، لكن الإنسان حينما يخلو يجثم الشيطان عليه.
فخير ما لك هو قول الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
يا إخوان! لا تظنوا أن أحداً يسلم من الفتور خاصة إذا بَعُد عن أحبابه في الله، حتى الدعاة إلى الله الذين قد يدعون ويذكرون الناس هم أنفسهم لو انقطعوا عن الناس في أمر الدعوة لأصابهم من الفتور ما يصيبهم، ولذلك لا تقل: أنا سأذهب أقول للشيخ الفلاني: تعال لتلقي علينا محاضرة، وهو راعي الفضل، لا.
اذهب قل له يلقي محاضرة وأنت راعي الفضل عليه بعد الله، لأنك كما يُذَكِّرك أنت تذكره، كما يدعوك أنت تدعوه، كما يعينك أنت تعينه، وإن كانت القضية قد لا تكون ظاهرة لديك.
المسألة الثانية: كثرة ذكر الله عز وجل:- أكثر من ذكر الله، أكثر من الاستغفار، أكثر من التسبيح، أكثر من التهليل، حتى لو جعلت في يدك شيئاً يذكرك بالله.
الشيخ ابن عثيمين سئل ذات مرة في (نور على الدرب) -وأوصي الشباب أن يستمعوا لهذا البرنامج كثيراً- سئل سماحة الشيخ ابن عثيمين عن رجل يستخدم السبحة، يقول: وأنا لا أعتقد أن فيها مزيد فضل؛ ولكنني أعدُّ بها العدد.
فقال الشيخ: لا بأس باستخدامها، والتسبيح بالأنامل أولى، إذا كانت هذه السبحة -مثلاً- تذكرك، بعض الناس يدخل يده يجد السبحة يخرجها، ثم يقعد يسبح: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، طبعاً التسبيح ليس بالحبوب، التسبيح باللسان والقلب، لكن وجودها في يديك يذكرك التسبيح، فلا حرج، وكثير من الشباب ينكر على الذين يأخذون السبحة، وهذا من الجهل، وينبغي ألا ننكر على أحد إلا ومعنا دليل، أو نعرف فتوى من إمام يحتج به في الإنكار، أما أن ننكر ونتعوذ منه! ونظل ننكر عليه، فلا.
يقول الشيخ: إلا أن تخشى على نفسك الرياء.
ابن حجر العسقلاني رحمه الله تكلم عن (لا إله إلا الله) قال: وهي الكلمة التي تستطيع أن تقولها دون أن يدرك جليسك حركة شفتيك.
أطبق الآن بين شفتيك، وقل: (لا إله إلا الله)، يمكن أن تقولها دون أن يشعر الذي بجوارك أنك تقول: (لا إله إلا الله)، وهذه من نعم الله أنك تستطيع أن تستمر في الذكر، وكلمة (لا إله إلا الله) من أجلّ الذكر، بل لو وُضِعت السماوات وعامرهن غير الله في كفة والأراضين معها، و (لا إله إلا الله) في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله).
فالذكر مما يعين القلب على الحماس واللذة والأنس بالطاعة والعبادة مع مجالسة الأخيار ففيها -بإذن الله- خيرٌ كثير.
لعلي أكتفي بهذا السؤال.
واستأذنكم للسلام على بعض الإخوة.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/16)
فلتكن أعيننا باصرة
إن لكل أمة أعداء وأصدقاء، وفيها منافقون هم شر الخلق قاطبة، يندسون في الصفوف فيهلكون الأمة ويدمرون ثرواتها، ويضيعون أمنها، ويهدمون بنيانها، ويفرقون جمعها، ويشتتون شملها، هم أساس الخراب والوبال في المجتمعات والشعوب، لهم أساليب ملتوية وطرق عدة في الدسيسة، يلبسون لكل حادثة لبوساً، وعند ذلك يجب على الأمة الإسلامية أن تعي خطر هؤلاء؛ لتكون حذرة يقظة من كيد أعدائها.(10/1)
المنافقون شر الخلق قاطبة
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، الحمد لله على نعمٍ لا تحصى وآلاءٍ لا تنسى، الحمد لله الذي خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا فكم ممن لا كافي له ولا مئوي، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22].
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23].
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر:24].
هو الله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير، هو الله الخالق الرافع الباسط، هو الله الذي لا إله إلا هو لا شريك له في ربوبيته فلا مدبر لهذا الكون معه، هو الله الذي لا إله إلا هو لا شريك له في ألوهيته، فلا تجوز العبادة إلا له، ولا التوكل إلا عليه، ولا الاستعانة إلا به، ولا الحاجة إلا فيما عنده، ولا الذبح إلا له، ولا النذر إلا له، ولا الحلف إلا به، ولا يجوز صرف صغيرٍ ولا كبيرٍ من العبادة إلا له، هو الله الذي لا إله إلا هو واحدٌ في ألوهيته فلا يجوز التحاكم إلى غير شرعه، هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، ليس كمثله شيء هو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من وطأت قدمه الثرى، وخير من ركب المطي وخير الخلق قاطبة، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، لم يعلم سبيل خيرٍ إلا دلكم عليه، ولم يعلم سبيل شرٍ إلا حذركم منه، ترككم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أشهد الخليقة عليكم أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأشهد الخلق يوم الحج فقال: (ألا هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم فاشهد) أعادها عليهم ثلاثا.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن الخلق أهون على الله إن هم كفروا بنعمه وإن كانوا في أعظم منزلة عنده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] معاشر المؤمنين! يا رجال العقيدة يا شباب الأمة! أيها الغيورون على بلادكم! أيها الغيورون على أمتكم! اعلموا أن لكل أمة أعداء وأصدقاء وبينهما منافقون، إن لكل أمة أحباء وأهل ضغينة وأحقاد وبين هؤلاء منافقون، والمنافقون هم شر الخلق قاطبة، إن الذي يظهر عداوته صراحة لا تحتاج إلى دليلٍ لتحديده ومعرفته، لكن المصيبة مصيبة المنافقين الذين {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:6] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13].
إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، لا تفسدوا الأرض بعد إصلاحها: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12] أولئك المنافقون لا سبيل لكم إلى معرفتهم؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم السرائر، لأن الله وحده هو الذي يعلم بواطن القلوب، فليس بسهولة الأمر أن تعرف من هو المنافق بين الناس ولكن لهم علاماتٌ وأمارات {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المنافقين في المدينة، ومع ذلك كان يعاملهم بالظاهر، بظاهر ما يعلنون ويترك سرائرهم إلى الله جل وعلا، وكان أمين سره صلى الله عليه وسلم في معرفة المنافقين حذيفة بن اليمان، وأعجبوا يوم أن جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلحق حذيفة يرجوه ويسأله: [يا حذيفة! أسألك بالله هل عدني رسول الله من المنافقين؟].
الله أكبر -يا عباد الله- رجلٌ يسلك وادياً فيسلك الشيطان وادياً غيره، رجلٌ يوافق قوله حكم كتاب الله، رجلٌ يفرق الشيطان منه، رجلٌ أعز الله به الإسلام وأهله يسأل حذيفة خوفاً على نفسه، ليس في نفسه عجب ليس عنده إعجاب بنفسه يسأل حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: [أسألك بالله يا حذيفة هل عدني رسول الله من المنافقين؟ ويقول حذيفة: لست منهم يا عمر ولا تسألني بعدها ولا أخبر أحداً بعدك].(10/2)
خطر النفاق على الأمم والمجتمعات
عباد الله! إذا علمنا أن لكل أمةٍ أحباباً أهل ولاء وصدق، وأهل دعوة وإخلاص، وأهل معاملةٍ صادقةٍ مع الله جل وعلا، ولكل أمةٍ أعداء قد ظهرت عداوتهم وبانت وانكشفت وسفرت، ومنافقون يندسون بين هؤلاء وهؤلاء.
إن الله جل وعلا ذكر المؤمنين في أربع أو خمس آيات، ثم ذكر الكافرين في آيتين، ثم ذكر المنافقين في ثلاثة عشر آية، لأن النفاق أخطر شيءٍ على الأمة، وأفتك داءٍ يهلك الأمة، يدمر ثرواتها ويضيع أمنها ويهدم بنيانها ويفرق جمعها ويشتت شملها.
فيا عباد الله: انتبهوا لأنفسكم ولمجتمعكم جيدا، وانظروا بثاقب البصر والبصيرة ولا تظنوا أن مسئولية الحفاظ على أمن المجتمع وأمن الأمة، الأمن النفسي والأمن الفكري، والأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، لا تظنوه مسئولية فئة معينة بل هو مسئولية كل واحد منكم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) فإذا كل واحدٍ منا قام بما عليه حينئذٍ عم الرخاء، وشمل الأمن، وشاعت الطمأنينة، وحينئذٍ يخنس المنافقون فلا يستطيعون أن يتنفسوا على السطح، لا يستطيعون أن يظهروا، لماذا؟ لأن الحجة بينة والمحجة واضحة ولا يستطيع أحدٌ أن يخالف ما اجتمعت عليه الأمة عامتها وعلماؤها وأمراؤها وولاتها، لا يستطيع أحدٌ حينما يجد الأمة على قلب رجلٍ واحد، لا يستطيع أن يتسلل في صفوفها، ولكن يوم أن تكون الأمة على فئاتٍ وطبقاتٍ ومستوياتٍ واتجاهاتٍ ومذاهب شتى، حينئذٍ يدخلون من كل باب، ما دخل الأعداء من أبوابنا وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا وأخطائنا.
فيا معاشر الأحباب! أوصيكم في أنفسكم وفي مجتمعكم خيراً، ألا تجعلوا لمنافقٍ دسيسةً في صفوفكم.
أيها الأحبة في الله: حينما يريد المنافقون أن يحدثوا أمراً فلا يستطيعون أن يعلنوا هذا الأمر بصريح العداوة وبصريح البغضاء والكراهية للأمة، وإنما يلبسون لكل حادثةٍ لبوسا؛ يلبسون أموراً لعلها أن تبهرج على أبصار بعض السذج والغوغاء، وحينئٍذ تقع المصيبة في أن المجتمع يبقى ساذجاً بسيطاً أبلهاً عن حقائق ما يراد وما يدبر له.
إن أعداء المجتمع وأعداء الأمة في كل زمنٍ موجودون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، وهؤلاء الأعداء يوم أن يُحدثوا في المجتمع حدثا ًيجعل الأمن النفسي في أخذٍ ورد، ويجعل الطمأنينة تتغير، ويجعل أحوال الناس في أحاديث شتى، بدلاً من أن تكون أحاديثهم وهمومهم وأفكارهم، وتوجههم وأنشطتهم، منسجمةً متمازجةً متناغمة مع هموم مسئوليهم، وولاة أمرهم؛ يصبح المجتمع على فئاتٍ وعلى أحزاب شتى.
أقول أيها الأحبة! حينما تخرج في المجتمع ظاهرةٌ من ظواهر الفساد يتحرك الأغيار، الذي في قلبه غيرة، الذي يقول: كيف نعصي الله وقد أنعم علينا بهذه النعم؟ الذي يقول: كيف نرضى بالمعصية ونحن نرى الناقلات والشاحنات تتسابق إلى أسواقنا لتنثر فيها خيرات بلدانها؟ الذي يقول: كيف ونحن نرى هذه النعم في مختلف المجالات؟ هل نقابلها بالمعصية؟! هل نقابلها بالمنكر؟! هل نقابلها بما لا يرضي الله جل وعلا؟ يتحرك الأغيار يتحركون غيرة لله فيتصلون بولاة أمرهم، ويتصلون بعلمائهم، ويتصل بكل مخلصٍ في أمتهم لا يخفون شيئاً تحت الظلام أبداً، وإنما يظهرون أمام الخليقة أجمع؛ لكي يعالجوا أمرهم فيما بينهم ولا حاجة إلى إعطاء أي أمرٍ أكبر من حجمه، فلكل أمرٍ ما يناسبه من الاهتمام والإنكار.
نقول أيها الأحبة: حينما يظهر مظهرٌ من مظاهر الفساد والمنكرات إلى درجةٍ يكون خطراً على الأمة؛ يتحرك الأغيار والصالحون، وليس الصالحون وحدهم يتحركون، بل ولاة الأمر أول من يتحرك، وأجهزة الأمن أول من يتحرك، وكل من يرى في نفسه مسئولية أمن مجتمعه يتحرك أيضاً، ليس حركةً فوضوية عشوائية، وليست حركة متهورة متشنجة، بل حركة طبيعية، لبيان هذا المنكر ولبيان مخاطره وعلاجه، وإيجاد البديل المناسب من شرع الله الذي ما فرط الله فيه من شيء، وحينئذٍ حينما تتحرك العواطف ويلتهب الحماس في تغيير أمرٍ من الأمور يندس المنافقون في هذه الصفوف، لماذا؟ لكي يستفيدوا حتى من هذا التفاعل يريدوا أن يسجلوا على المجتمع أمراً مما يريدون، وحينئذٍ أقول لشباب المجتمع أجمع، وأقول لكم يا رجال الإسلام أخاطب كل واحدٍ منكم ولا أفرق بين صفٍ وصف، ولا أفرق بين من كان في أول هذا المسجد وآخره، أخاطبكم جميعاً فأقول: قد يندس بين الصالحين والغيورين من يلبس لباسهم، ويتزيا بزيهم، يريد أن يحقق فساداً حتى يبقى الأغيار في حرج، ويبقى المخلصون في حرجٍ أمام المجتمع بأسره، وإن كنت صريحاً سأضرب المثل بالمنشورات، إنما يفعله الذين يكتبون أول ما يكتبون، ويسجلون أول ما يسجلون ويبدءون أي ظاهرةٍ من الظواهر التي تحتاج إلى علاج، يبدءون علاجها بكتابة المنشور ثم دسه تحت الأبواب أولئك لا يعرفون عزة الحق، ولا يعرفون نور السنة، ولا يعرفون مكانة الإسلام، فهم على خطرٍ عظيم لأن المنكر منكرٌ في كتاب الله جل وعلا، والحق حقٌ في كتاب الله جل وعلا، فما كان حقاً فليس الطريق إليه أن يدس تحت الأبواب، وليس الطريق إليه أن يوضع في بعض الأماكن التي لا يليق ذكرها، وإنما الحق مكانه على الرءوس والمقل على الصدور، أن يقدم جلياً عزيزاً واضحاً، لا أن يقدم بسرٍ وخفية.(10/3)
المنشورات أسلوب من أساليب النفاق
أقول أيها الأحبة: إن من المخاطر التي يتجسس بها المنافقون: قضية المنشورات هذه، نعم، قد يوجد من يظن أنه يخدم الإسلام والمسلمين ولا يعد هذا من المنافقين، أقول: قد يوجد وهم ندرةٌ وقلة، من يظن أنه يحسن صنعاً فيطّبق هذا العمل أو يسلك أسلوب المنشور كطريقٍ إلى إنكار المنكر، قد يوجد من يفوته وضوح الحق في هذه المسألة وحينئذٍ نقول لكل مسلمٍ ولكل غيورٍ ولكل حبيبٍ وعزيز: ينبغي أن تعرف عن الطريق إلى الحق أنه على الرءوس والمقل، وليس بالدسيسة والخفية، هذه مسألة مهمة، ولماذا أيها الأحبة نصرح بهذا الأمر؟ والله ثم والله ما قلت هذا إلا غيرةً على أحبابي ونفسي وإخواني وجميع أفراد مجتمعي، حتى لا يسلك أحدهم سلوكاً يظن أنه يحسن صنعاً وهو يخطئ فعلا، يظن أنه على جادة من الصواب وهو على غير الصواب، يظن أنه على الحق وهو على غيره.
فلنفرض مثلاً: أن ظاهرةً من الظواهر بدرت فظن البعض أن المنشور يعالجها، فأخذنا ننشر هذا الأمر وكان المنشور فيه معلومات صحيحة، ثم ظهرت ظاهرةٌ ثانية فنزل المنشور فيه معلومات صحيحة، ثم ظاهرةٌ رابعةٌ وخامسةٌ وسابعة وكلها فيها معلومات صحيحة، حينئذٍ الذين يرصدون حركة الأغيار في المجتمع، والذين يرصدون حركة الغيورين المخلصين في المجتمع، يعرفون أن المجتمع قد تهيأ نفسياً لما يسمى بالمنشور، وأصبح المنشور هو الذي يوجههم؛ أصبح المنشور هو الذي يوجهني ويوجهك حينما نرى سبعة أو ثمانية من المنشورات كلها صحيحة، حينئذٍ يأتي المنشور الثامن أو المنشور التاسع بمعلومات كاذبة، وتوجيهاتٍ خطيرة، فحينئذٍ لما تعودناه من أن المنشورات السابقة كانت صحيحة وسليمة، نظن أن المنشور الثامن والتاسع الذي فيه معلومات خاطئة وتوجيه خطير نظن أنه منشورٌ سليم أيضاً، فحينئذٍ قد يبادر إلى تطبيقه والاستجابة له من لا يفقه أبعاد هذا الأمر، ثم تحدث الكارثة، ويصبح بعضنا يؤذي بعضاً، صالحٌ يؤذي صالحاً، مواطنٌ يؤذي مواطناً؛ بتدبير دسيسة منافق من المنافقين عود من حوله على أسلوب المنشور سبع مرات وثمان مرات تعويداً وتهيئة نفسية بمعلومات صحيحة ثم جاء المنشور التاسع والعاشر بطامةٍ خطيرة، وحينئذٍ لا تسأل عن هلكة أفراد المجتمع.(10/4)
أهمية معرفة طرق الحق
ومن هنا نقول: لا بد أن ننضبط، ونعرف للحق طرقه، وما عرف أن المنشور من سابق عهد الدعوة إلى يومنا هذا إلا أسلوب من أساليب الدعوة، نعم، قد يقول بعضكم: لا بد من التشهير بأهل الفسق، والفاسق لا غيبة له، أقول: أنا أوافقك على أن من عرف بفسقه وعرف بإفساده سواءً في فكره وفي كتاباته وفي تحركاته، من عرف بفسقه وعداوته للمجتمع أوافقك أنه لا بد من تشهيره ولا بد من التحذير من فسقه، ولكن من الذي يقرر هذا؟ هل أقرره أنا؟ أم تقرره أنت؟ إذا قرر عالمٌ من علماء المسلمين الذي يعتد بعلمهم وفتواهم في هذا الأمر، حينئذٍ نقول: نعم يشهر بهذا، أما أن أحكم أنا بأن فلاناً فاسق وإن كان فاسقاً، وليس عندي فتوى تجعلني أشهر وأحذر من فسقه على الملأ، وقد أحذر من فسقه في أمري بخاصة نفسي فيمن دوني، لكن أن أنشر عنه منشوراً أو أتكلم به على المنبر، لا.
لا بد من فتوى، فلو أفتى سماحة مفتي الديار السعودية أن فلاناً بن فلان فاسقٌ يشهر به، والله لمزقنا جلده أمامكم وأمام كل مجتمع، لكي نبين خطره وفساد مذهبه، وخبث طويته وفساد عقيدته وأسلوبه.
أما أن نجعل أنفسنا باجتهاداتٍ ضعيفة وعلمٍ قليل، وتجربةٍ قصيرة، أن نجعل أنفسنا حاكمةً على البشر فنشهر بمن نريد، هذا أمرٌ لا يصح أبداً، وأقول هذا الكلام وأنا أعرف -أيها الأحبة- أن مجتمعنا لم يصل إلى هذه المرحلة، أقول هذا الكلام وأنا أعرف أن الصالحين وعامة أفراد المجتمع لم يصلوا إلى هذه المرحلة، ولكن نحذر أنفسنا قبل أن ينجح المنافقون في تحقيق ما يدبرونه وما يريدونه، قبل أن نقع كما يقول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
أيها الأحبة: نحذر من الشر قبل وقوعه، والوقاية خير من العلاج.
أيها الإخوة في الله: إن من واجبنا تجاه الأحداث التي تخالف شرعنا وتخالف قرآننا، وسنة نبينا، من واجبنا أن ننكرها، ولا يجوز لمسلمٍ أن يحب ما حرم الله، ولا يجوز لمسلمٍ أن يكره ما أحب الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] إن محبة ما يكرهه الله، وكراهية ما أحبه الله من الأمور العشرة التي تخرج من الملة، كما ذكرها إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نور الله ضريحه وجمعنا به في الجنة.
أيها الأحبة في الله! يوم أن نقول: إن من واجبنا أن نكره ما كره الله، وأن نحب ما أحب الله، وأن نجرم ما جرم الله، وأن نستحسن ما ندب الله إليه، من واجبنا تجاه أي مخالفة أمام هذا الأمر ألا نتصرف تصرفاتٍ فردية، نحن مجتمعٌ مسلم، وحينما أقول: صحوةٌ مسلمة فإني أقصد المجتمع كله؛ لأن مجتمعنا بفضل الله جل وعلا وإن وجد في بعض أفراده شيءٌ من الذنوب أو المعاصي أو التقصير فإنه لم يبلغ مبلغاً أصبح فيه ديوثاً، أو يرضى بالعار والمجاهرة بالفسق في بيته وأهله.
أقول: لا نزال بخير فحينما نكون يا أهل الصحوة صحوة الأمة الإسلامية في شعب هذه الجزيرة وفي بقية المسلمين في العالم، صحوة الأمة الإسلامية يوم أن تنكر أمراً أنكره الله، إنها لا تبادر بتصرف فرديٍ من ذات نفسها، وإنما ترفع هذا إلى علمائها لتعرف ما الطريق إلى علاج هذا الأمر؟ إن الإستحسان ليس من أدلة التشريع ولا يلزم وخاصةً في أمور الشريعة، قد تستحسن أمراً من أمور الدنيا فتطبقه، أما أمور الشرع فليس استحسانك لشيء دليلك على جوازه، ليس استحسانك لشيء دليلٌ لك على الإذن بفعله والتصرف فيه إذاً ما الذي يأذن لي بالتصرف فيما أريد؟ يأذن لي العلماء الذي يقولون: إن هذا أمرٌ واجب، أو أمرٌ يجوز أو أمرٌ لا يجوز.
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
أخشى -أيها الأحبة في الله- أن نكون كمن قال فيه القائل:
رام نفعاً فضر من غير قصدٍ ومن البر ما يكون عقوقا
فمتى يكون العمل والتصرف في محله؟ إذا كان عليه نورٌ من الكتاب والسنة، واجتهاد أهل العلم.
أحبتي في الله! يوم أن استقمت على دين الله أو استقمت أنت على دين الله من خمس سنوات، أو سبع سنوات، أو عشر سنوات هل ستكون أتقى لله وأعلم بالله وأغير على دين الله من سماحة مفتي هذه البلاد الذي شابت لحيته في الإسلام؟ الذي بلغ الثمانين من عمره؟ أسأل الله أن يمد لنا في عمره، أسأل الله أن يبقيه رحمةً للمسلمين، أسأل الله أن يتمم النعمة على الأمة به، أسأل الله أن يمتعه بالصحة والعافية، اللهم بارك في وقته اللهم بارك في ذهابه، اللهم بارك في إيابه، اللهم بارك في حركاته وسكناته وفي صمته ونطقه، اللهم بارك في إشارته وكلمته وفي كل حالٍ من أحواله.
ويا أهل هذه البلاد! والله إن من نعم الله عليكم هذا العالم الجليل، وهذا الرجل الذي أنعم الله به على الأمة وبغيره قبله، ومن نعم الله على هذه الأمة أن أنعم عليها بولاة أمرٍ يخافون الله، وأنعم الله على هذه الأمة بمجتمعٍ لا يزال يرفع الإسلام وبولاة أمر لا يزالون يعلنون العقيدة ويعلنون الشريعة بدلاً من أولئك الذين يحكمون الكتاب الأخضر، والنظرية الاشتراكية، والفكر البعثي، والنجاسة الثقيلة، إنها من أعظم النعم علينا في هذا الزمان.
أقول أيها الأحبة! إن من واجبنا ومن واجب الغيورين والمخلصين منا ألا يبقوا جامدين أو كسالى، لا أقول هذا الكلام؛ لكي يضع كل منا يده تحت رأسه أو يتوسد وسادته ثم يقول: قد انتهى الأمر وليس لي، لا، نريدك أن تعمل وكأن ليس في المجتمع إلا أنت من حيث الحماس والمتابعة وعدم البرود، وعدم الفتور، ولا نريد أن تتصرف إلا بإذن شرعي وبفتوى شرعية؛ حينئذٍ تكون حركة كل واحدٍ منا تخدم أهدافنا والأسس التي قامت عليها بلادنا، وتخدم ما نريده وما نصبوا إليه من تحقيق الأمن والطمأنينة في هذا المجتمع.
أيها الأحبة في الله! أوصيكم ونفسي بالالتفاف حول العلماء، الذين بلغوا في السن عتيا، أوصيكم ونفسي بالالتفاف والقرب والدنو والصلة بالعلماء؛ فإن أولئك لا يصدرون الفتوى إلا عن أمرٍ أو نهيٍ أو دليلٍ من عند الله جل وعلا، ولا يمكن أن يستحسنوا إلا ما استحسنه الله، ولا يصوبوا إلا ما صوبه الله، ولا يخطئوا إلا ما خطأه الله؛ وحينئذٍ نعبد الله على بصيرةٍ وندين الله بكل عملٍ من الأعمال التي نعملها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.(10/5)
الحذر واليقظة من كيد الأعداء
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! قد يسأل بعضكم فيقول: هل نفهم من كلامك أنه حينما نرى كلاماً يخل بالدين والعقيدة في مجلةٍ نتركه ولا نذكره؟ هل نفهم من كلامك حينما نرى كاتباً أو مفكراً أو فاجراً أو فاسقاً كتب شيئاً يخل بأركان الدين وأصول العقيدة، وخصائص الأمة أن نسكت عليه ولا نذكره؟ لا.
لا تفهموا من كلامي هذا وإنما نريد أن نفهم أن نبقى أعيناً ساهرةً، وعيوناً باصرة، وجهداً متأملاً متثبتاً لمعرفة ما يراد بنا، وما يراد بأخواتنا وبناتنا، وما يراد بشبابنا، وما يراد بثرواتنا، وما يراد بأمتنا ما الذي يكاد لنا ولعلمائنا ولولاة أمرنا، نريد أن نبقى أعيناً ساهرة، وأعيناً باصرة، فإذا وجدنا ما يخل بذلك من شيء أخذناه ورفعناه إلى عالمٍ من العلماء، وحينئذٍ تبرأ الذمة.
وأقول لكم: يا شباب الإسلام! قد يظن البعض أن العلماء لا يقدمون شيئا، قد يقول البعض: إن العلماء لا يفعلون شيئا.
والله أيها الأحبة -وهذه نعمة من الله- إن علماءكم لعلى صبرٍ وجلدٍ، وعلى تحملٍ فيما يلقون ويسمعون ويرون من كثير من يتصل بهم من الغيورين والمخلصين، وهم يبذلون بذلاً حثيثاً لمعالجة هذه الأمور بالطرق الشرعية، ولكن هل من شرط ما يعمله العلماء أن يعلمه العامة؟ هل من شرط كل عملٍ يعمله العالم أن يعرفه العامة والخاصة، والصغير والكبير على حدٍ سواء؟ لا، يكفي منك إذا وجدت ما يخالف أو يناقض أو يخل أن تذهب بما رأيته -في أي شيءٍ كان- ثم تعرضه على عالمٍ من العلماء وتقول له: اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد اللهم إنها من رقبتي إلى رقبتك، وحينئذٍ تبرأ ذمتك بإذن الله إذا كان هذا غاية ما تستطيعه وإن كان بمقدورك أن تتصل بمسئولٍ أو وليٍ من ولاة الأمر، أو علمت أن غيرك قد كفاك أو بلغ عنك هذا الأمر فحينئذٍ بلغ الأمر وقامت الحجة وبقيت في رقاب العلماء.
الذي نريده أيها الأحبة: ألا نكون في خللٍ من تصرفاتنا وسلوكنا وفي المقابل أن نكون على برودٍ وجمود، لا نريد هذين الأمرين أبداً، إنما نريد عملاً دءوباً ورصداً مستمراً، وأدعوكم أن تفتحوا أبصاركم جيداً لكل ما يدبره أعداؤكم، ولكل ما يخطط الأعداء؛ لأننا لا نشك أن في كل مجتمعٍ عدوٍ وصديقه منافق، فلا بد أن تنتبهوا لهذا الأمر وحينئذٍ أيها الأحبة: بلغوا ما ترونه إلى العلماء وإلى ولاة الأمر، هذا سبيل عليه من الحق دليل، وعليه من الشرع برهان، وما سواه فإنا نشك في وجود ما يدل عليه، ائتوني بدليلٍ على المنشورات، أعطوني دليلاً على هذه المنشورات! لا دليل عليها أبداً، وأقول هذا الكلام وأعيد وأزيد أننا ما بلغنا هذه المرحلة، ولكن أحذر من أن يندس في صفوفنا من يجعل أسلوب المنشور من أساليب الدعوة، لا وألف لا، ليس من أساليب الدعوة إلى الله، وإذا احتاجت الأمة أن تشهر بفاسقٍ من الفاسقين أو أن تحذر بمجرمٍ من المجرمين فحينئذٍ حينما يظهر عليه فتوى، والله لا يرحم عرضه في مجلسٍ ولا منبرٍ أبدا، ولكن من الذي يفتي بتشهيره من الذي يفتي بالحديث عنه، من الذي يتكلم عنه؟ من عرفناه بعلمه وتقواه وسابقته في دين الله جل وعلا.
أيها الأحبة في الله! أسأل الله أن يرشد هذه الصحوة وأن ينفع الأمة بها، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيها إننا لفي خيرٍ عظيم، وعلى خطرٍ عظيم، فنحتاج أن نجعل خيرنا في مواجهة هذا الشر، وأن نجعل صلاحنا في مواجهة الخطر، بالأساليب التي تحفظ لأمتنا ولمجتمعنا التوازن الذي نريده ونرغبه فيه على كل حالٍ من الأحوال.(10/6)
المعركة بين الحق والباطل صريحة وطويلة
أيها الأحبة في الله: أيها الإخوة الغيورون! يا رجال الإسلام! ويا حماة العقيدة! آن لكم أن تعرفوا الحرب صريحة، آن لكم أن تعرفوا أن العداوة عداوة العقيدة، آن لكم أن تعرفوا أن أعداءكم والله لا يغبطونكم على سياراتكم، ولا يغبطونكم على قصوركم، ولا يغبطونكم على مفارشكم ومآكلكم ومطاعمكم وإنما {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105] ود الذين كفروا: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:119].
أنتم أمام الأعداء، وأمام المنافقين، فإن مسئولية الوقوف ووحدة الصف واجتماع الشمل ووضع الأيدي مع العلماء وولاة الأمر وتثبيت الصف من واجبات كل مسلمٍ منكم، ولا تظنوا أن الغيرة على المجتمع وظيفة من لبس مشلحاً أو تخرج من كلية الشريعة، أو أصبح داعيةً، أو خطيبا، إنها مسئولية كل واحدٍ منكم، إنه مسئولية من كان ملتحياً ومن كان حليقا، مسئولية من أسبل ومن قصر، مسئولية من كان سابقاً بالخيرات ومن كان ظالماً لنفسه، ومن كان مقتصدا، إننا لا يمكن أن نجمع مع تقصيرنا في حق أنفسنا تقصيراً في حق أمتنا، وفي حق ولاة أمرنا من علمائنا ومسئولينا، لا والله لا بد أن نكون على مستوى الصراحة، وأن نكون على مستوى القوة وأن نحذر من كل ما يدبر ومن كل ما يحاك لهذه الأمة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك وباسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تحفظ علماء المسلمين وأن تحفظ ولاة أمر المسلمين.
اللهم اجمع شملنا، اللهم لا تفرق جمعنا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمعنا وإياهم على ما يرضيك يا رب العالمين.
اللهم اجعلهم ممن قال فيهم نبيك: (خير أئمتكم الذين تدعون لهم ويدعون لكم) اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأراضين بقدرتك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تحمي أعراض المؤمنين، اللهم احفظ أعراض المؤمنين، واحمِ حوزة الدين، واهد شباب المسلمين، واستر على بنات المؤمنين، واستر زوجات المؤمنين يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان.
أيها الأحبة! عودٌ على بدء، إنما يدور وما يتفجر من البلونات الشفافة أمام المجتمع؛ لتشغل أنظاركم وأنظار الغيورين عن القضايا الخطيرة والقضايا الكبرى لأمرٌ مستهدف، وأريد بهذا أن أقول: إن معركة الحق طويلة مع الباطل وقديمة أيضاً، وليست مواقفنا مع الباطل ومع الأعداء ومع المنافقين في موقفٍ أو موقفين، بل لا نزال في مواقف مع الأعداء إلى أن نموت ونلقى الله جل وعلا.
فينبغي إذا عرضت لنا مشكلة أو ظهرت لنا ظاهرة ألا ننصرف بكليتنا وبجهدنا، وصغيرنا وكبيرنا، فننشغل بها عن غيرها من الأحداث والمخاطر.
إن الذين يتفننون في الجريمة، إذا أرادوا أن يسرقوا بنكاً فجروا سيارةً فانشغل الشارع بهذه السيارة المتفجرة واتجهت الأنظار إلى هذه السيارة المتفجرة ثم ذهب اللصوص وسرقوا البنك بأكمله، فلا نريد أن ننشغل -أيها الأحبة- بقضيةٍ جانبيةٍ، وإن كانت مهمة، لا نريد أن ننشغل بها انشغالاً كاملاً، فتأخذ جهدنا ووقتنا وتفكيرنا وننسى ما أمامنا من المعارك القادمة مع الباطل والمنافقين، أريد أن نكون على مستوى الوعي، نريد أن نكون على مستوى الفهم وأن نتعامل بطول النفس وطول الحبال، والمدى الطويل، والمعركة الطويلة إلى أن نلقى الله جل وعلا وما غيرنا وما بدلنا وما أشركنا، فلا يفوتنكم هذا الأمر يا شباب الإسلام، ويا رجال الإسلام لا ننشغل بكليتنا في أي قضية، وإن كانت مهمة فننشغل بها وحدها عن سائر ما يدبر ويخطط للأمة.
هل ما يراد بكم من قبل أعدائكم ومن قبل المنافقين هو حدثٌ واحد وسلمتم فيما بقي؟ هل تظنون أن الحياة مجرد هذه المشكلة وما بعدها كلها زهورٌ وأنهار ولن يكون فيها حدثٌ أو مشاكل؟ لا.
والليالي من الزمان حبالى مثقلاتٍ يلدن كل عجيب
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار
لا نظن أن الحق والباطل يقومان في معركةٍ واحدة ثم ينتهي النصر للحق ولا يعود للباطل حركةٌ من جديد، لا، فلا نريد أن نشغل بمسألة وإن كانت مهمة فننشغل بها كلنا.
انظروا ماذا شغلت به الأمة، لقد شغلت عن المجاهدين، شغلت عن الجهاد في أفغانستان، وشغلت عن قضايا كبيرة وخطيرة، وشغلت عن البحث والاستمرار في معرفة الفكر البعثي، وأذناب البعث ومن ينتسبون إلى البعث، ومن يتسللون في الصفوف من البعثيين، قد شغلت الأمة بظاهرةٍ معينة عن خطرٍ كبير.
وهل الأعداء البعثيون وحدهم؟ لا.
الأعداء أصنافهم كثيرة، درجاتهم مختلفة، مراتبهم مختلفة، إذاً فلا ينبغي أن ننشغل بظاهرةٍ معينة، ولنجعله نظاماً كما تجري المعاملة في الدائرة الحكومية، ظهرت ظاهرة تقدم إلى العلماء وإلى ولاة الأمر، ويتخذ بشأنها ما يتخذ، ثم نستقبل أي جديدٍ أمامنا.(10/7)
التثبت والبينة قبل الحكم
نسأل الله أن يجعل بلادنا هادئةً آمنةً مطمئنة، ولكن لا يمكن أن يتحقق لكم هذا وهو لم يتحقق لرسول الله، لم يتحقق هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن قامت دولته إلى أن مات والمؤامرات تلو المؤامرات على دولته، والوحي يتنزل عليه والله يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
لقد أعطاه الله ضماناً بأن يعصمه من الناس ومع ذلك والوحي يتنزل والمعجزات قائمة والله حافظه ومع ذلك فلا زالت المؤامرات تلو المؤامرات في دولته وفي بلاده، أفتريدون أن تبقى أمتكم وأن يبقى مجتمعكم بحالٍ أفضل من حال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيبقى سليماً نظيفاً نقياً من أي صغيرةٍ أو متوسطةٍ أو كبيرةٍ من الجرائم والمصائب؟، لا، ولكن إذا أردنا أن نقول لا نريد جريمة في المجتمع، ولا نريد أن تظهر في المجتمع جريمة فقد طلبنا مجتمعاً أفضل من مجتمع النبي، لأن مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت فيه الجريمة وظهرت فيه المشكلة وظهرت فيه الأمور الخطيرة وعالجها النبي صلى الله عليه وسلم واستقبل ما بعدها، فنحن لا نقول أو نطلب مستحيلاً نقول: نريد مجتمعاً لا يوجد فيه جريمة ولا مشكلة ولا ظاهرة خطيرة، بل نريد مجتمعاً رجاله يقظون نريدكم على أتم حال الأهبة والاستعداد واليقظة، نريد العين الساهرة لمتابعة كل دقيقةٍ وجليلة، وما عرفتموه خاصةً بالوثائق والبيّنات، نعم يوجد في المجتمع من يندس، لكن من يقيم للبينة على أن هذا كذا؟ من يقيم للبينة على أن فلاناً شيوعي؟ من يقيم البينة على أن فلاناً كافر؟ من يقيم البينة على أن فلاناً عنده وعنده؟ لا أقبل كلام المنشور فيه، ولا تقبلون أنتم كلام المنشورات فيه، لكن نريد البينة فإذا ثبتت البينة من شهود العدل أنه قال أو تلفظ أو نطق أو كتب في رسالته الجامعية أو قرر أو كتب كتابةً ووقع عليها فحينئذٍ تثبت وتحكم وتجزم بأنه يعتقد ما يقول، وتجزم بعد مناقشته ومناقشه من لهم الفكر والعلم والتقى والسابقة، يحددون موقفه ويصنف وحينئذٍ شأنه مع المحاكم الشرعية، نريد أن نتثبت في كل حكمٍ نطلقه وفي كل أمرٍ نطلقه، أعيد وأزيد، هذا لم يقع منكم ولم يقع من شباب الإسلام، وإنما نراه من منشورات ظهرت بأسماء أو بغير أسماء إني أبرئ نفسي وأبرئ شباب الصحوة، بل إن التهمة أصلاً أو إن الفكرة أصلاً لا تتوجه على الشباب الغيورين فيها وإنما على مفسدين قد يشعلون الفتيل حتى يأتي ساذجٌ يوصل آخره إلى محل الانفجار.
فأقول: احذروا من هذا ولا تجعلوا القرود التي تتقلب على أغصان الأشجار بالغابة تمتطي صهوة الحصان الأصيل، صحوتكم حصانٌ أصيل، قد يمتطيها قردٌ على غصن شجرة، فانتبهوا ألا يقف على سروج الخيل الأصيلة من القرود والمنتفعين والانتهازيين والمستغلين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تحفظنا وأن تبصرنا وأن ترزقنا خير العمل وخير الاستقامة.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعا سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسقِ العباد والبهائم والبلاد.
اللهم إن كثرت ذنوبنا فإن عفوك أكثر، وإن كبرت معاصينا فإن رحمتك أكبر.
اللهم تغمدنا برحمتك، اللهم بعفوك لا بأعمالنا، اللهم بمنك لا بسعينا، اللهم بجودك لا بمساعينا، نسألك اللهم أن تتغمدنا برحمتك يا ربنا، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
عباد الله! إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(10/8)
دروس وعبر
الأمن نعمة من نعم الله العظيمة، ينتج عن اختلاله كثير من المفاسد، لذا كان من الواجب على الناس حمد الله وشكره على نعمة الأمن.
وهذه الدروس والعبر مأخوذة من حرب الخليج، حيث ألقيت هذه المحاضرة بعد هدوء عاصفتها، فجاءت هذه المادة لتسلط الضوء على ما جرى، ولتؤصل لبعض ما حدث.(11/1)
نعمة الأمن وأثرها على الناس
الحمد لله منشئ السحاب، منزل الكتاب، وهازم الأحزاب، وخالق خلقه من تراب، الحمد لله حمداً طيباً مباركاً كما ينبغي لجلال وجه الله وعظيم سلطانه، الحمد لله الذي كشف الغمة عن المسلمين، الحمد لله الذي تتابعت نعمه على عباده المؤمنين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معبود بحقٍ سواه، نحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، بالأمس كنا خائفين واليوم نصبح مطمئنين من الذي جعل هذه الحالة في القلوب يا عباد الله؟ أليس ربكم جل وعلا؟ اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد وحدك لا شريك، اللهم لك الثناء الحسن، اللهم لك الشكر وحدك لا شريك لك.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فلا نجاة والله إلا بها، ولا طمأنينة إلا بها، ولا عز ولا تمكين إلا بها، اتقوا الله تعالى حق التقوى، ولا تموتن إلا عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
عباد الله: انظروا حالكم بين الأمس واليوم، كثيرٌ من الناس سافر عن أرضه، وترك بيته وودع مهبط رأسه، وذهب يميناً أو يساراً، قريباً أو بعيداً، خوفاً على نفسه، لقد انتهت تعلقاته وارتباطاته بثروته وماله وبيته وداره، وأصبح لا يفكر إلا بنفسه ترك بيته، ترك قصره، ترك ذلك المكان الذي مكث مدة طويلة وهو يشاور الأصحاب، ويستشير الأحباب، من أجل تحديد موقعه، على ربوة أم هضبة، على جهة أم جهتين ما واجهاته، ما أنواع الرفاهية فيه، تركها لكي يعيش في شقة ضيقة؛ لأن نعمة الأمن في نفسه تزعزعت قليلاً، والآن بحمد الله جل وعلا عاد الذاهبون آيبين، ورجعوا إلى بيوتهم مطمئنين.
من الذي قذف الطمأنينة في القلوب؟ أليس الله جل وعلا؟ اللهم لك الحمد على كل حال.
والله لقد مرت بالناس أيام وليالي ما كان الناس يفكرون إلا بأنفسهم، وإذا سمعوا صيحة صاحت قلوبهم واختلفت أفئدتهم النوافذ مغلقة، والأبواب محكمة، والأعناق مشرئبة، والأفئدة تنظر، والأعين تبصر، هل يزول الخطر أم لا؟ {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان:77] نسأل الله جل وعلا أن يكون كشف هذه الغمة سبباً في مزيدٍ من الذلة بين يديه، والانكسار إليه والحاجة إليه، والخشوع له، والتضرع بين يديه سبحانه وتعالى.(11/2)
الذكر والشكر عند حلول النعم
أيها الأحبة: إن في هذا الدين سنة عظيمة وهي أن تختم العبادات بالذكر والشكر والتسبيح، فما بالكم باندفاع النقم وحلول النعم! فهي أولى بالشكر والتسبيح، يقول الله جل وعلا في صيام شهر رمضان: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] تختم العبادة بالذكر والتكبير، ويقول جل وعلا في الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] وفي المجالس في ختامها تختم بالكفارة (سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك) وإذا عاد الإنسان من سفره كبر مهللاً وحمد الله: (آيبون تائبون لربنا حامدون) فما من أمرٍ من أمور العبادة فضلاً عن أمور الدنيا إلا ونجد أن الشريعة قد وجهتنا إلى أن نختمه بالذكر والشكر، والتكبير والتعظيم، والتسبيح والثناء، والتمجيد لله جل وعلا وحده لا شريك له، فما بالنا وقد دحر الله أعداء المسلمين من البعثيين! ونسأل الله أن يدحر بقية أعداء المسلمين على وجه هذه الأرض، وألا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، وألا يجعل للفاجرين على المتقين دليلاً.
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نعلم أن أيامنا هذه أيام شهرٍ كريمٍ وما بعده أكرم منه، وأيامنا هذه أيامٌ نعمة حلت بالمؤمنين باندفاع واندحار عدوهم البعثي وانهزام فلوله وتحطم راياته، وانكسار آياته، فهي -والله- أحوج بالشكر والثناء والتعظيم لله جل وعلا، أما أن تكون أمة الإسلام كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] غناء وتطبيل وتزمير!! ينبغي للأمة أن تتقي الله في نفسها، وأن تتذكر قبل أيامٍ قليلة كيف كانت الوجوه تتغير، وكيف كانت الأفئدة تتطاير، وكيف كان الذعر والقلق يملأ الرجال والذرية والنساء، ينبغي ألا نكون من أولئك الذين قال الله فيهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] نعوذ بالله من ذلك! ونعوذ بالله أن نخادع الله وهو يخدع المنافقين والكافرين والعابثين بأمرٍ يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، كانت مرحلة مشنشنة فاضحة مصفية للنفاق والمنافقين، وظهر الذين يستغلون الفرص، وظهر الذين أصبحت علاقاتهم مصلحية، وظهر ما يسمى بوحدة الأمة العربية
وإخواناً جعلتهمُ سهاماً فكانوها ولكن في فؤادي
وإخواناً حسبتهمُ دروعاً فصاروها ولكن للأعادي(11/3)
الحاجة إلى فتح صفحة جديدة
والآن تصيح الإذاعات التي كانت بالأمس تقول متفرجة شامتة على المسلمين: ضربت مدينة الرياض بصواريخ أسكود، ضربت مدينة الشرقية بصواريخ أسكود، ضربت مدينة كذا بصواريخ، والآن ينبغي أن نعود إخوة كما كنا، وأن ننسى الماضي وأن نفتح صفحة جديدة، صفحة جديدة على ماذا؟! أن نضع في جعبنا العقارب والحيات، والدواب والثعابين، ثم نقول: نفتح جعبة جديدة أو صفحة جديدة! لا، نفتح صفحة جديدة ولكن على الإسلام، على التوحيد، على تحكيم كتاب الله، على الوقوف لقضايا المسلمين في شرقها وغربها، لا أن تكون المصائب هي التي تكشف الخبايا.
أيها الأحبة في الله: ومرت أيامٌ علم الله أحوال الخلق فيها، وكلٌ منكم قد ناله ما ناله منها، فالخطاب أولاً لكم أنتم أن تتقوا الله جل وعلا، وألا تكون ذنوبنا سبباً في شؤم بني المسلمين أجمعين، وألا تكون غفلتنا سبباً في هلاك الصالحين (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، إذا كثر الخبث).
أيها الأحبة: هي مسئوليتكم أنتم لكي تفتحوا صفحة جديدة، وتودعوا زمن الهزل والغزل.
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكر لأيام الصبا فلأيام الصبا نجمٌ أفل
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل
لا تقل أصلي وفصلي أبدا إنما أصل الفتى ما قد حصل
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل(11/4)
أهمية استلهام الدروس والتفكر في النعم
البطولة والنصر بالتقوى واللجوء إلى الله جل وعلا، وحبذا أن تكشف الأمة أوراقها، وأن تدرس ما حصل لها من العبر والعظات في هذه المصيبة التي حصلت لأمة المسلمين أجمعين في هذه الأيام التي مضت.
أولها: لقد ظهر ضعف المسلمين، وهذا أمرٌ لا نسوقه على وجه الشماتة أو على وجه الفرح، وإنما نسوقه لكم لكي يجند كل واحدٍ منكم أبناءه، ولكي يعد كل واحدٍ منكم نفسه، لكي يكون جيشاً احتياطيا، وجندياً على أهبة الاستعداد حال الطلب، لكي تكون أمة الإسلام مستغنية عن غيرها بحالها نعم، ظهر ما نحن فيه، وظهرت علاقاتنا وظهرت صداقاتنا، فحاجتنا أن نستلهم الدرس منها، وقد انتهى ذلك الوقت الذي كان الكثير يخاف على ولده من الجندية والعسكرية، بل لابد ولو بذلنا كل الأسباب من أجل أن يتجند أبناؤنا وأن يتطوع أبناؤنا، ولقد رأينا فيكم وفيهم خيراً كثيراً بإذن الله، لقد ظن أعداء الإسلام أن أبناء هذه الجزيرة لن يستطيعوا أن يقفوا على ميادين التدريب والجندية، أو لن يرغبوا في أن يتسابقوا إلى ميادين الجهاد، بعد أن ملئوا مدرجات الملاعب، أو بعد أن جلسوا على الأرصفة، وهاهم يثبتون خيبة ظن أعدائهم بهم ويقولون: خسر رهانكم، وخابت ظنونكم، وحنثت يمينكم، هؤلاء شبابنا عادوا أقرب إلى الله من ذي قبل، وعادوا أصدق مع الله من ذي قبل.
فيا شباب الإسلام مزيداً من بذل الطاعة لله جل وعلا، والوعي لواقعكم وما يدور حولكم وما يراد بكم.(11/5)
زوال النعم بالمعاصي
ومن دروس هذه المحنة: أن النعم لا تدوم من سره زمنٌ ساءته أزمان
يا نائم الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
أي مصيبة حلت بأحبابنا وإخواننا في الكويت، ناموا آمنين، فأصبحوا مشردين، هذه الدنيا لا يعول عليها، ولا يُطمئن إليها، ولا يوثق بها، فاعتبروا يا أولي الأبصار! ليست أمة دون أمة تحرم على الغزو والاجتياح، أو البلاء والعقوبة والمصيبة، نسأل الله ألا يحل بنا ما حل بإخواننا، ونسأل الله جل وعلا أن يجبر كسرهم وأن يشفي مريضهم، وأن يرد أسيرهم، وأن يجبر كسيرهم اعتبروا بهذه الدنيا.
أما الذين يمشون ولا يزالون في ترف المراكب ولهو الدور وعبث الدنيا والغفلة عن عبادة الله، فليتقوا الله جل وعلا، وليتذكروا أن الذنوب لها شؤم، وأن شؤمها يحل عاجلاً وآجلاً، وليس كما يظن بعضهم:
إذا لم يغبر حائطٌ في وقوعه فليس لهم بعد الوقوع غبارُ
لا، الذنوب والمعاصي لها شؤمٌ يحل عاجلاً أو آجلاً، وإن الأمة إذا عصت الله على بصيرة واستمرأ الناس المعصية، ورأوا المعصية، وشاهدوا المعصية، وجالسوا المعصية، وخالطوا المنكر واستمرءوه؛ أوشك أن يعمهم الله بعذابٍ من عنده، وهانوا على الله لما فتحت المدائن بكى أبو ذر، فقيل له: ما يبكيك يا صاحب رسول الله؟ فأخذ يبكي ويقول: ما أهون الخلق على الله إن هم عصوه!
بالأمس كانوا ملوكاً في مناصبهم واليوم هم في بلاد الأرض عبدانُ
إن الأمة إذا عصت الله على بصيرة، فإن سنة الله لا تتغير فيها أبداً، ولنتذكر ما حل بالمسلمين في بغداد، ما حل بالمسلمين أيام التتار والمغول، وتلك الحوادث التي لا يمكن أن ينساها التاريخ، ماذا حل بالمسلمين؟ قال أهل التاريخ: لقد قتل من المسلمين ألف ألف مسلم على أيدي المغول والتتار، أي: مليون مسلم، وقيل: ثمانمائة ألف مسلم، كيف يقتلون وهم يصلون ويسجدون ويصومون مثلكم؟ ولكن لما انتشرت المعاصي وظهرت المعاصي وأصبح الناس يفاخرون بها، وإذا قام قائمٌ لله بحق، أو رجلٌ يدعو إلى الله على بصيرة، أو غيورٌ يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر؛ قيل: اخرج، أنت مطوع، معقد، مسكين، يتدخل في شئون الآخرين، متشدد، لا يعرف أساليب الدعوة، لا يعرف التغيير، وأخذوا يرمونهم بمختلف الأساليب، ولقد جاء إليَّ ذات يوم رجلٌ -أسأل الله لي وله الهداية- يشكو إليَّ شاباً، يقول: هذا لا يعرف الدعوة ولا يعرف أساليب الدعوة، وأصبح يحدثني حديثاً عن شاب في الإسلام وشاب في الدعوة وشاب في تغيير المنكر والأمر بالمعروف، فقلت له: أما تستحي أن تتجرأ بهذا الأسلوب على رجلٍ أنا أحسبه أتقى منك؟ أما تستحي أن تتكلم في أساليب الدعوة وأنت ليس فيك شيءٌ من سمات الدعوة إلا أقل القليل؟ فينبغي -أيها الأحبة- إن لم نكن جنوداً للحق أن نكون أنصاراً له، وإن لم نكن أنصاراً أن نكون مؤيدين بالدعاء له.
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليسعف النطق إن لم تسعف الحالُ
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).
إننا نعلم أن للمصائب ارتباطاً وثيقاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا الأمة لم تكن آمرة أو ناصرة أو مؤيدة أو داعية أو محبة؛ فإنها على خطرٍ عظيم، وكل واحدٍ منا ينبغي ألا يحرم نفسه واحدة من هذه المنازل، إما أن يكون داعياً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، أو نصيراً أو مؤيداً أو على الأقل صامتاً، ألا يتناول الدين بلسانه، وألا يتناول أهل الدين بلسانه؛ لأن من أحب قوماً حشر معهم، فلا أقل من أن تحب الأبرار والأطهار والأخيار لتكون معهم يوم القيامة جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولمَّا يلحق بهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت يوم القيامة).
فهذا درسٌ من الدروس ألا نثق بالدنيا، وألا نطمئن بها وإليها، وأن نعرف أن ترك المنكرات وخذلان أهل الأمر بالمعروف سببٌ من أسباب المصائب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(11/6)
دور العلماء عند المحن
ومن الدروس والفوائد: أن للعلماء -أمد الله في عمرهم، وبارك في أوقاتهم، وحفظهم بحفظه وعنايته- أن للعلماء دوراً عظيماً في شرعية القتال، وبيان ما يكون من القتال جهاداً، والله إنه موقفٌ لن ينساه التاريخ أبداً لعلماء المملكة وعلى رأسهم سماحة الشيخ ابن باز، الذي وضح ذلك الضلع الخطير من هذه القضية الذي يتعلق بالجهاد في سبيل الله جل وعلا، وهذا دليل على دقة الوعي ودقة الفهم، لا كما يقول بعض السذج: علماؤنا لا يفقهون في السياسة شيئاً من الذي يفقه في السياسة إذاً؟ الذي لم يعرف الالتزام إلا من خمس سنوات أو عشر سنوات؟ شابوا في الإسلام وشبوا ونشئوا وكبروا عليه ولا يعرفون في السياسة قليلاً ولا كثيرا؟! لقد برز دور العلماء في هذه المرحلة، وحصل ما حصل، خاصة بوجود القوات الأجنبية، ومع ذلك كان رأيهم واضحاً بفضل الله جل وعلا، واطمأنت الأمة إلى رأيهم، وعرفت صواب رأيهم، ومصداقية تفكيرهم، وعرفوا أنهم هم أرباب السياسة، وهم دهاقينها وهم أساتذتها، كما يقول الشيخ الدوسري رحمه الله، أسأل الله أن يملأ قبره روضة وريحاناً: (لا إله إلا الله) من لامها إلى هائها سياسة.(11/7)
نهاية ما جمع من الحرام
كذلك أيها الأحبة: ظهر في هذه المحنة العظيمة أن ما جمع من الحرام ينتهي بمحق، كم خسرنا في هذه الحرب أفراداً ومؤسساتٍ وشركات خسرت خساراتٍ عظيمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا! كلها خسرت وانتهت وذهبت في هذه الحرب {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] ما تجمعه من الربا أياً كنت فرداً أو صغيراً أو كبيرا، فإن الله يمحقه، والمحق قد أخبر الله به، أما كيفيته فالأمر إلى الله جل وعلا، زلزالٌ أو بركانٌ أو أمراضٌ أو حربٌ أو مصيبة، المهم {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
كم أنفق على هذه الحرب من الأموال الطائلة الكثيرة! ونحن نسأل الله أن يكون ما أنفق فيها دفعاً عن المسلمين لأنواع البلاء، وتطهيراً للمسلمين من المتشابهات والمختلطات، وإنا على ثقة أن الدعاء كان أعظم سلاحٍ قاتلنا به الأعداء، والله إنا على ثقة أن الدعاء كان أعظم سلاحٍ قاتلنا به الأعداء، ثم بعد ذلك بهذا الدعاء سخر الله للمسلمين من هم أقوى منهم، وبهذا الدعاء {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال:17] وبهذا الدعاء {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] وبهذا الدعاء كان المقدور لطيفاً وكان سهلاً ميسوراً على أمة المسلمين فيما أصابهم، فلنكن صرحاء مع أنفسنا، صادقين، حتى في الاستفادة من تجاربنا، وفي هذه الحرب جربت أسلحةٌ جديدة لأول مرة، فكانت درساً لشركات الأسلحة التي كانت تنتظر فرصة أو لا تنتظر، المهم كانت تتمنى يوماً تقيم فيه أسلحتها وتعرف مواطن السلب والإيجاب، والزيادة والنقص، والنفع والضرر في هذه الأسلحة التي صنعت، فكان من عبر هذه الحرب أن جربت فيها أسلحة جديدة، واستفاد منها من كان عاملاً، وهي سنة كونية، إن من يعمل يجد نتيجة، حتى لو كان يهودياً، حتى لو كان نصرانياً، حتى لو كان بوذياً، حتى لو كان مجوسياً، إن من يعمل يجد نتيجة، فأمة الإسلام إن تعمل وتكن على مستوى العمل ستجد نتيجة، كيف لا والله يؤيدها ويسددها بمنٍ وعونٍ وتوفيقٍ منه.(11/8)
أثر الدعاء في صد العدوان
كذلك أيها الأحبة: كما قلنا، بهذا الدعاء الذي هو أعظم سلاحٍ نزلنا به هذه المعركة دفع الله أنواع البلاء، وأنتم ترون كم أسقط على المملكة من صاروخ أسكود، صاروخ يسقط في طريق الخدمة فلا ينحرف يميناً لكي يهدم الأسواق والمباني والمحلات التجارية، ولا يسقط يساراً فيقع في الخط الدائري فتحصل الحوادث المرورية، وصاروخ آخر يقع في شارعٍ في أحد الأحياء لا ينحرف يميناً فيصيب مبنى ولا ينحرف يساراً فيصيب بناية، وصاروخ آخر يسقط على بناية بطريقة قوسية أو وترية، حتى تكون الأنقاض محتوية داخل البناء، ولو ضرب من جهة لمال على الأخرى، ولو ضرب من أخرى لمال على التي تليها، حتى تكون الإصابة أقل ما تكون، ويوم أن سقط صاروخ أسكود آخر مات فيه ثمانية وعشرون قتيلاً وحوالي تسعين جريحاً، نحن لا نقول هذا شماتة، ولا نقول هذا فرحاً، وإنما نقول: اعتبروا، فإن هذا الدين وهذا التوحيد وهذا الدعاء، هو الذي جعل هذه الصواريخ تحملها الملائكة يمنة ويسرة حتى تقع بها في موقعٍ بعيدٍ عنا: {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام:61] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] هذه آياتٌ قرآنية وجدناها آيات واقعية فعلية وعملية، وانظروا كم سقط على أبناء القردة اليهود من الصواريخ، انظروا كم سقط عليهم من الصواريخ، وماذا أحدثت ودمرت في أرضهم وبلادهم، ما الفرق؟ هل الصاروخ الذي أطلق على اليهود صاروخٌ يختلف عن الذي أطلق على المسلمين؟ بل والله كانت أشد الصواريخ فتكاً تلك التي أطلقت علينا؛ لأنها أبعد مسافة وحملت بوقودٍ أكثر، ومع ذلك فإن الله دفع البلاء بمنه وفضله ولله الحمد والمنة.(11/9)
ضرورة الاستعداد للحرب
ثم أيضاً من هذه الدروس: أن الاستعداد للحروب أصبح أمراً طبيعياً، أصبح كل واحدٍ يحدث نفسه أن يكون جندياً، أن يخرج إلى الجبهة، أن يتطوع، أن يتسلح، أن يقتني السلاح، أن يتعامل مع السلاح، وقد انتهى ذلك الزمن الذي كان الناس لا يعرفون فيه حمل السلاح، وأيضاً شهادة جليلة لشباب هذه الأمة في صدق تجاوبهم لحفظ الأمن والحرص على أمن المسلمين، حيث ترون في مختلف الساعات واللحظات ليلاً ونهاراً هؤلاء الشباب الذين يقفون على الشوارع، ومداخل الطرق، والله ما مررت بشابٍ إلا دعوت له، ونسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعل لهؤلاء الشباب الذين تطوعوا في هذا الأمر، وكانت نيتهم صادقة مخلصة، أسأل الله أن يجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة، اللهم لا تدع لهم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مرضاً إلا عافيتهم منه، ولا حاجة إلا قضيتها، ولا أيماً منهم إلا زوجته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، هذه هديتنا لإخواننا ولشبابنا ولأبنائنا المتطوعين، هديتنا لهم الدعاء في ساعة من ساعات الإجابة، يوم يقوم الخطيب على المنبر، نسأل الله ألا يحجب دعاءنا لهم، ونسأل الله أن يمن عليهم بالهداية والاستقامة والصلاح، وأن يحبب إليهم الدين، وأن يكره إليهم الذنوب والمعاصي، وأن يبارك لهم فيما أباح لهم بمنه وكرمه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(11/10)
دور الإعلام في توجيه الناس
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.(11/11)
الدور التضليلي للإعلام
أيها الأحبة في الله: ومن دروس هذه الفتنة والمحنة: دور الإعلام الخطير في توجيه الأمة، فإن الإعلام البعثي انظروا كيف عبث بالمسلمين، ودبلج صوراً حول البيت الحرام يطوف بها العراة والكفار، وقال للناس: انظروا إن هذه البلاد قد جعلت الكفار في مكة ويطوفون بالبيت الحرام، فصدق ذلك الهمج والغوغاء، ومتى كانت وسائل الإعلام مصدراً من مصادر الفتوى، ومصدراً من مصادر توجيه المسلم في شريعته؟! لكن أن يخرج عالم ويُبين في هذه الوسيلة موثوق بعلمه، فهذا أمرٌ آخر، أو أن يقول للناس أموراً تتعلق بالدين، من كان يغني للبعث:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما لهُ ثاني
فذلك غباءٌ من شعوب المسلمين إلا من رحم الله منهم، كان للإعلام دورٌ خطير، ضللت كثيرٌ من الشعوب والجماهير بهذا الإعلام.(11/12)
الحاجة إلى توجيه الإعلام لخدمة الإسلام
ونحن بحاجة إلى أن نسخر إعلامنا في دعوة الناس إلى الله، نحن بحاجة إلى أن نسخر هذا الإعلام إذاعةً وتلفازاً وصحافةً لكل ما يرفع هذا الدين ويرفع لواء الإسلام، ويعز الأمة ويبين حقائق مواقفها من أعدائها، نحن بحاجة إلى إعلامٍ واضح جلي نقي يعرف أهدافه، ويعرف أسسه، ويعرف مبادئه، ويعرف منطلقاته وتوجهاته، إن الإعلام الذي يبحث عن رضا الجماهير ذلك إعلامٌ ينقاد للجماهير، وأما الإعلام الذي يصنع الأمة ويصنع الجماهير ويربي الجماهير هذا هو الإعلام الذي ينبثق من الأمة الواحدة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].
إن الإعلام في دول الغرب ودول الكفر إعلامٌ ينطلق من الديمقراطية، فما تريده الجماهير يكون حكماً ونظاماً وقانوناً، وما تريده الجماهير إعلاماً يكون إعلاماً، لكن الدول المسلمة قد علق الله الأمانة في رقاب ولاة أمورها، قد علق الله الأمانة والعهد والميثاق الغليظ على عواتقهم من أجل أن يصنعوا الأمة، وأن يحكموا فيها كتاب الله، وأن يقوموا فيها بالعدل، وأن يصنعوا جماهيرهم، وأن يربوهم، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] شأننا في بلادنا في إعلامنا يختلف عما يكون عليه الأمر في بلاد الكافرين أو دول الديمقراطية، أو كما يسمونها.(11/13)
من دروس الفتنة كشف العداوات والصداقات
كذلك أيها الأحبة: كشفت الصداقات والعداوات من الدول المجاورة، وكنا نظن أننا نضع أجنحة الأمان في روابط أقمناها أو أقيمت مع أناسٍ، ومن خدعنا بالله انخدعنا به، ولكن:
جزى الله الشدائد كل خيرٍ عرفت بها عدوي من صديقي
وظهرت هذه العداوات في أحلك الظروف وأشد الساعات خطراً على أمتنا، وهذا درسٌ لكي تعتبر به الأمة، وتعرف أن العلاقة التي تكون سبباً من أسباب التمكين والتأييد والاجتماع والقوة هي العلاقة التي تبنى على الحب في الله والبغض في الله، العلاقة التي تقوم على روابط العقيدة والدين، أما أن يجمعنا بدولة من الدول روابط العروبة والرقعة الجغرافية والدم أو اللون، فهذه روابط انتهت واتضحت عداواتها، وقد أفلست الشعارات التي قيدت بها أمة الإسلام، قاد الأمة عبد الناصر فيما مضى فأورثها نكبة عظيمة لا زالت تعاني من ويلاتها وهي حرب (67م)، ثم رفع شعار البعث والعلمانية، وماذا كان وراءه؟ مصيبة لا يعلمها إلا الله، بسبب تجمع هذه الأمة ولا أقول: كل الأمة، لكن تلك التي طبلت ودندنت وراء هذا الطاغية الفاجر الذي أورث قومه بواراً {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] لقد مزقت تلك المذاهب شملنا، مذاهب البعث ومذاهب العلمانية، والنظريات المستوردة والقومية، وكل نظرية لم تكن مستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه فإن حظ الأمة فيها الهلاك، وحظ الأمة فيها الفشل، وحظ الأمة فيها الذلة والهوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! ونسأل الله جل وعلا أن يصلح أحوال المسلمين.
هكذا مزقت الأحزاب أبناء العروبة
الأحزاب، الأنظمة الحزبية، الأنظمة السياسية الحزبية التي تحكم أمة الإسلام بغير كتاب الله، وبغير شرع الله
هكذا مزقت الأحزاب أبناء العروبة
وادعتهم في مجالاتٍ من الذل رهيبة
لقد انقادوا لهذا الباطل الخداع واستحلوا نعيبة
وكتاب الله دنيا في الورى جد رطيبة
كتاب بين أيديهم يدَّعونه أولئك، فلماذا لا يعودون إلى الله؟ وإن كتاب الله أوثق شافعٍ وأغنى واهب متفضل، لكنهم يهجرون القراح إلى النتن، ويهجرون الطهارة إلى النجاسة، ويهجرون العزة إلى الذلة، ويهجرون الكرامة إلى الهوان، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(11/14)
معرفة الشارع العربي والإسلامي
كذلك أيها الأحبة: من دروس هذه الفتنة: أننا عرفنا ما يسمى بالشارع الإسلامي أو الشارع العربي، وهذه مسألة ينبغي ألا نقيم لها كثيراً، هذا الشارع الذي يمثل كثرة في هذا الزمان، يقول الله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] كثرة الشارع الإسلامي والشارع العربي هي تلك الشوارع الغوغائية التي كانت تطبل وتظهر وتخرج بهذه المظاهرات، كيف كان موقفها لما أعلن انسحابه، ثم أعلن ضعفه، ثم أعلن تنازله، ثم أعلن استسلامه؟ لكي يقول: انطلت اللعبة على هذه العقول لمدة خمسة وأربعين يوماً، أو سبعة وأربعين يوماً، الشارع الإسلامي ماذا وجدنا؟ إلى متى وأمة الإسلام تقاد بهذه القيادات المطبلة المطنطنة؟ في يومٍ من الأيام طبلت دولٌ غير هذه البلاد لطاغية قام في واحدة من الدول الأفريقية، وقالوا: عادت الخلافة من جديد، وواحدٌ من طواغيت الأمة جاءه العلماء بعد الاستقلال وحرب الفرنسيين، وقالوا: سمعنا أن لك اتصالاً بالفرنسيين، فقال: لا، أنا سأترك هذا الأمر كله، حررت البلاد وأنا أعود إلى مكتبي (مكتب المحاماة الصغير)، ولما طرقوا عليه الباب قال خادمه: إنه الآن يتوضأ ليصلي ركعتي الضحى، ولما جلسوا معه، قالوا: سمعنا أنك ستتركنا يا سيدنا الحبيب، قال: أنا لا أريد الرئاسة والزعامة، وكان يرتب ترتيباً استعمارياً عدوانياً، فلما تولى السلطة شنق العلماء وذبحهم وقتلهم، وهكذا تنخدع شعوب المسلمين بطاغية وراء طاغية.
كم عدد الذين طبلوا لـ جمال عبد الناصر؟ طبلت الملايين، من الصباح: ناصر كلنا بنحبك ناصر، ونعيش ونقلك: ناصر، يا حبيب الكل يا ناصر، وأصبحت الأمة تصيح في ناصر ناصر، وماذا قدم لها ناصر؟ كانت القاهرة تغسل بالصابون من ثراءٍ ونعمٍ فيها، والآن أصبحت فقيرة مسكينة، لما أمم أملاكها وعسف المزارعين على أسلوب الاشتراكية في اقتصادها، ماذا حقق لها ناصر؟ أيتها الجماهير اتبعي ناصر وانظري ماذا سيقول لك جمال عبد الناصر؟ {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22]، {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] ومن وجد عقولاً غبية وأفئدة سخيفة مثلها فليست الملامة عليه، الملامة على هذه العقول السخيفة التي تتبع كل ناعق.(11/15)
بعض أخطاء الحركات الإسلامية
والله لو قلنا لتلك الدول التي وقفت سواء كانت حركات إسلامية، ولست بهذا أعادي الحركات الإسلامية، بل أنا أسأل الله أن يسددها وأن يصوبها، تلك الدول التي فيها ما يسمى بالحركات الإسلامية، لو قلنا لهم: إن بلادكم ستغلق الدكاكين وقت الصلاة، وستحكم كما يحكم عندنا بالشريعة، وسوف تترك القوانين الوضعية، وسوف يقتل القاتل، ويقطع السارق، ويفصل التعليم في الجامعة والثانوي بين البنات والبنين، وسوف يجعل لكم جهاز في الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسوف يجعل الدعاة يتكلمون، وسوف تفتح مراكز الدعوة في كل مكان؛ لقالوا: نعم، هذه الخلافة التي كنا ننتظرها، هذه الخلافة، لو أن هذه الأوضاع طبقت في هذه الدول لقالوا: عادت الخلافة وظهر المهدي في آخر الزمان، وأما بالنسبة لنا فلا تعتبر دولة إسلامية، لماذا العداء للسعودية؟ لماذا العداء لنا؟ هل العداء لملابسنا؟ لماذا هذا العداء؟ أهم قومٌ مثلونا خارج بلادنا؟ أم شبابٌ رأوا في سلوكهم جنوحاً وانحرافاً فظنوا أن كل السعوديين هكذا؟ لا حول ولا قوة إلا بالله! تلك الشعوب التي طبلت والحركات التي دندنت خلف هذا الظلم وهذا الطغيان ساذجة غبية، ولا عجب في ذلك؛ فتلك الحركات التي تنتسب إلى الإسلام، وفيها حركاتٌ إسلامية، وفيها جماعاتٌ عظيمة من الشباب الصادق المخلص المجاهد التقي النقي ولكن فيه غباء، ومن أين أتى الغباء؟ من القيادات، من أين هذه القيادات؟ هندسة زراعية يقود حركة إسلامية! هندسة نفطية يقود حركة إسلامية! إن الحركات الإسلامية إذا أريد لها أن تسير في مسيرٍ صحيح فليقدها العلماء الشرعيون الذي حفظوا المتون، وفقهوا السنن، وأحاطوا بالأحاديث، وعرفوا أصول الفقه والقواعد الفقهية، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وجميع أحكام الدين، لا تعجبوا أن تروا هذا الانحراف في مسار بعض الحركات الإسلامية، لماذا؟ حينما يكون الذي يقود الحركة دكتوراه في الفلسفة، بروفيسور في الهندسة، دبلوم في الزراعة هذا يصلح مزارعاً أو يقود مزارعين، أما أن يقود حركة إسلامية بأكملها فلا.
يشارك في حركة، نعم يشاور في أمرٍ، نعم ويستفاد من عقله، لكن أن تكون الحركة كلها تنقاد -ولا أقول: كل الحركات بل بعضها- تنقاد بهذا الفكر الزراعي أو الهندسي أو الفلسفي فلا، إن هذا أمرٌ من أمور الدين، ولا يقوم أمور الدين إلا على العلم الشرعي والفقه الحقيقي، أسأل الله جل وعلا أن يدفع البلاء عنا أجمعين.(11/16)
مكانة المملكة في نفوس المسلمين
ومن دروس هذه المحنة: حساسية مكانة المملكة في نفوس العالم الإسلامي انزعجت كثيرٌ من الشعوب لما جاءت القوات الأجنبية، وهذا الانزعاج مختلف المذاهب متعدد الأهداف، ولكن بعضاً منهم انزعج لأن للمملكة في نفسه منزلة وخاصية معينة.
يقبلون -مثلاً- أن تحصل المنكرات، أن يقع الانحراف، أو تحصل المصائب في أي دولة أخرى؛ لكن في المملكة العقول لا تقبل هذا، وهذه نعمة عظيمة أن لهذه البلاد قداسة في نفوس المسلمين ولله الحمد والمنة، ولا نقول هذا نفاقاً، معاذ الله! ولكن التوحيد فضله عظيم التوحيد -يا عباد الله! - ألا تجد قبراً يعبد! ألا تجد ضريحاً يذبح له! ألا تجد مزاراً يتقرب به! ألا تجد ولياً يقبل الناس ظهر يده علناً ويقولون: مدد، أو ادفع لنا الكربات واجلب لنا الحاجات! التوحيد شأنه عظيم، ولأجل هذا التوحيد أودع الله هذه المكانة للمملكة في نفوس المسلمين في مختلف دول العالم بفضل الله جل وعلا، فالناس قد يقبلون الانحراف في كثيرٍ من الدول ويستسيغونه ويتصورونه أما في المملكة فلا، ولأجل ذلك فإن بعض الذين انزعجوا من وجود القوات الأجنبية كان انزعاجهم انزعاج الشفقة والخوف والمحبة لحساسية مكانة المملكة في نفوسهم أجمعين، ثم إن الأحداث صنعت الرجال، وأخرجت المتوكلين من غيرهم.(11/17)
من الدروس: التوبة والرجوع إلى الله تعالى
ومن فوائد هذه الأزمة: أن كثيراً من الناس عادوا إلى الله جل وعلا، من أبناء الجزيرة وأبناء الكويت، إنني لا أعتبر للكويت نصراً تاماً حتى تحكم شريعة الله، حتى تحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الانتصار على البشر نوعٌ من النصر، ولكن الانتصار على الجاهلية والانتصار على الشيطان والانتصار لتحكيم كتاب الله وسنة نبيه، هذا أمرٌ أصعب وأخطر، فنسأل الله جل وعلا كما رد بلادهم إليهم، ونسأل الله جل وعلا كما نصرهم على أعدائهم البعثيين أن ينصرهم على الشياطين، التي تؤزهم إلى الكفر أزاً وتدفعهم إلى الجاهلية دفعاً {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] ذلك الشيطان الذي يصور في النفس خطر تحكيم الشريعة، نسأل الله أن ينصرهم بتحكيمها أيضاً.(11/18)
واجب كشف المصائب في وقتها
كذلك أيها الأحبة: لقد آن لنا أن نفضح كل جريمة في وقتها، لقد لامنا الناس في المجالس وقالوا: أنتم الخطباء لماذا سكتم عن حلبجة؟ لأجل من سكتم؟ فما كان منا إلا أن وقفنا بين موقفين أحلاهما مر، أن نقول: لا نعلم، فكيف يكون لخطيبٍ يأخذ من وقتكم ساعة لا يعلم شيئاً عن مذابح المسلمين؟ أو أن نقول: علمنا وسكتنا، فما هو جوابنا أمام الله ولو بدعوة في ساعة إجابة أن ندعو الله أن يرفع البلاء عن المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ فمن واجب الأمة ومن دروسها في هذه المحنة: أن تكشف المصائب في وقتها، وأن تبينها على الأقل أن يتعاطف الناس ولو بالدعاء بظهر الغيب مع إخوانهم وجميع المسلمين.(11/19)
حول القوات الأجنبية
أيها الأحبة: واستطعنا أخيراً أن نصل إلى هذه الساعات التي اطمأنت فيها القلوب بعد محنة دامت أياماً، نسأل الله ألا يفرح على المسلمين عدواً، وألا يشمت بالمسلمين حاسداً، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، الحمد لله أولاً وآخراً لقد كان استدعاء القوات خيراً اختلفت فيه الأمة، فكان خيراً لدفع أعظم الضررين وأكبر المفسدتين، وقد كانت الحرب خيراً وارتاعت منها الأمة، وكانت الحرب البرية خيراً وارتاعت الأمة {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19] {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببٌ ما بعده سبب
وأثني وأعقب على كلمتي هذه لما قلت في القوات: إنها خير نعم، حقق الله منها خيراً، ونسأل الله أن يدفع عنا منها الشر، لأنه ما من نفسٍ بشرية إلا وفيها شر، حتى أنتم فيكم شر، والرسول يقول: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) والسنة جاءت بأن الإنسان يضع يده على ناصية الزوجة يوم أن يبني بها ويقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلت عليه) فدل على أن الزوجة فيها شر، والله يقول: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} [التغابن:14] ففي المال والولد عداوة، فليس من العقل أن نقول: إن القوات الأجنبية كلها خير، بل فيها خيرٌ وفيها شرٌ، نسأل الله أن يتمم لنا خيرها، وأن يسخر لنا ما فيها من الخير، وأن يدفع عنا ما فيها وما في غيرها من الشر بمنه وكرمه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم وحد صفنا، اللهم اجمع شملنا وكلمتنا وصفوفنا وأفئدتنا، اللهم اهد ولاة أمرنا، اهد ولاة أمرنا، اهد ولاة أمرنا، اهد ولاة أمرنا، وارزقهم البطانة الصالحة، ولا تفرح بنا ولا بهم عدواً، ولا تشمت بنا ولا بهم حاسداً، ربنا سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، يا رب العالمين، يا أرحم الرحمين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان.(11/20)
الخطر الحقيقي
إن الخطر الحقيقي الذي يواجه الأمة هو تفرق المسلمين وقتل بعضهم بعضاً، وليس الخطر في تكالب الأعداء وحشدهم لقواتهم، أو خطر الزلازل والبراكين أو (الكوارث الطبيعية)؛ لأن الله وعد نبيه أن هذا لن يكون مع تمسكنا بالدين، ومن الأخطار التي وقعت فيها الأمة خطران: الربا، ومماطلة الضعفاء والمساكين، وهضم حقوقهم.(12/1)
حفظ الله لعباده المؤمنين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بهذا الدين، واعلموا أنه لا عز ولا نصر ولا تمكين إلا به.
عباد الله: إن الله جل وعلا يقدر المقادير بقضاءٍ وقدر، ويجعل القدر بعدلٍ وحكمة ورحمة، والعباد أمام مقادير الله جل وعلا، بين متعظٍ متدبر ومتأملٍ متفكر، وبين لاهٍ غافلٍ ساه.
فيا عباد الله! إن المحنة التي مرت بالمسلمين لجديرة في أن يستلهم الناس من أحداثها ومقدماتها وواقعها ونتائجها أكثر أنواع العبر في مختلف الميادين والمجالات.
عباد الله: لقد كان أعداء الإسلام ممثلين في البعثيين والعلمانيين، الذين طبلوا لهذا القائد البعثي في زمن سلطته وشهرته، والذين تابع بعضهم تطبيلاً وتزميراً له كانوا معه ومع حزبه يراهنون على مجتمعكم، أن هذا المجتمع سوف يتفكك وسينقسم ويتناثر ويصبح كل حزبٍ فيه بما لديهم فرحون، ولكن بحمد الله ومنه وفضله لم ينالوا ولم يجدوا ولم يروا مما أملوا شيئاً، على الرغم من أنهم أجلبوا وأرعدوا وزمجروا عبر إذاعاتهم وعبر أصواتهم وعبر المأجورين المسخرين للإشاعة وعبر كثيرٍ من العقول المأجورة، والأقلام المسعورة، والحناجر المستوردة، رغم هذا كله لم ينالوا ولم يستطيعوا أن يجدوا في هذا المجتمع بمن الله وفضله نافذة يتسللون من خلالها أو باباً يدخلون خلسة منه، واعلموا -يا عباد الله- أنه لا بحولكم ولا بطولكم ولا بجنسيتكم ولا بأموالكم ولا بنعمكم وأموالكم نلتم هذا، ولكن هذا كله من فضل الله، بل الله يمن عليكم وهو المتفضل عليكم أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، فالحمد لله على هذه النعمة، إن أي مجتمعٍ يواجه غزواً خارجياً بالحرب، وداخلياً بالإشاعة أو عبر الأصوات المتسللة، وعبر موجات الأثير، يوشك أن تجد الإشاعة والمقالة فيه وسطاً مناسباً.
أما في هذا المجتمع بمن الله وفضله لم تجد تلك الإشاعات ولم تجد تلك الأصوات النتنة التي دأبت على إثارة النعرات، واستغلت أموراً كثيرة، لعلها أن تجد باباً يكون بداية الانقسام أو الحزبية، ومع هذا باءت بالفشل، وإني لأعزو هذا بمن الله وفضله أن الله جل وعلا قد ثبت هذه البلاد بالجبال الشامخات الراسيات من العلماء الذين يدينون لله جل وعلا في فتواهم وفي قولهم وفي مواقفهم ويدركون الحكمة والسبيل حسب المصالح الشرعية.
أيها الأحبة: لقد كان خطراً عظيماً على أمة الإسلام، ولكن ما هو أعظم خطرٍ يواجه الأمة؟ والله إن الأمة لو حشد عليها أضعاف أضعاف ما حشد، فإن هذا ليس بخطرٍ بالنسبة إلى الأمر الذي يهلكها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين، سألت ربي ألا يسلط على أمتي عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله جل وعلا ألا يسلط علينا عدواً كافراً يهودياً أو نصرانياً، سأل الله ألا يتسلط علينا عدوٌ بحربٍ عسكرية، أو اجتياحٍ غاشم، فأجاب الله جل وعلا هذه الدعوة، والأخرى يقول عليه الصلاة والسلام: (وسألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة عامة) أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله ألا يتسلط على هذه الأمة جدبٌ، أو قحطٌ، أو زلازل، أو براكين، فتهلك الأمة عبر هذه الكوارث الخطيرة، فأجابه الله جل وعلا، وسأل النبي ربه الثالثة وهي التي لم تجب؛ لأنها علقت بنا، ولأنها ارتبطت بنا، وهي متمثلة في سلوكنا وعلاقاتنا والتزامنا وعضنا بالنواجذ على شرع ديننا، سأل النبي ربه الثالثة (ألا يجعل بأسهم بينهم) فلم تكن هذه كالتي قبلها.
أيها الأحبة: إن أخطر خطرٍ وأعدى عداوة تلك التي تنشأ في صفوفنا، تلك التي تنبعث من بيننا، أما أن يأتي زلزال أو بركان أو كارثة تأخذ الأمة أجمع، فهذه لن تكون، واطمئنوا وقد تكفل الله بإجابتها لنبيكم، أو أن عدواً يتسلط عليكم فيجتاحكم هذه لن تكون بمن الله وإذنه، يوم أن تكون الأمة على هذا المستوى الذي ينبغي أن تصل إليه بالإعداد وأخذ الأسباب، أما أن ينشأ خللٌ وانشقاقٌ وانقسامٌ وهلكةٌ بسبب هذه النفوس، فهذا وارد وممكن.(12/2)
بماذا ننافس أعداءنا؟
إذاً أيها الأحبة: هذا يجعلنا نجمع صفوفنا، ونوحد شملنا، ونثبت رابطي الجأش على أمرٍ يرضي الله جل وعلا.
إننا لن ننافس أعداءنا بالتعداد، إذا كان الكفار في مختلف دول الغرب ودول الشرق مئات الملايين، والواقع يشهد إمبراطوريةً بدأت تذوب وتضمحل؛ فإن هذا تمهيدٌ لإمبراطورية أوربية جديدة، الأوربيون ينافسون الأمريكان، ويريدون أن يقفوا موقف الند للند على الأقل ألا تستأثر القوة الأولى في العالم -في حد زعمهم ومقاييسهم- ألا تستأثر بمصالح الشعوب وخيراتها، فلابد من منافس يشارك في القسمة، ومن أجل هذا بدأت أوربا تنزع الخلاف، وتزيل أسباب الانقسام، كانت كتلة شرقية وغربية، فبدأت كلها تتوجه وتتحد تحت كتلة غربية واحدة، وصدق الله العظيم {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] ظهرت الولاية بين الألمان الغربيين والألمان الشرقيين، أزاحوا الستار والجدار بينهم، هدموا سور برلين، ووحدوا عملتهم، وشكلوا دولةً واحدة، ولا يزال الأوربيون الآن يسعون لمزيدٍ من الوحدة، ولذلك فإن في مخططهم واستراتيجياتهم، أن تكون أوربا عام 2000م هي أوربا الموحدة، أو دولة أوربا الواحدة، وعاصمتها بروكسل في بلجيكا، يريدون أن تكون قوة أوربية من بداية أول شبرٍ في قارة أوروبا إلى آخرها تكون دولة واحدة، وإن اختلفت شيئاً يسيراً في قوانينها الداخلية أما في الدفاع والخارجية والمواقف الخطيرة فستكون دولة واحدة تعدادها يقارب 320 مليون نسمة دولة واحدة، يكون عدد سكانها 320مليون نسمة أو أقل من هذا قليلاً لينافسوا الأمريكان في عددهم 240مليون نسمة تقريباً، وماذا وراء هذا؟ أخرجوا لنا من أمة الإسلام مائة مليون على قلبٍ واحد، على هدف واحد، المسلمون عددهم في هذا الزمان مليار مسلم، أين هم إذا دعت الجراح؟ إسلام بالهوية، وبالإقامة، وبالحفيظة، وإسلامٌ بالتابعية، وبالجواز، أو بأي وثيقة رسمية، أما أن تريد هذا العدد بحقيقته، فلن تجد إلا ما شاء الله:
يا ألف مليار وأين همُ إذا دعت الجراح؟
هاتوا من المليار مليوناً صحاحاً من صحاح
من كل ألفٍ واحداً نغزو بهم في كل ساح
الكفر جمع شمله فلم النزاع والانتطاح؟
من خان حي على الصلاة خان حي على الكفاح
شعبٌ بغير عقيدة ورق تذريه الرياح
إن كنا نظن أننا بالتعداد سوف ننافس الغرب، فإن تعداد الغثاء من المسلمين الذي نشهدهم في هذا الزمان لا يقدم ولا يؤخر، بل هو زبد {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] ولا يبقى إلا أقل القليل منه، وإن كنا نظن أننا ننافس الغرب بالأسلحة، أو بالتقنية أو بالتكنولوجيا، أو بالاختراع أو بالتطوير، فلنكن صادقين مع أنفسنا، نحن أممٌ متخلفة مستهلكة أمام الغرب المنتج المخترع المفكر المصدر، وهذا يعود لأسباب كثيرة لعل دورة الحضارة عبر عنصر الزمن واحدٌ من أسبابها أو من أهم أسبابها، ولكن أيها الأحبة! بماذا ننافس أعداءنا؟ بالتعداد؟ هم أكثر منا، ولن نجتمع على أهدافنا ومبادئنا كما اجتمع الكفار على أهدافهم ومبادئهم، وهذه من الجراح والمصائب والآلام، ولكن حينما يكون الطبيب صادقاً، فليصدق في تشخيص المرض، وليكن صادقاً في بيان موضع العلة وأعراضها ومظاهرها، ولن نكون أقدر منهم في مجال تطوراتهم واختراعاتهم، على الرغم من أن من شبابنا وأبنائنا من استطاع أن يقود الطائرة ويعرف أن يصلح بعض أجهزتها في الاتصالات والرادار والمعدات والميكانيكا، وأشياء معقدة، ولا يزال أبوه يرعى الغنم، هو ابن البادية، وابن الحقل والقرية والمزرعة، وابن المدينة الصغيرة المتواضعة، ومع ذلك تجده ولداً ذكياً مستوعباً لآخر ما وصلت إليه الحضارة، لكن هل وصل إلى درجة الإنتاج؟ هل وصل إلى درجة الاختراع؟ هل وصل إلى درجة التطوير؟ أقول: البعض قد وصل إلى هذا وهم قلة، وفي هذا يعجب أحد البريطانيين لما رأى عدداً من أبنائكم في هذه المعركة الماضية يبدي تفوقاً في سرعة الاستيعاب، والدقة في التصويب، والتخطيط والبرمجة، قال: عجباً لهؤلاء! لا يزالون أبناء بادية ومع ذلك ينافسوننا ونحن من صنعنا هذه الطائرة في إعداد الحسابات اللازمة لبرمجة عملها وتحديد أهدافها، فقلنا وقلت لهم: أخبروهم أن هذا عقلٌ لا يزال بكراً لم تستهلكه الخمرة، وهذه قوى لا تزال شابة لم يستهلكها الزنا والإباحية والانحطاط، فليس غريباً أن يستوعب هذا، ولكن أيها الأحبة! لا نزال نعيش واقعاً نحتاج فيه أن ننافس، فإن كنا نريد أن ننافس بالتعداد، فهم أكثر منا، وإن أردنا أن ننافس بالتقنية والاختراع، فهم أكثر تقدماً منا، إلا أمراً واحداً أن ننافس بهذا الدين، ونقول هذه ليست مقولة المضطر إليه الذي لم يجد ما ينافس به إلا الدين، فلو وجد حضارة لنافس بها وترك الدين، أو لو وجد تجمعاً نافس به وترك الدين، لا، بل نقوله ونرفعه وننافس به ابتداءً وانتهاءً أولاً وآخراً ظاهراً وباطنا، الله جل وعلا قد تكفل لكم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] آمنوا حقيقة الإيمان، ولا تنزعجوا من عدد عدوكم، ولا تنزعجوا من أسلحته، فالله يدافع عنكم، {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] {قُلْ مَنْ يَكْلَأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] لا حافظ إلا الله.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
أيها الأحبة: إذا كنا نعرف ألا نجاة للمسلمين إلا بهذا الدين، فلننظر واقع المسلمين، أهم على مستوى من الإيمان، وإثباته بالبرهان، حتى يصلوا درجة يعصمهم الله من غيرهم، ويدافع عنهم ويسخر لهم، ويغير السنن والقوانين لهم، هذه هي الحقيقة التي ينبغي على كلِّ قرد أن يجيبُ نفسه، هل يرى نفسه على مستوى الإيمان الذي به يحفظ الله الأمة؟ اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا، ولا تؤاخذنا بما فعلنا، ولا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(12/3)
لا ننافس أعداءنا بغير ديننا
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: قلنا فيما سبق: إننا لن ننافس أعداءنا بعددنا ولا باختراعنا، وإنما ننافسهم بديننا، ونقارعهم بديننا، ونرعبهم بديننا، ونقتلهم بديننا، وبغير ذلك لن نستطيع أن ننافس شيئاً، من ظن أننا سننافس بغير هذا الدين، فهو يعلق الأمة بالمذلة، ومن ظن أننا سننافس ونبقى أعزاء كرماء أقوياء بغير الدين فإنه يعلق نفسه وأمته بالمذلة.
أيها الأحبة: لما ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وكان يلبس ثياباً مرقعة فيها ثماني عشرة رقعة، وهو الخليفة- على حمارٍ أهزل، التفت إليه أحد الصحابة، ولعله أبو عبيدة قال: [يا أمير المؤمنين! لو لبست حلة غير هذه وركبت برذوناً بدلاً من هذا الحمار] لأنك تقدر الآن لتتسلم مفاتيح بيت المقدس أمة اليهود التي سبقت أمة الإسلام في وجودها وحضارتها وما عندها، [لو أنك يا أمير المؤمنين! لبست حلة بدلاً من مرقعتك هذه وركبت برذوناً بدل هذا الحمار، فالتفت إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: يا أبا عبيدة! لو قالها غيرك لأوجعته ضرباً، نحن أمةٌ أعزنا الله بالإسلام، فمهما أردنا العزة بغيره أذلنا الله] تكون كل درجة في غير هذا الدين موصلة إلى العزة سلماً إلى الذلة باتجاه معاكس، وكل خطوة غير مرتبطة بالدين في سبيل العزة خطوة إلى الوراء بالمذلة والهوان، هذه حقيقة لم يثبتها واقع النصوص فقط أو الآيات والأحاديث، بل أثبتها الواقع، فأخبرونا ماذا قدمت القيادات لأمة الإسلام بعد سقوط الخلافة وانقسام الدول في محاولاتٍ لإعادة بعث الأمة من جديد، كل محاولة نشأت وجعلت غير الإسلام وسيلة وغير التوحيد هدفاً وعقيدة؛ فهي لا تزيد الأمة إلا خبالاً وضعفاً.(12/4)
من أسباب الهلاك والزوال
أيها الأحبة: إن أمة الإسلام على خطرٍ عظيم من أمور عديدة، وأذكر من أخطرها أمرين خطيرين جداً، هي من أسباب الهلاك والزوال، ومن أسباب النقمة والعقوبة، وزوال النعم، وزوال الخيرات والأمن والطمأنينة.(12/5)
الربا
أولها: الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] إن لم تأبهوا بهذا الخطاب، وتتداركوا أوضاعكم، إن لم تصلح الأمة الإسلامية أحوالها؛ ((فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا)) إيذان وإعلان وإخبار {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} والحرب من الله ورسوله لا تسأل عن كيفيتها، ولا تسأل عن صفاتها، ولا تسأل عن وضعها وحدودها وزمنها ومواقعها، قد تكون الحرب في شرايينك، وقد تبدأ الحرب في دماغك أو في أطرافك، أو في بيتك أو في بلادك، أو في أمنك، وطمأنينتك، في كل شيء، إن أمة الإسلام مأمورة أن تنتبه لهذا الخطر، فكثيرٌ من المسلمين كأنه كبر وسادته ولين فراشه، فقد انتهت فتنة العراق وأزمة حزب البعث، وليس على كاهل الأمة من ذنب تخشاه، أو مصيبة تخافها، لا، إن الربا من أخطر ما يواجه أمة الإسلام، وإنا كنا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا وأن يسخر لنا من هو أقوى منا ونحن ننظر بعينٍ هكذا إلى الربا ونقول: نسأل الله أن يعفو عنا، ونسأل الله أن يجعل ما استقبل من أيامنا بداية لتحقيق شرعه وأمره ونهيه في التجنب والخلاص من هذه المصيبة العظيمة.(12/6)
المماطلة في أداء الحقوق
المصيبة الثانية هي: أننا لا نصدق حينما نوفي الناس بحقوقهم، قد يقول البعض: كنا نظنك ستتكلم عن أفلام الفيديو، أو كنا نظنك ستتكلم عن محلات الأغاني، أو كنا نظنك ستتكلم عن التبرج والسفور، هذه من المصائب، لكن من أعظم المصائب ألا ينال الضعيف حقه إلا بعد إلحاحٍ شديد، وهذه من أخطر المصائب، عاملٌ عندك مستخدمٌ لديك، فقيرٌ بين يديك تماطله في حقه لأنك قوي، هذه مصيبة عظيمة، ولو كان الذي يواجهك قوياً لأعطيته الحق مرغماً أنفا، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن من أسباب الهلاك (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فاطمة أم الحسن والحسين، سيدة نساء أهل الجنة لو سرقت لقطع النبي صلى عليه وسلم يدها، والنبي حينما عبر بالسرقة لم يقصد ذات السرقة فحسب، بل أراد السرقة وأراد كل المعاملات التي لا ينتصف للمظلوم فيها، ولذلك فإن الظلم مرتعه وخيم، ودعوة المظلوم مستجابة.
فما من يدٍ إلا يد الله فوقها ولا ظالم إلا سيبلى بأظلم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
أحبتنا في الله: خذوها نصيحة لأنفسكم وناصحوا بها في جميع مجالات حياتكم من لزمه الحق فليؤده، من لزمه الحق فلا يماطل، ومن وجب الحق بذمته بصكٍ شرعي أو بتحاكمٍ إلى من يرضى حكمه فيهما هو في حكم الله جل وعلا، فليؤد الحق راغماً مذعناً ذليلاً لحكم الله جل وعلا، وبغير هذا فلا نجاة.
إن الأمم لا تعيش إلا بالعدل، وإذا لم تؤد الحقوق، فهذا ظلم والظلم مرتعه وخيم، وعاقبته أليمة {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] هل يكفي أن نذهب إلى المحكمة ونتحاكم؟ لا.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65] لا تنزعج ولا تحرج ولا تتغير يوم أن تمثل وأنت فلان بن فلان أمام القاضي مع المسكين الفقير المهين، لا تجد في نفسك حرجاً، وماذا بعد ذلك؟ أن تسمع فقط بعد الوصول إلى المحكمة؟ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ َ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] تسليماً، تسليماً، تسليماً، كررت بالمفعول المطلق الدال على منتهى الأداء والمتابعة والقيام والاستمرار في أداء الحق، وبغير هذا فلن يكونوا مؤمنين، وإن لم يكونوا مؤمنين، فلن يدافع الله عنهم، وإذا لم يدافع الله عنهم، فسوف يتسلط عليهم أعداؤهم، وإذا تسلط الأعداء برقبة مؤمنٍ أو مسلمٍ، فلا تسأل عن هلكته ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هاتان مصيبتان، والمصائب جمة، لكن ولست بهذا أحدد أرضاً بعينها أو بلاداً بعينها، بل أخاطب أمة الإسلام في شرقها وغربها، الربا والعدل في أداء الحقوق، يقول ابن تيمية: إن الله لينصر الحكومة الكافرة العادلة، ولا ينصر الأمة المسلمة الظالمة، هذه من أعظم المخاطر.
فيا عباد الله: نصيحة لمن تورط في الربا أن يقلع، وانصحوا من تعرفون، ومن تورط في حقوق الناس، فليتق الله، ولا يقل أعرف واحداً، أو لي واسطة، أو أتردد يمنةً ويسرة، أو لا يستطيع أحدٌ أن يلزمني بتنفيذ هذا الصك، أو الحكم، نستطيع أن نلزمك بهذا الشرطي الذي بين أضلاعك، بهذا الجندي الذي في قلبك، نلزمك بالإيمان الذي أنت تخضع وتدين لله به، فإن كنت مؤمناً فأذعن، إن كنت مسلماً فسلم، وإلا
فالدعاوى إن لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياءُ
دعاوى الإيمان، ودعاوى الانقياد، والإنسان إذا قيد وأمر بتطبيق حكم الله، قال: لا.
اشكني، فإذا شكوته، لم يصدر الحكم، فإذا صدر الحكم، اعترض، فإذا قطع بالحكم، نقض، فإذا صدق الحكم يمنة ويسرة وعبثاً والمسكين يبكي؛ لقمته، حقوقه، ماله، بضاعته، فلا يجد إلا باباً يطرقه وسط الليل بعد أن يهجع الناس ويطيب نوم الخاسرين، يدعو ربه: اللهم إني مظلومٌ فانتصر، اللهم إني مظلومٌ فانتصر، اللهم إني مظلومٌ فانتصر، اللهم غلبني بحوله، اللهم غلبني بقوله، اللهم غلبني بطوله، اللهم غلبني بقوته، أما أنا فلا حول لي ولا قوة ولا طول إلا أنت، يا حي يا قيوم، وحينئذٍ تنفتح أبوب السماء بالمدد طامة على قلب الظالم، ومصيبة على ماله وثروته وكل ما يملك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يجعلنا للحق مسلمين مذعنين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم لا تحجب دعاء المسلمين فيه، اللهم انصرنا، اللهم ثبتنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم أصلح جليسهم، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم قرب لهم من علمت فيه خيراً لهم، وأبعد عنهم من علمت فيه شراً لهم.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم انصر المجاهدين في جميع الأرض يا رب العالمين، اللهم انتقم للمسلمين من التاميل في سرلنكا، أقول هذا الدعاء وأقوله في الجمعة الماضية، لأنه وصلني مجموعة من الصور التي ذبح المسلمون فيها في سرلنكا، مذابح صفٌ كامل كله موتى، أكفانٌ مغطاة، وأناسٌ دماؤهم ترشق الجدران يرفسون متشحطين بالدماء، لا تزال المعركة على الإسلام قائمة، لا يزال المسلمون مستضعفين ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلذلك ندعو لهم، اللهم فانتقم لهم من الهندوس، اللهم انتقم من جميع أعدائهم يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك هذا الشهر الكريم على توبة صادقة، اللهم بلغنا هذا الشهر الكريم على مغفرة منك لذنوبنا، وعفوٍ منك لسيئاتنا، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعل لنا فيه أوفر الحظ والنصيب، اللهم اجعلنا ممن يصوم شهره، ويفوز بليلة قدره، ويستكمل أجره بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم بارك لنا فيما آتيتنا ولا تكلنا إلى أنفسنا، اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتا فجازه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفرانا، اللهم وسع لهم في لحودهم، ونور قبورهم، وافتح لهم أبواباً إلى الجنان، واجمع شملنا بهم في عليين يا أرحم الرحمين.
اللهم اهدِ شبابنا، اللهم اهدِ شبابنا، اللهم بغض إلى نفوسهم الطرب واللهو، والمعازف وأدوات الشيطنة واللهو، وحبب إليهم الإيمان والدعوة والحكمة والمواعظ الحسنة، اللهم اجعلهم هداة مهتدين، اللهم اهدِ بناتنا، وأصلح نساءنا، واهد زوجاتنا، وجنبهم الاختلاط والتبرج والسفور، اللهم جنبهم الاختلاط في الوظائف، وجنبهم الاختلاط في التعليم، ومن أراد بهم سوءاً فافضحه بين الخلائق، اللهم ما علمت في علمانيٍ سوءاً يدبر ويخطط للمسلمين سوءاً، اللهم افضحه على أشد خزية، وافضحه على أشد عار، وافضحه على أشد مصيبة، حتى يفطن المسلمون لشره يا من لا تخفاه خافية.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمدٍ وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(12/7)
فيروس الوقت
تحدث الشيخ -حفظه الله- عن بلية ابتلى بها كثير من المسلمين اليوم، ألا وهي السهر القاتل إلى أوقات متأخرة من الليل، وذكر أن من مفاسد هذا السهر تضييع العبد للأوقات الفاضلة بل وزيادة على ذلك؛ تركه لصلاة الفجر جماعة، وإهماله لأهل بيته وتضييعه من يعول، ولكن في مقابل أولئك وجد من يتقلبون على فرشهم شوقاً إلى الوقوف بين يدي ربهم جلَّ وعلا.(13/1)
مفاسد السهر الطويل
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين: لقد ابتلينا في هذا الزمان ببلية أفسدت علينا أوقاتنا، وضيعت علينا ساعاتنا، وأشغلتنا بأدنى الأمور دون أعلاها، وكثيرٌ منا خادع نفسه وظن أنه يحسن فيما يفعل صنعاً، لقد ابتلي الكثير منا ببليةٍ جعلته يهجر أولاده وزوجه، ويضيع بيته، وينام عن فريضة ربه، لقد ابتلي كثيرٌ من المسلمين بهذه البلية إلى درجةٍ أفسدت عليه صلاته ودنياه، جعلته كسولاً متأخراً، متواكلاً، لا تراه إلا في مؤخرة الركب أو ذنب القافلة، وإنها لبليةٌ لم تفرض نفسها علينا ولم ترم بجرانها على صدورنا، وإنما باختيارنا فعلناها وبإرادتنا زاولناها، وباختيارنا أن نقلع عنها وأن نهجرها ونتركها، ويبقى من احتاج إليها بحدود إرادته، وبقدر ضرورته حينما تكون المصلحة راجحة والمفسدة غائبة، أتدرون ما هذه البلية؟ يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] ويقول عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] ويقول عز وجل أيضاً: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61] ويقول عز وجل أيضاً: {أَلَمْ يَرَوْا أنا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86] ويقول عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان:47].(13/2)
تضييع المرء لمن يعول
أيها الأحبة: لعلكم من خلال هذه الآيات البينات الواضحات عرفتم ما هي البلية التي ابتلي بها كثير من الناس باختياره؛ ألا وهي السهر بالليل، ومكابدة المجالس، ومتابعة المواعيد واللقاءات إلى وقتٍ متأخر لا يأوي الواحد فيه إلى بيته إلا بعد أن يمضي الليل نصفه أو أكثر من نصفه، ثم يعود الواحد إلى بيته وقد طال على أبنائه السهاد، يرجون أباهم أو وليهم أن يقدم عليهم لحظةً أو لحظاتٍ يجلس فيها يسأل عن دروسهم، يتفقد حاجاتهم، يوجههم أو يؤدبهم، يعلمهم أو يربيهم، يمازحهم أو يلاعبهم، يضاحكهم أو يداعبهم، ينتظرون أباهم ليروا ابتساماته مشرقةً في وجه زوجته وأطفاله، ولكن حتى إذا استيئسوا من مجيئه وغلبهم السهاد وأسلمهم الرقاد؛ ناموا يائسين من عودة أبيهم إلا في وقتٍ متأخرٍ من الليل.
فإذا جاء ذلك الرجل أباً كان أو شاباً أو عازباً أو متزوجاً، إذا عاد وقد أسلم القوم أعينهم لنومٍ سبات، جاء وحده يتسلل لواذاً، يلتفت يمنةً ويسرة، ثم رمى بجنبه على فراشه، قد أنهكه الإعياء والتعب والسهر، وأنى له أن يتوضأ قبل نومه بعد سهرٍ طويل، الغالب فيه القيل والقال، وأنى له أن يصلي ركعاتٍ بخشوعٍ وهجوعٍ بعد سهرٍ طويل الغالب فيه الكلام في الأعراض، أو في علان وفلان، وأنى له أن يسجد ويقنت وأن يوتر ويدعو بعد سهرٍ طويل الغالب فيه -إلا من رحم الله- النظر إلى الأفلام والشاشات والمسلسلات عبر مختلف القنوات، فيرمي بنفسه ضجعة الغافلين، فينادى للصلاة: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة خيرٌ من النوم، فلا تجد إلى أذنه سبيلاً، وأنى لها أن تجد السبيل إلى أذن الساهر اللاهي الغافل وقد ملأ فؤاده وقلبه البارحة بألوان الصور ومختلف الكلمات الساقطة، والعبارات الرديئة، أو الكلام فيما لا يعنيه، أو الاشتغال فيما لا ينفع دينه ودنياه، وأنى لها كلمات النداء أن تجد إلى أذنه وقلبه سبيلاً وقد عقد الشيطان على قافيته عقداً ثلاثاً، وقال له: عليك ليلٌ طويلٌ فنم، وربما جاءت أمه العجوز، أو أمه الفتية، أو والده يوقظانه للصلاة، فيخور كما يخور الثور عند المذبح، يتقلب يمنةً ويسرة، فلا يبرحان يفارقانه، أو لا يلبثان يفارقانه حتى يعود في غطيطه ونومه وسباته، في نومةٍ طويلةٍ سبقتها معصيةٌ أو لهوٌ أو غفلة، ومرت بقعودٍ عن ساعات فضيلة، واكتنفتها معصية وهي ترك صلاة الفجر، تركها إثم عظيم، ولكم أن تحسبوا نسبة الحاضرين الصلوات إلى الذين يشهدونها صلاة الفجر، أين المصلين في صلاة الفجر؟ هل زاغت عنهم الأبصار؟ هل تخطفتهم سهام المنون؟ هل نزلت بهم المقادير فأعاقتهم عن القيام والخروج إلى العبادة؟ أهم من ذوي الأعذار؟
الجواب
لا، ولكنه السهر، ولكنه الحديث الطويل والقيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال، وما أكثر الذين يسهرون! لو دعوا إلى حلقة من حلق الذكر لأبوها، ولو دعوا إلى شفاعةٍ أو نجدةٍ لمسلمٍ لتثاقلوا وقعدوا عنها، ولو دعوا إلى أمرٍ رشيدٍ لسوفوا وعللوا، ولكن السهر للكلام والقيل والقال والسماع والمشاهدة والرؤية وتتبع القنوات والمسلسلات والأفلام تهون فيه الساعات، أما إذا دخل في السهر لعب الورق ذلك الفيروس الذي يسري في دماء بعض الناس سرياناً يجعله يكابد السهر ويغالب النوم ويصارع السنة، وربما غسل وجهه مرتين أو ثلاثاً من أجل أن ينشط على جودة لعبه حذراً من أن يفوقه اللاعبون أو يغلبوه.(13/3)
فوات أفضل أوقات العبادة عليهم
أما العبادة أين الذين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] لأنهم يعملون بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، نعم قد يزور الواحد شيئاً من الساعة تزيد أو تنقص قليلاً إجابة لدعوة، زيارةً لمريض، إعانةً لذي حاجة، قياماً بواجب، عملاً بأمر فيه مصلحة، لا بأس، أما أن يمر بعد العشاء ثلاث ساعات وأربع ساعات وخمس ساعات والواحد يجول الطرقات والأسواق والممرات والمجالس وغيرها حتى يأوي إلى بيت قعيدته الحسيرة الكسيرة، فإذا أقبل إليها وهي تنتظر وجهاً مشرقاً، أو جبيناً طلقاً، أو ابتسامة ولو متواضعة، أعرض ونأى بجانبه، وجعل وجهه إلى جدارٍ حتى يقول لها: لا تسألي أين كنت البارحة.
إن هذا بلاء وداء عضال ومرضٌ خبيث، إن كثيراً من الذين فشلوا في دراساتهم ليس بغباء في عقولهم، ولا بقصورٍ في إدراكهم، ولا بعجزٍ عن أن يبلغوا ما بلغه المعلمون من أترابهم وأمثالههم، ولكنه السهر أشغلهم بالليل فتثاقلوا عن طلب العلم في الصباح، فتعلموا على وسادة الغفلة، وعلى فرش اللهو، ثم إذا أصبح أحدهم تعلل بالمرض والتعب والألم وما إلى ذلك، فإذا جاء آخر العام تأوه وعض أصابع الندم:
ومن زرع البذور وما سقاها تأوه نادماً وقت الحصاد
وإن آخرين فصلوا من أعمالهم، وما كان ذاك بسبب قصورٍ أو ضعفٍ في العلم والإدراك، ولكنه السهر يجاملون بعضهم، تعال يا فلان! اجلس معنا، لا يضرك، ساعة، تعود بعد قليل، فيئوب إلى بيته متأخراً، وعن صلاة الفجر يقعد على فراشه، وفي صبيحة يومه يسلم جنبه لنومٍ عميق يترك فيه عمله، فيتكرر هذا التأخر وهذا الكسل، ويكذب في اليوم الأول بعذرٍ مفتعلٍ مفترى، ويكذب في الثاني، ويفتري في الثالث حتى تنتهي الكذبات وتنتهي الأعذار، ثم لا يلبث أن يسلم نفسه لاستسلام لقرارٍ خطير وهو فصله والسبب هو: السهر! لذا أيها الأحبة! وهذا الأمر قد يشترك فيه كثيرٌ من الناس حتى من الصالحين أو ممن يذكرون بصلاح، فإن البعض هداهم الله يسهرون سهراً ربما أفضى وأدى إلى ترك صلاة الفجر مع الجماعة، إن بعضهم لا يتركها قاصداً ولا مختاراً، ومعاذ الله أن يكون ذلك منه، ولكنه يجني طائعاً ومريداً مختاراً في هذا السهر، وإنك لا تجني من الشوك العنب، أتريد أن تسهر الليل كله في قيل وقال، وسمرٍ وحديثٍ لا ينتهي، ثم تسلم جنبك بعد تعبٍ من نهارٍ وليلٍ طويل إلى فراشٍ تريد بعده أن تستيقظ نشيطاً لصلاة الفجر؟! هيهات ما أبعد ما تكابد!!(13/4)
فوات دنياهم عليهم
أيها الأحبة! إن الله عز وجل مَنَّ علينا بليل ونهار: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:71 - 72].
إن هذا الليل والنهار قد فصل الله فيه الأحوال والأحكام، وجعل الليل سكناً والنهار معاشاً، جعل الليل راحة وطمأنينة وجعل النهار مرتعاً خصباً للأعمال، وبذل الأسباب في طلب الرزق، وإن من اعتاد سهر الليل بدون عبادة أو دون حاجة، فقد خالف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إنه لا يزال -وقد يعد هذا ضربٌ من أضرب الخيال- ولله الحمد والمنة في مجتمعنا هذا أناساً إذا أوى العابثون واللاهثون والغافلون إلى فرشهم، فحينها يعرف أقوامٌ بأنهم انتصبوا في تهجد {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] يتقلبون على الفرش إذا مضى نصف الليل كما تتقلب الحبة على المقلاة، كأنما الواحد على جمر أو حديدة محمية، ولا يطيب له نوم أو تغمض له عين أو يهدأ له بال، حتى ينهض ويجافي مضجعه ويتوضأ ثم يقبل بوجهه إلى ربه راكعاً ساجداً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ولله الحمد والمنة إن أناساً لا يزالون في هذا المجتمع وهم بإذن الله بركة لهذه الأمة، وبرحمة الله خير لهذه الأمة، ولولا شيوخٌ وعجائز ركع، وبهائم رتع، وأطفال رضع؛ لأصاب القوم من البلاء ما الله به عليم، ولكن بعد رحمة الله مما يدفع البلاء عن الأمم كثرة الصالحين، والعناية بهذا الأمر.
أيها الأحبة! إن هذا النوم جعل الله فيه من الوظائف العظيمة الشيء الكثير، ولكن الذين يصرون على السهر ويخالفون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وينامون عن صلاة الفجر مع الجماعة فيصلونها بعد طلوع الشمس: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] إنهم لا يتركونها ولكنهم يؤخرونها عن وقتها توعدهم الله بويل وهو عذابٌ شديد.
إن السهر أيها الأحبة يحرم العبد فضائل الصلاة مع الجماعة، وتعلمون أن من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، وقيام الليل يطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار كما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ثم أيها الأحبة! إن في هذا السهر من تعويد النفس على الاهتمام بالسفاسف، والاشتغال بما لا ينفع، وتضييع الخير الكثير الذي جعل بركة للأمة في بكورها ما الله به عليم، هل وجدتم الساهرين يغدون مع الطيور في الصباح الباكر طلباً للبركات والخيرات والأرزاق؟ (بورك لأمتي في بكورها) وفي بداية كل أمر خير، لكن الساهرين يحرمون من هذا.(13/5)
لا بأس بالمباح في حدود
فيا أيها الأحبة! لو سألنا أنفسنا ما الذي نجنيه من هذا السهر؟ سيجيب البعض قائلاً: إنها مناسبات ولقاءات ومواعيد نضطر لإجابتها، أقول أيها الحبيب: ليس من ضرورة هذه المناسبات إن كان لا بد منها أن نسهر فيها إلى آخر الليل، ساعة أو ساعة ونصف بعد صلاة العشاء، ثم عد إلى بيتك كما يعود الجنود إلى ثكناتهم، ثم عد إلى دارك وسابق الساعة بدقائقها حتى تدرك من أطفالك لحظاتٍ قبل أن يناموا ويبيتوا، إن كثيراً من الآباء هداهم الله ربما لا يرى أولاده في الليل والنهار إلا لحظة من العصر، أو عند الغداء، وما ذاك إلا لأنه نائم وقت خروجهم للمدارس، ويعود وقت الظهيرة أو عند العصر من عمله، وبعضهم ربما كان نائماً، ثم يخرج بعد العصر إلى مجالسه وصداقاته فيسهر ويعود إلى بيته وقد وجدهم نائمين، فبالله متى يربيهم؟ متى يوجههم؟ متى يعلمهم ويرشدهم؟ ناهيك عن كثيرٍ من الآباء الذين سيان عندهم إن صلى الولد في المسجد أو صلى في البيت، أو صلى الصلاة أو لم يصلها ألبتة، وبعضهم يقول: لا زال صغيراً لا زال ضعيفاً لا زال مسكيناً.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(13/6)
ما يحرم منه ساهر ليله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة في الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إن الذين يسهرون هذا الليل ويضيعون فضائل القيام وشهود الفجر مع الجماعة، ويضيعون الصباح الباكر وما فيه من الخيرات والأرزاق والبركات، ليحرمون في الليل ويحرمون في النهار حرماناً كثيراً لا يساوي جزءاً صغيراً مما يحققونه بوهمهم في سهر الليل أوليس الله عز وجل يتنزل في ثلث الليل الآخر، فيقول لعباده وهو أعلم: (يا عبادي هل من سائل فأعطيه؟ هل من داعٍ فأجيبه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) الكثيرون يحرمون هذا، ونعوذ بالله أن نكون من أولئك.
أيها الأحبة: إن هذا السهر بلية ومصيبة، لو عرض للواحد فائدة في صباح يومه لحرمها بسبب سهره، لو عرض له رزق من الأرزاق لحرمه بسبب سهره، ولو ذهبنا نعد ونحصي آفات السهر لوجدنا أنها كثيرة لا يحصيها مقام، ولكن هناك سهرٌ أو نوع مكابدة لليل في باب العبادة نقوله لعلنا أن نبلغ مقام الذين بلغوه أو درجاتهم، ألا وهو القيام، ألا وهو التهجد، ألا وهو سؤال الله عز وجل، والإلحاح والخضوع والتضرع والإنابة لوجهه سبحانه وتعالى، يقول ربنا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] لما قرأها حبر الأمة عبد الله بن عباس قال: [ذاك عثمان بن عفان].
فهل لنا أيها الأحبة أن تتجافى جنوبنا عن المضاجع ولو لحظات يسيرة، ولو بمجاهدة وتدريبٍ يسير، دقائق، ثم بضع الساعة، ثم جزء الساعة، ثم ما كتب الله لعلنا أن ننال شرف القائمين: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] يكابدون القيام والتهجد، وبعض السلف إذا انتصف الليل قام يلطخ فخذه، ويضرب ركبه، ويقول: إن الدواب إذا كلت بأصحابها عن بلوغ الغاية ضربوها حتى تبلغ بهم الغايات، والله لأضربنك حتى أبلغ الغاية والأمان، يخاطب ركبه ويخاطب أقدامه، كما يخاطب صاحب الدابة دابته! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:16 - 17] لما أخفوا العبادة فلا تسل عما أخفى الله لهم من النعيم، لما جعلوا حظهم من العبادة السرية العبادة في وسط الليل، لما جعلوا حظهم منها طاعة وإنابة لله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
ثم أيها الأحبة: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21] أتريد سهراً وغفلة ولهواً وقيلاً وقالاً، وانشغالاً ونوماً عن صلاة الفجر، وتكاسلاً وضياعاً للعمل من يوم غد، ثم تريد كرامة ومنزلة وأجراً وثوابا؟! هل تستوي هذه مع من يأوي إلى بيته فيقوم بحق أولاده وزوجه ويعطي بدنه نصيبه، ويصلي ما كتب الله له قبل ما ينام أو بعد أن ينام، وينهض لصلاة الفجر حاضراً نشيطاً خاشعاً متدبراً متأملاً مستفيداً من صبيحة يومه، منتجاً فعالاً نشيطاً في عمله طيلة يومه، هل يستوي هذا وذاك؟! {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21]؟
الجواب
لا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] لا يستوون، وإن الكثير سيقولون: ما أجمل أن نترك السهر وأن نهجر المواعيد الكثيرة التي لا حاجة لنا بها بعد العشاء! إلا أننا نواجه بالإحراج.
فأقول: إن كان الموعد لا بد منه فاستعن بالله وأجب، ولكن بحدوده وضوابطه وبقدر الفائدة المرجوة منه، ثم أيها الأحبة: لماذا نحرج الناس إذا دعوناهم؟ ولماذا نحرج أنفسنا إذا دعينا؟ فتضيع ساعة أو أكثر من ساعة قبل بداية الاجتماع، وساعة تضيع أو أكثر بعد نهاية الاجتماع أو اللقاء؟ وليس من شرط كل اجتماع أن تمد فيه الموائد، ولو سئل المدعوون شيئاً من المال يشبعون وغيرهم جياع، يتقلبون على الجمر ويتلذذون باصطلاء النار وغيرهم يموتون في البرد والزمهرير؟ لو سئلوا شيئاً من المال -لعلهم ألا ينسوا إخوانهم في المجالس- لقال قائلهم: أدعوتنا لتكرمنا أم لتستجدينا وتسألنا؟ أقول أيها الأحبة: إن كان لا بد من اللقاء فليكن بحدوده، ولنتعود احترام الأوقات.
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع
إن من الناس من يدعوك ليهينك ولا يكرمك! كيف؟ يدعوك بعد العشاء، فإذا انصرفت من المصلى إلى مكان الدعوة، نعست عيناك مراتٍ ومرات، وتمايلت رقبتك انتظاراً لضيفٍ أو ضيوف يدعون، تنتظر ساعة ونصف الساعة فإذا جاء الضيف أو من دعي القوم على شرفه بدءوا يقبلون ويدبرون ويخرجون، ثم خذ ساعة وساعتين بعد ذلك، هذه إهانة وليست كرامة، إن كنت تدعو أحداً لتكرمه فاحترم وقته، الدعوة في الساعة الفلانية، والعشاء في الساعة الفلانية، ومتى ما طاب لك الانصراف فانصرف، أما ما نفعله الآن فنحن والله نهين بعضنا، ونؤذي بعضنا، ويضايق بعضنا بعضاً، ما الذي يمنعنا أن نكرم أنفسنا وأن نحفظ أوقاتنا، وأن نعتني بها، فنجمع بين هذه وتلك، لا شيء يمنعنا سوى المجاملات، أما الذين لا يزالون يتلذذون بالسهر فسيأتي يومٌ يندمون على ما ضيعوه من الساعات.
إن الدقيقة لا يمكن أن تردها البشرية ولو اجتمع فيها الجن والإنس وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً.
إذاً أيها الأحبة: وداعاً لسهر الليل، وطلاقاً لسهرٍ لا فائدة منه، وهجراً لهذه المجالس التي ليس فيها إلا آخر الأخبار والقيل والقال وما لا فائدة منه أبداً، والعودة المبكرة إلى المنازل، العودة إلى الأطفال والذرية، العودة إلى الأولاد والزوجات، العودة إلى قراءة شيءٍ من القرآن قبل النوم، وقراءة كتابٍ قبل النوم، العودة إلى الطمأنينة في البيوت، إن من الناس من لا يحلو له بعد العشاء إلا أن يجوب الطرقات والدنيا، والأكل في المطاعم، والذهاب والغدوات والروحات، وما لا فائدة منه ألبتة.
والله لو طبقنا هذا، لوجدنا أثره في بيوتنا وأولادنا وزوجاتنا وتربية أبنائنا وأعمالنا وصحة أبداننا، وطاعة ربنا قبل ذلك، والقيام بأعمالنا في صبيحتها.
اللهم بارك لنا في أوقاتنا، وانفعنا اللهم بما علمتنا، وارزقنا اللهم العمل بما علمنا، اللهم ثبتنا على دينك إلى أن نلقاك، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم لا تفرح علينا عدواً، ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم ولِّ علينا خيارنا واكفنا شرارنا، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مرضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته بمنك وكرمك يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم إنهم عراةٌ فاكسهم، اللهم إنهم جياعٌ فأطعمهم، اللهم إنهم ظمأى فاسقهم، اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم، اللهم إنهم مستضعفون فانصرهم، اللهم أنزل عليهم نصرك، وأنزل بأعدائهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر المسلمين في أرومو وكشمير وطاجكستان، والفليبين وإريتريا، وفلسطين وفي سائر البقاع يا رب العالمين، اللهم عليك بالصرب، اللهم عليك باليهود، اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحدا، وأرنا فيهم عجائب قدرتك يا رب العالمين، اللهم مكن لـ أهل السنة في كل مكان، اللهم مكن لأهل الحق في كل مكان، اللهم مكن لأهل الهدى في كل مكان، واقمع اللهم راية الكفر والزيغ والفساد والطغيان بقدرتك يا جبار السموات والأرض.
اللهم صلّ على محمدٍ وآله وصحبه.(13/7)
يوم يقوم الناس لرب العالمين
إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر يوم القيامة في كتابه الكريم، وما فيه من أهوال عظام، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حال الناس يوم القيامة، وما هم فيه غم وكرب، ذاكراً لهم شفاعته لهم لفصل القضاء بين العباد، وأخبر عما يكون من مشاهد ومواقف مع رب العالمين، كالحساب، والعرض، والجدال، وشهود الأعضاء، ونشر الصحف، وانتشار الفضائح وغير ذلك.(14/1)
أهوال من يوم البعث والنشور
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجا ًوقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خير إلا ودلنا عليه، وما علم سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70].
معاشر المؤمنين: إن لنا موعداً مع الأولين والآخرين، إن لنا موعداً مع السابقين واللاحقين، إن لنا موعداً مع الذين مضوا والذين يقدمون، سنجتمع نحن وإياهم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، سنجتمع في يومٍ أمام رب العالمين، يوم ينزل الجبار للفصل والقضاء بين العباد: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وفي ذلك اليوم: {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وفي ذلك اليوم تطوى السماء كطي الكتب، ويقول الجبار عز وجل: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].(14/2)
اضطراب الموازين
ذلك اليوم يا عباد الله: {كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] وكان {يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] في ذلك اليوم: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] في ذلك اليوم ترى الولدان شيباً و {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
ذلك يوم الحاقة، ذلك يوم الواقعة، الخافضة، الغاشية، الرافعة.
ذلك اليوم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] السماء تنشق وتنفطر، والنجوم تنتثر وتنكدر، والجبال تسير، والشمس تكور: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل:88].
{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً * وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه:102 - 108].
في ذلك اليوم يوم ترى الأرض بارزة، ويحشر الله الأولين والآخرين فلا يغادر منهم أحداً: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ} يعني: جئتمونا حفاةً عراةً غرلاً: {لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:48 - 49].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] الأرض تمد، وتلقي ما في جوفها وتتخلى عنه، وترج والأرض ترج، والنوق العشار تعطل، والقبور تبعثر، والنفوس تزوج، والصحف تنشر، ذلك يوم الفصل: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} [الطور:9 - 10] ذلك اليوم: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37] ذلك اليوم:
وقال كل خليلٍ كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول(14/3)
تشخص أبصار المجرمين ويقضى بينهم بالحق
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلاَّ لا وَزَرَ} [القيامة:7 - 11].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] يوم تشخص فيه أبصار المجرمين والظلمة والطواغيت الذين آذوا عباد الله فتراهم: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:43 - 44].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية:28] {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الزمر:69] وأشرقت الأرض بنور ربها، وقضي بين الخلائق بالحق، ولا يظلم أحدٌ فتيلاً.(14/4)
شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ودعاء النبيين: يا رب! سّلَّم سَلِّم، وقد حل كربٌ، وبدا خطبٌ، وظهر أمرٌ عظيم، يجول الخلائق ويموج يومئذٍ بعضهم في بعض، فيفزعون إلى الأنبياء، يفزعون إلى أولي العزم من الرسل يسألونهم الشفاعة لهم ليخفف الله عنهم هذا الموقف والكرب والخطب في ذلك اليوم العظيم، فيتدافع الرسل هذه الشفاعة وكلٌ يقول: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قط قبله مثله) يتدافع أولوا العزم الشفاعة إلى أن تبلغ سيد الأولين، وإمام الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أنا لها، أنا لها) ذلكم المقام المحمود والوسيلة والدرجة العالية الرفيعة، فيخر صلى الله عليه وسلم ساجداً عند عرش ربه، ويفتح الله عليه بمحامد لم يكن يعلمها أو يعرفها من قبل، حتى يقول الجبار جل وعلا: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه، فيشفع ويقول: (يا رب! أمتي أمتي).
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] في ذلك اليوم لا ينفع الأغنياء غناهم، ولا الأثرياء ثراهم، ولا الملوك ملكهم، ولا الوزراء وزارتهم، ولا الأمراء إمارتهم، ولا كل صغيرٍ وكبير ينفعه ما كان عليه إلا من قام فيه بأمر الله، واستجاب فيه لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] لا تنفع شفاعة أحدٍ لأحد: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه:109].
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] نحن وإياكم واحدٌ من اثنين إما: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] أو: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:40 - 41].(14/5)
استلام الصحف باليمين أو الشمال
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [إبراهيم:48 - 50].
في ذلك اليوم حال كل واحدٍ منا يصفه الله عز وجل فيقول: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14] {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [الإسراء:41 - 72].
يوم القيامة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:17 - 29].(14/6)
اصطفاف الملائكة وندم المفرطين
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] يقوم الروح والملائكة صفاً صمتاً سكوتاً: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ:38].
وفي ذلك اليوم: {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42] ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة.
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر:47 - 48].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105].
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] يبعث الله من كل أمة شهيداً: {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [النحل:84 - 85].
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} تجادل عن نفسها فقط، لا تجادل عن أمٍ ولا أبٍ، ولا خليلٍ ولا صديقٍ، ولا قريبٍ ولا شفيعٍ: {يَومَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].(14/7)
يعض الظالم على يديه ويتذكر ما قدم
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:48].
وفي ذلك اليوم: {يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].
في ذلك اليوم: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} إنا جنودٌ لكم، إنا أتباعٌ لكم، إنا قافية من بعدكم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21] ولكن يتبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا، وفي ذلك اليوم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
يوم تحدث الأرض فيه أخبارها، ويصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، ويكشف عن ساق فيدعى الجميع إلى السجود فلا يستطيع الكافرون والمنافقون سجوداً، بل تعود ظهورهم طبقاً واحداً كظهور البقر.
ذلك اليوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، يتذكر الإنسان ما سعى ولا ينسى شيئاً ولا ينكر قليلاً ولا كثيراً.
{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] تأتي كل نفسٍ ومعها سائق وشهيد.
في ذلك اليوم يكشف عن النفوس الغطاء، ويصبح البصر حديداً، ويقال لجهنم: {هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
في ذلك اليوم يحشر المجرمون زرقاً يتخافتون بينهم، وقد نسوا عمراً طويلاً، وليالي ساهرة، وأياماً ماجنة، وملذاتٍ تقلبوا فيها، فيقول بعضهم لبعضٍ: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه:103] تصبح هذه الدنيا بما مر فيها من مالٍ ونعيمٍ وملذاتٍ وشهوات كأن لم يلبثوا فيها إلا ساعةً من نهار أو يوماً، ويقول أمثلهم طريقة: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً} [طه:103].(14/8)
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم
في ذلك اليوم: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] وفي ذلك اليوم: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:39] في ذلك اليوم: {تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30].
ويوم يوضع الكتاب وترى المجرمين مشفقين مما فيه، وقد فزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا عاقبة إلا لمن ثقلت موازينه، فتنقطع الأنساب، وتنتهي القرابات، وتنتهي العصبيات والعروبة والقبليات: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:101 - 104].
وفي ذلك اليوم ترى ثلة من الأبرار، وجماعة من الأخيار: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذا كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا تقاة المسلمين تزوجت من حور عينٍ زانهن شعور
وإذا الوئيدة سئلت عن شأنها وبأي ذنبٍ قتلها ميسور
وإذا الجليل طوى السماء يمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشرت فتطايرت وتهتكت للفاجرين ستور
وإذا السماء تكشطت عن أهلها ورأيت أفلاك السماء تمور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلقٌ يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنبٍ يخاف جنايةً كيف المصر على الذنوب دهور؟!!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(14/9)
مشاهد من يوم القيامة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى ورضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضَّوا بالنواجذ على العروة الوثقى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها؛ وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة؛ وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يدُ الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: أليس من واجبنا أليس من الأولى بنا أليس من المفترض علينا -ما دمنا نوقن بالوقوف في ذلك اليوم الذي يحشر فيه الخلائق والأولون والآخرون وسنكون من بينهم- أن نعرف أحداث ومعالم ذلك المشهد؟ أليس من واجبنا أن نتصور ذلك العرض، وأن نتخيل أين يكون موقعنا مع أي فريقٍ، ومع أي ثلةٍ، وفي أي جماعة؟ ألا فاعلموا يا عباد الله أن شر من يحشر يوم القيامة هو من يحشر على وجهه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرٌ على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟) قال قتادة: [بلى وعزة ربنا] متفق عليه.(14/10)
حشر الناس حفاة عراة غُرلا
واعلموا أيها الأحبة أننا وإياكم سنقف ونحشر حفاةً عراةً، حتى ما قطع من الإنسان في ختانه سيعود عليه مرة أخرى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس حفاةً عراةً غرلاً، فقلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! - عائشة رضي الله عنها تتخيل الخجل العظيم في ذلك الموقف، أن تحشر النساء عراة والرجال ينظرون إليهن، وأن يحشر الرجال عراة والنساء ينظرن إليهم- فقال صلى الله عليه وسلم: الأمر أشدٌّ من أن يهمهم ذلك) الأمر أعظم من أن يفكر رجلٌ في عورة امرأة، أو أن تفكر امرأة في عورة رجل، والحديث رواه البخاري ومسلم، والأغرل هو: الأقلف.(14/11)
محاسبة الله عز وجل للعباد على النعم
قال صلى الله عليه وسلم: (إنه لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن شبابه فيما أبلاه) رواه الترمذي.
فيا عباد الله: سَنُسأل عن هذه الأموال، وعن هذا العمر، وعن هذه العافية، وعن هذا الشباب، فالواجب أن نجتهد في الحسنات الماحية للسيئات، إذ أن كثيراً من الناس قد اختلطت عليه أمور دنياه؛ فلا يعرف حلاله من حرامه، وقد اختلطت عليه أعماله فلا يدري أي عملٍ أكثر قدم، هل الصالحات أكثر أم السيئات؟! ولكن يا عباد الله! كما يقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فأكثروا من الحسنات، ومن أحدث سيئة فليتبعها حسنة، فإن ذلك سببٌ لأن تمحى بإذن الله عز وجل.
ألا وإن العباد في ذلك اليوم يسألون عما تمتعوا به حتى شربة الماء البارد، وفي الحديث أن الله يسأل عباده يوم القيامة عن النعيم الذي خولهم إياه حيث قال عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] والنعيم: شبع البطون، وبارد الماء، وظل المسكن، واعتدال الخلقة، ولذة النوم، قال سعيد بن جبير: حتى عن شربة العسل، وقال مجاهد: عن كل لذةٍ من لذات الدنيا سيسأل الله العبد عن شكرها.
أيها الأحبة: إن من الناس من يتقلب في النعم، ولكن تراه من الجاحدين الذين لا يدعون إلا بالويل والثبور، وقليلٌ من عباد الله الشكور.
سأل رجلٌ عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: [ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكنٌ تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادماً، قال: فأنت من الملوك] أخرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟!) رواه الترمذي.
ستسأل عن عينين أبصرت بهما فلم تكن كفيفاً أعمى، وتسأل عن أذنين سمعت بهما فلم تكن أصماً، وتسأل عن لسانٍ نطقت به فلم تكن أبكماً، وتسأل عن يدين ورجلين فلم تكن معوقاً أو مشلولاً، فهل أعددت لهذه النعم شكراً؟ وهل أعددت يا عبد الله! لهذا السؤال جواباً؟ وإن أول ما نحاسب عليه من العمل الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيئاً قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم يكون عمله على ذلك) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة.(14/12)
تكليم الله عز وجل للعباد
ألا وإن من مشاهد يوم القيامة: أن الله عز وجل القوي يكلم عبده الضعيف، العزيز يكلم عبده الذليل، الغني يكلم عبده الفقير، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة) رواه البخاري ومسلم.(14/13)
بعث العباد على ما ماتوا عليه
ألا وإن العباد يوم القيامة يبعثون على ما ماتوا عليه؛ فمن مات سكراناً بعث مختلطاً، ومن مات غافلاً بعث مع الغافلين.
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] فمن أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب أهل الضلالة حشر معهم، ومن أحب أهل الربا حشر معهم، ومن أحب أهل الفساد والزنا حشر معهم، ومن أحب أهل المعاصي حشر معهم، ومن أحب العلماء والأتقياء حشر معهم، يبعث كل عبدٍ يوم القيامة على ما مات عليه، أي: على الحال التي مات عليها من إيمانٍ أو كفرٍ أو يقينٍ أو شكٍ أو عملٍ صالحٍ أو فاسد، فالذي يموت وهو محرم، يبعث يوم القيامة وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ومن قتل أو مات شهيداً يبعث يوم القيامة له جرحٌ يثعب دماً، علامة افتخار بين الخلائق، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك.(14/14)
دنو الشمس من الخلائق قدر ميل
تدنو الشمس كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه المقداد بن الأسود: (أن الشمس تدنو يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سليم بن عامر -وهو الذي يروي عن المقداد بن الأسود - فوالله ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض؟ أو الميل الذي تكحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يكون عرقه إلى ركبتيه، ومنهم من يكون عرقه إلى حقويه- أي: مشد الإزار عند الخصر- ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، وأشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى فِيه) رواه مسلم.(14/15)
أقسام الناس في الحساب
ألا وإن من الناس من يكون حسابه بين يدي الله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] من يكون حسابه عسيراً، وهؤلاء هم الكفرة المجرمون الذين أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، وتمردوا على شرع الله، وكذبوا رسل الله، وكذلك عصاة الموحدين قد يطول حسابهم ويعسر بسبب ظلمهم وعِظم ذنوبهم.
ومن الناس من يدخلون الجنة بغير حساب، أسأل الله بأسمائه وصفاته وفضله الذي لا يضيق به ذنوب خلقه، أسأل الله أن يجعلنا منهم.
ومن الناس من يحاسب حساباً يسيراً، وهؤلاء لا يناقشون الحساب ولا يدقق معهم ولا يحقق معهم، وإنما تعرض ذنوبهم عرضاً، ثم يتجاوز الجبار عنهم عز وجل، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة: يا رسول الله! أليس قد قال الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8] فقال رسول الله: إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا هلك) رواه البخاري ومسلم.
ألا واعلموا يا عباد الله: أن الله عز وجل يعرض ذنوب العبد عليه، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره، فيقول الله لعبده المؤمن: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟) سوف نُذَكر بذنوبنا في ساعتها ولحظتها وزمانها ومكانها وحالها ومن كان معنا وأعان عليها أو خطط لها (أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب أعرفه، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك، يقول الله عز وجل: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]) رواه البخاري ومسلم.(14/16)
شهود جوارح العبد عليه
يجري بين العبد وربه حوار تشهد فيه عليه جوارحه، فعن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: (هل تدرون مما أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول العبد: يا رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول الله عز وجل: بلى، فيقول العبد: إني لا أرضى على نفسي إلا شاهداً مني -أي يقول: إني لا أرضى أن يشهد علي أحدٌ لا ملك ولا قريبٌ ولا بعيد ولا أرضٌ، وإنما أرضى أن يشهد علي شاهدٌ من نفسي فقط- فيقول الله: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه، فيقال لأركانه -أي: لجوارجه-: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلى بين العبد وبين الكلام، فيقول العبد لجوارحه: بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل) رواه مسلم.
ويبلغ الأمر أشده، والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم العبد ويجادل وينازع ويلوم أعضاؤه، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:19 - 21].(14/17)
فضيحة أهل الغلول على رءوس الأشهاد
وفي ذلك اليوم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] تظهر طائفةٌ من الناس تفوح فضائحهم وتظهر كبائرهم، فأولهم: أهل الغلول؛ والغلول هو: الأخذ من أموال المسلمين بغير وجه شرعي، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161] قال القرطبي: أي: يأتي بما غلَّ يحمله على ظهره، وعلى رقبته، يعذب بحمله مرعوباً بصوته، موبخاً بإظهار خيانته على رءوس الأشهاد.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا وفصله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمة فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاةٌ لها ثغاء فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياح فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاعٌ تخفق فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، ولا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت- أي: ذهب وفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) متفق عليه وهذا لفظ مسلم، فهذه فضيحة أهل الغلول الذين ينهبون من أموال المسلمين عامة ومن الغنائم قبل قسمتها.(14/18)
قوم لا ينظر الله إليهم يوم القيامة
ومن الأمور التي يهول لها الإنسان، ويشتد الأمر عليه بها: أن من العباد من لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ويعذبهم بأن يصرف وجهه الكريم عنهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذابٌ عظيم، قلت: يا رسول الله! من هم خابوا وخسروا؟ قال: فأعادها رسول الله ثلاث مرات ثم قال: المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان) رواه مسلم.
ومن الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: (شيخٌ زانٍ، ورجلٌ اتخذ الأيمان بضاعةً يحلف في كل حقٍ وباطل، وفقيرٌ مختالٌ يزهو -أي: عائلٌ مستكبر) والحديث رواه الطبراني في الكبير، وممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم (رجلٌ على فضل ماءٍ بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجلٌ بايع رجلاً بسلعة فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه) وما أكثر الذين يحلفون بالله أنهم اشتروا بكذا، أو باعوا بكذا، أو أعطوا في سلعهم كذا، فإن أولئك ممن لا ينظر الله إليهم (ورجلٌ بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا؛ فإن أعطاه منها وَفَّى، وإن لم يعط لم يف) متفق عليه، ومن الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث الذي يرضى في أهله الفاحشة.(14/19)
خوف الكافرين وفزعهم وأمن المؤمنين واطمئنانهم
ألا واعلموا يا عباد الله: أن هناك الكثير ممن يفضحون بأعمالهم يوم القيامة، فالذين يمنعون زكاة الذهب من هؤلاء يصفح لهم على جلودهم، ويحمى به على جنوبهم وظهورهم ويكوون به، وما منعوا زكاة بقرٍ ولا غنمٍ ولا إبل إلا بطح لها بقاعٍ قرقر، ثم تأتي عليه تطؤه بأظلافها، فإذا قضى آخرها رُدَّ عليه أولها، حتى يقضى بين الخلائق، فَيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويوم القيامة طائفةٌ من الأتقياء، طائفة من الأبرار والأخيار يقال لهم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69] والسبب في أنهم أمنوا واطمأنوا يوم فزع الناس: أن قلوبهم في الدنيا كانت عامرةً بالخوف من الله، فرد الله عليهم هذا الخوف جزاءً بطمأنينةٍ وأمنٍ يوم القيامة، أليسوا يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10]، فكان جزاؤهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11 - 12] قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يومٌ أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يومٌ أجمع فيه عبادي) رواه أبو نعيم في الحلية (ومن كظم غيظه؛ خير يوم القيامة في الحور العين).
أما الشهداء فلهم عند الله كرامةٌ عند موتهم ويوم القيامة، والمرابطون كذلك يغدى عليهم بأرزاقهم، ويراح عليهم من الجنة حتى يبعثهم الله ويكرمهم.
والذين ييسرون على المعسرين فإن الله يتجاوز عنهم يوم القيامة، والذين يفرجون كربات المسلمين ويسترون المسلمين فإن الله يسترهم ويفرج كربهم، وكذلك من أنظر المعسرين فإنه يوم القيامة في ظل عرش الله.
ألا وإن سبعةً أيضا ممن يطمئنون في ذلك الفزع، قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشابٌ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه.
ألا فلنستعد لذلك اليوم الذي سنقف له ونمضي فيه ولا تغرنا دنيانا؛ فإن أقواماً ملكوا أكثر مما ملكنا، ونعموا أكثر مما نعمنا، وأوتوا أكثر مما أوتينا، وهم رهائن وأسرى القبور واللحود، وسنقف وإياهم يوم القيامة، فالعاقل لا يغتر بدنياه منشغلاً عن آخرته، واستعدوا وأعدوا لذلك اليوم عملاً، ولذلك السؤال جواباً، ولذلك الحساب ما يدفعه؛ عسى الله أن يتجاوز عنا وعنكم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت العظيم الحليم، رب العرش العظيم، رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، يا ودود يا ذا العرش المجيد! يا مغيث الملهوفين! ويا نصير المستضعفين يا رب العالمين! إنك تعلم أن إخواننا في البوسنة والهرسك قد حوصروا حصاراً عظيماً، وقد عجز المسلمون قاطبةً أن يفعلوا أمام هذا الحصار شيئاً، اللهم قل الناصر، وضعف المعين، ولم يبق لنا إلا وجهك يا رب العالمين! اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد على الصربيين، اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد على المجرمين، اللهم أنزله على الصربيين، اللهم ضعف الجنود واستضعفوا، ولم يبق إلا ما عندك وجندك الذين لا يعلمهم إلا أنت يا رب العالمين! اللهم إن الأمر قد عظم وتفاقم، وإن الخطب جلل، وإن العقلاء حيارى، وإن المسلمين عاجزون أن يفعلوا لإخوانهم شيئاً، اللهم إنهم عبادك فلا تسلمهم إلى الضعفاء يا رب العالمين.
اللهم إنهم يشهدون أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك اللهم لا تسلمهم إلى خلقك المساكين، اللهم لا تسلمهم إلى الضعفاء، اللهم لا تسلمهم إلى المفرطين والمرجفين إلى من تكلهم يا رب العالمين! إلى عدوٍ يتجهمهم أو ضعيف يتملك أمرهم، أو من لا حيلة له عليهم.
اللهم انصرهم بنصرك، اللهم انصر المسلمين في البوسنة، اللهم إن المسلم تغتصب زوجته ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، ويفعل الفاحشة بولده فلا يفعل شيئاً، وينهب ماله، ويحرق داره، ويسرق حرثه وماشيته، فلا يملك إلا أن يقول: يا الله وإنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات:75] اللهم إنهم يدعونك ونحن ندعوك أن تفرج كربهم، اللهم فرج كربهم، اللهم فك الحصار عنهم، اللهم إن ثمانين ألفاً من المسلمين يحاصرون يوشك أن تجري الدماء في شوارع بيهاتش، اللهم رحمتك بهم، اللهم رحماك بالأطفال وبالعجائز والشيوخ الركع، اللهم رحماك بالأيامى، رحماك بالثكالى، رحماك بالمستضعفين، اللهم أهلك الصربيين بالكروات، وأهلك الكروات بالصربيين، واجعل كيدهم في نحرهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم، اللهم سلط عليهم جنودك، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم.
اللهم لا نملك إلا الدعاء، وهذا الدعاء وعليك الإجابة يا رب العالمين! اللهم انصر المسلمين، اللهم وحد صفهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم وحد كلمتهم، اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم، وعراةٌ فاكسهم، وجياعٌ فأطعمهم، وعطشى فاسقهم، ومستذلون فانصرهم يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! اللهم إنا نذكر ما حل بنا يوم أن سلط البعث صواريخه علينا فانقلب ليلنا نهاراً، وانقلب نهارنا فزعاً، وخلت الطرق، وهرب الناس، وإن ما بإخواننا أشد من ذلك وأضعاف أضعافه، اللهم عجل نصرك! اللهم عجل فرجك! اللهم عجل تأييدك! اللهم أنزل جنودك يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! اللهم صلّ على محمدٍ وآله وصحبه، وأقم الصلاة.(14/20)
قدر الأمة
كثيرة هي الشعارات التي ترفع، ولكن قليل هي الصحيحة منها.
كثير هم من يسيرون وراء الراية الكاذبة، ولكن صحيح القول وسلامة المنطق تلزمنا أن نعتقد أن ما نسمعه من أولئك إنما هو عن جهل، أو هم مرتزقة يستطيعون أن يسوقوا الآلاف من الرعاع؛ ليجولوا بهم الشوارع بشعارات جوفاء.
ومهما رفعت من رايات فلن تنتصر إلا راية تحمل شعار: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(15/1)
شعارات كاذبة ورايات خادعة
الحمد لله الذي بأمره تنسف الجبال نسفاً، فتكون قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، الحمد لله الذي تكون الأرض قبضته يوم القيامة والسماوات مطوياتٌ بيمينه، الحمد لله الذي بأمره تنكدر النجوم وتنفطر السماء وتسجر البحار وتفجر، الحمد لله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ واحدٌ في ربوبيته، فهو المدبر المتصرف ولا مدبر ولا متصرف في هذا الكون معه، واحدٌ في ألوهيته فالسجود له والتوكل عليه والإنابة إليه، والحلف والاستعانة به وحده سبحانه، ولا يجوز صرف صغيرٍ من العبادة ولا كبيرٍ منها إلا لوجهه سبحانه، ومن صرف لغيره من ذلك ولو كان صغيراً فقد أشرك، واحدٌ في أسمائه وصفاته: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].(15/2)
طاغية يرفع شعار الحرية
معاشر المؤمنين: إن طواغيت هذا الزمان، وظلمة هذا العصر من الذين تسلطوا على رقاب شعوبهم فساموهم ألوان الهوان، وساموهم أنواع الخس والعذاب، وجروهم إلى عداوة الدنيا بأجمعها، ولا يخفاكم شأن هذا، إنه شقي العراق ولعل قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم:28 - 29] لعل هذه الآية ممن ينطبق فيه، وقول الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204 - 206].
هذه والله أيضاً مما ينطبق على حال ذلك الشقي الطاغية، الذي رفع شعارات جوفاء، ظاهرها الحرية، وباطنها الظلم والاستعباد، ظاهرها المساواة وباطنها العنصرية، ظاهرها الاشتراكية وباطنها الأثرة والسرقة والاستبداد، وأخبث من هذا وأفجر أن يرفع لواء الجهاد من لا يُحكِّم شريعة الله، وأخبث من هذا وأفجر من يرفع راية الجهاد زوراً وبهتاناً، من تعبد القبور في بلاده ويسجد لها ويطاف بها ويذبح لها وينحر لها ويتجمع الناس عندها، ويسألونها تفريج الكربات وجلب الحاجات، ومع هذا يرفع شعار الجهاد وراية الجهاد، أخبث من هذا وأفجر أن يرفع هذه الراية من يحكم القوانين الرومانية الوضعية، أخبث من هذا وأفجر من يعدم أربعمائة شابٍ جمعوا تبرعاتٍ لـ أفغانستان أو كانوا عندهم شيءٌ من التوجه إلى الجهاد في أفغانستان فأعدموا عن بكرة أبيهم، أخبث من هذا وأفجر أن يرفع راية الجهاد من يصنع الخمور في بلاده ويفاخر في تصنيعها معتقةً ينافس بها أنواع الخمور المصنعة في مختلف البلدان، أخبث من هذا وأفجر أن يرفع راية الجهاد من يقتل العلماء غيلةً وعدواناً وظلماً وفجوراً، أين شعوب المسلمين؟ أين الشارع الإسلامي؟ ذلك الذي يسمى شارعاً وليس فيه إلا ذكورٌ لا رجال، كيف يطبلون وراء هذا الطاغية.
وإن من صحيح القول وسلامة المنطق أن نعتقد تمام الاعتقاد أن ما نسمعه من أولئك الذين يسيرون خلف هذه الراية المزيفة إما جهلةٌ لا علم لهم بأدنى حقائق الأمور، ولا ربط عندهم في سباق الأمور ولحاقها، وإما مرتزقة تستطيع أن تسوق الآلاف، بل مئات الآلاف منهم يوم أن تتجول في أحيائهم وتعطيهم قطع الدنانير والدريهمات ليخرجوا لك في مسيرةٍ يؤيدونك فيما تريد.(15/3)
جماهير المظاهرات لا عقول لها
إنها لمن مصائب الأمة أن تغتر الأمة وأن يقل الفهم والوعي عند رجالها إلى حدٍ أصبحوا يظنون أن هذا الرجل أصبح رافعاً لراية الجهاد حقاً بلا ريب، معاذ الله من هذا الهراء! وعياذاً بالله لعقول المسلمين أن تقع في هذا! إن الجماهير لا عقول لها، إن الغوغاء لا عقول لها، إن المظاهرات لا عقول لها، إن المسيرات لا عقول لها، واحدكم لو دخل في مظاهرةٍ أو مسيرةٍ قوامها أربعة آلاف أو خمسة آلاف ثم أصبحت هذه المسيرة تردد شعاراً معيناً، ولو كان في قلبه أن يخرج لهذه المسيرة لغرض غير هذا، فيسجد نفسه لا محالة يردد شعار المسيرة كالببغاء، ويقلد كالقردة خلف قائد المسيرة بعبارات وشعارات وألفاظ ومنطقٍ أجوف لا يدري ما معناه، هذا أمرٌ مجربٌ مشاهدٌ ملحوظٌ، ومن خبر الناس وعرفهم وحادث من يعيشون في تلك البلدان التي تطبق هذا النوع من المسيرات والمظاهرات عرف أن الغوغاء لا عقول لها، والجماهير ساذجةٌ بسيطة لا عقول لها يوم أن تخرج بالجموع وتردد ما تعقل وما لا تعقل.
وهنا اسمعوا أحسن الكلام، يقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] أي: الذين يرددون ويسيرون خلف الجموع لا يتفكرون أبداً، ويوم أن يقومون مثنى وفرادى ويتفكرون ما يردد في هذه المسيرة، ويردد في تلك المظاهرة يدركون ويعلمون أنهم يرددون ما لا يفقهون وما لا يعقلون، ولكن: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
إن عامة الناس يوم لا ينتبهون إلى الحق بعد بيانه لا يضرون الأمة شيئاً، ذلك أن الله جل وعلا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته أنه قد تضل أمم عن الحق قاطبة فلا غرابة: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] ذلك أن العبرة ليست بالجموع، وإنما العبرة بالعقول، فلا تذهب أنفسكم حسرات ولعل أحدكم باخعٌ نفسه على آثارهم أن يخرج عددٌ من المسلمين في جهلٍ وغباء يرددون شيئاً من هذه الشعارات الجوفاء، لا.
يوم أن تظهر الحجة وتبين المحجة حينئذٍ يهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.(15/4)
ما قدر الله إلا بحكمة ورحمة وعدل
أمة الإسلام: ينبغي أن نحمد الله على كل حال، ولو كنا في حال الحرب، ولو كنا في حال الدماء، ولو كنا في حال التضحيات، نحن أمةٌ تحمد ربها على كل حال، الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، كيف لا نحمده في هذا القدر العظيم الذي ما تخلفت عنه حكمته جل وعلا، وهل تظنون أن قدر الحرب قدرٌ لا حكمة فيه؟ تعالى الله عن ذلك، من قال: إن هذه الحرب بغير قدر فقد كفر ومن قال: إنه قدرٌ بغير حكمة فقد كفر، إن المؤمنين يؤمنون بأن قيام الحرب بقدر: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ويقول تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] هذه الحرب مقدرة.
إذاً: في صميم عقيدتنا أن ما يدور الآن بقضاءٍ وقدر.
والقضايا بقضاءٍ وقدر والليالي عبرٌ أي عبر
وبعد ذلك أتظنونه قدرٌ بغير حكمة؟ لا.
يقول ابن تيمية: " إن الله جل وعلا ما قدر في الكون قدراً إلا وله سبحانه فيه تمام الحكمة، لأن الله سبحانه لا يقدر عبثاً، وما يقدر قدراً إلا وله فيه تمام العدل لأن الله لا يقدر ظلماً، وما من قدرٍ يقدره في الكون إلا وله فيه تمام الرحمة، لأن الله رحمته سبقت غضبه ورحمته وسعت كل شيء ".
فالحمد لله على قدر الله في سلمٍ أو حرب، وأمة الإسلام ينبغي أن تواجه قدرها، ألم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم قدر بدر والصحابة يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، ألم يواجه قدر أحد وقد كسرت ثنيته وشجت رباعيته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم، واجه قدره وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وهكذا واجهت الأمة قدرها في خندق الأحزاب وبني قريظة وبني النضير وبني المصطلق، في جميع الغزوات واجهت الأمة قدرها وكان شأنها خيراً، وباءت وعادت بالخير والفضل، وانقلبت بفضل من الله ورضوان لم يمسسهم سوء، من مات منهم لم يتجاوز يومه وإنما أكرمه الله بموته شهيداً، ومن عاد منهم عاد سعيداً ما رضي بالذل والهوان خوفاً على النفوس والأرواح؛ القادسية وحروب الردة وقتال المرتدين من مانعي الزكاة، واليرموك، وبلاط الشهداء، وعين جالوت، وكل معارك الإسلام خاضتها أمة المسلمين وخاضها قادتهم مستسلمين راضين يحمدون قدر الله جل وعلا فيهم، فلماذا تتردد الأمة أو يصيب بعض أبنائها شيئاً من الألم أو من الحسرة على هذا الحال؟ لا والله.
بل نحمد الله جل وعلا، وشأن أمة الإسلام يوم أن تواجه هذا القدر وهي تذكر قول الله جل وعلا: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] لأن المعركة فيها جراح وقتلى ودماء، ولكن أمة الإسلام تتذكر قول الله جل وعلا: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
يا أمة الإسلام: ينبغي أن نحمد الله جل وعلا، وأن نعيش غاية الأمن وغاية الطمأنينة في النفوس قبل البيوت، وفي البيوت قبل الأحياء، وفي الأحياء قبل المجتمعات، وفي المجتمعات قبل الدول، وفي الدول قبل سائر الأمور جميعاً.
نحن أمةٌ ما خرجت عن قدرها فلماذا هذا الجزع؟ ولماذا هذا الهلع؟ ولماذا هذا الخوف؟
خرجنا إلى الموت شم الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شفرات السيوف ونأتي المنية من بابها
ونعلم أن القضا واقعٌ وأن الأمور بأسبابها
ستعلم أمتنا أننا ركبنا الخطوب حناناً بها
فإن نلق حتفاً فيا حبذا المنايا تجيء لخطابها
وكم حيةٍ تنطوي حولنا فننسل من بين أنيابها
هذا نشيد أبنائكم، وهذا شعار سلفكم، فلماذا تتردد الأمة عن مواجهة أقدارها بكل صبرٍ وشجاعة، هل ظننتم أن الجبن يطيل في الأعمار؟ أم أن الشجاعة تقصر في الأعمار؟
فلسنا على الأعمار تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما
ترددت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ويقول سعد رضي الله عنه: [احرص على الموت توهب لك الحياة].
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما خرج إلى المعركة ووجد في نفسه شيئاً لا يذكر قال:
أقسمت يا نفسي لتنزلنه
لتنزلنه أو لتكرهنه
قد أجلب الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنة
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلِ فعلاهما هديت
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةً وباردٌ شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
ونحن نقول:
والبعث بعثٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليَّ إذ لا قيتها ضرابها
يا معاشر المؤمنين: نحمد الله جل وعلا على كل حال، عجباً لكم! عجباً لكم! عجباً لكم! بقول نبيكم صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إنه أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) ففي كل الأحوال أنتم على خير وفي خير وبخير، نحمد الله جل وعلا على مقاديره، ونسأله اللطف والعون والنصر والثبات والتأييد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم احمِ حوزة الدين، واحفظ أرواح المؤمنين، واحقن دماء المسلمين، اللهم أهلك البعثيين، اللهم أهلك طواغيت البعث وحرسهم الجمهوري، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم لقد ضجت الحيتان من بغيهم، وضجت الطيور من ظلمهم، وفزع الأطفال من فعلهم، اللهم فأفزعهم وسلط بعضهم على بعض، واقتلهم بأيديهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(15/5)
أكلة تداعت إلى قصعتها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة؛ وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك! معاشر المؤمنين: حينما تدلهم الخطوب، وحينما تختلف الأقوال والآراء، ينصر الله أمة الإسلام بسديد القول من صالح العلماء في هذه المعركة الدائرة التي اختلطت فيها المصالح الدولية، واختلطت فيها الأهداف المختلفة، ووجب فيها الجهاد في سبيل الله جل وعلا.
يعيش بعض شباب المسلمين حيرةً لا يعرفون وجه الجهاد في هذا الأمر، ألا فاعلموا يا شباب الإسلام! ألا فاعلموا يا أمة الإسلام! أن الحرب الدائرة فيها جهادٌ في سبيل الله وبيان وجهه يأتي، وفيها مصالح دولية؛ مصالح لنا ومصالح لغيرنا، وقد انجلى الصبح لذي عينين، وفيها نعمة من الله بقهر وتفتيت قوةٍ غاشمةٍ ظالمة، لا ينتظر بديلاً لها حكومةً صالحة، إنما البديل أخبث من ذي قبله، أو يكون مساوياً له، أو على الأقل لا رحمة للإسلام والمسلمين في بقاء قوته:
البعث بعثٌ في العراق وغيره تتواصل الأسباب بالأسباب
أما وجه المصالح الدولية فلا يخفاكم أن هذا الذهب الأسود الذي جعله الله متدفقاً في بلادكم الذي جعله الله في أرضكم ولو شاء الله لجعله بعيد المنال عنكم: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] إن هذا الذهب المتدفق في أرضكم تعلقت به مصالح الأمم أجمع؛ أليس من الحكمة أن يحرص كل ذي مصلحةٍ على أن يحافظ على مستقبل حضارته ومصير أمته كافرةً كانت أو مسلمة؛ لأن الحياة مطلبٌ لجميع من دب على وجه الأرض سواء من البشر أو من البهائم أو من الحيوانات والحشرات، الحياة مطلبٌ طبيعي.
وأما تفتيت هذه القوة فإننا نسأل الله جل وعلا أن يكون فيه خيراً للإسلام والمسلمين؛ لأننا وقد تكشفت لنا عداواتٌ مختلفة لا نرى في بقاء قوةٍ غاشمةٍ ظالمة صلاحاً للإسلام والمسلمين، وليطبل من يطبل، وليطنطن من يطنطن، وليردد من يردد في مختلف الجرائد والمجلات والإذاعات ووسائل الإعلام، ليقولوا ما يقولوا، ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، والله لو أن أولئك الذين أخذوا يبكون على قوة العراق، ويذرفون دموع التماسيح على آلتها العسكرية لو أنهم قتلوا يوماً ما بها، لو أنهم انتهكت أعراضهم بها، لو اغتصبت بناتهم بها، لو دنست أراضيهم بها، لو سفكت دماؤهم بها، لو أهينت كراماتهم بها، لقالوا أبيدوا العراق ومن على وجه العراق أجمع، ولكننا نقول: نسأل الله أن يحفظ دماء الأبرياء من العزل المدنيين، وأن يهلك هذه القيادة الغاشمة الظالمة، وحزب البعث معها وحرسها الجمهوري الذي تسلط في هذا الزمان.
هذا شأن المؤمنين وهذا شأن المسلمين: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] لا تقلدوا ولا تتبعوا صوت الناعقين في الإذاعات والمجلات والصحف ووسائل الإعلام، لا تفكروا مثنى وفرادى: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ)) [سبأ:46] هذه أحوالٌ ينبغي أن يقدم الفكر فيها على العاطفة، حينما نسمع مسيرةً قامت تأييداً للمجاهد العدل الأكبر الذي أصدر خمسةً وثلاثين ألف تصريح لبارات الخمر في العراق، أهذا مجاهدٌ تمشي مسيرةٌ في تأييد شأنه، لو قلنا لأولئك الذين خرجوا في هذه المظاهرة: هل فيكم واحدٌ انتهكت بكارة بنته ظلماً وعدوانا؟ لا.
لو قيل لأحدهم هل أهينت كرامتك في بيتك؟ هل فعلت الفاحشة بك أمام زوجتك وبناتك كما فعل أولئك بالكويتيين أو ببعضهم أو بالمستضعفين في بلادهم؟ ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، لا يمكن.
إذاً: فالذين يرددون ويطنطنون ما ذاقوا حرارة المأساة، وما مشوا على جمر المحنة وآلام الظلم والبغي والعدوان، إذاً فلماذا نردد ما لا نعقل ونقف موقفاً لا نتصور حقيقته، لو أريد لكل واحدٍ من أولئك الذين ساروا أو أيدوا في أنفسهم أو في إذاعاتهم أو في فكرهم لو قيل لأحدهم: جرب لوناً أو صنفاً أو طعماً من ألوان هذه المصيبة التي نزلت بإخواننا الكويتيين لما استطاع أن يطيق هذا، لوجه من يا طاغية العراق! أطفالٌ يموتون في الصحراء عطشى؟ أهذا لوجه الله؟ لوجه من يا طغاة البعث! نساءٌ عفيفاتٌ مستوراتٌ ينتهكن ويغتصبن؛ لوجه من يا طغاة البعث! تسرق ثروات أمة ويعلق أبناء المقاومة فيها على الرافعات كالمشانق؟ لأجل من؟ ولوجه من؟ نعم.
للبعث الذي يقول قائله:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ماله ثان
هكذا الذين يقول قائلهم:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
حتى لو كنت نصرانياً أو يهودياً:
هبوا لي ديناً يجعل العرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم
سلامٌ على كفرٍ يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
فقد مزقت هذه المذاهب شملنا مذاهب الشريعة مذاهب الفقه مزقت شملهم، من الذي يجمعهم ركن الوحدة في فقه البعث وعنصر الملة.
فقد مزقت هذه المذاهب جمعنا وقد أودعتنا بين نابٍ وميسم(15/6)
أمم تقتسمنا ونحن نستجدي في غفلتنا
يا أمة الإسلام: متى نفيق من الغفلة؟ متى نعمل هذه العقول؟ متى نسخرها لكي تتأمل، إننا لا نؤمر بأن نسلم بكل ما نسمع أو نقرأ؟ لكننا نؤمر أن نتدبر، وأن نتأمل، وأن نكون قوامين بالقسط شهداء لله، ولو على أنفسنا أو الوالدين أو الأقربين، هذا واجبنا.
وأما وجه الجهاد في سبيل الله: فأسألكم يا شباب المسلمين! لو أن البعثيين معاذ الله من ذلك! استحلوا قطعةً من أرضكم وبلادكم، أو مكثوا بعد احتلالٍ أو دخولٍ في قطعةٍ من أرضكم وبلادكم، هل ستقتلون القاتل في تلك القطعة؟ أم يحال إلى المحكمة الوضعية القانونية؟ هل ستقطعون يد السارق في تلك القطعة؟ أم يحال إلى المحكمة الوضعية؟ هل سترجمون الزاني؟ هل ستجلدون الشارب؟ هل سيسمح البعث للدعاة أن يلقوا الدروس والمحاضرات والندوات؟ هل ستكفلون الأيتام في تجمعاتكم وتبرعاتكم؟ هل ستدعمون الجهاد في أفغانستان؟ هل ستجعلون حلق الذكر في مساجد تلك البقعة؟ لا.
والله لو حكم البعث أرضاً أو شبراً من الجزيرة ما قطعت فيها يد سارق، وما قطعت فيها رقبة قاتل، وما أقيم فيها حدٌ، وما أذن فيها لداعيةٍ أن يتكلم أبداً، فضلاً عن دعم قضايا المسلمين ومشاريعهم، أليس في صد هذا العدوان جهادٌ في سبيل الله؟ إذاً ما يكون الجهاد إذا لم يكن دفع العدوان الذي يمنع بيوت الله أن يرفع فيها اسمه؟! إذا لم يكن صد العدوان البعثي الكافر عن أرض المسلمين، أرض الموحدين، الدعاة العلماء، سائر الناس، حتى العصاة فيهم، فيهم خيرٌ كثير حتى عصاة أمتنا، عصاة شبابنا، أقول: فيهم خيرٌ كثير؛ لأن معاصيهم ما جاوزت حدود فرعية بغير تهاونٍ بالمعصية أو رضاً بها أو إقراراً بفعلها، فكل معصيةٍ عليها جزاؤها وعقابها، ولكن حتى وإن فعلت فإن هذه المعصية لا تساوي أضعاف الكفر والإلحاد المضاعف من أولئك.
فيا أمة الإسلام: اعقلوا وتأملوا وتدبروا وتفكروا واعرفوا حقيقة ما أنتم عليه، هذا جهادٌ في سبيل الله.
أعود إلى ما قلت: يوم تدلهم الخطوب وتفتن العقول بالآراء والأقوال يوقظ الله الأمة بصالح علمائها، يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -أسأل الله أن يمد في عمره قولوا: آمين، وأن يبارك في حياته، وأن يجعل نومه ويقظته وذهابه وإيابه وفكره وصمته ونطقه في موازين أعماله- قال: هذا جهادٌ لا شك فيه وما عندي فيه شكٌ أبداً.
هكذا يوقظ الله الأمة برأيٍ سديد، وقولٍ سديد من صالح، بل من أتقى أو من تقاة علمائها، وقال متع الله بحياته وإياكم على طاعته قال: إن قول الله جل وعلا: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] قال: هذا قتال طائفةٍ مؤمنة مع مؤمنةٌ، مؤمنةٌ بغت على مؤمنة، أما هذه فطائفةٌ كافرة، وجب جهادها ابتداءً لا رداً أو دفعاً للعدوان، فما بالك إذا حشدوا الحشود عليك وقد يقول قائل: وما شأن الجهاد في الكويت؟ نقول: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات دون ماله فهو شهيد) بلى.
ألم يقل (من مات دون عرضه فهو شهيد) بلى.
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أن يأخذ مالي، قال: امنعه، قال: فإن أبى؟ قال: قاتله قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت في الجنة).
إذاً: لأهل الكويت أن يجاهدوا لرد أموالهم، لرد أرضهم، لرد ثرواتهم، لرد مآذنهم ومساجدهم، وجمعياتهم التي كانت رئةً يتنفس منها الجهاد في أفغانستان والعمل الإسلامي في أفريقيا، جهادٌ في سبيل الله لأهل الكويت أن يعودوا لرد حقوقهم وثرواتهم ومقدراتهم، حتى لا يقول أحدٌ: هذا جهادٌ في حقنا وليس جهادٌ في حق أبناء الكويت، نعم.
أليس لهم أراضٍ وممتلكاتٌ وثرواتٌ وبيوتٌ وضيعاتٌ وأوطانٌ ديست ودنست بأولئك الأزلام البعثيين، ألا يكون هذا جهادٌ في حقهم؟ وبعد أن يستردوا أرضهم ويشفوا صدورهم؛ لأن مثل هذه الأمور لا يشفيها إلا الانتقام بالدم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] ما لم يشبع الكويتي مسلماً وغير الكويتي من دم البعثي الحاقد الفاجر البعثي، لا أقول العراقي الساذج البسيط الذي هو من عامة أبناء المدن أو من قراها وضيعاتها، ذلك البعثي الذي تطوع في هذه القيادة الظالمة الغاشمة، أو في الحرس الجمهوري، أو في حزب البعث ما لم يشبع من دمه لا يشفى قدره أبدا.
يقول لي أحد الشباب المجاهدين في أفغانستان: قتل صديقٌ لي في أحد العمليات ونحن في اقتحام على أحد المراكز الشيوعية؛ نفذت ذخيرته فالتف عليه الشيوعيون وجعلوا يجعلون سكين الرشاش في صدره وقتلوه قتلةً شنيعة، قال: علم الله أن في قلبي شيئاً لا أعرف ما الذي يذهبه حتى أظفرني الله ذات يوم في عمليةٍ جهاديةٍ ناجحة اقتحمنا فيها مركزاً من مراكز الشيوعيين قال: ذبحت فيهم عدداً بيدي وآخرين بالرشاش، فلما رأيت دماؤهم تتقلب أمامي وجدت راحة وطمأنينة وذكرت قول الله جل وعلا: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] يشفون صدورهم القتل أمثال القتل، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:179].
فيا معاشر المؤمنين: ينبغي ألا نقع في الإرجاف أو في تثبيط الأمة، ونحن نعلم أننا في جهادٍ مشروع في أي حالٍ من الأحوال، أنا لا أقول إن ما يدور الآن كلها أوضاعٌ صحيحة سليمةٌ 100%.
لكن إن ما يدور الآن وبقدر الله أراه أهون الشرور على الأمة أن تعيش ما تعيشه الآن.
نسأل الله أن يدفع البلاء وأن يبصر أمة الإسلام وشبابها بحقيقة مواقفها وما يراد بها وما يدبر لها.
اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر المرابطين، اللهم انصر المجاهدين، اللهم انصر شبابنا ورجالنا وجنودنا في القوات الجوية والبحرية والبرية، اللهم أنزل السكينة في قلوبهم، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم.
اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ومن فوقهم، ونعوذ بعظمتك اللهم أن يغتالوا من تحتهم.
اللهم احفظهم.
اللهم ارزقهم الاحتساب وطلب الأجر والثواب، اللهم اجعل من مات منهم شهيداً ومن عاش منهم سعيداً، اللهم أهلك البعثيين، اللهم أحصهم عدداً، واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم سلط على أعدائنا، اللهم اجعل سلاحهم في نحورهم، واجعل كيدهم على صدورهم، اللهم اخسف الأرض بهم، اللهم سلط بعضهم على بعض، اللهم واقتلهم بأيديهم، اللهم خرب بيوتهم بأيديهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.
ربنا اكشف عنا البلاء إنا مؤمنون، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم مزقهم كل ممزق، حسبنا الله ونعم الوكيل، نستغفر الله ونتوب إليه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا واغفر لنا وانصرنا وثبتنا وأعنا وأكرمنا وأهن أعدائنا.
اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك وعظمتك أن تعيذ جنودنا وأبناءنا وذرارينا من شر ما نجد ونحاذر، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما يلج في الأرض، ومن شر ما يخرج منها بقدرتك التي لا يعجزها شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
ربنا انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا عليهم، اللهم عجل نصرك لنا، اللهم عجل هلاكهم يا رب العالمين! يا أرحم الراحمين! برحمتك نستغيث، اللهم لا تكلنا إلى طائراتنا، اللهم لا تكلنا إلى دباباتنا، اللهم لا تكلنا إلى قواتنا وبارك لنا فيما آتيتنا، وانفعنا بما عندنا، ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك يا رب العالمين! اللهم آمن روعاتنا، اللهم آمن أنفسنا، اللهم نسألك الطمأنينة في نفوسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا وبلادنا وبلاد المسلمين أجمعين، اللهم استر عوراتنا، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم من علمت فيه خيراً لهم ولأمتهم فقربه منهم وبارك فيه يا رب العالمين! ومن علمت فيه شراً لهم ولأمتهم فأبعده عنهم وافضحه على رءوس الخلائق يا رب العالمين! الله سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، ربنا لا تسلط علينا بذنوبنا واحفظنا وانفعنا وبارك لنا وفينا وحولنا وادفع عنا البلاء في كل وقتٍ وفي كل حين.
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على نبيك محمدٍ صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، اللهم اجمع شمل قادتهم، اللهم ألف قلوبهم وثبت أقدامهم، وانصرنا وإياهم يا رب العالمين! وانصر جميع المجاهدين في فلس(15/7)
المجاهدون في أفغانستان
وضح الشيخ في هذه المادة أحوال الجهاد والمجاهدين في أفغانستان، من حيث قلة عددهم وعتادهم، والمؤامرة الدولية عليهم، وغدر الروس بهم، وناشد المسلمين في نهايتها أن ينصروهم بما يستطيعون.(16/1)
أحوال الجهاد في أفغانستان
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والمثيل، والند والنظير، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم البعث والنشور.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: لا يخفاكم أن الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس عبادةٌ من أَجَلِّ العبادات في هذا الدين، بل هو ذروة سنامه التي بها يجد المسلمون حلاوة العزة، وَصِدْقَ الوعد من الله جل وعلا بالعز والنصر والتمكين، يقول سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14 - 15].
ولما طال انقطاع العهد واتصال البعد عن الجهاد في سبيل الله من الأمة الإسلامية في هذا العصر حقبةً طويلةً من الزمن، اطمأن أعداء الإسلام فيها إلى تدبير مخططاتهم، وأمنوا بأس المسلمين وشوكتهم خلالها، ولئن طال ذلك فإن فجراً بالجهاد قد لاح وظهر، وإن رايات العزة والكرامة قد رفعت ورفرفت على أرض أفغانستان المسلمة، تلك الأرض الجريحة التي جُرحت بمناجل الشيوعية، وضربت بمطارق الإلحاد، لكن ذلك لم يزد المجاهدين إلا قوةً وصلابة.
أيها الأحبة في الله! يا معاشر المسلمين المطمئنين الوادعين في أوطانكم! المتلذذين بألوان النعم في بيوتكم ومفارشكم ومراكبكم ومآكلكم ومشاربكم! يا معاشر المؤمنين: هل تظنون أن إعلاء راية الجهاد أمرٌ هينٌ أو يسير؟ هل تظنون أن جهاد الكفار، أن جهاد أعداء أمة الإسلام يتحقق بالصيحات والشعارات والمنظمات والسب والشتائم؟ لا.
وألف لا.
إن إعلاء راية الجهاد -يا عباد الله- يعني التضحية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؛ التضحية بالنفس والنفيس، التضحية بالأموال وبالأوطان وبالأولاد، والتضحية بالذرية، والتضحية بالشرف وبالنعيم.(16/2)
تضحيات المجاهدين
أيها الأحبة: منذُ سنواتٍ تسع، وأحبابكم الذين رسموا صور العزة في جبين هذا الزمان، أحبابكم المجاهدون في أفغانستان، الذين تجافت جنوبهم عن سهل الأرض إلى وعر الجبل، بعد تدخلٍ شيوعيٍ أطاح بحكوماتهم، وأحلهم أحزاباً شيوعيةٍ مستبدةٍ غاشمة أتت على الأخضر واليابس، واعتدت على الزوجات، والمحارم والنساء والذريات، وأذنت للعدو الروسي والحاقد الشيوعي أن يتدخل في أرضها، وأن يحل بساحتها فساء صباحها، وادلهم ظلامها، لقد رفعت راية الجهاد في أفغانستان مقرونةً بالتضحيات، أتدرون ما هي التضحية؟ إنهم الشهداء إنهم المهاجرون إنهم الجرحى إنهم المشوهون والمعاقون لقد سقيت أرض الجهاد في أفغانستان بدماءٍ زكية، دماء مليون وسبعمائة ألف شهيد، نحتسبهم عند الله من الشهداء، وغرست أطرافهم وأشلاؤهم، أيديهم وأرجلهم المبتورة والممزقة تربة أرض الجهاد، حتى إذا جاء الأبناء ليزرعوا وحفروا الأرض ووجدوا رِجلاً أو قدماً، أو وجدوا شلواً ممزعاً، علموا أن البلاد حررت بالتضحية، وحررت بالدماء والأشلاء.
لقد هاجر الضعفاء والعزّل والأبرياء، هاجروا عن البيت والأرض والوطن، فالحال الآن في أفغانستان تنبئك به الملامح والقسمات قبل أن تتلفظ الشفاه بالكلمات، فما من بيتٍ إلا وقدّم أباً أو أماً، أخاً أو طفلاً، ففي كل بيتٍ مأتم، ومن كل دارٍ فقيد.(16/3)
غدر الروس بالمجاهدين والمؤامرة الدولية ضدهم
أيها الأحبة في الله: الحال في أفغانستان بقدوم هذا الشتاء خاصة، مؤلمةٌ مؤلمةٌ والله جداً، خاصةً وأن القوى العالمية تمارس لعبةً من نوعٍ قذر لقطف ثمرة الجهاد، وإغلاق خطوط الرجعة على المجاهدين لقتلهم وتدميرهم في مواقعهم وثكناتهم، ولكن يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، منذُ أن أعلنت اتفاقية جنيف، وتناقل الناس أنباء انسحاب الجيش الروسي، تلك الأنباء الكاذبة، ومتى وعدت روسيا فأوفت؟! ومتى عاهدت فنفذت؟! ومتى تكلمت فصدقت؟! منذُ أن تناقل الناس أنباء انسحاب الجيش الروسي، تلك الأنباء الكاذبة، ظن الكثيرون من المسلمين، أن ساحات الجهاد خلت من القصف والنار، وأن الرصاص قد هدأ زئيره، وأن المدافع قد كممت أفواهها، وأن المجاهدين قد عادوا إلى حياة الاستقرار والطمأنينة، ولم يبق إلا أن يدخلوا عاصمة الوطن كابول.
هكذا ظن من انْطَلَتْ عليه اللعبة والحيلة، ولقد انطلت والله، أتدرون إلى أي حدٍ وانطلت ومضت هذه اللعبة علينا معاشر المسلمين؟ لقد قل دعم المسلمين لإخوانهم المجاهدين في أفغانستان بعد أن أعلنت أنباء الانسحاب الكاذبة، قل الدعم وانخفض إلى نسبة 50% أي نصف الدعم الذي كان يتلقاه إخوانكم منكم! مضى وذهب نصفه من جراء كذبةٍ ولعبةٍ دولية في ظروفٍ إخوانكم فيها أحوج إلى الدعم أضعاف أضعاف ما كانوا عليه من قبل، لئن كانوا يتلقون دعمكم فيما مضى، فإن قتالهم كان على جبهاتٍ بعيدة، أما الآن وقد انخفض دعمكم، وقلت معونتكم، فإنهم الآن يمارسون حرب المدن، أخطر أنواع الحروب، إنهم الآن يشهدون فتوحاتٍ كثيرة وانتصاراتٍ عظيمة، مع تضحياتٍ هائلة وأخطر من هذا كله -يا عباد الله! - انخفاض نسب المؤن والأغذية الموجودة في المنطقة إلى حدٍ ينذر بالخطر والكارثة، إلى درجة أن الاتحاد السوفيتي ما عاد يدعم كل أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم، بل اكتفى بدعم الجيش الروسي والجيش العميل فقط، هذا فيما يتعلق بالمؤن والأغذية.
أما السلاح والرصاص! أما النار والدمار!! ففي كل شبرٍ لغم، وفي كل أرضٍ مدفع، وفوق كل سماءٍ طائرة.
أيها الأحبة: ماذا عن المؤامرة الدولية على قضية الجهاد في أفغانستان؟ لا زالت روسيا تخالف بنود اتفاقيتها مخالفةً واضحة كالشمس في رابعة النهار، فالطائرات تقلع من مطارات الاتحاد السوفيتي، وتضرب القرى والمدن المليئة بالأبرياء والأطفال، والعزل والعجائز، والشيوخ والمرضى، وحسبكم ما سمعتم خلال عشرة أيام: أن قريةً من قرى قندهار ضربت بصواريخ اسكود بعيدة المدى، راح ضحية ذلك القصف ما يزيد على ثلاثمائة نسمة بريئة؛ بين امرأة وفتاةٍ، وطفلٍ وشيخٍ وعجوز، بل وأسوأ من هذا أن الروس قد أرسلوا ثلاثين طائرة من طراز ميج 27 تضرب القرى والمدن ومواقع المجاهدين من بعد 240 كيلو متر، أسقط المجاهدون منها حتى الآن طائرتين فقط، أما تلك الصواريخ؛ صواريخ اسكود، فقد استخدم الروس منها لضرب جاج من جديد، ولضرب كولر وباجور وجلال آباد، استخدموا عشرين صاروخاً لضرب هذه المناطق الصغيرة.(16/4)
احتياج المجاهدين للعدة والعتاد
أيها الإخوة في الله: إن إخواننا في أفغانستان يخاطبون فينا الولاء لدين الله، يخاطبون فينا الولاء لجند الله، يخاطبون فينا البراءة من أعداء الله، إنهم يخاطبون فينا حمية المسلم لأخيه، إنهم يدعوننا من قعر أوديةٍ من الدماء سالت، ويدعوننا باسم أشلاءٍ من الأبدان تطايرت، ويدعوننا من جماجم إخوانكم التي داستها المجنزرات، ووطأتها الدبابات، إنهم ينادونكم بدموع اليتامى التي بلت الثرى، ولم تجد يداً حاميةً تتلقف دمعةً أو تمسح رأس يتيم، هل من الحمية والشيمة هل من النخوة والإباء هل من الكرم والجود أن نتفرج على كربتهم؟ أن نشاهد أفلام أحداثهم فقط؟ يقول سيد: إن الذي يتفرج على كربة أخيه يدفع الغرامة ضعفين.
فلا تتفرجوا معاشر المسلمين، من لإخوانكم بعد الله إلا أنتم
من للثكالى إذا ناحت نوائحها من للجراح التي استشرت بوادينا
من لليتامى إذا سالت دموعهمُ على الخدود وقالوا من يواسينا
أتتركون إخوانكم الذين يصيحون؟! الذين يصرخون؟! الذين يئنون ويتأوهون؟! يصيحون قائلين:
أنموتُ في كف اللئام وأنتمُ حولي ولم يهززكم استنجادي
ونبيتُ لا ندري أنصبح بعدها أم أن عين الموت بالمرصادِ
يا نائمين على الحرير وما دروا أنَّا ننام على فراش قتاد
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:35 - 38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.(16/5)
وجوب مناصرة المجاهدين في أفغانستان
الحمد لله منزل الكتاب، وهازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، وخالق خلقه من تراب، نحمده سبحانه لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه مآب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: إن الأوضاع الدولية المحيطة بـ أفغانستان، لهي والله لا تبشر بخيرٍ في هذه الأيام، فأنتم تعرفون دولةً كانت هي المنفذ والمعبر الرئيسي لدخول المؤن والعدد والعتاد لإخوانكم المجاهدين، قد تغير نظام الحكم فيها، ونسأل الله جل وعلا ألا يكون هذا التغير سبب شؤمٍ أو نذير خطرٍ على إخواننا في أفغانستان، وإن كنا لا نشك أن من سلف خير ممن أتى، إن حكومة ضياء الحق رحمه الله رحمةً واسعة، وأدخله فسيح جناته، ورفع منازله وعظم أجره، ونور ضريحه، إن ذلك الرجل كان أُماً حانيةً على الجهاد، وأباً شفيقاً بالمجاهدين، وكانت أرضه مأوى للمهاجرين، والضعفاء والأبرياء والمساكين، والآن لا ندري ما هو شأن أولئك بعد أن تغير النظام هناك، إلا أننا لا نجزم بشرٍ أو بخير، ونسأل الله جل وعلا أن يحسن الأوضاع لصالح إخواننا المجاهدين.
أيها الإخوة: من لإخوانكم إلا أنتم، أتنتظرون الدعم من دولةٍ وثنية مجاورة؟! أننتظر الدعم لإخواننا من دولةٍ وثنية؟! أو من دولةٍ شيعية؟! أو من دولةٍ روسية؟! أو من دولةٍ مضطربة؟! والله ثم والله! ووالله وتالله وبالله! ليس لإخوانكم بعد الله إلا أنتم، إن كانوا في خيرٍ فالفضل لله وحده، ثم لدعمكم، ثم لوقوفكم، ثم لجهادكم بأموالكم وأنفسكم، فلا تتركوا إخوانكم في نهاية المطاف، وخاتمة المصير، لا تبخلوا معاشر المؤمنين، فإن واقع التبرعات يشهد أنها انخفضت إلى حد النصف -ولا حول ولا قوة إلا بالله- في ظروفٍ تخلت فيها الدول أجمع إلا هذه الدولة، في ظروفٍ تخلت فيها فيها الأمم أجمع إلا هذه الأمة، نسأل الله جل وعلا أن يجعل ذلك في موازينها ورفعةً لدرجات ولاة أمرها وحكامها، ودفعاً للبلاء عن المسلمين أجمعين.
أيها الأحبة: الطقس بارد، والجليد شديد، والثلج منهمر، والدماء لا زالت تسيل، والمدافع لا زالت تتحدث، والنيران لا زالت تنثر حممها على المخيمات والأبرياء والمدن، لا زال الجهاد بل عاد أشد مما مضى، وهي شنشنة أخزمية، وهي طريقةٌ معروفة في بداية الشتاء من كل فصل، ينزل الاتحاد السوفيتي جام غضبه، وحمم نيرانه على المجاهدين في الظروف الباردة التي لا يستطيعون أن يتنقلوا فيها بطلاقة.
فيا عباد الله: إن إخوانكم بأمس الحاجة؛ ما ظنك بريالٍ تدفعه يموت به شيوعيٌ من الملاحدة، ما ظنك بدينارٍ تقدمه يبني ثكنة لإخوانك المجاهدين، ما ظنك بقرشٍ تقدمه يقدم لقمةً لجائع من الجائعين، ولمهاجرٍ من المهاجرين.
أيها الأحبة في الله: إن الذين يتفرجون على كربة إخوانهم يدفعون الغرامة ضعفين، فلا تتفرجوا فتدفعوا، ولا تسكتوا فتبتلوا، وتذكروا قول الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:25].
ساعدوا إخوانكم وتذكروا قول ربكم: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] الزمان دُولة، والأرض دول، والأمم دول:
لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسانُ
هي الحياة كما شاهدتها دولٌ من سره زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحدٍ ولا يدوم على حالٍ لها شانُ
يا راتعين وراء البحر في دعةٍ لكم بأوطانكم عزٌ وسلطان
أعندكم نبأٌ عن شأن إخوتنا فقد سرى بحديث القوم ركبانُ
يا رب أمٍ وطفلٍ حيل بينهما كما تفرق أرواحٌ وأبدانُ
وطفلة ما رأتها الشمس إذ بزغت كأنما هي يا قوتٌ ومرجانُ
يقودها العلج للمكروه مكرهةً والعين باكيةٌ والقلب حيرانُ
لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ
أناسٌ يسهرون على الأفلام والمسلسلات، وأناسٌ يبيتون على قصف المدافع والطائرات.
أناسٌ يتقلبون في الحرير، وأناسٌ يتلمظون أشواك القتاد.
أناسٌ يشكون التخمة، ويعالجون أمراض السمنة، وأناسٌ يتضورون جوعاً، ويموتون ضمأً.
أناسٌ يصمتون العرق عن جباههم من كثرة ملابسهم، ومشالحهم، وكنابلهم، وبطانياتهم، ومفارشهم، وأناسٌ يتقلبون في البرد القارس.
أناسٌ يضيعون في دورهم ومنازلهم وقصورهم، وأناسٌ تخرق الريح جنبات خيامهم.
عباد الله: أين قلوب المؤمنين عن واقع الجهاد؟! أين قلوب المسلمين عن إخوانهم؟! والله ثم والله! إن واحداً ممن أصيب جاء إلى هنا ليعالج -من يومين فقط، يوم الأربعاء، قبل أمس بالضبط- فجاءه الخبر أن أسرته قد ماتوا جميعاً من جراء قصف الطائرات، أمه وأبوه وإخوانه، الأطفال والبنات والفتيات، فلم يستطع أن يبقى، ويصيح ويقول: أخرجوني سأعود إلى أرض الجهاد، لا أريد علاجاً، لا أريد دواءً، لا أريد مئونةً، أريد أن أريق الدم على أرض الجهاد.
إن إخوانكم في شأنٍ وفي محنةٍ وفي كربةٍ عظيمة لا يعلمها إلا الله، إن كنتم تتألمون لواحدٍ ممن تعرفونه وهو مسجون هناك أو سجينٌ هنا، فإن السجين هنا، إن كان لحقٍ أو لغرامةٍ مالية لا خوف على روحه؛ ولا يموت جوعاً ولا يشكو برداً، أما أولئك والله فمن كل شيءٍ يشكون، ومن كل صغيرٍ يتألمون، ولكل قليلٍ يحتاجون؛ بحاجةٍ إلى الدواء، بحاجةٍ إلى الكساء، بحاجةٍ إلى الطعام، بحاجةٍ إلى كل جهدٍ منكم يا عباد الله.
ما بالنا وما حالنا، يسألنا الله جل وعلا في زمان عطّل فيه الجهاد، ورفع الأفغان فيه راية الجهاد: يا عبادي! ماذا قدمتم لإخوانكم؟ ما هي حميتكم لأبناء دينكم؟ فنقول: ضاعت الليالي في المسلسلات، أم مضت في المباريات، أم انتهت في المأكولات والمشروبات، يا خزية الجواب؟ ويا ضيعة السؤال! ويا محنة الإجابة! يوم نسأل عن إخواننا أمام الله جل وعلا.
أيها الأحبة: والله إنها لأحوالٌ دامية، لقد ذهبت إلى إخوانكم في بداية محرم الذي مضى، والله ما كنت أحب أن أخبركم بهذا، لكن الواقع يشهد أن الجراح أليمة، كيف ينتقلون بمدفعيةٍ صغيرةٍ إلى جبهةٍ من الجبهات، يفككونها قطعةٍ قطعة، ويحملونها على أكتافهم، ويمشون على الجبل سبع ساعاتٍ يوماً، ويوماً وليلة، لكي ينصبوا المدفعية الصغيرة التي تطلق شراراً صغيراً، يحاربون به طائرة الميج، أو طائرة السوخوي، أو صواريخ اسكود، إن الكفة ليست متوازنة، لكنها من عند الله راجحة ومنتصرة وغالبةٌ وقوية، في فجر هذا اليوم، اتصل مندوب الجهاد للشيخ سياف وسأله عن الأوضاع، قال: والله! إن أوضاعنا سيئة، وأحوالنا والله سيئةٌ جداً، لكننا في أتم الثقة أن إذا انقطعت أسباب البشر انفتحت أسباب السماء، وإذا أغلقت أبواب البشر انفتحت أبواب الدعاء، وإذا انقطعت المؤن من الأرض توالت المؤن من الله جل وعلا.
وهذا يقوله بلسانه، وهذا امتحانٌ لنا ولإخواننا.
نعم أيها الأحبة: إنه امتحان للمجاهدين في ثباتهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
أيها الأحبة: إنني أدعوكم وأخاطبُ فيكم حمية الإيمان، وأخاطب فيكم فطرة الإسلام، وأخاطب دماً أصيلاً ينبض في قلوبكم، ويجري في عروقكم، أن تنفضوا جيوبكم لإخوانكم، وأن تقدموا دعمكم وتبرعاتكم، ومن لا يجد اليوم شيئاً فليأتِ به في غد، ومن لم يجد في غد فليأتِ به بعد غد، إننا في حالة نفير، إننا في حالة استنفار، إنها حالة طوارئ، فكلٌ يقدم لإخوانه، ووالله لا خير فينا إن لم نقف لإخواننا، كم بذل النصارى لنصرانيتهم؟ كم بذل اليهود ليهوديتهم؟ كم بذل الفجار لفسقهم؟ كم بذل الكفار لفسادهم؟ ماذا تبذلون لدينكم؟! ماذا تقدمون لإخوانكم؟ ماذا تقدمون من مالكم؟ أيكون الريال أغلى من روح تطير في سبيل الله؟! أيكون الدينار أغلى عليكم من الأشلاء والأيدي والأرجل والأقدام؟! أتنتهك النساء، أيفعل الزنا بالبريئات جهاراً نهاراً وأنتم ها هنا في دعةٍ واستقرار؟!! فاتقوا الله في حال إخوانكم، ولتسألن والله عنهم.
اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم أنزل السكينة على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم انقطعت أسبابنا وبقيت أسبابك يا رب السماوات والأرض، اللهم أغلقت أبوابنا وتفتحت أبوابك يا رب السماوات والأرض، اللهم انقطع الأمل في كل مخلوق، والأمل فيك باق لا يزول يا رب العالمين، اللهم لا تكل إخواننا إلينا، اللهم لا تكلهم إلى بشر، اللهم كلهم إلى قوتك ودعمك وفضلك ومنّك يا رب العالمين، اللهم إنَّا نشكو إليك قلة حيلتهم، وفقر جيوبهم، وضعف أبدانهم، وقلة سلاحهم، وندرة طعامهم وشرابهم، والبرد القارس في بلادهم، اللهم آمن روعاتهم، وثبت أقدامهم، واجمع شملهم، ووحد صفوفهم، اللهم عجل بشائر نصرهم، اللهم أهلك عدوهم، اللهم عليك بـ الملاحدة الذين لا يعترفون بوجودك، اللهم عليك بالشيوعيين وأذنابهم، اللهم عليك باليهود وأعوانهم، اللهم ارفع الكربة عن إخواننا في أفغانستان، اللهم عجل نصرهم، وأقم دولتهم.
أيها الأحبة: إنها الضربة الأخيرة! إنها الهجمة الخاتمة! إن لم نقف معهم فمن يقف معهم؟؟! اللهم انص(16/6)
ما يطلبه المستمعون
يقول الشيخ واصفاً درسه: لما قلَّبت وفكرت، تذكرت أن عندي أسئلة طالما ضاق الوقت عن الإجابة عليها في نهاية بعض المحاضرات فقد جمع الشيخ هذه الأسئلة وأجاب عنها، وهي آيات وأحاديث، ونصيحة ومواقف محرجة، وقصائد على رأسها النونية لابن القيم.(17/1)
الدنيا دار ممر إلى الآخرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله! أسأل الله جل وعلا أن يحرم وجوهكم على النار، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ومستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ما أطيب هذه الليالي، وما أجمل هذه الأمسيات التي تزدان بهذه الوجوه المؤمنة الطاهرة، وتجتمع بهذه القلوب العبقة بالمحبة والمودة والأخوة في الله ولأجل الله، ما اجتمعتم على وترٍ ولا نغمٍ ولا عزفٍ ولا طربٍ ولا لهو، وإنما اجتمعتم على محبة وأخوة، تتلون كلام الله، وتسمعون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسائل يجاب، وضالٌ يهدى، وجاهل يعلم، ومستفيد يفيد، وهكذا مجالس المؤمنين.
إن هذه الساعة التي نجلسها -أيها الأحبة في الله- ستمر عليكم في هذا المخيم، وستمر على مخيماتٍ كثيرة سواء أكانت في جدة أو الرياض أو مكة أو في أي مدينة أو مكان، وستشهد تلك الساعات على أصحابها إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فطوبى لعبدٍ جاهد نفسه حتى غابت شمس يومه بعملٍ صالحٍ يشهد له لا عليه، وهنيئاً لعبدٍ غلب شهواته وقاد نفسه إلى مرضاة ربه عز وجل حتى يلقى الله، وما أحقر وأصغر أقل أيام هذه الدنيا، وما هي إلا سويعات حتى نلقى الله جل وعلا.
قيل لإمام أهل السنة الجهبذ الجليل العظيم أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله! هلا ابتغينا لك حذاءً غير هذه فقد انقطع شسع نعلك، فقال أبو عبد الله: يا بني! طعامٌ دون طعام، وحذاءٌ دون حذاء، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس، حتى نلقى الله جل وعلا.
ولما سأله ولده وقد رأى ما حل به من العذاب في ثباته في المحنة بالقول بخلق القرآن، قال: يا أبت! أنت إمام السنة فمتى الراحة؟ فقال: يا بني! الراحة عند أول قدمٍ نضعها في الجنة.
أيها الأحبة: هذه مقدمة يسيرة وقصيرة، وهذا أوان الشروع في المقصود، فلقد اختار الإخوة عنواناً عجيباً غريباً، ولما قرأت الإعلان في أحد المساجد ضحكت كثيراً ودهشت كثيراً وعجبت كثيراً "ما يطلبه المستمعون" هذا برنامج يذاع بعد الظهر في الساعة الواحدة والنصف لعددٍ من الذين يطلبون عدداً من الأغاني والأغنيات، ويهدونها إلى الأصدقاء والصديقات والزملاء والزميلات، فلانة بمناسبة وضع مولودها، والأخرى بمناسبة إنجابها ابنتها، والثالث بمناسبة تخرجه من الكلية، والرابع بمناسبة عقد الخطوبة، والخامس بمناسبة شراء السيارة، والسادس بمناسبة بيع البيت، والسابع القضية أيها الأحبة: أن ما يطلبه المستمعون موضوعٌ غريب وعجيبٌ جداً، ولكن لما قلبت النظر، وفكرت كثيراً؛ تذكرت أن عندي عدداً من الأسئلة التي طالما ضاق الوقت عن الإجابة عليها في نهاية وختام بعض المحاضرات، فأعود بأسئلتي في جعبتي وأقلب الأسئلة في البيت فإذ بي أجد في الأسئلة سائلاً يقول: أريد منك أن تسمعنا آيات من القرآن، وآخر يقول: نريد أن تسمعنا شيئاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة يرغب أن يسمع حديثاً كان له أثر في حياتي، وثالث يسأل عن موقف محرجٍ وغريب وعجيب، ورابع يسأل عن أبيات من أعذب الشعر، وخامس يسأل نصيحة معينة، فجمعت هذه الأسئلة فقلت: هذا ما يطلبه المستمعون! نعم.
إن ما تسمعونه اليوم هو مجموعة من الطلبات التي جمعتها في ختام كثيرٍ من المحاضرات التي ضاق الوقت عن الإجابة على كثيرٍ من الأسئلة في ختامها، ولأجل ذلك فاسمعوا واصبروا وأعانكم الله على ما تسمعون، ويكفيك من شرٍ سماعه.(17/2)
آيات من كتاب الله
أولاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ * وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:76 - 90].(17/3)
من أحاديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم
ثانياً: حديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم له أثر بالغ عظيم في نفسي وفي نفس كل مسلم، وأنتم من أحبابنا الذين يتأثرون بكلام الله ورسوله، ذلكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جاءني جبريل وقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
وحديث آخر عذب جميل من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم يرويه ابن ماجة في سننه، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له شمله، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) حديث عظيم يخاطب وينادي كل شاب أشغله أمر المستقبل، وأهمه أمر الرزق.
أخي الكريم: إن كنت على وجلٍ من الرزق فإن الرزق محتوم ومعلوم ومكتوب منذ كنت في بطن أمك، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه وأجله وشقي أم سعيد).
الرزق معلوم فلا تجزع، والرزق مقسوم فلن تمنع.
واعلموا -أيها الأحبة- أن من أصبح وهمه رضا الله والآخرة وما يرجو به وجه الله، فإن الله سيجمع له ما تشتت، وتأتيه الدنيا راغمة، ومن أصبح وهمه الدنيا فلن يأتيه أكثر مما قسم له، ويشتت عليه أمره ويصبح عبداً لهذه الدنيا وما كانت الدنيا يوماً راغمة.(17/4)
نصيحة إلى كل شاب غافل
ثالثاً: أيها الأحبة في الله! أيها الشاب الذي سمع كثيراً عن الملتزمين والمتدينين والصالحين، هؤلاء هم إخوانك تسمع منهم الآية فيخبتوا ويخضعوا ويخشعوا لسماعها، ويسمعون الحديث فيستنبطون فوائده ومسائله، وتسمع منهم الكلمة الطيبة وترى في مُحيَّاهم علامات البشر والسماحة، وترى البسمات المنطلقات بكل تواضع ولين ومحبة في الله ولله: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).
وإلى ذلك الشاب الذي أعرض ونأى بجانبه، إلى ذلك الشاب الذي قيل له: تعال فاسمع محاضرة قال: لا حاجة لي بهؤلاء المعقدين والموسوسين.
إلى ذلك الشاب الذي قيل له: تعال واسمع نصيحة واحضر مجلساً واقرأ كتاباً واكتب كلمة نافعة، قال: إني عنهم مشغول، ويدعي أنه في شغلٍ أهم من شغل الآخرة.
أيا من يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم تعبي الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب أما أنذرك الشيب وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت أما أسمعك الصوت أما تخشى من الفوت فتحتاط وتهتم
فكم تسدر في السهو وتختال من الزهو وتَنْصَبُّ إلى اللهو كأن الموت ما عم
وحتى مَ تجافيك وإبطاء تلافيك طباعاً جمعت فيك عيوباً شملها انضم
إذا أسخطت مولاك فما تقلقُ من ذاك وإن أخفق مسعاك تلظيت من الهم
وإن لاح لك النقش من الأصفر تهتش وإن مر بك النعش تغاممت ولا غم
تعاصي الناصح البر وتعتاص وتزور وتنقاد لمن غر ومن مان ومن نم
وتسعى في هوى النفس وتحتال على الفلس وتنسى ظلمة الرمس ولا تذكر ما ثم
ولو لاحظك الحظ لما طاح بك اللحظ ولا كنت إذا الوعظ جلا الأحزان تغتم
ستذري الدم لا الدمع إذا عاينت لا جمع يقي في عرصة الجمع ولا خال ولا عم
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم
هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم
ومن بعد فلا بد من العرض إذا اعتد صراطٌ جسره مد على النار لمن أم
فكم من مرشدٍ ضل ومن ذي عزة ذل وكم من عالمٍ زل وقال الخطب قد طم
فبادر أيها الغمر لما يحلو به المر فقد كاد يهي العمر وما أقلعت عن ذم
ولا تركن إلى الدهر وإن لان وإن سر فتلفى كمن اغتر بأفعى تنفث السم
وخفض من تراقيك فإن الموت لاقيك وسارٍ في تراقيك وما ينكل إن هم
وجانب صعر الخد إذا ساعدك الجد وزم اللفظ إن ند فما أسعد من زم
ونفس عن أخي البث وصدقه إذا نث ورم العمل الرث فقد أفلح من رم
ورش من ريشه انحص بما عم وما خص ولا تأس على النقص ولا تحرص على اللم
وعاد الخلق الرذل وعود كفك البذل ولا تستمع العذل ونزهها عن الضم
وزود نفسك الخير ودع ما يعقب الضير وهيئ ركب السير وخف من لجة اليم
بذا أوصيك يا صاح وقد بحت كمن باح فطوبى لفتى راح بآدابي يأتم
أيها الشاب: لم تسمع في مجالس الخير إلا من هذه النصائح والمواعظ والفوائد.
المواعظ سياط القلوب تناديك لتخرجك من غفلة السادرين، ولتوقظك من سبات النائمين، فما الذي يحول بينك وبين التوبة، وما الذي يمنعك من الهداية، وما الذي يردك عن الاستجابة، وما الذي يردك أن تعود إلى الله فتنقلب إلى أهلك ضاحكاً مسروراً فرحاً بتوبتك، وتروح إلى ملاهيك وأشرطتك وما عندك من أمور اللهو فتنقض عليها جذاذاً ولا تدع منها شيئاً أبداً؛ توبة وعوداً ورجوعاً إلى الله جل وعلا.(17/5)
لا تساوي بين الأعمى والبصير
أخي الكريم: هل تعرف الفرق بين المهتدين والضالين؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد:16]؟ أخي الكريم: ألم تسمع قول الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] حياة الصالحين في تهجد الليل أتكون كحياة الفاسقين في كئوس الخمر؟ حياة الذين يقرءون القرآن آناء الليل ساجدين قائمين يرجون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ويخشون سوء العاقبة، أتكون كمن يسدرون ويسهرون الليالي على قنواتٍ مختلفة ومحطاتٍ ما عرضت أمام أعينهم إلا الصور العارية، والمنكرات السارية، والأمور التي لا ترضي الله جل وعلا {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] أيستوي ذلك الصالح مع الطالح؟! أيستوي الفاسق مع البر؟! أيستوي الطيب مع السيئ؟! {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]؟! أخي الكريم: هل تعرف الهداية: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] هل يستوي من يمشي على صراطٍ مستقيم ومن هو منحرف عنه؟ {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
أتظن أن الصالحين كالطالحين في حياتهم ومماتهم وليلهم ونهارهم؟!! {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28] {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].(17/6)
قل: سمعنا وأطعنا
أخي الكريم: إن أسلمت فقد اهتديت، وإن سلمت الأمر لربك فقد اهتديت، وإن قلت: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فقد اهتديت، وإن قلت: لا خيرة لي بعد أمرك يا رب وأمر رسولك صلى الله عليه وسلم فقد اهتديت.
وإن انصرفت ذات اليمين وذات الشمال وازور بك الأمر يمنة ويسرة فاعلم أنك على خطرٍ عظيم {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة:137] {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] من هم المهتدون؟ من هم الذين جاوزوا أطباق الثرى والثريا بمنة الله عليهم بهذه الهداية؟ المهتدون هم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3 - 5] المهتدون {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
فما أسباب هدايتهم؟ كيف اهتدوا؟ وكيف تميزوا؟ وكيف سادوا؟ وكيف سبقوا؟ وكيف نالوا؟ وكيف تقدموا؟ والله ما نالوا ذلك بمعادلاتٍ معقدة، ولا مشروبات عجيبة، ولا كبسولات غريبة، إنما نالوا الهداية بالطاعة، سمعوا قول الله فقالوا: سمعنا وأطعنا، سمعوا قول الله فقالوا: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، ما اختاروا لأنفسهم خيرة بعد أمر الله، ما اختاروا أمراً بعد أمر الله، ما قالوا: نقلب أو نفكر أو ننظر نتوب أو لا نتوب، نقلع عن الذنوب أو لا نقلع، نعود عن المعصية أو لا نعود، أبداً {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
والله ما اختاروا شيئاً بعد أن سمعوا كلام الله وكلام رسوله، هكذا اهتدوا، وهكذا أصبحوا في عداد المهتدين.
{قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158].
يا أيها الشاب! أتريد الهداية؟! ارم بنفسك بين يدي خالقك.
أتريد الهداية؟! اسجد نادماً، اخضع نادماً، ابك لله نادماً على ما فعلت، فإن ربك قريب ولا تحتاج توبته إلى اعترافٍ أو إلى قاضٍ أو إلى أحدٍ لتعترف بين يديه وإنما هي بينك وبين الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].(17/7)
والذين اهتدوا زادهم هدى
أيها الأحبة: ولما اهتدوا زادهم الله هدىً، أولئك الذين سلكوا طريق الهداية لما اهتدوا زادهم وآتاهم تقواهم، لقد نالوا الهداية بالانقياد وبالاستجابة وبقول: سمعنا وأطعنا {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
أما أولئك الذي ضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل، أما الذين ينهون عن الحق وينأون عنه، أما الذين لم يكفهم أن يحملوا ذنوبهم بل حملوا ذنوب غيرهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] أولئك كيف ضلوا؟ وكيف ضاعوا؟ وكيف حادوا عن جادة الصراط؟ وكيف ضلوا عن سواء السبيل؟ لقد ضلوا يوم أن زين لهم الشيطان أعمالهم، قال الله عز وجل: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24] والشيطان لا يريد بهم خيراً لما زين لهم، ذلك كما قال الله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60].
نعم لقد ضلوا بجليسٍ دعاهم إلى المعصية، ودعاية زخرفت لهم المعصية، وخيالٍ خيل لهم المعصية، ثم جلسوا يتنادون يظنون أنهم في سعادة ولكن يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
نعم.
لهم قادة في الباطل فاتبعوهم، وجعلوا لهم رءوساً في الشر فانقادوا لهم، وحسبوا أنهم يهدونهم إلى صراطٍ وهم يضلونهم إلى سوء العذاب ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما ينفعهم قولهم يوم القيامة: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] ثم يدعون على من قادهم إلى الضلالة فيقولون: {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:68].
أولئك مساكين قد غرهم كثيرٌ من الناس، وبعض الضالين إذا ناقشته في ضلاله وفي معصيته، قال لك: أكثر الناس هكذا، وأكثر الناس يفعلون هكذا، وهل الكثرة حجة؟ وهل العوام حجة؟ وهل الطغام حجة؟ وهل الفئام حجة؟ أوليس الله جل وعلا يقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] لقد اتبعت الكثرة وما ذاك إلا لهوى في النفس، ومن تبع هواه فقد ضل والله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
يا أخي الحبيب! إن طائفة من الشباب ضلوا باتباع سادة في الشر والباطل، وضلوا بسبب جلساء زينوا لهم المعاصي، وضلوا بسبب العناد والإمعان، وضلوا بسبب التكبر، بعضهم يتكبر على الحق والانقياد له، بعضهم يقول: وإذا التزمت أفأجلس مجالس هؤلاء الضعفاء أو أكون في زيهم وسمتهم، أو أحرم نفسي ما عودت نفسي عليه، لقد عود نفسه ألواناً من المنكرات ولا يريد أن يتركها، تكبر عن أمر الله وأمر رسوله.
والله جل وعلا توعد الذين يتكبرون عن الانقياد للحق بأن يصرف قلوبهم عنه، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
أولئك الذين أسرفوا في الضلالة فأضلهم الله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34] ولما أعرضوا عن ذكر الله قيض لهم شيطاناً وهو قرين لهم يقودهم ويصدهم ويغريهم ويخادعهم ويقول لهم: إنكم على حق، وصدق الله حيث قال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:26 - 38].
أيها الأحبة: إن بعض الشباب الذين ضلوا وأمعنوا في الضلالة قست قلوبهم وطال عليهم الأمد، والله يناديهم فيقول: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.
فيا أيها الشاب الذي ضل وزل وقسا قلبه: عد إلى الله فإن الله يفرح بتوبتك فرحاً عظيماً.
أخي الحبيب: والله لو اتبعت أمر الله وهدى الله فلن تجد ضنكاً ولا ضيقاً ولا سقماً ولا مرضاً: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:123 - 126].(17/8)
اللذة الحقيقية في طاعة الله
أيها الشاب: والله إن عملت صالحاً فإنا نبشرك ونهنئك ونقربك إلى حياة طيبة هي من عند الله بشارة صادقة ليست من عندي ولا من عند شيخٍ قريب ولا بعيد، يقول ربك الغني عنك: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
أيها الأحبة: إن الذين ذاقوا لذة الهداية يتحدون أعظم الناس في لذاتهم، يقول واحدٌ ممن أدركوا حلاوة الإيمان: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا بالسيوف.
ويقول آخر: إنه ليمر بالقلب أوقاتٌ يرقص فيها طرباً.
ويقول ثالث: إنه لتمر بي أوقات من لذة الهداية والخشوع والمناجاة أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيب.
انظر إلى الذين ذاقوا لذة الهداية سموا، وارتفعوا، وتجاوزوا حدود الملذات القريبة، بل أصبحوا يجدون اللذة حتى لو كانوا في المحنة وفي بلاء عظيم.
هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما سجن في دمشق في سجن القلعة، قال: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما كنت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول رحمه الله في مجلسه وهو في سجن القلعة: لو بذلت مثل هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة، وما جزيتهم -الذين تسببوا في حبسه- على ما تسببوا إلي فيه من الخير.
ويقول ابن تيمية: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
واعجبوا إلى هذا العالم الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول وقد سجن في الإسكندرية فكتب رسالة يقول فيها: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] يحدث عن نعمة وهو في السجن، يحدث عن نعمة وهو في القيد، يحدث عن نعمة وهو في الأغلال، لو أن أحداً قرأ رسالته ولم يعلم أنه في سجن لقال: إنّ هذا قد زوج أجمل النساء، وأسكن أفضل القصور، وأركب أفخر المراكب، وقدمت له خيار وكرائم الأموال، لكنه يقول وهو في سجن الإسكندرية: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
يقول: والذي أعرف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الباطنة والظاهرة، ويقول ابن تيمية أيضاً: والله الذي لا إله إلا هو إني في نعمة من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، فقد فتح الله عليَّ سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن في البال، ولم يدر في الخيال، هذا ويعرف بعضها بالذوق من له نصيبٌ من معرفة الله جل وعلا وتوحيده وحقائق الإيمان، وما هو مطلوب الأولين والآخرين من العلم والإيمان.
ثم يقول شيخ الإسلام: فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله سبحانه وتعالى، وفي توحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية.
أيها الأحبة في الله: هكذا ذاقوا الهداية فأصبحت السعادة لا تفارقهم في قصرٍ أو سجن، في سعةٍ أو ضيق، ركبوا أطيب المراكب أو مشوا حفاةً، لبسوا الخز والحرير والثياب أو مشوا بأقل من ذلك أو أدنى منه.(17/9)
احفظ الله يحفظك
إن الهداية شأنها عظيم، يحفظ الله بها عبده: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قال ابن عباس: [هم الملائكة يحفظونه بأمر الله جل وعلا].
أيها الشاب: إن اهتديت فأنت بإذن الله في عصمة بعد الهداية وملازمة إخوانك والحرص على طلب العلم ومجالس الذكر، وأنت بإذن الله في حصنٍ حصين ومكانٍ أمين بعيدٍ عن الشبهات والشهوات، قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
أيها الأحبة أيها الشاب: إن اهتديت فأنت معك فئة لا تغلب، وحارسٌ لا ينام، وهادٍ لا يضل.
وقال قتادة: [من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه نجاه:] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] الهداية ستجعل عافيتك قوية، وحواسك نافعة، وجوارحك بإذن الله تنفعك حتى آخر لحظة من حياتك.
كان العلامة القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي المتوفى سنة (450هـ) قد جاوز المائة من عمره وهو ممتعٌ بقوة وعقل، فوثب ذات يوم وثبة شديدة، فعوتب في ذلك وقالوا له: كيف وثبت هذه الوثبة وعمرك قد جاوز المائة؟ قال: هذه جوارح حفظناها عن معصية الله في الصغر، فحفظها الله لنا في الكبر.
هذه الهداية أيها الشباب! فأقبلوا وأقدموا عليها، ووالله إن المحروم من حرم الهداية وأعرض عنها.
نقول: هذا عسلٌ مصفى، فيقول بعض من أريدت به الضلالة أو اشتهى الضلالة: لا.
أريد ماء مكدراً نجساً مخلطاً.
يقال: هذا عودٌ طيبٌ طاهرٌ ورائحة طيبة، فيقول: لا.
أريد رائحة فيها نتنٌ وفيها ذخرٌ ونجاسة.
يقال: هذه رفعة، فيختار ذلة.
يقال: خذ كرامة، فيختار هواناً.
يقال: خذ خيراً كثيراً، فيختار شراً وفيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة: إن لذة الحياة وجمالها وقيمة السعادة وكمالها لا تكون إلا في طاعة الله التي لا تكلف الإنسان شيئاً سوى الاستقامة على أمر الله وسلوك طريقه ليسير المهتدي بعد ذلك مطمئن الضمير، مرتاح البال، هادئ النفس، دائم البشر، طلق المحيا، وأبشر والله لو صممت وعزمت واجتهدت وحرصت على الهداية فإن الله يدنيها إليك، ويقربها بين يديك.
أخي الكريم: إنك إن أعرضت عن الهداية واخترت الضلالة فلا تزال في نكدٍ وكبدٍ وضيقٍ وانقباضٍ وشكٍ، وانظر إلى أحوال الضالين الذين دعوا فلم يستجيبوا، ونصحوا فلم ينتصحوا، وأهدوا الشريط فلم يسمعوه، وقدم لهم الكتاب فلم يقرءوه، ودعوا إلى المحاضرة والمخيم والندوة والفائدة فلم يلتفتوا إليها، انظر ما هم فيه من حال: سهرٌ على معصية، نومٌ عن صلاة الفجر، تفوتهم المنافع والأرزاق، في الصباح في شقاقٍ مع أزواجهم، في مصائب، المعاصي تقودهم رويداً رويداً، فمجلس لهوٍ فدخانٍ فمخدراتٍ فمسكراتٌ ثم سرقة ثم معصية ثم قطع طريق وما أكثر الذين لم يعرفوا أنهم قد ضلوا وزلوا إلى أن أوشكت أن تطير رقابهم في ساحات العدل.
هذه نصيحة قد طلبت مني فأنا أقدمها لكم وأقول لكل مهتدٍ: اثبت {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود:112] وأقول لكل ضال: عد إلى الله عد إلى ربك وأذكرك بقول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].(17/10)
موقف محرج
رابعاً: أنتقل بكم بعد ذلك أيها الأحبة إلى الفقرة الرابعة من برنامج " ما يطلبه المستمعون " وهي فقرة غريبة طالما سئلت عنها، وهي: أي موقف محرجٍ مر عليك؟ المواقف الحرجة كثيرة: وأختار منها موقفاً غريباً، أنتم تعرفون شريط (حاولنا فوجدنا النتيجة)، هذا هو حلقة ثانية بعد شريط (حاول وأنت الحكم) صليت ذات يومٍ في مسجدٍ من المساجد فقام شابٌ عليه سيما الخير، وأخذ ينصح الناس ويعظهم ويأمرهم ويدعوهم إلى الله جل وعلا، ويحثهم على التوبة ويقربها بين يديهم، قال: وإني أنصحكم بسماع شريط (حاولنا فوجدنا النتيجة) فإن فيه قصة ثلاثة كانوا فجاراً فساقاً عصاة، منهم: سعد البريك وصالح الحميدي وفهد بن سعيد، وإن الله مَنَّ عليهم بالتوبة والهداية، لقد كانوا مجرمين وقطاع طرق وفجرة وكانوا وكانوا وأخذ يرمينا بأخبث الصفات وأقبح العبارات.
وأنا إن خرجت من المسجد قال الناس: نعم.
إذاً كان مجرماً من قبل ولذلك خرج، وإن جلست في المسجد أخذ الناس ينظرون إلي، وأنا في حرجٍ عظيم، وإن قمت أقاطعه أخشى أن أحرجه وأحرج نفسي معه.
فسكت حتى انتهى ثم أمسكت به فيما بعد، وقلت له: هل تعرف أن سعد البريك كان مجرماً من قبل؟ قال: هكذا فهمت من الشريط.
فقلت: والله يا أخي الكريم! على أية حال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، لكن اعلم أن الله سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بنعمة العقل والرشد والتمييز ونشأنا في أسرة طيبة، وبتربية أبٍ أسأل الله أن يحرمه وإياكم وآباءكم على النار، ومنذ الصغر ما عرفنا -ولله الحمد- ضلالة مما ذكرت أو جريمة كما وصفت، أو قطع طريق أو فسقاً كما ذكرت، ولكن يا أخي الكريم تثبت ولا ترم إخوانك بما لا تعلم، فهذا من المواقف المحرجة.(17/11)
أبيات نبطية في الجهاد
أحد الإخوة طلب مني أن أسوق له قصيدة كنت قد تمثلت ببعض أبياتها، وهي قصية نبطية ولكنها جميلة، كان يرددها رجلٌ يقال له: أبو طارق، وقد قتل في أفغانستان رحمه الله في تلك الأيام العصيبة العظيمة التي كان الروس فيها ينزلون إنزالاً مظلياً على المجاهدين، عندما كان المجاهدون قد طردوا ودحروا الروس والشيوعيين، تقول هذه القصيدة:
يا عرب يا عجم يا ترك يا بربر يا حماة العقيدة دينكم واحد
راية الحق والتوحيد لا تقهر ارفعوها وحطوا راية الجاحد
وحدوا صفكم واقضوا على المنكر واستعيدوا لنا تاريخنا الخالد
شعبنا الأفغان يسقي الروس موت احمر واكتسح كبرياهم شعبنا الصامد
يا سمرقند يا القوقاز أقولها كذا بنفس اللغة؛ لأن الشاعر كان من أهل اليمن، أسأل الله أن يدخله الجنة، يقول:
يا سمرقند يا القوقاز قم وازأر يا بخارى بلاد العالم الماجد
شعبنا بعد غفلة صابته فكر واكتشف ما جناه الكافر الحاقد
والجهاله من الطاغوت والعسكر تمنع اللي صحا لا ينبه الراقد
من تجرأ وقال الحق في المنبر قالوا إنه عدو الناس والقايد
من دعا للخلاعة عندهم يذكر مذهب الكفر لا ناقص ولا زايد
يا بني ديننا حكم من بلاد ابتر بدلوا ديننا بالمذهب الفاسد
يا بني ديننا صوت الندا يزأر شعبنا كم تكبد ظلم ويكابد
واحمل السيف والصاروخ والخنجر والمجاهد بحق أفضل من القاعد
والطواغيت ولىَّ شرهم وادبر راح وقت العمالة والله الشاهد
صبح الإسلام عقب الليل قد نور والخلافة على منهاجها الراشد
يا عرب يا عجم يا ترك يا بربر يا حماة العقيدة دينكم واحد
من أجمل ما سمعت من الشعر النبطي الذي يثير الشباب إلى الحماس في الجهاد في سبيل الله جل وعلا.(17/12)
مواقف محرجة أخرى
كذلك مما يطلبه المستمعون وهو موقف غريب عجيب في إحدى المحاضرات الشيخ يوسف يذكرني بأحد المواقف لعله كان قد سمع به.
نعم.
يا أخي الكريم! في إحدى المحاضرات يمكن أن نقوله من المواقف المحرجة: كنا في مسجدٍ وتعرفون الشباب من حماسهم يتقدمون ويتحلقون حول المحاضر حتى يصبح الذين في الصف الأول يصبحون في الصف الثاني أو الثالث يعني يتقدم على الصف الأول صفان من الشباب ويتحلقون حول الإمام، فلما انتهت المحاضرة وجاء المؤذن ليقيم الصلاة إذ بالمؤذن بينه وبين الميكرفون تقريباً حوالي صفين من الشباب فقال: (هو دين ولا تين)؟ كنا في الأول وصرنا في الثالث، فحقيقة مكثت أضحك هنيهة من هذا المثل الجميل (هو دين ولا تين)، قلنا له: في الحقيقة إنه دين بإذن الله جل وعلا، والمحاضرة من الدين.
كذلك من الأمثال الجميلة التي يمكن أن يضرب بها المثل لبعض الشباب، ولو كنا في مجلس لربما تأدبنا أو كان من واجبنا أن نتأدب في المسجد، لكن ما دمنا في الخلاء فلا بأس أن نمرح ونضحك معكم، وأسأل الله أن يجعل ذلك في موازين أعمالنا وإياكم جميعاً في الحسنات بإذن الله.
في إحدى المحاضرات كنا نضرب مثلاً لبعض الشباب الذين يقولون: إننا لا نستطيع أن نترك هذا المنكر أو لا نترك هذه الخطيئة.
فنقول لهم: يا أخي الكريم! يا أخي الشاب! إن المعصية جزء كبير منها نوع من التعود، حتى إن بعض الشباب أصبح يمارس المعصية دون لذة بالمعصية ولكن لمجرد التعود عليها، فتجده والعياذ بالله يمعن في المعصية مرة ومرتين وثلاث وأربع وربما الأولى فيها لذة، ولكن الثانية والثالثة والرابعة هي في الحقيقة من باب التعود، ومن تعود على شيء والعياذ بالله وخاصة من أمور الشر فإنه يصبح مدمناً له فيفعله وربما مات عليه وإنا لله وإنا إليه راجعون.
على أية حال يضرب مثلاً قد يكون حقيقياً والظاهر أنه من باب الخيال أو الدعابة على أن التعود له أثرٌ عظيم حتى على البهائم: فيروى أن رجلاً كان عنده حوش، وكان في هذا الحوش أنواعٌ مختلفة من الغنم، نعيمي وبربري وعنز وأشكال مختلفة، وعددٌ لا بأس به من هؤلاء، فذات يوم تسلط بعضهم على بعض يتناطحون ويتسابون ويتشاتمون حتى ارتفع صوت رغائهم وقلبوا القدور وآذوا الجيران، فالتفت الرجل يطل من صفحة الدار على غنمه فوجدهم في معركة عظيمة، وأراد أن يسكتهم فما استطاع أن يصل إلى ذلك سبيلاً، فقام من شدة غيظه وحنقه على غنمه أن قام وفتح البوابة وركبهم جميعاً في (الونيت) وراح يفحط بهم ويدور ويرقى بهم محطات ويريد أن يقلبهم يميناً ويساراً وفرامل وسحب جلنط، (حاس بهم حوساً) حتى داخت رءوس الغنم وجاء بها في الليل وفتح الباب وكل واحد قد مسك جداراً ونام، ما استطاعوا أن يطيقوا شيئاً بعد تلك التجزيعات والتفحيطات والجلنطات ونحو ذلك، فلما جاء من الغد ما سمع للغنم صوتاً أبداً لا طبيعي، ولا صوت إزعاج، فقام وطل عليهم من السطح لينظر أين هن فلم يجدها في الحوش، فالتفت إلى الشارع فوجدها قد ركبت في السيارة ينتظرنه.
فعلى أية حال: من تعود على شيء أدمنه، حتى الغنم تعودت التفحيط وأصبحت تخرج من الحوش لتنتظر ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، وينبغي أن تبلغوا عن مثل هؤلاء إذا رأيتموهم.
وهذا المثال أيضاً أو هذه الطرفة تضرب في شأن الذين كانوا فنانين وتركوا الفن ولكن لا يزال بعض أتباع الفنانين مصرين على الفن، تجد حتى هذا في الشيوعية والصنم الشيوعي هوى، الشيوعية سقطت، والفكرة انهارت وما عاد لها مبادئ وأسس، وتجد الناس لا يزالون يترنمون بـ الشيوعية.
كذلك بعض أهل التمثيل والسينما تابوا وعادوا ورجعوا ولا يزال بعض أتباعهم يمجدون السينما والتمثيل ويصيحون عليها مرات ومرات، فبهذا الأمر يضرب مثلٌ غريب.
يقال: إن ثلاثة كانوا في مطعم وأحدهم يتأهب للسفر، فجلسوا في هذا المطعم يأكلون ريثما يحين موعد انطلاق القطار، فما هي إلا لحظات حتى سمعوا صافرة القطار وهو يوشك أن ينطلق ويتحرك، فما كان من هؤلاء الثلاثة إلا أن أسرعوا سرعة عظيمة يريدون أن يلحقوا بالعربة، فركب اثنان منهم ورجع الثالث يضحك ضحكاً غريباً يقهقه، فقابله رجل وقال: لماذا تضحك؟ قال: أصلاً أنا الذي سأسافر وهؤلاء جاءوا لكي يودعوني.
فعلى أية حال: هذا الذي هو صاحب الفن قد رجع تائباً لكن المودعين قد ركبوا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(17/13)
أبيات في وصف الجنة وحورها من النونية
سابعاً: أخيراً: أيها الأحبة نختم هذه الجلسة الطيبة معكم بواحدة من قصيدتين ولعلها هي من أكثر الطلبات التي وردتني في الأسئلة وهي من قصيدة النونية الشافية الكافية لـ ابن قيم الجوزية رحمه الله، وقصيدة أخرى بعنوان:
خل ادكار الأربع والمعهد المرتبعِ
والظاعن المودع وعدِّ عنه ودعِ
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
هذه قصيدة جميلة جداً لكن أحيلكم إلى شريط بعنوان: (الغنيمة الضائعة) فقد ذكرت هذه القصيدة بكاملها أو أغلبها، ولعل الوقت لا يسمح بذكرها تامة.
أختم هنا بشيءٍ من أبيات ابن قيم الجوزية رحمه الله من النونية الشافية الكافية: يقول فيها رحمه الله:
سبحان ذي الجبروت والملكوت والـ إجلال والإكرام والسبحان
والله أكبر عالم الإسرار والـ إعلان واللحظات بالأجفان
والحمد لله السميع لسائر الـ أصوات من سرٍ ومن إعلان
وهو الموحد والمسبح والممجد والحميد ومنزل القرآن
والأمر من قبل ومن بعد له سبحانك اللهم ذا السلطان(17/14)
دعوة إلى طالب الجنة
ثم يدعو ابن القيم إلى المسابقة إلى طلب الجنة وأنتم أيها الأحبة تعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وإن مما يطيب نفس المؤمن والمؤمنة، والرجل والمرأة، والذكر والأنثى؛ أن الجميع الذين يطمعون بالجنة بإذن الله، سيجدون نعيماً ولذة عظيمة تنسي كل ملذات هذه الدنيا، وتنسي شقاء الدنيا أيضاً كما في الحديث: (يؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً فيغمس في الجنة غمسة واحدة فيقول الله: يا عبدي هل مر بلك بؤسٌ قط؟ فيقول: لا يا رب ما مر بي بؤسٌ قط) فينادي ابن القيم الخاطبين الراغبين في الجنات:
يا خاطب الحور الحسان وطالباً لوصالهن بجنة الحيوان
لو كنت تدري من خطبت ومن طلبت بذلت ما تحوي من الأثمان
أو كنت تدري أين مسكنها جعلت السعي منك لها على الأجفان
ولقد وصفت طريق مسكنها فإن رمت الوصال فلا تكن بالواني
أسرع وحث السير جهدك إنما مسراك هذا ساعة لزمان
فاعشق وحدث بالوصال النفس وابذل مهرها ما دمت ذا إمكان
واجعل صيامك قبل لقياها ويو م الوصل يوم الفطر من رمضان
ونحن بحلول شهر رمضان أو بقرب حلول شهر رمضان ينبغي أن نستعد بأن نبني أعمالاً صالحة على توبة صادقة؛ فإن الذي يبني أعمالاً مخلطة أو أعمالاً على ذنوبٍ ومعاصٍ، كمن يبني داراً على شفا جرف هار فيوشك أن ينهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لا يلهينك منزلٌ لعبت به أيدي البلى مذ سالف الأزمان
فلقد ترحل عنه كل مسرة وتبدلت بالهم والأحزان
سجن يضيق بصاحب الإيمان لكن جنة المأوى لذي الكفران
سكانها أهل الجهالة والبطـ ـالة والسفاهة أنجس السكان
أي: المشغولين بحطام الدنيا المعرضين عن أمر الله.
والله لو شاهدت هاتيك الصدو ر رأيتها كمراجل النيران
ووقودها الشهوات والحسرات والـ آلام لا تخبو مدى الأزمان
أبدانهم أحداث هاتيك النفو س اللاء قد قبرت مع الأبدان
أرواحهم في وحشة وجسومهم في كدحها لا في رضا الرحمن
لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم فقد ارتضوا بالذل والحرمان
هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان
لو ساوت الدنيا جناح بعوضة لم يسق منها الرب ذا الكفران
لكنها والله أحقر عنده من ذا الجناح القاصر الطيران
يا عاشق الدنيا تأهب للذي قد ناله العشاق كل زمان
أو ما سمعت بل رأيت مصارع الـ عشاق من شيبٍ ومن شبان(17/15)
ما أعد الله لساكني الجنة فيها
ثم يقول في وصف الجنة التي أعدها الله للمتمسكين بالكتاب والسنة الملتزمين بأمر الله وأمر رسوله:
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعميها باقٍ وليس بفان
درجاتها مائة وما بين اثنتين فذاك في التحقيق للحسبان
مثل الذي بين السماء وبين ها ذي الأرض قول الصادق البرهان
لكنَّ عاليها هو الفردوس مس قوفٌ بعرش الخالق الرحمن
أبوابها حقاً ثمانية أتت في النص وهي لصاحب الإحسان
ولسوف يدعى المرء من أبوابها جمعاً إذا وفى حلى الإيمان
منهم أبو بكر هو الصديق ذا ك خليفة المبعوث بالقرآن
هذا وفتح الباب ليس بممكنٍ إلا بمفتاحٍ على أسنان
مفتاحه بشهادة الإخلاص والتـ توحيد تلك شهادة الإيمان
أسنانه الأعمال وهي شرائع ال إسلام والمفتاح بالأسنان
هذا ومن يدخل فليس بداخلٍ إلا بتوقيعٍ من الرحمن
لا تلغين هذا المثال فكم به من حل إشكال لذي العرفان
وكذاك يكتب للفتى لدخوله من قبل توقيعان مشهوران
هذا وأول زمرة فوجوههم؛ هذه أول زمرة تدخل الجنة يذكر ابن القيم صفاتهم يقول:
هذا وأول زمرة فوجوههم كالبدر ليل الست بعد ثمان
السابقون هم وقد كانوا هنا أيضاً أولي سبقٍ إلى الإحسان
والزمرة الأخرى كأضوء كوكبٍ في الأفق تنظره به العينان
أمشاطهم ذهب ورشحهم فمسك خالصٌ يا ذلة الحرمان
ويرى الذين بذيلها من فوقهم مثل الكواكب رؤية بعيان
ما ذاك مختصاً برسل الله بل لهم وللصديق في الإيمان
هذا وأعلاهم فناظر ربه في كل يومٍ وقته الطرفان
لكن أدناهم وما فيهم دني إذ ليس في الجنات من نقصان
فهو الذي مسافة ملكه بسنيننا ألفان كاملتان
فيرى بها أقصاه وحقاً مثل رؤ يته لأدناه القريب الداني
أو ما سمعت بأن آخر أهلها أي: آخر من يدخل الجنة من أهل الجنة وآخر من يخرج من النار.
أو ما سمعت بأن آخر أهلها يعطيه رب العرش ذو الغفران
أضعاف دنيانا جميعاً عشر أمـ ثالٍ لها سبحان ذي الإحسان
ألوانهم بيضٌ وليس لهم لحى جعد الشعور مكحلو الأجفان
هذا كمال الحسن في أبشارهم وشعورهم وكذلك العينان(17/16)
رؤية الله عز وجل
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن ينظرون إلى وجهه الكريم، وألا يجعلنا من الذين يحجبون عن رؤية وجه ربهم جل وعلا:
والله لولا رؤية الرحمن في الـ جنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه وخطابه في جنة الحيوان
وأشد شيء في العذاب حجابه سبحانه من ساكني النيران
وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي هم فيه مما نالت العينان
فلهم نعيمٌ عند رؤيته سوى هذا النعيم فحبذا الأمران
والله ما في هذه الدنيا ألذ من اشتياق العبد للرحمن
وكذاك رؤية وجهه سبحانه هي أكمل اللذات للإنسان(17/17)
ريح الجنة وأرضها
والريح يوجد من مسيرة أر بعين وإن تشأ مائة فمرويان
قد أفلح العبد الذي هو مؤمن ماذا ادخرت له من الإحسان
فيها الذي والله لا عين رأت كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلبٍ به خطر المثال له تعالى الله ذو السلطان
وبناؤها اللبنات من ذهبٍ وأخـ ـرى فضة نوعان مختلفان
وقصورها من لؤلؤ وزبرجدٍ أو فضة أو خالص العقيان
والأرض مرمرة كخالص فضة مثل المراة تنالها العينان
غرفاتها في الجو يُنْظَرُ بطنها من ظهرها والظهر من بطنان
للعبد فيها خيمة من لؤلؤٍ قد جوفت هي صنعة الرحمن
ستون ميلاً طولها في الجو في كل الزوايا أجمل النسوان
أين الشباب العزاب الذين ينظرون إلى النعيم؛ نعيم الجنة سبعون حورية يا إخوان، أين الشباب الذين يريدون أن يخطبوا إلى الرحمن الحور العين مهرها العمل الصالح:
ما في الخيام سوى التي لو قابلت للنيرين لقلت منكسفان
لله هاتيك الخيام فكم بها للقلب من علقٍ ومن أشجان
فيهن حورٌ قاصرات الطرف خيـ رات حسان هن خير حسان
أشجارها نوعان منها ما له في هذه الدنيا مثال ثان
يكفي من التعداد قول إلهنا من كل فاكهة بها زوجان
يا طيب هاتيك الثمار وغرسها في المسك ذاك الترب للبستان
بل ذللت تلك القطوف فكيفما شئت انتزعت بأسهل الإمكان
أو ما سمعت بظل أصلٍ واحدٍ فيه يسير الراكب العجلان(17/18)
الغناء والطرب واللذة في الجنة
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
أو ما سمعت سماعهم فيها غناء الحور بالأصوات والألحان
واهاً لذياك السماع فإنه ملئت به الأذنان بالإحسان
واهاً لذياك السماع وطيبه من مثل أقمارٍ على أغصان
واهاً لذياك السماع فكم به للقلب من طربٍ ومن أشجان
وهذا السماع كما في الحديث: (إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن بأصواتٍ لم تسمع الخلائق بمثلها، يقلن -ويغنين الحور العين- نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبئس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنا له) ثم يقول ابن القيم:
نزه سماعك إن أردت سماع ذياك الغنا عن هذه الألحان
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
إن اختيارك للسماع النازل الـ أدنى على الأعلى من النقصان
والله إن سماعهم في القلب والإ يمان مثل السم في الأبدان
والله ما انفك الذي هو دأبه أبداً من الإشراك بالرحمن
فالقلب بيت الرب جل جلاله حباً وإخلاصاً مع الإحسان
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلان
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمان
واللهو خف عليهم لما رأوا ما فيه من طربٍ ومن ألحان(17/19)
أنهار الجنة ومأكل أهلها ومشربهم
أنهارها في غير أخدودٍ جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
عسل مصفى ثم ماءٌ ثم خمـ ر ثم أنهار من الألبان
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طيرٍ ناعم وسمان
لحمٌ وخمرٌ والنسا وفواكه والطيب مع روح ومع ريحان
يسقون فيها من رحيقٍ ختمه بالمسك أوله كمثل الثاني
هذا وتصريف المآكل منهم عرقٌ يفيض لهم من الأبدان
كروائح المسك الذي ما فيه خلـ ـط غيره من سائر الألوان
فتعود هاتيك البطون ضوامراً تبغي الطعام على مدى الأزمان
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن أهل الجنة يأكلون ويشربون: فهل يأكلون عن جوع ويشربون عن ظمأ؟ قال: لا، ولكن لكي ينالوا لذة الأكل فقط، ولذة الشرب، وإلا فإن في الجنة لا يجوع أحدٌ ولا يظمأ ولا يعرى، ولكن لأجل لذة الأكل والشرب.(17/20)
لباس أهل الجنة
ثم يقول ابن القيم:
وهم الملوك على الأسرة فوق ها تيك الرءوس مرصع التيجان
ولباسهم من سندسٍ خضرٍ ومن استبرق نوعان معروفان
ونصيف إحداهن وهو خمارها ليست له الدنيا من الأثمان
والفرش من استبرق قد بطنت ما ظنكم بظهارة لبطان
مرفوعة فوق الأسرة يتكي هو والحبيب بخلوة وأمان
يتحدثان على الأرائك ما ترى حبين في الخلوان ينتحبيان
هذا وكم زريبة ونمارق ووسائدٍ صفت بلا حسبان(17/21)
وصف الحور العين
ثم يقول في صفة عرائس الجنة، وحسنهن وجمالهن ولذة وصالهن ومهرهن:
يا من يطوف الكعبة الحصن التي حفت بذاك الحجر والأركان
من قاصرات الطرف لا تبغي سوى محبوبها من سائر الشبان
يا مطلق الطرف المعذب في الأُلى جردن عن حسنٍ وعن إحسان
لا تسبينك صورة من تحتها الد اء الدوي تبوء بالخسران
فانظر مصارع من يليك ومن خلا من قبل من شيبٍ ومن شبان
إن كان قد أعياك خودٌ مثلما تبغي ولم تظفر إلى ذا الآن
فاخطب من الرحمن خوداً ثم قدم مهرها ما دمت ذا إمكان
ذاك النكاح عليك أيسر إن يكن لك نسبة للعلم والإيمان
والله لم تخرج إلى الدنيا للذة عيشها أو للحطام الفاني
لكن خرجت لكي تعد الزاد لـ لأخرى فجئت بأقبح الخسران
أهملت جمع الزاد حتى فات بل فات الذي ألهاك عن ذا الشان
والله لو أن القلوب سليمةٌ لتقطعت أسفاً من الحرمان
لكنها سكرى بحب حياتها الد نيا وسوف تفيق بعد زمان
فاسمع صفات عرائس الجنات ثم اختر لنفسك يا أخا العرفان
حورٌ حسانٌ قد كملن خلائقاً ومحاسناً من أجمل النسوان
حتى يحار الطرف في الحسن الذي قد ألبست فالطرف كالحيران
ويقول لما أن يشاهد حسنها سبحان معطي الحسن والإحسان
والطرف يشرب من كئوس جمالها فتراه مثل الشارب النشوان
كملت خلائقها وأكمل حسنها كالبدر ليل الست بعد ثمان
والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصان
فتراه يعجب وهو موضع ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان
فيقول سبحان الذي ذا صنعه سبحان متقن صنعة الإنسان
وكلاهما مرآة صاحبه إذا ما شاء يبصر وجهه يريان
فيرى محاسن وجهه في وجهها وترى محاسنها به بعيان
حمرُ الخدود ثغورهن لآلأً سود العيون فواتر الأجفان
والبرق يبدو حين يبسم ثغرها فيضيء سقف القصر بالجدران
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً يبدو فيسأل عنه من بجنان
فيقال هذا ضوء ثغرٍ ضاحكٍ في الجنة العليا كما تريان
يلمع برقٌ في الجنة فيسأل أهل الجنة: ما هذا البرق؟ ما هذا الضوء الذي خطف الأبصار؟ فيقال: هذه حورية لواحد من أهل الجنة العليا ابتسمت لزوجها في الجنة، فلمع ذلك البرق أو ظهر ذلك الضوء.
لله لاثم ذلك الثغر الذي في لثمه إدراك كل أمان
ريانة الأعطاف من ماء الشبا ب فغصنها بالماء ذو جريان
لما جرى ماء النعيم بغصنها حمل الثمار كثيرة الألوان
والقدر منها كالقضيب اللدن في حسن القوام كأوسط القضبان
في مغرس كالعاج تحسب أنه عالي النقا أو واحد الكثبان
لا الظهر يلحقها وليس ثديها بلواحق للبطن أو بدوان
لكنهن كواعبٌ ونواهد فثديهن كألطف الرمان
والله جل وعلا يقول: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:33]
والجيد ذو طولٍ وحسنٍ في بيا ض واعتدالٍ ليس ذا نكران
يشكو الحلي بعاده فله مدى الـ أيام وسواسٌ من الهجران
والمعصمان فإن تشأ شبههما بسبيكتين عليهما كفان
كالزبد لين في نعومة ملمسٍ أصداف در دورت بوزان
والصدر متسع على بطنٍ لها حفت به خصران ذات ثمان
وعليه أحسن سرة هي مجمع الـ خصرين قد غارت من الأعكان
حق من العاج استدار وحوله حبات مسكٍ جل ذو الإتقان
قاما بخدمته هو السلطان بيـ نهما وحقٌ طاعة السلطان
ثم استحيا ابن القيم رحمه الله وقال:
وإذا انحدرت رأيت أمراً هائلاً ما للصفات عليه من سلطان
وهو المطاع أميره لا ينثني عنه ولا هو عنده بجبان
وجماعها فهو الشفاء لصبها فالصب منه ليس بالضجران
وإذا يجامعها تعود كما أتت بكراً بغير دمٍ ولا نقصان
فهو الشهي وعضوه لا ينثني جاء الحديث بذا بلا نكران
ولقد روينا أن شغلهم الذي قد جاء في "يس" دون بيان
شغل العروس بعرسه من بعد ما عبثت به الأشواق طول زمان
بالله لا تسأله عن أشغاله تلك الليالي شأنه ذو شان
واضرب لهم مثلاً بصبٍ غاب عن محبوبه في شاسع البلدان
والشوق يزعجه إليه وما له بلقائه سببٌ من الإمكان
وافى إليه بعد طول مغيبه عنه وصار الوصل ذا إمكان
أتلومه إن صار ذا شغلٍ به لا والذي أعطى بلا حسبان
يا رب غفراً قد طغت أقلامنا يا رب معذرة من الطغيان
أقدامها من فضة قد ركبت من فوقها ساقان ملتفان
والساق مثل العاج ملموم يرى مخ العظام وراءه بعيان
والريح مسكٌ والجسوم نواعمٌ واللون كالياقوت والمرجان
وكلامها يسبي العقول بنغمة زادت على الأوتار والعيدان
وهي العروب بشكلها وبدلها وتحببٌ للزوج كل أوان
وهي التي عند الجماع تزيد في حركاتها للعين والأذنان
لطفاً وحسن تبعلٍ وتغنجٍ وتحببٍ تفسير ذي العرفان
يقول الله: {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37]
أتراب سنٍ واحدٍ متماثلٍ سن الشباب لأجمل الشبان
بكرٌ فلم يأخذ بكارتها سوى الـ محبوب من إنس ولا من جان
يعطى المجامع قوة المائة التي اجـ ـتمعت لأقوى واحد الإنسان
وأعفهم في هذه الدنيا هو الـ الأقوى هناك لزهده في الفاني
فاجمع قواك لما هناك وغمض الـ عينين واصبر ساعة لزمان
ما ها هنا والله ما يسوى قلا مة ظفر واحدة ترى بجنان
وإذا بدت في حلة من لبسها وتمايلت كتمايل النشوان
تهتز كالغصن الرطيب وحمله ورد وتفاح على رمان
وتبخترت في مشيها ويحق ذا ك لمثلها في جنة الحيوان
ووصائف من خلفها وأمامها وعلى شمائلها وعن أيمان
كالبدر ليلة تمه قد حف في غسق الدجا بكواكب الميزان(17/22)
مقابلة المسلم زوجته في الجنة
حتى إذا ما واجهته تقابلاً أرأيت إذ يتقابل القمران
فسل المتيم هل يحل الصبر عن ضمٍ وتقبيلٍ وعن فلتان
وسل المتيم أين خلف صبره في أي وادٍ أم بأي مكان؟
وسل المتيم كيف حالته وقد ملئت له الأذنان والعينان
من منطقٍ رقت حواشيه ووجه كم به للشمس من جريان
يتساقطان لآلئاً منثورة من بين منظومٍ كنظم جمان
وسل المتيم كيف مجلسه مع الـ محبوب في روحٍ وفي ريحان
وتدور كاسات الرحيق عليهما بأكف أقمار من الولدان
يتنازعان الكأس هذا مرة والخوذ أخرى ثم يتكئان
فيضمها وتضمه أرأيت معشوقين بعد البعد يلتقيان
غاب الرقيب وغاب كل منكدٍ وهما بثوب الوصل مشتملان
أتراهما ضجرين من ذا العيش لا وحياة ربك ما هما ضجران
ويزيد كلٌ منهما حباً لصا حبه جديداً سائر الأزمان
ووصاله يكسوه حباً بعده متسلسلاً لا ينتهي بزمان
فالوصل محفوف بحبٍ سابقٍ وبلاحقٍ وكلاهما صنوان(17/23)
تنبيه إلى كل ناعس بأن يتيقظ
يا غافلاً عما خلقت له انتبه جد الرحيل فلست باليقظان
سار الرفاق وخلفوك مع الألى قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من ترى متخلفاً فتبعتهم ورضيت بالحرمان
لكن أتيت بخطتي عجزٍ وجهل بعد ذا وصحبت كل أمان
منَّتك نفسك باللحاق مع القعود عن المسير وراحة الأبدان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
بالله ما عذر امرئ هو مؤمنٌ حقاً بهذا ليس باليقظان
لكن قلبك في القساوة جاز حد الصخر والحصباء في أشجان
لو هزك الشوق المقيم وكنت ذا حسٍ لما استبدلت بالأدوان
أو صادفت منك الصفات حياة قلب كنت ذا طلب لهذا الشان
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ بين الأراذل سلفة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطبٍ فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلفٍ وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن
فبأي وجه ألتقي ربي إذا أعرضت عن ذا الوحي طول زمان
يا معرضاً عما يراد به وقد جد المسير فمنتهاه داني
دع ما سمعت الناس قالوه وخذ ما قد رأيت مشاهداً بعيان
والله لو جالست نفسك خالياً وبحثتها بحثاً بلا روغان
تالله لو شاقتك جنات النعيم طلبتها بنفائس الأثمان
رحم الله ابن القيم رحمة واسعة، كان شاعراً بليغاً فصيحاً أجاد وصف الجنة وحورها ونعيمها، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وعذراً على الإطالة عليكم، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(17/24)
الأسئلة(17/25)
مراجع لحياة ابن القيم ونونيته
السؤال
ما هو المرجع الذي تدلنا عليه للتعرف على حياة ابن القيم؟ وآخر يقول: أين نجد هذه القصيدة؟
الجواب
أما حياة ابن القيم رحمه الله فتجدها مصنفة أو تجدها منثورة ربما في بعض أو في مقدمة كثيرٍ من كتبه مثل الذين حققوا زاد المعاد في هدي خير العباد، وربما في بعض طبعات طريق الهجرتين، وفي كتاب الروح وحادي الأرواح، وكثيراً من مقدمات كتبه تجد ترجمة لحياته رحمه الله.
وأما هذه القصيدة فهي في آخر الكتاب الموسوم المعروف بـ الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، وهو كتابٌ جميلٌ جداً ويقرأه كثير من طلبة العلم، إذ إنه كله في العقائد والتوحيد والشرائع والأحكام وفي الرد على طوائف الضلال، خاصة الذين ضلوا في بعض الصفات ضلالاً بعيداً.(17/26)
نصيحة للمبتدئ بطلب العلم
السؤال
أنا شاب في بداية الطريق المستقيم وأرغب -إن شاء الله- في علم الفقه فما نصيحتك لي؟
الجواب
ننصحك يا أخي الكريم بأن تأخذ العلم بمسائله المختصرة الصغيرة ثم الوسطى ثم الكبيرة منها؛ لأنه ليس من صالح المبتدئ أن يبدأ بالمطولات، وطريقة علماء هذه البلاد خاصة وكثيرٌ من أهل العلم من غيرهم عامة أن يبدأ المبتدئ بالمختصرات ثم بالشروح ثم بالمطولات، وعليك أن تحضر حلقة أو حلقاتٍ باستمرار، وأن يكون كتابك معك، وقلمك الذي تضيف فيه الفوائد على كتابك الذي تقرأ فيه، مستمعاً مراجعاً قبل الدرس مستذكراً قبله ومتأكداً بعده، فإن في ذلك خيرٌ عظيم بإذن الله وهذا الذي ننصحك به.(17/27)
التوبة من عقوق الوالدين
السؤال
بت البارحة خارج البيت في المخيم -ليس هذا المخيم- مع شباب عصاة، وأبي وأمي غاضبين فبماذا تنصحني؟
الجواب
يا أخي الكريم! الأولى أن تقول: ربما جالست أقواماً عصاة فلم يكون سهرك معهم على طاعة الله، ولا أقل من أن يكون في ذلك معصية لله، فأنت أغضبت الله قبل أن تغضب والديك، وهذا مما يجعل الإثم متضاعفاً، فتب إلى الله وإياك بأن تسهر أو تخلو أو تبقى أو تمكث مع أناسٍ يعينونك على المعصية، زد على ذلك أن والديك ساخطون عليك، فاتق الله واطلب منهم الرضا واطلب من ربك التوبة والمغفرة؛ فإن الله غفور رحيم إذا صدقت منك التوبة.(17/28)
نصيحة لمن يعارض والده ذهابه للمحاضرات
السؤال
أنا شاب أحب حضور المحاضرات ولكن الوالد يرفض ذلك، فهل ذلك من عقوق الوالدين؟
الجواب
على أية حال يا أخي لعل والدك لا يعلم ما يدور في هذه المحاضرات، فلك أن تستضيف أحد المشايخ أو العلماء لإقناع والدك وزيارته وتطييب قلبه وطمأنت نفسه، فإن النفس إذا اطمأنت رضيت وسمحت وأذنت بذلك، ولا نظن أن والدك يشتهي لك الشر ويحجبك عن الخير ويحرمك منه، لكن ربما في نفسه شبهة أو أمرٌ لم يتضح، فلا بد من إزالة الشبهات، وإذا عرف السبب بطل العجب.(17/29)
علاج العادة السرية
السؤال
أعمل العادة السرية فما هو الطريق لترك هذه العادة؟
الجواب
الذين يكثرون أو يقعون في هذا سبب ذلك أمور: أولاً: أنهم يجالسون من يتحدث بهذه الأمور فيعدي بعضهم بعضاً بهذا الأمر.
ثانياً: كثرة التفكير في هذه القضية، وكثرة التخيل لما يتعلق بها وذلك مما يقودهم إليها، وعلى هذا الشاب أن يستعين بالله وأن يجد في طلب الزواج، فإن عجز عن ذلك فعليه أن يشغل نفسه بما ينفعه؛ فإن من اشتغل بالمهمات والعظائم انصرف عن مثل هذه الترهات والسفاهات.(17/30)
الوسيلة الناجحة في حفظ القرآن والسنة
السؤال
إني أحبك في الله يا شيخ، وأرجو منكم أن تبينوا لنا طريقة لحفظ القرآن والحديث؟
الجواب
أظن أن الشيخ عائض القرني حفظه الله سئل ذات يوم: ما هي المأكولات التي تعين على الحفظ؟ فقال: نحن لا نقول: إن الباذنجان والبقدونس والبطاطا والبصل مما يعين على الحفظ، ولكن الذي يعين على الحفظ بحقٍ وحقيقة هو تقوى الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ويقول الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال: اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتاه عاصي
فإن من بركات الطاعة أن الإنسان يبارك له في حفظه ويبارك له في علمه، وإذا قرأ شيئاً حفظه، وإذا قرأ شيئاً أدركه واستفاد منه، وإن من شؤم المعصية أن يتفلت على الإنسان علمه، ومن ذلك كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(17/31)
ما يكون للنساء في الجنة
السؤال
إن ذكر الحور العين يجعل من النساء من يغار، فبماذا توجه الأخوات المسلمات؟
الجواب
نقول لأخواتنا: إن الله جل وعلا قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71] أي: للرجال والنساء والذكور والإناث ما يشتهون من تمام اللذات، المهم أن نصل الجنة، إذا دخلنا الجنة انتهت القضية، فيتلذذ الإنسان بأنواع اللذات وأعلاها النظر إلى وجه الله جل وعلا، فنسأل الله أن يهدينا إلى عملٍ صالح، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يتوفانا عليه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، قيل: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه إلى عملٍ صالح ثم يتوفاه عليه).
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم إلى عملٍ صالح، وأن يتوفانا عليه وهو راضٍ عنا.
ويقول كذلك فضيلة الشيخ جابر جزاه الله خيراً: إن غيرة النساء منزوعة تماماً، لا تنزعج الواحدة تقول: زوجي معه سبعون حورية وأنا ما أطقت جارة واثنتين، فلتعلم أن لها تمام لذتها وله تمام لذته والغيرة منزوعة تماماً.
وأذكر أنني حدثت زوجتي عن حور الجنة، فقالت: والله لو رأيتك معها لأقطعك أنت وهي.
لا حول ولا قوة إلا بالله، والمجالس بالأمانات.(17/32)
وجوب إزالة الريبة عن النفس
السؤال
في هذا المخيم وفي هذه الليلة سمعت البعض يضحكون ويتهامسون عندما يسمعون اسم العائلة أو اللقب لبعض الناس ويقع كثيرٌ في هذا، فهل تتفضلون في توجيه كلمة نصح لمثل إخواننا الشباب هداهم الله؟
الجواب
على أية حال من الجهل وعلامات الجهل أن بعض الناس ربما لا يلفظ اسم المرأة أو اسم البنت وهذا والله جهل عظيم؛ النبي صلى الله عليه وسلم لما زارته صفية بنت حيي وكان معتكفاً فلما خرجت قام ليقلبها أي: ليوصلها إلى البيت، فمر اثنان من الصحابة فقال: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي، قالوا: سبحان الله! حتى أنت يا رسول الله -أي: أنشك فيك يا رسول الله؟ - قال: نعم، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فلو كان ذكر اسم المرأة عيباً لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها صفية.
مع أنه ليس هناك داعٍ أصلاً لأن يسأله أحد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يقذف الشيطان في قلب الصحابيين أمر سوء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه دليل على أن دفع الريبة مشروع، أن من حامت حوله ريبة فعليه أن يظهر من الكلام أو الرد أو القول ما يطرد به الريبة.(17/33)
طاجكستان ومآسيها
إن طاجكستان ما هي إلا صورة لمأساة من مآسي المسلمين المتتابعة، ونكبة من نكباتهم المتلاحقة، وضربة من الضربات الموجعة التي سددها أعداء الله إلينا بغضاً وحقداً.
ولن يكون المخرج من هذا إلا بقوله صلى الله عليه وسلم: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) بأن نكون يداً واحدة على عدونا، مجاهدين في سبيل ربنا.(18/1)
قوة رابطة العقيدة
الحمد لله؛ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
معاشر المؤمنين: اسمحوا لي اليوم أن أنقلكم من لين الفرش، إلى تربةٍ وتضاريس صعبة، اسمحوا لي أن أنقلكم من هذه المخازن المليئة بالأطعمة إلى القفار وكهوف الجبال التي لا تجد فيها من الزاد إلا قليلاً، ومن الشراب إلا مكدّراً، اسمحوا لي اليوم أن أنقلكم من هذا الوضع الآمن نقلةً تخيليةً تصوريةً لواقعٍ قائمٍ الآن، إلى إقليمٍ خائف، إلى إقليمٍ جزع، واسمحوا لنا أن ننقلكم في وقتٍ قل فيها المخبر، وندر فيه المعلِم عن أحوال المسلمين.
أيها الأحبة: حديثنا اليوم عن مأساة إخواننا في طاجكستان، ولماذا الحديث عن طاجكستان؟! فهل تجمعنا بهم علاقة دم، أم لغة، أم رقعةٌ جغرافية؟! كلا وألف كلا، ولكن تربطنا بهم علاقةٌ هي أعلى وأقوى وأرسى وأثبتَ من الدماء والتضاريس واللغات، هي علاقة العقيدة، هي رابطة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله:
وحيثما ذُكر اسم الله في بلدٍ عددت أرجاءه من لب أوطاني
نعم تنتهي الدماء، وتفنى التضاريس، وتذوب العلاقات الدموية والعرقية؛ لتنصهر في بوتقة لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وهل نفعت علاقات اللغة بين المسلمين يوم أن تسلط البعث على جيرانه؟! وهل نفعت علاقات الدم بين الأمم يوم أن تسلط العفالقة على المسلمين في الكويت؟! وهل نفعت علاقات التضاريس يوم أن تسلط البغاة الطغاة على إخوانهم، أو على جيرانهم؟! إن كل علاقةٍ زائلة وذاهبة ومضمحلة؛ لتعلن أن كل علاقةٍ لا تبنى على لا إله إلا الله محمداً رسول الله فهي وهمية زائلةٌ منقضية، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
ما كان من علاقة مرتبطة بالله فهي باقية، وما كانت بغير ذلك فهي زائلةٌ فانية.
إن علاقة العقيدة هي التي جعلت سلمان الفارسي من آل البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (سلمانُ منا آل البيت).
إن علاقة العقيدة هي التي جعلت بلالاً الحبشي يتصدر المجلس بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصناديد قريش الذين هم من سواء قريش وجرثومتها وأرومتها يقصون ويبعدون، بل: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:1 - 3].
سيصلاها ولو كان قرشياً، سيصلاها ولو كان من سادات قريش، سيصلاها ولو ربطته بالقرشيين والعرب علاقة الدم، أو اللغة، أو التاريخ، وسيمشي بلال في الجنة ولو كان بعيداً، ولو كان أسود، ولو كان مفلفل الرأس، ولو كان حبشياً؛ قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال: إني سمعت دف نعليك في الجنة فأي عملٍ عملته لتنال ذا؟ فقال يا رسول الله: أما إني ما توضأت وضوءاً إلا صليتُ بعده ركعتين).
هذه رابطة العقيدة، جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدني صهيباً الرومي وسلمان الفارسي، وبلالاً الحبشي ويتوعد أبا لهب وأبا جهل، ويتوعد عقبة، وشيبة وعتبة ويتوعد غيرهم، وقال: (اقتلوه ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة) ينبغي أن نرتفع عن العلاقات الضيقة، وأن نسمو بأنفسنا عن العصبيات والقبليات لتربطنا علاقة العقيدة، ومن هذا المنطلق ننتقل بكم اليوم إلى طاجكستان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75].(18/2)
ماذا تمثل مأساة طاجكستان
أيها المسلمون: إن إخوانكم في طاجكستان ليصورون مأساةً من المآسي المتتابعة، ونكبةً من النكبات المتلاحقة، وضربةً من الضربات الموجعة التي سددها وساقها أعداء الله بغضاً وحقداً وكرهاً لله ورسوله وقبلة المسلمين، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذه صورةٌ لأبٍ طاجيكي أمام زوجة مهيضة الجناح، وطفلةٍ تتكئ بيمينها على عكازٍ تأبطه صدرها، وطفلٌ يصيح يريد قطرة حليبٍ فلا يجد، وفتاةٌ طاجيكيةٍ كانت عذراء فانتهكها المجرمون، وقد وضع الأب رأسه بين رجليه، وقعد قعدةً توحي بكل ألمٍ وحسرةٍ ومرارة، وكأني به يردد قائلاً:
فلو أبصرتني والليل داجٍ وخدي قد توسط بطن كفي
ودمعي يستهل من المآقي إذاً أبصرت ما بي فوق وصفي
أيها الأحبة: لكل أُسرةٍ حكاية، ولكل عائلةٍ رواية، ولكل مهاجرٍ أعجوبةٌ وأعاجيب، فلماذا لماذا ينسى هؤلاء في زمنٍ ارتبط العالم ببعضه، وأصبحت الكرة الأرضية كقريةٍ صغيرة، لو أنجبت بقرةٌ هولندية انتاجاً عجيباً، أو عجلاً غريباً لعلم به العالم بأسره، أما مآسي المسلمين الطاجيك، فلولا فداحة الخطب، ولولا كثرة الدماء، ورسائلك ينقلها نهر سيحوت، لما سمعنا عنهم من الأخبار إلا قليلاً.
وحق لهم أن نهتم بهم؛ لأنهم حفظوا القرآن في الأقبية والسراديب وتحت الأرض؛ في زمنٍ كانت حيازة المصحف عقوبتها الإعدام! في زمنٍ تعلم اللغة وتعليمها كانت عقوبته السجن والأعمال الشاقة، في زمنٍ من عرف فيه بالدعوة إلى الله فعقوبته المقصلة، والمشنقة والزنزانة الانفرادية.
فإني لأثق أن كثيراً من المسلمين لا يعرفون أين تقع طاجكستان.
إنها في الجزء الجنوبي الأقصى لما يسمى بـ الاتحاد السوفيتي سابقاً، على مساحةٍ تبلغ مائةً وثلاثة وأربعين ألف كيلو متراً مربعاً، وحدودها من الشمال الشرقي آسيا الوسطى، وأوزبكستان، وكرغيزيا، كل هذه تحدها من الشمال، والشمال الشرقي، ولها حدودٌ طويلة مع أفغانستان، والصين من الجهات الجنوبية.(18/3)
ما تعيشه طاجكستان من مأساة حالية
في تلك البقعة، وفي زمنٍ يسير بإمكانكم أن تدرسوه وتقيسوه، من بداية التحول في الاتحاد السوفيتي إلى أيامٍ قليلة، تسلط بقايا الشيوعيين -ومن ظن أن سقوط الشيوعية يعني قيام الإسلام في روسيا فهو واهمٌ لا محالة، لقد سقط وتحطم الجبل الشيوعي، ليتحول إلى صخراتٍ شيوعية، لقد تحطم ذلك الكثيب العظيم من الشيوعية، ليتحول إلى حفناتٍ شيوعية - وكلُ حفنةٍ تسلطت على رقاب كثيرٍ من المسلمين، فلم يتغير الوضع كثيراً، كما تفاءل وظن كثيرٌ من المسلمين.
وبعد أن تحولت الأوضاع هناك ظهر المسلمون على السطح، وتنفسوا الصعداء، والتفتوا يمنةً ويسرةً أهي أحلامٌ يرونها في المنام، أم حقيقة واقعٍ تأذن لهم بأن يخرجوا لهم مدارس القرآن من الأقبية إلى سطح الأرض، وأن يخرجوا كتب اللغة من السراديب إلى صالات الدراسة، وأن يخرجوا بجموعهم ليصلوا جماعات، وليمشوا في الطرقات، معلنين دينهم لا يخافون أبداً، خرج المسلمون وما إن خرجوا ليحكموا أنفسهم بما نصت عليه مواثيق تلك البلاد بعد سقوط الشيوعية بعودة الديمقراطية، وأن الأحكام للأغلبية؛ إذ بأقليةٍ شيوعية تعود من جديد لتجثم على صدور المسلمين، ولتسن المطرقة ولكي تسن المنجل من جديد وتضرب بالمطرقة لتعيد عهداً جديداً للشيوعية، وفي تلك الفترة إلى يومنا هذا، في ظل هجماتٍ مسعورة، وحركاتٍ وحشية، أحرق أكثر من مائة وخمسين ألف منزل، وقتل أكثر من خمسة وعشرين ألف مسلم، وأما القتلى في نواحٍ مختلفة ممن يعرفون ومن لا يعرفون فقد بلغوا أكثر من مائتي ألف نسمة، خمسة وعشرين ألفاً في معارك المواجهة، في القتال الدائر الشديد الذي حمي وطيسه وجهاً لوجه بين المسلمين وبين الشيوعيين من الطاجيك، ومن ساعدهم من الأوزبك، وأما ضحايا القصف العشوائي والتشريد والهجرة إلى المجهول فقد بلغوا مائتي ألف نسمة، والمفقودون أكثر من مائة وخمسين ألفاً، لكي تظهر صفحةً جديدة، وتعلن هجرةً جديدة للمسلمين، بلغ عدد المهاجرين حتى الآن أكثر من نصف مليون لاجئ، كلهم هربوا ولجئوا إلى الحدود الشمالية؛ أو إلى الحدود الجنوبية بالنسبة لهم، إلى شمال أفغانستان في مناطق قندوز وبلخ وغيرها.(18/4)
سر اهتمام الروس بطاجكستان
ولماذا اشتدت ضربة الشيوعية على طاجكستان بالذات؛ أوليست كل ولايات ومدن الاتحاد السوفيتي مليئةٌ بالمسلمين؟ بلى.
إنها مليئة، ولكن نالت هذه مزيداً من الضربات، ومزيداً من الاهتمام بالإيلام والإيجاع، لأن طاجكستان تحتل المرتبة الثانية بعد روسيا من حيث الاحتياطات المطلقة للموارد المائية، ولأن طاجكستان غنيةٌ بالثروات الطبيعية، ولأن طاجكستان يقبع تحت أراضيها مخزونٌ عظيمٌ من اليورانيوم، ربما شكل قرابة ثلث اليورانيوم في الاتحاد السوفيتي كله، لأن طاجكستان بوابة وممرٌ ومعبر من طريقه يمكن أن تدخل قوافل الدعوة والدعاة إلى الله إلى سائر الجمهوريات، لأجل هذا كله، اهتم بها الروس ليعودوا وليعيدوا تمثيلية جديدة، بل مأساةً جديدة، تذكر بدخول الاتحاد السوفيتي على دباباته المدججة المليئة بالجنود، وعرباته المليئة بالألغام وبالغازات السامة، ليعيدوا هذا المشهد من جديد، يوم أن دخلوا إلى كابل، يعيده الروس الآن لكي يضربوا فيه حركةً إسلاميةً في طاجكستان.
أيها الأحبة: كلكم يعلم أنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وتمزق أوصاله، وانقلاب ذلك الدب الجاثم على صدور المسلمين، قامت حركاتٌ إسلامية وجدت متنفساً يدعوها إلى أن تتحرك، ومن ثم قامت مجموعةٌ إسلامية، سمت نفسها بـ النهضة الإسلامية في طاجكستان، والتي سرعان ما اكتسحت وكسبت تأييد الشعب بأكمله، ثم بدأت لتضغط على الشيوعيين، وبمقتضى ميثاق النظام السوفيتي بعد سقوطه، وبمقتضى الميثاق الذي شمل تلك البقاع أن الأغلبية تحكم نفسها، وتحدد اتجاهها، أرادوا الإسلام، لأن الأغلبية مسلمون، وأرادوا الإسلام لأن الجميع يطالبون بالإسلام، ولكن سرعان ما عادت المطارق من جديد لتضربهم.
فبعد الإطاحة بالحكومة الشيوعية، ورئيس البرلمان الشيوعي السابق المدعو كنجايف، شعرت قوى الاستكبار العالمي بخطورة الوضع على مصالحها الحيوية في المنطقة، خاصةً إذا علمتم أيضاً أن طاجكستان تحتوي على ثلث احتياط اليورانيوم الخصب والمخصب للاتحاد السوفيتي، ويقع في تلك البقعة أكبر ثلاثة مصانع مخصصة لإشباع اليورانيوم في الاتحاد السوفيتي.
ونظراً لهذا الموقع الجغرافي الفريد، وتلك الثروات الضخمة للدولة الطاجيكية، فهي إلى ذلك تقع إلى شمال أفغانستان التي تشهد مخاض وجود دولةٍ إسلامية في أفغانستان، نسأل الله أن يجمع شمل قادتها، وأن يقيمها على أسسٍ متينةٍ من الكتاب والسنة، إن قرابة خمسة ملايين طاجيكي يمكن أن تكون مع أفغانستان دولةً واحدةً قوية، وإذا علمنا أن أفغانستان لا زالت حديثة العهد والتجربة بمعارك قابلت فيها ألوان الجيوش، واستخدمت وتدربت وتعاملت مع كثيرٍ من الأسلحة، فإذا أضيفت قوة الأفغان مع تجربتهم العسكرية التي دامت ثلاثة عشر عاماً مع الثروات الموجودة في طاجكستان أدركت أن قيام وحدةٍ بين هاتين الدولتين يمكن أن يشكل اكتساحاً عريضاً خطيراً ليطيح ببقية ولاياتٍ روسية، سيما وأن فيها مئات الملايين من المسلمين الذين يتمنون السلاح ونفس الحرية لتحكم بلادهم بالإسلام.(18/5)
مكر الشيوعيين وأعوانهم
أيها الأحبة: لذا رأى الشيوعيون أنه لابد من القضاء على المسلمين في مهدهم، ولابد من وأد حركتهم قبل ميلادها وقبل اشتدادها وقوتها، وهكذا بدأت عملية تصفية الإسلاميين والموالين لهم في منطقة كولاب من قبل العناصر الشيوعية العائدة بعد هزيمتها في المواجهة مع الإسلاميين في الساحة العامة في العاصمة الطاجيكية، دوشنبه، وذلك بدعمٍ من قواتٍ روسية متواجدةٍ في المنطقة، وأعجب من ذلك أن قوى أجنبية كانت ترقص وتفرح وتضحك وتهزأ بحال الاتحاد السوفيتي وهو يسقط، إذ بتلك القوى من جديد تعود لتدعم الروس لضرب المسلمين في دوشنبه، ولضرب المسلمين في طاجكستان، لقد هبطت طائراتٌ أجنبية فخمة مدججة مطورة، كلها تحت غطاء المساعدات الإنسانية وهي تحمل في ثناياها الألغام والقنابل والصواريخ لأجل من؟ وفي سبيل من؟ ولأجل غاية من؟ لأجل قتل كل مسلمٍ يقول لا إله إلا الله، لأجل قطع كل حنجرة يخرج منها صوت لا إله إلا الله، لأجل ضرب كل هامةٍ تسجد لله، لأجل قطع كل يدٍ ترتفع مكبرة لله، لقطع كل رجلٍ تشمي إلى بيوت الله، تكالبت وتواترت وتوافدت قوى الروس، والقوى الأجنبية لضرب المسلمين في طاجكستان.
وقد اعتمدت تلك الطائرات الأجنبية على التعامل مع أصحاب السوابق الإجرامية الخطرة الذين أطلقوا من سجون طاجكستان، وسلحوا تسليحاً خطيراً، وأفرج عنهم، بعد أن كانت عقوباتهم السجن مدى الحياة أو الإعدام، أفرج عنهم من جديد وسلحوا من أجل أن يعطوا مكافأة مقابل قطع كل رقبة وانتهاك كل عرض، وبقر بطن كل حامل، وتدمير كل بيت، وإحراق كل زرعٍ وإتلاف كل ماشية.
بهذا عادت روسيا من جديد لتتعامل بمنطق المطرقة والمنجل، وتناست البروستريكيا أو إعادة البناء، أو التعامل المفتوح، والتعامل مع الأقليات، وسماع الرأي الآخر، لأجل ذلك أيها الأحبة: هاجر كثيرٌ من المسلمين بعد معارك دامية، وبدأ الهجوم الشيوعي المركز على كورجان، واحتلت ولا تزال تحت معارك طاحنة، يحاول المسلمون أن يستولوا عليها من جديد.
أيها الأحبة: وكما سبق ذكره، بعد أن تولى المسلمون زمام الأمور في بداية الوضع وطردوا الشيوعيين في البداية، عادت من جديد قوى الشر، لتعين الشيوعيين لضرب المسلمين، وكانت نتيجة تلك المواجهات فقط، أكثر من قتل اثنين وعشرين ألف مسلم، وهدم بيوتهم، وانتهاك أعراضهم.
هكذا أيها الأحبة حصل للمسلمين ما حصل، وأصبحت مصيبةً عظيمةً، هرب كثيرٌ من المسلمين وفروا إلى النهر، ولم يجدوا ما يعبرون به، فمنهم من عبر النهر مفضلاً محاولةً فيها احتمال النجاة (1%)، واحتمال الغرق والهلاك (99%)، وإذا علمت أن القناصة الشيوعيين لحقوا المسلمين وقتلوهم وهم يسبحون في النهر، وهم يملكون هذه الأسلحة الدقيقة التصويب، الدقيقة الفاعلية، حيث قتل كثيرٌ منهم وهو هاربٌ والآخر قتل وهو يسبح، وفي أيامٍ جاء شهود عيان وقالوا: إن بعض الأيام يرى فيها النهر يمشي بكتلٍ حمراء من الدماء، وهي دماء الذين قتلوا أثناء هروبهم بالسباحة، أو على قاربٍ صغير، وإن الواحد قد يعدها من الخيال، لولا شهود العيان، ولولا ركبانٌ تواترت أنباؤها وجاءوا بمثل هذه الأمور.(18/6)
أعمال هيئات الإغاثة النصرانية
أيها الأحبة: هكذا يعيش المسلمون في قسوةٍ أمام بقايا الشيوعية، الذين تعاملوا في أفغانستان، لا تظنوا أن الأوضاع في أفغانستان قد حولت الشعب إلى مسلمٍ، أو إلى شعبٍ مسلمٍ سنيٍ صريحٍ صحيح، بل لا يزال في أفغانستان وخاصةً في بعض مناطق الشمال، شيوعيون تعاملوا مع الروس، وقاموا بمحاصرة المهاجرين من أجل أن يقولوا للجمعيات العالمية إن لدينا لاجئين كثر، فلتهبط طائرات الإغاثة هنا، لكي نطعم هؤلاء اللاجئين، وبالفعل هبطت طائرات الإغاثة، من دولٍ مختلفة لإغاثة هؤلاء اللاجئين، ولكن كان اللاجئون مجرد وسيلة لهبوط الطائرات، ولما أفرغت شحناتها الإغاثية، أخذت مواد الإغاثة وبيعت في الأسواق من جديد، ليعود المسلمون يستسقون الظمأ، ويأكلون الجوع، ويعتصرون الألم.
هكذا يصبح المسلمون ألعوبةً في أيدي هؤلاء الظلمة، ويصبح المهاجرون ورقةً رابحة من حاصرها واستولى عليها نال كثيراً من الإغاثات والمؤن.
أيها الأحبة: إن واقع المسلمين هناك يحتاج إلى لفتةٍ إعلامية، ولفتةٍ إغاثيه، ووقفةٍ إسلامية، وحسبكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه) ولا يخفاكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
فإن عضونا في طاجكستان يشكو فهل تداعى له سائر الأعضاء في مختلف البلدان؟! إن عضواً من المسلمين في طاجكستان ينزف، فهل تداعى له سائر الجسد في مختلف البلدان؟ إن عضو المسلمين في طاجكستان يشكو من الجراح والجوع والفقر والألم، فهل تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.(18/7)
الجهاد في طاجكستان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد: عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلاله، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين: إننا نعلم سراً حقيقياً واضحاً جلياً لمن ألقى السمع وهو شهيد، وهو أن هذه الهجمة المسعورة الشرسة إنما أرادت أن تئد حركة الجهاد من جديد في تلك المنطقة، إن كثيراً من شباب المسلمين قد هجروا حياة الدعة والنوم والراحة، وانخرطوا في حركاتٍ إسلامية في طاجكستان كما انخرطوا في أفغانستان! إن أفغانستان التي تشهد جبالها وهضابها ووديانها على دماء وأشلاء وجماجم كثيرٍ من بلاد المسلمين على مختلف الدول: من الخليج وغير الخليج، من هذه الجزيرة، من هذه البلاد المباركة، ومن بلدان آسيا وأفريقيا قد ذهبوا وجاهدوا في أفغانستان، وإن طاجكستان الآن تشهد وفوداً متتابعةً متواترة لإعادة الأمجاد من جديد على أرض طاجكستان، ومنذُ أيامٍ قليلة قتل سبعةٌ من الشباب العرب، وفيهم جملةٌ من شباب السعودية والخليج، إن هذا لمما يدلل أن في الزوايا خبايا! وأن بني عمك فيهم رماح، وأن شباباً إذا نودوا ودعوا إلى قمم العلياء وذرى المجد تركوا وودعوا وطلقوا حياة الدعة والراحة، وعادوا ليموتوا في سبيل الله، ولو لم يكن لهم إلا نصرة المظلوم -ودفع العدوان يعتبر نوعاً من الجهاد في سبيل الله- لكفاهم ذلك.
قد يقول قائل: ومن يضمن أن تعود طاجكستان دولة إسلامية (100%) حتى يقاتل شبابنا هناك؟ نقول: إن القتال لإقامة دولةٍ إسلامية على أي بقعةٍ من البقاع إذا واتت الظروف لهو ضربٌ من ضروب الجهاد، وإن القتال أيضاً لدفع العدوان ونصرة المظلوم؛ هو أيضاً نوعٌ من أنواع الجهاد، قتيله بإذن الله شهيد، والمجاهد فيه والمرابط على أجرٍ عظيم.
أيها الأحبة: بكل عبارةٍ صريحة، لم تتلق قضية الطاجيك اهتماماً في الإعلام العالمي، لماذا؟ هل تريد دوائر الإعلام العالمية الضخمة ذات الشبكات والمراسلين المتفرقين في أنحاء العالم أن يبعثوا جذوة الجهاد من جديد؟! لا والله.
بل يتمنون أن ينشروا كل خبرٍ إلا عن الجهاد! وكل حادثةٍ إلا عن المجاهدين! وكل الغرائب إلا عن كرامات الله لعباده المجاهدين! فيا أيها الأحبة! افهموا هذا السر، واعلموا أن الوضع هناك هو نوع جهادٍ في سبيل دفع العدوان ونصرة المظلوم، فإذا أضفنا إلى ذلك أن من اهتم بالقضية الأفغانية دعوةً أو متابعةً أو مشاركة، قد استفاد من أخطائه هناك، لينشر الصواب في طاجكستان، فحينئذٍ تكون تجربةً نافعة بإذن الله.
وإن مما نعلمه أن مما يميز طاجكستان أنها تحت قيادةٍ واحدة، ولا يوجد أحزاب متعددة تتقاسم القوة، أو تتصارع عليها، بل هناك أميرٌ معلومٌ مشهورٌ للمجاهدين، ودونه الضباط والمهندسين وأساتذة الجامعات والمعلمون، كلهم حوله ومشورته، والعسكريون يعملون بأمره، فهذا مما يشجع ويبين أن الانطلاقة تكون واحدة في ظل قيادةٍ واحدة، لنصرة إخواننا هناك.(18/8)
أحوال اللاجئين الطاجيك
أيها الأحبة: أعود بكم من جديد إلى اللاجئين الذين يعيشون في خيامٍ بالية، لا تقيهم حر الصيف، ولا برد الشتاء القارس، بالرغم من النداءات العديدة، والصرخات والصيحات، فإن جهود الإغاثة لا تزال قاصرةً عن تقديم ما حرموه، حتى ولو على الأقل أن يحصلُ على الخبز فترةً ولو متتابعة، إن مخيمات اللاجئين عبارةٌ عن أماكن يقيم فيها المسلمون، وهي في غاية السوء، وذلك لقلة ذات اليدِ من الأموال، ولا يوجد بها عنايةٌ صحية، أو أدويةٌ أو أغذيةٌ كافية.
والمتأمل في أوضاع اللاجئين يعجب! كيف اهتمت المنظمات العالمية التي تعنى وتعلن وتدعي اهتمامها باللاجئين في أنحاء العالم؛ كيف اهتموا باللاجئين في مواطن كثيرة وأهملوا اللاجئين قصداً وعمداً في طاجكستان؟ وما ذاك إلا ليضطروهم إلى أن يعودوا من جديد للدخول في طاجكستان! هكذا يراد بالمهاجرين الذين هربوا من طاجكستان، يراد بهم في ظل الإهمال، وفي ظل عدم العناية، وفي ظل تجاهل أوضاعهم من قبل كثيرٍ من هيئات الإغاثة والمنظمات العالمية، يريدون أن يضطروهم ليقولوا: ما دام الموت هاهنا على العراء، وعلى جليد الشتاء، وقلة الغذاء والدواء، فلأن نموت في طاجكستان خيرٌ من أن نموت بعيدين عنها، فيضطروهم للعودة من جديد، ومن ثم تنتظرهم بنادق القناصة، وأجهزة الدمار الشامل التي تذبحهم ذبحاً جماعياً، وتتخلص من المسلمين تخلصاً تاماً.
لقد اطلع شهود عيان على حجم المقابر التي يدفن فيها اللاجئون الطاجيك ذويهم وأسرهم وأبناءهم، فوجدوا أن مساحاتٍ غريبة شاسعة كبيرة توضح وتشهد أن عدد الوفيات بين الطاجيك كبيرٌ جداً بسبب انتشار الأمراض والأوبئة، فضلاً عن قيام بعض عملاء الشيوعية بوضع السم في مياه الآبار وبكميات محسوبة للقضاء على المسلمين بالتدريج، المسلمون مستضعفون، والمسلمون مستهدفون، والمسلمون مساكين، ومن لهم إلا الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إن أكثر من مليون شخص لجئوا إلى الجبال، وتحصنوا بها داخل طاجكستان يتلحفون بالجليد، وليس هناك منظمات دوليةٌ أو إقليمية تقدم لهم يد العون في تلك المناطق التي لجئوا إليها.
لكنهم يفطرون على قصف الطائرات، ويمسون على ضرب المدفعية، وآخرون لجئوا إلى الدول المجاورة الشيوعية، خاصةً أوزبكستان، وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق.(18/9)
الكفر ملة واحدة
أيها الأحبة: إن إخوانكم ينتظرون يد الإحسان لتمتد إليهم، إن إخوانكم ينتظرون من يعينهم في الوقت الذي قامت حكومة الطاجيك الشيوعية تؤيدها حكومة الأوزبك، بتوزيع الأسلحة على الموالين في المنطقة الجبلية للحيلولة دون سيطرة المسلمين على مناطق الجبال، وما زالت كما قلت حملاتٌ ليست من الطيران الطاجاكي الشيوعي، بل حملاتٌ بالطيران من الجيش الأوزبكي: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73].
لما أصيب الشيوعيون الطاجيك بهذه الضربات والمواجهة من قبل المسلمين قام الشيوعيون الأوزبك ليساعدوهم ويساندوهم بطيرانهم وأسلحتهم وكل ما لديهم؛ فيا ترى هل يقف المسلمون أمام ومع المقاومة الإسلامية التي ما زالت مستمرةً في الجبال؟ وإني أبشركم بما لقيناه من سفراء إخوانكم -لقيناهم هنا- وبما قرأناه من رسائل بعثوا بها إلينا، يقولون: إننا مصممون على مواصلة القتال أمام الطاجيك أشد وأطول من تصميم الأفغان، يوم أن طردوا الروس وأخمدوا الشيوعية! وهذه بشارةٌ عظيمة.
إن الأفغان بدءوا بزجاجات الموليتوف الحارقة، زجاجةٌ مع قليلٍ من المواد الغازية والبنزين يضربون بها الدبابة، وخناجر مثلمة، وسيوفٍ قصيرة، وبنادق صيد لا تحمل إلا طلقةٌ أو طلقتين، وها هم الآن يتربعون على الطيران والمدفعية، ويطيرون بالطائرات التي يقصفون بها، ويركبون المروحيات التي كانت تطاردهم وتمشطهم سابقاً، ويمشون على الدبابات التي حاصرتهم زمناً طويلاً: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
من أراد وجه الله وجاهد في سبيل الله فستكون له الدولة والغلبة بإذن الله جل وعلا، فإن إخوانكم في طاجكستان قد عقدوا الخناصر، وتعاهدت أيديهم، وصدقت قلوبهم بإذن الله على مواجهة الشيوعية حتى يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنهم ليرون ضغوطاً أجنبيةً غريبة على حكومات مجاورة من أجل أن تمتنع تلك الحكومات المجاورة من مساعدة اللاجئين، خشية أن ينفجر الجهاد من جديد في طاجكستان.
إن مواقع العالم الإسلامي ملتهبة، ويوشك أن يلتقي الماء على أمرٍ قد قُدر، يوشك أن تنفجر حركاتٌ جهاديةٌ من جديد، في خمس أو سبع مواقع في العالم، ليلتقي المسلمون على قلبٍ واحد في يومٍ من الأيام.
هذا ما يخافه الغرب، وهذا ما يخشاه الكفار: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
وإنكم لا تطئون موطأً يرضي الله إلا أغاظهم، ولا تمشون خطوةً في سبيل الله إلا أحرقت قلوبهم، فتقربوا إلى الله بالوقوف أمام الكفار، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14].(18/10)
صورة لحجم معاناة المسلمين الطاجيك
أحبابنا: أما أطفالنا، أما أبناء إخواننا المجاهدين، أما فلذات أكباد الطاجيك الأطفال، فإن حالات الوفيات اليومية متتابعة، نظراً لسوء التغذية، وكثرت حالات إجهاض الحوامل لنقص التغذية، وأكثر الأمراض انتشاراً: الحصبة والدفتيريا، والتهاب الكبد، وإن كثيراً منهم لبأمس الحاجة إلى مواقع مؤقتة ولو من الجريد وغيره، حتى يجتمع فيها الأطفال، فيتعلموا كلام الله ورسوله، ويتعلموا أمور الدين، قبل أن تتربع بينهم الجمعيات التنصيرية، فتعلمهم التنصير والعياذ بالله.
فيا أحبابنا عليكم بمساعدة إخوانكم، فإنهم يحتاجون للباس والطعام والغذاء والدواء والسلاح، والمشاركة بالنفس وبالمال، فاستعينوا بالله، وإذا علمتم أن دوائر غربية قدمت واحداً وثلاثين مليون دولار لمساعدة المهاجرين الطاجيك الذين وصلوا إلى أوزبكستان! وهل واحد وثلاثين مليون دفعت حتى يحافظ على أبناء المسلمين؟! إذا كان القصد المحافظة فلماذا يقتلون بالطرف الآخر؟! دفع واحد وثلاثون مليوناً من أجل أن ينصروا، من أجل أن يقولوا إن الله ثالث ثلاثة، من أجل أن يقولوا: المسيح ابن الله، من أجل أن ينصروا ولا يعترفوا بمحمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم! فيا أحبابنا: إنهم ينتظرونكم، وتعلمون الحديث: (أن رجلاً زار أخاً له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكاً فقال الملك للرجل: أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في الله، فقال الملك: وهل لك من نعمةٍ تردها عليه؟ قال: لا، ولكنني أحببته في الله) فهل منا من يزور إخوانه الطاجيك في الله؟! هل منا من يمشي خطواتٍ يحتسبها لوجه الله بما يحمل من علمٍ أو طبٍ أو صيدلة، أو هندسة أو تجربة، أو تدريب ليساعدهم فإنه سيكون له أجرٌ عظيم بإذن الله جل وعلا.(18/11)
الهجوم خير من الدفاع
أيها الأحبة: لا مزيد على ما ذكرت في هذا المقام، وإن أحوالهم من تأملها ودرسها من خلال تقاريرهم ورسائلهم، لهي والله تنبئ بشناعة أحوال ما فعل الشيوعيون بهم، وإن ذلك يعني أن الشيوعية لا زال لها أذنابٌ يعملون، ولا زال لها عملاء يتحركون، وما زال وراء الشيوعيين شيوعيون آخرون: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] فعليكم بهم، وأعينوا إخوانكم.
إن وقفة العالم الإسلامي مع إخوانه المسلمين في أفغانستان جعلت مخططات الغرب تجاه المسلمين تتقهقر إلى الوراء شيئاً كثيراً، وإن وقفتكم لهؤلاء تجعلهم يتأخرون إلى الوراء شيئاً كثيراً.
وإن دعم المسلمين على سبيل المثال: للبوسنة والهرسك لأجل قيام ولو دويلةٍ إسلامية في قلب أوروبا، ليشغل أوروبا بنفسها عن أن تنشغل ببلاد المشرق وما تصدره إليه من الفساد والإلحاد، والجريمة والتغريب؛ فهكذا ينبغي أن تكون الضربات متكافئةً قدر الإمكان، وما أمرنا إلا أن نعد ما استطعنا: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60].
لو أن كل قوىً أرادت بالمسلمين سوءاً أشعلنا وفجرنا بين ربوعها وفي قلبها وفي وسط أراضيها قنبلةً تنشغل بها، لعاد أولئك ينشغلون بأنفسهم، عما أرادوا ويدبرون لإخواننا في كل مكان.
نسأل الله بمنه وكرمه أن ينصر إخواننا المجاهدين الطاجيك، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم عجل نصرهم، اللهم سدد رصاصهم، اللهم أقم على الكتاب والسنة دولتهم، اللهم اجمع شملهم، ووحد صفهم، واقهر عدوهم، اللهم احفظ أطفالهم، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، وسدد قادتهم، اللهم لا تجعلهم يتفرقون، اللهم لا تجعلهم متفرقين، اللهم أعنهم بعونك، وأمدهم بنصرك، وأيديهم بتأييدك، وزلزل الأرض من تحت عدوهم.(18/12)
الشعارات الزائفة
تحدث الشيخ حفظه الله عن موضوع ينخدع به العوام من الناس، ألا وهو الشعارات البراقة التي يرفعها الزنادقة وأهل الكبر؛ ليضلوا بها الناس، ومن ذلك شعارات حزب البعث.
ثم تحدث عن ما فعله حزب البعث في أهل الكويت، وقبل ذلك في مسلمي العراق وأهله تحت شعارات القومية التي يتشدق بها، ثم هو يزعم الجهاد عبر إذاعات وأقلام وأفواه مأجورة!(19/1)
أنواع من الابتلاء
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، القائل في محكم كتابه: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبتلي عباده بالسراء والضراء ليشكروه وليتضرعوا بين يديه، وأشهد أن محمداً عبده رسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق تقاته، وتتبعوا أسباب رضاه واجتنبوا أسباب سخطه، واعلموا أن التقوى سبب تفريج الكربات ودفع المحن والملمات {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
معاشر المؤمنين: لا يخلو زمن من الأزمان إلا وفيه ما فيه من مصائب الزمان ونوائب الحدثان:
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيب
وليست أمة من الأمم مخصوصة بنوع من البلاء دون غيرها حتى يأمن الآخرون فجائع الدهر:
فجائع الدهر ألوانٌ منوعة وللزمان مسرات وأحزان
وكلٌ ينال حظه من هذا الابتلاء ومستقل ومستكثر {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وقديماً قيل:
رب قوم أصبحوا في نعمة زمناً والدهر ريان غدق
سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دماً حين نطق
وقال الآخر:
إذا ما الدهر جر على أناس حوادثه أناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
معاشر المؤمنين: وقد تبتلى بعض الأمم بالسراء ويبتلى غيرها بالضراء {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] وكل أمر بتقدير الله جل وعلا وتدبيره وبالغ حكمته، وفيه حصاد العباد بما كسبته أيديهم ويعفو ربنا برحمته عن كثير:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
وقد تكون المصائب مرة: فتكون للجاهلين علماً، وللغافلين عظة وعبرة {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15].
معاشر المؤمنين: إن ما يدور اليوم في منطقة الخليج، وما فعله البعثيون في المسلمين في الكويت لا يغيب على فكر مسلم غيور على دينه وعرضه، ولكن الجهل كل الجهل أن نفسر الأحداث والوقائع بالأسباب المادية فنظن أنها مشكلة حدودية، أو بسبب تضاعف قروض مالية ناسين أو متناسين أن ما أصابنا {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن تحول عافيتك.
معاشر المؤمنين: وقبل أن نخوض في وصف الأحكام وأخذ الدروس والعبر منها أود أن أعرف وأن يعرف الكثير من المسلمين من هم البعثيون؟ وما هو حزب البعث؟(19/2)
عقائد حزب البعث
حزب البعث أنشأه رجل نصراني يقال له: ميشيل عفلق نصراني لا يعرف له أصل، وهذا النصراني كان منشقاً عن الشيوعيين الملاحدة، إلا أنه أراد أن يقوم بحزب وجعل شعاره: (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة) المهم أن يجتمع العرب تحت لواء هذا الحزب أياً كانت دياناتهم، وأياً كانت عقائدهم ومذاهبهم، وهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له منزلة إلا لأنه عربي فقط أما أن منزلة النبي بأن الله شرفه بالرسالة، وأكرمه بالنبوة، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين؛ فذلك أمر لا يلتفتون إليه، ولا يعولون عليه، ولا يقيمون لهذا وزناً.
وهذا البعث يجمع مخازي المذاهب والأفكار كلها، فحقيقة حزب البعث تقوم على ثلاثة مسائل: الأولى: أنه حزب علماني.
الثانية: أنه اشتراكي.
الثالثة: أنه قومي.
ولا أقول هذا الكلام لأننا في مقام العاطفة أو نقد العدو، وإنما نقول: ارجعوا إلى وثائق البعث وما كتبه البعثيون بأنفسهم، وما أعلنوه في مؤتمراتهم ولقاءاتهم لتجدوا أن هذا الكلام يعترفون به ويقرون به أولاً وآخراً.(19/3)
علمانية حزب البعث
وأما علمانية حزب البعث فحقيقتها: فصل الدين عن الدولة، ويعني ذلك: أن تسير أمور الدولة بما يوافق المصالح المادية والاستراتيجيات التوسعية أياً كان هذا الأمر حلالاً أو حراماً.
وإن سألتم عن الدين يقولون: الشخص نفسه له أن يمارس حدوده أو ما أراد من أموره الدينية في حدود شخصه فقط، وليس له أن يجتمع مع أحد باسم الدين، أو يتعاون مع أحد باسم الدين، أو يلتقي مع أحد باسم الله، وإنما غاية الدين عند البعثيين أن تتناول ما تشاء، أو تشرب ما تشاء، أو تأكل ما تشاء، أو تلبس ما تشاء، أو تفعل ما تشاء، فأنت لك الحرية فيما يتعلق بشخصك فقط، وأما ما يربطك بالآخرين وما يجمعك مع الآخرين فلا يسمح البعثيون بهذا؛ يظنون أنه تدخل من الدين في أمور الحياة، وعلمانية الحزب تمنع ذلك على من أراد أن يفعل منه شيئاً.(19/4)
شعار القومية عند البعث
الأمر الآخر يا عباد الله! أن حزب البعث قومي، ومعنى قوميته: أنه للعرب وحدهم فقط، وما سوى ذلك من المسلمين فلا يقيم هذا الحزب لهم وزناً، بل إن البعث لا يقيم للإسلام وزناً وإنما يقيم الوزن للعرب لكونهم عربا، ويمكن أن ينطوي تحت لواء البعث العلماني والشيوعي والنصيري والدرزي والخبيث والرافضي والقادياني وكل من له بدعة، المهم أن يكون عربياً سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً مشركاً أياً كان لا يلتفت لهذه الأمور فقط وإنما هو حزب عربي.
فمن كان عربياً فالحزب يعترف به ويتعامل به، ومن لم يكن كذلك فلا يقيم الحزب له وزناً، وهذا الكلام متناقض مع ما يفعله البعثيون اليوم، أليس جيرانهم من أهل الكويت وغيرهم من العرب؟ فلماذا يفعلون بهم هذا؟ نعلم من هذا أن هذه شعارات زائفة براقة يخدعون فيها سذج الناس وبسطاء الخلق ليجرّوهم للانضمام تحت هذه الأحزاب، وما سوى ذلك فإن الحزب كله جامع لحقد يهودي ونصراني وعلماني وإلحادي وشهوات شخصية بشرية بحتة لا يلتفت إلى ما سواها.
الأمر الثالث من أركان هذا الحزب: أنه اشتراكي: فيقولون بمبدأ حزبهم أنه لا يجوز أن تكون السعودية مثلاً غنية والبعثيون فقراء، أو أن يكون الكويتيون أغنياء والعراقيون فقراء، أو لا يكون أهل الخليج أغنياء والعراقيون فقراء، بل إن الحزب يجمع على شعار الاشتراكية، ويعني هذا: أن يشترك العرب كل العرب بما فيهم من اليهود والمجوس والنصارى والعلمانيين والإلحاديين والقاديانيين والبعثيين والنصيريين والدروز وكل الطوائف الضالة الكافرة كلهم يتمتعون بخيرات الأمة العربية.
الأمة العربية -يقولون- لابد أن تقسم خيراتها على جميع أبناء الأمة العربية، وكذبوا وخسئوا، لو صدقوا في ذلك لكانت خيرات العراق تعود على أبنائها، ولكن قيادة البعث ثرية غاية الثراء، وبقية الشعب في منتهى الفقر والذلة والمسكنة وقلة الحال وذات اليد، فهذه الشعارات ساطعة براقة، فهذه شعارات زائفة يرفعونها ليخدعوا بها السذَّج والبسطاء.
والمصيبة كل المصيبة: أن أبناء المسلمين أو من شبابهم يوم أن يسافر إلى بعض دول الخارج أو يوم أن يكون منحلاً من دينه غير ملتزم بأوامر ربه؛ تجده يدخل هذه الأفكار، وتداعبه الأحلام الماسية، يظن أنه سينعم يوماً ما بأهداف البعث وما يعدونه به، وما علم أنهم يستخدمونه مطية لكي يصلوا به إلى ما يريدون وما يشتهون، ثم بعد ذلك جزاؤه أن يرمى أو أن يقتل، وما أكثر البعثيين من أبناء الحزب الذين اختلفوا مع قادتهم فقتلوا وصفوا، وحسبكم أن مائة وعشرين ضابطاً من ضباط الحزب وبعضهم من العراقيين لما تناقشوا في قضية غزو الكويت كان مآلهم أن يقتلوا وفتحت الرشاشات على صدورهم قبل لحظات الغزو، أفبعد هذا ينخدع مسلم بهذه الشعارات البراقة، وهذه المناهج الزائفة؟ والله إن أمة العرب كانت أهون على الله من الجعلان والجنادب والجراد والخنافس، وليس لأمة العرب وزن إلا بالإسلام؛ فمن أراد أن يرفع العرب لأنهم عرب فإن أبا لهب وأبا جهل وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط من أصلاب العرب ومع ذلك فإنهم في الدرك الأسفل من النار.(19/5)
العرب بين الإسلام والبعث
إن العرب ليسوا بشيء ما لم يكونوا بالإسلام؛ فإن قاموا في الإسلام فهم وغيرهم من أمم العالم شرقيه وغربيه يتنافسون في هذا الدين وكلاً ينال حظه منه.
أليس البخاري من بخارى؟ أليس أبو داود من سجستان؟ أليس الترمذي من ترمذ؟ أليس علماء الإسلام كلهم من مختلف بلاد العالم؟ ما الذي رفعهم: هل رفع البخاري أنه عربي؟ هو من بخارى، هل رفع الترمذي لأنه عربي؟ هو من ترمذ، هل رفع مسلم بن الحجاج أنه عربي؟ بل هو من نيسابور، إذاً ما الذي رفعهم؟ رفعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أراد أن يرفع في العرب راية القومية فرايته فاشلة، وهذه الراية يا عباد الله سبق وأن صفقت لها سذج الجماهير وبسطاء الناس أيام جمال عبد الناصر وما ذلك علينا ببعيد، قام الناس يريدون أن يجعلوا للأمة زعامة عربية يجتمعون باسم العربية، وينضوون تحت لواء العرب، وتجمعهم الرابطة العربية، ولكن حتى هذه الرابطة العربية تنقسم أقساماً فيما بينها، فالمصريون وهم عرب يختلفون فيما بينهم هؤلاء عرب من هذه وهذه، فالعراقيون وهم عرب يختلفون فيما بينهم، والنجديون وهم عرب ينقسمون فيما بينهم، واليمنيون وهم عرب ينقسمون ويتفرقون فيما بينهم؛ إذاً فرابطة العربية رابطة لا تنضبط ولا يمكن أن ينضوي تحت لوائها ولو عشرة أشخاص؛ لأن كل واحدٍ منهم ينزع إلى قبيلة.
فإذا كنت تتفاضل على هؤلاء بأنك عربي فالعرب بعضهم قد يرفعونها عصبية فيتفاضلون فيما بينهم بقبائلهم، والقبيلة الواحدة يرفعونها عربية فيختلفون فيما بينهم بتفاضل أفخاذهم على بعض، والفخذ الواحد يتنازعون فيما بينهم بتفاضل كل أسرة وعائلة على بعض.
إذاً: فالعربية ليست رابطة، إنما الرابطة الإسلام، إن الذين يطبلون وينعقون في هذه الإذاعات البعثية يريدون أن يجمعوا الأمة تحت لواء العرب هذا لواء فاشل، هذا لواء مدحور، هذا لواء مستهلك أراد عبد الناصر أن يجمع العرب به ففشل، وانكشفت أطماعه، وأخزاه الله، وولى إلى قدر الله نسأل الله أن يجازيه شر ما جزى طاغية في فعله، ألم يعذب المسلمين وهم عرب؟ ألم يقتل الإخوان المسلمين؟ ألم يشنقهم في السجون؟ ألم ينصب لهم ساحات الإعدام؟ ومع ذلك ما نفعهم أنهم عرب بين يديه؛ إلا أن حقيقة الأمر تعود إلى حقد الإلحاد وإلى بغضائه وكراهيته في العقيدة.
فينبغي -يا معاشر المؤمنين- حينما نقع في مصيبة من المصائب ألا نفزع لكي نسمع التحليل الاخباري من إذاعة لندن أو نسمع إذاعة مونتكارلو أو أي إذاعة بل نفزع إلى كتاب الله، ماذا يقول الله جل وعلا؟ {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء:83] لو أن كل حدث نرده إلى كتاب الله وسنة رسول الله لعلمه الذين يستنبطون الفقه ويعرفون أحكام الشريعة لا أن نصدق ما تقوله الإذاعات، وحسب مسلم جهلاً وغفلة وبلاهة وسخافة أن يأخذ الفكر من هذه الإذاعات.
إن الإذاعات التي تطنطن وتطبل من هذه الأحزاب الضالة والله ما تبني في مسلم شهامة، ولا ترفع فيه كرامة، ولا تجعل له من الدين آية أو راية هذه حقيقة البعث حزب علماني، فصل الدين عن الدولة، لا مكانة للقرآن والسنة فيه، حزب قومي يجمع العرب أياً كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً أو دروزاً أو بعثيين المهم أنهم عرب، حزب الاشتراكي لا بد أن تنتزع رصيدك الذي في البنك وأقسمه فيما بيني وبينك وأنت يا من تملك السيارتين لا بد أن تقسم بيني وبينك هذه مزاعمهم، وهذه أفكارهم، فهل بعد هذا يظن مسلم أن هذه العناصر التي يرفعها هذا الحزب ليست معقولة فعلاً فضلاً أن تطبق واقعاً، لا يمكن أن نتصور أن نستطيع أن نجمع أمة على رباط علماني قومي اشتراكي.
أليست لبنان أريد لها أن تكون دولة اللبنانيين أجمع بما فيهم الدروز، وبما فيهم المليشيات المسيحية، وبما فيهم النصرانية وبما فيهم مختلف الطوائف؟ هل استطاعت لبنان أن تجمع دولة واحدة تحت جنسيات وعقائد مختلفة؟ لا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال:39] لأن الفتنة في بقاء هذه المذاهب، وفي مدى بقاء هذه الجنسيات، وفي بقاء هذه الأحزاب والتيارات: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] حينما يكون الدين لله، والحكم لله، والأمر لله، والتشريع لله، حينئذٍ تستقر الأمة، أما أن يراد لأمة من الأمم أن تكون دولة وتحتها أحزاب مختلفة وترفع شعارات متباينة، تريد أن تجمع الناس خليطاً مزعجاً مشتركاً من العقائد والمذاهب والتيارات؛ هذا لا يمكن أن يتحقق تخيلاً فضلاً أن يطبق واقعاً.(19/6)
زعم البعث للحرية
معاشر المؤمنين: ويزعمون خداعاً للسذج والبسطاء: أن هذا الحزب يرفع شعارات الوحدة والحرية، ولذلك انخدع بهم وانكشف من انكشف معهم من أذنابهم في الجنوب والشمال وعرفوا على حقيقتهم، ولكن اعلموا وخذوها قاعدة: (إن الذي ليس على دينك لا يعينك) قالتها العوام والعجائز والشيوخ.
والله هذا أمر حقيقي، ظننا أن بعض الأمم يمكن أن يجدي فيها المعروف وبسط المعونات والمساعدات، وفي هذه اللحظات الحرجة نجد النكوص والغدر بالعهود والمواثيق ولكن حسابهم مع الله قريب، نسأل الله أن يرينا فيهم أسوأ ما رأيناه.(19/7)
سفاح يعظ جنوده بالجهاد في سبيل الله
معاشر المؤمنين: وأما ما رفعه ذلك الطاغية البعثي -الذي يجلّ المنبر عن ذكر اسمه- وحزبه أولاً: الجهاد في سبيل الله عبر إذاعة مستأجرة بالأموال، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، إذاعة استأجرت حناجر بالأموال، وأقلاماً بالأموال لتكتب عن الصف ولتطنطن في الإذاعات، وماذا بعد ذلك يا عباد الله؟ أخذوا يرفعون شعار الجهاد في سبيل الله وتحرير الحرمين، وعجبت يوم أن سمعت هذا:
خرج الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا
ومضى في التو يمضي ويسب الماكرينا
يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا
أصبح فرعون واعظاً! متى عرفت الثعالب بالأمانة؟! متى عرف فرعون بالوعظ والإرشاد؟! أفي هذه اللحظات خرج ذلك الطاغية البعثي يصيح عبر الحناجر المأجورة والأقلام المستأجرة يرفع نداء الجهاد في سبيل الله، هل يرفع نداء الجهاد في سبيل الله الذي قتل الأكراد في كردستان، منطقة يسكنها الأكراد السنة تتنازعها خمس دول، إقليم يتاخم الاتحاد السوفيتي، وإقليم يتاخم تركيا، وإقليم يتاخم سوريا، وإقليم يتاخم العراق، هذه الأقاليم المتاخمة في وسطها بلاد اسمها كردستان أغلبهم من السنة، هؤلاء كان عدواً لدوداً لذلك الطاغية المجرم، ولما أراد أن يفتك بهم ماذا فعل؟ أرسل الطائرات فضربتهم وجعلت بلادهم خراباً بل قاعاً صفصفاً كأنه ليس بها على ظهر الأرض أحد، ولما فر من فر من النساء والأطفال والعجائز والشيوخ قابلتهم الناقلات والشاحنات التي تحمل المواد الغذائية، ففرغت المواد الغذائية هذه الناقلات وحمل فيها الأطفال والعجائز والأرامل والشيوخ، فلما بلغه الأمر قال: الآن الفرصة! اضربوهم وهم في صناديق الشاحنات، فتوجهت الطائرات وأنزلت قذائفها على كل شاحنة تمتلئ بالبشر، وعندي صور تدل على هذا، لا أقول هذا جزافاً لا والله بل عندي صور ورأيت فلماً مصوراً من التلفزيون الاسكندنافي من أوروبا نقل عبر الأقمار الصناعية في هذه المذبحة التي بلغ عدد ضحاياها أكثر من ثلاثمائة ألف.
هل الذي يفعل هذا يرفع الجهاد في سبيل الله؟! هل الذي يفعل هذا بالمسلمين يرفع الجهاد في سبيل الله؟! هل الحزب يحرق عالماً من علماء العراق بالنار لما امتنع من أن يؤيد الاشتراكية والبعثية؛ صبوا عليه البنزين وأحرقوه بالنار، هل يرفع الجهاد من يفعل هذا؟ كيف تنطلي على أمة المسلمين هذه الألاعيب وهذه الحيل؟! إن كثيراً من الأمم قبلهم قد رفعوا شعار الإسلام ليصلوا في ذلك إلى أطماعهم ومؤامراتهم ومع ذلك ما كان العلماء والفطناء والأذكياء يغفلون عن هذه الشنشنة الأخزمية التي عرفت من أولئك الفجار الذين يتلاعبون بعقول الأمة، ولكن الحقيقة تفرض نفسها إن الإعلام يعبث بالشعوب، ولذلك لما رفع ذلك الطاغية شعار الجهاد في سبيل الله تطوع عدد من السذج في بعض البلدان المجاورة وقالوا: نحن جنود لهذه الطائفة، وإن كنت تريد أن تغزو إسرائيل أليست إسرائيل جارة للبعثيين، لماذا لم ينل إسرائيل طلقة رشاش واحدة؟ إن كنت تريد الجهاد فالميدان قريب ولا يحتاج إلى مسافة، وهل رفع الجهاد إلا في هذه اللحظة التي دخل فيها جنودهم وسرقوا الأموال وخوفوا الآمنين وشردوا المطمئنين؟ كيف تنطلي على العقول لعبة ما يسمى بالجهاد في سبيل الله.
إننا أولى أن نرفع هذه الراية، وإننا أولى بها أن نعلن الجهاد في سبيل الله ضد البعثيين الملاحدة الكفار، ولا طمأنينة إلا برفع راية الجهاد في سبيل الله: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) (وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا) فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، وتبعتم أذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
والله ثم والله ثم والله إن ما حل بـ لبنان والكويت وأفغانستان وكشمير ليس ببعيد أن يحل بنا ما لم نجاهد في سبيل الله {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ماذا يفعل الإعداد؟ {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60] {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ} [الأنفال:60].
نعم يا عباد الله! إن الإعداد يوم أن تعلم الشعوب المجاورة أن الشعب السعودي شعب مجند، مدرب، يحمل السلاح ويعرف إطلاق النار، ويلبي نداء الجهاد، وفي أي لحظة يقدم كفه على روحه وليمت من يمت وليقتل من يقتل هكذا تبقى الأمة:
وفي القتلى لأقوام حياة وفي الأسرى فدىً لهم ورق
ما لم تقدم الأمة ثمناً للأمن والرخاء والطمأنينة من فلذات أكبادها وإلا فإن دورة الحياة دائرة، دورة الأمن والرخاء والطمأنينة تدور دورة، ثم تنتهي بخلود الناس وتوجههم إلى الترف والرفاهية والعبث بملذات الدنيا، لا نريد هذا نريد أنفسنا وشبابنا يقفون في أي لحظة وهم مستعدون أن يتوجهوا إلى الجبهات كلٌ يعرف ثكنته وقائده ومهمته؛ بهذا تحفظ الأمة نفسها.
والله يا عباد الله! لا يحفظ البيت إلا صاحبه، ولا يحفظ الدار إلا بانيها، وإننا نسأل الله جل وعلا أن يجعل في هذه الأمة خيراً وبركة، ولا يزال فيها كثير من الخير بل الخير كله إلا ما شاء الله بما كسبت أنفسنا، نسأل الله أن يبارك لنا في ذلك، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
ثم اعلموا يا عباد الله! أن الذي يرفع هذا اللواء ليحرر فلسطين ليس هو ذلك الذي جاء بالحديث في آخر الزمان: (تقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم ورائي يهودي تعال فاقتله) ولم يرد في الحديث يا بعثي ورائي يهودي تعال فاقتله فماذا يرجى من هذه الدعايات المضللة التي تغني صباح مساء:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني
هل ينتظر من هؤلاء الملاحدة أن يرفعوا للإسلام راية أم أن يجاهدوا في سبيل الله؟ إذاً: فاعرفوا ذلك معاشر المسلمين، أما دعواه أنه سيضرب إسرائيل فوالله ثم والله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
والله لا يستطيع ولا يجرئ على غزو اليهود إلا مسلم يتحرك بذلك؛ ليس لأجل العرب وإنما لله ولأجل الله وفي سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وأما ما سوى ذلك فلن يستطيع بأي حال من الأحوال.
معاشر المسلمين: إن الذي يرفع راية الجهاد ليس هو الذي يفرض عقوبة الإعدام على من يدخل أشرطة إسلامية في البلد، إن من وجدت في حوزته أشرطة إسلامية من الخطب والندوات والمحاضرات لعدد من العلماء عقوبتها الإعدام، فهل الذي يرفع الجهاد في سبيل الله يعاقب بالإعدام على هذا؟ كذلك: هل الذي يرفع راية الجهاد في سبيل الله يقتل آلاف المسلمين، ويجعل عقوبة المحافظة على الصلاة مع الجماعة بانتظام أن يكون صاحبها مشبوهاً يتابع ثم يعاقب بالسجن والأعمال الشاقة؟ أهذه صفات وسمات من يرفع راية الجهاد في سبيل الله؟(19/8)
العبرة من حادثة غزو صدام للكويت
واعلموا يا معاشر المسلمين: أن الأمة ما لم تستفد من هذه الحادثة درساً وعبرة وآية عظيمة فمتى تعتبر إذاً؟ متى نعتبر إذا لم نعتبر بالمسلمين ولما حصل لإخواننا وجيراننا، واعلموا أنها ليست الأولى، إن ما فعل بالكويتيين فعل بالأفغان نقطة نقطة دقة بدقة.
والله إن ما فعل بالكويتيين فعل بالأفغان، أخرجوا من ديارهم، وقتلوا، وشردوا، وحملت بناتنا، ورمين عرايا من على الطائرات، وعلق الأطفال في أغصان الشجر، وسلخوا كما تسلخ الشياه، وتسلخ فروة الرأس من الجمجمة ألوان من التعذيب، في منطقة من مناطق بنشير في الشمال فيها خمسمائة مسلم دكدكتها الطائرات وانتهت وليس لها وجود أبداً.
إن ما يفعل بـ الكويت سبق وأن فعل بـ أفغانستان وفعل بالمسلمين السنة في لبنان، ولكن هل نعتبر يا معاشر المسلمين؟! مع أننا على أمل وثقة بالله أن الله جل وعلا سيرفع هذا العدوان، وستعود الكويت لأهلها ولأبنائها ورجالها، وعسى الله أن يجعلها بعد ذلك دار عز وتحكيم لكتاب الله وسنة نبيه ووحدة على كتاب الله وسنة نبيه لإعلاء الدين والأمة.
معاشر المسلمين! إن ما حل بالمسلمين بـ الكويت لا يمكن أن ينساه التاريخ وسيبقى في سجل التاريخ مدوناً حرفاً حرفاً، فصلاً فصلاً، مشهداً مشهداً؛ لأن الناس أصبحوا يشكون هل هم في حلم أم في يقظة، إن منهم من يقول: هل أنا الآن في أحلام على فراش أم أنا في يقظة أتعامل مع الأحداث وأنا حي يقظ؛ من شدة الهول والفاجعة في مرارة المأساة.
وهذه أمثلة ورأيتم عبر الشاشات والتلفاز والإذاعات وسمعتم ما حصل وما ذكره إخواننا نسأل الله أن يفرج وأن يرفع البلاء عنهم: سيارة خرجت في ثمانية عشر شخصاً، رب أسرة مع أسرته وأولاده وبناته يتوجه فراراً بعرضه -لأنهم بدءوا بالأعراض قبل الأموال- وبدينه وبنفسه وما الذي حدث؟ وجد المنافذ الحدودية مغلقة، فسلكوا الطرق البرية فتعثرت السيارة في الرمال، ولم يكن حولهم من يسعفهم حتى جاء رجال الإغاثة؛ فوجدوا من في السيارة ما بين طفل وأم وبنت قد ماتوا ثمانية عشر ماتوا من الجوع.
وليسوا وحدهم يا عباد الله! بل الذين ماتوا كثير لكن هذه الحادثة مات بها أقوام من العطش والجوع في الرمال بسبب من؟ ولوجه من؟ ولأجل من؟ ولمصلحة من؟ لهذه النزوات البعثية الحاقدة على الإسلام والمسلمين.
وما حال المسلمين في تلك اللحظات، اجتاحوا وفي المستشفيات نساء يلدن؟ يعانين آلام الطلق والولادة، اجتاحوا المدينة وفي المستشفيات من المعوقين والمشلولين والذين هم في غيبوبة الذاكرة أخرجوهم ورموا بهم في الطرقات والشوارع منهم من مات في مكانه، ومنهم من جاء من يسعفه لأجل من؟ ولوجه من؟ وفي سبيل من؟ هذا سؤال لا يوجد له جواب أبداً في هذه اللحظات، هناك من كانوا يغسلون موتاهم، هناك من كانوا يدفنون موتاهم، هناك من كانوا يشهدون جنائزهم، مصيبة لا تعدلها مصيبة، أناس قد أمسوا آمنين فأصبحوا مشردين، أناس أمسوا أغنياء فأصبحوا فقراء، أمسوا مجتمعين وأصبحوا مشردين، كل هذا لمن؟ لا تجد جواباً إلا أنه إشباع لهذه النزوات التوسعية البعثية الحاقدة على الإسلام والمسلمين.
والآن في هذه المدينة مزارع خاوية ليس فيها إلا الهزال من الشياه والماعز، وفيها قصور تعبث بها الريح وتصفر في ردهاتها وجنباتها، لماذا شردوا أهلها؟ لماذا طردوا عنها؟ لوجه من؟ ولمصلحة من؟ كلها مصيبة من أعظم المصائب.
ومما يدلكم على أنه عدوان مادي توسعي حاقد: أن أحد إخواننا من رجال الإغاثة قابل أسرة كويتية ملطخة بالدماء، فقال: ما الذي بكم؟ قالوا: كان معنا رجل ومعه ساعة ثمينة، فقال الجندي الحاقد: أعطيني الساعة، فرفض أن يسلمها له؛ ففتح الرشاش على جسمه وصدره، ثم تناثر دمه حتى لطخنا كما ترى والحال هذه، كل هذا لا تجد له جواباً إلا أن أولئك اجتمعوا على الكفر والباطل، ونحن يا أمة الإسلام ينبغي أن نجتمع على راية التوحيد وكلمة الإيمان.
إن ما حل لم يحل بالكويتيين وحدهم بل حل بالمسلمين أيضاً قبلهم، ومع ذلك فهل نعتبر؟ هل نجد من هذا عبرة؟(19/9)
الثقة بالله رأس كل شيء
أعود بعد ذلك إلى فصل خطير من هذه القضية ألا وهو: مشاركة القوات الأمريكية لا أقولها معترضاً لا، وإنما أقولها سائلاً الله عز وجل أن يجعل مجيئهم سخرة لنا، نسأل الله أن يسخرهم لنا، وأن ينفعنا بما عندهم من علومهم وأن يدفع البلاء عن المسلمين أجمع هذه القضية صار فيها هرج ومرج، ولكن فلنفهم جيداً أن الأمريكان أهل كتاب نصارى أما البعثيون الذين يقولون:
آمنت بـ البعث رباً لا شريك له
فإنهم لا يؤمنون بالله فهذه استعانة بنصراني على ملحد بعثي غاشم، افهموها جيداً ولا تعبث بكم الأهواء والأفكار أو حديث المجالس واللقاءات الخاصة، وبعضكم لا يدري كيف يحلل الوضع جيداً.
والأمر الآخر يا عباد الله! أن الناس كانت أيديهم على قلوبهم من الفزع والخوف والقلق قبل وصول القوات الأمريكية، فلما وصلت اطمأنوا جميعاً! نحن لا ننزعج من وصولها ولكن ننزعج من أن الناس ارتبطوا بهذه القوة ولم يرتبطوا بالله، هنا الخطورة.
يوم معركة بدر كم كان عدد الصحابة؟ وكم كان عدد المشركين؟ كان عدد الكفار ثلاثة أو أربعة أضاعف المؤمنين، ومع ذلك القلة المؤمنة انتصرت على الكثرة الكافرة، ويوم حنين كان عدد الصحابة اثنا عشر ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فهزم المسلمون في البداية ففي بدر كان المؤمنون قلة والكفار كثرة فانتصروا؛ لأنهم تعلقوا بالله تعلقاً وقطعوا الأمل بما سواه فنصرهم الله جل وعلا وما النصر إلا من عند الله {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
عدد الصحابة اثنا عشر ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فانتصر الكفار في البداية.
إذاً: هل الذي يحقق النصر هو القلة والكثرة أم الله جل وعلا؟ إنه الله جل وعلا؛ فلنرتبط بالله، ولنعلم أن الأمر بالله، ولنلح بالدعاء وسؤال الله جل وعلا أن يهلك هذه الأمة الظالمة الفاسدة.
ومن المصيبة أن من شبابنا أو رجالنا -ولا أقول كلهم- من يجلس يحلل الأحداث على ضوء ما يسمع من الإذاعات والنشرات والتحليلات وعلى ضوء ما عند الدول والقوات والعدد والعتاد، وينسى أن يجعل الأحداث مرتبطة بمن أحدثها ومن قدرها ومن خلقها ومن له المشيئة والحكمة البالغة فيها.
مثال ذلك: شخص في هذا المكان فلا يرى مخرجاً إلا مع هذه الأبواب المفتحة، أما المسلم فيرى في كل نسمة وذرة من هذا المسجد مخرجاً له لماذا؟ لأنه يرتبط بالله والله قادر أن يفتح له أبواباً عديدة.
فينبغي أيها الأحبة ألا نظن أن النصر، أو هزيمة الكفار البعثيين، أو أن خلاص الأمة من هذه الأزمة مرهون بهذه الأمور التي نراها ونسمعها في الأحداث والتحليلات، بل إن لله أمراً لا نعلمه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52] فعند الله أمر لا تعلمونه، فاسألوا الله هذا الأمر الذي به الفرج والنصر والعزة وما ذلك على الله ببعيد.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(19/10)
دعوة لمساعدة أهل الكويت في محنتهم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المسلمين: إن واقعنا الآن يحتاج إلى نجدة، ويحتاج إلى نخوة، ويحتاج إلى إيثار، ويحتاج إلى تضحية لنقف مع إخواننا أبناء الكويت؛ علنا أن نجزيهم أحسن ما صنعوا بالمسلمين في أفريقيا، إن المعروف لا يضيع، وذلك مثل: لجنة الدعوة الإسلامية، وهي لجنة كويتية ذات أعمال إسلامية نافعة رائعة، ولجنة مسلمي أفريقيا، لجنة كويتية لها نشاط لا يمكن أن ينكر في بلاد أفريقيا.
إخواني! إن أبناءنا وأمهاتنا وأصهارنا وأنسابنا وأقاربنا وأحبابنا الدعاة إلى الله الصالحين من أهل الكويت! إن للجميع حقاً علينا فلا بد أن نقوم به، وذلك بالمشاركة في أعمال الإغاثة، وهذا أوان بذل المقصود والمطلوب؛ فمن تأخر عن هذا الصيف ضيع اللبن! إذا لم تفزع الآن فمتى تفزع؟ إذا لم تتحرك الآن فمتى تتحرك؟ متى تهب لنجدة إخوانك؟ إن هيئة الإغاثة الإسلامية المتفرعة عن رابطة العالم الإسلامي وهي تقع على الخط الدائري في الجهة الشرقية من الخط الدائري بعد مسجد الرسي تستقبل جميع تبرعاتك، وإخوانكم وأحبابكم في هذا المسجد ومحدثكم إلى الله الفقير إلى الله عضو فيها نستقبل تبرعاتكم ومعوناتكم، وسنجعل على الأبواب من يجمع التبرعات الآن؛ فرجائي أيها الأحبة أن تهبوا لنجدة إخوانكم وأن تفزعوا لمساعدتهم وأن تبذلوا بذلاً سخياً طيباً {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] ينبغي أن نبذل وألا نخشى فقراً {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268] فمن أنفق أُنفِق عليه، ومن تصدق تُصدق عليه، والصدقة تدفع الخطيئة وتدفع البلاء وتطفئ غضب الرب.
والأمر الأهم من هذا أيضاً: الدعاء الدعاء يا عباد الله! اجتهدوا في الفجر وفي صلاة الوتر وفي جميع الصلوات أن تسألوا الله جل وعلا لإخوانكم أن يفرج الكربة، وأن يرد الأهل إلى ديارهم وبيتهم، وأن يعزهم، وأن يجمع شملهم من جديد، وإلا فإن المصاب ليس بهين أبداً، كل واحد منكم: ما شأنك الآن لو أنك الآن لا تعرف أين زوجتك؟ أو أنت لا تعرف أين أختك أو بنتك؟ أو أنت لا تعرف أين ولدك، أو لم تجد بيتاً تسكنها، أو لا تجد مالاً، أو سيارتك واقعة أمامك لا تجد مالاً تشتري به وقوداً تقودها؟ الأمر ليس بهين طفلٌ يبكي يريد حليباً وليس في جيبك ريال، ماذا تفعل أمام هذه المصيبة؟! وأم جف ثديها بهول الفاجعة، ماذا تفعل أمام هذه المصيبة؟! أو بنت انتهك عرضها وأنت ترى ماذا تفعل أمام هذه المصيبة؟ هذه تحتاج إلى فزعة ونجدة فافزعوا وابذلوا لوجه الله جل وعلا والدعاء الدعاء.
وأوصي الإخوة الذين يقومون على أعمال الإغاثة في المدارس أن يطلبوا من الساكنين في المدارس من إخواننا الكويتيين والساكنين في مختلف المساكن والمجمعات أن يقوموا قبل الفجر بساعة وأن يسألوا الله أن يفرج كربتهم، والله هذا هو السلاح، الذي به ترد الحقوق، وبه يشفي الله صدور المؤمنين من الكافرين، وبدون هذا إن نحن نتكل على قوة فإن القوة خذلت المؤمنين والرسول معهم، الكثرة ينبغي ألا نتكل عليها بل نعتمد على الله جل وعلا ثقة بالله وثقة بنصر الله {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] من هنا نجد طريق النصر، البذل والإيثار والدعاء والتقرب إلى الله بترك الذنوب والمعاصي.
إن من شبابنا من لم يزالوا في غفلتهم وكأن شيئاً لم يكن، لا زالت شلل البلوت تجتمع، ولا زال بعضهم يجتمعون على الطرب، ولا زال بعضهم يسهرون، ولا زال بعضهم يسمعون ويغنون وكأن شيئاً لم يكن، والله إن الأيام تدور، وكلٌ ينال حظه؛ لكن ينجي الله الذين آمنوا والذين اتقوا {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ} [الزمر:61].
فبإذن الله جل وعلا إذا حصل هذا الإيمان، وهذه العودة والتوبة والتقرب إلى الله بترك الذنوب والمعاصي فأبشروا بالفرج عاجلاً غير آجل، وثقوا بالله فإن من وثق ولجأ وتوكل على الله فإن الله لا يخذله.
أسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أهلك البعثيين، اللهم اهلك طواغيت البعث، اللهم احصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، واجعلهم بدداً.
اللهم زلزل الأرض تحتهم، وأنزل عليهم طيراً أبابيل من فوقهم، اللهم اجعل الرعب عن يمينهم والخوف عن يسارهم، اللهم اجعل شبح الموت في وجوههم، وأهلكهم بعزتك وما ذلك عليك بعزيز يا رب العالمين.
اللهم لا تجمع للبعثيين شملاً، اللهم لا توحد لهم صفاً، اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم شتت لهم ما تجمع وفرق لهم ما تألف، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم أخرجوا المشلولين، اللهم أخرجوا المكفوفين، اللهم فعلوا بالنساء الحبالى وحديثي الولادة فعلوا بهم مالا يفعله يهودي ببشر، اللهم فأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أخزهم، اللهم رد كيدهم في نحورهم.
اللهم احفظنا بالإسلام، اللهم توكلنا عليك وحدك لا حول ولا طول ولا قوة إلا بك وحدك لا شريك لك، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت الأول والظاهر والباطن، وأنت على كل شيء قدير، اللهم إليك أنبنا، وبك اطمأننا، وإليك توجهنا، فلا تخذلنا يا ربنا.
اللهم إنا نسألك أن تؤمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم اجمع شملهم، اللهم أدم عزهم ورفعتهم وكرامتهم، اللهم لا تفرح عليهم عدواً، اللهم لا تشمت فيهم حاسداً، اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك وجنود الأرضين بقدرتك.
اللهم ارحم المستضعفين.(19/11)
الخطر القاتل
إن الله سبحانه وتعالى حرم الزنا وحرم دواعيه، فقال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) وجعل سبحانه حداً لذلك، ولكن إذا كانت أمة بأكملها تحاد الله ورسوله وتجاهره بالمعاصي فإنها تهون على الله، ويرسل عليها أضعف مخلوقاته من الفيروسات والأوبئة، ولا يوجد علاج لذلك إلا اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(20/1)
عاقبة من أعرض عن ذكر الله وطاعته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ويقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله: يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى أعلنوا بها، إلا ابتلاهم الله بالأوجاع والطواعين التي لم تكن في أسلافهم).
أيها الأحبة: نقول هذا الحديث تمهيداً أو مقدمةً لما هو حدث الأسبوع، حيث إن منظمات الصحة العالمية قد جعلت يوماً مضى في الأسبوع المنصرم هو يوماً عالمياً لمكافحة مرض الإيدز، والعجب -يا عباد الله- أن تلك الأمم التي فتحت فنادقها، وشركات السياحة فيها، وشواطئها، وأماكن اللهو والدعارة فيها، هي التي تدعو إلى ذلك، فسبحان الله العلي العظيم عما يصفون ويفعلون من التناقض والعجب العجاب فيه!! أيها الأحبة: لا شك أنكم تعلمون أننا في زمنٍ تيسرت فيه سبل الفواحش، وتنوعت فيه أسباب الفاحشة، وتعددت فيه مظاهر الفساد، وكل هذا والله لبعد الأمم عن كتاب الله وسنة نبيه، وصدق الله جل وعلا حيث يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] أولئك الذين يظن بهم ضعاف الناس، وجهلة الخلق، وغوغاء الشعوب، يظنون أنهم أهل الحرية، وأهل الانفتاح، وأهل التقدم والمدنية، أولئك والله يعيشون أمراضاً لا حصر لها، وأنواعاً من البلاء لا يحصيها إلا الله، وما ذاك إلا لبعدهم وإصرارهم وصدهم عن كتاب الله وسنة نبيه، فهم ينهون وينئون عن شرع الله، فحسبهم ما أصابهم في الدنيا ولهم من الله في الآخرة عذابٌ عظيم.
أما ذلك المرض الذي توافرت فيه جهود منظمات الصحة العالمية، لكي تجعل يوماً مضى في الأسبوع المنصرم لمكافحة الإيدز وما أدراك ما الإيدز.(20/2)
طرق انتشار فيروس الإيدز
تقول نشرة أصدرتها وزارة الداخلية ممثلة في مستشفى قوى الأمن بـ الرياض: إن سبب مرض الإيدز هو فيروسٌ صغيرٌ جداً، وتذكروا قول الله جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] أتظنون أن الله يعجزه عن الخلق شيء، لا.
والله إن الله جل وعلا بأمره وبإرادته وبمشيئته لو شاء أن يهلك الخلق بأدنى فيروسٍ صغير لا تراه حتى أجهزتهم ومكبراتهم وميكروسكوباتهم، أو ما ملكوه من وسائل التنظير والتكبير، فسبحان الذي لا يعجزه شيء! تلك الأمم التي ملكت أنواع المدمرات، وأصناف الطائرات، وأدق المخترعات، وأبدع المكتشفات، ومع ذلك عجزوا أن يجدوا علاجاً لفيروسٍ لا يرى بالعين المجردة، إن الفيروس أصغر بمرات كثيرة من المكروب، فسبحان الله العلي العظيم! كيف هانوا على الله حتى أهلكهم بأدنى وبأصغر جندٍ من جنوده فلا تأمنوا مكر الله! ولا تأمنوا عقوبة الله جل وعلا بأممٍ عاندت شرعه، وأصرت على محاربة دينه ودعاة شرعه.
أيها الأحبة: تقول هذه النشرة التي أصدرها مستشفى قوى الأمن بـ الرياض: إن سبب مرض الإيدز هو فيروسٌ، وينتقل هذا الفيروس عن طريق الإبر الملوثة، وحقن المخدرات، فليعلم الذين يتهاونون بالمخدرات ابتداءً بمقدماتها، من أنواع العطور أو الكولونيات أو نحو ذلك، فليعموا أن نهاية المطاف، وأن غاية المصير هي المصيبة والطامة الكبرى التي لا علاج لها على الإطلاق.
وينتقل هذا الفيروس أيضاً عن طريق الاتصالات الجنسية الغير المشروعة، وينتقل فيروس الإيدز عن طريق اللواط -عافانا الله وإياكم- ويمكن أن تنقل هذا الفيروس أمٌ مصابةٌ إلى وليدها، وإننا والله نقول: يا مصيبة بعض الفتيات وبعض الزوجات وبعض النساء من أزواجٍ لا يخافون الله جل وعلا! ولا يراقبونه حينما يسافرون إلى الخارج! فأيما جنبٍ وجدوه ناموا معه! وأيما فراش ووجدوه مريحاً التحفوا به! وأيما فاحشة وجدوها وقعوا بها! فما حال امرأة يعود ذلك الزوج النتن الذي حمل بأصناف هذا الفيروس، الذي حمل هذا الوباء، يعود إلى بلاده لكي يضاجع زوجته فينقل إليها هذا المرض الخبيث! إنها مصيبة وطامة وبلية عظيمة، فتنبهوا -يا عباد الله- تنبهوا يا أولياء الأمور! تنبهوا يا من لكم ولاية على البنات والفتيات! لا تزوجوهن إلا من عرف منه الصلاح والاستقامة والطهر والعفاف.
وينتقل هذا الفيروس عن طريق نقل الدم الملوث، ويؤدي في نهاية الأمر وخاتمة المطاف، يؤدي هذا المرض بصاحبه إلى الهلاك بعد انهيار مقاومة المريض، وتحطم جهاز المناعة؛ فإذا تحطم جهاز المناعة في البدن لا تسل عن جيوش الميكروبات، ولا تسل عن أنواع الفيروسات التي تهاجم البدن، ولا يجد البدن بعد ذلك قوة أن يدافعها أو أن يصدها، ثم بعد ذلك يأتيه الموت رويداً رويداً، يوماً بعد يوم، ساعة بعد ساعة، لحظة بعد لحظة، دقيقة بعد دقيقة، بدلاً من أن يموت مرة واحدة يموت مرات عديدة، وينال آلاماً عظيمة؛ جزاءً بما جنت يداه: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
بينت تلك النشرة أن أكثر الناس عرضة للإصابة بالإيدز هم الشواذ جنسياً، والزناة، والذين يتعاطون الخمور والمخدرات والمسكرات، والذين يعاشرون البغايا والمومسات.
فيا عباد الله: كم من أولئك الذين يتقلبون في أحضان الفاجرات والكافرات في دول الشرق والغرب في دول الكفر، كم ينقلون! وكم ينشرون! وكم يوزعون أذناباً وإنتاجاً لهذا الفيروس حينما يعودون إلى دولهم وبلدانهم! أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا وإياكم من الفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(20/3)
تناقض الدول الأوروبية والغربية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله: العجب والغرابة كل الغرابة أن الدول الأوربية والغربية والشرقية التي تعاني من انتشارٍ ملحوظٍ لفيروس الإيدز في فئاتٍ عديدة وطبقاتٍ مختلفة من شعوبها، وأبناء مجتمعاتها، هي التي تدعو إلى مكافحة هذا المرض، فسبحان الله العلي العظيم! كيف يرخصون ويسمحون بفتح أماكن الدعارة والفساد وبارات الخمور، ثم بعد ذلك يدعون إلى مكافحة هذه الأوبئة، وإلى محاربة هذه الأمراض، فأولئك موقفهم تجاه شعوبهم كقول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
عجباً والله لهم! وأعجب من ذلك بعض ضعفاء البصيرة من المسلمين، الذين يمجدون دول الغرب على ما تدعو إليه من هذه المؤتمرات وتلك الندوات، بأنها الأمم التي تحارب الفيروسات في وقتٍ مبكر، وأنها الأمم التي تحارب المكروبات بطريقة علمية مبتكرة، وبأجهزة دقيقة حساسة، عجباً لأولئك في تطورهم! وعجباً لتلك الدول في واقعها، كيف ذلك الواقع المتناقض والحلول المتناقضة، والانفصام بين القول والعمل! يرخصون بالفساد، ثم بعد ذلك يدعون إلى محاربة ما ينجم عنه، فأولئك مهما طال المغرورون عنهم عجباً واستغراباً بما هم فيه من الحال أو عقد الندوات والمؤتمرات أولئك يصدق علهم قول الشاعر:
بنى مسجداً لله من غير حله فكان بحمد الله غير موفقِ
كمطعمة الأيتام من كسب عرضها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
لهم الويل، ولهم الثبور، وعليهم من الله ما يستحقون، لا يفتحوا أبواب الدعارة، ولا يرخصوا بأماكن البغاء، ولا يقننوا أساليب الفاحشة، ثم بعد ذلك هم في حلٍ ألا يعقدوا المؤتمرات والندوات عن هذا البلاء وعن هذا المرض، وما جناه وما أظهره إلا فعلهم وما كسبته أيديهم.(20/4)
العلاج الناجح والحقيقي من الأمراض والأوبئة
عباد الله: إن العلاج كل العلاج هو في دين الله جل وعلا، هو في شرع الله، هو في قول الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6].
إن العلاج كل العلاج والدواء كل الدواء في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} [النور:33].
في دولة بريطانيا عقد اجتماعٌ كبير ضم عدداً من الشخصيات واللوردات، وأخذوا يناقشون هذا المرض الذي سرى في الجيل البريطاني، وشباب لندن، والدول الغربية عامة، ثم قامت امرأة وقالت: إني أقترح عليكم علاجاً، فأرهف القوم أسماعهم، وشخصوا بأبصارهم إليها، قالوا: ما الذي عندك في هذا الحل؟ قالت: العلاج هو الحل السعودي قالوا: وما تعنين بذلك؟ عنت بذلك أن من زنا أن تطبق عليه حدود الله جل وعلا، وأن تمنع أبواب الفساد والدعارة، فالحمد لله -يا عباد الله- أن جعل بلادكم قدوة ونبراساً وقنديلاً ومشعلاً تستضيء به الأمم عامة، وتخرج به من الظلم أممٌ تاهت في دياجير الظلام، وحنادس الظلمة.
فيا عباد الله: اعرفوا قدر بلادكم، وقدر الطهر والعفاف فيها، وحاربوا كل دعوة تدعو إلى هتك حجب الحياء، ونابذوا كل مقولة تدعوا إلى الاختلاط، ونابذوا كل دعوة تسمح أو تتهاون في فتح أي نوعٍ من أنواع الفساد صغُر أو كبُر.
واعلموا -يا عباد الله- أن ما يُحذر منه لا يعني بالضرورة أن ما هو موجود، ولا يعني أيضاً أن الأعداء لا يفكرون في غزو الأمة به، فكونوا على مستوى الفهم، وعلى مستوى الوعي، وعلى مستوى الإدراك لما يريده أعداء الإسلام منكم.
عباد الله: إن دين الله جل وعلا يوم أن شرع حد الزنا أمر قبل ذلك بغض البصر، وأمر قبل ذلك النساء أن يقرن في بيوتهن، وأمر قبل ذلك بالحجاب، وأمر قبل ذلك بالحياء والفضيلة، ثم بعد ذلك يزيد حد الزنا عقوبة لمن تسور جدران الفضيلة، وحجب الحياء، غير مبالٍ بالأبصار، غير مبالٍ بالحجاب، غير مبالٍ بالحياء والطهر والعفاف.
إن شريعة الإسلام يوم أن شرعت حد السرقة، قررت قبل ذلك الأمر بالزكاة، والأمر بالصدقة، وكفالة أفراد المجتمع، وحث الناس على التوسعة لبعضهم البعض، ثم بعد ذلك جاءت العقوبات لمن خالف تلك الحجب، وتسور تلك الجدر.
أما الحلول الغربية المتناقضة فهي والله في غاية التناقض، وفي غاية الانفصام، من جهة يفتحون أبواب الدعارة والفساد، ومن جهة يدعون إلى علاج الأوبئة والأمراض، إنها أممٌ تتخبط في ألوان الضلالة، وأصناف الجهالة، ولا حل ولا علاج لكل أمة في هذا الزمان، وفي كل مكان وزمان إلا بكتاب الله وسنة نبيه.
إن الطهر إن الحياء إن العفاف لهو خير ما يحفظ الإنسان، وبقدر حفظك -أيها الرجل- نفسك يحفظ من دونك، وبقدر بعدك عن الوقوع في حرمات الله جل وعلا، يكون ذلك سبباً لبعد الناس عن أن يجترئوا عليك أو على محارمك وقديماً قال الشافعي رحمه الله:
من يزنِ يُزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
إن الزنا دينٌ فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلمِ
فيا عباد الله: احفظوا بيوتكم، واحفظوا أنفسكم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، ومكنوا الحياء في بناتكم وأولادكم، ومكنوا الحجاب في نسائكم تسدوا بذلك معروفاً لمن دونكم، وتحفظوا بذلك مجتمعكم.
أيها الأحبة في الله: إن هذا الفيروس قد انتشر انتشاراً عظيماً، وشاع في دول الغرب شيوعاً ذريعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ففي أمريكا وحدها في سنة من السنوات سبعة وعشرون ألف مصاب بهذا الفيروس، مات منهم ستة عشر ألف، ومعدل الوفيات نتيجة هذا الفيروس مائتين وعشرين رجل يموتون أسبوعياً، والدراسات والإحصائيات تقول: إنه خلال أشهرٍ عديدة قادمة سيكون معدل الوفاة من جراء الإصابة بهذا الفيروس ألف شخصٍ يموتون في الأسبوع الواحد.
فانظروا إلى عظم الجريمة، وانظروا إلى هوان الخلق على الله يوم ألا يبالوا بمحارمه، ويوم أن ينتهكوا حدوده فاحفظوا الله يحفظكم، احفظوه جل وعلا في أمره وفي نهيه، احفظوا الله جل وعلا يحفظكم، احفظوا الله في كل آنٍ، وفي كل زمان، وفي كل مكان، تجدوا الله تجاهكم، ومن لم يحفظه الله فلا حافظ له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
أسأل الله جل وعلا أن يحفظنا جميعاً، وأن يحفظ شبابنا، وأن يمنَّ على هذه البلاد بالطهر والعفاف والحياء، وأن يبعد عنها وأن يقهر فيها كل دعوة إلى الاختلاط والتبرج، أو إلى تيسير وسائل الاتصال التي لا تنبغي ولا تليق في مجتمعات المسلمين خاصة، وفي غيرها من المجتمعات عامة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أرادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره، يا سميع الدعاء! اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ إمام المسلمين، وإخوانه وأعوانه وثبتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم، اللهم سخر لنا ولولاة أمرنا ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كلِ بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.
اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولاهماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا غائباً إلا رددته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا عقيماً إلا ذرية صالحة وهبته، ولا أيماً إلا زوجته، بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، اللهم من كان منهم حياً فمتعه بالصحة والعافية على طاعتك، ومن كان منهم ميتاً اللهم جازه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم انصر عبادك الموحدين، وانصر جندك المجاهدين، اللهم انصر جندك المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين وفي الفلبين، وفي سائر أرضك يا رب العالمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً، سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار، اللهم اسق العباد والبهائم والبلاد، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، اللهم إنا خلقٌ من خلقك وعبيدٌ من عبيدك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك ورحمتك يا رب العالمين! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وزد وبارك على نبيك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وارض اللهم عن بقية العشرة وأهل الشجرة ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(20/5)
سفينة المجتمع
إن المجتمع كالسفينة، تحتاج إلى ربان ماهر يقودها إلى برِّ الأمان، فكيف إذا كان هذا المجتمع هو أمة الإسلام؟! وقد تحدث الشيخ عن المجتمع الإسلامي وعن الأخطار التي تعترضه، وكيف يمكن له أن يتجنبها وينجو منها، وعماد ذلك كله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(21/1)
حاجة السفينة إلى ربان ماهر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله جل وعلا أن يثيبكم خير الثواب، وأن يجزيكم أطيب الجزاء على حضوركم واستماعكم، ونسأله جل وعلا في مستهل هذا اللقاء أن يسددنا في القول، وأن يخلص لنا ولكم العمل.
عنوان هذه الكلمة التي اختار الإخوان عنوانها: (سفينة المجتمع) وهذا عنوان حَمَّال ذو وجوه، فلك أن تتكلم عن سفينة المجتمع وما يتعلق بالأمن والأمان في هذا المجتمع، والمخاطر التي تخترم الأمن وتهدد الطمأنينة، ولك أن تتكلم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه الذي جاء فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة) الحديث.
ولك أن تستنبط من هذا العنوان معاني عديدة، وحسبنا أن نشير إلى ما أشار إليه الحديث الشريف؛ فهو أقربها إلى الأذهان، وهو من درجات الإيمان، ومن أهمها ومن أحوج ما تحتاج إليه الأمة في هذا الزمان.
أيها الأحبة في الله: إن المتأمل في حال البشر تماماً يراهم مثل أقوام ركبوا السفن: فمنهم من ركب سفينة متينة، وأبحر باتجاه أمواج متلاطمة لا توصله إلى بر الأمان، بل سرعان ما تنكسر خشبته وتتحطم ألواحه ويتيه الربان ويضيع الركب، ولا تسأل عن هَلَكَة القوم بعدئذ؛ فالسفينة لا تغني قوتها ولا صلابتها عن أن يبحر بها ربان ماهر قادر يبحر بها ويتجافى ويتحاشى أمواجاً لا يطيقها، ويأخذها ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة، يمشي بها الهوينا حينما يتعثر السير، ويجدُّ بها إذا وجد طريقاً ميسراً، ونصَّ وأسرع في سيره حتى يبلغ بأهلها.
وقوم ركبوا سفينة ضعيفة فلم تقاوم أدنى موج من أمواج البحر فانكسرت بأصحابها.
وأقوام ركبوا سفينة متينة وسار بهم ربان ماهر قادر خرِّيت مجرب، وسار وأبحر بهم إلى بر الأمان بإذن الله، فأولئك هم الذين أنعم الله عليهم من أهل الصراط المستقيم: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
وإن تشبيه الناس في هذا المجتمع كقوم على سفينة لتشبيهٌ بليغ وجميل جداً؛ إذ أن الناس قد أبحرت بهم سفنهم من أول يوم وُجِدوا وخُلِقوا ونزلوا على وجه هذه الأرض، وكلنا أيها الأحبة قد ركب هذه السفينة، فهي تمخر بنا عباب السنين والأعوام.
والليل فاعلم والنهار كلاهما أرواحنا فيها تعدُّ وتحسبُ
إن الجديدين إذا ما استوليا على جديدٍ أسلماه للبلى
منع البقاءَ تقلبُ الشمس وخروجُها من حيث لا تمسي
وبزوغُها صفراءَ صافيةً ومغيبُها حمراء كالوَرْسِِ
نحن قد أبحرت بنا السفن: فمنا من قطع من الرحلة عشرين أو ثلاثين أو أربعين، ومنا من هو الآن على شاطئ النهاية، وبعد النهاية -نهاية الدنيا- يستمر ويمضي في برزخ إلى أن يبعث يوم القيامة.
فنحن في سفينة ماخرة بنا إلى الدار الآخرة؛ فيا ليت شعري أين يكون الشاطئ وأين يكون بر الأمان؟! وأين الجودي الذي تستوي عليه هذه السفينة؟! قال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة -أي: ضربوا القرعة بينهم، والسهمان أو ضرب القرعة من الأمور التي يُلْجَأ إليها عند تساوي الأمور- فكان لبعضهم أعلاها وكان لبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء -أي: طلبوا السقيا وأرادوا الماء- مروا بالذين من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا هذا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن هم تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) هذا الحديث عند البخاري رحمه الله، وهو حديث عظيم وفيه من الفوائد المستنبطة الجليلة العظيمة الكثير: فمنها: جواز ضرب الأمثلة.
ومنها: البيان والتوضيح.
ومنها: جواز القرعة.
إلى غير ذلك.(21/2)
مجتمعات تقاذفتها أمواج البحر
أيها الأحبة في الله: ينبغي أن نعلم تماماً أن سفينة مجتمعنا هي ماضية بنا وكل واحد منا عضو في هذا المجتمع، ومجموعنا نكون مجتمعاً واحداً وكلنا سائرون في هذه الدنيا إلى دار أخرى؛ ولكن من المهم تماماً أن نعلم أن كثيراً من الناس ربما تحطمت بهم السفينة قبل أن يبلغوا شيئاً من عمق البحر أو قبل أن تمخر بهم السفن في عرضه وطوله.
أعني بذلك: مجتمعات نشبت فيها الفتن وكثر فيها القيل والقال، وضاعت فيها المناهج، واختلطت المبادئ، وضيَّع القومُ صراطاً مستقيماً مبيناً قويماً، وأصبح الدليل حيران.
تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيَّع الركبَ أذنابٌ وأشباهُ
أيها الأحبة: إننا يوم أن ننظر إلى سفنٍ اجتماعية عبارة عن مدن أو مجتمعات أو دول: فمنها: مَن يتخبط ذات اليمين وذات الشمال.
ومنها: مَن هم ضاربون في أعماق الرذيلة والفساد والضلالة والانحراف {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
ومنهم: مَن تحطمت بهم السفن، وتكسرت بهم الألواح، وكثر الغرقى، ولم يُسمع لصائحهم صيحة، ولم يَستجب لمناديهم أحد.
فهذه مجتمعات: منها: مَن ضلَّ وتحطم وانتهى وانكسر.
ومنها: مَن ما يزال قائماً.
ومنها: مَن ينازع سكرات النهاية يوشك أن يفارق هذه الدنيا.
تأملوا مثلاً فلسطين التي هي مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى: إنك يوم أن تتأمل أحوال إخواننا المسلمين في فلسطين وقد مضوا ستين عاماً قد انكسرت سفينة مجتمعهم، ولسنا بصدد البحث عن أسباب كسر هذه السفينة؛ لكنك تجد قوماً لا سفينة لهم؛ بمعنى لا مجتمع أو لا كيان يحميهم ويجمعهم ويوحدهم ويمثلهم إلا ما كان من أمرٍ تعلموا حكم الإسلام فيه قبل أشهر أو أسابيع معدودة.
وعلى سبيل المثال أيضاً: تطاولت يد الشيوعية على مجتمع المسلمين في أفغانستان فحطمت، وتصارعت أمواج الشيوعية مع سفينة ضعيفة في المجتمع الأفغاني، وما زال الناس يرون لوحاً منكسراً يتعلقون به، أو شراعاً يُمَدُّ ليدفع هذه السفينة شيئاً ما، وما زالوا يصارعون وينازعون الأمواج حتى بلغوا إلى قريب من شاطئ الأمان وبر النهاية، وليست هذه هي النهاية إنما النهاية أن يُحَكَّم كتابُ الله وأن تُطَبَّق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يعلو التوحيد ولا يعلو شرك عليه بأي حال من الأحوال.
ولك أن تتأمل مجتمع أو سفينة إخواننا في البوسنة والهرسك وهي قد تحطمت على يد الصرب وما بقي إلا أقل من ألواح؛ بل أدنى من عيدان هشة تعلق بها من تعلق، فالقوم في محنة لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يفرج كربتهم، وأن يعجل نصرهم، وأن يكسر أعداءنا وأعداءهم.
وخذوا أيضاً الصومال وكيف انهار ذلك المجتمع، وكيف تحطمت تلك السفينة، فالناس الآن إما في سفينة يبحرون بها على خطر ووجل، وإما أقوام صارعوا أمواجاً عنيفة متلاطمة عنيدة فكسَّرت سفنهم، وبقي البقية منهم ينازعون البقاء، ويعالجون السباحة لبلوغ بر الأمان على ألواح هشة.
ونحن في هذه البلاد وفي هذا المجتمع نعيش على سفينة حسبنا من الخطر أن اسمها سفينة، وحسبنا من الخطر أننا في بحر تتلاطم أمواجه، وحسبنا من الخطر أننا نعالج ونواجه قوىً تتربص بنا في داخل أرضنا ومن خارجها.
وإني أقف وقفة يسيرة أمام بعض أحبابنا الذين ينزعجون عند مثل هذا الكلام، حينما نتكلم عن الأعداء وعن الشر، وعن المتربصين والعلمانيين، وعن الفجرة وعن الذين يتمنون البلاء والفتنة والشر بهذا المجتمع، إني أقول لأولئك: لا تزعجكم هذه العبارات فإنها موجودة مذ وجد أفضل الخلق وأفضل المجتمعات وأفضل الأجيال، بل إن من تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في مستهل خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا) فالنفس فيها شر فكيف ينكر أحد وجود شر في بيته أو في مجتمعه، أو وجود خطر من شر يحوم حوله.
وأيضاً كما جاء في السنة: (أنه من بنى بامرأة فله أن يضع يده على ناصيتها ويقول: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جُبِلت عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جُبِلت عليه) فأنفسنا فيها شرور نسأل الله أن يعيذنا منها، وزوجاتنا فيهن شرور نسأل الله أن يدفع شرهن عن أنفسهن وعنا، وأموالنا وأولادنا: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ففي أموالنا أعداء، ومن أولادنا أعداء، ومن بيننا أعداء؛ فكيف ينزعج البعض حينما يسمع كلمة الشر والعداوة، والتخطيط والمكيدة، والمنافق والمتربص وكلها موجودة؛ ولو خلا منها مجتمع لخلا منها أفضل مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم.(21/3)
علاج العطب الحاصل في السفينة
أيها الأحبة: إذا تأملنا هذا وأدركناه فإننا نعالج هذه القضية بأمور، أهمها: شعورنا أننا على خطر.
إن من استعرض الوسادة، وغَطَّ في النوم، وأشغله السبات، وعلا شخيره، وعاش في أحلام خيالية، وظن أنه بمأمن من العوادي والغوادي والمتربصين وغيرهم؛ فإنه يوشك أن يهلك لا محالة.
أما الذين يعملون وينكرون ويجاهدون، ويستعينون ويناصحون؛ فأولئك نسأل الله أن يسددهم وأن يكونوا على خير عظيم.
أقول: إننا في سفينة تربص بها الأعداء في الداخل والخارج فلننتبه لها، وإن كان في السفينة شيء من سوس نَخَرَ في بعض ألواحها إن كان في السفينة مَن يحاول أن يخرقها لتغرق بأهلها إن كان في السفينة شيء من الخطأ والخلل؛ فإن ذلك لا يعني أن نرضى بخرقها، أو أن نستسلم لمن أراد فسادها، أو أن نخضع لمن أراد أن يضيع ربانها وهم قادتها وولاة أمرها وعلماؤها.
أيها الأحبة: ينبغي أن نستشعر هذا المعنى، أنت يوم أن تتأمل أحوال المسلمين: إما أن تجدهم مسلمين بلا بلد بلا دولة بلا سفينة بلا كيان بلا مجتمع.
أو تجدهم مسلمين تحت ضغط وقهر واستبداد وأحكام مؤبدة، وأعمال شاقة، وأغلال وزنازين وسجون وشرور وآثام لا يعلم حدها وحصرها إلا الله جل وعلا.
أو أن تجد مجتمعاً كمجتمعنا هذا فيه خير كثير وفيه شر أيضاً نسأل الله أن يدفعه عنا، ولكن من المهم أن نعلم وأن نحقق هذا: أننا من أقل بلاد الله شراً، ومن أكثر بلاد الله خيراً.
إذاً فسفينتنا من أفضل السفن ولا يعني أنها سلمت من العوادي، ولا أنها في مأمن ومنجى من الخطر فكل عاقل ينتبه ويحذر.
أيها الأحبة: ما دمنا في هذه السفينة التي ننعم في ظلها وأمنها ووارف خيراتها ونعيمها، وما يُجْبَى إليها من الثمرات من المشرق والمغرب، وما فيها من النعم والأمن والطمأنينة، وما فيها من أمور تسهلت لكثير بل لجل الناس إن لم يكونوا كلهم؛ فنحن من المهم أن نحافظ على هذه السفينة؛ لما فيها من الخير الكثير؛ والفضل الوفير، وأفضل الخير فيها أنك لا تجد قبراً يُعبد من دون الله، ولا تجد ضريحاً يُطاف به، أو ولياً يُعتقد بأنه يدفع شراً أو يجلب نفعاً.
أعني بذلك أن من أعظم حسنات هذه السفينة التي نحن فيها سلامة المعتقد والتوحيد، وهذا خير عظيم، كما أن فيها من المصائب وأنواع البلاء والكبائر والمنكرات ما ربما يَرِد الحديث عنه.
أيها الأحبة: ما هي الأمور التي تكدر على هذه السفينة هادئ إبحارها؟ ما هي الأمور التي هي نذر شر بأمواج قد تواجه هذه السفينة وربانها؟ ما هي الأمور التي ربما كانت سبباً في أن يتصارع الناس وسط السفينة ويتنازعون فيها.
إن الشر والشرور التي تحيط بالسفن الماخرة على بحار المحيطات المتلاطمة بأمواجها العاتية ليست شروراً بالضرورة، قد تكون من حولها، أو من حيتان تقلبها من أسفلها من أعماق البحار، أومن قرصان أو قناصة أو قطاع طرق، بل قد يكون الشر من أبناء السفينة في وسطها لو تعاركوا وتصارعوا وتنازعوا واختلفوا، ثم دب الفشل فحينئذ ينشغل الربان عن سفينته ويشتغل القوم بعضهم ببعض، وحينئذ:
ومن رعى غنماً في أرض مسبعة ونام عنها تولى رعيَها الأسدُ
حينئذ لا يدري الربان بم يشتغل! أهو بأن يهدي سير السفينة إلى بر أمانها، أم يعالج أوضاع أهلها من داخلها وهذه إشارة:
تكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواه يُدعى بالنداء العالي
أيها الأحبة: أتحدث عن مجتمعنا هنا لأنه ليس من الحكمة أن نجتمع مثلاً هنا في ظهرة البديعة في الرياض، ثم نتكلم عن أوضاع الصين، أو كمبوديا، أو السلفادور والبوريساريو، إن حاجة الناس أن يتحدثوا وأن يجتمعوا للحديث عن أوضاعهم وعن مجتمعهم وحاجاتهم وما يهمهم من الأخطار التي تحيط بهم، وليس من الحكمة أن نتحدث عن أخطار في مجتمعات بعيدة، ونحن نعالج ونرى ونجاهد ونصارع أخطاراً ومنكرات تحيط بنا، وحاجة الناس أن يسمعوا ما يتحاجون إليه لا ما يشتهيه متحدث وغيره.(21/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هذه سفينتا فما الذي يهددها وما الذي يكدرها؟ إنها المنكرات والمعاصي؛ إن كل جنوح أو ميل أو انحراف أو بُعد خاصة حينما يكون عمداً -ومعاذ الله أن يوجد هذا- أو ميل عن صراط الله المستقيم عن الشريعة القويمة والمحجة المستقيمة؛ عن هذا الدين الذي أتمه الله وأكمله؛ إنما هو بُعد بهذه السفينة عن سيرها الهادئ إلى شعاب مرجانية وصخور شرسة تحطم هذه السفينة وتُفني وتكسر ألواحها، فالمنكرات بأنواعها من أخطر الأمور على هذه السفينة.
وعلاج هذا كله هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حاجة السفينة وحاجة أهلها أن تُهْدَى وأن تسلك سبيل المعروف، وأن تقاوم وتجانب وتجافي طريق المنكر، فما هو المعروف؟ وما هو المنكر؟(21/5)
المعروف والمنكر
هل المعروف ما تعارفنا عليه؟ وهل المنكر ما اتفقنا على إنكاره؟ هل المعروف ما رآه فلان وعلان؟ وهل المنكر ما أنكره فلان وعلان؟ كلا ولا وألف لا، إنما المعروف ما كان معروفاًَ في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا من جميل خصال وسمات منهج أهل السنة والجماعة الذي يقرر فيه أئمة السلف وعلماء الملة والشريعة: أن التحسين والتقبيح ما هو إلا من جهة الشرع لا من جهة العقل، أما المعتزلة والمناطقة والفلاسفة والمتكلمون فإنهم يقولون بالتقبيح والتحسين العقليين، يعني: ما كان في العقول حسناً فهو حسن، وما كان في العقول قبيحاً فهو قبيح، وهذا قد جعلهم يضلون ضلالاً بعيداً، وقادهم إلى التعطيل والتشبيه والضلال في باب الأسماء والصفات، بل قاد كثيراً من متقدميهم ومتأخريهم إلى إنكار صريح السنة بحجة أنه خبر آحاد، وقاد بعضهم إلى نفي المتواتر من الدين بتأويلٍ لا مسوِّغ له ولا قرينة تصرف إليه، وكلكم تعلمون هذه المسائل.
إذاً: فالمعروف ما كان معروفاً في كلام الله ورسوله، والمنكر ما كان منكراً في كلام الله ورسوله؛ إذ لو أن الأمر اعتبر فيه ما اجتمع عليه الناس لكان اجتماع الناس في زمن أو في مكان على منكر من المنكرات واعتباره معروفاً يحوِّل الحرام حلالاً والحلال حراماً.
انظر إلى بعض مجتمعات المسلمين فضلاً عن مجتمعات الكفار كيف ينظرون إلى أن فعل المرأة بتبرجها وكونها حاسرة عن شعرها، مُبْدِية صدرها، حتى أبانت ذراعيها وشيئاً من ساقيها، يرونه مما تعارف عليه الناس بل وربما أُنْكر على مسلمة تحجبت وغطت وجهها وسترت يدها وساقها ونحو ذلك.
هل اجتماع الناس في بلد من البلدان ولو سميت إسلامية نسبة إلى تعداد المسلمين وإن كانت أنظمتها ضالة ظالمة، هل اجتماع الناس على أمر كهذا يغير مسألة التبرج من كونها حراماً ومنكراً إلى المعروف والحلال؟! لا وألف لا، بل في كثير من المجتمعات يُعَد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاته تدخلاً وعدوانية وفضولية، بل وربما عوقب الإنسان لأنه أمر أو نهى، وربما تعارف الناس على مثل هذا، فكون الناس تعارفوا على ترك الأمر بالمعروف، واعتبار القيام به فضولية وتدخلاً في شئون الآخرين فإن ذلك لا يغير حقيقته.
إذاً: فالمعروف معروف بكلام الله وكلام رسوله، والمنكر منكر بكلام الله وكلام رسوله في كل زمان وفي كل مكان؛ إذ أن الذي خلق العباد هو الذي أنزل الكتاب، وهو الذي شرع الشرائع، وهو الذي سن الأحكام، وهو الذي أحل الحلال وحرم الحرام: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
إن ربنا جل وعلا يوم أن شرع في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم صنوف وألوان وأحكام الحلال والحرام شرعها للبشر في كل زمان ومكان؛ فلا يتغير المنكر بل يبقى منكراً إلى يوم القيامة، ولا يتغير بل يبقى المعروف إلى يوم القيامة، وقد ضل وجهل وسقم من ظن أن الأمور يمكن أن تتحول من كونها معروفاً إلى منكراً ومن كونها منكرةً إلى المعروف، بل إنما الذي يتغير أنواع من المباحات ربما تكون في بعض الأحيان لمصلحة العباد أن يُمْنَعوا من شيء منها، ولمصلحة العباد أن يؤمروا أو يجبروا على شيء منها؛ مما يقدره العلماء ومما تقتضيه المصالح المرسَلَة والمصالح الشرعية المرعية.
إذاً: فأول قاعدة في هداية هذه السفينة وسيرها المطمئن إلى بر الأمان أن نعرف أن حاجتها إلى إقرار المعروف والعمل به ومعرفة المنكر والحذر منه، والمعروف ما كان معروفاً في الكتاب والسنة، والمنكر ما كان منكراً في الكتاب والسنة، حتى ولو أجمع الناس وأطبقوا على خلافه.(21/6)
أمثلة للمعروف والمنكر
على سبيل المثال: خذ بلية من البلايا، ومصيبة من المصائب، وفتنة من الفتن التي ابتُلينا بها في مجتمعنا هذا، نسأل الله أن يدفع عنا شرورها وغوائلها ومغبتها ألا وهي: قضية الربا؛ إن كثيراًَ من الناس قد وقعوا في الربا بحجة أنه قد انتشر، أو بحجة أنه لا سلامة منه، أو بحجة أي مقولة تقال، المهم ينبغي أن نعرف أن الربا خطر وأنه من أخطر معاول الهدم والكسر لهذه السفينة، كيف لا والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279]؟! فالربا كبيرة وخطر: (لعن الله آكل الربا ومُوْكِلَه وكاتبه وشاهديه) لا أحد ينازع في هذه القضية حتى لو تعامل بها مَن تعامل، أو ضل بها مَن ضل، أو تأول مَن تأول؛ إذ أن مصيبتنا في هذا الزمان أن أقواماً أخذوا يلتوون ويسلكون أذناب الثعالب في الدخول إلى عقول السُّذَّج والبسطاء والغوغاء يقولون لهم: إن الربا الحرام ليس هو الربا الذي يتعاطاه بعض الناس في هذا الزمان، ولو سُلِّم هذا الأمر وانطلت مثل هذه الحيل لجاء اليوم الذي يقال فيه إن الزنا الذي يوجد في بلاد الغرب ليس الزنا المحرم، وإن الشرك الذي يُعبد فيه أصحاب القبور، ويعتقد فيه بنفع ودفع الأولياء وضرهم ليس هو الشرك المقصود، ولا تستقر حينئذ للأمة أحكام، ولا تُفْهَم شريعة على مثل هذا التأويل أو سوق هذه الحيل والأباطيل.(21/7)
وجوب التسليم لأمر الله وأمر رسوله
أيها الأحبة في الله: ما دمنا قد علمنا أن المعروف معروفاً والمنكر منكراً بكلام الله وكلام رسوله، فإن أول ما يتعلق بنا ونحن من ركاب سفينة المجتمع هذه؛ أن نعلم أن من واجبنا الإذعان والانقياد؛ فالأصل في كل مسلم أن يقبل الحق وأن يعمل به؛ والأصل في كل مسلم أن يرد المنكر وأن يزجر عنه دون عناد أو جدال، حتى إن علم الحكمة أو جهلها، إن فهم المقصد أو غاب عنه؛ فواقع المسلم وأصل المسلم أن يقبل الحق وأن يقول فيه: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
الأصل في المسلم أن يكون مستجيباً منقاداً مخبتاً لأمر الله وأمر رسوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] أين نحن من: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] أين نحن من (ليس لنا الخيرة في أمرنا هذا) ما دام الأمر قد ورد من عند الله، والنهي قد جاء من وحي يُوْحَى مثل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ينبغي لنا إلا الاستجابة.
إنك تعجب من مسلم تقرر له القاعدة في أن الربا محرم، أو أن هذا الأمر لا يجوز، أو أن هذه المسالة لا تجوز ثم يقول: ولكنهم في الغرب اكتشفوا، ولكنهم في الشرق علموا، ولكنهم وصلوا ودخلوا وقرروا! بل وأعجب من هذا أن تجد مسلماً يسلِّم بل يعتقد بل يؤمن بل يوقن أن شجرةً بعرض هذا العمود قد كتب عليها أحد علماء الآثار أن هذه الشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة، فيصدق وينقل هذا الخبر للناس مع أن المكتشف ليس عنده سند متصل ممن غرس هذه الشجرة إلى هذا الزمان حتى يُعْرَف أن عمرها ثلاثة آلاف سنة أو ألف أو خمسمائة سنة! وربما أخرجت أحفورة من الأحافير أو قطعة أثرية من الآثار ويَكتب باحثُها: مائة سنة، أو ثمانمائة سنة، فيسلِّم بعقله مستجيباً، ولو ناقشه أحد لقال: ألا تسلِّم لأهل العلوم في علومهم؟! ألا تسلِّم لأهل الفنون في فنونهم؟! ألا تسلِّم لأهل الطب في طبهم؟! لماذا لا تسلِّم لذوي الاختصاص؟! فإذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: لماذا؟ وكيف؟ ولعلل! ويمكن! وربما! وأين؟ وأتى لك بجميع أدوات الاستفهام والحذف والجر والإضافة غير مستجيب لأمر الله وأمر رسوله! فأين استجابته بالتصديق الموقن فيما يتعلق بشجرة عمرها ثلاثة آلاف سنة؟! وأين استجابته لقطة أو لاكتشاف أثري بيد واحد من علماء الآثار من استجابته لكلام الله وكلام رسوله؟! شتان ما بين هذا وهذا! إن من المصائب في هذه السفينة التي نبحر بها ونمخر عباب البحر المتلاطم بالأمواج فيها، أن تجد من أبنائنا من لا يزال ينخر بل يخرق في لوح السفينة، وإذا قيل له: إن مضيك في هذا الخرق يحدث فجوة تغرق هذه السفينة؛ فتجده ينازع ويجادل ويناطح ولا يستجيب أبداً ويستجيب لأمور لا دليل عليها من عقل.
إن القضية تتعلق تعلقاً أصلياً بمسألة العقيدة، وكيف يكون تعلقها؟ انظر أخي الكريم إلى مريض من المرضى يشكو علة من العلل وسقماً من الأسقام وداءًَ من الأدواء، ثم يُذكر له طبيب ماهر بارع خبير بأمراض الأبدان، فتجده يذهب إليه ويبوح بأسراره، ويكشف علته، ويصف أعراضها وحالها وأوصافها فيقول الطبيب: افتح فمك، مد يدك، ارفع رجلك، انزع ثيابك، خذا هذا الشراب، وخذ هذا الدواء، وامتنع من الطعام، وكُلْ هذا الطعام، فتجده مستجيباً حتى لو جُعِل الحديد والإبر في بدنه لقال: هذا من حكمة هذا الطبيب الذي عرف هذا الدواء لذلك الداء في ذلك الموضع في تلك الساعة في ذلك المكان، استجابة لا ينازعها تردد أبداً، لماذا استجاب؟! لأنه أيقن وعلم علماً لا جهل فيه، ويقيناً لا شك يخالطه؛ أنه ذاهب إلى طبيب ماهر قد سلَّم لعلمه وحكمته فكان نتيجة تسليمه استجابة لا تردد فيها بأي حال من الأحوال، فإذا قيل له: هذا أمر الله وأمر رسوله ربما وجدت تردداً وعناداً، واختلافاً وإصراراً، وتعليلاً وتأويلاً وغير ذلك! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].(21/8)
وجوب تقدير الله حق قدره
أتظنون أن الله حرَّم الحرام عبثاً؟! أو أمر بالواجب عبثاً؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115]، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].
إن الإنسان ما خُلِق عبثاً، وما أُمِر عبثاًَ، وما نُهِي عبثاً، ما أُمِر بالشرع عبثاً، وما نُهِي عن أمر عبثاً، بل كل أمر فيه حكمة، وكل ندب فيه حكمة، وكل زجر فيه حكمة، فمن سلَّم لحكمة الله أورثه ذلك وقاراً وهيبةً وإجلالاً لله، ولأجل ذا قال نوح عليه السلام لقومه لما وجد عنادهم وإصرارهم، ووجدهم يستغشون ثيابهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، ويصرون إصراراً، ويستكبرون استكباراً، جعل المعول في هذا كله أنهم لا يعرفون لله قدراً ووقاراً، فقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] لو كنتم تعظمون الرب حق التعظيم، وتجلونه حق الجلالة، وتخشونه حق الخشية، وتهابونه تمام الهيبة، وتراقبونه حق المراقبة، لأورث ذلك استجابة لأنبيائه ودعاته ورسله؛ ولكن لما غاب التعظيم والوقار فلا تسل عن ألوان المعاصي، ولأجل ذلك كان العلم الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
كفى بخشية الله علماً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولما جاء الثلاثة النفر إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته وكأنهم تقالُّوها، قال أحدهم: (وأين نحن من رسول الله وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فلا آكل لحماً، وقال الآخر، لا أستظل ظلاً، وقال الآخر: لا أطأ فراشاً ولا ألتذ بنوم، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم غضب واحمر وجهه وخطب الناس وقال: ما بال أقوام يرغبون عن سنتي إلى أن قال: أما إني لأَعْلَمُكُم بالله وأخشاكم له) فترتب الخشية على العلم.
لذا حاجتنا أن نعلم لله عظيم وقاره وعظيم قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
إننا بحاجة قبل أن ننذر العصاة وأن نذكرهم أن نعرفهم من هو الرب الذي عصوه! ومن هو الرب الذي خالفوا أمره! إذ أن من عصاك ولا يعرف قدرك لا يبالي بما استمر عليه من المعصية، فالحاجة ماسة إلى إنكار المنكر مع بيان عظمة الرب جل وعلا لهؤلاء الخلق جميعاً.
نقول: إن الأصل في كل مسلم أن يقبل الحق مستجيباً له على أية حال.(21/9)
من نأى عن الكتاب لم يزدد إلا ضلالاً
العجب أيها الأحبة! أنه يوجد من -ولعلهم أقل من البعض- من يعتقد أن المجتمع كافر، وأن النظام كافر، وأن الدولة كافرة، بحجة وجود بعض المعاصي والمنكرات والكبائر، وسيأتي الكلام على هذه المسألة.
وقد وجدت شيئاً من هذا الضلال المبين لما كنت في سفر قبل شهر تقريباً في أمريكا، فوجدت أناساً قد تخبطت بهم المناهج وضاعت بهم السبل؛ ولا غرابة! فمن طلب الحق بغير منهج أهل السنة والجماعة فقد ضل ضلالاً بعيداً مهما أعمل عقله وأجال فكره:
نهاية إقدام العقول عقال وآخر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية مسعانا أذىً ووبالُ
ولم نستفِد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وجدنا أقواماً ما قادهم طول البحث والحوار والجدال على منهج غير قويم إلىصراط مستقيم، بل قادهم إلى مزيد ضلال وبعد، ولا حول ولا وقوة إلا بالله! الأمر الآخر أيها الأحبة: نحن يا من نعيش في هذه السفينة ويهمنا شأنها، ونعلم أن هذه السفينة بحُكَّامها ودُعاتها وعلمائها وقادتها ونحن معهم فيها إن غرقت غرقنا جميعاً وإن نجت نجونا جميعاً، فالعاقل ينتبه إلى مثل هذه المسائل حتى يكون الإصلاح بطريقة تصلح لوحاً ولا تخرق أمراً، بطريقة ترد المنكر وتدفعه بغير أن يضطرب الطريق أو يتصارع الناس داخل السفينة.(21/10)
المنكر في كل زمان والمعروف كذلك
هذه السفينة؛ ألا وهي مجتمعنا لا نتصوره مجتمعاً ملائكياً يخلو من الخطيئة والمعصية، إن من أراد مجتمعاً إسلامياً لا معصية فيه قد طلب مجتمعاً أفضل من مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا محال بكل حال، يقول صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) فلا يمكن أن يأتي أحد ليجعل أو ليصنع من مجتمع خيرية تحاكي -فضلاً أن تكون أفضل- أو تضاهي مجتمع النبوة أو مجتمع الخلافة الراشدة، أو القرن الأول والثاني والثالث، ينبغي أن نفهم هذا تماماً، ولكن إذا علمنا أن صلاح المجتمع وصلاح أهل السفينة لا يعني بالضرورة سلامة أهلها من وقوع وحصول بعض المعاصي والمنكرات؛ إذ لو تأملت مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت فيه من زنا فرجم، ومن زنا فجلد، ومن سرق فقطع، ومن زنت فرجمت، بل ومن خان خيانة عظمى، ومع ذلك فإن المنهج القرآني والمنهج الإسلامي الشرعي جاء ليحفظ لكلٍ حسناته؛ إذ أن السيئة لا تلغي الحسنات ولكن الحسنات تمحو السيئات، هذا أمر ينبغي أن نفهمه تماماً.
على سبيل المثال: حاطب بن أبي بلتعة لما بعث بكتاب في قرن امرأة إلى قريش ليخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يصبِّحهم ويمسِّيهم، هذا في المصطلح السياسي المعاصر يسمى الخيانة الكبرى، إفشاء أسرار الجيش والدولة، حاطب بن أبي بلتعة قد أرسل مع ضعينة إلى أهل مكة رسالة تخبرهم أن النبي سيغزوهم، فجاء الوحي وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث علياً وآخر من الصحابة وقال: ستجدون الضعينة في مكان كذا خذوا منها الكتاب، فلما أسرعوا وجدُّوا في السير وبلغوها حيث وصف وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا لها: [أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب، فقالوا: لتُخْرِجِنَّ الكتاب أو لننزعن الثياب] فقامت فأخرجت كتاباً من ضفائرها، ثم جيء بـ حاطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن الخطاب شهيد المحراب، الإمام الأواب، الفاروق الذي يهابه الشيطان؛ يتطاير غيظاً وحنقاً على من فعل هذه الفعلة، فقال عمر رضي الله عنه: نافق يا رسول الله، فدعني أقطع رأسه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم إني قد غفرت لكم).
انظروا إلى هذا العدل النبوي؛ تذكر حسنة عظيمة أمام سيئة عظيمة، حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله أفشى أسرار الدولة، أفشى أسرار المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجاء من يظن أن عقابه أن يقطع رأسه، ولكن من يتكلم بالوحي الذي لا ينطق عن الهوى يتكلم بهدي مبين وشرع من عند رب العالمين، يذكر حسنته عند سيئته هذه، هذا هو المنطق وهذا هو الواجب، إذا أردنا أن نعاقب فعلينا أن نذكر الحسنات والسيئات، إذا أردنا أن نجازي فلنذكر الحسنات والسيئات، لا أن ننظر بعين مغضية عن السيئات أو بعين مسرفة في الحسنات أو العكس، لابد أن ننظر بعين متوازنة إلى مجتمعنا وإلى أفرادنا وأئمتنا وعلمائنا وقادتنا وحكامنا حتى نعرف مقدار الخير الذي نملكه وحجم الشر الذي نخشاه على ولاة أمرنا ومجتمعنا وأنفسنا.(21/11)
حاجتنا إلى المنهج القرآني العادل
هذا العدل الرباني العظيم وإن كان هذا نوع استطراد عن موضوع المحاضرة لكن لا بأس؛ لأننا أيها الأحبة ربما أسرفنا شيئاً ما في بعض المواضيع فأسهبنا وتعمقنا في ذكر منكرات وسيئات ومعاصٍ ونسينا أن في مجتمعنا حسنات، وربما ابتلينا ببعض المنافقين والمداهنين الذين أخذوا يزيدون ويبالغون ويذكرون الحسنات حتى ظن بعض الناس أنه لا يوجد ولا يتصور أن يوجد على وجه الأرض مجتمع أفضل منا، أو يظن البعض أن صورة مجتمعنا هذه هي صورة شرعية مطابقة للكتاب والسنة على درجة (100%) وهذا أمر لا يجوز، حاجتنا أن ننظر بعين العدل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135]، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
حاجتنا أن ننظر بالمنهج القرآني، اقرأ من أول سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران:71] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران:99] {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ} [آل عمران:66] خطاب وعتاب وكلام شديد على أهل الكتاب، ثم بعد ذلك يأتي قول الله: {لَيْسُو سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] انظر إلى هذا العدل القرآني حتى مع الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وقالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وقالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وانظر نفس العدل وذات العدل من رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40] {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} [يونس:44]، وكما يقول ربنا عز وجل في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً) انظر هذا العدل حتى مع الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وحتى مع {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} أي: جبل من الذهب {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75].
نحن بحاجة إلى الوسطية والاعتدال في منهج الدعوة في الأمر في النهي في الإنكار في النصيحة في الموقف في كل شئوننا، وحينئذ نضمن بإذن الله سلامة سفينتنا، ومضي إبحارها على طريقة متواترة توصلها بإذن الله جل وعلا إلى بر الأمان وشاطئ السلامة.
أيها الأحبة: أعود إلى أصل الموضوع لأقول: إن من يعتقد أن أهل السفينة ومجتمع السفينة ينبغي أن يكون مجتمعاً لا معصية فيه، أو لا يتصور أن توجد فيه الخطيئة فقد ضل ضلالاً بعيداً، ولو كان المقصود في الناس والحال التي عليها ولأجلها خلقوا أن يوجدوا على وتيرة لا معصية فيها ولا ذنب لَمَا كانت ثم فائدة عظيمة أو حاجة بليغة إلى آيات التوبة والاستغفار.
الصحابي الذي جاءته امرأة وكان تماراً في المدينة وقد أعجب بجمالها فقالت المرأة وهي قد قدمت لشراء التمر: هل عندك تمر أجود من هذا؟ قال: نعم.
في البيت أجود منه، فلما خلا بها في داره أو أغلق الباب وأوصده دونها كأنه مَسَّ شيئاً من جسدها، ولم يبلغ معها ما يوجب حداً، قال الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان الذي فسره في الحرم المدني، ولستُ أدري هل هذا مذكور في الأضواء أم لا، قال: لعله كان بينه وبينها شيء من الضمِّ أو التقبيل أو نحوه وأمر لا يوجب الحد، فلما حصل ما حصل ندم الرجل وعاد نادماً آيباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك، فما لبث النبي حتى تغشاه الوحي وأنزل الله جل وعلا آية مدنية في سورة مكية في سورة هود: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
إن ذلك الصحابي يوم أن أذنب ذلك الذنب لم يُنْفَ من المجتمع، ولم يُصَنَّف مذنباً، ولاحظوا هذه المسألة الخطيرة التي بلي الناس بها في هذا الزمان عند أدنى ذنب أو خطيئة أو زلل أو خطل ونحوه فإنه سرعان ما يصنَّف ولا يُلْتَمَس له عذر، ما صُنِّف مذنب في عصر الصحابة ولا عصر النبي صلى الله عليه وسلم بل يقال: مخطئ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
الناس واحد من ثلاثة: إما سابق بالخيرات.
وإما مقتصد.
وإما ظالم لنفسه.
هكذا ينبغي أن ننظر في تعاملنا مع بعضنا ونحن في وسط هذه السفينة التي تمخر بنا عباب بحار مليئة بأمواج خطيرة ومتلاطمة.(21/12)
حاجتنا إلى الحفاظ على أمن الأمة
أيها الأحبة! وما دمنا قلنا إن هذه السفينة تعالج أخطاراً في داخلها، وتواجه أعاصير وأمواجاً من خارجها فإن سلامتها وأمانها واطمئنانها يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلكم سبب خيريتها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
هذه الصفة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي سبيل الأمان للسفينة، هي سبيل دفع الأمواج عنها وحفظ أهل السفينة وإصلاح شأنهم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبيل اكتسابها الخيرية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من دلائل بل من أوضح سمات أهلها: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
إذاً: نحن بحاجة إلى أن نشعر بالمسئولية، المدرس بحاجة إلى أن يشعر بها، المعلمة بحاجة إلى أن تشعر بهذه المسئولية وأن تتحملها، وأن تنظر وتتأمل حجم الخطر، ولك أن تتأمل الشيء عند فقده، وإذا أردت أن تعرف قيمة نعمة الأمن التي أنت فيها، فتخيل أنك ذات ليلة تبيت بلا أمن فهل تجد طريقاً سابلة؟ هل تطمئن على دار؟ هل تطمئن على مال؟ هل تخرج من بيتك آمناً على أهلك؟ هل تظن مصالحك ماضية؟ هل وهل وهل؟ انظر كل أمر من أمورك منذ أن تبدأ الصباح إلى أن تنتهي، نريد أن نشعر بحجم المخاطر التي تكتنف هذه السفينة؛ إذ أن شعور الإنسان فرع عن تصوره، إن الذي لا يتصور شيئاً لا يشعر تجاهه بقليل ولا بكثير، لكن تصور الأمر حق التصور هو الذي يجعلك تقدره.
خذ على سبيل المثال: أنك في انعدام أمن وخلل اقتصادي وسياسي، يؤذن للفجر فهل ستسمع الأذان أم لا؟! هل ستخرج إلى المسجد لتصلي مع الجماعة أم لا؟! وإذا خرجت هل ستأمن على أهل بيتك أم لا؟! وهل ستبيت متوسداً سلاحك أم لا؟! وهل ستجد من الذخيرة ما تكفي هذا السلاح أم لا؟! تخيل أنك خرجت من البيت معك سيارتك لو اختل الأمن ربما وجدت الوقود يوماً ويومين وثلاثة ثم تصبح سيارتك كقطعة من الأحجار، هل ستجد أن مصالح الناس في وظيفتك ووظائفهم مستمرة أم لا؟! هل ستجد أن الأرزاق التي تُجْلَب إلى بلادك ستصل أم لا؟! هل ستجد ما تطبخ وتنضج به هذه الأمور أم لا؟! يا إخوان! لما فوجئنا بانقطاع التيار الكهربائي قبل شهر تقريباً أو شهر ونصف، الناس ضاعت حيلهم، الطيب منهم من وجد شمعة يستضيء بها في دهاليز بيته المظلمة.
إذاً ينبغي أن تعلم حجم المخاطر التي تكتنفك من كل جانب، وهذا يحملك مسئولية أن تحفظ بيضة الأمة، إن هناك مسئولية يشترك فيها الحاكم والأمراء والجنود والشرط والعسكر والعلماء والدعاة والعوام والرجال والنساء ألا وهي: مسئولية الوعي الأمني المحافظة على استراتيجية الأمن البعيدة حتى يستمر للناس استقرار دينهم وعبادتهم وصلاتهم وأذانهم وكثير من أحوالهم، فلو اختل على الناس شيء من هذا -لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعاذ الله أن يكون ذلك- فلا تسَل عن هَلَكَة القوم وضيق أمورهم ومعاشهم وأرزاقهم.
أقول: إذا شعرنا بحجم هذه المسألة وتصورنا حجم حاجتنا إلى ما نحن نرفل فيه وحاجتنا إلى استمراره، فإن ذلك يحملنا المسئولية إلى أن نتحمس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأجله، من دخل سوق خضار فوجد ألوان الأرزاق والخيرات والناقلات من جميع ثمار البلدان تُجبَى إلى بلدنا هذا فليعلم أن من أهم الأمور التي تضمن استمرار هذه الناقلات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكبر أمر وأصغر أمر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] لم يلبسوا إيمانهم بالشرك، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا يمتنع أن يندرج في معنى الآية: الظلم بأنواعه، الظلم العظيم الكبير الذي جاء في معنى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وظلم العباد بعضهم بعضاً بما ينالون من أعراض وأموال ودماء بعضهم البعض وظلم العبد نفسه بالمعاصي والسيئات والكبائر والمنكرات.
إذا أردنا مزيداً من الأمن والطمأنينة فعلينا بمزيد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذا أردنا مزيداً من تفجر الخيرات من وسط الأرض من بترول وذهب ومعادن: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} [الأعراف:96] فمزيد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذاً سلامة السفينة من فتنة في داخلها ومن أمواج تتلاطم حولها تكون بالعناية بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر.
كيف تتحطم سفن مجتمعات تحطمت أو هي في سبيلها إلى التدهور والانهيار؟! أيها الأحبة إذا ترك الأمر والنهي تحطمت وضاعت السفن بل حلت اللعنة: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79] لأجل أنهم تركوا صمام الأمان، وضيعوا مقود الهداية لهذه السفينة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حل بهم ما حل مما سمعناه وقرأناه.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر:6 - 12] كثر الفساد، ولم يوجد الإنكار، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13].
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:112] قد يكون هذا من كفر الجحود وعدم شكر النعم، وربما استخدمت النعم في المعاصي فماذا كان؟ {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
قال بعض العلماء: ذُكِر الجوع والخوف في معنى اللباس أي: فُصِّل عليهم الخوف كما تفصَّل الأكمام على الأيدي، والسراويلات على الأرجل، والثياب على الأبدان، فُصِّل الخوف تفصيلاًَ وفُصِّل الجوع تفصيلاً لما ترك أمان الأمة ونجاة السفينة وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما عجبت عائشة رضي الله عنها كما في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يجر إزاره، وقد احمر وجه غضباً، قال: الله أكبر! ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج إلخ الحديث، فقالت عائشة: يا رسول الله! أنَهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم.
إذا كثر الخبث).
والخبث هو: الزنا ودواعيه، الأفلام، المسلسلات، الأمور التي تجر إلى الاختلاط، الأمور التي تدعو إلى الفواحش، الأمور التي تدعو إلى المعاصي، كل هذه من الأمور الخطرة التي هي سبب هلاك الأمة سبب تحطم السفينة سبب قوة الأمواج التي تكسر هذه السفينة سبب اشتعال الفتن بين أهل السفينة في داخلها، وكما قلت لا يشترط أن تُكْسَر السفينة بموج أو عاصفة تجاه شعاب مرجانية تحطمها، بل ربما تحطمت السفينة وهي على بحر قد ركدت أمواجه؛ نتيجة فتنة وخلاف وشر مستطير بين أهلها ولا حول ولا قوة إلا بالله! ويؤيد هذا المعنى قول الله جل وعلا: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام:65].
حينما تُغْرِق الأمة في المنكرات والمعاصي والضلالة فربما عُذِّبت وعوقبت بأن يضرب بعضها ببعض ويُلْبسوا شيعاً وفرقاً وجماعات شتى، ثم يضلوا ولا حول ولا قوة إلا بالله ضلالاً بعيداً.
إذاً: فانتشار المنكر، وشيوع الفاحشة وانحصار الخير، من أخطر الأمور التي تهدد الأمة، ليس فقط وجود المنكرات بل إذا وجدت في الأمة ضعفاً في الخير والدعوة والحماس للخير والبذل له فاعلم أنها على خطر؛ لأن القضية لا تقف عند حد معين: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] لا يوجد مرحلة بين المرحلتين ومنزلة بين المنزلتين كما عند المعتزلة، لا.
إما أن نتقدم في خير وربما إن لم نحقق التقدم في الخير ربما وقع الإنسان في تراجع إلى المنكر، ولا حول ولا قوة إلا بالله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].(21/13)
انتشار الخير وانحصار الشر دليل على البقاء
أيها الأحبة: إن الخطر على سفينة المجتمع قد لا يكون بكثرة الشر، بل إن انحصار الخير أيضاً من المخاطر التي ربما كانت سبباً في حلول مزيد من الشرور والآثام، ولا تقف الأمور عند حد معين، فينبغي أن نعلم تماماً أن حاجة الأمة إلى المزيد والبذل والمواصلة والعطاء الدائم المستمر حتى وإن انخفض منحنى بذل الأمة ودعمها شيئاً لا بد أن يستمر، المهم ألا يتوقف الخير بأي حال من الأحوال، وهذا يعني أن الخير لا بد أن يظهر وأن يفشو.
ومن علامات ظهور الخير وفشوه: نشاط جلي في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وَجَدْتَ في الأمة نشاطاً جلياً واضحاً في الدعوة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فاعلم أنها دلالة خير، وإن وَجَدْتَ الخير يخبو والإنكار ينتهي أو يقل أو يضمحل فاعلم أنها قرينة شر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لذلك يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في هذا المعنى في رسالته إلى واليه على المدينة، قال: [وليفشُ العلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً] إذا قَلَّ الخير واضمحل حتى أصبح رجل خير أو داعية خير لا يمكن أن يعلم أو يتعلم أو ينفع إلا سراً فهي دلالة شر، أما إذا كان الخير ظاهراً والعلم منتشراً وظاهراً فهي دلالة خير، وهذا مما يحمِّل الأمة مسئولية الإعلان بالخير في كل مكان، حتى ولو لم يجتمع لك إلا واحد أو اثنان أو ثلاثة، المهم أن تعلم أن الخير ممكن وميسَّر ومستمر.
وعند هذه النقطة اسمحوا لي أن أعاتب بعض الذين قد نسجت العناكب على عيونهم وعقولهم خيوطاً، وكبَّلتهم عن التفكير، وقعدت بهم عن المضي في الدعوة إلى الله جل وعلا بحجة أنهم يخافون، إني أعلم أن أناساً يخافون من الدعوة إلى الله، والانتماء إليها، والانخراط في سلك الدعوة والعلماء والدعاة، ومناصحة الناس، ومخالطة الولاة، ومناصحة كل بقدر ما يحتاج، والثناء على كل بقدر ما يستحق، أناس يخشون من هذا ويهابونه هيبة عظيمة؛ لماذا؟ بحجة أنه خائف، ما الذي عندك؟ الله أعلم! إني أعجب من أناس ربما بعضهم لم يكتفِ بأن ينأى بل نهى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26].
في منطقة من المناطق شكى عدد من الشباب أن آباءهم يمنعونهم من الدعوة إلى الله والمشاركة فيها، والاشتراك في بذل الخير؛ سواء كان توزيع شريط أو طباعة كتاب أو اشتغال بأمر من أمور الدعوة، فإذا خاطب الشباب آباءهم وقالوا: لماذا تمنعوننا؟ قالوا: نخاف عليكم.
مم تخافون عليهم؟! هل في مراقدهم طائرات؟! وهل في وسائدهم متفجرات؟! وهل في مطابخهم بارجات ومدمرات؟! أمر عجيب جداً من أناس يخافون من الخير وهم لم يفعلوا للخير خطوة واحدة، يا أخي! مم تخشَ منه؟! هل قيل لك: وزع شريطاً ممنوعاً؟! إن الذي يتبنى توزيع الأشرطة الممنوعة لَهُوَ على خطأ كبير جداً، لكن عندك آلاف الأشرطة المسموحة، اشتغل وانشط، وامضِ وصِلْ، وأعطِ ووزع وانشر منها ما استطعت من خير فهذا من ضمانات وروافد استمرار الدعوة إلى الله جل وعلا، الكتاب الذي توزعه هل طبع في مطبعة يهودية أو مطبعة بعثية أو ضالة، طبع في بلاد مسلمة تحت رقم وتصريح من وزارة الإعلام، هل تتصور أن يوجد تناقض بأن الوزارة تسمح بطبعه ثم يُمْنَع من توزيعه، لا يمكن أن يُتَصَوَّر مثل هذا التناقض.
إذاً: فمن واجبك أن تنشط في الدعوة إلى الله، ولا تخشَ شيئاً، ولا تهب من قليل ولا كثير، إنك تعجب من بعض الشباب إذا كلمته قال: أنا مراقَب، وقلتُ هذا مراراً في أكثر من محاضرة، يا فلان ادعُ إلى الله، يا فلان أعطِ جارك شريطاً، يا فلان أعطِ طلابك شيئاً ينتفعون به، يا فلان إذا جاءك أقاربك وزع عليهم من الكتيبات والأشرطة، قال: أنا أخشى أن أراقَب، وممن تراقَب؟ ثم ماذا يعني؟ افترض أن ما تَوَهَّمْتَه صحيح:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدَّق ما يعتاده من توهُّمِ
هب أنك مراقَب، ثم ماذا؟ الحمد لله أنك مراقب، وأن صفحتك بيضاء.
يا أخي الكريم، ويا إخوتي الأفاضل، ينبغي أن نمارس الدعوة كما نشرب الماء يوم (1) شوال، هل يجوز لأحد أن يصوم يوم العيد؟ لا.
ينبغي أن تمارس العمل الدعوي كما تمارس شرب الماء في نهار (1) شوال، في نهار يوم العيد لا بد أن نلغي عن أنفسنا عقدة الخوف من الدعوة إلى الله جل وعلا، وإن كثيراً يملكون قدرة على الخطابة، ومواهب شعرية، وأقلاماً نثرية، وكلمات جيدة، وأساليب نافعة، وحوارات مقنعة، وخيراً كثيراً ينفع في الهداية والدعوة، ولكن تبقى العقدة: أخاف وأخشى وو إلى آخره.
يا أخي! مِمَّ تخش، اتقِ الله وتحرك وانفع هذه الأمة التي هي بحاجة إليك في الداخل وفي الخارج.
كذلك أيها الأحبة حينما تترك الأمةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها على خطر عظيم، ولأجل ذا تتضح مثل هذه المعاني في قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود:116] إلى أن قال ربنا جل وعلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] نريد السلامة والأمن والطمأنينة والنعم والخيرات والنجاة من الهلكات والدركات؟ الأمر بالمعروف، الإصلاح، الدعوة بأساليبها وضوابطها.(21/14)
المنكرات التي تعيشها المجتمعات
ثم إن المجتمعات في هذه السفينة: فيها منكر خفي.
وفيها منكر جلي.
فأما المنكرات الخفية:- فهي ما يفعله الناس سراً، فلا يجوز لأحد أن يتلصص على أحد، بل لو علمتَ وأنت من سائر الناس رجلاً يستتر بمعصية من المعاصي فإن المشروع لك أن تناصحه ما استطعت في ذلك سراً، إلا إذا جاهر أو جعل من بيته وكراً ومركزاً لتصدير الفساد وتجميعه فحينئذ أصبح من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فالواجب إبلاغ المسئولين أو الهيئات عنه.
المنكرات الخفية شيء والمنكرات الظاهرة شيء.
أخطر ما يواجه السفينة المنكرات العلنية الظاهرة، إذ أن فعل أصحابها لها دون خوف من الله ولا حياء من خلقه وسكوت الباقين عنها أمر خطير، قال ربنا جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] في الظلم الجلي، في المنكرات الواضحة، إلا إذا كان في الأمة من يناصح، فحينئذ يدفع الله البلاء عن الأمة بفضل منه ومِنَّة، ثم بغيرة وإنكار أهل الغيرة.
بوب الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: باب ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة، وذكر أثراً عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، قال فيه: [إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم] ويؤيد ذلك بل دليله حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو عند الترمذي، والإمام أحمد، عن حذيفة بن اليمان قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
أيها الأحبة: هذه من المصائب الخطيرة التي تنذر بهلاك السفينة حينما يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإننا في هذا المقام لنسجل بكل فخر واعتزاز أن بلادنا هذه هي البلاد الوحيدة التي بها جهاز مسئول رئيسه برتبة وزير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحاجتنا أن ندعمه وأن نؤيده بالتسديد والنصيحة والرأي والفكرة، ولا يعني ذلك حينما يوجد جهاز أن المنكر انتهى، لا.
يوجد جهاز فيه خير كثير، ويوجد منكر نخشى منه شراً مستطيراً، ولكن واجبنا أن نثني على هذا وأن ندعمه ونؤيده ونسدده، ونجتهد في مناصحة أهل المنكر حتى تسلم الأمة من غوائل هذه المنكرات وسوء مغبة أمورها.
أود أن أختصر هذه البقية حتى يكود باقي الوقت للأسئلة.
أيها الأحبة: إن التساهل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطير جداً جداً، ويورث في الأمة البطالة والفساد والانحراف، وانتشار أمراض اجتماعية، وأحقاد وحسد وتباغض وتنابذ، وأمور لا تُحمد عاقبتها، لماذا؟ لأن الناس إذا تركوا إنكار المنكر، معنى ذلك أنهم قد رضوا بواقعهم، إذا رأيت من لا يرضى أن يُنْكَر منكراً ولا يتكلم عن منكر؛ فاعلم أنه قد رضي بواقعه رضىً لا يَوَدُّ أن يغير من حاله، نعم كونك ترضى عن نفسك وترجو المزيد هذا شيء؛ لكن الرضا الذي ليس بعده شيء ولا تتوقع أنه يمكن أن تحقق شيئاً أفضل منه هذا هو الخطر.
إذاً: فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطر، أو نذير شؤم أن يرضى الناس وأن يطمئنوا بما عندهم، وأن يسكتوا عن إنكار منكرات مختلفة.
أما بقية المسائل فلعلها لمحاضرة قادمة، ألا وهي فيما يتعلق بمراتب الإنكار، ووسائل الإنكار، ومقاصد الإنكار، وحقوق المنكرين، أو حقوق المحتسبة القائمين على مثل هذا، ومعوقات في هذا الطريق، لعل أن يكون نصيبها في محاضرة أخرى بإذن الله تعالى.
أسأل الله جل وعلا أن يجعل هذه الكلمات خالصة لوجهه، وأن ينفع بها قائلها وسامعها، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(21/15)
بيان لابن باز بشأن البدع
عفواً! فضيلة الشيخ/ محمد بن إبراهيم الشعلان طلب مني قراءة هذه الرسالة من سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء، وإدارات البحوث العلمية والإفتاء سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز متع الله به على طاعته.
الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد اطلعتُ على نشرة مصدَّرة بما نصه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي! لا تنم إلا أن تأتي بخمسة أشياء، وهي: قراءة القرآن كله.
والتصدق بأربعة آلاف درهم.
وزيارة الكعبة.
-هذه وصية مكذوبة وخرافة من الخرافات التي يرددها ويروجها بعض الضلال والجهلة والمساكين والسذج والبسطاء، فأرسل سماحة الشيخ رسالة للتحذير من هذا وهي: يا علي! لا تنم إلا أن تأتي بخمسة أشياء: قراءة القرآن.
والتصدق بأربعة آلاف درهم.
وزيارة الكعبة.
وحفظ مكانك في الجنة.
وإرضاء الخصوم.
إلى آخر ما تضمنته النشرة.
يقول سماحة الشيخ: ولكون ما تضمنته هذه النشرة لم يرد في كتاب من كتب الحديث المعتمدة بل هو من الأحاديث الموضوعة المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص بعض أهل العلم رحمهم الله على أن الوصايا المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بها علياًَ وكل ما صدر بياء النداء من الرسول لـ علي كلها موضوعة، ما عدا قوله صلى الله عليه وسلم: (يا علي! أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي).
وممن نصَّ على ذلك الشيخ/ ملا علي القاري في كتاب الأسرار المرفوعة بالأخبار الموضوعة المعروف بـ الموضوعات الكبرى، والشيخ/ إسماعيل العجلوني في كتابه كشف الخفاء ومزيل الإلباس.
ولذلك فإني أحذر إخواني المسلمين من الاغترار بهذا الحديث وأمثاله من الأخبار الموضوعة، أو العمل على طبعها، أو نشرها بين المسلمين؛ لما في ذلك من تضليل العامة والتلبيس عليهم، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وُعِدَ المتعمد له بالوعيد العظيم، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن كذباًَ عليَّ ليس ككذب على غيري، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
وقال: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين).
وفي الأخبار الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمدونة في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح، والسنن، والمسانيد غنية لمن وفقه الله إلى الخير عن اللجوء إلى أخبار الكذابين والوضاعين -يعني: فيما صح من السنة غنية عن الأحاديث الموضوعة وغيرها-.
أسأل الله أن يرزق الجميع العلم النافع والعلم الصالح، ويجنب الجميع طرق الضلال والانحراف إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مفتي عام المملكة العربية السعودية.(21/16)
الأسئلة(21/17)
طلب تسجيل النونية على شريط
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخبرك أني أحبك في الله.
أما بعد: فقد سمعت لك محاضرة بعنوان: (دار المتقين) وذكرت أبياتاً من نونية ابن القيم رحمه الله وكانت مؤثرة جداً فحبذا لو كانت النونية كاملة بصوتك يا شيخ، وأسأل الله أن ينفعنا وإياك بها وجزاك الله خيراً؟
الجواب
لعل الله يسهل اختيار شيءٍ من أبيات النونية وتُسَجَّل في شريط، أسأل الله أن ينفع بها قائلها وسامعها.(21/18)
علاج إطلاق البصر
السؤال
إيماني ينقص، وذلك أنني أطلق بصري في النظر إلى النساء، رغم أنني متزوج فما هو الحل؟
الجواب
الحل جلي وهو أن تكف عن هذا المنكر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:30]، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] غض البصر أمر مطلوب من الرجال والنساء على حد سواء:
وكنتَ متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعَبَتْكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنتَ صابرُ
إطلاق البصر أمر يمرض القلب ويجعل الإنسان في وحشة وقسوة، حتى إذا صلى لم يجد لذة لآية، ولذلك قال ابن المبارك: [واترك فضول النظر توفق إلى الخشوع].(21/19)
الصلاح والفساد في كل زمان ومكان
السؤال
يؤسفني أن أقول: إنني خرجت من المحاضرة بشعور أن مجتمعنا جيد وأنه أفضل الموجود، ووقوع المعاصي فيه أمر طبيعي، فالمحاضرة شدَّدَت كثيراً على وجود الصلاح، ولم تبيِّن مثل ذلك عند الفساد، فأين العدل في المحاضرة؟
الجواب
أظن أن هذا الشعور لا يولد الإنكار والأمر بالمعروف، وكما أظن أنه من الأفضل أن نوازن في ذلك كما طلبتَ، ولو أن صاحبنا انتظر حتى تنتهي المحاضرة لسمع العدل الذي يرجوه.
لا تعجلن برد شيء لم تحط علماً به
هذه من المشكلات التي ربما واجهتنا من بعض أحبابنا وإخواننا، وإني أدعوكم أن تؤمنوا: أسأل الله أن يجمعنا به في الجنة، وأن يوفقه، وأن يصلح قلبي وقلبه، من واجبنا أن لا نحمل في قلوبنا على أحد؛ لكن عند بعض الشباب مشكلة، إن لم تبدأ (بشرشحة) المجتمع على الطريقة التفصيلية وإلا فلن يطرب لنغمة أنت تعزف عليها، لا، إن حاجة الأمة أن تنظر بميزان عدل كما قلنا، ولو خرج كل مَن في المحاضرة ولم يبقَ إلا واحدٌ فإن هذا المنهج أُدِيْنُ لله جل وعلا به، وأتعبد الله به، وعرفته من سماحة الشيخ ابن باز ولن يغيره أن يخرج واحد.
والحمد لله أنه لم يخرج من المحاضرة إلا واحدٌ وبقية أهل المسجد جالسون مستمعون فهي شهادة ممن بقي، وأسأل الله أن يرد من خرج ثانية.(21/20)
دعم أهل الباطل لباطلهم وتقاعس المسلمين عن حقهم
السؤال
إن الدعم المستمر من أصحاب المصانع والشركات في أمريكا وأوروبا لليهود، وإن أحدهم يقوم بشراء قطعة أرض لإقامة كنيسة وغير ذلك، لكن هنا مع الأسف أصحاب الشركات والمصانع لا يقدمون إلا القليل، وفي مناسبات معينة؟
الجواب
على أية حال: البذل في سبيل الدعوة ونشر الخير من الأمور المهمة ومن واجبات المسلمين، وليس هذا تفضلاً منهم بل هو مما أوجب الله عليهم، لكن من حُرِمَ ولا حول ولا قوة إلا بالله فإنما يجمع أرقماً في رصيده.
أنت حينما تناقش رجلاً من الأثرياء يملك عشرة ملايين، أو عشرين مليوناً، أظن لو نقصت مليون ما غيَّرَتْ من ملابسه ولا من سيارته ولا من طعامه ولا من شرابه، القضية هو اختلاف الأرقام في الرصيد، وطباعة كشف الحساب الدوري بصيغة جديدة لا أقل ولا أكثر، كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].
إننا بحاجة إلى أن نواصل الزيارة والمقابلة لأصحاب الأموال والمؤسسات والشركات لنقول لهم: إن الريالات التي تملكونها لو أنفقتم الكثير منها أو شيئاً منها ليس بالكثير لغيرتم، بل إن بعض المسلمين لو أنفق زكاته لأحدثت انقلابات في دول مختلفة.
أنا أعلم أن بعض البلدان التي يؤذى فيها المسلمون لو صُرِف إليها زكاة واحد من التجار الذين يعدُّون لغيرت الأحوال بإذن الله فيها، لا أقول الأمور كلها؛ إذ الأموال ليست كل شيء، الرجال هم العملة النادرة الصعبة التي نحتاج إليها في كل مكان.
لأجل ذلك حينما يدبر بعض أصحاب المؤسسات إلى شراء القصور وشراء الاستراحات أو إلى أماكن مختلفة في أوروبا وغيرها ويعرضون عن المشاركة في الجهاد أو الدعم فليس هذا يعني أن ننتقدهم بل ننتقد هذا الفعل؛ الإعراض عن البذل في الخير منتقد، ولكن الخطوة التي هي أهم أن نواصلهم بالزيارة والعطاء.
والشيء بالشيء يُذكر: حدثني أحد الإخوة عن رجل ممن يسمونهم مِلْتِيْمِلْيونير، قال: إنه ذهب إلى مدير أعماله وقال: إنك تعلم أن فلاناً قد جاوز السبعين، وأعمار الأمة بين الستين إلى السبعين فانصح فلاناً أن يجعل ربع أو ثلث ماله في مكافحة التنصير، فهذا ينفعه، أما إن مات فيقتسمه أربعة أو خمسة من الورثة، وقد جمع مالاً يحاسب عليه ولم يوصِ بشيء منه لله ورسوله، فضحك مدير أعماله وقال: عساه أن يقوم بأدنى الواجبات فضلاً عن أن يقبل بهذا كله.
على أية حال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] لعل الله أن يهديه، لعل الله سبحانه وتعالى يمنُّ عليه في آخر حياته -والأعمال بالخواتيم- فيوصي بشيء من هذه الأموال في سبيل الله جل وعلا.
إذا أردت يا أخي الحبيب أن تعرف أهمية وخطورة أموال المسلمين وأثرها في مجتمعات لو سُخِّرت الأموال فيها لنفعت خذ الدليل الإحصائي السنوي لمؤسسة النقد العربي السعودي، اجمع ودائع البنوك، واضربها في اثنين ونصف في الزكاة، وانظر كم يطلع عندك من مليار، لو صُرِفَت المليارات على الفقراء في الداخل والخارج لما بقي في الداخل فقيراً ولا محتاجاً.(21/21)
صرف بطاقات فورية من بنوك ربوية
السؤال
فضيلة الشيخ: أشهد الله على محبتكم فيه، ما رأيكم في من فتح حساباً في شركة الراجحي المصرفية، وأخذ بطاقة صرف فورية، فهل في صرفه من أي بنك آخر إثمٌ أم لا؟ والله يحفظكم.
الجواب
الذي يظهر إن شاء الله أن ليس في هذا حرج.(21/22)
فشو الشرك في العالم الإسلامي
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحياناً يا فضيلة الشيخ! تتكلم عن الدول الإسلامية غير المملكة وكأنها لا يوجد فيها توحيد، وأن التوحيد تفرد به أهل هذه البلاد، وهذا يغضب بعض الإخوة الأفاضل من البلاد الأخرى، وأدعو الله تعالى أن لا تفهم كلامي فهماً خاطئاً، فإني والله أحبك في الله، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن هناك بلاداً فيها صحوة طيبة ودعوة إلى التوحيد والإسلام؟
الجواب
يا أخي الكريم! لو لم نعتقد ونتيقن ونعلم أن في كثير من البلدان صحوة سلفية صحيحة مسدَّدة راشدة لما سافرنا وقابلنا وزرنا وتعاونا مع أحبابنا.
نحن نعلم في كثير من البلدان مثلما تقول من الخير والصواب والهدى؛ لكن نحن ننتقد ما يوجد من الشرك الواضح الصراح فيها؛ لكن حينما نذكر شركاً موجوداً أو كفراً بواحاً هل يعني ذلك أن ننكر وجود طائفة على منهج سليم وصراط مستقيم؟! لا وألف لا، بل نعلم أن في كثير من البلدان من العلماء والدعاة والأبرار والأخيار من نحسبهم ولا نزكي على الله أحداً من ذوي الخير وأهل الخير والدعاة إليه.(21/23)
حكم من يرغم زوجته على التبرج
السؤال
رجل تزوج منذ زمن من امرأة تخاف الله وملتزمة بأوامره، وما كان منه إلا أن أمرها بصفات منها: أن تظهر بعض جمالها! أرجو التوجيه وشكراً!
الجواب
كان عليه أن يخوفها بالله جل وعلا، وأن يكثر من ذلك وأن يبين لها أن ما كانت سبباً فيه بفتنة شاب من الشباب أو ضلالته أو وقوعه في الفاحشة فربما لَحِقَها إثم ووزر بسبب ذلك و (من دعا إلى ضلالة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).(21/24)
هيئة الحجاب الشرعي
السؤال
وهذا يسأل عن النقاب الذي انتشر بين بعض النساء هداهن الله؟
الجواب
بالنسبة لمسألة النقاب فالمسألة مرتبطة بالمقاصد: إذا كان مقصد المرأة أن تبصر بوضوح فلها أن تفتح شيئاً يسيراً بقدر بؤبؤ العين أو حدقتها، لا بقدر ما يبين رمشاً وجفناً وحاجباً وشيئاً من الخد والأنف والجبين فهذا ليس بنقاب بل هذا فتنة والعياذ بالله، تحدٍّ، بل استفزاز -بالعبارة الصريحة- لبعض الضعفاء والمساكين.
وربما يكفي في النقاب أن تخرج عيناً واحدة، لا يلزم أن تخرج الثنتين جميعاً، أما ما يفعله كثير من النساء الآن وللأسف أنك تجد بعضهن مع زوج فيه خير وصلاح، لكن قد بدا من أعلى الحاجب إلى أدنى الخد شيء كثير، فهذا فتنة وعليها وعلى زوجها أن يتقيا الله جل وعلا.(21/25)
سفينة بدشوش تغرق
السؤال
ما رأيكم في السفينة التي فيها دشوش؟
الجواب
يبدو أن أصحاب السفينة يتفرجون يا أخي، إذا كانت هذه السفينة فيها دشوش! على أية حال: الله المستعان! يا أخي الكريم: هناك مخاطر، لا شك أن هذا الدش خطر عظيم، لن نمر عليه مرور الكرام حتى نتساهل به أو نظن أنه يسير؛ بل منذ يومين فقط جاءني شاب وأخبرني بقصة آلمتني وهي: أن شاباً وقع على أخته بسبب مثل هذه الدشوش، وطلب مني أن أفصلها في خطبة جمعة، قلت: اعذرني من مثل هذا الكلام، فإنه لا يقال بالتفصيل على منبر جمعة؛ لكن يذكر مغبة مثل هذا الأمر.
آخر يذكر عن أخت صغيرة له، أنها تعمل حركات خليعة، فلما سئلت إذ بها لا تعلم ما تفعل، وإنما قالت: رأيت في القناة الفلانية.
نعم، هذه الدشوش قد فتحت الشر على الناس من أبوابه.
فنسأل الله أن يجنبنا شرها، وعلينا أن نناصح من رأيناه قد ركبها، وإن احتج بالأخبار فهناك أجهزة الإذاعة والراديو تأتي بالأخبار، ثم ماذا إذا علمت الأخبار؟! بعض الناس يقول: أنا والله ما عندي وما لي حاجة في الصور، لو سلمنا أنك صادق فيما تدعي وتزعم؛ ماذا وراء الأخبار؟! هل تخرج قوات الأمم المتحدة من الصومال؟! هل تتدخل في مفاوضات السلام في البوسنة؟! هل تغير شيئاً من الأوضاع في كمبوديا؟! تسمع من الأخبار ثم تعود إلى فراشك كالفرخ المضروب، ما عندك أي حس، ما عندك أي قدرة أن تفعل شيئاً.
فإذاً الأخبار التي تهمك أخبار المسلمين، ينبغي عليك أن تدعو لهم، وأن تبذل لهم، أما هذا الهراء الذي يدعيه بعض الناس، نعم قد أستثني أناساً ربما في دوائر عسكرية وسياسية في مركز العمل نفسه، ضرورة العمل الأمني تستدعي أن يعرفوا ماذا عند الدول الأخرى، ماذا تقول أخبار الدول الأخرى، ماذا تقول إذاعات الدول الأخرى، استراتيجيات وأعمال أمنية للمختصين أن يفعلوا بهذا؛ لكن أن يوجد هذا عند الناس جميعاً، بل ويتباهى بعضهم بدشين وثلاثة وأربعة، وبعضهم إذا قلت له، قال: يا أخي! أنت تفكر بعقلية العصر المتخلف، لماذا لا تقنعنا بأن نأتي بالبديل الذي نقنع به الغرب ويسلمون، ما هذا الكلام الفارغ، أنت ما استطعت أن تعبئ الإعلام تعبئة كاملة في دول إسلامية فضلاً عن أن تجادل الغرب بأمور تصرفهم عن خطوات بل عن سنين تقدموا فيها هناك، نحن بحاجة أن نكون موضوعيين في مثل هذه القضية، والسفينة فيها دشوش، وفيها ما هو شر من الدشوش، وفيها خير كثير، نسأل الله أن يكثر الخير وأن يزيده وأن يمحو الشر وأن يبعده.(21/26)
هجران من يمتلك دشاً
السؤال
لي قريب قد ركب على سطح داره دشاً، ولقد حاولت نصحه ولكن دون فائدة، فقررت قطعه من الزيارة، وأنا منذ ركبه لم أزره، فما رأي فضيلتكم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا يرتبط بالمصلحة، إذا رأيت أن قطيعته تجدي وتنفع بإذن الله فأنت محق، محمودٌ فعلُك في قطيعته، وإذا رأيت أن قطيعته ربما أحدثت له زيادة دشوش أخرى بل ترويج أو نشر أو زيادة فعليك أن تنكر ما ترى من فعله وأن تستمر في مناصحته بالخير الذي تستطيعه: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7].
وفضيلة الشيخ يؤشر أن الوقت انتهى.
فنكتفي بهذا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
نسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يدمر الشرك والمشركين، وأن يؤمِّنَنا في دورنا، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن يجمع شملنا وحكامنا ودعاتنا وعلماءنا، وألا يفرح علينا عدواً، ولا يشمت بنا حاسداً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(21/27)
الموت
الموت حقيقة غفل عنها كثير من المسلمين، فتراهم في دنياهم غافلين، قد ألهتهم الدنيا بما فيها من متاع وزخرف، فأصبحوا يتسابقون إليها ليلاً ونهاراً حتى غفلوا عن آخرتهم والإعداد لها، وما علموا أن في الآخرة أموراً تشيب لها الولدان، وتضع كل ذات حمل حملها فالله الله في التوبة والرجوع إلى الله.(22/1)
حقيقة الموت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
معاشر المؤمنين! هناك ساعةٌ يحب ذكرها الأخيار، ويشتاق لما بعدها الأبرار، ويكره سماعها المترفون والفجار، هناك ساعة لا بد لكل عبد أن يلجها وأحداثها، وما قبلها وما بعدها، وربما كانت بدايةً إلى خلود أبدي، وربما كانت نهاية إلى شقاء سرمدي، تلكم ساعة لا يغفل عنها العقلاء، ويتذكرها أولوا الألباب، ويستعد لها أولو الحجى، وتلكم ساعة يغفل عنها الذين أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، وأعطوا النفوس أمانيها، وأسلموها لأهوائها، وانقادوا لشهواتها.
هذه الساعة يا عباد الله! جاء جبريل عليه السلام مذكراً إمام الذاكرين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقول الحبيب المصطفى: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
أيها الأحبة! لا أظن واحداً منكم قد خفيت عليه بعد هذه الساعة، فهي ساعة المنية، فهي ساعة الأجل، وهي ساعة الموت، يوم يبكي الأحباب، ويعجز الأصحاب، ويحار الأطباء، ويطرق العقلاء، ويدرك القوم أن الذي بين أيديهم ليس له نجدة، وليس لرقبته خلاص، ولا لأمره فكاك؛ إلا برحمة من الله ثم ما قدمه من عمل صالح.
في تلك الساعة يستوي من يموت في قصر منيف، أو يموت في حجرةٍ ضيقة، ويستوي من يموت وقد خلَّف أموالاً طائلة، وربما سعد من مات ولم يخلف ريالاً ولا ديناراً، يستوي من يموت وحوله ولد وزوجة، ومن يموت وحوله حشم وخدم، إذ الكل عاجز أن يقدم لهذا الطريح شيئاً.
كتب الموت على الخلق فكم فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وفرعون ومن ملك الأرض وولى وعزل
إنه الموت:
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخرب
أيها الأحبة في الله! الموت على وضوح شأنه سرٌ من الأسرار تحير به الألباب، وأذهلت به العقول، واندهش له الأطباء.
الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم فيهم بقية من إيمان إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط، وشعروا بالتقصير، فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم.
ألا وإن نسيان الموت وتناسيه، وكراهة ذكره والتشاغل عن أمره بلاء عظيم، وشر مستطير، فما نسي الموت أحدٌ إلا طغى وبغى، وما غفل عن الموت امرؤ إلا غوى، وحري بكل مسلم أن يتذكره، إذ قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات).
الموت: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] أمر كتبه الله في هذه الدنيا، حتى نشتاق إلى دار لا موت فيها: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].(22/2)
الفرق بين المؤمن والكافر في الموت وما بعده
أيها الأحبة! روى الإمام أحمد في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس) وهذا الحديث أود يا معاشر الأحبة! أن نسمع كلماته، وأن نتأمل عباراته، ونحن نتخيل أننا متمددون على الفرش، وأننا أهل هذا الحديث، وأننا ممن يخشى سوء ما فيه، ويرجو نعيماً ورد فيه، وأننا أول من يعنى به؛ لأن بعض المصلين يحضر بقالبه، وأما قلبه فلا يزال في بيته، وبعض المصلين يحضر بجسمه، وأما عقله وفكره فلا يزال في دكانه وبيته.
والعبرة والتذكرة لمن سمع بأذنه، وأطرق برأسه، وتأمل بقلبه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] فتخيل نفسك الآن وأنت على فراش الموت، ساعة لك الحق بل عليك بل يجب أن تتخيلها، لو قلنا إنك تسافر إلى بلدٍ بعيدة، لتخيلت وصولك، وتخيلت سكنك، وتخيلت مسيرك، وتلك رحلة لا بد منها، فلماذا تأبى أن تتخيلها؟ لماذا تزور ولا تريد أن تتخيل نفسك في حالها ومآلها؟ أيها الأحبة! قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ على الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ويجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، فيأخذها فإذا أخذها ملك الموت لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منه كأطيب نفحة مسكٍ وجدت على وجه الأرض، ويصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولان: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.
حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض في جسده، فيأتيه ملكان، فيجلسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي مناد من السماء، أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة.
قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجلٌ حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الحسن، يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، نزل إليه ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، يجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق روحه في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها، لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، وتخرج منها كأنتن جيفة وجدت على الأرض.
فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح لها، فلا يفتح له، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، ثم تطرح روحه طرحاً، ثم قرأ قول الله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي منادٍ من السماء، أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجلٌ قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت، فوجهك الوجه القبيح، الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد.
أيها الأحبة في الله! هذا مصيرٌ سنواجهه، وكلٌ سينال من الكرامة أو من الهوان بقدر صلاحه أو فسقه، بقدر إنابته أو مخالفته، بقدر خضوعه لله أو تكبره عن أوامر الله عز وجل.
فلماذا الغفلة؟ ولماذا التمادي وقد مر من الأعمار ما مر، وعشنا في هذه الدنيا ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءنا النذير؟ بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(22/3)
حال السلف مع الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
معاشر المؤمنين! لقد كان حال السلف مع أنهم أحسنوا الإعداد، واستعدوا أطيب الاستعداد، كانوا يخافون من الموت، فإذا ذكروا به تذكروا، وإذا زجروا به انزجروا، وإذا وعظوا به اتعظوا، وأما نحن في هذا الزمان، فكم والله رأينا بأعيننا أقواماً غافلين في المقابر يتضاحكون، وإذا مرت الجنائز أمام أبصارهم لا ينتبهون ولا يتدبرون، وإذا ذكر الموت في مجالسهم أعرضوا عن هذا، ولا يحبون من يذكرهم هذه النهاية، لا يحبون من يخبرهم بالحقيقة، لا يحبون من يذكرهم بالأجل، ولكن يعجبهم الذي يخادعهم، ويزور عليهم، ويضحك بعقولهم، ويستخف بأفئدتهم، يحبون الذي يسخر بهم، فيمنيهم فيما يتركون، ويبعدهم عما ينتظرهم ويدركون.
لما تولى عمر بن عبد العزيز وخطب خطبة الخلافة، ذهب يتبوأ مقيلاً، أي: يبحث عن ضل ليقيل فيه القيلولة، فأتاه ابنه عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين! من لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال عمر: ادن مني أي بني! فدنى منه فالتزمه، وقبل ما بين عينيه، فقال: الحمد الله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني، فخرج ولم يقل، وأمر منادياً له أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها.
وقال بعض الناس: دخلنا على عطاء السلمي، نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟ فقال عطاء: الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي، ثم بكى بكاءً شديداً حتى أغشي عليه، فلما أفاق، قال: اللهم ارحمني وارحم وحشتي في القبر، ومصرعي عند الموت، وارحم مقامي بين يديك يا أرحم الرحمين.
ودخل المزني عند الإمام الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟! فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي سبحانه وتعالى وارداً، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها؟ وقال بعض الحكماء: ما زالت المنون ترمي عن أقواس حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الألبس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يرأس، فمن عامل الدنيا خسر، ومن حمل في صف طلبها كسر، وإن خلاص محبها منها عسر، وكل عاشقيها قد قيد وأسر: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].(22/4)
نداء للعودة إلى الله قبل نزول الموت
فيا أيها المسلم! يا تائهاً بوادي الهوى! انزل ساعة بوادي الفكر يخبرك بأن اللذة قصيرة، والعقاب طويل.
وا عجباً لمن يشتري شهوة ساعة بالغم والنكد! كانت المعصية ساعة لا كانت، فكم ذلت بعدها النفس، وكم تصاعد لأجلها النفَّس، وكم جرى لتذكارها دمع، أعاذنا الله وإياكم من الغفلة وسوء المنقلب.
فيا أيها الأحبة! إلى كل غافل: عد قبل أن تتذكر عند الموت.
وإلى كل ظالم: رد الحقوق إلى أهلها قبل أن تقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10] لترد حقوقاً إلى أهلها.
وإلى كل بخيل شحيح أمسك المال عن أوامر الله ومصارفه، نقول له: أنفق قبل أن تقول: {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
وإلى كل متمادٍ في غوائه، وإلى كل سكران في غيه وغفلته، نقول: عد قبل أن تفيق في معسكر الأموات، نقول: عد قبل أن يكشف عنك بصر حديد: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] وإلى كل مغرور بجلسائه وخلانه نقول: تيقظ قبل أن يتبرأ بعضكم من بعض فتقول: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
إلى كل من طغى وبغى وغفل وتمادى، إن الموت هو النهاية، وإن الموت هو الغاية، كم تحت هذه الأرض من الأثرياء، ما دفن معهم من ثرواتهم شيء، بل تقاسم ورثتهم أموالهم، وكم تحت هذه الأرض من عالم، ومن صالح، ومن عابد، ومن مجاهد، ومن منفق، ومن حاكم عادل، كم تحت هذه الأرض من أناس مضوا في طاعة الله، فما استطاع أحدٌ أن يقتسم من أعمالهم الصالحة حسنة واحدة.
إن الورثة بعدك يتقاسمون أموالك، لكنهم لا يتقاسمون أعمالك، هل سمعتم أن ورثة جاءوا ليقتسموا صيام آبائهم، أو حج أمهاتهم، أو صدقات زوجاتهم وأزواجهم، لا.
إنما جاءوا ليتقاسموا أموالهم من بعدهم، أما العمل الصالح فهو لك وحدك، لا شريك لك في هذا العمل، أنت تملكه، والله عز وجل هو الذي يتقبله، حينما تكون نيتك صالحة خالصة، أردت بها وجه الله عز وجل.
فيا أيها الأحباب! عوداً عوداً إلى الله، ورجوعاً رجوعاً إلى التوبة، وإنابة إنابة، فإن اللذات التي يتسابق فيها الغافلون لذات زائلة، ويبقى وزرها، وإن التعب والمجاهدة التي يكابدها الصالحون تعباً منسيا، ويبقى أجورها.
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الذكر لأيام الصبا فلأيام الصبا نجم أفل
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تهواه تجد أمراً جلل
اللهم ارزقنا الاستدراك قبل الفوات، والاستعداد قبل الممات، اللهم ثبتنا على طاعتك إلى أن نلقاك، اللهم لا تمتنا على غفلة، اللهم لا تأخذنا على غرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم إنا نسألك عيشة هنيئة، وميتة سوية، ومرداً مرضياً، ومنقلباً مرضياً غير مخز ولا فاضح، برحمتك يا رب العالمين، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفراناً، وارحمنا اللهم برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم لا تشمت بنا عدواً، ولا تفرح علينا حاسداً، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع كلمتنا، اللهم وحد صفنا، برحمتك يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على محمد وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(22/5)
الكذب
الكذب آفة تفتك بالمجتمع، تتسلل إلى نقلة الأخبار، وحملة الأفكار، فتؤدي إلى إشكالات كثيرة.
لذلك كان التثبت عند سماع الخبر ونقله واجبا، وكاد أن يكون غير المتثبت كاذبا.
وفي هذه الخطبة نفي لأي مصلحة مدعاة تأتي من وراء الكذب، وفيها حصر جواز الكذب على ما ورد في الشريعة.
كما اشتملت الخطبة الثانية على بعض ما يجب على من حضر مجالس القيل والقال.(23/1)
محذورات نقل الأخبار
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
معاشر المؤمنين! لقد من الله على أمة الإسلام بصحوة ويقظة بعد غفوة وغفلة، ومن أبرز ملامح تلك الصحوة هذا الجيل العائد إلى الله من كل جهات الدنيا ومجالاتها، وفي شتى وظائفها وتخصصاتها، ولكن ما أحوج هذا الجيل إلى التفكير قبل العمل، وإلى التثبت قبل النقل، وإلى المناصحة عند الزلل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46].
واعلموا يا عباد الله! أنه إن لم يتناصح المؤمنون فيما بينهم، فلينتقدنهم العدو، وليشمتن بهم الحاسد، وليجدن المرجف إلى عقر دارهم سبيلا، وإن مما ابتلي به كثيرٌ من المسلمين، الفرح والعجلة بنقل الأخبار، ونشرها في المجالس، وجعلها محور الحديث بين القاعدين، ثم لا تسل بعد ذلك عن الزيادات والحواشي والشروح، والدخول في المقاصد والنيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.
عباد الله! لقد تعددت وتنوعت وسائل نقل الأخبار والأقوال، فضلاً عن سرعة وصولها، وبات الخبر الذي يصبح في شرق الدنيا، يضحي في مغربها، والمهم في حديثنا اليوم هو ما الذي يصح، وما الذي يثبت من هذا الكم الهائل من المعلومات، وما تتناقله الألسنة، وقديماً قال العلامة ابن خلدون يرحمه الله: فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والوهم نسيب للأخبار وخليل، والتقليد عريق في الآدميين وسليل.
ولما فشا نقل الكلام، ومرض نقل الأخبار، لما فشا هذا الداء العضال في صفوف كثيرٍ من المسلمين إلا من عصم الله ورحم، بتنا نسمع كلاماً ينقل، تثور له ضغائن النفوس، وتتمزق له أواصر الأخوة والمحبة، ومن قدر على العفو، لم يقدر على حفظ المودة من المنغصات، أو تصدع جدرانها.
فيا أخي:
احرص على حفظ القلوب من الأذى فرجوعها بعد التنافر يصعب
إن النفوس إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يشعب(23/2)
واجب التثبت عند نقل الأخبار وسماعها
لقد بلغ الداء في فريق من المسلمين، أن بات تصديقهم للقيل والقال في الرجال والأحوال، أسرع من تسلميهم للأمر عن الله ورسوله، ولو أنهم قالوا للناقل والساعي، ولمن جاء يتملق بالحديث أو يتشدق أو يتفيهق به، لو أنهم قالوا للناقل: من أين لك هذا؟ وما مصدر الخبر؟ لأسقط في يد الناقل، ولرأيت كثيراً من الناس يعتمد في نقله على مثل فعله من القيل والقال، أو يعتمد على الشائعات والمنشورات، أو الاستنتاج والقول باللوازم.
وبعضهم إذا قيل له: من أين لك هذا؟ وما مصدر كلامك؟ وما أصل نقله؟ قال: أخبرني فلان عن فلان عن فلان، ثم لم تلبث أن تسمع وترى سنداً يروي فيه الكذوب عن المدلس، عن صاحب الهوى، عن سيئ الحفظ، عن الصدوق، فلا يبلغ الخبر إلا بعد الزيادة والحذف والاضطراب والخلل والتأويل، ثم يتناقله السرعان من الناس، وما أرسلوا على الناس حافظين، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الكف عن القيل والقال، لكان خيراً لهم وأقوم وأشد تثبيتا.
إن كثيراً من الأخبار التي يتناقلها البعض عن إخوانهم أو أترابهم، وربما هم عند الله خيرٌ منهم، علتها الكذب الصريح الذي لا مكان لمروءة الناقل الكاذب بعده، وحسبك أن الكذب دالةٌ في ضعف الدين، ودليلٌ على خسة الطباع، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:105]، وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن أبي مليكة، أن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما يزال في نفسه صلى الله عليه وسلم عليه، حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة.(23/3)
تناقض الكذب مع المصلحة
ولا غرابة يا عباد الله! فمن يحدث في الحديث كذبا، أو يحدث بكذب الحديث، يحتاج إلى كذبٍ آخر، ليؤكد به الكذب الأول، إذ لا يعقل أن يكون مصداق الكذب حقاً وصدقا، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا) رواه الإمام مسلم وغيره.
وحسبكم يا عباد الله! أن الكذب من علامات النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) متفق عليه.
ومن أنجس الحماقات وأخبثها، من يدعي أنه يكذب لمصلحة الدعوة، أو من يدعي أنه يكذب للإصلاح، أو لإصلاح الأوضاع الفاسدة، وهل عقم الدليل؟ وهل شح النص؟ وهل ضعفت النصوص الصحيحة الصريحة؟ هل عجزت عن الإصلاح حتى نصلح أحوالنا بالكذب؟ نعم.
ليس من الكذب الكلام في إصلاح ذات البين وما استثني بالنص، ولكن أن نظن أن الكذب أو التحريف سوف يجر خيراً ومصلحة وحقاً، فهيهات هيهات إنك لا ترجو من الشوك العنب، واليوم ظهرت سرية من أعوان الكذابين والكاذبين، تمارس حرباً نفسية على كل من لم يوافق هؤلاء المفترين، أو على الأقل يسكت عن الحق الذي يعلمه، حتى أصبح بعض العقلاء يعلم في نفسه، كذب بعض ما يدور ويتناقله الغوغاء على الألسنة، ولكن بعض هؤلاء العقلاء يخشى من أعوان المفترين، أن يصنفوه أو ينالوه بكذبة تجعله في عداد المكذوب عليهم، ولذا تراه يتردد عن القول بالحق والنطق به، فيقول: إن سكت سلمت من ألسنتهم وشائعاتهم وأقوالهم، وإن تكلمت لم أنج حتى من الشائعة أو التهمة بأدنى باقعة.
ونقول لكل عاقل: لا تدع الصدق لأنهم يكذبون، ولا تدع الأمانة لأنهم يخونون، ولا تدع الوفاء لأنهم يغدرون، ولا تدع الأمر بالمعروف لأنهم عن المنكر يسكتون، والله المستعان!(23/4)
ضروب أخرى من الكذب
ومن ضروب الكذب وخبيث أنواعه، تلك الكلمات التي يطلقها الكاذبون غير جريئين على الصراحة، ورمي المكذوب عليه صراحة، ولكن يلجئون إلى إثارة الشبهات والشكوك حول هذا الذي يكذب عليه، حتى تجتمع من الأحوال، ومختلف المواقف المرتبة على نسقٍ معين، ما يجعلون السامع ينطق به -أي: ينطق بالكذب- أو يعقد على الكذبة التي هابوا وخافوا من النطق بها صراحة.
إنه لا يجوز أن نكذب على أحد، حتى على أعدائنا من ذوي المذاهب الضالة والملل المنحرفة، ولو كان عدواً إلا ما استثني بالدليل، من الكذب حال الحرب والمعركة، أما الكذب والافتراء حتى على ذوي الأهواء والمذاهب الضالة فإنه لا يجوز، فما بالك بمن يشاركوننا في الإسلام والإيمان والإصلاح، إنه لا يجوز أن نكذب، ولماذا نكذب وعندنا من الحق والدليل ما يكفي لهتك أستار الأعداء ونبذ أخبارهم، دون اللجوء إلى الافتراء.
ومن أنواع الكذب الذي يسري على عقول كثير من المسلمين، ذكر بعض الحقائق وإخفاء بعضها الآخر، فترى الكذوب يسمعك من الرواية فصولاً لا تدع للسامع مجالاً ينجو فيه من تغير حاله ورأيه على المكذوب عليه، ولو أن السامع أسمع الواقعة كلها، لانقلب السامع مؤيداً ونصيراً ومعيناً، وللكاذب عدواً.
ولكن يا عباد الله! إذا زلت العقول عن المنهج، وعن الدليل، وعن الحق، ومالت إلى الهوى، فلا تسأل عن الهلكة: {فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] إن كثيراً من الذين يكذب عليهم، لو أسمعوا الحقائق على جملتها وتفاصيلها، لانقلب السامع مؤيداً ونصيراً للمكذوب عليه، بل وانقلب السامع معيناً لمن جاء الكاذب يتزلف بعرضه، أو يسعى في إفساد سمعته، أو كما يقال إحراق أوراقه.
روى الإمام أحمد وأبو داود بسندٍ صحيح، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله في أمره، ومن مات وعليه دين، فليس بالدينار والدرهم، ولكن بالحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل وهو يعلمه، لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال وليس بخارج) {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:15 - 16].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(23/5)
واجب من حضر مجالس القيل والقال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، تمسكوا بشريعة الإسلام، عضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.
أيها الأحبة في الله! إننا بحاجة إلى أن نرفع شعاراً وراية في مجالسنا ولقاءاتنا، وأماكن تزاورنا، هي أن نسأل عن المصادر والأصول والمرجع، فلا يقبل عاقلٌ أن يجعل عقله زجاجة أو إناء يصب فيه من خليط الكلام ورديء القول وساقط الافتراء، إن عاقلاً لا يرضى أن يقدم جوفه وعقله وقلبه إناءً ليصب فيه المتكلمون ما يشاءون، فكل كلمة أسعفها الدليل، وأيدها النص، وظهرت عليها علامات الصدق، فحيهلا بها وبقبولها، ومن لم يسعفه الدليل فلا مكان له ولا منزلة، في قلوب وعقول العقلاء، ذوي الحجا والألباب.
أيها الأحبة: إذا دار الحديث في مجالسنا عن القيل والقال، وأعراض الرجال، فعلينا أن نعلم الأمور التالية: أولاً أننا لا نتكلم في معروف، ولا نجمع حسنات، وإنما نتكلم في منكر، ونسدي إلى المتحدث عنهم حسناتنا، ونكسب زيادة على ذلك آثاماً وسيئات.
الأمر الثاني: أننا لم نرسل على الناس حافظين، نحصي عليهم أعمالهم وأقوالهم.
الأمر الثالث: أن واجبنا إذا جلسنا مجلساً وسمعنا فيه القيل والقال، أن نقول للمتحدث: كف لسانك عن هذا، أعطنا أية من كلام الله، وحديثاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجعل صناديق ساعاتنا نلقى بها يوم القيامة غيبة وفرية وشائعة ونميمة.
الأمر الرابع: يشرع لمن تكلم في عرض مسلم في مجلسه، أن يذب عن عرضه، فمن ذب عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه النار يوم القيامة، حتى ولو تكلم المتكلمون في مجلسك عن رجلٍ أنت تخالفه في منهجه، أو في أسلوبه وطريقته، فالخلاف قديم ومعروف بين طلبة العلم والعلماء والفقهاء، ولكن الخلاف لا يبيح الكلام في الأعراض، ولا يجيز الغيبة، ولا يبيح النميمة، ولا يسقط الحقوق، ولا يسقط الواجب علينا تجاه أعراض إخواننا، حتى لو اختلفنا معهم، فضلاً عمن اتفقنا معهم.
الأمر الخامس: أن من واجبنا إذا علمنا أن أحداً لا هم له إلا النقل والقيل والقال، والسعي بالشائعة والكلام، علينا أن نطرده من مجالسنا، وألا يبقى معنا، إلا إن يخوض في حديثٍ غيره، بعد أن يتوب إلى الله ويعلن التوبة والمناصحة.
إننا بحاجة إلى أن نصلح سلوكنا، إننا لسنا بحاجةٍ أن نصلح أوضاعنا الاقتصادية فحسب، أو نصلح أوضاعنا السياسية فحسب، أو نصلح أوضاعنا الإعلامية أو التربوية أو الاجتماعية والتعليمية فحسب، بل نحن بأمس الحاجة أن نصلح سلوكنا، وأخلاقنا، وطبائعنا، وأموراً ترددت في مجالسنا، وتعوَّد البعض على نقلها في كلامه، وأصبحت أمراً يغض البعض فيه عن البعض طرفاً.
وذلك من السكوت عن المنكر، وما هكذا يكون المؤمنون، بل إن الله وصف المؤمنين بأنهم الذين يؤمنون ويعملون الصالحات، ويتواصون بالحق ويتواصون بالصبر، فأين التواصي بالحق في المجالس؟ هل فينا جرأة إذا تكلم أحد في عرض أن نقول له: اسكت أو اخرج؟ هل فينا جرأة إذا وجدنا المجلس قد أطبق على الكلام في عرض غافلٍ، أو عرض مبتلى، أو مسكين، أن نقول: اسكتوا أو نخرج؟ هذا هو واجبنا، وأن نبرأ إلى الله من أن نحضر أو نجلس، وإخواننا تشرَّح أعراضهم أو يتكلم فيهم أياً كانوا، حتى ولو كان المتكلم فيهم على طرفي نقيض في الوسائل والأساليب، أليسوا يجمعهم بنا، ويجمع بعضهم مع بعض الإسلام والإيمان والدعوة والغيرة والإصلاح؟ فلماذا الحديث في الأعراض؟ لماذا القيل والقال؟ لماذا نقل الكلام؟ نعم.
لما خلت العقول عن النافع المفيد، وخلت القلوب عن الخوف والوجل والخشية، ما بقي في العقول بعد زوال النافع إلا الضار، وبعد زوال المفيد إلا المضل، وبعد زوال الهدى إلا الضلالة.
هذا شأن كثير من الناس، الذين يتكلمون بساقط القول ورديء الكلام، وإن الألسنة مغارف القلوب، فمن كان قلبه إناءً لكلام الله ورسوله، أول ما يخرج من لسانه قول الله وقول رسوله، ومن كان قلبه إناءً للأعراض والقيل والقال والشائعات، أول ما يخرج من لسانه: قيل في فلان، وروي عن فلان، وحدث عن فلان، وسئل فلان عن فلان، فقال في فلان ما قال.
وما لهذا خلقنا، وما بهذا وكلنا، ولكن إن الإنسان إذا ضل عن الهداية، تفنن وأمعن في الغواية.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
اللهم سلم أعيننا من الخيانة، وألسنتنا من الكذب، وقلوبنا من النفاق، اللهم ارحم إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم فرج لإخواننا المكروبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم من نقل الكلام بيننا بغفلةٍ أو بجهل أو بخطيئة لا يعلم بها، اللهم فتجاوز عنه ولو تكلم في أعراضنا، اللهم سامحه ولو تكلم في ذواتنا، اللهم اجعل سيئاته حسنات ولو تكلم عنا، اللهم ومن تكلم فينا وفي إخواننا يريد إفساد مجتمعنا، ويريد إحداث الفتنة بين الولاة والدعاة والعلماء والعامة، اللهم فأخرس لسانه، وعطل أركانه، واهتك أستاره، وافضح أسراره، وأرنا فيه عجائب قدرتك يا رب العالمين.
اللهم اكشف منكره وباطله بين الخلائق حتى يتجنبوه، وحتى يشيروا إليه فلا يقبلوه بقدرتك يا رب العالمين! اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، والجميع فينا على الهدى والحق يا رب العالمين، اللهم لا تفرح علينا عدوا، ولا تشمت بنا حاسداً يا رب العالمين، اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد يؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويعز فيه أهل الدعوة والطاعة، ويذل فيه أهل المعصية يا رب العالمين.
اللهم ولِّ علينا خيارنا، واكفنا شرارنا، اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا أيماً إلا زوجته، وذرية صالحة وهبته، بمنك وكرمك يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المستضعفين في البوسنة والشيشان، اللهم أيدهم بتأييدك، اللهم انصرهم بنصرك، اللهم أنزل جنودك من السماء، التي لا يعلمها إلا أنت تقاتل معهم، وتدفع بأمرك وقدرك عنهم كيد عدوهم، اللهم ثبت أقدامهم، ووحد كلمتهم وصفهم، وسدد رصاصهم ورميهم، وأقم على الدين دولتهم، واطرد المنافقين من صفوفهم، اللهم عليك بالصرب والروس واليهود ومن شايعهم، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، اللهم اجعل سلاحهم في نحورهم، واجعل كيدهم على صدورهم، وخالف بين قلوبهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين.
إلهنا لا ترفع لهم راية، إلهنا اجعلهم لمن خلفهم آية، إلهنا لا تجعلهم يدركوا من المسلمين غاية بقدرتك يا رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على محمد، اللهم صلِّ وسلم على نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا في الخير كله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وعلى أزواجه ومن اقتفى أثره، واستن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.(23/6)
الشباب بين الواقع والأمل
شباب اليوم هم رجال الغد، عليهم تقوم الشعوب، وبهم تبنى الآمال، وتسمو الأمم، وهم الخامة الثمينة للمشهد الإنساني القادم.
وهذه جلسة من جلسات الذكر التي وردت النصوص بفضلها، تتجلى فيها نظرة الإسلام إلى الشباب، من خلال تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع شباب الرعيل الأول، ودور الشباب في الدعوة والجهاد.
كما تحوي هذه المادة بياناً لواقع الشباب اليوم، ونصائح نفيسة لهم حتى يبلغوا المستوى المنشود.(24/1)
فضل الجلوس في حلق الذكر
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
معاشر المؤمنين! جئت إليكم وأنا أحمل في قلبي مشاعر المودة والمحبة، نبضات الفؤاد تحبكم يا أهل الأحساء وخفقات القلب تشكركم وتذكركم دائماً بما أنتم أهله، وإني قادم وملتقِ بأحبتي في الله في هذا المكان وأنا على يقين أن في الزوايا خبايا، "وأن بني عمك فيهم رماح" وأن في القوم من هم أعلم بالمقال من القائل، وأعلم بفقه الحديث من المتحدث، ولكن حسبنا وإياكم أن نجتمع في روضة من رياض الجنة، فتحفنا الملائكة، وتغشانا السكينة، وتتنزل علينا الرحمة، ويذكرنا الله فيمن عنده، هذا الأجر لا يكون إلا في مثل هذه اللقاءات: (ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه).
وفي الطريق إليكم ونحن نتجاذب أطراف الكلام مع صحبة كرام، قال بعض الإخوة: لو أن الواحد جعل الوقت في قناة فضائية ليلقي محاضرة أو ليقدم برنامجاً أفلا يكون هذا أولى وهو يخاطب عبر القناة ملايين البشر؟ وربما اختصر من الوقت والجهد ما اختصر، فرد أحد الإخوة جزاه الله خيرا قائلاً: ولكن الملائكة لا تتنزل على القنوات الفضائية، ولا تغشاها السكينة ولا تتنزل عليها الرحمة، نعم يؤجر من جاهد فيها، فهو في مضمار جهاد، وفي ميدان دعوة {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان:33].
ومن هنا نعلم أن مثل هذه اللقاءات ومهما ضربت لأجلها أكباد الإبل، وقطعت لأجلها الصحاري والقفار فليس بكثير على أن يفوز أو على أن نفوز جميعاً بمن الله وكرمه وجوده بدعوة من الملائكة ومغفرة من الرب عز وجل، ونحن في سبيل الاستماع لا لغرض ولا غاية ولا قسط من أمور الدنيا قاطبة، وإنما غايتنا وقسطنا أن تغفر ذنوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكفر سيئاتنا، وأن يرفع الله درجاتنا، اللهم ذلك ما نتمنى فنسألك اللهم ألا ترد دعاءنا وألا تخيب رجاءنا.
أحبتي في الله:
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها
وأهل الأحساء بينهم وبين قلبي صلة، وبينهم وبين فؤادي مودة، ولا غرو ولا عجب وإن كنت مقصراً في الزيارة، إلا أن العهد لو طال، والبعد لو اتصل، فإن الحنين داعٍ إلى معاودة اللقاء، وحسبنا أنا قد أمهلنا، وأمد الله في أعمارنا، حتى التقينا مرة أخرى، ونسأله ألا يكون آخر العهد بكم، ونسأله سبحانه أن يمنحنا من جوده وبركاته وفضله ما يمن به علينا من اللقاء مرات وكرات في هذا المكان وفي غيره مما يرضيه سبحانه وتعالى.(24/2)
مكانة الشباب في المجتمعات
وأما المحاضرة وهي بعنوان: "الشباب بين الواقع والأمل" فأمر وقضية تحتاج إلى بسط قد يضيق المقام بالإحاطة بجوانبها، ولكن كفى من القلادة ما أحاط بالعنق، فشبابنا وما أدراك ما شبابنا هم أمل غدنا، وشبابهم هو ربيع عمرهم، وهو أوان الجد والتحصيل والبناء والعلم، وشباب اليوم هم قادة اليوم وقادة المستقبل، بل وهم المسئولون عن الأمة في شتى مجالاتها وميادينها، هم رواد الفكر بل صناع القرار، شباب اليوم هم القادة في ميادين القتال، واسألوا أنفسكم: من الذي أذاق الروس أصناف البلاء والعذاب والويلات، حتى فقدوا الآلاف من جنودهم، ودمرت لهم الآليات، وفقدوا من الأرواح، وامتلأت مستشفياتهم بالمعوقين؟ من الذي فعل ذلك بهم؟ إلا شباب صدقوا ما عاهدوا الله عليه! من الذي وقف للروس في درجات الحرارة المنخفضة إلى حد التجمد؟ هل هم العجائز والأطفال والشيوخ والسفهاء؟ لا بل الشباب، من الذي جعل الغرب يحسب للشباب ألف حساب فيطاردهم في مشارق الأرض ومغاربها لو لم يكن الشباب طاقة خطيرة قوية لا بد أن يعتنى بها وأن يلتفت لشأنها، وإلا لم يبال الغرب ولم يسخر من الطاقات بل والجواسيس والطواغيت والأجهزة ما تجعلهم يلاحقونهم في شتى أنحاء الأرض إلا من رحم الله وعصم وقليل هم أولئك.
شباب اليوم هم أخطر العناصر في المجتمعات، بل إن الجماعات المشهورة بالدمار والتخريب والاغتيال والسطو تقوم على الشباب، كما أن الجهاد والدعوة والإصلاح والبذل والتوجيه والعطاء يقوم على الشباب؛ فالشباب طاقة وقوة تقبل التوظيف والتوجيه، فمن سبق إلى مناخ قلوبها ومراتع أفئدتها، ثم وجهها إلى خيرٍ أثمرت وأنتجت خيرا، ومن سبق إلى مناخ قلوبها ومرابع أفئدتها ثم عمرها باللهو والغفلات أنتجت من الشرور والمصائب ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ولذا لا نعجب حينما نرى أمر الشباب يتردد ذكره ويتعدد في مواضع شتى في كتاب الله عز وجل بياناً وتنبيهاً إلى خطرهم وشأنهم ألم يقل الله عز وجل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وما الحاجة إلى النص والتنبيه والبيان إلى شأنهم وأنهم فتية إلا لأن الفتوة لها شأنها ولها منزلتها، بل وفي الحديث: (يعجب ربنا للشاب ليس له صبوة) بل إن الله عز وجل يذكر شاباً قد آتاه الله الحكم صبيا ويأمره أن يأخذ الكتاب بقوة {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم:12]، بل إن أهل الضلالة وقادة الشرك في زمن إبراهيم عليه السلام لما أخذوا يختصمون في شأن من دمر وحطم أصنامهم ومعبوداتهم وآلهتهم، {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، ولو لم يكن للشباب تلك المنزلة الشامخة العلية لما خص أولئك بهذا الأمر، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف قيمة الشباب وقدرهم، ومن خالط الشباب ومن عاشرهم وقضى زمناً في تربيتهم وتوجيههم وشرح صدره وفتح أبواب قلبه لاستماع مشكلاتهم ودنا منهم وألان لهم الجانب، وخفض لهم الجناح، علم أن في الكثير من الشباب طاقة لو أردت أن تسلطها على أمة لتسلطت، وعلم أن في الشباب قدرة لو وجهتها في كثير من مجالات الخير لنفعت وأعطت وأثمرت.(24/3)
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الشباب
ولذا فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى الشباب الثقة ومنحهم المسئولية خلافاً لما يعيشه كثيرٌ من الناس اليوم، وما نراه في واقعنا اليوم من توجيه أصابع الاتهام والنقيصة والشك في القدرات والتردد في منحهم الثقة والمسئولية من خلال أضرب من تعاملنا تجاه شبابنا وإخواننا وفي مجتمعاتنا، لم لا نمنح شبابنا الثقة؟ لم لا نمنح شبابنا الصلاحية؟ ولما لا نمنح شبابنا محبة ونفتح أمامهم العديد من الميادين والمجالات مع ثقة نهبها لهم ثم ننظر ماذا يصنعون؟ إن النبي صلى الله عليه وسلم قد منح زيد بن حارثة وهو شاب وجعفر بن أبي طالب وهو شاب وعبد الله بن رواحة وهو شاب منحهم الثقة، وسلمهم قيادة جيش مؤتة وما أدراك ما مؤتة! أول معركة بين المسلمين والرومان! بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أسامة بن زيد قيادة جيش فيه رجال من كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهم، وقد كان عمر أسامة آنذاك ثماني عشرة سنة، ويرسل معاذاً إلى بلاد بعيدة وفي مهمة عظيمة ومسئولية جسيمة يرسل معاذاً إلى اليمن ومعاذ لا يزال بعد في ريعان شبابه ويرسله على قومٍ ليسوا على مذهبه وملته وديانته ويقول له: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب -يعني ليسوا بمسلمين- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) إلى آخر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ، وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: (كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شباب ليس لنا نساء) يعني: لم نتزوج بعد، لا نزال فتية، لا نزال في بداية الشباب وفي مستهل حياة الشباب.(24/4)
كثرة الشباب في البلاد الإسلامية
نعم أيها الأحبة! حق للأمم وللشعوب أن يفخروا بشبابهم؛ لأن أي أمة إذا كثر فيها الشباب فهي أمة قوة مقبلة، وأما إذا حصل الضد وكثر في الأمة العجائز والشيوخ والضعفة فهي أمة ضعف مدبرة، ولعلكم تسمعون وترون أن بعض الدول الأوروبية اليوم لا يترددون في منح كثيرٍ من شباب المسلمين الذين ولدوا على أراضيهم الجنسية الأوروبية، تكثيراً للشباب، وتعويضاً لما يفقدون؛ لأنهم يعيشون في واقع بلغت الأنانية فيهم حداً أصبح الرجل يريد الاستمتاع بالمرأة دون أن يتحمل مسئولية طفل واحد، والمرأة تريد الاستمتاع بالرجل دون أن تتحمل مسئولية طفل واحد، فظلوا هكذا يستمتع بعضهم ببعض وقد استكثر بعضهم من بعض وهم يتناقصون ولا يشعرون حتى أعلنت كثير من الدول أن نسبة الشيوخ والعجزة فيها قد جاوز الستين في المائة، وأصبحت من الأمم المدبرة ولكنهم أهل كيد وأهل مكر كبار، وأهل تخطيط وتدمير، وحسبكم في المقابل أن تعلموا أن نصف السكان في المملكة العربية السعودية تقل أعمارهم عن خمسة عشرة عاماً، فنحن أمة مقبلة، فإن كان التوجيه والتربية والإرشاد في خير وإلى خير فنحن أمة مقبلة إلى خير، وإن فقدنا ذلك -والعياذ بالله- فلا حول ولا قوة إلا بالله أن نكون أمة مقبلة إلى شر، وأسأل الله أن يصرف الشر عنا وعن شبابنا وأمتنا إنه سميع مجيب.(24/5)
نماذج مشرقة من شباب الإسلام
أحبتنا في الله! نخاطب الشباب لأنهم المعنيون، عليهم تنعقد الآمال، وبهم نصعد إلى قمم الجبال:
شبابنا هيا إلى المعالي هيا اصعدوا شوامخ الجبال
هيا اهتفوا يا معشر الرجال قولوا لكل الناس لا نبالي
معاذ وابن مسعود وسالم رضوان الله عليهم شباب ولكنهم قادة كانوا من القراء، كل واحد منهم أصبح مدرسة مستقلة يروى كتاب الله عنهم وعلى ألسنتهم، وزيد بن ثابت واحد من الشباب لكنه من كتبة الوحي بل ومن المترجمين المعتمدين، تعلم لغة اليهود في أيام عديدة، وتأملوا سرعة الاستيعاب والقدرة على الفهم والإدراك حيث استطاع أن يتعلم لغة يهود نطقاً وكلاماً وكتابة وخطاباً وحواراً في مدة يسيرة لم تبلغ شهراً واحداً.
أيها الأحبة! رسالتي وكلماتي من محب عرف الشباب، نصيحة محبة موجبها الإخلاص، رائدها مشاعر المودة وقودها التقدير، إنها إلى الشباب جميعاً، وهي أيضاً إلى من تعدى وجاوز سن المراهقة، وإلى من يكابد المراهقة وآلامها، رسالة إلى كل شاب صالح يسعى لإعفاف نفسه، ويدرك خطر مرحلة الشباب، وما يكتنفها ويعتورها من صراع الشهوة وما يحيط بالشباب من هتافات داعية إلى الغفلة، وليس الخطاب للشباب وحدهم، بل هو أيضاً إلى الآباء والأمهات الذين يعالجون تربية الشباب وتوجيه الشباب ويحرصون ويدأبون داعين في سجودهم وخلواتهم وساعات الإجابات التي يتحرونها أن يصلح الله عز وجل شبابهم، آمالنا في شبابنا عظيمة أن يتقلدوا أعلى المناصب ويتسلموا زمام التوجيه، ويمتطوا صهوة المنابر دعاة إلى الله وفرساناً تغبر أقدامهم في سبيل الله، وأن نراهم في كل ميدان من ميادين الحياة نفخر بهم وتقر أعيننا بصلاحهم واستقامتهم.(24/6)
الشباب في ميادين الإمامة والدعوة
عمر بن سلمة على صغر سنه كان يؤم قومه، أصبح إماماً وليس بمأموم مع أنه أصغرهم، لأنه أكثرهم حفظاً وضبطاً لكتاب الله عز وجل، كان صغيراً وكان فقيراً لكن فقره وصغره لم يجعله يتخلف عن قيادة قومه وإمامتهم في أشرف منزلة وهي الإمامة، بل جاء في الحديث أنه مرت ذات يوم امرأة فرأته يصلي بهم وعليه ثوب قصير قد بدا شيء من عورته، فالتفتت المرأة إليهم وقالت: غطوا عورة إمامكم هذا، فأعطوه ثوباً آخر ليستره، إن فقره وإن صغره ما كان سبباً ليجعله ينكص على عقبيه أو ليرجع القهقرى أو ليتردد في الإمامة والريادة.
عبد الله بن عمرو بن العاص شاب لكن شبابه قاده إلى العناية بكتابة السنة وتحريرها.
مالك بن حويرث يقول: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فمكثنا عنده مدة، فعلمنا وأكرمنا، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا، قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وأمروهم).(24/7)
الشباب في ميادين الجهاد
وأما عن شأن الشباب في ميادين الجهاد وساحات القتال فشجاعة لا مثيل لها، ورباطة جأش لا نظير لها، بل إن كلماتهم تقدح بالفداء والتضحية، يرشون الأعداء بالدماء قبل أن تصلهم السيوف والسهام، عبد الله بن رواحة يودعونه وهو شاب متوجه إلى مؤتة أول معركة بين المسلمين والروم يقولون: يا ابن رواحة تعود إلينا سالماً؟ قال: لا،
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
وضربة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غازٍ وقد رشدا
شاب يعرف أنه قادم إلى الموت الزؤام، قادم إلى معركة هو يشتهي أن يموت فيها، لا يفكر كيف يهرب منها، أو ما هو الحال في المرد وما هو المصير في الرجوع! عجبٌ من أمر هؤلاء الشباب إنهم كشبابنا في حواسهم وجوارحهم، لكن قلوبهم تختلف عن قلوب شبابنا، لكن إيمانهم يختلف كثيراً كثيراً عن إيماننا، ومن هنا يتباين الناس، فلا يتباين الناس بأنوفهم ولا بأعينهم ولا بألوانهم ولا بطول قاماتهم وقصرها، وإنما يتباينون بهذه القلوب التي جمعت الإيمان وجعلت خوف الله وخشيته والخوف من عذابه والطمع في ثوابه جعلته رائداً يحركها في كل اتجاه أتت بالعجائب وأثمرت وأغدقت وأينعت وأعطت عطاء لا حدود له، وأما إن امتلأت القلوب بالشهوات واللهوات والغفلات، فلا تسل عن اهتمامها بسفاسف الأمور وخوفها وخشيتها وجبنها عن معاليها، كانوا يتوجهون إلى ساحات القتال والواحد منهم يعلم أن ليس بينه وبين الجنة إلا أن يراق دمه كيقيننا نحن أن ليس بيننا وبين الشارع إلا هذا الجدار، يقينهم في الجنة أصبح أحدهم يراه رأي العين، ما كان أمر شبابهم صارفاً لهم عن اليقين بما أعد الله من الثواب، وما يخشونه من العقاب، أما شهوات شبابنا اليوم فأصبح الواحد منهم إذا ذكر بالجنة أو خوف بالنار رأيت في قسمات وجهه وتيقنت من علامات تفاعلاته من هذا الخطاب أن بينه وبين الفهم واليقين بالخطاب أمداً بعيدا، أما أولئك فاستجابتهم الفورية وتفاعلهم العاجل مع الخطاب، والأمر والنهي دال غاية الدلالة على اليقين، وهذه مسألة من أعظم المسائل التي ميزت الأجيال القرآنية الفريدة، في العصور السالفة المجيدة، عن عصورنا هذه، ليست مصيبة الناس في هذا الزمان هي قلة علمهم، بل من أعظم مصائب الناس ضعف استجابتهم وضعف تفاعلهم وضعف انقيادهم وخضوعهم وإخباتهم لأمر الله سبحانه وتعالى، كان ذلك الجيل من الشباب وإن كانوا صغاراً لكن كانت نفوسهم كبيرة:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
يقول سعد بن أبي وقاص: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن نعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: مالك يا أخي! فقال عمير بن أبي وقاص لأخيه سعد: إني أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يختبئ ليس خوفاً أن يشار إليه بالبنان فيختار من الذين يعرضون وتكون صدورهم مسرحاً للرماح وميداناً لطعن السيوف، لا، وإنما يتوارى خشية أن يرد وخشية أن يحرم طعنة، وخشية أن يحرم رمية بسهم، وخشية أن يحال بينه وبين أن تطير رقبته في سبيل الله، يتوارى حتى لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لأخيه سعد: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، شاب صغير، احتمال كبير أن يرد فلا يقبل في الجيش، يقول: لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما خشيه عمير، فقد استصغره النبي صلى الله عليه وسلم فرده، فأخذ عمير يبكي وينتحب نحيب الثكلى التي ترى زوجها مذبوحاً أمامها، ويبكي بكاء مراً والدمع لا يقف مسفوحاً على خديه ويتوسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجوه، ويريد أن يثبت بكل ما أوتي أنه قادر جديرٌ حقيقٌ أن يكرم ليدخل مع الجيش في ساحة المعركة، فيقبله النبي صلى الله عليه وسلم ويجيزه، يقول سعد: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره حتى يثبت السيف في يده ولا يسقط، قال سعد: فقتل وهو ابن ست عشرة سنة، لم يقف حد أمر أولئك الشباب إلى هذا، بل أصبحوا قادة على السرايا والجيوش.
عكاشة بن محصن جعله النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على أربعين رجلاً في سرية، وزيد بن حارثة أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على سرية، وعمرو بن العاص أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار في غزوة ذات السلاسل، وما خبر أسامة عنا ببعيد، فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة جيش فيه كبار الصحابة، والشاهد أن أولئك الشباب وإن كانوا صغار الأعمار فإنهم كانوا كبار الأقدار.(24/8)
واقع الشباب اليوم
أحبتنا في الله! واقع شبابنا اليوم إذا قارناه بالصدر الأول والسلف الصالح وجدنا ما نخجل لذكره وما نطأطىء الرءوس خجلاً مما نراه، بل لا نستطيع أن نقارن بين أولئك وهؤلاء:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
بل ربما من العبث أن نقول: إن الرعيل الأول والجيل المتقدم كانوا أفضل من هؤلاء:
ألم تر إن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا(24/9)
واقع الشباب في الجانب الاجتماعي
واقع شبابنا اليوم عجب عجاب في الجانب الاجتماعي والتربوي، عزلة شعورية عن المجتمع، واتصال بما وراء البحار، وهنا لا أعمم حتى لا أظلم، ولكنه حال كثير من شبابنا ويا للأسف! وإن كنا جادين بحثاً وطلباً للدواء والعلاج، فلا بد أن نصدق في تشخيص الداء ووصف مظاهر المرض؛ لأن الطبيب الذي لا يصدق مريضه والمريض الذي لا يصدق طبيبه هيهات أن يصل أحدهما إلى العلاج، العزلة الشعورية التي حلت بكثير من الشباب فهم يعيشون في مجتمع المسلمين ويسمعون الأذان، والمساجد من حولهم ومظاهر مجتمعهم غالبها مظاهر إسلامية، ولكن شعورهم مرتبط بالعواصم الأوروبية، والقناة الفضائية من خلال الشاشة الملونة تنقل لهم كل جديد يدور على أرصفة باريس أو بحيرة جنيف أو شوارع لندن فتراهم مولعين بالتقليد الواحد منهم يفخر أن يكون أول سابق للببغائية والقردية والتقليد، (ولتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) إني لأعجب يوم أن أرى بعض الصفات وبعض السلوك والتصرفات على شبابنا، ثم يزول العجب إذا علمت أن ما رأيت قد عرض البارحة على قناة عربية أو أجنبية تيقنت من خلالها أن هذا الشاب يعيش في مجتمع مسلم لكنه يعيش في عزلة شعورية، هو يعيش بينهم لكن شعوره وفكره مرتبط بهذه القناة وما تنقله الفضائيات عبر الشاشة الملونة من هناك، وكأنما الأمر تحول إلى خلل خطير وهو جانب الانتماء:
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع
أنت معدود علينا ومحسوب من سكاننا، ولكن لو أصابتك مصيبة لدعينا نحن أن نبذل من جيوبنا لإسعافك وأن نتبرع من دماء عروقنا لإنقاذك، ثم لما شفاك الله وعافاك وجدنا ولاءك واهتمامك، وجدنا حرصك وتقليدك، وجدنا عنايتك ومتابعتك لقوم هم الذين ذبحونا وذبحوا أمتنا وما فتئوا يودوننا خبالا وعنتاً وخراباً وضلالاً، لماذا يا أخي أنت محسوب علينا ومعدود على أمتنا في أمة المليار وتعيش هذه العزلة الشعورية؟ نعم، بل وأكبر من ذلك لو أن أحداً تجرأ عليك ليرميك أو ليصمك وصمة تغض من شأنك في دينك، لرفعت عقيرتك وعلا صوتك واحتج لسانك وأشار بنانك معترضاً على هذا، ولكن الواقع يشهد بالانفصام ويشهد بهذه العزلة الشعورية التي جعلتك تعيش بيننا لكن مشاعرك قد نقلتها الشاشة الملونة عبر الفضائية أو الفضائحية القبيحة الخبيثة لتكون واحداً ممن يحبون أولئك غير آبه بما يفعل أولئك، ربما أعجبك عند القوم مغنية خالعة، ربما أعجبك عند القوم مطرب ماجن، ربما أعجبك عند القوم مشاهد ربما قادتك الشهوة إلى متابعتها ومسارقة النظر إليها وطلب الخلوة لمتابعتها، ولكنك تأكيداً لعزلتك الشعورية لم تلتفت للخطباء الذين بحت أصواتهم وهم يقولون: إن هؤلاء الذين تتابعهم ذبحوا إخوانك في الشيشان واغتصبوا أخواتك في البوسنة وكوسوفا، وجوعوا إخوانك المسلمين في الصومال، وحاصروا المسلمين وذبحوهم في كشمير، لم تلتفت لهذا لو كانت المشاعر مفتوحة لنا ولغيرنا لسمعت نداءنا على الأقل كما سمعت نداء غيرنا، لكن الواقع يشهد أن مشاعرك توجهت إلى أولئك واشتغلت بأولئك عن إخوانك، فأين الولاء؟ والله عز وجل يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، والله يدعونا أن نحقق ولاء كولاء الكفار فيما بينهم حيث يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
واقع كثير من شبابنا اليوم مع العزلة الشعورية البعيدة عن الحضور الفاعل لقضايا الأمة بل وقضايا المجتمع، واقع بعض هؤلاء الشباب في قوقعة وحصار عجيب قوقعة مع من؟ مع شلة محدودة لا يبغي بهم بدلا ولا يرضى عنهم حولا ولا يريد أن يترحل عنهم بعيداً قليلاً ولا كثيراً، فزاد مع عزلته الشعورية هذا الحصار بمجموعه على روتين من الغفلة غريب ومريب، فقدته الجماعة وغاب عن وجوه الأخيار في منازل الأبرار، وأصبح همه السهر بالليل والجلوس وترداد الحديث وتكرار اللقاءات دون أي جدوى وبدون أي فائدة، بل إن بعض هؤلاء قد تطاول به الأمر إلى درجة الهروب من تحمل المسئولية، بل وردد بعضهم ما ردده بعض الكافرين، حيث أراد أن يتخلص من تبعات الأسرة، ويريد أن يعيش على علاقات محرمة مفتوحة بسبب ما أشرب في قلبه من حب تلك المشاهد التي رآها عبر تلك الفضائحيات، هذا واقع طائفة من الشباب.(24/10)
واقع الشباب العلمي
وأما واقعهم العلمي والتعليمي فليس بمعزل عن واقعهم الاجتماعي والتربوي، بل بعض ذلك يدعو إلى الفساد في البعض كما أن صلاح الجانب التربوي والاجتماعي داعٍ بإذن الله إلى الصلاح والتميز في الجانب العلمي والفكري، فبعض شبابنا في أمر العلم والفكر لا يعدون أبداً ولا يدرون ماذا يدور على أرض الواقع، بل لا يعرفون من هم الأعداء سواء كانوا من القريبين أو البعيدين ولا يعرفون كيف يميزون بين الحق والباطل والخطأ والصواب، وبعضهم لو سألته عن ملة من الملل، أو نحلة من النحل، أو مذهب من المذاهب، أو طائفة من الطوائف، لظن أنها طبخة أو وجبة أو أكلة تباع في المطاعم والبوفيهات، ولا يعرف ما هي أبداً، والسبب أن عزلته الشعورية وأن الشللية التي عاشها مع مجموعة من الشباب جعلته في هذا الوضع لا يعرف شيئاً من أمر الواقع، بل روتينه اليومي طعامه وشرابه وشهوته وشلته، وإذا مسته حبال الحاجة وأصبح يذوق حرارة الحاجة لم يكن عنده ما يؤهله ليتسنم ما يستحق لأجله شيئاً يكرم به، فلا يتردد أن يلتفت ذات اليمين وذات الشمال ليسرق من هذا ويأخذ من هذا ويكذب على هذا ويختلس من هذا ويفعل ما يفعل مع هذا من أجل أن يغطي به احتياجه، وما هي إلا مدة ثم ينكشف أمره وينفضح شأنه ويظهر على حقيقته، إن بعض الشباب قد ودعوا التعليم وداعاً وطلقوه طلاقاً لا رجعة فيه، والسبب أنهم عكفوا طيلة الليالي ليس على طلب القرآن وتفسيره والحديث وفقهه، والتجربة وتطبيقاتها، والنظرية ونتائجها، والمعادلة ورموزها، لا.
إنما سهروا على نحر هذا وصدر هذا وذراع هذه وساق هذه ومن هذه إلى هذه، وعين لا تشبع من نظر:
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
سهروا في الليل على هذه الفضائحيات، فلما جاء الصباح إذا بأجسامهم أثقل من الجدران الساقطة لا يستطيع حراكاً، ولا يستطيع أن يرفع رأسه بل قد دعي إلى ما هو أعظم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فلم يجب، ثم دعي إلى العلم، فلم يجب، ثم دعي إلى السبب وكسب الرزق، فلم يجب، وظل هذا ديدنه ودأبه وطبعه وهجيراه، لا يفارقه ولا يبرحه إلى أن تمر به السنون ليرى أن من حوله قد سبقوا، وليرى أن الجادين المثابرين المتسابقين قد بلغوا وحمدوا السرى، وعند الصباح حمدوا السرى؛ لأنهم جدوا واجتهدوا، وأما هو فقد أصبح جثة راقدة على فراشه، لم يبد حراكاً، ولم يرفع بالعلم رأسه ولم يشرح بالفقه صدره فأصبح هذا شأنه وهذا حاله، هذا حال طائفة من شبابنا.(24/11)
واقع الشباب في الالتزام والعبادة
وأما طائفة من الشباب فأمرهم مع العبادة أمر عجيب، يهون على أحدهم أن يمشي عشرة كيلومترات يومياً طلباً للرشاقة وتخسيس البدن وتنحيفه وتنقيص الوزن، ولكن يعجز بل يشق عليه أن يمشي عشر خطوات إلى المسجد لأداء الصلاة مع الجماعة، مستعد أن يمشي عشرة كيلو متر ويتفاخرون في المجالس واللقاءات أنا أمشي يومياً خمسة كيلو متر أنا أمشي يومياً عشرة كيلو متر وأنقص من الوزن يومياً كذا وأفقد من الوزن كذا من السعرات الحرارية، فكم خطوة مشيتها إلى المسجد، لا، المسجد في نظر بعضهم لا يستحق هذا المسير لكن تخسيس الوزن والحقيقة أنه تخسيس القلب والفؤاد ليس تخسيساً للوزن كما يسمى هو تخسيس للقلب والفؤاد، لست بهذا ضد المشي وضد الرياضة وضد اللياقة وضد الرشاقة، بل نحن جميعاً علينا أن نمشي وأن نتقوى وأن نجعل هذه العقول والقلوب تجمع معها أبداناً قويةً نشطة فاعلة، لكننا ضد أولئك الذين أقدامهم تسابق فحول المرثون لكنها معوقة حسيرة كليلة عن شهود الصلاة مع جماعة، لسنا مع أولئك الشباب الذين يتسابقون في رفع الأثقال، يجمع الواحد همته ويتدرب زمناً وربما أخذ يشرب الماء بمقدار ويضع السكر في طعامه بمقدار ويترك ما تشتهي نفسه ويشرب ما يعافه بدنه من أجل المحافظة على هذا الوزن وطريقته وهيئته ولياقته وكمال جسمه كما يسمى، لكنه لم يجاهد نفسه دقيقة ليقول: رب إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن، لم يجاهد نفسه لحظة ليقول: معاذ الله، وليتذكر نعم الله عليه فلا يصرف نعماً آتاه الله إياها في أسباب سخطه، إن مجاهدة النفوس على رفع الأثقال أمر يسير، لكن مجاهدة النفوس من أجل السلامة من مجالس اللهو والخنا والعفن والزنا أمر على بعضهم جد عظيم، بل يعلن أحدهم وكثير منهم عجزهم ويقول: إني عاجز عن هذا أبداً، يا سبحان الله! أطقت حمل الأثقال والسير على الأقدام المسافات الطوال، وعجزت عن المشي إلى صلاة الجماعة، ومجاهدة النفس عن معصية الله سبحانه وتعالى!! هذا واقع بعض شبابنا اليوم، ولنكن صرحاء أن منهم من يعد بالتوبة ويرجو الإنابة ولكن إذا ذهب الشتاء إذا زال حر الصيف إذا انتهى من العطلة الصيفية إذا حج ومتى يحج؟ إذا تزوج ومتى يتزوج؟ إذا وإذا وإذا:
تسألني أم الوليد جملا يمشي رويداً ويجيء أولا
يريد أن يتوب لكنه قائد للسفهاء! يريد أن يهتدي لكنه في زمرة الضعفاء! يريد أن يستقيم لكنه في عداد الضائعين المنحرفين! ويريد دواء آلياً أتوماتيكياً نووياً سريعًا لا يكلفه المجاهدة لحظة، والله عز وجل قد جعل الطريق إلى الهداية بالمجاهدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، نعم، الحضارة الغربية بمكتشفاتها ومخترعاتها قد اخترع أساطينها أشياء كثيرة: السيارات السريعة، الطائرات المحلقة، الغواصات التي تبحر في ظلمات البحار، الإلكترونيات، العجائب المخترعات، لكنهم لم يخترعوا شيئاً يخلق الإرادة في نفس الإنسان الذي ينتظر الهداية بكبسولة دواء وجرعة شراب، ولقمة طعام أو إبرة في العضل والوريد، فما أطول ما ينتظر في أمر الهداية لكن الذي يريد الهداية جاداً صادقاً عليه أن يجاهد نفسه حتى يحصلها، والواقع شاهد على أن أولئك إذا أراد أحدهم أي أمر من الأمور بنصيحة طبيب، أو كاتبٍ أو بأمر قرأه في قصاصة مجلة أو جريدة أو في لقاء رآه في شاشة فضائية وقالوا: لن تستطيع أن تصل إلى هذا الشيء إلا بالحرمان من كذا وفعل كذا والتدريب على كذا، عذب نفسه حتى يبلغ ذلك، وربما سمعته يتصل على الفضائية ويقول لذلك الذي يتسيد الحوار: فعلت ما وجهت وقمت بما نصحتم، وفعلت ما أمرتم، ولكنني لم أحقق النتائج المطلوبة، لكنه لم يستجب لأمر الله سبحانه وتعالى وهو أمر محتم عليه واجب لا تردد فيه أن يستجيب له.(24/12)
انعدام الهدف في حياة الشباب
واقع طائفة من شبابنا اليوم يشهد غيبة للأهداف فترى الواحد لا هدف له، حياة رتيبة روتينية، ما هي الأهداف؟ ما هي الأماني؟ ما هي الغايات؟ لا قريبة ولا بعيدة، ولا متوسطة الأجل، ولا بعيدة الأجل، لا يهدف ولم يرسم لنفسه غاية يسير إليها، بل لسان حال بعضهم كما يقول الأول: من نام على الدرب وصل وليس من سار على الدرب وصل، "وسأبقى سائراً إن شئت هذا أو أبيت" ولا يدري عما سوى ذاك، وإن فقد الانتماء لا شك يتبعه غياب الهدف ويتبعه أيضاً احتقار المرء لعقله بل ويتعدى ذلك إلى جعل العقل مستودعاً للتوافه، ثم ترى العجب العجاب من السذاجة والبساطة في النظرة إلى الأحداث في الواقع فلا تراه يهتم بها، وإن تابع بعضها فلا يستطيع أن يفسرها تفسيراً صحيحاً أو تفسيراً عقلياً، بل ما يقوله الناس يودع في عقله وليس له إلا كما يقول الناس وحاله كحال الأول:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فهو مع الناس إمعة لا يستطيع أن يملك لنفسه قرارا.(24/13)
التقليد والتبعية في حياة الشباب
وبعض الشباب في واقعهم الأخلاقي والسلوكي ترى ما يندى له الجبين من التقليد والتبعية والتسابق المحموم ليكون في مقدمة المنفذين الفاعلين المترجمين لهذه التي تسمى الموضة، ويقابل ذلك أنانية وأثرة وحب للذات واحتيال وهروب من الحقيقة والصدق وغرور وإعجاب في ظاهر الأمر لا في حقيقته، يؤكد ذلك أن الكثير منهم أن يلفت نظر الآخرين إليه بما يفعله من هذه الأمور المقيته القبيحة، وإلا لو كان يملك الشيء الثمين لما احتاج أن يزوق ويزين ظاهره بالتوافه التي تلفت الأنظار إليه، وخذوا على سبيل المثال مظاهر التقليد والتفحيط وإزعاج الناس والمعاكسات، بل والتخنث عند بعض الشباب ما هو في الحقيقة إلا شعور بالخواء، ويقين بالفراغ الداخلي الروحي القلبي، ولا يستطيع أحد أن يلفت نظر الناس بخوائه، ولا يستطيع أحد أن يلفت أنظار الناس بكذبه، ولا يستطيع أحد أن يلفت أنظار الناس بضعف شخصيته، وهزيمته النفسية، فكان لابد أن يحدث شيئاً يدعو الناس إلى الالتفات إليه، فما الذي يدعو الناس إليه؟ يريد أن يكون فناناً! يريد أن يكون مطرباً! يريد أن يكون مفحطاً يتحدث به، يريد أن يلفت أنظار الغاديات والغادين والرائحات والرائحين حتى يشار إليه، ولو كان يملك في الداخل الكنز الثمين لما احتاج إلى هذه الأمور التافهة التي يعرضها على القوم في ظاهر أمره وظاهر سيرته، وطائفة من الشباب قد أولع بالمجاهرة ولا يبالي بمعصية الله سراً كانت أو جهراً، بل هو من شرار الناس الذين يسترهم الله ثم يصبح يهتك ستر الله عليه، يقول: فعلت البارحة كذا وفعلت البارحة كذا، يهمه رأي الآخرين فيه، كل شيء يهون إلا أن ينتقده الآخرون، وكل شيء يسوغ ويستساغ إلا أن يوجه له أحد نصيحة، أما أن يعيش بفكر مستقل وشخصية متزنة قائدة لا مقودة، سيدة لا مسودة، متقدمة لا تبعية فيها؛ فبعيد هذا عن أمره، والعجب أن رأي الآخرين فيه كما قلت يهمه أكثر من أن يرضى الله عنه أو يرضى عنه رسوله، وحكم الآخرين عليه أعظم في نفسه من حكم الله ورسوله عليه، والحق الذي ينبغي أن يكون عليه الشاب المتسلح بكتاب ربه وسنة نبيه ألا يبالي بنباح الكلاب وعواء القطط، وصفير ومكاء وتصدية العابثين واللاهين، بل كما قال المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
ما دمت على حق وعلى يقين بأنك على حق، فافعل ما اعتقدته وتيقنته وتعلم أنه يفضي بك بإذن الله إلى مرضاة الله وجنة عرضها السماوات والأرض وإن خالفك المخالفون، وإن انتقدك المنتقدون، ما دام هذا شأنهم فلا يضرك، واجعل لسان حالك كما يقول الأول:
إذا رضيت عني كرام أحبتي فلا زال غضباناً علي لئامها
وواقع بعض شبابنا اليوم احتقار للذات، وضعف وتقوقع وانزواء وخشية من مواجهة الآخرين، بل ترى الواحد يعيش بهذه النفسية ويظن أنه فاشل عاطل باطل لا يستطيع وليس بكفء، وليس بحقيق ولا جدير أن يقدم شيئا، أو أن يفعل شيئا، وربما كان منعكس تربوي عبث في نفسه، وأثر عليه، وجعله يميل إلى الانزواء والتقوقع، أو تظل أسير غلطة من أحد أبويك إلى أن تموت وأنت منعزل متقوقع، لم لا تضرب في جنبات هذه الأرض؟ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].(24/14)
كيف نتعامل مع هؤلاء الشباب
طائفة من الشباب أغواهم الشيطان، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62] {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] وينبغي ألا نكابر أو ننكر أن عدداً ليس بالقليل وقعوا في ما ذكرت، ولكن
السؤال
هل ننصب بيننا وبينهم سوراً حديدياً وندعو ذا القرنين ليبني بيننا وبينهم سدا لا يستطيع له أحد نقبا؟ لا، وإنما هؤلاء الشباب نحن بإذن الله قادرون على أن نصل إليهم، فلئن وصل الباطل إلى النفوس وما كان الباطل أمراً فطرت عليه النفوس أصلاً، فالحق أدعى لأن تقبله النفوس، والنفوس قد فطرت عليه، ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فليس بغريب أن تعود المياه إلى مجاريها، وأن يعود الشباب إلى الصلاح والاستقامة إذا نحن أخذناهم باللين والحكمة والموعظة الحسنة والرفق في معاملتهم واللطف معهم، ونحن يوم أن نكون صرحاء في وصف واقع بعض الشباب فإن هذا لا يعني أننا قساة أو نمارس القسوة في علاجهم، فإن الذي يصف مرضاً فتاكاً مهما وصف الفتك بأبشع العبارات فإن هذا لا يعني أنه عدوٌ للمريض إذا أراد أن يعالجه.
لذا أحبتي في الله! أقول وبكل يقين: إن هذه النفوس كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] اعلموا أن هذه النفوس لو وجدت كلمة الحق إلى ثغرة من ثغرات قلوبهم سبيلا لو أن كلمة الحق طرقت أسماعهم في حالة صفاء، لو أن واحداً استطاع أن يصل إليهم وهم في حال تفرغ ذهن وخلوة من هذه الشهوات لاستطاع أن يصل إليهم، والدليل على ذلك أنك إذا زرت قوماً في عزاء فنصحتهم ووعظت شبابهم، وهم لما يجف قبر أبيهم أو قبر أمهم بعد مصيبة الموت التي حلت في دارهم، تراهم أسرع استجابة من السيل إلى منحدره، والسبب أنهم استمعوا إليك في لحظة ما كان يزاحم حديثك عندهم صورة ولا قينة ولا مسلسل ولا فيلم ولا لهو، فأطيب شيء ينبغي لنا ونحن بصدد دعوة هؤلاء الشباب الذين وصفنا طرفاً من واقعهم أن نأتي إليهم في حال الصفاء، ولا يعني ذلك أن ننتظر متى يموت أحد منهم أو أحد أقاربهم ثم لا نجد وسيلة لدعوتهم إلا في العزاء لا، لكن {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46]، لا تظنوا أحبتي في الله أن أساليب الدعوة موقوفة على أن نجتمع في المسجد ويقوم أحدنا يتكلم، ربما هذه من أقوى أساليب الدعوة، لكن رجلاً ليس بفصيح، وليس بخطيب مفوه، وليس برجل يشار إليه بالبنان، أو يشخص إليه بالعيان، يأخذ ورقة في ساعة من ليل أو نهار، فيكتب رسالة مدادها الحرقة والإخلاص والمحبة والرأفة والشوق والمودة والنصح لهذا المدعو، ثم يبعث بها ولو لم يكن معها هدية ثم يبعث ثانية وثالثة ورابعة، والله ما أسرع ما تجدون إجابة هؤلاء؛ لأنك لم تنصحه في ملأ ولم تفضحه بين الناس، إنما خاطبته ربما قرأ الرسالة في حين صفاء وسكون وهدوء من نفسه، ثم توافق إجابة فيستجيب لأمر الله وبإذن الله عز وجل.(24/15)
الشباب الصالح في المجتمع
وطائفة من الشباب وليسوا بقليل ولله الحمد والمنة، فالخير في مجتمعنا كثير وفي أنفسنا كثير، وواجبنا أن نكثره وأن نحافظ على كثرته، والشر في مجتمعنا وفي أنفسنا كثير، ومن واجبنا أن نقلله وأن نزيله وأن نمحوه وأن نجاهد في تقليله، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا) إذاً لا نكابر فعندنا من الشر ما عندنا، لكننا مأمورون بإزالته ومجاهدته وتقليله، فتقليل الشر ضرب من ضروب الخير.
أحبتي في لله! أقول إن طائفة من الشباب ولله الحمد والمنة هم ليسوا بقليل على صراط مستقيم، وعلى هدىً وعلى إمام مبين، ولكن بعضهم كما قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268]، بعضهم يحسب أن كل صيحة عليه، وأن كل أدنى مشكلة صغيرة لابد أن تحيط به وهو يرى أهل الباطل يتخطون الحواجز والسدود ويفعلون ولا يخشون ولا يخافون، وهو إذا أراد أن يمشي خطوة للدعوة والإصلاح، والتوجيه والإرشاد؛ ارتعدت فرائصه، واضطرب فؤاده، وخشي من نسيم الريح إذا هب حوله، لماذا يا أخي؟ أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟! قبل أن تكون مستقيماً مهتدياً كان الناس يتحدثون عن عجائب سطوك وغرائب لهوك وعجائب فعلك! عنيد صنديد، ذو بأس شديد، ولما من الله عليك بالهداية أصبحت حملاً وديعاً تخاف من أي شيء! (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام) نريد من تلك القوة التي كانت يوماً ما في الشر وفي العناد وفي اللهو وفي الغفلة وفي المعصية، نريد أن تسخرها بحكمة وفطنة وذكاء لتبني بها بدلاً مما كنت تهدمه من قبل، ولترشد وتصلح بها بدلاً مما كنت تفسد به من قبل، نعم ما فتئ الأعداء يرمون الصالحين بألوان القذائف والتهم، فتارة هم الأصوليون، وتارة هم الإرهابيون، وتارة هم المتطرفون، وتارة هم الذين يفسدون على المجتمعات أمنها، وتارة هم الذين يهددون الأمن الاقتصادي في البلدان وتارة وتارة، ولكن {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120]، وأي عاقل هو ذاك الذي يزعجه نهيق الحمير أو نباح الكلاب ليرده عن هدى مستقيم وصراط مبين قد أمره الله أن يمضي عليه وأن يسلكه؟(24/16)
حاجة الشباب إلى العلم المؤصل
أخي الحبيب! طائفة الشباب الصالحين لا يكفينا صلاحهم، بل نريد مع الصلاح علماً أصيلاً مؤصلاً مدللا بالدليل من الكتاب والسنة، دأبهم فيه الطلب والدأب المستمر والتزاحم في حلق الذكر عند ركب العلماء، ليعرفوا الحق على أصوله وبأدلته ويعلموا أن ما سواه الباطل، فكثير من الشباب صالحون متدينون لكن ليس لهم في العلم إلا حظ نزر يسير قليل قليل، وليس أولئك الذين نريد، بل نريد مع الصلاح علماً، لا نريد عاطفة بلا علم فإنها عاصفة، ولا نريد علماً بلا تقى فإنه فجور، لكن نريد مع الصلاح العلم الذي يجعلك تميز بين الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والحق والباطل؛ لأننا لو حدثناك اليوم عن عشرين ملة ضالة فحفظت وعلمت وأيقنت أن عشرين ملة سمعت شأنها من أهل الضلال، ثم نبتت نابتة ضلالة جديدة برقم جديد، الرقم واحد وعشرون، من الذي يخبرك أنها على ضلالة أو على هدى؟ لكن إذا عرفت الحق ولا سبيل إليه إلا بالعلم والطلب علمت أن ما سواه الباطل، ولذلك فإني أدعو الذين يدرسون الطلاب المذاهب والتيارات المعاصرة ألا يقضي أغلب الفصل الدراسي في تعداد وذكر وتفصيل المذاهب المنحرفة قبل أن يعرف الطالب ما هو المذهب الحق عند أهل السنة والجماعة أو ما هو المنهج الحق الصحيح عند أهل السنة والجماعة، اعرف الحق أولاً ثم تعرف أن ما سواه الباطل، أما أن تتعلم: باطل وباطل وباطل، فإذا جاء باطل جديد ما عرفته هل هو باطل أم حق، لكن إذا عرفت الحق أولاً علمت أن ما سواه هو الباطل.(24/17)
دفع الناس إلى علياء الدين
ثم أخي الحبيب! نريد من هذه الثلة المباركة الطيبة من الشباب المستقيم الصالح، نريد منهم أن يرفعوا الناس إلى علياء الدين، وألا ينزلوا بعلياء الدين إلى حضيض الناس، وهذا فرق عظيم فإننا رأينا وسمعنا وشاهدنا أصنافاً من البشر أصبح همهم أن يكيفوا الدين وأحكامه وأدلته لتوافق ما يفعله الناس من الضلالات، وهذا ضلال وخطأ، والصواب أن ترتفع بالناس إلى علياء الدليل لا أن تنزل بالدليل من عليائه إلى مستوى الناس؛ لأن الناس في أحوال متقلبة ودروب متشعبة والحق هادٍ يهديهم ويدلهم، فلا بد أن ترفعهم وأن تنهض بهم ليسعدوا بعلياء الدليل وعزته، لا أن تكيف أدلة الشريعة ونصوصها إلى ما يشتهون وإلى ما يتمنون، واعلموا أننا في هذا السبيل نجد كثيراً ممن يخالفوننا، لكن كما قال الشاطبي رحمه الله: نعظم الجوامع ونجتهد في الفروع، فجوامع وأصول الشريعة نعظمها ونحترمها ونلتقي عليها ولا نرضى أن نكسر الولاء، لأجل الخلاف في مسألة فرعية، ونجتهد في الفروع محترمين لأهل الاجتهاد اجتهادهم فذلك خيرٌ بإذن الله عز وجل.(24/18)
نصائح للشباب الملتزم
وهنا أقول لهؤلاء الثلة المباركة من الشباب: إياكم أن يتسلل الشيطان إلى قلوبكم فيقول: مساكين شبكة الإنترنت زوارها يتراوحون ما بين المائتي مليون إلى أربعمائة مليون، والقنوات الفضائية يشاهدها مئات الملايين، وأنتم لا تزالون على خطبة يحضرها ألف مصلي منهم ثلاثمائة تغسل أكفانهم ينتظرون الموت وأنتم لا تزالون لا هم لكم إلا المحاضرات في المساجد والندوات في المدارس وتوزيع الشريط أو كتيبات أو نشرات أو مكاتب دعوة وتوعية جاليات، أو هذه الأساليب التي تسمونها إرشاداً ووعظاً وتوجيهاً، نعم، جاء الشيطان لبعضهم وقال له هذا، ولكن الله عز وجل يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِهَا} [إبراهيم:24 - 25]، فهذه كلمة حق طيبة وهذا حق يمكث فينفع الناس، وأما ما تتحدانا به أو يوسوس به الشيطان من الهزيمة أمام الشبكة العنكبوتية والقنوات الفضائية، فإن الله قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17]، والله إن كلمة من جملتين: آية وحديث، في مسجد ليس فيه إلا عدد قليل من الناس لتفعل فعلاً لا يخطر على بالكم، فاستمسك بالذي أوحي إليك، ولا تفرط بالحق الذي أكرمك به {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، إياك أن تزهد في كتاب الله بآياته أو تزهد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: نحن لم يبق لنا إلا أن ننتظر نزول المسيح ليقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقاتل المشركين واليهود، لا (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فإن له بذلك أجراً) يخاطبك الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: لو كنت ترى أمارات الساعة قد بدت في قيامها وبيدك فسيلة نخل لا ترمِ بها وتقول: قامت الساعة بل إن استطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها فإن له بذلك أجراً.(24/19)
حاجة الأمة إلى القدوة
إذاً أخي الحبيب اجتهد في ذلك وإياك والتفريط والإرجاف، وهذا الذي يردده الشيطان من خلال وسوسة على لسان إنسي أو جني أو غيره، ثم اعلم أخي الحبيب أن الساحة اليوم خالية من أهل القدوة والسيادة والريادة إلا من نزر يسير إلا من رحمهم الله، وقليلٌ ما هم، فاعلم أن الأمة بحاجة إليك وبحاجة إلى قدوةٍ لعلك أنت هو، بحاجة إلى المجددين لعلك أنت واحد منهم، إذ إننا نشكو إلى الله مصيبتنا في فقد علمائنا ونقص أطراف الأرض فينا، ولكن عسى الله أن يأجرنا في مصائبنا وأن يخلفنا خيراً منها.
أخيَ! تأمل في إصلاح ذاتك وأصلح سريرتك وطيب سرك قبل علانيتك، وباطنك قبل ظاهرك:
يا من يطالب غيره بفضائل وهو الذي يبدو إليها أحوج
ما فاز من نشر الفضيلة مرشداً وخيوله تشكو الهزال وتعرج
لو أنصف الإنسان في أقواله وفعاله لبدا الضيا والمخرج
لو أصلح الإنسان بدءاً نفسه عم الرضا والحق حقٌ أبلجُ(24/20)
أدب التعامل مع المخالف وحاجة الجميع للإصلاح
ثم احرص أخي الحبيب على أن تصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، كن سبباً لإصلاح ذات البين في إخوانك واحذر أن تكون معول تفريق وهدم، إن بعض الشباب على ما فيه من الصلاح ينشر الفرقة وهو لا يدري، ولم يؤمر إذا رأى المختلفين أن يتفرج عليهم كتفرج الذين يشاهدون حلبة المصارعة يشجع هذا على هذا أو هذا على هذا، لا، بل هو مأمور إذا رأى الخلاف بين إخوانه بما قاله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114]، إياك أن تفر من عصبية إلى عصبية، وأن تمقت تحيزاً فتتحيز في الظلم، واجعل هدفك أن تكون منتصراً للحق داعية إليه في كل حال وفي كل أوان، واحذر أن تجعل الخلاف بينك وبين إخوانك خلافًا شخصياً، فبعض الناس إذا اختلف معه أخٌ صالحٌ مثله في مسألة فرعية انقلب الخلاف من خلاف اجتهادي إلى خلاف شخصي يبيح الغيبة ويبيح العرض، ويسقط الواجب، ويدعو إلى المقت والحسد، ويملأ القلوب بالبغضاء والشحناء والعداوة، بل اجتهد في طلب الحق، فإن قدم لك بدليله فانسلخ مما أنت عليه، ولأن تكون ذنباً في الحق خير أن تكون إماماً في الباطل.
أحبتي في الله! واقع شبابنا من الطرفين بحاجة إلى الإصلاح، ولا نزكي أنفسنا، فالصالحون بحاجة إلى تزكية أنفسهم، ونحن أول المدعوين إلى ذلك، والظالمون لأنفسهم بحاجة إلى أن يقلعوا عن الضلالة وظلم أنفسهم ويعودوا إلى الله عوداً حميداً، فإن كان واقعنا يشهد بتقصيرنا وتفريطنا إلا أننا لا نقول: إن الوقع صفحة سوداء غمامة قاتمة، ضباب كثيف، لا سبيل للسير فيه، لا، بل في الواقع خيرٌ وفي الواقع شر، والخير كثير، وحقيق أن يزاد وأن يحافظ عليه، والشر كثير وحقيق أن يجاهد وأن يكافح وأن نتواصى في إنكاره وإبعاده عن مجتمعنا، وأما الأمل فأن نكون على ما أراده الله عز وجل جميعاً كلنا سواء من كان مقتصداً أو سابقاً للخيرات أو ظالماً لنفسه بالآمال، أن نحول النقص إلى كمال والضعف إلى قوة والجهل إلى علم والفرقة إلى اتفاق والتفرق والإحن إلى سلامة الصدور والمحبة والأمل، أن نقضي واثقين بنصر الله {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105].
أسأل الله بمنه وكرمه، أن يعز الإسلام والمسلمين، اللهم يا حي يا قيوم يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعال لما تريد! اللهم هازم الأحزاب! منشئ السحاب! منزل الكتاب! خالق الخلق من تراب! نسألك اللهم أن تمنحنا الأمن في دورنا وأوطاننا، وأن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن تجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، وألا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في فلسطين والشيشان، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم واحفظ ذرياتهم اللهم انصرهم نصراً مؤزرا، اللهم اجعل ما استولى عليه الروس من أرض إخواننا جمرة ملتهبة في قلوبهم حتى يلفظوها، اللهم يا حي يا قيوم اجعل سلاح الروس في صدورهم، وكيدهم في نحورهم، وتدبيرهم تدميراً لهم، اللهم لا تجعلهم يفرحون بمترٍ دخلوه في أرض المسلمين، اللهم اقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، اللهم إنهم ينكرون وجودك، ويدعون لك الصاحبة والولد، اللهم فأرنا فيهم عجائب قدرتك، وأنزل بهم بأسك وبطشك وعذابك ورجزك وأليم عذابك، إله الحق آمين، اللهم انصر إخواننا وثبت رميهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ومن فوقهم ونعوذ بعظمتك اللهم أن يغتالوا من تحتهم، اللهم اجمع على الحق كلمتهم، وأقم على التوحيد دولتهم، اللهم اجعل من مات منهم شهيداً في الجنة واحفظ اللهم الأحياء منهم وأقر أعينهم بنصر عاجل يا رب العالمين، اللهم صلَّ على محمد وصحبه وآله، وجزاكم الله خيراً.(24/21)
العقول المعطلة
إن أشد ما يطمس العقل البشري: هو التعصب الجامد المظلم لما كان عليه الآباء، جهلاً أو تجاهلاً لقول الله: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
إن الذين لا يقبلون الحق بحجة اتباع الآباء والأجداد لا ينفع معهم حوار الفكر والمنطق؛ لأن عقولهم مازالت في خزائن الآباء والأجداد معطلة فليحذر الذين يصرون على اتباع الآباء والأجداد، ويخافوا أن يطبع الله على قلوبهم وأن يأخذ سمعهم وأبصارهم.(25/1)
احتجاج الأبناء بمنهج الآباء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، ووفقنا إلى التوحيد، وأطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، هو ربنا واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].(25/2)
رد الحق تقليداً للآباء
معاشر المؤمنين! إن منطق الجاهلية وأهلها هو: رد الحق إما لضعف الداعي إليه، أو لفقره، أو لقلة أعوانه وأنصاره، أو لأن أهل الباطل من أهل الجاهلية قد درجوا ومضوا على هذا الباطل وألفوا آباءهم وأجدادهم يفعلونه، وتلكم عقدة مرض كثير من المصرين على الذنوب والمعاصي، وعقدة مرض كثير من المتحمسين للبدع والمخالفات، وعقدة كثير من الذين لا يرغبون إصلاح أنفسهم وأوضاعهم، وهذا مرض قد بينه القرآن في غير ما موضع من كتاب الله، ولو تأمل أولئك المعاندون منطق الحق لعلموا وتيقنوا أن الحق أبلج والباطل لجلج، ولكنه كما قال ربنا عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة:170] يدعون إلى الله فيأبون، ويحتجون بما ألفوا عليه آباءهم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فأولئك يمتنعون عن قبول الحق بحجة ما درج عليه آباؤهم وأجدادهم.
قال ابن كثير: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال، قالوا: بل نتبع ما ألفينا ووجدنا عليه آباءنا، من عبادة الأصنام والأنداد، فقال ربنا عز وجل منكراً عليهم: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} [البقرة:170] أي الذين يقتدون ويقتفون أثرهم {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] يعني: هم يصرون على ما وجدوا عليه الآباء، ولو كان آباؤهم ليس لهم عقلٌ ولا هداية.
ويقول عز وجل أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة:104] أولئك الذين إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وترك ما حرمه، قالوا: حسبنا ويكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد، أيكفيكم ما وجدتم عليه آباءكم حتى ولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئاً ولا يعقلونه ولا يهتدون إليه، فكيف تتبعونه إذاً؟!!(25/3)
استدلالهم على فعل الفاحشة بفعل الآباء
وأخبث من هذا: أن بعضهم يفعل الفاحشة والمنكر ويصر عليها ويحتج على فعلها، بل ويستدل على جواز فعله بما وجد عليه آباءه وأهله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:28 - 29].
قال ابن كثير في معنى هذه الآية: وكانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثياب لبسوها، ويتأولون ذلك أنهم لا يطوفون في ثيابٍ عصوا الله فيها، وكانت قريش -وتسمى: الحمس- يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسياً طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوباً ولم يعره أحمسيٌ ثوباً طاف عرياناً، وربما كانت المرأة من غير قريش تطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئاً يستره وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله
وأكثر ما كن النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئاً ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرعٍ منه، فأنكر ذلك عليهم ربنا عز وجل، وبين كذبه وما يدعون بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فرد عليهم عز وجل بقوله: ((قُلْ)) أي: يا محمد ((إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:28] بل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل:90] إن الله لا يأمر بالفحشاء، إن هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28].
وإن العبرة في نصوص القرآن والسنة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا أردنا أن نطبق هذه الآيات على واقعنا اليوم لوجدنا بعض المسلمين هداهم الله يفعلون بعض المنكرات، ويرتكبونها، ويصرون عليها، بحجة فعل آبائهم لها، بل ويستدلون بفعل آبائهم على جوازها وإباحتها.
كذلك الحال في كثير من المعاصي والمنكرات، والبدع والخرافات، بل وما وقع فيه الناس في كثير من العادات والأعراف، وخذ على سبيل المثال: بدع الموالد، وبدع الإسراء والمعراج، وبدع الهجرة، وكشف النساء وجوههن لغير المحارم، ومصافحة النساء للرجال في كثير من البلدان، ومخالطة الرجال لغير المحارم أيضاً، والإسراف في الولائم والحفلات والمناسبات، وكثير من العادات التي لا تجوز مما يصدق عليه أو يصنف في شأن العادات، أو العقائد أو غير ذلك، تجد أن الذي يفعلونه يحتجون بفعل آبائهم وأجدادهم.
إن الله عز وجل مقت أولئك وبين شأنهم فقال فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الحج:3] إذا أقيمت عليهم الحجة، ونصبت لهم المحجة، ووصف لهم الصراط، ودعوا إلى الهدى؛ يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان:21] لم يكن لهم حجة إلا اتباع آبائهم.(25/4)
علاج المقلدين للآباء والأجداد
وخير علاج لهؤلاء المقلدين المصرين على التقليد هو حوارهم وردهم إلى العقل الصحيح؛ لأن العقل الصحيح لا يتعارض مع النقل الصريح، يقول الله عز وجل في شأن حوار إبراهيم لقومه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:51 - 54] لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ولذا قال: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] أي الكلام معكم كالكلام مع آبائكم.
والعجب يا عباد الله! في هذا الزمان الذي درس فيه كثير من الخلق وتعلموا، وفقهوا، ودرسوا ألواناً من العلوم، وفنوناً من التقنية، وأضراباً مما بلغت إليه البشرية في علوم الاختراعات والاتصالات والإلكترونيات، تجد الواحد منهم طبيباً أو مهندساً أو صيدلياً أو متخصصاً في أجهزة الحاسوب وهندسته؛ فإذا جاء الأمر مع شيء يتعلق بالآباء والأجداد، ألغى عقله الذي يحل به أعقد المعادلات واتبع طريقة الآباء والأجداد، إنها مصيبة عجيبة أن تجد من أولئك -الذين درسوا وتعلموا- إصرارهم على ما يفعله آباؤهم.
لو أن طائفة من المصرين على فعل الآباء والأجداد، من الأميين، والجهلة، من الذين لم يتعلموا فلربما يعذرون بشيء من الجهل، وتقوم عليهم الحجة بالبيان والدعوة، أما أن يُدْعى طائفة من الذين تعلموا ودرسوا أدق المعادلات، وأعقد المعاملات، وإذا جيء إلى حوارهم في أمر يتعلق بعادات أو أمر يدعون فيه إلى الدين، قالوا: وجدنا عليه آباءنا: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170].(25/5)
حال الأنبياء والرسل في مواجهة التقليد
ولكن ينبغي أيها الأحبة أن ننتبه عامة وأن ينتبه الدعاة خاصة أن قضية التقليد والعصبية والإصرار على فعل الآباء والأجداد لمن العوائق والحوائل العظيمة التي تقف دون قبول الأتباع للمتبوعين، وتقف دون قبولهم للحق ومعرفته، بل كثيراً ما تدفعهم هذه العصبية لعادات الآباء إلى الإصرار على الباطل ومواجهة الداعي في طريق دعوته، لذا فليعلم هذا، وإن الحوار والمناظرة لهو الحجة النقلية والدليل المنطقي، والشفاء العاجل لمكافحة هذا الداء، فبهذه الوسائل يمكن أن يحرر أولئك الذين قيدوا وغلت عقولهم بأسر التقليد، وبهذا يخرجون من قوقعة العصبية.(25/6)
إبراهيم يجادل قومه
إن إبراهيم عليه السلام لما جاء يحاور قومه قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] فأجابوه: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:53] فقال إبراهيم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء:54] فاستفهمه المقلدون: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] فأجابهم في صميم الحوار والقضية، فقال: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء:56] ثم سألهم أخرى: {مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء:70] فقالوا: {نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71] فاستفهمهم ليوبخهم وليقلع جذور التقليد وعروقه من قلوبهم، فقال: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} [الشعراء:72] هل هذه الأصنام والأوثان وما تعبدونه من دون الله: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72 - 73] فأجابوه مرة أخرى في غفلة المقلد وأسر التقليد: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] واستمر عليه السلام يحارب هذا التقليد فيهم.
ولكن الله عز وجل قد بين لنا تأكيداً لحال أولئك أن إذا وجدت أيها النبي أو أيها الداعي أو أيها العالم أو أيها المرشد ما عليه من إصرار هؤلاء فلا تك في مرية من الحق الذي أنت عليه، بل الداء فيهم وليس فيك، والعيب فيهم وليس في منهجك، والعلة في طريقتهم وليس في شرعك: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود:109] فلا تك في مرية، لا تك في شك من أمرك، فإن هؤلاء يعبدون الباطل والجهل والظلال: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:69 - 70].(25/7)
اختصام التابعين والمتبوعين في النار
إننا نوجه النداء للمصرين على الأخطاء، المصرين على الضلالة، المصرين على الفساد، نوجه النداء إليهم إن كانوا يحتجون بمن سلف، أو يستدلون بفعل من سبق: فإن هذا لا ينجيهم ولا ينفعهم ولا ينقذهم؛ إذ سيأتي يوم يتبرأ فيه المقلَّد من المقلِّد، والتابع من المتبوع، قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة:165 - 167] ماذا ستفعلون في هذه الكرة؟ {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة:167] ولات حين مندم، ولا ينفع حينئذٍ الندم {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [البقرة:167] أعمال التابعين والمتبوعين {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
وأشد ذلك أن يقف التابعون، القائدون والمقودون، المُقَلِّدُوْن والمُقَلَّدُون في حوار ومناظرة وجدل، فريقان في النار يختصمون: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ} [غافر:47] الأتباع الأذناب المقلدون {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48] إنهم يحاجونهم ويقولون: لقد صدقناكم وسودناكم وجعلنا لكم الجاه والرتبة والمنزلة وقدمناكم أمامنا وسرنا تبعاً خلفكم فهل أنتم مغنون عنا نصيباً قليلاً أو شيئاً يسيراً من عذاب النار، فما كان من المستكبرين إلا أن قالوا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48].
وقال عز وجل في موضع آخر يبين حال هذه المشاكسة والمناظرة والمجادلة بين التابعين والمتبوعين: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يلعن بعضهم بعضا {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] فيقول الجبار عز وجل: {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
ويوم تقلب وجوه أهل النار فيها يقولون: يا ليتنا أطعنا الله ولم نتبع القادة! يا ليتنا أطعنا الله ولم نتبع الأسلاف والأجداد! {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67] ولا تنفع هذه البراءة.
بل وأعظم من هذا: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] يقول علامة المغرب ابن عبد البر المالكي رحمه الله بعد أن ساق بعض هذه الآيات: إنها لا يستدل بها على الكفار وحدهم، فقال وقد احتج بهذه الآيات في إبطال التقليد: ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد كما لو قلد رجل فكفر، أو قلد رجل آخر فأذنب، أو قلد رجل آخر في مسألة من مسائل الدنيا فأخطأ وخسر، كان كل واحد ملوماً على تقليده بغير حجة، لأن كل ذلك تقليدٌ يشبه بعضه بعضا.
ومعنى كلام ابن عبد البر أي: أن هذه الآيات يستدل بها على ذم التقليد والمقلدين حتى وإن كانت واردة في حوار ولجاجة وخصومة بين الكفار وأهل الكفر.(25/8)
أثر التقليد على العقل
يقول ابن الجوزي رحمه الله: دخل الشيطان على هذه الأمة في عقائدها من طريقين: الأول: طريق التقليد للآباء والأسلاف، والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط، فأما الأول وهو التقليد للآباء فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى، والتقليد أسلم، وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير، هذا مما يوسوس به الشيطان، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم الذين قادوهم على ضلالة فضلوا ضلالاً بعيداً.
ثم يقول ابن الجوزي رحمه الله: واعلم أن المقلِّد غير واثق بالمقلَّد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل.
وهذا بيت القصيد في حديثنا، إن كثيراً من المقلدين للكلمات أو للأفكار أو للقضايا من غير إعمال لعقولهم فيها، إذ إن بعض الناس يقبل القول بمجرد أن فلاناً قاله، ولا يعرضه على عقله، ولا يقلبه ولو شيئاً يسيراً.
يقول ابن الجوزي: وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأن العقل إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.
قال ابن تيمية رحمه الله: وأما التقليد الباطل المذموم فهو قبول قول الغير بلا حجة.
ثم ساق بعض الآيات في ذلك فقال: فهذا الاتباع والتقليد الذي ذمه الله هو اتباع للهوى؛ إما للعادة والنسب، كاتباع الآباء، وإما للرئاسة كاتباع الأكابر والسادة والمتكبرين، وقد بين الله أن الواجب الإعراض عن هذا التقليد إلى اتباع ما أنزله على رسوله فإن الرسل حجة الله التي أعذر بها إلى خلقه.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتبصرين، الذين يلزمون الحق إذا عرفوه، ويردونه إلى الذين يستنبطونه إذا أشكل عليهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.(25/9)
نوح ومحمد عليهما السلام وكيف عالجا خطر التقليد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة.
معاشر المؤمنين! وإن مما يدرج بالتقليد ويتبع به هو انسياق بعض الناس وراء الأعراف، وجريهم وراء العادات السقيمة الضارة الفاسدة، وهو ما تعارفه الناس أو ساروا عليه من قول أو فعل أو ترك يخالف هدي الإسلام أو كماله، إن للأعراف البشرية مكانة عظيمة عند الأمم التي تسودها تلك الأعراف، ولقوة تلك الأعراف كانت قوانين تحكم بين الأمم والشعوب، وكانت جداراً صلباً صد كثيرين عن اتباع دين الله والانقياد له.
وقد قام الصراع المرير بين الشرائع الإلهية وحملتها من الأنبياء والدعاة والعلماء وبين الذين عادوهم من الزعماء وأتباع الضلالة الذين يزعمون أن تراث الآباء والأجداد هو المقدس المصان، ويأبون أن يمسه أي تغيير أو تبديل، وهنا تقف الأعراف والعوائد البشرية حاجزاً أمام دعاة الإصلاح في مختلف العصور، فترى دعاة الحق مظلومين منبوذين لأنهم يدعون الناس إلى الرجوع إلى الدين الحق وترك ما يخالفه ولو كان من عادات الآباء وأعرافهم.
إن هذه الأعراف والعادات التي اختطها البشر، وتلقاها اللاحقون عن السابقين، باتت ديناً يتبع، وشرعة لا تخالف، وميراثاً يحرص عليه حرصاً عظيماً، يصل إلى درجة أن تسفك في سبيل الحفاظ عليه الدماء، وتزهق النفوس وتهدر الأموال، وهذا ديدن أرباب الضلالة عبر تاريخ البشرية الطويل: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
هذه الأعراف يصنعها في كثير من الأحيان طواغيت يشرعون من دون الله، وظلمة يستبدون من بين الناس، يتنفذون في أقوامهم، ويجرون التعامل بما لديهم من النفوذ والسلطان، ومن خرج عنها آذوه وأسروه وقيدوه، {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام:137] هم قادتهم في الضلالة، هم قادتهم في الفساد والانحراف، فإذا قال أولئك الضلال قولاً أصبح طريقة متبعة وبذلك يشرعون، وإن كثيراً من الغوغاء والعامة لا يفقهون هذا الأمر ولا يدركونه، والله ينكر هذا بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
إن نوحاً عليه السلام أقام ألف سنة إلا خمسين عاماً في قومه يدعوهم إلى الله، فما الذي صدهم؟ وما الذي ردهم؟ ومن الذي حجب الهدى عن أعينهم؟ قالوا: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] لا تدعوا آلهة عبدها الآباء والأجداد {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فلما رأى نوح ما فعلوا، وجرب فيهم أساليب الدعوة وألوانها قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26 - 27].
بل ومن الأمثلة التي في شريعتنا وفي ديننا: ما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، جاءهم بالحق الأبلج، والملة السمحاء، والشريعة الغراء، فنابذه العرب الِعداء، ورموه عن قوس واحدة، عذبوا صحابته، آذوه وحاصروه، وأصبحوا يقولون: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص:6 - 7] فاحتجوا بما كان في ملتهم الأولى وطريقة آبائهم وأجدادهم إن هذا إلا اختلاق، ولكن العرب بعد جهد شديد أبصروا الحق وأقلعوا عما اعتادوه وتعارفوا عليه من عادات وأعراف جاهلية، ثم علت كلمة الله واستنار الناس بنور الحق، وجاهد العرب الأمم الأخرى حتى أخرجوهم من هذه العادات التي حبستهم في قواقع الظلمات.
إن المتأمل في كثير من الأمور الشركية والبدعية سيجد أنها من الأمور المتوارثة المنقولة عن الآباء والأجداد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:1 - 6].
لقد قامت الحجة على هؤلاء بالدعوة والحوار وبيان بطلان عادات آبائهم وأجدادهم، وهذا واجبنا أيها الأحبة أن نناظر الناس الذين يحتجون بما ألف عليه الآباء والأجداد، وأن نقول: فضلاً فضلاً، مهلاً مهلاً، رفقاً رفقاً، أعطونا عقولكم، وضعوها على ألسنتكم، وانطقوا بما تفهمونه من واقع هذا العقل، أخرجوا العقول من خزائن الجدات، وأخرجوا العقول من صناديق الأجداد، أخرجوها من الأقبية والسراديب وحينئذٍ ستفهمون الحق وتعرفونه.
إن الذين لا يقبلون الحق بعد هذا كما قلنا في أول هذه الخطبة إما يردونه لإصرار على فعل الآباء والأجداد، وقد لا ينفع معهم حوار الفكر والمنطق؛ لأن الفكر لم يدع من خزائن جداتهم ليوضع في حوار أو على ألسنتهم حال المناظرة: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62] فهم يصرون على فعل الآباء، أو أنهم يرون ضعف الداعي إليه، وأخبث من ذلك أن الذين يصرون على العادات والتقاليد الضالة المضلة لا يزال الواحد فيهم حبيباً أليفاً صديقاً جليساً أنيساً إلا إذا بين لهم بطلان ما يفعلونه فيقولون له حينئذٍ: كنا نقدرك قبل هذا والآن سقطت من أعيننا لما نهيتنا عما كنا نتبع فيه آباءنا، وإنها لنفس الحجة التي قالها فرعون وملؤه لموسى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس:78].(25/10)
نصيحة إلى كل مقلد
فيا عباد الله! اعلموا أن أشد ما يطمس العقل البشري هو التعصب الجامد المظلم الذي يحبس صاحبه في قمقم القديم الذي كان عليه الآباء، أو يحبس صاحبه في واقع درج عليه أكثر الناس، وقد نسي قول الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فلا تعتبر بالكثرة ولو تواتروا على فعل المنكر، ولا تعتبر بالكثرة ولو قلدوا آباءهم وأجدادهم، إن أكثر الأولين قد ضل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات:71]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فالحذر الحذر من التعصب الذي يجعل الواحد ينطق بمنطق أعوج! إن تعصب قريش قادها لما عرض عليها الحق أن قالت: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] لم تقل: إن كان حقاً فاهدنا إليه، أو وفقنا، أو ثبتنا عليه، قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] انظروا إلى هذا المنطق الأعوج الذي أنتجه الإصرار على فعل الآباء، وأنتجه حجب الفكر والحوار والمناظرة عن أن يقاد إلى أمر فيه خير أولئك، صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فلا غرابة في هذا لأنهم حجبوا عقولهم عن الهدى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت:5].
ألا فليحذر المصرون على اتباع الآباء والأجداد، ألا فليحذروا وليخافوا الله أن يطبع على قلوبهم، أو أن يمسخهم، أو أن يأخذ أسماعهم وأبصارهم؛ فإن الذي يجادل في الحق بعدما تبين، ويعاند ويصر على طريقة الآباء والأجداد لممن يقع في المشاقة لله ورسوله، والله يقول: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115].
معاشر المؤمنين! ثم دعوة وهمسة وكلمة إلى أولئك الذين يجعلون عقولهم لعناوين الصحف، ويجعلون عقولهم للنشرات الإخبارية، ويجعلون عقولهم لتحليل غيرهم في ثنايا الجرائد والمجلات، فإذا جئت تحاور أحدهم وجدته يحاورك بمنطق عمود الجريدة، أو بمنطق موضوع المجلة، أو بمنطق إرشيف الغلاف، أو بمنطق حجة قالها كاتب، ألا فيا عباد الله! إن كل واحد يحشر يوم القيامة وحده، فلن يحشر رئيس تحرير ووراءه قراؤه، ولن يحشر قائدٌ ووراءه أتباعه، ليحاسب الرئيس أو القائد أو الزعيم بالنيابة عن هؤلاء، لا وألف لا، سيحاسب كل بما أوتي، ويؤاخذ بما فعل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95] فرداً فرداً {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:94]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
إن كل واحد منا سيحاسب في فهمه، وطريقته، وقراراته، وأعماله، هو وحده ولن ينفعه أن يقول: تبعت فلاناً أو علاناً، ألا فحكم العقل الصحيح، وإن العقل الصحيح لا يتضارب ولا يتعارض مع الدليل الصريح الصحيح أيضاً.
أسأل الله أن يبصرنا وإياكم بالحق، وأن يرزقنا استثمار عقولنا واستذلال هذه العقول وألا تكون هذه الرءوس جماجم وخزائن للمعلومات يفكر الآخرون بالنيابة فنودعها ما يقولون، يخطط الآخر بالنيابة فتنفذ جوارحنا ما يريدون، وإنما نسأل الله أن تكون أفكارنا وسكناتنا وخطراتنا وخطواتنا منبثقة من تفكير مهتدٍ بهدي صريح وشرعٍ جميل لكي نلقى الله بنية (وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، وأبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم من أراد بنا سوءاً فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء، اللهم إنا نعوذ بك أن نرى في مجتمعنا فتنة، أو أن نرى بعلمائنا مكيدة، أو أن نرى بولاة أمرنا مصيبة، أو أن نرى بشبابنا وبناتنا تبرجاً وضلالاً وسفوراً، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم انصر المسلمين في أرومو التي لا يعرف كثير من المسلمين عن حالها، وحال خمسة وثلاثين مليون مسلم فيها شيئاً، اللهم انصرهم على من عاداهم من النصارى والوثنيين يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في كشمير، وفي الفليبين، واجمع شملهم في أفغانستان، وأصلح شأنهم وانصرهم في طاجكستان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، ورد المسجد الأقصى إلى أيدي الموحدين، اللهم انصر المسلمين في البوسنة، اللهم عليك باليهود والصرب.
ربنا مزقهم واجعلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً يا رب العالمين.
اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، اللهم لا ساتر لمن فضحت فلا تفضحنا، ولا فاضح لمن سترت فاسترنا، اللهم ثبتنا وأعطنا، وأكرمنا ولا تحرمنا بمنك وكرمك يا رب العالمين.
الله اغفر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم أصلح شبابنا، اللهم اهد بناتنا، اللهم أصلح ولاة أمورنا واجمع شملنا يا رب العالمين، لا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأصحابه وآله.(25/11)
الرحيل
الإنسان في هذه الحياة مسافر في رحلة حتمية، لا يملك إيقافها، ولا التراجع عنها، ورحيل الإنسان عن الدنيا حقيقة مُرَّة، يعلمها الأحياء علم اليقين وإن تجاهلوها، وسيذوقون مرارتها يوماً ما.
وفي هذه المحاضرة تجلية لحقائق الموت والرحيل من الكتاب والسنة وأقوال السلف؛ متضمنة أمثلة من حسن الخاتمة وسوئها، وطرق الاستعداد للرحيل التي لا يستغني عن التفكر فيها كل ذي فكر.(26/1)
الرحيل بين مراتب اليقين
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيرا، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله الله إلى جميع الثقلين بشيراً ونذيراً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب أن يجعل للحاضرين والحاضرات في هذا المكان من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلوىً عافية، ومن كل فاحشة أمناً، ومن كل فتنة عصمة.
اللهم لا تدع لي ولهم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها وأعنت على قضائها، اللهم لا تدع لهذه الوجوه ذنباً إلا غفرته، ولا تدع فيهم تائباً إلا قبلته، ولا لأحدٍ منهم ميتاً إلا رحمته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا كسيراً إلا جبرته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحةً وهبته وأسعدته يا رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه.
أحبتي في الله! نهاية هذا العام وأفول شمسه، ساقطة في مغيب بحر التاريخ، إشارة إلى الزوال والرحيل والفراق من هذه الدنيا، ورحيل هذا العام يذكر لا محالة برحيل الجميع، يذكر لا محالة برحيل العافية عن الأبدان، ورحيل النور عن الأبصار، ورحيل الكلمات عن الألسن، ورحيل السمع عن الآذان، ورحيل النبض عن الأفئدة، ورحيل الخفقات عن القلوب، ورحيل الحركات عن الأطراف والجوارح، رحيل هذا العام ورحيل كل عامٍ يذكر بأننا كما عشنا ورأينا وعلمنا وعرفنا الحياة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين؛ فسوف نذوق الفراق حق اليقين، بعد أن عرفناه علم اليقين وعين اليقين، نحن الآن نعيش في هذه الحياة، والحياة بالنسبة لنا علم اليقين، فنحن نرى الأحياء ونرى أنفسنا، ونعيش الحياة حق اليقين؛ لأننا نرى الحياة في جوارحنا وأبداننا وحركاتنا وحواسنا وفي ذواتنا وما خلق الله فينا، فإن هذه الحياة نعيشها بعلم اليقين وحق اليقين، وكما عشنا الحياة علماً وعيناً وحقاً، فسوف نعيش الفراق علماً وعيناً وحقاً.
أما الفراق بعلم اليقين: فنحن نعلم أننا نفارق أقواماً.
وأما الفراق بعين اليقين: فإننا فقدنا وما عدنا نرى، بل دفنا ووارينا أحباباً وفارقناهم.
وبقي الفراق بحق اليقين: وهو أن نذوق الفراق، وأن نتجرع ذلك الفراق، ولا بد لنا من ذلك شئنا أم أبينا، طال بنا الدهر أم قصر
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح
كل بطاحٍ له يوم على الدنيا بطوح
لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
رحيل هذا العام يذكر برحيل الصالحين، ويذكر بالأسى على فراقهم، ورحيل هذا العام يذكر برحيل المجرمين، والعبرة بزوالهم، ورحيل هذا العام يذكرنا بحتمية فراقنا وزوالنا وانتقالنا من هذا الدار.
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حط ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الردى مما نرجيه أقربُ
رحيل هذا العام أيها الأحبة في الله! يذكرنا بما قاله حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل عليه السلام، وقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) رحيل هذا العام يقول للسادرين: لا تفرحوا بمرور الليالي والأيام:
يسر المرء ما ذهب الليالي وإن ذهابهن له ذهابُ(26/2)
أثر الأحداث في غفلة الشباب عن الرحيل
أيها الأحباب! لقد مرت بنا أحداث شغلت الكثير من الناس، بل شغلت الكثير من الشباب الطيبين الصالحين، شغلتهم في البحث والسؤال، والقيل والقال، فأورثت عند بعضهم الجدل، وأضعفت عند الكثير العمل، واستحكمت بنا الغفلة، وذهلنا عن أمورٍ لا بد منها ولا مناص عنها، وسنسأل عنها ومنها الرحيل، وهانحن نتذكرها بقرب رحيل هذا العام، ولما غفلنا عن هذا جاءت نهاية العام تذكرنا بها.
الرحيل أمرٌ محتومٌ لا مناص منه ولا محيد عنه، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] ويقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ويقول تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] ويقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ويقول تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
كان عمر بن عبد العزيز ذات يومٍ وهو فوق كرسي الخلافة يقرأ كلام الله عز وجل، فلما بلغ هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] نزل عن كرسي خلافته وقبض بيده على لحيته وأخذ يحرك ذقنه ويحرك لحيته ويقول: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:206 - 207] وأخذ يرددها وهو يبكي.(26/3)
عبر من رحيل العام
أيها الأحبة! رحيل هذا العام شاهدٌ على الكادحين جميعاً {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم: المؤمن يكدح ثم إلى الجنة، والكافر يكدح ثم إلى النار.
رحيل هذا العام يمضي بسجلاته وصحائفه شاهدةٌ لنا أو علينا، شاهدةٌ لأقوامٍ بالحسنات وشاهدةٌ على آخرين بالسيئات، أقوامٌ مشغولون بالطاعة، وهم غداً في الجنة في شغلٍ فاكهون برحمة الله، وأقوامٌ مشغولون بلا مهمة مشغولون بالسهر ولكن في غير طاعة الله، ومشغولون بالجهد والمجاهدة، ولكن في معصية الله، في متابعة الأفلام والقنوات التي يرون فيها ما يضر ولا ينفع، ويخزي منظره، ولا يستطيع الناظر تغييره، مشغولون باللهو الباطل، مشغولون بالغفلة والسهر، ثم النوم عن الصلاة مع الجماعة، ومشغولات من النساء في الذهاب والإياب والتطواف، والتسيار والتجوال في الأسواق، مشغولات في الجولات في كل المناسبات، تجوالٌ لا يعرف الكلل ولا الملل، مشغولات عن بيوتهن أو عن تربية أبنائهن على طاعة الله عز وجل، مشغولون عن حقوق أوجبها الله عليهم في البر والصلة والقيام بحقوق من ولاهم الله شئونهم.(26/4)
الرحيل الدوري
إن هذا الرحيل يذكرنا برحيلٍ نعيشه في كل يومٍ وليلة، أوليس الله عز وجل يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] برحيل هذا العام لا بد أن نتذكر الرحيل الحق لأنفسنا ولأبداننا، ولقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتذكر الرحيل فقال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة، وإننا كما قرأنا الآية آنفا نعيش هذا الرحيل في كل يومٍ أو في كل ليلة، فإن الله عز وجل يتوفى هذه الأنفس حين موتها الموتة الصغرى في نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت، أي: يمسك التي قضى عليها الرحيل الحقيقي والميتة الحقيقية، فلا تعود الروح إلى مضجع صاحبها، ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى.
ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60] فقد أخبر سبحانه أن كلاً من النفسين الممسكة والمرسلة توفيتا وفاة النوم، ولكن من كتب لها الرحيل الحقيقي لا تعود إلى مضجع صاحبها، ولكن عند الرحيل، تمر النفس بسكرات، وتمر بآهاتٍ وأنات، وكما قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] للرحيل سكرات، يلاقيها كل إنسان رجلٍ وامرأة وفتىً وفتاة حال الاحتضار، وهذه السكرات هي كربات وغمراتٌ حال الرحيل، وإنها لحقٌ، ولو نجى منها أحد أو سلم لنجى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم يدخل يده في ركوة أو علبة فيها ماء ويغطس أنامله في الماء، ثم يمسح بها وجهه ويقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) رواه البخاري، ولكن قبل الرحيل يفاجأ أقوامٌ بغصص، ويفاجأ أقوامٌ بمفاجئاتٍ عجيبة، ومفاجئاتٍ مهولة، وأقوامٌ يرون سعادة وسروراً.(26/5)
صور من رحيل الصالحين
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ ذات يومٍ سورة الفجر، فلما بلغ قول الله عز وجل: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] لما تلاها أبو بكر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله ما أطيب حظ من يقال له هذا! وما أحسن هذا! وما أجمل هذا! فقال صلى الله عليه وسلم: وإنك يا أبا بكر ممن يقال له هذا) وإنك يا أبا بكر ممن يُقال له: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] لمثل هذه الحال يطيب الرحيل، ويسعد الرحيل، ويجملُ الرحيل، ويفرح صاحب الرحيل برحيله، ومع أن هؤلاء قد لقوا البشرى من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك ما غرهم، بل زادهم من ربهم خوفاً ووجلاً وإشفاقا، فلقد دخلت عائشة رضي الله عنها على أبيها أبي بكر رضي الله عنه في مرض موته، فلما ثقل عليه الأمر واشتدت به السكرات، قالت عائشة رضي الله عنها:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف أبو بكر رضي الله عنه وجهه، وقال رضي الله عنه: [ليس كذلك يا ابنتي، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]] هكذا يرحل الصالحون، يلهجون بكلام الله وذكره، هكذا يرحلون لأن الملائكة تبشرهم برضوانٍ وروحٍ وريحان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [فصلت:30 - 31] هذه الولاية الحقيقية لهؤلاء في الدنيا ولهم في الآخرة، وماذا بعد لهم في الآخرة؟ ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
أيها الأحبة! رحيل الصالحين بحب ولذة، رحيل الصالحين عن الدنيا شوقٌ إلى لقاء الله عز وجل، واستعدادٌ ومسابقة ومبادرة، فلقد روى الإمام أحمد في مسنده أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: اشتكت فاطمة رضي الله عنها شكواها التي قبضت فيها، تقول سلمى: فكنت أمرضها، فأصبحت يوماً كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وذهب علي رضي الله عنه لبعض حاجته، فقالت فاطمة رضي الله عنها لـ سلمى: يا أمة اسكبي لي غسلاً، قالت سلمى: فسكبت لها غسلاً فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت فاطمة: يا أمة! أعطيني ثيابي، قالت: فأعطيتها جديد لباسها، فلبستها، ثم قالت: يا أمة! قدمي لي فراشي وسط البيت، قالت سلمى: ففعلت، فقامت فاطمة رضي الله عنها فاضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها، ثم قالت: يا أمة إني مقبوضة الآن، إني مقبوضة الآن، وقد تطهرت فلا يكشفني أحد، فقبضت مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته بذلك، انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذا الاطمئنان، انظروا إلى هذه اللذة التي يجدونها عند رحيلهم، فليت شعري على أي حال يكون رحيلنا.
وأما رحيل الكافرين الفاجرين فهو رحيلٌ في أسوأ حالٍ وأخبث خاتمة، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93] وما ذكرته الآية يحدث أنه إذا بشر ملائكة العذاب الكافر بالعذاب والنكال والأغلال، والسلاسل والجحيم وغضب الرحمن، من شدة الفزع والخوف والهلع تتفرق روح الفاجر في جسده وتتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، وإني لأذكر حادثةً هي مما يصنف للاستعداد للرحيل وحب الرحيل، وليست مما يذكر في الخوف، وليست مما يذكر في سوء الخاتمة.
أعرف صديقاً لنا وهو أحد الدعاة في مدينة الرياض من إخواننا الصالحين، وله أبٌ صالحٌ قد جاوز ثلاثة وثمانين عاماً، وكنت أراه وإذا سألته وقلت له: كيف أنت يا أبا عبد العزيز؟ قال: والله إني لفي أسعد حال وأطيب حال، وإني أعد نفسي من الأموات ولا أعد نفسي من الأحياء، يقول: إني أعد نفسي من الأموات وأنا أمشي على وجه الأرض، ووفاته كانت قبل أقل من سنة، يقول ولده: كان ضحىً في القرية، فاشتد به المرض فأتاه أحد أبنائه وأخذه وضمه إليه، وأراد أن يسنده إلى صدره ويتهيأ لكي يذهب به إلى المستشفى، فقال أبو عبد العزيز: لا تذهب بي إلى المستشفى هذا هو الموت، هذا هو الحق، هذا هو الحق، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله إني ما كرهت هذه الساعة، والله إني ما كرهت هذه اللحظة، والله إني فرحٌ بلقاء الله، والله إني فرحٌ بلقاء الله، قال: فأخذ يردد أيماناً بكل طمأنينة وبكل يقظة وبكل لذة، يقول: والله ما كرهت هذه الساعة وأنا مستعدٌ لها، أشهد أن لا إله إلا الله، لا تذهب بي إلى المستشفى، قال: ومن الضحى وهو يذكر الله عز وجل حتى فاضت روحه حول الظهر.
الله أكبر! انظروا إلى هذا الاستعداد، انظروا إلى هذه النفس التي تطمئن عند الوفاة، لو أن أحداً أصابه ما أصابه لقال: أين المستشفى؟ أين التنشيط الدماغي؟ أين وأين؟ ولا بأس بهذا وكلها من الأسباب؛ لكن من كان مستعداً للقاء الله، لا يضيقه أن تنزل به ملائكة الموت في أي لحظة، يقول هذا الرجل الذي ذكرت لكم قصة وفاته: ما تركت قيام الليل ثلاثاً وخمسين عاماً، وأما من بداية تكليفه إلى أن بلغ الثلاثين قال: كنت أوتر قبل النوم حتى رآني رجلٌ من الصالحين قال: يا أبا فلان أنت ممن يشار إليه، وتوتر قبل النوم! إذاً أنت لا تتهجد آخر الليل، قال: فكانت نصيحة قذفها الله في قلبي وأحدثت في نفسي استجابة، فما تركت قيام الليل منذ ذلك اليوم، قال ولده: وما عهدته يؤذن أو ينادي المنادي إلا وهو في المسجد، على ما يكون الناس فيه من حديثٍ أو قيلٍ أو قال أو مقال، إذا دنا وقت الصلاة يقول: اشتعل في قلبه أمرٌ يزحزحه ويطرده عن المجالس حتى لا تهدأ له نفسٌ ولا يقر له بالٌ، ولا تقر له عينٌ إلا إذا دخل المسجد، فمثل هؤلاء يلذون بالرحيل، ويستعدون للرحيل ونحن لا بد أن نوقن بهذا الرحيل، لا بد من استقرار هذه الحقيقة في نفوسنا، حقيقة أن الحياة محدودة مؤقتة بأجلٍ ثم تأتي نهايتنا، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون، ويموت القاعدون، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بكل ثمن، الكل يموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] لكن الفارق بين نفسٍ وأخرى في المصير {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].(26/6)
أقوال السلف عن الرحيل وحقائقه
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، ويقول أيضاً: الناس على هذه الدار على جناح سفرٍ كلهم، وكل مسافرٍ فهو ظاعنٌ إلى مقصده، ونازلٌ على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار الآخرة، إنما هو ظاعنٌ إلى الله تعالى في حال سفره، ونازلٌ عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبة له: تفكروا يا عباد الله! فيمن قبلكم أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد نسوا ونسي ذكرهم، فهم اليوم كلا شيء، فتلك بيوتهم خاوية، وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزاً.
وأين من تعرفون من أصحابكم وإخوانكم، وقد وردوا على ما قدموا فحلوا الشقاوة والسعادة؟ إن الله ليس بينه وبين أحدٍ من خلقه نسبٌ يعطيه به خيراً، ولا يصرف عنه به سوءاً إلا بطاعته، واتباع أمره، وإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة.
وقال عبد الله بن المفضل التميمي: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله فأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإنما في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يومٍ وليلة تشيعون غادياً أو رائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدعٍ من الأرض، ثم في بطن الصدع غير ممهدٍ ولا موسد، قد خلع الأسلاب، وفارق الأحباب، وأسكن التراب، وواجه الحساب، فقيرٌ إلى ما قدم أمامه، غنيٌ عما ترك بعده، وعن مجاهد قال: مررت مع عبد الله بن عمر فقال: يا مجاهد! يا خربة أين أهلك؟ قال: فناديت يا خربة! أين أهلك؟ ما فعل أهلك؟ فلم يجبني أحد قال: ثم تكلم ابن عمر وقال: ذهبوا وبقيت أعمالهم، وعن شرحبيل بن مسلم عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا وقف على خربة أي: على الأطلال، قال: يا خربة! أين أهلك؟ ذهبوا وبقيت أعمالهم، وانقطعت الشهوات وبقيت الخطيئة، يا بن آدم ترك الخطيئة أهون من طلب التوبة.
إن الرحيل أيها الأحباب! حقيقةٌ مرةٌ قاسيةٌ رهيبة، تواجه كل حيٍ فلا يملك لها رداً، ولا يستطيع لها أحدٌ دفعاً، وهي تتكرر كل لحظة، يواجهها الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الملوك والوزراء، الأمراء والفقراء، يقف الجميع منها موقفاً واحداً، لا حيلة لا وسيلة لا قوة لا شفاعة، لا دفع ولا تأجيل، الكل مرجعهم إلى الله، فما لهم مرجعٌ سوى هذا المرجع، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إذاً يكون في العمل والنية، وفي الاتجاه والاهتمام، أما النهاية فواحدة، الموت في الموعد المحتوم والأجل المقسوم، قال الضحاك بن مزاحم: قال عبد الله بن مسعود: ما منكم إلا ضيف، وماله عارية، والضيف مرتحلٌ، والعارية مردودة إلى أهلها.
فما أهل الحياة لنا بأهلٍ ولا دار الحياة لنا بدارِ
وما أموالنا والأهل فيها ولا أولادنا إلا عواري
وأنفسنا إلى أجلٍ قريبٍ سيأخذها المعير من المعار
أيها المنهمك في الدنيا! أيها المكب على غرورها، المحب لشهواتها، الغافل قلبه! لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره، وإذا ذكر بالموت كرهه ونفر منه، أولئك الذين قال الله فيهم: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
أيها الأحباب! الذي يعطى منكم أرضاً، فيسورها ويغرس فيها شجراً، ويحفر فيها بئراً، ويبني فيها داراً، ويطيبها ويزينها ويعدها تجده يشتاق إلى البقاء فيها، ويكثر الذهاب إليها، ويدعو الناس إلى ضيافته فيها، ويكثر الحديث في المجالس عنها، لا شغل له ولا هم إلا الحديث عن استراحته أو عن أرضه التي اعتنى أو تعب فيها، وأما الذي أوتي أرضاً فلم يسور فيها ولم يحفر بها بئراً ولم يغرس بها شجرة فلا يبالي أن تكون موقعاً للغربان على الجيف، ولا يبالي أن تكون مرتعاً للكلاب، ولا يبالي أن تكون موضعاً لرمي الزبالات والقمامات والأوساخ فيها، فما الذي جعل الأول يشتغل بهذه الأرض، وجعل الثاني لا يبالي بما يوضع فيها؟ الأول زينها وعمرها فأشغلته فاهتم بها، والثاني ضيعها ولم يهتم بها فلم يبال بما يوضع فيها، فكذلك هي الآخرة بالنسبة لنا، الآخرة أرضنا، من زرع في آخرته شجراً، من غرس في آخرته غرساً، من حفر في آخرته الآبار، من بنى في آخرته داراً، أشغلته وأهمته وذهب كل يومٍ إليها واستعد لها، وحدث الناس بها، واهتم بها وجعلها همه، وأما الذي لا يهتم بآخرته، فلا يتمنى أن يسمع عنها كلاماً ولا يرغب أن يسمع عنها حديثاً، ولا يدعو أحداً إليها، ولا يهتم بها، فهل أيها الأحبة! نفطن لما نحن قادمون عليه، إن الرحيل مصيبة.(26/7)
أثر تذكر الموت في ترك الدنيا ونعيمها
الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح رحمه الله رحمة واسعة كان يلقي درساً في الحديث على طلابه في بخارى فبلغه نبأ وفاة الإمام الدارمي رحمه الله، فأجهش وأطرق بالبكاء وسمع طلابه نشيجه وبكاءه، ورأوا دموعه تنحدر على وجنتيه ولحيته، فلما رفع رأسه قالوا: ما الخطب يا أبا عبد الله، فقال بصوتٍ وهو أسيف، قال في صوتٍ فيه نشيج:
إن تبق تفجع بالأحبة كلهم وفناءُ نفسك لا أبا لك أفجع
إن بقينا نفجع بموت أحبابنا، وإن فجعنا بموت أنفسنا، فتلك والله فاجعة عظيمة، فالرحيل مصيبة، وسماه الله مصيبة، ولكن أعظم من مصيبة الموت والرحيل، مصيبة الغفلة عن الموت والرحيل، ومصيبة الإعراض عن ذكره، ومصيبة عدم الرغبة في سماعه، وقلة التفكير فيه، وترك العمل لما بعده.
عمر بن عبد العزيز يكون في فراشه مع زوجته، ثم يتذكر الرحيل فيقوم عنها ويبكي، يتذكر رحيله في تلك اللحظات التي يغفل فيها الغافلون، وذكر الرحيل من أهم الأمور التي تلين بها القلوب القاسية، إن تذكر الرحيل يردع الإنسان عن ارتكاب المعاصي، ويجعله يترك الفرح بالدنيا ويهول المصائب فيها.
قال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لبٍ فرحاً، وما ألزم عبدٌ قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينه وهان عليه كل ما فيها، وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير: إن هذا الموت قد أفسد على الناس نعيمهم فالتمسوا نعيماً لا موت فيه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكب عبد الله بن عمر فقال: (كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل) وكان ابن عمر يقول: [إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه الإمام البخاري.(26/8)
زيارة القبور وفجائع الموت
إن تذكر الرحيل وما بعده من سؤال القبر وظلمته، وضمته ووحشته، والبعث والحشر مما يوقظ النفس من نومها، ويوقظها من رقدتها، وينبهها من غفلتها، فتنشط وتتابع السير، وخير وسيلة لتذكر الرحيل زيارة منازل الراحلين، زيارة القبور والاعتبار بأحوالها.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
انظر إلى قبر ملك من الملوك، وبجواره قبر فقير من الفقراء، ثم بعد ذلك قبر وزير من الوزراء، ثم قبر صعلوك من الصعاليك، ثم قبر مسكين من المساكين، ثم قبر فلان وعلان، هل ترى بينهم فرقاً؟ هل ترى لأحدهم مزية على أحد؟ قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها، فإنها ترق القلب، وتدمع العين، وتذكر الآخرة، ولا تقل هجراً) رواه الحاكم.
يقول ابن عمر: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقال رجلٌ من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا، وكرامة الآخرة) رواه ابن ماجة وغيره.
أيها الأحبة! كان محمد بن واسع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: ما ظنك برجل يرحل إلى الآخرة مرحلة، وعند الرحيل لأقوامٍ صياحٌ ونواح، وعند الرحيل لأقوامٍ حسرات وأنات، وعند الرحيل لأقوامٍ فضائح ومخاز، وعند الرحيل لأقوام بشائر وجوائز، فرحماك رحماك يا رب العالمين بنا عند هذا الرحيل وقبله وبعده.(26/9)
ذكر الرحيل في القرآن والسنة
حسراتٌ عند الرحيل لأقوامٍ ضيعوا وفرطوا وأسرفوا، لأقوامٍ منعوا حقوق الله قال الله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10 - 11] قال ابن كثير: كل مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئاً يسيراً ليستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات كان ما كان وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه.
وعند رحيل الفاجر يدعو على نفسه بالويل، ويدعو على نفسه حين تحمل جنازته، ويدعو على نفسه حين يتحرك به، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق) رواه البخاري، ويؤيد ذلك أن الفاجر يندب حظه ويدعو بالويل والثبور على نفسه، فعن أبي هريرة فيما رواه النسائي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وضع الرجل الصالح على سريره، قال: قدموني قدموني، وإذا وضع الرجل السيئ على سريره، قال: يا ويلي أين يذهبون بي؟ أين يذهبون بي؟) كأن الفاجر والكافر عند رحيله يقول: لم تستعجلون بي؟ وأين تذهبون؟ وأين ستضعونني؟ كأن الفاجر يقول لمغسله: وما أعجلك في الغسل؟ وما أسرع ما انتهيت من هذا التغسيل؟ وما أسرع ما وصلتم وبلغتم المقبرة؟ وما أسرع ما دفنتموني؟ وأما المؤمن فكأنه يقول: لم تتأخرون بالصلاة علي؟ لم تتأخرون في تغسيلي؟ لم تتأخرون في تجهيزي؟ قدموني قدموني، أيها الغاسل! أسرع، أيها الدافن! أسرع، يا من يجهز هذه الجنازة! لا تتأخر؛ لأنه يرى من نعيم الله ما ينتظره المزيد بعد ذلك.
ألا وإن الخوف من الرحيل المخزي، ألا وإن الخوف من سوء الرحيل قد أقض مضاجع الصالحين، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت ما يشهد أن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضره الموت، بشر بعذاب الله وعقوبته، رواه البخاري ومسلم.(26/10)
الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة
لحظات الخاتمة هي التي أقضت مضاجع القوم، فحرمتهم نوم الليل والعيش الهادئ، فلم يغتروا بعبادتهم مع كثرتها، ولا بصلواتهم مع خشوعها، ولم يغتروا بكثرة ما أنفقوا من أموالهم في سبيل الله، ولم يغتروا بكثرة صيامهم في الهواجر، ولم يغتروا بكثرة قيامهم في الثلث الأخير من الليل، عن سالم بن بشر أن أبا هريرة رضي الله عنه بكى في مرضه فقيل له: يا أبا هريرة! ما الذي يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعودٍ مهبطٍ على جنة أو نار لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.
خوف الصالحين من سوء الرحيل هو الذي أقض مضجعهم، وجعلهم يزهدون في هذه الدنيا، فالمؤمن لا بد أن يسيطر عليه هاجس الخوف ومن سوء الرحيل، وهاجس الخوف والحذر من أسباب سوء الرحيل، وهكذا كان الصالحون يخشون سوء الخاتمة، ويسألون الله أن يتوفاهم على الإسلام إذ ربما غلب على الإنسان ضربٌ من الخطيئة، وربما غلب عليك نوعٌ من المعصية، أو جانبٌ من الإعراض، أو نصيبٌ من الافتراء، فملك قلبك وسبى عقلك، وأطفأ نورك، وأرسل عليك حجباً، فلم تنتفع بتذكرة، ولم تنجع فيك موعظة، وربما جاءك الموت وأنت على ذلك، فسمعت النداء وأنت في مكانٍ بعيد ولم تتبين المراد ولم تعلم ما أراد وإن أعاد عليك وأعاد.
قال ابن أبي حمزة في شأن الخاتمة: هذه التي قطعت أعناق الرجال، مع ما هم فيه من حسن الحال؛ لأنهم لا يدرون بما يختم لهم، كان الصحابة يخافون من ساعة الرحيل، أفلا نخاف نحن يا معاشر المفرطين؟ كان الذين بلغوا وجاوزوا القناطر يخشون من سوء الرحيل، أفلا نخاف نحن مستودعات الخطيئة، ومخازن الغفلة واللهو عن طاعة الله وذكره؟(26/11)
صور من رحيل الصالحين
روي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عند احتضاره قال لـ ابن مسعود رضي الله عنه: قم فانظر أي ساعة هي؟ فقام ابن مسعود، فقال: قد طلعت الحمراء- أي الشمس- فقال حذيفة: أعوذ بالله من صباح إلى النار، أعوذ بالله من صباحٍ إلى النار، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه بكى عند موته، ثم قال: والله ما أبكي حزناً على الدنيا ولا جزعاً من فراقكم؛ ولكني أنتظر إحدى البشريين من ربي بجنة أم نار، ولما حضرت بلالاً رضي الله عنه الوفاة، قالت امرأته: واحزناه! فقال: بل وا طرباه! غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه، ولما توفي عبد الله بن المبارك سنة (181هـ) بعد انصرافه من الجهاد وله من العمر ثلاثٌ وستون سنة، لما احتضر قال ابن المبارك لمولاه نصر: اجعل رأسي على التراب، فبكى نصر، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت ما كنت فيه من النعيم وهأنت ذا تموت فقيراً غريباً، قال: اسكت! فإني سألت الله أن يحييني حياة الأغنياء وأن يميتني موت الفقراء، ثم قال له: لقني ولا تعد علي ما لم أتكلم بكلامٍ ثانٍ، ثم فتح ابن المبارك وضحك، وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون، وتشهَّد ثم فاضت روحه، لماذا قال: لمثل هذا فليعمل العاملون؟ لقد رأى البشارة مع ملك الموت يبشره برضوانٍ وروحٍ وريحان، وربٍ راضٍ غير غضبان، يروي مطرف اللحظات الأخيرة من عمر الإمام القدوة سلمة بن دينار، يقول: دخلنا على أبي حازم سالم الأعرج -أي: سلمة بن دينار - لما حضره الموت، فقلنا: كيف تجدك؟ قال: أجدني بخير، راجياً لله، حسن الظن به، إنه والله ما يستوى من غدا أو راح يعمر عقد الآخرة لنفسه فيقدمها أمامه قبل أن ينزل به الموت حتى يقدم عليها فيقوم لها وتقدم له مع من غدا أو راح في عقد الدنيا يعمرها لغيره ويرجع إلى الآخرة لا حظ له فيها ولا نصيب، وأتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت، فقال: يا أبا عبد الله! كأني أراك قد شق عليك الموت، فما زال يهون عليه الأمر حتى كأن وجهه المصابيح، ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك، ثم قضى وفاضت روحه رحمه الله.
رحيل الصالحين بشائر، رحيل الصالحين كرامات، رحيل الصالحين فوزٌ وسعادة وحبور، وهذه صورة لرحيل أحد الصالحين وهو عمر بن عبد العزيز، تقول فاطمة بنت عبد الملك: كنت أسمع عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار، اللهم اخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار، قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين! ألا أخرج عنك عسى أن تغفي شيئاً فإنك لم تنم؟ قالت: فخرجت عنه إلى بيتٍ غير البيت الذي هو فيه قالت: فجعلت أسمعه يردد {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] تقول: سمعته يرددها مراراً، ثم أطرق فلبث طويلاً لا يسمع له حس، فقلت لوصيفٍ له كان يخدمه: ويحك انظر ما الذي حل بـ عمر؟ فلما دخل صاح، قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينيه رحمه الله.
وأقوامٌ يتكلمون عند الرحيل من هول ما يجدون، وأقوامٌ يندمون على ما فرطوا، وأقوامٌ يقولون عبراً ومواعظ عند موتهم، فلما نزلت بـ عبد الملك بن مروان في مرضه الذي مات فيه، لما نزل به الموت، قيل له: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] وروي أن المأمون أمر برمادٍ، فجيء به إليه، فمده وافترشه لما حضرته الوفاة، واضطجع عليه وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه.(26/12)
صور من سوء الخاتمة
نعوذ بالله -أيها الأحبة- من سوء الخاتمة، ونسأل الله حسن الرحيل وحسن الخاتمة، فإن أقواماً لا يزالون في لهواتهم وغفلاتهم سادرين حتى تأتيهم الخاتمة على أسوأ حالٍ أو تجعلهم يرددون أسوأ حالٍ كانوا يفعلونها في الدنيا، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن الربيع بن برة وكان عابداً بـ البصرة، قال: أدركت الناس بـ الشام وقد قيل لرجلٍ لما حضرته الوفاة: قل: لا إله إلا الله، فقال: اشرب واسقني، كان شراباً للخمر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقيل لرجلٍ بـ البصرة: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فجعل يقول ويغني:
يا رب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ
وهذا القائل هو رجل طلبت منه امرأة أن يدلها على حمام منجاب، فدلها إلى منزله وذهب يأتي بشيء ونسي إغلاق بابه، فخرجت وقد تعلق بها، فجعل يدور بالأسواق يبحث عنها ويردد هذا البيت، فمات على أخذة حال فعل وهو تلك الفعلة الشنيعة مات وهو يردد هذا البيت، وهو يغني.
وذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه الثبات عند الممات أن رجلاً احتضر، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال هو كافرٍ بلا إله إلا الله، وقيل لآخر وهو يحتضر: قل: لا إله إلا الله، فقال: حيل بيني وبينها، وصدق الله العظيم: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] ويقول ابن الجوزي أيضاً: وسمعت آخر وهو في مرض الموت يقول: ربي يظلمني ربي يظلمني، من سوء ظنه بربه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(26/13)
الاستعداد لهذا الرحيل والسفر الطويل
أحبابنا! أيها الإخوة! أيها الجمع الكريم! ألا نستعد لهذا الرحيل؟ ألم يأمرنا ربنا بأن نستعد ونعمل؟ {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] ألم يأمرنا نبينا بالمبادرة؟ فقال فيما رواه أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً -أو قال: يمسي مؤمناً ويصبح كافراً- يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه مسلم.
ألا نعمل قبل الرحيل؟ ألا نعمل قبل حلول الخسارة؟ {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] ويقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45].
أيها الأحبة! من خرج في سفرٍ من أسفار الدنيا بغير زاد، ندم حيث يحتاج إلى الزاد فلا ينفعه الندم، وربما هلك، فكيف بمن رحل في سفر الآخرة مع طوله ومشقته بغير الزاد، فقد كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول وهو يتهجد الليل: آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق، فإذا شكا من قلة الزاد مَنْ زاده كثير، فكيف يقول من لا زاد له؟
يا جامع المال ما أعددت للحفر هل يغفل الزاد من أضحى إلى السفر
فأين العمل؟ وأين التزود للرحيل؟ يروي أحد أصحاب محمد بن واسع قال: لما ثقل محمد بن واسع وحضره الموت، كثر الناس عليه في العيادة، قال: فدخلت، فإذا قومٌ قيام وقومٌ قعود، وآخرون داخلون وخارجون، فأقبل عليَّ، وقال: أخبرني ما ينفعني هؤلاء عني إذا أخذ بناصيتي وقدمي غداً وألقيت في النار؟ سبحان الله العلي العظيم! ذلك دأبهم، وذاك تهجدهم وصيامهم وإخلاصهم واقتداؤهم وجهادهم، وبذلهم وإنفاقهم ودعوتهم، ومع ذلك يقول: ما يغني عني هؤلاء إذا أخذ بناصيتي وأخذ بقدمي غداً وألقيت في النار؟ ثم تلا هذه الآية {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41].
قال ابن المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، قال: كرر ذلك ستين مرة، وكان في خلوة أسمعه ولا يراني.
فيا أيها الموقنون بالرحيل! يا أيها الذين تعلمون أنكم قادمون على الرحيل! {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
ويا أيها الموقنون بالرحيل! يا أيها الإخوة! ويا أيها الأخوات! {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:55 - 58].
جهل أناسٌ حقيقة الدنيا وغاية وجودهم فيها، فتاهوا حيارى، وضاعوا في منحنيات الطريق، فلم يفيقوا إلا وملائكة الموت تسُل أرواحهم، عند ذلك تذكروا، والألم يعصر بالنفوس، والحسرة والندم تعصر القلوب، لقد تذكروا العمر المنقضي فيما لا يفيد ولا يجدي، فتأوهوا التأوه الذي لا يغني، وعلموا أنهم ضيعوا الحياة {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].(26/14)
كلام السلف عن زاد الآخرة
قال مجاهد: خطب عثمان بن عفان، فقال: ابن آدم! اعلم أن ملك الموت الذي وكِّل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك مذ أتيت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك، فخذ حذرك واستعد له، ولا تغفل فإنه لا يُغفل عنك، واعلم يا ابن آدم أنك إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها، لن يستعد لها غيرك ولا بد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكل نفسك إلى غيرك والسلام.
ويقول: أحمد بن إسحاق الحضرمي: سمعت صالحاً المري يتمثل بهذا البيت في قصصه:
وغائب الموت لا ترجون رجعته إذا ذوو غيبةٍ من سفرة رجعوا
قال: ثم يبكي ويقول: هو والله السفر البعيد فتزودوا لمراحله، فإن خير الزاد التقوى، واعلموا أنكم في مثل أمنيتهم، فبادروا الموت واعملوا قبل حلوله، ثم يبكي.
كانوا يستعدون للرحيل؛ فعن أحمد بن عبد الله، قال: قيل لـ حاتم الأصم: علام بنيت علمك؟ قال: بنيت علمي على أربع: على فرضٍ لا يؤديه غيري فأنا به مشغول، وعلمت أن رزقي لا يجاوزني إلى غيري فقد وثقت به، وعلمت أني لا أخلو من عين الله طرفة عين، فأنا منه مستح، وعلمت أن لي أجلاً يبادرني فأبادره.
كانوا يتزودون للرحيل، وكانت امرأة أبي محمد الفارس توقظه في الليل وتقول: قم يا حبيب، فإن الطريق بعيد وزادنا قليل وقوافل الصالحين سارت من بين أيدينا ونحن هنا ماكثون.
تزودوا أيها الأحبة! ولنتزود أيها الأخ المحب! ويا أيتها الأخت الصالحة! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فما أحوجنا إلى هذه التقوى التي هي نعم الزاد للراحلين! أيا أخيّ! وأيا أخيه! إن للعمر أيامه، وإن للحياة نهايتها، ولا ندري متى تنقضي أيام العمر ومتى تبلغ الحياة غايتها.
إن الموت حقيقة لا يكابر فيها مكابر ولا يجادل فيها ذو العقل؛ لأن الموت مشاهدٌ مكرور، وإن كان الناس عنه غافلون أو متغافلون، ومع ذلك فكل حيٍ سبيله الموت والرحيل عن هذه الحياة.
يا أخيّ! ويا أخيه! نحن قومٌ مسافرون، والطريق طويل، والعقبات كثيرة،، فلنتزود لآخرتنا من دنيانا، ولا تلهنا هذه الدنيا عن غايةٍ، فنضل عن الطريق.
يا أخيّ! ويا أخيه! فلنتزود بتقوى الله، فإنه زادٌ سيصبح ثمنه غالياً، وترتفع سوقه، ويربح طالبه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
يا أخيّ! ويا أخيه! لا ألفينك أو تلفيني وقد انقضت حياتنا، وحان حيننا، وولت عنا الدنيا مدبرة، ونظرنا إلى ماضي أيامنا، فإذا بنا نشاهد ماضياً أليما، وأياماً سوداء قاتمة قضيناها في عصيان رب العالمين، وقد خدَعَنا من الحياة مظهرنا، وغرنا من الحياة زخارفها
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
المبادرة لا بد منها قبل حلول الأجل، وإننا مهما لهثنا، ومهما ركضنا، ومهما جمعنا، ومهما أسرعنا، فلن تنتهي الأشغال، ولن نبلغ الآمال، وستموت النفوس بأناتها وحسراتها، ما لم تكن مشغولة في طاعة الله، أوصى الشريف المحدث الرحال أبو محمد جعفر بن محمد العباس الذي توفي في عام (598هـ) أوصى أن يكتب على قبره: حوائج لم تقض، وآمالٌ لم تنل، وأنفسٌ ماتت بحسراتها.
إذاً فما الذي ينفعنا إلا عمل صالح ندخره للرحيل ونجعله الزاد، ونجعله سفينة النجاة في بحار الشهوات، في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟).
فلا ينفعك أيها الأخ! ولا ينفعك أيتها الأخت! لا ينفع أحدٌ من المال إلا ما قدم لنفسه وأنفقه في سبيل الله عز وجل، فأما ما أكله ولبسه فإنه لا له ولا عليه؛ إلا أن يكون فيه نية صالحة، وأما ما خلفه وتركه فهو لورثته لا له، وإنما هو خازن لورثته، فأما ما أنفقه في المعاصي فهو عليه لا له، وكذلك ما أمسكه ولم يؤد حق الله عز وجل فيه فهو عليه لا له.(26/15)
ما ينفع المرء بعد موته
إن الذي ينفعنا بعد موتنا أن نعمل عملاً صالحاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) ستنقطع هذه الأعمال بحلول المنايا والرحيل والآجال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له) وقال الإمام النووي: قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الإنسان ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه سبباً فيه، أي: الولد والصدقة والعلم، فإن الولد من كسبه، وكذلك العمل الذي خلفه من تعليمٍ وتصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي في الوقف، وإن مما ينفعك بعد موتك وما بعد الرحيل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث قتادة: (خير ما يخلف الرجل من بعده ثلاث ولدٌ صالح يدعو له، وصدقةٌ تجري يبلغه أجرها، وعلمٌ يعمل به من بعده) رواه ابن حبان، وقال صلى الله عليه وسلم (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته، علماً علمه ونشره، أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة.
أيها الأحبة! ما دام الواحد كما أخبر صلى الله عليه وسلم ينتقل من هذه الدنيا ويتبعه ثلاثة ماله وولده وعمله، فيرجع المال والولد، ولا يبقى إلا العمل، فعلينا أن نخلص لأنفسنا.
قبل أن تكون مخلصاً لأصدقائك، وقبل أن تكوني مخلصة لصديقاتك، فلنري أنفسنا الإخلاص لأنفسنا، ولننقذ أنفسنا قبل أن ننفع غيرنا، ولنسع في فكاك رقابنا من النار قبل أن نفزع لغيرنا من الخلق، ألا وإن كل واحدٍ منا على خطر، فلنبادر بأن نقدم لهذه الأنفس عملاً صالحا قبل أن يأتي يومٌ لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً.
مضى ما مضى، وانقضى ما انقضى، وبقينا فيما نستقبل
فات ما فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها
إذا كنا أمضينا بالأمس في إساءة ومعصية.
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة فثنِّ بإحسانٍ وأنت حميد(26/16)
قصيدة مؤثرة
ويا أيها المسلم! أعيد عليك قصيدة قد قلتها من قبل، وليست لي، وإنما نقلتها لأحد السالفين، وهي مؤثرة وأي مؤثرة.
خل ادكار الأربع والمعهد المرتبع
والضاعن المودعِ وأدِ عنه ودعِ
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا
ولم تزل معتكفا على القبيح الشنعِ
كم ليلةٍ أودعتها مآثماً أبدعتها
لشهوةٍ أطعتها في مرقدٍ ومضجعِ
وكم خطىً خطفتها في خزيةٍ أحدثتها
وتوبة نكثتها لملعبٍ ومرتعِ
وكم تجرأت على رب السماوات العلا
ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي
وكم غمطت بره وكم أمنت مكره
وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقَّعِ
وكم ركضت في اللعب وفهت عمداً بالكذب
ولم تراعِ ما يجب من عهده المتبعِ
فالبس شعار الندمِ واسكب شآبيب الدمِ
قبل زوال القدم وقبل سوء المصرعِ
واخضع خضوع المعترف ولذ ملاذ المقترف
واعصِ هواك وانحرف عنه انحراف المقنعِ
إلام تسهو وتني ومعظم العمر فني
فيما يضر المقتني ولست بالمرتدعِ
أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط
ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي
ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلصِ
وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى
واخشي مفاجاة القضا وحاذري أن تخدعي
وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى
وأن مثواك غدا في قعر لحدٍ بلقعِ
آه له بيت البلا المنزل القفر الخلا
ومورد السفر الألى اللاحق المتبع
بيتٌ يرى من أودعه قد ضمه واستودعه
بعد الفضاء وسعه قيد ثلاث أذرعِ
لا فرق أن يحله داهيةٌ أو أبله
أو معسرٌ أو من له ملكٌ كملك تبعِ
وبعده العرض الذي يحوي الحيي والبذي
والمبتدي والمحتذي ومن رعى ومن رعي
فيا مفاز المتقي وربح عبدٍ قد وقي
سوء الحساب الموبقِ وهول يوم الفزعِ
ويا خسار من بغى ومن تعدى وطغى
وشبّ نيران الوغى بمطلع أو مطمع
يا من عليه المتكل قد زاد ما بي من وجل
لما اجترحت من زلل في عمري المضيعِ
فاغفر لعبدٍ مجترم وارحم بكاه المنسجم
فأنت أولى من رحم وخير مدعوٍ دعي
فأسأل الله أيها الأحبة! أن يمن علينا بالرحمة، أسأل الله أن يوقظنا من الغفلات، أسأل الله أن يوقظنا من القيل والقال، والكلام في الغادين والرائحين، لقد شغلنا بالبشر عن أنفسنا، وشغلنا بعيوب الناس عن عيوبنا، وشغلنا بأحداثٍ حولنا عن حدثٍ خطيرٍ يهمنا وهو رحيلنا، نسأل الله أن يستعملنا في طاعته، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله، قيل: وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه إلى عملٍ صالح، ثم يتوفاه عليه) نسأل الله أن يوفقنا إلى عملٍ صالح، وأن يتوفانا على عملٍ صالح على أحسن حالٍ ترضيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة! يقول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14 - 15] ونحن في هذا المقام المبارك الطاهر نجمع بمنٍ من الله وكرم، بين حلقة أو روضة من رياض الجنة وهي ذكر وصلاة فريضة، وانتظار صلاة بعد صلاة، فإذا أتتمناها ببذل في سبيل الله، فلعل ذلك مما نعده للرحيل، وإني أدعوكم بما أوجب الله علينا من الحقوق لإخواننا في أموالنا أن نبذل لهم ما يسر الله من الصدقات والزكاة وأحبابنا أعضاء الهيئة العليا لمسلمي البوسنة والهرسك على الأبواب سيجمعون تبرعاتكم لإخوانكم المسلمين، فلا تظنوا أن القضية انتهت، وإن كان القتال وما أصاب القوم من الجراح والآلام والقروح من أجل المحافظة على الدين والمساجد والمعتقد، فإنهم بحاجة الآن إلى من يعلمهم العقيدة الحقة، وإلى من يبني مساجدهم، وإلى من يداوي مرضاهم ويعالج جرحاهم، فهم أيضاً في حاجة لا تقل عن حاجتهم الأولى إبان المعارك الطاحنة، لذا أيها الأحبة! أدعوكم ونفسي إلى البر والصدقة، وأظن أن الإخوة منسوبي الهيئة العليا لمسلمي البوسنة والهرسك على الأبواب، فجودوا وابذلوا لإخوانكم، أسأل الله أن يجعل ذلك ستراً لنا ولكم عن النار يوم القيامة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(26/17)
الأسئلة(26/18)
طرق الاستعداد لوقت الرحيل
السؤال
ما هي الطرق السليمة للاستعداد لوقت الرحيل إلى الله عز وجل؟
الجواب
معلومٌ أيها الأحبة! أن المسلم لا يدري متى أجله، ولكن إذا دنا الأجل دنواً بيناً، فله علامات، ولكن لنعلم أن هناك علامات جلية وواضحة وهناك أمارات، فمن ذلك بلوغ الستين (قد أعذر الله إلى امرئٍ بلغه الستين من عمره) كما في صحيح البخاري، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي بين الستين إلى السبعين وقليلٌ منهم من يجاوز ذلك) فالذي بلغ الستين أو السبعين هو يمشي حقيقة في الفائدة، أما رأس المال فقد استوفاه، هو ميتٌ يمشي على وجه الأرض، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وكما يقول القائل:
إذا الرجال ولدت أولادها
وأصبحت أسقامها تعتادها
وأنهكت من مرضٍ أجسادها
تلك زروعٌ قد دنا حصادها
فإذا رأى الإنسان مثل هذه العلامات الطبيعية، فلاشك أنه يعد نفسه في عداد المقبلين على الآخرة، ومن المؤسف أنك ترى أقواماً كباراً في السن كما يحدثنا الإخوة وخاصة الذين يعملون في الخطوط الجوية، يقولون: كم رأينا أناساً قد جاوزوا الستين وجاوزوا السبعين، والواحد منهم بعد أن بلغ ما بلغ من العمر، والمفترض منه أن يقبل على المسجد وعلى الركوع والسجود وتلاوة كتاب الله وانتظار الصلاة بعد الصلاة، تجده يعود في مراهقة مزعجة في آخر حياته، فيقضي حياته بين بومباي ومانيلا ودول أخرى يقضي عهراً وفساداً ومصائب، وكثيراً منهم من يعود محمولاً في تابوتٍ ليحدث أو يحكي قصة رحيلٍ سيئة مخزية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كذلك يعلم الإنسان إذا حل به مرضٌ في الغالب أن صاحبه لا يشفى منه، هذه من دلائل أن الإنسان سوف ينتهي به الأمر إلى الموت، فلا بد أن يستعد ولا ينزعج للقاء الله عز وجل، بل ربما بعض الذي يصابون بمرضٍ في الغالب ينتهي بأحدهم إلى الموت، إذا علم بذلك أن تلك فرصة أن يعلم، أي الخير هو أم هذا الذي هو سادر في شهواته وغفلاته وملذاته ومعاصيه، ثم يأتيه الموت على أخبث حالٍ تخزيه عند الله يوم القيامة؟ والناس يبعثون على ما ماتوا عليه، فربما كتب الله لبعض الناس مرضاً قبل موتهم بأيامٍ أو أشهر ليكون لهم عبرةً وعظةً واستعداداً، يوصون فيه ويردون المظالم ويتوبون إلى الله، ويجتهدون في الطاعات، فتكون نهاية حسنة مع أن هذا المرض لا يزال بأحدهم حتى يخرج من الدنيا وما عليه خطيئة، وربما كانت له المنزلة من الجنة لا يبلغها بعمله، فيشدد عليه البلاء حتى يبلغها بما ابتلاه الله به.
أيها الأحبة! فلنحرص دائماً على الاستعداد لهذا الموت، لأننا نموت في كل ليلة {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:42] فأنتم هذه الليلة سوف تموتون، وكلنا سنموت، ولكن أرواحاً تسرح، وأرواحاً تعود من جديد إلى أجسادها، فعلينا أن نستعد لذلك، وخير استعداد للموت هو البراءة والتوبة من السيئات والمنكرات، والاجتهاد في فعل الواجبات، وكما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) لا نريد من كثير عمل، أولاً ترك المحرمات وفعل الواجبات، ثم إذا أردت أن تنال مزيداً من القربى عند الله: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به الخ) فأول قربة البراءة من المحرمات والاجتهاد في الواجبات والطاعات يا أخي المسلم! وحينما نتكلم عن الاستعداد للرحيل، فليس ذلك بدعوة إلى أن يترك الإنسان مكسبه ومعيشته وعمله الذي يؤجر فيه، لأن الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، والذي يسعى على أولاده يطعمهم من الحلال، له بكل ما يطعمهم من ريالٍ أو درهمٍ حسنات، كما جاء في الحديث: (إنك ما أنفقت نفقة تبتغي بها وجه الله، حتى ما تضعه في فيّ امرأتك إلا كتب لك به الأجر) فذلك من الاستعداد للرحيل، لا نظن أن الاستعداد للرحيل الاعتكاف في الزوايا والصوامع والتكايا والأربطة، لا نظن أن الاستعداد للرحيل هو أن يبقى الإنسان متسولاً من الشحاذين، ويقول: أنا مستعد، لا، الاستعداد للرحيل أن تكون قوياً في دينك، قوياً في دعوتك، قوياً في طاعتك، قوياً في دنياك أيضاً: (والمؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف).(26/19)
علامات الموت
السؤال
هل للموت علامات؟
الجواب
نعم، إذا نزل بأحدٍ الموت، فمن علاماته أن يشخص بصره، وربما فغر فاه، ومالت أرنبته -أرنبة الأنف- وبردت قدماه، وربما بعضهم يسمع لصدره شيء من الحشرجة أو الشهيق وغير ذلك، فكلها من العلامات الجلية، إذا نزل الموت يعرف بعلاماته، برود القدم؛ لأن الروح تنزع من القدم، ثم من الساق، ثم من الفخذ، ثم من الجوف، ثم يكون في الذروة يكثر الشهيق والزفير والحشرجة في الصدر، لأنها مرحلة النزع الأخيرة، ثم يشخص البصر لأن الروح تخرج مع الأنف، يقال: مات حتف أنفه، لأن الروح تخرج مع الأنف ثم يتبعها البصر، فنسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.(26/20)
إمكانية ترك المعاصي وطريق ذلك
السؤال
سائل يقول: أنا شابٌ أحب الصلاح والالتزام، ولكني لا أستطيع ترك المعاصي ولا أقدر على الالتزام بالطاعات كلها، فما الطريق لذلك؟
الجواب
أما دعوى عدم الاستطاعة على ترك المعاصي، فلا أظنها دعوى صادقة، ولو قال السائل مع حبه للالتزام: أنه يستسلم للمعاصي، لكان صادقاً، أما قضية أن الإنسان لا يستطيع، والله لو أن أحداً أتاك ليأخذ من جيبك ريالاً لدافعته مدافعة الأبطال الأشاوس، فلن تكون عاجزاً عن مدافعة شيطانك وهواك كما تقدر على دفع عدوٍ حسيٍ ولو كان قوياً جداً، فقضية عدم الاستطاعة في ترك المعاصي ليست بصحيحه، ولكن أنا أقول لك: كيف تستطيع أن تترك هذا؟ اترك الأسباب التي توصلك أو تذكرك أو تشغلك بذلك، فمثلاً: بعض الناس تجده يسافر مع رفقاء السوء، ثم يذهبون إلى مكان دعارة أو فساد، ثم يقول: أنا ما استطعت أن أمسك نفسي عن الزنا، لو أردت أن تمسك نفسك عن الزنا ما صاحبت جلساء السوء، ولو أردت أن تمسك نفسك عن الزنا ما ذهبت معهم إلى هذا المكان، تجد رجلاً يسبح في البنزين، ثم يقول: عجباً كيف أكون قابل للاشتعال، أنت تجمع على نفسك كل العناصر التي تنتهي إلى المعصية، ثم تقول: لا أستطيع أن أمسك نفسي عن المعاصي! لا.
أنت تستطيع أن تصبر نفسك عن المعصية بمجاهدة النفس وإبعادها عن مكان المعصية، وجليس المعصية، وزمان المعصية، وظرف المعصية، وكل ما يتعلق بالمعصية، وحينئذٍ تكون قادراً بإذن الله عز وجل، نعم يجتمع في العبد أن يكون عاصياً وفي نفس الوقت أن يكون محباً للأخيار، قد يقول قائل: كيف هذا يحب الصالحين ولا يمسك نفسه عن المعاصي؟! بل يجتمع في الإنسان خيرٌ وشر، ويجتمع فيه إخلاصٌ ونفاق، ويجتمع فيه حقٌ وباطل، ويجتمع فيه خطأ وصواب، والذين ينظرون إلى الناس أو الدول أو المجتمعات أو الأفراد إما خير لا شر فيه، وإما شر لا خير فيه، فهم يجحفون أو ينافقون، ولكن العدل أن ترى في كل نفسٍ، وفي كل مجتمع، وفي كل دولة، وفي كل كبيرٍ وصغير، فيهم خير وفيهم شر ويتفاوتون بين القلة والكثرة في الخير والشر.
فهذا الأخ الحبيب نقول له: جزاك الله خيراً، ونسأل الله أن يجعلك مع الصالحين بما أحببتهم، والمرء مع من أحب، كما جاء الرجل وسأل النبي، وقال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب يوم القيامة) والآخر الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: ما أعددت كثير عملٍ، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت يوم القيامة) {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22] المرء مع من أحب يوم القيامة، فمن أحب الصالحين يكون معهم بإذن الله، ولكن لا ينال درجاتهم، وربما يحال بينه وبينهم إذا هو اقترف من الفواحش والآثام والكبائر والمنكرات ما يمنعه من البلوغ واللحاق بهم أو بمنازلهم ودرجاتهم.
فيا أخي الحبيب! ما دمت محباً للخير وأهله، فجاهد نفسك، واعلم أنها لذة منقضية ويبقى إثمها، ولو صابرت النفس على الطاعة، لوجدت أنه تعبٌ قليل ويبقى أجره وثوابه بإذن الله عز وجل.
ثم اعلموا أيها الأحباب! أن كثيرً من الشهوات الموجودة يستطيع الإنسان أن يدفعها بالحلال، وأغلب شهوات الشباب اليوم هي شهوات في الغرائز والجنس، وتلك لا أسهل من دفعها بالزواج، ولكن الشباب، أو بعض الشباب أو بعض الناس هم الذين يصنعون القيود والأغلال والسلاسل على أنفسهم، فيشترط الواحد مئات الشروط في الزوجة التي يريد أن يتزوجها، وربما الفتاة تشترط مئات الشروط في الشاب التي تريد أن تتزوجه، وحتى يجد الفتى فتاته، وحتى تجد الفتاة فتاها، بين تلك الفترة إلى الزواج ربما البعض قد أشغل نفسه بمعصية أو زل زلة في معصية ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولو أنه بادر بسد النفس وحاجتها بالحلال، حتى وإن كان ما سد به النفس أقل مما كان يرجوه ويتمناه من أجل أن يعف نفسه عن الحرام، لكان معاناً من الله، وكما في الحديث: (وثلاثة حقٌ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء) فالناكح الذي يريد العفاف أظنه لا يتردد أن يتزوج فتاةً ولو مطلقة أو كبيرة في السن، ولو فتاة عندها مشكلة من المشكلات، المهم أن يحصن نفسه، وسيجعل الله له بها قبولاً وعفة وإحصاناً، وإذا منَّ الله عليه بغنىً وسعة ثم رغب في أن يستزيد، فله أن يستزيد إذا كان قادراً على الباءة بشروطها، والعدل بحقوقه وواجباته، أما أن الإنسان يقول: لا أريد إلا كذا من الأوصاف، وحتى الآن لم أجد هذه الأوصاف إذاً لا بد أن أتمتع بالسفر والعبث والزنا والصور والأفلام وغير ذلك، نقول: لا يا أخي الحبيب! املأ نفسك بالحلال الذي شرعه الله وستجد ما يغنيك به الله عن الحرام.(26/21)
ضوابط مجالسة الصالحين
السؤال
إنسانٌ يمنع أخاه من مجالسة الصالحين وحضور المحاضرات والدروس مع أنه على خيرٍ وعلى دين، فما العمل في ذلك؟
الجواب
على أية حال يا أحبابنا! ونقولها بصراحة: لعل حادث تفجير العليا في مدينة الرياض كما علمت ونقل إلي أن أناساً اضطربوا، ومنهم من نكص على عقبيه، ومنهم من حلق لحيته، ومنهم من تراجع عن مجالس الصالحين، وآباء حذروا أبناءهم، فنقول لهؤلاء: لا، لا، لا، ليس هذا هو الحل، نعم، نحن نبرأ إلى الله عز وجل من منهج التكفير، ونبرأ إلى الله عز وجل من هذه الفعلات القبيحة الشنيعة، ونبرأ إلى الله من هذا الأسلوب، ونبرأ إلى الله من كل ما يخالف الشرع والحق والهدى الذي عليه كبار علمائنا الأجلاء، ندين ديانة لله عز وجل بحبهم والثقة بمنهجهم ولا نتزحزح عن ذلك أنملة، لكن في المقابل يأتي أقوام يقول لك: إذاً الحل أن نحذر من التجمعات، نحذر من جلوس الشباب مع بعض، نحذر من رحلات الشباب إلى العمرة مع بعض، نحذر من رحلات الشباب إلى الحج مع بعضهم، نحذر من اجتماع الشباب في المساجد لقراءة كتاب الله أو الذكر أو الحلقات.
لا، لا، لا، إذا أخطأ طبيبٌ فلا يمنع الطب كله، وإذا أخطأ رجل أمنٍ فلا يلغى الأمن كله، وإذا أخطأ رجل حسبة فلا تلغى الحسبة كلها، وإذا تصرف شابٌ وإن كان مظهره مظهر التزامٍ بالسنة، ومنهجه منهجٌ منحرف، فإن ذلك لا يعطل أو يعرقل في مسيرة الدعوة شيئاً، الدعوة إلى الله بأساليبها الشرعية، وضوابطها المرعية، وآدابها، علينا أن نستمر فيها، الكتاب النافع قراءة وتوزيعاً، الشريط النافع تسجيلاً وتوزيعاً، الموعظة، الرسالة.
كل أساليب الدعوة لا بد أن تستمر كما هي، وألا تكون سبباً في النكوص والتراجع، فلنحذر من أن تكون سبباً في المشكلات أو المفاجئات، أو الأفكار المنحرفة، أو المناهج المستوردة، علينا أن نحذر منها، لكن ليس الحل أن نغلق كل خير بنيناه ونقول لا فائدة، لا، يا أحبابنا! ماذا نعمل في مواجهة الغزو الفضائي؟ الآن الهواء الذي نتنفسه ونتنقل فيه مملوء بالصور والكلمات والأصوات، سبعة وأربعين قناة فضائية باللغة العربية تبث مع مئات القنوات التي تبث باللغات الأخرى الأجنبية، نحن مستهدفون، وهي موجهة إلينا في ظل هذا الزخم الهائل من الحرب الإعلامية عبر المجلات والدشوش والأطباق والمستقبلات الفضائية، نأتي مع هذا ونقول: الحل أن نغلق مجالسنا، ومكاتبنا، وحلقات القرآن، واجتماعات الشباب ولقاءاتهم، لا، فالحل هو أن نحذر من المسالك الجائرة والمناهج المستوردة والأفكار المشبوهة، وأن تستمر الدعوة أصلب عوداً وأقوى مكانة وقدماً راسخةً بإذن الله عز وجل، وأما هذا الأخ الصالح الذي يحذر أخاه من مجالسة الصالحين، فنقول: يا أخي الحبيب! والله لئن جالسهم فهو في خير، ولو جالس الأشرار، لربما تمنيت أن يموت ولا رأيته على بعض الأحوال.
أب كنت أعرفه وكان له ولد، يقول: كنت لا ألتفت لتربيته والعناية به، قال: فما كان من فترة إلا وتأتيني الأخبار عن فساده، ولواطه، وانحرافه، ومخدراته، قال فسألت الله إن كان في سابق علمه أن ليس له هداية أن يأخذ روحه، قال فما جاوز أسبوعاً إلا ضربته سيارة وتوفي.
والله إني كنت معه في المقبرة وهو يقول: الحمد لله الذي أخذه، فيا أخي الحبيب! هل أنت تندم يوم أن يصحب أخوك جلساء صالحين يدلونه إلى الهدى؟ نعم أنا مع الذين إذا كان لأحدهم ولد أو أخ لا تسلم ولدك أو أخاك لأي جليس، إذا جاءت مجموعة شباب يزورون ولدك، فتقول لهم: أهلاً وسهلاً بالشباب، اجلسوا، ماذا عندكم يا إخواني؟ أين الكتب التي تقرءونها؟ ماذا تسمعون من الأشرطة؟ اخرج معهم في رحلة، إذا وجدت القوم عندهم أسرار ولف ودوران وأشياء مخبئة، فاعلم أنهم كما قال ابن مسعود: إذا رأيت القوم يتسارون في أمر دينهم، فاعلم أنما يؤسسون بدعة، حينئذٍ اسحب أخاك وابحث له عن جلساء طيبين غير هؤلاء، لأن دين الحق واضحٌ كالشمس، لا يحتاج إلى وزوزة أو سرية أو كواليس أو خنادق أو أماكن خفية، أما الذي عنده بدعة أو الذي عنده طريقة تخالف العلماء وتخالف الدعاة، وتخالف ما شرع الله من الدعوة إليه، فلا شك أنه سيضطر إلى السرية، وسيضطر إلى مثل هذه الأساليب، لكن نقول: إذا كنت مشفقاً خائفاً على أخيك، فليس الحل هو منعه، بل الحل أن تدخل في وسط زملائه وتنظر ماذا يقرءون وماذا يصنعون وأين يذهبون ومن يزورون وبمن يتأثرون؟ فإذا وجدتهم على منهجٍ صحيح، فالحمد لله، وإن وجدتهم على بدعة أو شرٍ، أو تفجير أو تكفير، أو عدوان أو ضلالة، فعليك أن تسحبه منهم ولو بلغت لحاهم ما بلغت، ولو بلغت ثيابهم ما بلغت، ولو بلغت أقوالهم ما بلغت.(26/22)
دور الأسرة في تربية وتوجيه النشء
أهم خطوة في إصلاح المجتمع هي تربية النشء وتحصينه، وهذه التربية هي مسئولية الأسرة، رجالاً ونساءً، فكل فرد راع ومسئول عن رعيته.
وفي هذه المحاضرة بيان لبعض ما يجب أن يحصن منه الأبناء، مع توضيح لكيفية معالجة المنكرات وأهمية وجود القدوة في البيت وغير ذلك.(27/1)
كيفية الحفاظ على المجتمع
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة في الله! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام الخالدة: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء المبارك بمنه وكرمه أن يجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، ويجعل تفرقنا من بعده معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
إنها لبادرة مباركة وليست الأولى ولن تكون الأخيرة، أن نرى أنديتنا تتميز بحمد الله عز وجل بالدعوة والتبني لأنشطة تربوية ثقافية فكرية نافعة تبني الخير والفضيلة في نفوس أبناء الأمة، وتحارب الشر والمنكر في صفوف أبناء الأمة.
ولا شك أن كل مجتمعٍ على وجه الأرض لا يستغني عن هاتين الخصلتين، لا يستغني عن الأمر بالمعروف، ولا يستغني عن النهي عن المنكر، لا يستغني عن الدعوة إلى الخير، والتشجيع عليه، والحث على البذل فيه، ولا يستغني عن مقاومة رياح التغريب والفساد والشر التي أصبحت حرباً ضروساً شعواء واضحة بينة، وصلت كثيراً من المجتمعات، بل ودخلت كثيراً من البيوت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد عُقِدت ندوات، وأقيمت محاضرات، وقيلت خطب، وكُتِبَت بحوثٌ وكلمات، وصاح المخلصون، ونادى الغيورون يحذرون ويقولون: إننا نواجه خطراً لم يزحف على الأرض، ولكنه جاء عبر السماء، هذا الخطر الذي لا يمر يوم من أيامنا، إلا وتزداد المشكلة تعقيداً في مواجهته، لقد كان الشر والفساد والبدع والانحراف يمكن مقاومتها فيما مضى بأن يغلق الواحد داره على نفسه وأهله، وكان بوسع الواحد أن يكون بمنأىً وفي بُعدٍ عن مثل هذه الشرور والآثام، أما والحال هذه في عصرٍ أصبح العالم فيه قرية واحدة صغيرة، فالذي في الصين يحدث الذي في طنجة، وكأنما يهمس في أذنه ليسمعه، والذين في أدنى الأرض يتكلمون مع الذين يحلقون في أعلى السماء، وأصبح الخبر يقع شمالاً فيدري به أهل الغرب في ثوان، ويقع الأمر في الجنوب فيعلم به أهل الشمال في دقائق، هذا واقع يحتاج إلى مزيد من البحث والفكرة، ويحتاج إلى مزيد من الوعظ والنصح والتفكير والتدبر في كيفية محافظة المجتمعات المتميزة بالفضيلة والحياء والعزة والكرامة والتدين والاستقامة، كيف تحافظ هذه المجتمعات على دينها وقيمها ومبادئها وأسسها في ظل هذا الاتصال الخطر.
الجو الذي نعيش فيه مملوء بالصور والكلمات، ولا أدل على ذلك من أن أدنى وسيلة وهي ما يسمى بالدش يُنصب في سطح دارٍ فيترجَم لك هذا الهواء الذي تتنسمه وتعيش فيه وتتقلب فيه؛ يترجَم لك هذا الأثير إلى صورٍ وكلماتٍ تُبَثُّ وتُرْسَل بل ويُغْزَى بها من كثيرٍ من أقطار العالم، كان الناس يعرفون الحرب قنبلة تُقْذَف من طائرة، وكان الناس يعرفون الحرب دبابة تزحف على الحدود، وكان الناس يعرفون الحرب جيوشاً جرارة تهز الأرض هزاً حتى تدخل المدن، أما والواقع اليوم قد اختلفت فيه صور الحرب اختلافاً جذرياً، فأصبحت شعوبٌ تستسلم للحرب وتستقبلها، وتعانق أعداءها، وتحيي قاتليها، وتصافح الذين يهدمون العفة والكرامة في بيوتها من حيث لا يشعرون، وذلك عبر هذه الصور وهذه الكلمات التي تبث عبر الأثير.
فأسألكم بالله أيها الأحبة، قولوا لي كيف نحافظ على نشئنا؟ كيف نحافظ على أولادنا وبناتنا؟ كيف نحافظ على المراهقين والمراهقات؟ كيف نحافظ على الشباب والشابات؟ أي وسيلة ناجعة تجدي؟ أنجعل رءوسهم في الرمال ونقول لهم: لا تبصروا، لا تنظروا، لا تسمعوا، لا تتكلموا، لا تختلطوا؟! هذا ليس بحل؛ وإنما الحل أيها الأحبة والعلاج هو: دور الأسرة في تربية النشء.(27/2)
التربية حقيقة النجاح والنجاة
إن من المسلمين الذين ولدوا في الغرب في أمريكا وفي أوروبا، وفي كثير من الدول الكافرة، التي يُعَدُّ العهر فيها أمراً طبيعياً، ويُعَدُّ الانحراف فيها أمراً ليس بغريب، ويُعَدُّ الفساد فيها أمراً يُستنكر على كل من بلغ سناً معينة ولم يرتكبه ولم يفعله، إن هناك بيوتاً، وأولاداً، ونشئاً، وأسراً، ورجالاً، ونساءً يرون الصورة النكراء العارية فيغض الواحد نظره وبصره عنها دون حاجة إلى واعظ يعظه، ودون حاجة إلى ولي يرشده أو يعده أو يعاقبه، ويرى أحدُهم الفساد والشر والمنكر والبلاء فيقوم في قلبه قائم المراقبة والخوف والخشية والتقوى لله عز وجل فينحرف وينصرف ويبتعد وينأى بنفسه عن المنكر، دونما حاجة إلى محتسبٍ أو رقيبٍ، أو شرطيٍّ أو حسيب، أو غير ذلك.
كيف وصل هؤلاء إلى هذه المرحلة؟ كيف بلغوا هذا النجاح؟ وأسميه نجاحاً لأنه ليس النجاح أن يكون عندك ولدٌ لا يوجد عنده الشر والمنكر والفساد؛ لكن لو خلا به أو حصل له أو تيسر له لم يتردد فوراً في اقترافه ومعاقرته وفعله، بل النجاح هو أن يكون لديك من الولد والنشء من لو أحاطت به الفتن من كل جانب وتزخرفت له المغريات، وفُرشت أمامه الفتن، وحلَّقت من فوق رأسه الشهوات، ثم غض بصره وصرف نفسه وقال: معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين، هذا هو النجاح الحقيقي.
ولا شك أن من العصمة ألا يقدر العبد على معصية، من العصمة أن يعجز العبد عن معصية ربما يريدها وربما يشتهيها وربما يتمناها، ولكن فوق ذلك كله أن تكون المعصية قريبة وهو يصرف نفسه عنها ويقول: معاذ الله معاذ الله {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28] كيف يكون هذا؟ بشيء واحدٍ وهو الذي ثبت بالتجربة والدليل، وقبل ذلك بالنص من الكتابة والسنة جدواه ونجاحه وعاقبته وفائدته ألا وهو: التربية الصالحة.(27/3)
رحلة تحصيل الولد وأهمية الحفاظ عليه
إنها رحلة طويلة يوم أن يسعى الواحد منا ليحصِّل نشئاً وذرية وولداً، وكلكم مر أو سيمر بهذه المرحلة.
مَن الذي تزوج ولم يمر بهذه الرحلة الطويلة؟ أولاً: الهم والفكر والسهر الليالي الطوال في اتخاذ القرار.
- ثم بعد ذلك: جمع المال، وما كلٌّ تيسر له المال حتى يتزوج به، فهذا يشتري صالون ويستدين سيارتين، ويستدين ثلاث (مونيكات) ويستدين من الناس، ويقترض من الناس، ويبقى زمناً يجمع المال، ويدخر من المرتب، ويحرم نفسه من بعض الأشياء، حتى يجمع المهر.
- ثم بعد ذلك: رحلة في البحث عن المرأة، وبيتٌ يقبل، وبيتٌ يرفض، وبيتٌ بشروط، وبيتٌ لا يوافق، وبيت كذا، إلى أن يصل بيتاً يعطونه ويكرمونه ويوافقون على تزويجه.
- ثم بعد ذلك: وليمة ومناسبة، وكرامة وعرس وحفلة.
- ثم بعد ذلك: بناءٌ بالمرأة ودخولٌ بها.
- ثم إنفاق عليها، وخوفٌ عليها، وإشفاق عليها.
- ثم تبدأ عليها علامات الحمل، ويبدأ الإنسان يحمل في فكره بقدر ما تحمل المرأة في جوفها، إن كانت تحمل جنيناً ينمو، فهو يحمل في فكره هماً ينمو، والله {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] ولكن لا شك أن مَن تزوج فقد ركب البحر، ومن وُلِد له فقد كُسِر به، ليست المسألة سهلة، هم الذي لا زوجة له ليس كهم المتزوج، وهم المتزوج الذي عنده أولاد ليس كهم المتزوج الذي لا ولد له، ومن تزوج ورزق الولد عرف ذلك، ماذا بعد هذا؟ - إنفاق على المرأة، وعلاج، وفتح ملفات ومراجعات دورية، إلى أن يبلغ الجنين تمامه ويصل الأمر إلى غايته.
- ثم يولد هذا المولود، والفرحة والبشائر والعقيقة.
- ثم التربية والحليب، واللباس والدواء، والطعام والإنفاق، ويستمر الإنسان يصرف ويسهر الليالي الطوال على هذا الطفل؛ ما الذي أصابه؟! لم يأخذ رضعته، لم يشرب حليبه، ما أكل أكله، فيه بردٌ، فيه زكامٌ، فيه صداعٌ، فيه بلاءٌ ثم لا تزال أنت تعاني في تربية هذا الولد، والرحلة قد بدأت من قرار الزواج، ولا تزال في الرحلة، رحلة النشء هذه.
- ثم يكبر الولد، ينمو رويداً.
- ثم تدخله المدرسة وتعتني به.
- ثم يأتي كثيرٌ من الناس إلى قرارٍ سفيه، قرارٍ حقير، قرارٍ تافه، قرارٍ ضار، قرارٍ مهلك، قرارٍ مدمر، يقول: خذوا هذا الولد وافعلوا به ما تشاءون، طبعاً هو لا يقولها بلسان المقال، بل يقولها بلسان الحال، وما الحال التي يقال بها هذا الكلام؟ إنها حال الذي يقول: خذوا الولد يا أبناء الحارة وتحدثوا معه بما تشاءون وكيفما تشاءون، واسهروا معه إلى أي وقت تشاءون، وخذي الولد أيتها الشاشة وحدثيه بما شئتِ من الأفكار والأفلام والمسلسلات التي تعرض عبر القنوات، وخذوا الولد يا جلساء السوء، وقولوا وافعلوا وتصرفوا وتكلموا واذهبوا وروحوا واغدوا به كيفما تشاءون.
هذا حال كثيرٌ من الناس! أبعد هذه الرحلة الطويلة، تَدَيَّن المال، والزواج، والنفقة، والحمل، والولادة، والدواء، والغذاء، والكساء، ثم لما بلغ السن والغاية التي إليها مدى ما كان فيها يؤمل، لما بلغ هذه الغاية الجميلة التي يفرح الإنسان في بداية بلوغها أن يوجه الولد، أن يكون هذا الولد الذي أصبح خامة بيضاء، عجينة طرية، صفحة نقية، تقبل الكتابة بأي خط وتحفظ الفكرة بأي وجهة، وتقبل التوجيه على أي صورة؛ لما بلغت هذه المرحلة الذهبية من التقبل والاستجابة رمى بها عرض الحائط، وقال للمجتمع، وقال للقناة الفضائية، وقال للخادمة، وقال لجلساء السوء بلسان الحال لا بلسان المقال: افعلوا به ما تشاءون.(27/4)
عاقبة إهمال التربية في سن مبكرة
ثم بعد ذلك: إذا بلغ الولد ست عشرة سنة، أين هو؟ لماذا تأخر؟ لماذا يسهر؟ لماذا وقع في التدخين؟ لماذا فعل هذه المعصية؟ لماذا ارتكب هذا المنكر؟ لماذا لا يسمع كلامي؟ لماذا يعق أمه؟ لماذا يقطع رحمه؟ لماذا يرتكب المخالفات؟ لماذا فشل في الدراسة؟ لماذا أخفق في التربية؟ لماذا؟! أنت الذي جنيت، يداك أوكتا وفوك نفخ، (على نفسها جنت براقش) كما يقال، أهملته وتركته وضيعته في سن التوجيه والاستجابة والتأثر والتقبل، ثم بعد ذلك تقول: لماذا لم يخرج لي ولد متفوق؟ لماذا لم يكن على مستوىً لائق؟ لماذا لم يصاحب جلساء طيبين؟ لماذا لم يكن مع الأخيار والأبرار؟ أنت الذي ارتكبت هذا.
ولذا أيها الأحبة أقول: إن السياج المنيع والحصن الحصين للنشء إذا أردنا أن نفتخر به كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] يعني: في الجنة، {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] هذا أمر من أراده فعليه أن يعتني بالنشء من وقت مبكر.
يقول العوام: (البر في رجب) هذا مَثَل معروف عند العامة، إذا أراد أحدهم أن يحج يختار ذلولاً، ومن رجب يبدأ يغذيها، ويبدأ يعلفها، ويبدأ يعتني بها حتى إذا جاء قبل الحج بشهر أو شهرين أو شهر ونصف، بدأت رحلة الحج الطويلة، حينئذ يكون فيما مضى قد أعدها، (البر في رجب) يعني: رجب وشعبان ورمضان، ثم شوال وذو القعدة تبدأ رحلة الحج، إذاًَ ثلاثة أشهر قبل الحج وهم يعلفون الدابة، ثم في شوال وبداية الأشهر الحرم يبدأ رحلة الحج على هذه، فكذلك الذي يريد أن يلتفت إلى الولد لا يضيعه في فترة الأربع سنوات، والخمس سنوات، والتمهيدية، والروضة، والابتدائية، والمتوسطة، ثم إذا بلغ الثانوية وخاتمتها، أو بداية الجامعة، قال: هذا ولد عنيد، هذا ولد عاق، هذا ولد لا يسمع، هذا ولد لا يطيع، ما الذي صيَّره؟! ما الذي غيَّره؟! كان أبوك رجلاً عامياً لا يعرف إلا أن يصدر في المنحات، ولا يعرف إلا أن يسوق الأباعر، ولا يعرف إلا أن يبيع ويشتري في البهائم، ومع ذلك أخرجك وأنتجك أيها الرجل المكتسب القادر الذي تعتني بالأسرة، ما كان عند أبيك شهادة جامعية، ومع ذلك رباك تربية قوية وهو لم يفقه ولم يدرس في جامعة أكسفورد ولا في جامعات عالمية ولا محلية، وأنت يا من درست وعرفت وتعلمت القراءة والكتابة ما أنتجت وما خرَّجتَ ولداً صالحاً، نعم الهداية بيد الله، لكن للشيء أسبابه، إذا فعلت السبب حينئذٍ تقول: الأمر بيد الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:20] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد:7] نعم تقول هذا إذا بذلت غاية ما في وسعك من سببٍ وقدرة، أما أن تضيعه ثم تقول: ما كتب الله هذا، إذاً لا تتزوج وقل: ما كتب الله لي ولداً، ولا تَبْذُر وقل: ما كتب الله لي بُرَّاً ولا ثمرةً، ولا تفعل السبب وقل: ما كتب الله لي ربحاً ولا تجارةً، هذا ليس بصحيح.(27/5)
أهمية التربية الروحية ومكانتها
أيها الأحبة: لنحاسب أنفسنا على قضية النشء والتربية، إن من العار، والعيب أن نهتم ببيوتنا في الألومنيوم الموجود في النوافذ، والمجنو وكسرة المجنو والسنديان الموجودة في الأبواب، والموكيت والفرش والأثاث، أكثر من اهتمامنا بأولادنا، كثيرٌ من الناس لا يعدو غاية اهتمامه بولده أو بنته مسألة الطعام والشراب واللباس، أظن الذي عنده بهيمة لو اشتد البرد يُدْخِلها من الحوش إلى داخل البيت، وأظن أنه يعطيها ويسقيها ويعلفها صباح مساء فليس هذا بكثيرٍ على الولد بل هو من الواجبات الشرعية التي يحاسب عليها العبد عند الله عز وجل إذا فرط فيها وضيعها، ويؤجر عليها إذا بذلها محتسباً لله، لكن القضية هي قضية التربية، أسألك بالله إذاً ما هي الفائدة من الولد؟ ما هي الفائدة من أن يكون لنا عشرة أولاد أو ولدان أو ثلاثة أو أربعة، إذا لم يكن ولداً يرفع الرأس، إذا لم يكن ولداً ينفع الأمة، إذا لم يكن ولداً بركة على نفسه وأمه وأبيه وأخواته وأسرته ومجتمعه فما الفائدة منه؟ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
وبعض الناس نسأل الله أن يحفظه ويهديه يقول: الزمان تغير، الوقت اختلف، لا، نحن الذين اختلفنا وضيعنا أسباباً كان آباؤنا وأجدادنا قد أمسكوا بزمامها، وثبتوا وأحكموا خطامها، وقادوها بحزمٍ وجدٍ حتى بلغوا نتائج طيبة في أنفسهم وذرياتهم، أما نحن فقد غلبنا السهر، والتواكل، والاشتغال بالأصدقاء والشلات والاستراحات، والسهر من بعض الناس عند الدشوش والقنوات، وعند وعند، والمرأة المسكينة مسئولة بهؤلاء الأطفال، والأطفال متمردون على هذه الأم الضعيفة، ثم بعد ذلك إذا بلغ الولد -كما قلت- غايةً عظيمة من السن قال: هذا ولد ما نفعني؛ لأنك أنت الذي ضيعته، لا تعب الزمان، ولا تعب الدهر ولا الشهر، ولا الليالي والأيام، العيب فينا نحن:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا
وقد نهجو الزمان بغيرِ جرمٍ ولو نطق الزمان بنا هجانا
أقول: إن كثيراً منا ربما اهتم بالسيارة، تلمَّع يومياً وتمسَّح ويدفع للعامل مائة ريال مقابل تنظيف السيارة، والخادمة في المنزل تلمِّع الألومونيوم والأبواب والأثاث وراتبها ستمائة ريال، وبعض البيوت فيها المُزارع ويدفع له ثمانمائة ريال، من أجل نباتٍ في الأرض ربما غفل عنه، فعاد هشيماً تذروه الرياح، لكنه لا يدفع شيئاً من أجل التربية، يا رجل! ألف ريال ادفعها من أجل العناية بهذا الولد في الدروس التي تنفعه لمراجعة ما تناوله صباحاً في المدرسة، لمذاكرة دروسه، لاجتهاده، لتفوقه، يقول: لا، تكفي المدرسة، أنا لا يمكن أن أصرف أكثر من هذا، سبحان الله العلي العظيم! الباب والنافذة والأثاث والمزرعة والحديقة في المنزل ومسح السيارة، المجموع ربما يُنْفَق عليه ألفي ريال، لكن الولد لا تُنفق عليه؟! هذه مشكلة عظيمة!(27/6)
إهمال التوجيه سبب إخفاق في دراسة النشء
لماذا أخفق الولد؟! لأنك لم تبذل له غاية الاهتمام، وأنا أثبت لك الآن الواقع، لماذا كثير من أولادنا الآن لا يحب المدرسة بل يبغض المدرسة، ويكره المدرسة، وتجد بعض الصغار كما سمعنا من بعضهم يقول: أتمنى أن المدرسة تسقط، أتمنى أن المدرسة تقع.
يقول أحد الإخوة وهو مدرس: كنت في صغري إذا خرجت من مزرعتنا رأيت غرباناً تقف على جِيَف فيقول: كنت أقول: يا ليتني كنت غراباً ولا أذهب إلى المدرسة.
وهذا يتمنى أن تأتي صاعقة من السماء وتَهدم المدرسة.
وهذا إذا بلغ السادسة قال: خطُّوا خطين، ولن أكمل الدراسة.
وهذا إذا بلغ الكفاءة قال: ما عاد هناك أمل، ابحثوا لي عن أي وظيفة من هنا أو من هنا، المهم أنني لا يمكن أن أواصل.
لاحظوا: السبب واضح؛ السبب: أنه لا يجد كرامة وعزاً وفخراً في المدرسة، ولو كان من الطلاب الذين لهم التشجيع والكرامة والتأييد والمسابقة بالجواب، والثناء من المعلمين، لوجدت أنه يحب المدرسة، لكن إذا كنا نحن نهمله، ولا نعتني بواجباته، ولا نلتفت له، فإذا جاء في الفصل يسأل المدرس، فهؤلاء الطلاب يجيبون فرحين يرفعون أصابعهم، كلٌّ يقول: أستاذ! أستاذ! أستاذ! أنا الذي أجيب، وهذا الولد المسكين قد اختفى واحتجب بظهر زميله حتى لا يراه المدرس، فتُفَتَّش الكراسات والدفاتر فكلهم قد أجابوا إلا هو لم يُجِب، ويُشَجَّع القوم إلا هو يُهان، ويُفْخَر بالقوم إلا هو يُهْزَأ به، ويُجْعَل واقفاً أمام الجميع، عبرةً لكل متخاذلٍ متكاسلٍ ضعيف غبي لا يفقه ولا يفهم، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُهَزَّأ، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُهان، مَن الذي يحب كل صباحٍ أن يُثْنَى على غيره ويُذَم هو، أن يُمْدَح غيره ويُقَبَّح هو، أن يُكَرَّم غيره ويُذَل هو، ذلكم هو الولد الذي لم نلتفت له ولم نعتنِ بتعليمه، ولم ننتبه إلى ذلك، ثم بعد ذلك نقول: عجيب! الولد يكره الدراسة! فيقال: لا والله ستدرس والعصا على رأسك.
فيرد: لا أدرس، فيقال: إلا تدرس، وهروب من البيت، ثم جلساء، ثم تبدأ القضية وهي مشكلة وحلقة بدايتها: إهمال النشء.(27/7)
مكانة التربية في حياة النشء
وليست قضية النشء كما قلت آنفاً هي الدواء واللباس والغذاء والشراب وغير ذلك، لا، التربية مهمة جداً، إن الولد الذي نلبسه اليوم ثوباً جديداً سيتحول الجديد إلى ثوبٍ خَلِقٍ بالٍ بعد أسابيع، والذي نشبع بطنه اليوم سيجوع غداً، والذي يتضلع رياً من الماء العذب سوف يظمأ غداً، لكن الولد الذي نملأ دماغه علماً وفكراً لن يضيع العلم أبداً، ولن يضيع الفكر أبداً، ولن تضيع المعرفة أبداً.
وإن أردتم كلمة الحق، يا أيها الأحبة، يا أولياء الأمور، يا من رزقكم الله بالذرية، أنفقوا تسعة أعشار الدخل على التربية والتعليم، واجعلوا العشر الأخير في الطعام والشراب والدواء واللباس، لن يضير الولد أن ينشأ جائعاً، أو لا يلبس شيئاً فاخراً، أو لا يشرب ماءً نقياً، أو شيئاً فيه من الأخلاط أو غير ذلك لكن يضيره ويضره كثيراً أن ينشأ جاهلاً متخلفاً.
وكل امرئٍ والله بالناس عالمٌ له عادةٌ قامت عليها شمائلُهْ
تعودها فيما مضى من شبابه كذلك يدعو كل أمرٍ أوائلُهْ
هذه قضية ينبغي أن نعرفها تماماً.
لقد خرج في مجتمعنا شبابٌ يصدق عليهم قول القائل:
وأنت امرؤ فينا خُلِقْت لغيرنا حياتك لا نفعٌ وموتُك فاجعُ
لو أصابته مصيبة لقيل: اجمعوا له من المسلمين المال حتى نحل مشكلته، لو فقد كِلْية ابحثوا له عن كلية، لو احتاج دماً تبرعوا أيها الناس حتى نعطيه دماً، لو أصابته علة: تصرفوا أيها الإخوة حتى نلتفت لعلته، لكن لما تبرعنا له، وجمعنا له، وانتبهنا له، ماذا قدم للأمة؟! ماذا قدم للمجتمع؟! ماذا قدم لنفسه في طاعة الله؟! ماذا قدم لأبيه وأمه من البر؟! ماذا قدم لإخوانه وأخواته من الصيانة والرعاية والعناية؟! ماذا قدم؟!
الجواب
صِفْر، هو محسوبٌ علينا، مصيبته وموته فاجعة، لكن حياته وعافيته ليس فيها منفعة للأمة، هذا هو الأمر الخطير أيها الأحبة.(27/8)
دور المرأة في التربية
إن للمرأة دوراً خطيراً وكبيراً وعظيماً جداً، وهذا الدور أيها الأحبة تَتَبَوَّؤُه المرأة وذلك لأن النشء والأولاد والصغار يمكثون مع المرأة (مع الأم والبنات والأخوات) أطول من مكثهم مع الرجال، ثم إن الناشئة الصغار أكثر التصاقاً بالأمهات من الآباء خاصة في فترة الطفولة، وهي فترة التقبل والاستجابة والتوجيه.
وللمرأة أيضاً دورٌ في صناعة شخصية النشء صناعة مطردة متسقة ليس فيها انفصام ولا تناقض ولا ازدواج، إذا كانت المرأة مكملة لدور الرجل في التربية والعناية، أما إذا كانت المرأة هي الحارس التي تجعل الولد يجيد أدوار التمثيل أمام أبيه، من العقل والحياء والهدوء، فإذا خرج أبوه قالت: لقد ذهب أبوك افعل ما شئت.
إذاً من النساء من تمارس دوراً تساعد فيه على تحقيق الازدواج والعياذ بالله، والانفصام في شخصية الطفل.
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ؟!
أنت تبني والأم غافلة، هذه مشكلة! إذاً فمسئولية الأسرة، في تربية النشء وفي توجيهه ليست مسئولية الرجل وحده بل تتحمل المرأة من ذلك عبئاً عظيماً وكبيراً، ومعلومٌ أن للمرأة دوراً حتى على الأزواج والرجال، فما بالك بأثرها على أولادها!(27/9)
دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التربية والتوجيه
ثم إذا كان المسلم لم يستطع أن يوجه ولده، إذا كان المسلم عاجزاً عن التأثير والأمر والتوجيه والنهي لهذا الولد الذي هو في بيته، وأنت الذي تصرف عليه، وتنفق عليه وتعطيه وتلبسه وتكسوه وتعتني به؛ إذا عجزت عن توجيهه فلا شك أنك عاجزٌ عن توجيه الآخرين في المجتمع، إذا عجزت عن توجيه من لك عليه الفضل بعد الله، ومن لك عليه المنة بعد الله، ومن أنت السبب في وجوده بعد الله عز وجل، إذا عجزت عن توجيهه فقل لي بالله: كيف توجه من حولك؟! إذاً يفترض بالإنسان أن يكون واثقاً ثقة تامة مطلقة أنه قادرٌ على توجيه من عنده، وإذا كان الواحد عاجزاً كما قلت عن توجيه ذريته، وذلك أن النعمة والتربية والقوامة والولاية والمسئولية التي ألقيت على عاتقك تجاه هذا الولد، هي مظنة الجرأة والقدرة وعدم الخوف على هؤلاء، فيهون عليك أن تأمر وتنهى ولا تجد حرجاً في ذلك، فإذا عجزت عن توجيه هؤلاء فقل لي بالله من توجه؟! لقد وصف الله المؤمنين والمؤمنات بأنهم أولياء بعض، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وهذه صفة عامة، وليس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محصوراً في الشارع أو في العمل أو في الوظيفة، أو في الاختلاط، أو في مستشفى أو في مكان ما، بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شامل وعام، ومن أهم ذلك: الأمر والنهي والتربية والتوجيه والإرشاد داخل البيوت، من الناس من لا يعرف الأمر والنهي في البيت، لا يعرف كيف يوجه، لا يستطيع أن يكلم أولاده بلغةٍ لطيفةٍ، وكلمةٍ رقيقةٍ، وصدرٍ حنونٍ، وعينٍ كلها رضىً ومحبة ولطف، وهدية وقُرْب، وخفضِ جناح، ولينِ جانب، وتودُّدٍ وتألُّفٍ، لا يستطيع أن يقول: يا أبنائي! هذا يُسخط الله، هذا لا يجوز، يا أحبابي! هذا يغضب الله علينا، الله الذي أعطانا السمع أعطانا البصر.
قليل من الناس من يناقش أولاده بهذه الطريقة، قليل من الناس من يقارن لأولاده، هل يوماً من الأيام أتيت لتعلم أولادك مقدار نعم الله عز وجل، إذا رأيت صورة إنسان مبتلىً، فيه إعاقة من الإعاقات، أحضر الصورة وأحضر أولادك وقل لهم: انظروا يا أطفالي، انظروا يا أولادي، هذا قد ابتلاه الله عز وجل بهذا وأنتم قد عافاكم الله من كل ذلك، فاحمدوا الله، اشكروا الله عز وجل، وإذا طُلِب منك مساعدة فقير أو مسكين اجعل الولد الصغير هو الذي يذهب ليسلم المساعدة، وإذا أتى قل: يا أولادي، احمدوا الله أنكم لستم هذا المسكين السائل، وأنكم أنتم الذين تتصدقون، فلا بد من التربية والتوجيه والأمر والنهي بمختلف الأساليب والوسائل، هذه تنمِّي في قلوب الأطفال والنشء كيف يرعون نعم الله وكيف يشكرونها: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(27/10)
إمكان تغيير منكرات البيت
ثم إن أي خطأ من الأخطاء أو منكر من المنكرات سواءً كان المرتكب له نشئاً صغيراً أو كبيراً أو من أهل البيت؛ لا بد أن يتضافر أهل البيت على تغييره، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) قد ترى منكراً في الشارع؛ لكن لا تجد من سبل التغيير إلا الإنكار بالقلب والإنكار باللسان، أن تأتي إليه وتقول له: يا فلان اتق الله، هذا يُسخط الله، ولا يُرضي الله عز وجل، لكنك في بيتك أنت قادرٌ على أن تغير بيدك، قادرٌ على أن تغير بلسانك، ولا شك أنك قادرٌ أيضاً على أن تنكر هذا بقلبك، ومن أنكر شيئاً بقلبه بان ذلك في قسمات وجهه وألحاظ بصره.
والعين تعرف من عينَي محدثها إن كان من حزبها أم من أعاديها
أيها الأحبة! إن القوامة للرجل على المرأة، والسلطة والإنفاق، كل ذلك داعٍ إلى احترام قول الزوج وقول الأب وقول الولي فيما أمر به ونهى في توجيه الناشئة، وكلما كان الإنسان أقدر على الأمر والنهي كان الإثم الذي يتعلق به ويلحقه بترك الأمر والنهي أعظم، هذا الذي إذا أمر أو نهى لا يُسمع له قد لا يتعلق بذمته من الإثم بترك الأمر والنهي بمثل ما يتعلق بذمة الذي إذا أمر أطاعه مَن حوله، وإذا نهى انزجر عما نهى عنه مَن حوله، وإذا رضي دنا مَن حوله، وإذا سخط خشي مَن حوله، هذا يتعلق برقبته من الإثم ويحاسبه الله عز وجل على الأمر والنهي أضعاف أضعاف ما يحاسَب هذا؛ لأن كل واحدٍ ينال من الثواب بقدر ما يبذل، وعليه من المسئولية بقدر المنزلة التي يُعطَى إياها ويتحملها ويتبوَّؤها.
أحبتنا في الله! إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان عاماً للأمة فهو أيضاً خاص في الرجل مع أهل بيته، ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6](27/11)
الإشفاق على المرء من النار أولى من الإشفاق عليه من المرض ونحوه
يقول لي أحد الإخوة الأفاضل بالأمس القريب بعد صلاة العشاء كنا في شركة من الشركات، وكان عندنا عامل من العمال، فحصل أن هذا العامل انسكب على يده زيت ساخن، فأصاب يده شيء من آثار الحروق والآلام، وزيت يغلي.
ما ظنك، زيت يغلي انسكب على يد عامل، مؤكد أنه سينسلخ شيءٌ من اللحم.
يقول: كلنا جميعاً انزعجنا وأخذناه وذهبنا به إلى المستشفى وإلى الإسعاف، ووقفنا معه؛ لأنه من لا يَرحم لا يُرحم، حتى وإن كان هذا العامل كافراً! يقول: كان عاملاً كافراً؛ لكن في كل كبدٍ رطبة أجر، والراحمون يرحمهم الرحمن، ومن لا يرحم لا يُرحم، والبغي من بني إسرائيل دخلت الجنة بسبب كلب سقته بعد أن رأته يلعق الثرى من العطش، قال: فلما عالجناه، ووضعوا له الشاش التفت بعضنا إلى بعض، قال: سبحان الله! يوم انسكب على يده قطرة زيت كلنا قمنا نفزع له، والآن نراه كافراً، ومآله إلى جهنم، ولا أحد فزع له يدعوه إلى الإسلام والتوحيد، ما أحد فزع يدعوه إلى الإيمان حتى يتجنب نار جهنم، من قطرة زيتٍ أشفقنا عليه، وخفنا عليه، ورحمناه، وبادرنا بالذهاب به إلى المستشفى حتى لا تتضاعف إصابته، ونحن نعلم أنه إن مات على الكفر فلا شك أن مآله جهنم وساءت مصيراً، فلماذا لا نشفق عليه بدعوته إلى الإسلام؟! قال: فبدأنا ندعوه.
وأقرِّب هذا المثال لك: لو أن قطرة من زيت انسكبت على يد أو قدم ولدك، لو أن شيئاً من الحريق أصاب طرفاً من أطراف بدن ولدك، ما الذي يقع؟ ستنزعج وتسهر وتخشى، ولن تدع طباً ولا سبيلاً ولا طريقاً لعلاج هذا الولد إلا وتبذله! وأنت تعلم يا أخي أن الله عز وجل يقول: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].(27/12)
كل راع مسئول عن رعيته
نعم.
لا بد أن يتعلم الإنسان كيف يعتني ويلتفت، ثم لنتذكر جميعاً المسئولية العظيمة الخطيرة التي قالها صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمر وقد خرَّجه الشيخان قال: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدها وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئولٌ عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته) لا أحد يُترك عبثاً، أنت مدير على أربعة موظفين راعٍ وسيسألك الله عن هذه الرعية، أنت مسئول عن منطقة راعٍ، والله يحاسبك عليها، أنت توليت وزارة راعٍ، والله يحاسبك عليها، أنت توليت زوجة وأولاد راعٍ، والله يحاسبك عليها، (ألا وكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته).
ومن واجبنا أيها الأحبة أن نعتني بالرعية، وأن نلتفت إلى النصح والإرشاد فيها بلطيف القول، ورقيق العبارة وطيب الكلام، ومن تأمل سورة لقمان وما فيها من الوصايا التي أوصى بها لقمان ولده ووعظه بها وجد الأنموذج الأمثل والصورة الرائعة في نصيحة الأب لولده واحتسابه في التوجيه والإرشاد والتنبيه، اسمعوا إلى قول الله عز وجل! {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] خذوا هذه الآية، وليقرر كل واحد منا أن يخلو بولده، إذا كان عندك مجموعة أولاد لابد من جلسة انفرادية لكل ولد على حدة، غير الجلسة الجماعية مع الأولاد في التوجيه والإرشاد، لأن كل ولد له صفات تختلف عن الآخر، ومن ثم له مشكلات تختلف عن الآخر، فلا بد من جلسات فيها وعظ وإرشاد وتوجيه وتنبيه.
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] وهذا من الخطاب الذي يُعَلَّم فيه الولد الخشية والخوف والمراقبة من الله سبحانه وتعالى، وهذه مهمة، لا تظن أن الصغير لا يفقه ولا يفهم ولا ينتفع بهذا، إن كثيراً من الكبار عصمهم الله عن منزلقاتٍ خطرة وكبائر مدمرة ومصائب شنيعة، بسبب أن الأميِّين والأميَّات من الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، ربَّوا في نفوسهم أثناء الصغر كلمة الخوف والخشية، لاحظ أن الله يعاقب، ولاحظ الذي عليك، خوف الله، والله مطلع عليك، والملائكة تكتب أعمالك، وهو صغير يعظِّم في نفسه الخوف، حتى إذا قيل له في كبره وفي مسئوليته وفي توليه أمر أسرته وأمر بيته وأمر مَن حوله: اتقِ الله، يضطرب ويخشى ويخاف من الله سبحانه وتعالى، ولقمان يقول لولده: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] المعنى: لا تظن أن شيئاً يخفى على الله، لا تقل: هذه صغيرة، لا تقل: هذه لا يُلتَفَت إليها: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
من ربى في أولاده الصغار الخوف والخشية من الله، تراهم يتركون الكذب لأنهم تعلموا أن الله يغضب على الذي يكذب، ولا يسرقون لأنهم تعلموا من أسرتهم أن الله يغضب على السارق، ولا يقولون النميمة ولا يبدءون بفاحش القول أو سيئ الكلام؛ لأنهم يعلمون أن الله يبغض الفاحش البذيء، فما أجمل تربية النشء على ذلك!(27/13)
عبد تقي من الجيل الأول
كان غلام مملوك لأحد العرب في زمن عبد الله بن عمر، هذا الغلام يرعى الغنم في البرية، فجاء عبد الله بن عمر ومعه صاحبٌ له ذات يوم فرأى هذا الغلام يرعى بغُنَيماتٍ، فأراد عبد الله بن عمر أن يختبر هذا الغلام الصغير، وانظروا أثر التربية في النشء كيف تصنع المعجزات وتأتي بالعجائب، قال عبد الله بن عمر لهذا الغلام: يا غلام احلب لنا شاة من هذه الشاء فقال الغلام: يا سيدي أنا عبدٌ مملوكٌ، وهذه الغنم لسيدي، وليس فيها حليب.
فقال عبد الله بن عمر وأراد أن يختبره: يا غلام اذبح لنا واحدة منها، ونعطيك مالاً.
فقال الغلام -يريد أن يتأكد هل فهم ابن عمر الكلام أم لا-: قال: قلت لك يا سيدي: أنا عبدٌ مملوك والغنم ليست لي، وأنا راعٍ فيها.
فقال عبد الله بن عمر، يريد أن يختبره أكثر: خذ هذا المال وإذا جاء سيدك فقل: أكلها الذئب.
فصرخ الغلام صرخة ونظر شزراً بعينٍ تقذف الشرر وهو يهز يده في وجه عبد الله بن عمر قال: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟ ما أجمل هذه التربية الممتازة لهذا الصغير المملوك! فأُعْجِب ابن عمر بهذه التقوى وهذه الخشية التي في نفس هذا الغلام الراعي المملوك الصغير فقال: وأين سيدك؟ قال: العشية يأتي.
قال: فلبث وانتظر حتى جاء سيده، فقال ابن عمر للرجل: هذا غلامك؟ قال: نعم.
قال: وهذه الغنم؟ قال: هي لي، وهو راعٍ فيها.
قال ابن عمر: إني أريد أن أشتري منك هذا الغلام.
قال: أبيعك.
فاشتراه منه.
قال: وإني أريد أن أشتري منك هذه الغنم.
قال: خذ أبيعك.
فاشترى منه الغنم، فالتفت ابن عمر إلى الغلام قال: يا غلام، أنت حرٌ لوجه الله، وهذه الغنم خذها لك جزاء تقواك لله.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].(27/14)
أثر التقوى في الحفاظ على الذرية
حينما نربي أولادنا على خشية الله وعلى التقوى والله لو أطبقت عليهم السماء فإن الخشية والتقوى والخوف من الله عز وجل تحفظهم، واعلموا أن خير ما يحفظ الأولاد بعد موت آبائهم وأمهاتهم هو تقوى الله عز وجل.
أن تتقي الله فيهم، ولا تطعمهم إلا حلالاً، وأن تتقي الله فيهم وتربيهم التربية الحسنة: (احفظ الله يحفظك) يحفظ لك ذريتك وأولادك وأهلك، قال تعالى في صدر سورة النساء: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9] والذي عنده أولاد صغار مساكين ماذا يفعل؟ قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9] وقال تعالى: {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [النساء:9].
ولذلك في قصة موسى والخضر: ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ} [الكهف:77] موسى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ} [الكهف:77 - 78] الآيات، قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
والشاهد: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82] فصلاحك في نفسك وصلاحك في تربية ولدك بإذن الله سببٌ لحفظ هذه الناشئة وحفظ هذه الذرية.
أعود إلى وصايا لقمان عليه السلام لولده: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:16 - 19].(27/15)
الحفاظ على الأبناء من غزو الفضائيات
أيها الأحبة: لا بد لكل واحد منا يجلس مع أولاده على انفراد، ولا يوجد خيار، إن لم توجهوهم أنتم سوف يوجههم جلساء السوء، أو الشاشة، أو القنوات الفضائية، أو كل من يرونهم أو يراهم من غادٍ ورائح، ولا أظن أن واحداً منكم يرضى أن يقال له: اترك ولدك لنا ونحن نتصرف فيه كما نشاء، نحن نأمر وننهى وندبر في أولادك كما نشاء، هل يوجد واحدٌ يرضى أن يخلو رجلٌ بابنته ساعاتٍ طوال يتحدث معها؟! طبعاً لا؛ هذه الشاشة تجلس مع البنات ساعات وساعات، فأسألك بالله هل أنصتَّ لما تقول الشاشة لهذه البنت؟ أقل الأحوال: كن جالساً وانظر ما الذي يحدث، هل هو يسر أم يضر؟ هل ينفع أم لا ينفع؟ لكن لا، الخطر المحسوس هذا نخشاه، لكن الخطر الذي يستتر بمجلة، بكتاب، ببث إعلامي، بشيء آخر، فهو مقبول، حتى بعض الناس لو جاء رجلٌ طيب أو شاب طيب يريد أن يأخذ ولده إلى حلقة تحفيظ قرآن أو إلى مكتبة يُشْكَر على عنايته، ما أقول إنه يُشْكر على منعه من ذهاب ولده مع الصالحين، لكن يشكر على تثبته ماذا تفعلون؟ وماذا تقرءون يا ولدي؟ وما هو الحديث الذي يُدار؟ وما هو الكتاب الذي تقرءون فيه؟ ومن هو مؤلفه؟ أعطني هذا الكتاب أتأمل فيه، هذا ليس بعيب أن يكون الرجل متثبتاً متأكداً من الأفكار التي تُتَداوَل وتُناقَش مع ولده، لكنه من الممكن أن الأفكار التي في كل القنوات الفضائية تدخل في ذهن ولده دون أن يكون على ذلك حسيب أو رقيب أو مطلع أو غير ذلك، وهذا وايم الله من أشد وأخطر أنواع البلاء.
إن الله عز وجل قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] الأمر أمر الأولاد، أمر الناشئة بالصلاة: (مروا أولادكم بالصلاة لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرقوا بينهم في المضاجع) هذه التوجيهات، هذه التربية، هذه الآداب النبوية هل نعتني بها كما أمر الله، وكما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الواقع يشهد أن كثيراً من الناس ضيعوا ذلك وأهملوه.
وعند الصباح يحمد القوم السُّرى (الذين اعتنوا بأولادهم وربوهم تربية طيبة) ولكنك لا تجني من الشوك العنب إذا أنت جعلت أولادك في مسبعة، وفي أرضٍ مليئة بالكلاب والذئاب، ثم تقول من أين نُهِش الولد؟!
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيهَا الأسدُ
لا يُلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدو الغنمِ(27/16)
توجيه النشء بين الأمس واليوم
أود أن أوجز ما تبقى من هذه الكلمات بمسمعٍ منكم أيها الأفاضل لأؤكد وأكرر أن الإسلام وهذه الشريعة المحمدية والهدي النبوي جاء مؤكداً على ضرورة التوجيه منذ نعومة الأظفار، ومنذ بداية السن، وليس بعد زمنٍ متأخرٍ كما يفعله كثيرٌ من الناس.
إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن سلمة، كان غلاماً صغيراً تطيش يده في الصحفة، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه، قال: (يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ثلاثة توجيهات، (يا غلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك).
من المؤسف أن تجد كثيراً من الآباء والأمهات اليوم لا يعتنون بتوجيه الناشئة بآداب الإسلام، لا في الطعام، ولا في الشراب، ولا في الدخول، ولا في الخروج، ولا في دخول الخلاء، ولا عند المبيت، ولا عند الاستيقاظ، لقد تعلمنا كما قلت من عجائز جدات وأمهاتٍ ما عرفوا الدراسة ولا يعرفون الألف من الباء.
إذا أصبحنا بمجرد أن تشير الأم إشارة، يقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، أول ما يصبِّح بذكر الله عز وجل.
وإذا أراد أن يأكل: مَسَكََت يده، ماذا نسيتَ؟ فيقول: نسيتُ باسم الله، ثم تطلق يده.
وإذا أراد أن يقوم: مَسَكَت ثوبه، ماذا نسيتَ؟ قال: نسيتُ الحمد لله، يحمد الله بعد ذلك.
إذا أراد أن يدخل: ماذا تقول؟ اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
هؤلاء الذين رضعوا الدين رضاعة، وعاشوا على الفطرة، ما دنَّستهم قنوات، ولا أفسدتهم ماديات، ولا غيرتهم عجائب وغرائب الزمان، علَّموا وخرَّجوا رجالاً وأجيالاً، وقادة وسادة، وأمراء وصالحين، ووزراء ومهندسين، وطيارين ومعلمين وكل التخصصات التي تحتاجها الأمة، تخرجوا من أمهات وآباءٍ أميين وأميَّات، وللأسف أن كثيراً من المتعلمين والمتعلمات اليوم لا يخرجون جيلاً مؤدباً يلتزم بآداب الإسلام وأخلاقه وتعاليمه.
إن القضية ليست شهادة، وليست القضية مرحلة، وليست القضية مرتبة ولا جاهاً ولا نسباً؛ المسألة هي: العناية.
هل يسرك أن يستمر عملك بعد موتك؟ هل تتمنى أن تُدفن في المقبرة ويكون هذا آخر عهدك ونهاية رصيدك وإقفال حساباتك في الأعمال الصالحة؟! أم تتمنى أن تكون ممن يجري لهم العمل الصالح حتى ولو بعد دفنهم وموتهم وفراقهم الدنيا، إن كنت كذلك فعليك بالولد الصالح بتربيته ونشأته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علمٍ ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له).
لسنا جميعاً أثرياء حتى نقول: سنترك صدقات جارية، لسنا جميعاً علماء حتى نترك علماً يُنتفع به، لكن الكثير والغالب إلا النادر هو الذي يستطيع أن ينجب ولداً، فإذا استطعت الإنجاب فاجعله ولداً صالحاً يدعو لك بإذن الله، ويبقى لك.(27/17)
العمل الذي يبقى بعد الموت
هل يسرك أن يستمر عملك بعد موتك؟ هل تتمنى أن تُدفن في المقبرة ويكون هذا آخر عهدك ونهاية رصيدك وإقفال حساباتك في الأعمال الصالحة؟! أم تتمنى أن تكون ممن يجري لهم العمل الصالح حتى ولو بعد دفنهم وموتهم وفراقهم الدنيا، إن كنت كذلك فعليك بالولد الصالح بتربيته ونشأته، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علمٍ ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولدٍ صالح يدعو له).
لسنا جميعاً أثرياء، حتى نقول: سنترك صدقات جارية، لسنا جميعاً علماء حتى نترك علماً يُنتفع به، لكن الكثير والغالب إلا النادر هو الذي يستطيع أن ينجب ولداً، فإذا استطعت الإنجاب فاجعله ولداً صالحاً يدعو لك بإذن الله، ويبقى لك.(27/18)
بعض صور التربية
النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحسن، أراد أن يمد يده إلى الأكل من تمر الصدقة، ومعلوم أن آل البيت لا تصح لهم الصدقة، ولا الزكاة فهل تركه؟! لا.
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كِخْ كِخْ! أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة) يعلمه ويربيه، فلا بد أن نعلم أولادنا وأبناءنا هذه التوجيهات وهذه التعليمات.
المرأة إذا رأت تصرفات سيئة من ولدٍ أو طفلٍ أو صغيرٍ لا بد أن توجهه وتعلمه الاحترام والأدب والرحمة.
روى الحافظ ابن عبد البر عن أم الحصين أنها كانت عند أم سلمة رضي الله عنها فجاء مساكين فقراء، فجعلوا يستعطون ويلحون وفيهم نساء فقالت هذه الصغيرة: [اخرجوا اخرجوا -طفلة تخرجهم من البيت، أبعدوا أبعدوا، وتحس أنها في معتصم وفي كرامة وهؤلاء فقراء ومساكين، فأخذت تتلفظ عليهم بهذه الكلمات، اخرجوا اخرجوا من بيتنا- فقالت أم سلمة رضي الله عنها: ما بهذا أمرنا يا جارية! ردي كل واحدٍ أو واحدة ولو بتمرة تضعينها في يدها] لا تطردي الفقراء، أعطي كل فقير ولو تمرة واحدة.
كأن يأتي طفل صغير أو طفلة صغيرة فيقول: أبي أمي! عند الباب مسكين فتقول أمه: أغلق الباب في وجهه واتركه، فهذه تربية على القسوة، وتربية على وأد الرحمة في القلوب، لكن إذا قال الطفل: أبي أمي! عند الباب فقير عند الباب مسكين، تقول أمه: أسأل الله أن يغنيهم عنا وعن غيرنا، اذهب يا ولدي وافتح مكان التمر، وضع في هذا الصحن قليلاً من تمر، واذهب وافتح كيس الأرز وخذ منه، وليس بلازمٍ أن تعطيه عشرة ريالات، أو خمسين ريالاً، أو مائة ريال، ما كل واحد يستطيع أن يدفع نقوداً؛ لكنك لن تعجز، فلا ترد السائل ولو بتمرة، لا ترد السائل ولو بقبضة أرز، ولو بقبضة سكر ولو ببصلة تتصدق، يدفع الله عنك البلاء، تطفئ غضب الرب، تدفع ميتة السوء، وتربي ولدك على الرحمة بمثل هذا التصرف، هكذا كان الجيل الأول والصدر الأول يتعاملون ويعلِّمون.(27/19)
كيفية معالجة منكرات البيوت
روى الإمام ابن أبي شيبة عن عمر بن سعيد بن حسين قال: [أخبرتني أمي عن أبي قال: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها وأنا غلام وعليَّ خاتمٌ من ذهب، فقالت: يا جارية، ناولينيه، فناوَلَتْها إياه، فقالت: اذهبي به إلى أهله، واصنعي خاتماً من وَرِق -يعني: لا تلبسوه خاتماً من ذهب، مع أنه صغير، ما قالوا: صغير، لا بأس، بل يربونه حتى من الصغر على ما يجوز وما لا يجوز- فقلت: لا حاجة لأهلي فيه، قالت: فتصدقي به، واصنعي خاتماً من وَرِق].
لا بد من أن نتلطف ونحن نأمر وننهى ونربي هؤلاء الصغار؛ لأنهم يقبلون بالرفق وباللين بإذن الله عز وجل، لكن إذا تحول الأمر والنهي والإرشاد والتوجيه إلى تهديد، اسمع! إن رأيتك مرة ثانية تعمل هذا الشيء سأكسر أضلاعك، وأقطِّع جلدك، وأفعل بك كذا، وأجعلك لا تمشي، أساليب التهديد والوعيد للصغار أتدرون ما نتيجتها؟ إن التهديد ما عادت له قيمة، ما عاد له أي أثر.
وبعض الآباء يرتكب حماقة لا يعلم بها، وهي: أن الولد يتصور أن أباه جبل عظيم ويرى الولد نفسه قطعة من حجرٍ صغيرة بالنسبة لهذا الجبل، ثم لا يلبث أن يرى الأب على هذا الولد خطئاً معيناً فيتحول هذا الجبل إلى صخرة أمام صخرة، وينزل وإياه في منازلة ومعركة يجعل نفسه نداً لهذا الولد، ويدخلان في حلبة ومصارعة مَن الذي ينتصر، سأفعل بك، سأجلدك، أو ربما بدأ بالضرب المبرِّح الذي لا ينفع، وذلك من الخطأ الفاحش، ما أجمل تأديب الصغار بالأمر والنهي، والترغيب والترهيب، والحرمان أيضاً! يعني من الأساليب التي تستطيع أن تأمر بها وتنهى، ما يلي: أنه إذا لاحظت على هذا الولد الصغير خطئاً، وجاء يسلم عليك، قل له: لا أسلم عليك، أنا بيني وبينك مشكلة، أنت الله يصلحك فعلت كذا، كل إخوانك صلوا إلا أنت ما صليت، كيف تريدني أن أكلمك، وبكرة لا يوجد مصروف المدرسة -على الأقل تخوفه بذلك- لا تتحدث معي.
الحرمان نوع من أشد أنواع التربية، وأقسى أنواع العقوبة التي هي مؤثرة، وليس فيها جرح أو خدش أو إفساد لأسس التربية وأصولها.
وهنا مسألة مهمة وهي: معالجة الأولاد بالحب، معالجة الأولاد باللطف، اقنع وتأكد أن الولد يعلم تمام العلم أنك أيها الآمر الناهي تحبه، ويعلم تمام العلم أنك أيها الآمر الناهي غيورٌ عليه، ويعلم تمام العلم أنك أيها الآمر الناهي مشفقٌ خائفٌ عليه؛ حينئذٍ يستجيب لك بإذن الله عز وجل.(27/20)
بعض منكرات البيوت
أيها الأحبة: كثيرة هي المنكرات في بيوت كثيرٍ من الناس اليوم، وهذا يستدعي أن ننتبه إلى التربية في وقتٍ مبكر: فمشكلات التدخين من المشكلات التي ربما نشأ عليها بعض الناشئة مما يرون ممن حولَهم، ولا بد من التربية المبكرة والتحذير المبكر من مثل هذه المشكلات.
الغيبة والنميمة.
دخول المجلات الخليعة والصور العارية.
عدم التفريق بين الصغار والكبار في المضاجع.
أخطاء خلوة السائق بالمرأة في البيت والسيارة.
التشبه بالكفار.
تقليد (التقليعات) الغربية.
ترك الصلاة مع الجماعة.
الخلوة بالهاتف سهراً.
الخلوة بالأصنام والمجسمات المحرمة.
وجود الخادمات الجميلات مع الشباب المراهقين.
كثيرة هي المنكرات عند بعض الناس وفي بيوتهم، وما كأنهم يعصون الله أبداً، ولو قلتَ لأحدهم: اتقِ الله، خفِ الله، قال: وماذا نحن فاعلون يا أخي، أنت من يوم صبَّحت ومسَّيت وأنت تخوفنا بجهنم! ماذا أبقيتَ، أي عملٍ من الخير ترجوه -الله يهديك- بعد التوحيد، حتى بعضهم تجده مُخَلِّطاً يفقه، وربما يتساهل، ولو قادته الأمور إلى تخليطٍ أو إلى أمور تقدح في توحيده ربما ارتكبها ووقع فيها وهو لا يعلم أيها الأحبة.(27/21)
أهمية اقتران العلم بالعمل
إذاً لا بد أن نعتني بهذه الأسرة، وأن نعتني بهؤلاء الناشئة، ولنتأكد أن أخطر شيء في التربية هي: مسألة التناقض.
إنه ليس من اللائق أن يدعو الأب والأم الأسرة والنشء إلى الخير وهم يتجافون عنه، أو ينهوهم عن الشر وهم مبتلَون به، فمن فعل ذلك فقد استحق اللوم والتعنيف الشديد، وإنما كان التشنيع على هذا الصنف من الناس لكونهم عالِمين بوجوب ما تركوا أو بتحريم ما اقترفوا، قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
وما أجمل قول الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيرَه هلا لنفسك كان ذا التعليمُ!
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح بها وأنت سقيمُ
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويَنفع التعليمُ
وقال الآخر:
وغير تقيٍ يأمر الناس بالتقى طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلُ
وقال الثالث:
ومن نهى عما له قد ارتكب فقد أتى مما به يُقْضَى العَجَبْ
فلو بدا بنفسه فذادها عن غيها لكان قد أفادها(27/22)
بعض وسائل توجيه النشء
لا بد أن ننتبه إلى مسائل في توجيه النشء: وهو استخدام الحوار والمناقشة، وليس أسلوب التجريح:- قد يكون الولد ارتكب الخطأ لأول وهلة وهو لا يعلم أنه خطأ (ليس المرء يولد عالماً) وإنما يتعلم ممن حوله، كثير من الأبناء يرتكبون أخطاء لا يعلمون أنها أخطاء، فما يمكن أن تبدأه بالسب والشتم والضرب وغير ذلك، بل للأسف أن بعض الآباء ربما سب ولده ولعنه وشتمه وشتم والديه، وشتم أهله وأمه وأهل أمه، هذه والعياذ بالله من الموبقات المهلكات.
كذلك في التربية الطيبة: المشاركة الأسرية:- لا بد أن يكون لهذا الطفل شيء من الدور في البيت، تكلفه بمسئولية صغيرة، تجعله يقوم بعمل، قد يكون الطفل يحب أن يجلس معك وأنت في مكتبك، ليس هناك مانع، أعطه أوراقاً وقل له: صف هذه فوق بعض، ابحث له عن درج كتب، وقل له: انقل هذه الكتب من ذا المكان إلى ذا المكان، وإذا أكمل أعطه جائزة، ابحث له عن شغل معين وإن كنت ستفعلها ثانية، لكن كونه يأتي وأنت مشغول فتقول له: هيا انقلع، يا ولد، لا أرى وجهك، تعالي يا أمه خذيه لا يشغلنا، هو يريد أن يتعلم شيئاً منك، يريد أن يأنس بك، يريد أن يستفيد من تصرفاتك، سوف يقلدك فيما تفعل، الصغير يقلد الكبير، أعطه قلماً وورقة فارغة وقل له: اكتب، ارسم، دعه يجلس معك قليلاً، يألفك ويأنس بك ويسمع منك، وبين الفينة والأخرى ابتسامة، قبلة لهذا الصغير، توجيه، كلمة طيبة، وكما قلت: ما أثر أحدٌ على ولده بشيء كتأثير الأب على ولده بالحب، الإقناع أن هذا الولد محبوبٌ له مكانة، ومنزلة عند والده بإذن الله سبحانه وتعالى ينفعه.
- ثم هنا مسألة وهي: المصارحة:- المنكرات التي تشيع في مجتمع من المجتمعات، لا بد أن نصارح الأبناء بها.
مثلاً: في مجتمع من المجتمعات، يسمع الإنسان أنه يكثر فيه المخدرات، لا بد أنك تأتي بالولد وتقول له: يا ولدي، هناك شيء اسمه المخدرات، وتصارحه، المخدرات أصنافٌ وأشكال وهي: كذا وكذا وكذا، وتسبب للإنسان جنوناً وهستيريا وسهراً، ومن علاماتها كذا، والذين يوقِعون الناس في المخدرات من أساليبهم: تجد واحداً ما يعرفك ويهديك شيئاًَ، يبدأ يهديك قلماً، أو يعطيك شراباً ما تدري ما هو، لا بد أن تغرس في نفسه جانب الخوف والحذر، ليس الخوف من كل شيء، بل الخوف من الأشرار أو على الأقل الحذر، الخوف من المنكر ذاته والحذر من أصحابه، فذلك أمرٌ مطلوب.
كذلك مصارحة الأم للبنت: يا بُنية! ذُكِر أن فتاة لعبت بالهاتف، وكان نهايتها أنها هُدِّدت بالفضيحة، ثم خرجت مع هذا الذي غازلها بالهاتف، ثم قتلها، وفعل بها، لا بد من التخويف، لا بد من المصارحة لأي مشكلة ظهر أنها انتشرت أو ظهرت، أو فشت في مجتمعٍ ما.
بعض الأبناء مساكين لا يعرف شيئاً اسمه: اللواط، وهو قد يوجد في بعض المجتمعات والعياذ بالله، وقد ينتشر.
فما الذي يمنع أن الأب يحذر: يا ولدي هذه من المعاصي التي خسف الله بها قوماً وعذبهم، وأرسل إليهم جبريل وجعل عالي قريتهم سافلها، وحصل كذا كذا، هذه الجريمة القبيحة التي فيها وفيها وفيها، لا بد أن يُحَذَّر منها، ويُبَغَّض إلى نفسه فعلُها، ويُحَذَّر منها قبل أن تبدأ عنده كوامن الشهوة والغرائز وغير ذلك، من أجل ماذا؟ من أجل أن لا تفعل به وهو لا يدري، وللأسف بعض الناس يقول: لا، هذا لا يعرف شيئاً، أنا ما أقول لك: ابدأ بشرح المنكرات له؛ لكن إذا كنت في مجتمعٍ وعلمت بذلك، يعني: بعض المدارس للأسف كما يخبرني بعض المديرين فيها أنه وجد أطفالاً معهم مخدرات، أليس من حق الناشئة البقية أن يحذَّروا من المخدرات حتى لا يُعْدِي بعضهم بعضاً؟! بعض المدارس وقع فيها بعض الأطفال في مثل هذه الانحرافات الخُلُقية! أليس من حقهم أن يحذروا من مثل هذه الأمور؟! فلا بد أن يُلْتَفَتَ إلى ذلك وبأسلوب المصارحة، وبحسن التوجيه، وبالكلمة الطيبة، والعبارة الرقيقة كما قلت، فذلك بإذن الله ينفع نفعاً عظيماً.
أسأل الله أن يجعل لنا ولكم من ذرياتنا قرة أعين، وأن يجعلنا للمتقين أئمة.
ونسأله سبحانه أن لا يرينا في ناشئتنا وأولادنا وبناتنا سوءاً ولا مكروهاً ولا عاراً ولا كريهة يا رب العالمين.
نسأل الله أن يجمعنا وذرياتنا وإياكم في جنات النعيم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تجعل هذا الاجتماع خالصاً لوجهك؛ في موازين أعمالنا يوم نلقاك.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ودمر أعداء الدين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا واحفظ اللهم ولاة أمورنا، واجمع اللهم شملنا، وحكامنا وعلماءنا، ولا تفرِّح علينا ولا بنا عدواً، ولا تُشْمِت بنا حاسداً.
اللهم من أراد بولاة أمرنا وعلمائنا شراً وفتنة ومكيدة، اللهم فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.(27/23)
الأسئلة(27/24)
دور الأندية في تربية النشء
السؤال
فضيلة الشيخ، إنا نحبك في الله! ما هو دور الأندية في تربية النشء مع العلم أن هناك نظرة متغيرة للأندية، ما توجيهكم حفظكم الله؟
الجواب
الأندية لها دورٌ كبيرٌ جداً، والقائمون عليها يتحملون مسئولية عظيمة أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن الدولة وولاة الأمور قد مكَّنوا هذه الأندية بإمكانيات لا تكاد توجد في كثير من المرافق.
فبناءً على ذلك لا يمكن أن يكون هذا الدور الذي لأجله وبموجبه مُنِحت هذه الأندية الإمكانيات الضخمة إلا لأجل بناء المواطن الصالح، ولأجل ذلك تتحمل الأندية مسئولية التربية والمشاركة في نشر الكتاب النافع، الشريط النافع، إقامة المحاضرات النافعة، وهذا مما يُشْكر لهذا النادي المبارك، نادي الأنوار بـ حوطة بني تميم، جزاكم الله والقائمين عليه خير الجزاء.
ومما أعرف وأعلم أن ثمة أندية كثيرة تعتني بهذا الجانب لكن المنتظَر ما هو أكثر من ذلك.
أي نادٍ ستعلم في لائحة نظامه أو في مهماته أنه نادي رياضي وثقافي واجتماعي.
الدور الرياضي معروف بمختلف أصناف اللعب الرياضية.
لكن أين الدور الثقافي؟! وأين الدور الاجتماعي؟! لا بد أن يكون هناك دور ثقافي، وهذا يعتمد على جرأة الأخيار والصالحين، للمشاركة في هذه الأندية واستغلالها، هذه ميزانية للنشاط الثقافي، وهذه ميزانية للنشاط الرياضي، وهذه ميزانية للنشاط الاجتماعي، فلا بد أن يتنافس الجميع على قدم وساق؛ كلٌ يأتي بأروع الأدوار وأفضل النتائج، محققاً لها من خلال ما رُصِد له من هذه البنود، وهذا أمرٌ نافعٌ ومتيسرٌ وممكن.
أما النظرة إلى أن الأندية شر فهذا ليس بصحيح، الأندية ما هي بأصنام، ولا هي بوحوش ولا بعفاريت، الأندية مبانٍ، إن عمرها الأخيار فهي خيرة، وإن عمرها الأشرار فهي شريرة، إن دعت إلى خيرٍ فهي خيرة، وإن دعت إلى شرٍ فهي شر، والعاقل ينبغي أن يستفيد منها، ولا بأس أن يُستفاد منها رياضياً بالقدر الذي يَبني الأبدان التي تقوى وتنشط في طاعة الله عز وجل، وحتى من واجب الأنشطة الثقافية أن توجه هؤلاء النشء الذين ربما ظن بعضهم أن التفوق والتميز الرياضي هو الهستيريا الرياضية والجنون الرياضي، إذا فاز فريق على فريق، فهذا يطلع بسيارته ويقطع الإشارة ويؤذي الناس، ويطلع بالعلم، وربما كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) يجعلها على (الصدَّام) أو على (الرفرف) أو تسقط في الشارع وتدوسها السيارات، مع أن ولاة الأمور جزاهم الله خيراً عمموا للدوريات بمنع هذا الفعل، ومن فعل ذلك سيعاقب عقوبة شديدة حتى لا تهان كلمة التوحيد، ولكن مع هذا أيضاً لا بد أن تكون هناك أدوار متكاملة، والدور الاجتماعي للأندية مطلوب جداً.(27/25)
تقصير الناس في التربية القرآنية
السؤال
فضيلة الشيخ التربية على القرآن الكريم والارتباط به من خلال الحلقات التي تمتلئ بها مساجدنا ولله الحمد هي أعظم التربية؛ ولكن الناس مقصرون في ذلك من خلال عدم إرسالهم إليها أو متابعتهم إذا كانوا ممن يستفيدون من هذه الحلقات، ما تعليقكم على ذلك يا فضيلة الشيخ؟
الجواب
يكفي في حلقات تحفيظ القرآن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فالعناية بكتاب الله عز وجل تعلُّماً وتعليماً وحفظاً وتجويداً وتلاوةً هو من خير ما يبني النفوس، وفعلاً إذا امتلأ قلب الفتى الناشئ بذكر الله عز وجل نشأ على سمت ووقار واستقامة وصلاح، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (وشابٌ نشأ في طاعة الله).
حلقات تحفيظ القرآن تُعوِّد الشباب أن ينشَئوا على طاعة الله، تعودهم أن يتعلقوا بقلوبهم في المساجد: (ورجلٌ قلبه معلقٌ في المساجد) فذلك من الخير العظيم.
وأوصي إخواني جميعاً أن لا يقصر واحدٌ منا عن إرسال ولده إلى حلقة تحفيظ القرآن، لا تقصر في هذا الجانب، بل الواجب أن تبادر بإرسال ولدك إلى هذه الحلقة، لأنه لو يحفظ كل يوم أربعة أسطر أو نصف صفحة بإذن الله تعالى خلال زمنٍ يسير ستجد ولدك شاباً يرفع رأسك، وتفتخر، وتقول: هذا ولدي يحفظ عشرة أجزاء، قم يا ولدي استفتح بالقرآن الكريم في هذه المناسبة، في زواج أو مناسبة، أو حفلة يحضرها أمير أو وزير أو كبير، أو شيخ أو قاضٍ أو عالم، أو غير ذلك، افتتح بالقرآن الكريم، ويرتفع رأسك عزاً وكرامة أن ولدك هو الذي يفتتح هذا الحفل الكبير بالقرآن الكريم، وأنهم قالوا: فلان ولد فلان بن فلان؛ لكن لو أن ولدك ما يعرف إلا أغانٍ و (مالالوج) هل يسرك أمام الناس؟ يقال: والآن معنا المغني الصغير فلان ولد فلان، قم غنِّ، أهذا يرفع الرأس؟! طبعاً لا، والله ما يرفع الإنسان رأسه أن ولده مطرب أو رقاص أو فنان، لكن يرفع رأسك أن ولدك من حَفَظَة كتاب الله عز وجل، ويرفع رأسك أن يكون ولدك من الأخيار الأبرار الذي يُدْعَون إلى مجالسٍ يحضرها الوجهاء والكرماء والعلماء.(27/26)
التشبه بالغربيين في الملبس
السؤال
فضيلة الشيخ! يلاحظ على البعض من الشباب صغار السن لبسهم (أقباعاً) على رءوسهم وكذلك لبسهم قمصان رياضية تحمل كلها عبارات مخالفة لشريعتنا السمحة، حتى أنهم لا يعرفون معناها، حتى وصل بهم الأمر لارتداء هذه الألبسة في الصلاة، والله أمرنا بأخذ الزينة عند كل مسجد، أرجو التنبيه عن هذه الظاهرة، جزاكم الله خيراً!
الجواب
هذه الظاهرة ليست مشكلة وحدها، يعني: لو زالت هذه الظاهرة ستأتي ظاهرة جديدة، والسبب هو: أن هناك قبولاً لرياح التغريب، الغرب يدفع أعاصير ورياحاً شديدة إلى بلاد الشرق عبر القنوات الفضائية، والذي يعرض الليلة في القناة ستجده غداً يباع في بعض محلات الرياضة، والشبابُ يلبسونه ويرتدونه، وأصبح الآن المشهد مألوفاً، الشباب الذين رأيناهم في باريس وفي بروكسل وفي استكهولم، وفي أمستردام رأينا أمثالهم وأشكالهم في شوارعنا، والسبب: أن العالم كما قلتُ قرية واحدة، هذا لابسٌ قبعةً وهذا لابسٌ قبعةًَ، وهذا لابسٌ فانيلة الشِّيْنْهَابِيْز (34) لوناً، أشكال وألوان، ولابسٌ له سروالاً بشكل مزعج، وحالة سيئة، وربما والعياذ بالله تجد بعضهم في بعض الأماكن فاتحاً السيارة وفاتحاً الزجاج، ومولِّعاً الموسيقى الغربية التي لا يفقه منها شيئاً، فقط لكي يرتاح، ولو أنها تلعنه وتسب أباه فإنه يرتاح معها وهو لا يدري، لا يفقه شيئاً أبداً، هذه مصيبة، ليست المشكلة قبعةً، أو قميصاً، أو سروالاً، أبداً.
المشكلة أن هناك رياح تغريب وافدة تحتاج إلى تصدٍّ قوي جداً، نحتاج إلى أن نقنع هؤلاء الشباب من خلال الإذاعة والتليفزيون والمدارس والأندية والمساجد وخطب الجمعة لنقول: إن هذه هجمة تغريبية تمسخ وجه الأمة وجيل الأمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أحبابي لو أن رجلاً ينتمي إلى قوم قتلوا أباك، أو قتلوا أمك، أو قتلوا جماعتك، أو آذوك وسبوك وشتموك وقذفوك، هل يسرك أن تتزيا بزيهم؟! أو تقلدهم في سمتهم؟! أو فيما هو من خصائصهم؟!
الجواب
لا، لا يسرك أن تقلد أعداءك، الذين يذبحونك ويؤذونك، فما بال أبنائنا يتشرفون، بل ويفتخرون أنهم يقلدون أعداءنا الذين ذبحوا المسلمين في البوسنة، وجوعوهم في الصومال، وآذوهم في بقاعٍ كثيرة من الأرض.
هنا خلل في التفكير، والخلل في التفكير يجعل الجوارح تتحول باتجاهات معاكسة للإنسان، في بدن الإنسان عضو صغير اسمه الطحال، من وظائف الطحال في الجسم: تصنيف الفيروسات التي تهاجم الجسم، فإذا جاءت فيروسات تهاجم الجسم فوراً يعلن الطحال حالة النفير ويصدر مضادات داخلية هو الذي يحددها بمعادلات ومقادير، ومن ثم يتسلط عليها لقتلها، لكن إذا اختل الطحال، أصبح يرى أن كريات الدم البيضاء والصفائح ميكروبات فيتسلط عليها ويقتلها، ويكون هذا خللاً ولا يعالجه الأطباء إلا بمحاصرة شديدة لدور الطحال أو استئصاله تماماً، وكذلك إذا صار الخلل في عقلية الناشئة وأصبحوا يرون أعداءهم أصدقاء، ويرون الذين يؤذونهم قريبين لهم محبين لهم، ويرون الذين يسبونهم ويشتمونهم يرون السب والشتم مديحاً وثناءً تلك مشكلة تحتاج إلى معالجة عقلية، ليست القضية معالجة القميص والقبعة، القميص والقبعة شكل من الأشكال ومظهر من المظاهر، القضية هي المصدر الذي صدرت منه هذه التصرفات من القبعة ولبس القميص وغير ذلك.
وأنا أقول وأقترح، ورددت هذا مراراً على منبر الجمعة وفي كثيرٍ المحاضرات: إنه كما يوجد عندنا أسبوع المرور وأسبوع الشجرة، وأسبوع مكافحة الإيدز، نحتاج إلى أسبوع وأسابيع لمكافحة التغريب وتعليم الناشئة كراهية الغرب، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] نعلم الناشئة كيف يكرهون الصفات الذميمة القبيحة الخسيسة في الغرب، لكن أيضاً يتعلمون كيف يصنعون الصاروخ الذي صنعه الغرب، والآلة التي صنعها الغرب، والحاسوب الذي صنعه الغرب، بمعنى أن الأمور السيئة التي جاء بها الغرب نحتاج إلى أسابيع ودورات إرشادية عبر مختلف وسائل الإرشاد والتوجيه والتعليم؛ لزرع بغضائها وكراهيتها في نفوس أبنائنا وبناتنا، وإلا فإن الأمر ينذر بخطرٍ، وأسأل الله أن يدفعه عن الأمة أجمعين.(27/27)
تربية المواشي وتربية الأولاد
السؤال
فضيلة الشيخ! أود في هذه المناسبة أن تلقي الضوء على بعضٍ من الآباء الذين يهتمون ببناء الاستراحات ووضع حظائر للمواشي، ويتركون تربية أولادهم فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذه من المضحكات؛ أن الواحد يهتم بتربية البهائم ولا يهتم بتربية أولاده، فعلاً ربما بعضهم تجده ذاك اليوم متهللاً، لأن البقرة جاءت بعجل، والشاة الفلانية جاءت بسخلة، لكن ولده ماذا حفظ! المستوى الشهري للدراسة! هل يثني عليه المدرسون أو لا! ربما بعضهم يفتخر، يقول: عنده تيس ما دخل زريبة إلا يريح الذي فيها، هذه مصيبة، يفتخر بهذا التيس، ويفتخر بالعنز التي فعلت كذا، أما عندك أولاد تفتخر بهم وتعلمهم القرآن؟! أما عندك جيل تفتخر به وتعلمه ما ينفعه؟! مصيبة أن العقول تدنت إلى الاهتمام بالحديقة، شجرة أو شجرتين في البيت، وتلميع الألومونيوم، وتلميع الباب، وتمسيح السيارة؛ لكن الولد لا ما يُلَمَّع ولا يُعْتَنى به ولا يُلْتَفَت إليه، وكذلك تُرَبَّى المواشي، وما نقول: تربية المواشي حرام، بالعكس هذه تجارة ورزق وحلال، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أم هانئ اتخذي غنماً فإن فيها بركة) والغنم فيها بركة، والدليل على ذلك أن الكلبة تأتي بتسعة، ومع ذلك الكلاب تكاد تنقرض، قليلة جداً، ولا أحد يُؤكِّلها، والغنم من آدم إلى يومنا هذا والناس تأكلها والغنمة ما تجيء إلا بواحد أو اثنين، ومع ذلك تتناسل وتتكاثر، هذا دليل على أن فيها بركة، وفيها رزق، وكثير من الناس فتح الله عليهم بعد الخسارة إلى ربح وتجارة بسبب الغنم والإبل، والمواشي والنعم فيها خير وبركة؛ لكن الأمر الذي ينتقد هو أن تجعل اهتمامك بالبهيمة أكثر وأعظم من اهتمامك بولدك، فهذا هو العيب، ليس العيب في أن تتاجر بالغنم، بل هذا مفخرة وكرامة.(27/28)
كيف نتخلص من الرسيفر
السؤال
فضيلة الشيخ، امرؤٌ رجع إلى الله وتاب كيف يتخلص الإنسان من جهاز الرسيفر؟ هل يبيعه على من يريده سواءً كان مسلماً أو كافراً؟ أم يرجعه على المحل الذي اشتراه منه ويبيعه عليه مرة ثانية؟ أرجو الإفادة وجزاكم الله خيراً!
الجواب
الرسيفر الذي هو جهاز استقبال البث له واحد من حلين: إما أن يُرْسَل إلى جمعية إسلامية في الخارج تستقبل به البث من المملكة العربية السعودية؛ لأنه من خلال زياراتنا للخارج نلاحظ الجمعيات الإسلامية تفرح أن يكون عندها جهاز بث تستقبل به البث الفضائي السعودي، بث التراويح في رمضان والقيام، بث خطبة الجمعة من الحرم المكي، ومن الحرم المدني، بعض البرامج الدينية التي تُبَث، فإن استطعت أن ترسله إلى جمعيةٍ تستفيد منه فهذا خير.
وإلا انظر إلى الوايتات التي تقف تبيع ماءً، فضعه تحت الإطار، هذا أحسن حل.(27/29)
أسباب انتشار المخدارت وأضرارها
السؤال
فضيلة الشيخ، أرجو أن تذكر وترشد عن ضرر المخدرات التي انتشرت في المجتمع، والتي هي سبب الانحراف والهلاك!
الجواب
لا يوجد ولد بات بريئاً وأصبح مجرماً، بات صالحاً وأصبح مروجاً للمخدرات، نام ليلة طيباً وأصبح في الصباح الباكر مجرماً، المخدرات انتشرت بأسبابٍ عديدة منها: إهمالنا في التربية.
ومن الأسباب: خيانة الأمانة، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وكون الرجل يعرف عن شخص يروج مخدرات ويبيعها ويسكت عليه والله إنه خائن خائن خائن لله ولرسوله وللمؤمنين، وسوف يخاصمه المسلمون أجمعون يوم القيامة على خيانته وصمته وسكوته، كل من يعلم عن شخص يبيع المخدرات، ويروجها ويسكت عنه سيلقى الله وهو الله عليه غاضب، سيكون خائناًَ خيانة لله وخيانة للرسول وخيانة للأمة أجمع، الإنسان لو خان صديقَه نبذه صديقُه ولا يقبله، فما بالك بمن خان كل المجتمع رجالاً ونساءً، ذكوراً وإناثاًَ.
المخدرات شرها مستطير، والحديث عنها يطول، وكم من رجلٍ كان غنياً ثرياً في وظيفة وعزٍ وكرامة، وسعة ودعة ونعمة وسعادة مع زوجته وأولاده تحولت به الحال إلى أن يفصل من وظيفته لكثرة غيابه، وأن ينقطع عنه التكسب بسبب تصرِّعه وسقوطه ضحية هذا المخدر، ثم يتسلط عليه من حوله ويعبثون بماله، ثم يبدأ يبيع من أثاث بيته ويشتري منها المخدرات، ثم تهجره زوجته لأنها لم تعد تجد رجلاً كفؤاًَ، وربما بعضهم وقد وقع هذا كما أخبرني منذ قرابة شهر تقريباً قابلت الشيخ سعيد بن مسفر حفظه الله وإياكم في جدة فقص لي قصة رجل قال: كان رجلاً موظفاً في وظيفةٍ مناسبةٍ طيبةٍ، وكان عنده زوجة سعيدة جميلة طيبة وعنده بُنَيَّة، وكان سعيداً، تصوروا ما الذي حصل؟ جاء أحد هؤلاء المجرمين الخونة، وزين له هذا المخدر، لا بدعوى أنه مخدر بل بدعوى أنه مريح للأعصاب، ويعين على فك الإجهاد الذي يعاني منه بعض الناس في العمل، ولذلك إذا أعطاك أحدٌ حبوباً وقال: لاحظ أنها طيبة، إذا طلعت من العمل تعبان كلها وسترتاح، اعلم أن ذلك ربما أراد بك شراً، والمرة الأولى الذين يروجون المخدرات يعطونك مجانياً؛ لكن المرة الثالثة أو الثانية ربما يبدءون في تشغيل فاتورة الحساب.
ولذلك الواحد إذا عُرض عليه دواء من أحد، يا أخي ما بينك وبين المستوصف أو الطبيب خطوات، تقول: والله فلان أعطاني الدواء هذا، هل آكله أم لا؟! لا تأكله، ولا تأخذ إلا من صديقك الذي تثق في دينه وأمانته ونشأته، وتعرفه، ولا يخالجك شك في إخلاصه لك، فلا بأس، لكن يأتيك واحد رأيتَه مرة أو مرتين في العمل، أو راجعك أو شيء، وقال: والله يا أخي تفضل، كأنك تعبان، ماذا في عينك؟ -قد لا يكون فيك شيء- ماذا في عينك، أكيد عليك علامات الإرهاق الشديدة، أنت والله حالتك صعبة جداً، يا أخي أنا أعرف واحداً كان مثلك، مديراً ومسئولاً ومشغولاً وكذا، فأعطاه أحدهم حبوباً مريحةً جداً، وسليمة، وأثبتت لجنة الطب الأولمبي أنها لا تؤثر على جهاز المناعة، ولا إجهاد البدن، ولا غير ذلك.
فيقول له: خير أعطنا، ائت بها.
ثم يأخذ له علبة أو علبتين.
فيقول: يا أخي! الله يريحك في الجنة، ريَّحتني.
وبعد ذلك ينقطع عنه، يبحث عنه، أين هذه الحبوب، ائتوا بها، ردوها، هاتوها.
يقول له: حَسَنٌ أنا أدبرها لك، بل ويقول له: تعال ومرَّ عليَّ في البيت -لكي يعرف البيت-.
ومرة ثالثة يقول: لاحظ الحقيقة هذه حبوب أصبحت ثمينة وغالية، ولكن هذا الشريط بمائة ريال، يأخذ الشريط بمائة، المرة الثانية الشريط بثمانمائة، بألف، ولا يزال يأخذ يأخذ، ولا يستطيع تركها أبداً، فيبدأ يسهر بها، تحمر عيونه، يخمل في عمله، يتأخر، يفصل من وظيفته.
يقول الشيخ سعيد: فوقع لهذا الرجل بالضبط مثل هذه القصة، قصة طويلة وتفاصيلها خاتمتها أنه جاء إليه الرجل، قال: ما ترك شيئاً في البيت، حتى حلي زوجته باعه، باع الأثاث، والمواد الكهربائية في البيت باعها، قال: فجاءه الرجل، قال: يا أخي أينك؟ أرجوك أعطني حبوباً من هذه التي عندك، اجعلني أرتاح.
قال: ما عندي شيء.
قال: دعنا ندخل، ما أمر إلا وفيه حلاَّل.
فلما دخل صاح الرجل على زوجته: يا فلانة أعطينا الشاي.
أرسلت الطفلةَ الصغيرة بالشاي، دخلت الطفلة الصغيرة بالشاي وضعت الشاي وذهبت.
وقال الرجل: ألا تريد أن تشتري؟ قال: ما عندي نقود، من أين أعطيك؟ قال: تعطيني هذه البُنَيَّة الآن وأعطيك الذي تريد.
قال: فما كان منه أن دعاها وأغلق الباب، وأغلق باب المجلس، ومكنه منها، وأخذ مقابل ذلك حبوباً مخدرة.
يا إخواني ماذا تتصورون من المخدرات التي تجعل الرجل يبيع عرضه وبنته ووجهه وأسرته وكرامته ودينه؟! لا شك أنها شرٌ مستطير، ولذلك أقول: لا بد أن نحذر الأبناء من شرها، كما قال الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وقع فيها الرجل وهو لا يعلم، ولذلك من الواجب على كل مدرسة وكلية ومعهد رجالاً ونساءً، ذكوراً وإناثاً، ودوائر صحية وعسكرية وأمنية ومدنية، وجميع القطاعات أن تكرر التحذير والعرض، وكشف الأساليب والخدع التي من خلالها يروج أهل المخدرات سمومهم حتى لا يقع الناس بها.
أسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه من الشر وأسبابه.(27/30)
المعصية في الخلوة
السؤال
فضيلة الشيخ، أنا ولله الحمد شابٌ ملتزم، وأدرس في حلقات للقرآن الكريم ومع خيرة الصحبة، ولكن ما ألبث أن أترك أصحابي الخيرين الذين يذكرونني بالآخرة، ما ألبث أن أعود إلى البيت فأنظر للتلفاز فتثور غرائز الشهوة والمنكرات وهكذا، فما نصيحتكم لي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الذي أوصيك به وصية الله عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
الزم هؤلاء، صحبة الخير الذين يقودونك إلى مرضاة الله عز وجل، ولا تنفرد بنفسك ما دمت تعلم أنك إذا خلوت تسلطت إلى المنكرات والصور العارية، والأمور التي لا ترضي الله عز وجل، لا تخل بنفسك: (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، (المرء قويٌ بإخوانه ضعيفٌ بنفسه).
فالزم هؤلاء الأخيار، ولا تفارقهم، واجعل جل وقتك معهم.
ولا تسمح لنفسك أن تخلو إلا لأمر لا بد لك منه، أو في قضاء حاجات أهلك قبل إخوانك، وهم مقدمون في ذلك.
ثم بعد ذلك اجعل جل وقتك ما استطعت لمجالس الخير.
والعاقل الذي يريد الخير والثواب والعلم والفضيلة لن يجد وقتاً حتى يملأ به كل هذه البرامج التي تتزاحم أمام وقته، لكن الفارغ فارغ، والإنسان بين خيارين: إما الحزم.
وإما الضياع.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.(27/31)
دار المتقين
لقد وعد الله جل وعلا المتقين بدار النعيم والخلود الأبدي، وبشرهم بالرضوان، وهو: دخول الجنة، ووصف الجنة وما فيها من نعيم وحبور دائم من المآكل والمشارب، والفاكهة والطعام، والحور العين، والقصور والغرف الفاخرة، وغير ذلك من الملك الذي هو أعظم من الدنيا وما فيها؛ وما ذلك الوصف إلا ليزداد المؤمنون تشوقاً لها، وتلهفاً لخيراتها، فاقرأ هذه المادة لترى ما أعد الله لعباده.(28/1)
حقيقة الدنيا وحقارتها
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا بكم في دار كرامته، أسأله سبحانه وتعالى أن يهيئ لنا ذاك المقام الكريم، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن أبواب الجنة، بقوله: (إن من أبواب الجنة باباً ما بين مصراعيه مسيرة ستمائة عام، وليأتين عليه يومٌ وهو كظيظٌ بالزحام) نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة.
والحديث -أيها الأحبة- مرتبطٌ غاية الارتباط بهذه المقدمة المباركة الموفقة التي توفق بها الشيخ/ عبد الرحمن سدده الله، ذاك أن الجنة هي جزاء عباد الله المتقين، جزاء عباده المتمسكين المهتدين بكلام رب العالمين، وسنة سيد الأنبياء والمرسلين، وإن أي عمل مهما بلغ ضجيج صوته، وكثرة الزحام حوله، وكثرة أتباعه، ما لم يكن مقيداً بعلم الكتاب والسنة فعلى خطرٍ أن يكون أصحابه كما قال جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4] فلا أمان من الزلل، ولا نجاة من الهلكة إلا بتقييد وضبط هذا الحماس، وتوجيه هذه الصحوة بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة في الله! خلق الله الدنيا وجعلها وما عليها إلى الفناء والزوال، أما الدنيا فلن يخلد فيها أحد، ولن يبقى فيها أحدٌ أبداً {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل وقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه الليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
أيها الأحبة! هذه الدنيا مهما تزخرفت! ومهما تزينت! ومهما تعطرت وتطيبت لأصحابها فإنهم يعلمون لا محالة أنهم يفارقونها من النور إلى القبور، ومن السعة إلى الضيق، ومن الاجتماع إلى الفرقة، ومن الأنس إلى الوحشة، ومن اللذة إلى الكدر.
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدارِ
ومكلفُ الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نارِ
يقول القائل:
أحب ليالي الهجر لا فرحاً بها عسى الله يأتي بعدها بوصالِ
وأكره أيام الوصال لأنني أرى كل وصلٍ معقبٍ بزوالِ
أيها الأحبة في الله! نحنُ في دنيا أشغلتنا وألهتنا، ولعبت بأهوائنا، وأخذت منا جهدنا، حتى أصبحنا نضع لديننا فاضل أوقاتنا، ونضع لدعوتنا آخر اهتماماتنا، ونجعل لعقيدتنا آخر ما يبقى من فكرنا وذهننا واشتغالنا يقول ابن القيم في نونيته التي سنسير هذه الليلة معها شوطاً طويلاً:
لا يلهينك منزلٌ لعبت به أيدي البلى من سالف الأزمانِ
فلقد ترحل عنه كل مسرة وتبدلت بالهم والأحزانِ
سجنٌ يضيق بصاحب الإيمان لكن جنة المأوى لذي الكفرانِ
وصدق، ومصداق قوله قول النبي صلى الله عليه وسلم (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
أيها الأحبة في الله! إننا ما عرفنا الدنيا حق المعرفة، وما عرفنا الآخرة حق المعرفة، وما عبدنا الله حق عبادته، وما قدرناه حق قدره، وما شكرناه حق شكره، ولو قمنا بذلك لادخرنا ساعة بل لحظة بل ثانية في طاعة الله وجهاد أعداء الله والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، من أجل الحصول على مرضات الله جل وعلا، إن كلمة الله لعباده في الجنة يوم يتجلى الجبار جلَّ وعلا، ويتجلى لعباده في الجنة، ويكشف لهم الستر، ويقول: يا عبادي قد رضيت عنكم، قد رضيت عليكم، أي بشارة هذه: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119].(28/2)
دار البقاء هي دار الجنة
أيها الأحبة! والله إن الواحد منا لو كان مدرساً فقيل: إن مدير المدرسة غاضبٌ عليك غير راضٍ عنك، ولو قيل: إن أمير المنطقة غاضبٌ عليك غير راضٍ عنك، ولو كان في بلدٍ وقيل: إن رئيسها أو زعيمها أو حاكمها غاضبٌ عليك وليس براضٍ عنك؛ لأشغلك ذلك الغضب وتمنيت رضاه، فما بالك لو حصل لك رضا رب العالمين، رضا ملك الملوك، رضا الرب الذي بيده نواصي العباد، رضا الرب الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويقبض ويبسط، رضا الرب الذي إذا رضي عنك فلا تسأل عن رضا أي مخلوقٍ بعده، وإن سخط عليك فلن ينفعك رضا الناس أبدا، هذا الرضا تعده في دنياك حصناً وعوناً، ولآخرتك عزاً وأمناً.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها
اعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
أرضٌ لها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
هذه الدار هي: الجنة
نعمت جزاء المتقين الجنة دار الأماني والمنى والمنة
هذه الجنة:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
هذه الجنة، حي على طريقها، حي على سنة قائدها والهادي إليها:
فحي على جنات عدنٍ فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم(28/3)
الأدلة التي ورد فيها ذكر الجنة
الجنة هي: الجزاء الذي أعده الله لعباده المتقين، إن الله وعد المتقين بالجنة وعد الصابرين بالجنة وعد الصادقين بالجنة وعد المجاهدين بالجنة وعد الدعاة إلى سبيله بالجنة وعد الهداة إلى توحيده بالجنة وما كان في القرآن وعدٌ بملك أو وعدٌ بمال، أو وعدٌ بعرضٍ من الدنيا، أو حطامها الفاني، أو شيء من الملذات إنما الوعد هو الجنة، قال تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] وقال تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود:108]، وقال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً} [العنكبوت:58]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [النساء:124]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82]، وقال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التوبة:72]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
ولما لقي الأنصار نبي الله صلى الله عليه وسلم في البيعة المشهودة قالوا: بايعناك على ماذا؟ على أن نمنعك مما نمنع عنه أنفسنا ونساءنا فما لنا يا رسول الله؟ نحن بايعناك على أن نقتل دونك، وبايعناك على أن نمنعك مما نمنع عنه نساءنا، وأبناءنا، وأنفسنا، ومحارمنا فما الذي لنا، ماذا تعطينا؟ هل تعطينا ولاية؟ هل تعطينا حكماً؟ هل تعطينا منصباً؟ هل تعطينا وزارة؟ هل تعطينا رئاسة الوزراء؟ فقال: (لكم الجنة).(28/4)
الجنة فضل ومنة من الله جل وعلا
أيها الأحبة! الجنة هي الوعد، الجنة هي الجزاء، الجنة هي الثواب، الجنة هي المآل، الجنة هي الثمن، الجنة هي الصفقة، الجنة هي التجارة، الجنة هي الغاية، الجنة هي المنتهى بعد رحمة الله سبحانه وتعالى.
أحبتنا في الله! إن الجنة التي أعدها الله جل وعلا وهي الآن موجودة، هي جنة فيها من عباد الله من ينعم، هذه الجنة ليست ثمناً لأعمالنا، ليست ثمناً لسعينا، ولا لكدنا، أو تعبنا أو صلاتنا أو قيامنا أو صيامنا؛ إنما هي فضلٌ ومنةٌ ورحمةٌ وكرامةٌ من الله جل وعلا.
ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟) أنت -أيها النبي- الذي جاهدت في الله حق جهاده، الذي بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، البر الرءوف الرحيم بهذه الأمة! أنت -أيها النبي- الذي قمت حتى تفطرت قدماك! أنت -أيها النبي- الذي ربطت على بطنك حجرين من الجوع في سبيل الله! أنت -أيها النبي- الذي صبرت على ما جاءك وأصابك في سبيل الله وفي ذات الله! قالوا: (حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).(28/5)
الحديث عن الجنة وأوصافها ووصف أهلها
أيها الأحبة! حديثنا اليوم عن دارٍ ليست بالخيال بل هي في الحقيقة، حديثنا اليوم عن دارٍ ليست في الأحلام بل هي في الواقع، حديثنا اليوم عن دارٍ قائمة موجودة، فيها من ينعم بنعيمٍ قد عجله الله له جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً يطير في الجنة بجناحين) وروى الطبراني وابن عدي والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت الجنة البارحة فنظرت فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئٌ على سرير) حمزة شيد الشهداء؛ الشهداء قال الله تعالى فيهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] هذا حمزة سيد الشهداء إنه ما فنيت حياته، ما انقضت روحه، ما زهقت نفسه، فأصبح جثة لا حراك لها؛ بل هو عند رب العالمين في جنة النعيم، قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا حمزة متكئٌ على سريرٍ في الجنة) الله أكبر! وقال صلى الله عليه وسلم: (دخلت الجنة فاستقبلتني جارية فقلت: لمن أنت أيتها الجارية؟ فقالت: أنا لـ زيد بن حارثة) صححه الألباني في صحيح الجامع.
وروى الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان فذلكم البر! فذلكم البر!) وكل هذه صححها الألباني في صحيح الجامع الصغير، قال ابن القيم:
يا خاطب الحور الحسان وطالباً لوصالهن بجنة الحيوانِ
لو كنت تدري من خطبت ومن طلبت بذلت ما تحوي من الأثمانِ
أو كنت تدري أين مسكنها جعلت السعي منك لها على الأجفانِ
ولقد وصفتُ طريق مسكنها فإن رُمْت الوصال فلا تكن بالوان
أسرع وحث السير جهدك إنما مسراك هذا ساعة لزمانِ
فاعشق وحدث بالوصال النفس وابذل مهرها ما دمت ذا إمكانِ
واجعل صيامك قبل لقياها ويوم الوصل يوم الفطر من رمضانِ
واجعل نعوت جمالها الحادي وسر تلق المخاوف وهي ذات أمانِ(28/6)
الشفاعة الكبرى والمقام المحمود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم
أيها الأحبة! عندما يساق أهل الجنة إلى الجنة معززين مكرمين، زمراً إلى جنات النعيم، إذا أقبلوا على أبوابها فتحت وشرعت لهم أبوابها، من المصاريع إلى المصاريع، تفتح هذه الأبواب، ثم تجد جموعاً من المستقبلين ومن المهنئين، وجموعاً من المضيفين، وجموعاً من المكرمين، الملائكة الكرام يهنئون أهل الجنة بسلامة الوصول عند هذا الباب، بعد ماذا؟ بعد معاناة طويلة، بعد النفخ في الصور بعد الخروج من الأجداث بعد الحشر بعد النشر بعد الهول بعد تطاير الصحف بعد رجحان الموازين إما بحسناتٍ أو بغيرها بعد أن تدنو الشمس من الخلائق فتكون على رءوسهم قدر ميل بعد أن يشتد الكرب بأهل الموقف حتى يقول أهل الموقف: من يشفع لنا؟ من يعيننا؟ من يخلصنا؟ من يدفعنا عن موقفنا هذا؟ فيلتفتون إلى آدم لا يريدونه أن يخلص بل يريدون منه شفاعة، فيقول: لست لها، فيذهبون بعد ذلك إلى إبراهيم فيقول: لا.
لست لها، فيذهبون إلى نوح فيقول: لا.
لست لها.
ويمرون بعددٍ من أولي العزم من الرسل حتى يأتون نبينا وحبيبنا وشفيعنا وقائدنا وإمامنا، وهادينا، وقدوتنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد! اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه من شدة هولٍ وحال؟ فيقول: (أنا لها) يقول صلى الله عليه وسلم: (فيفتح الله علي بمحامد لم أكن أعرفها قبل ذلك الحين، ثم أخر ساجداً لربي أسبحه وأدعوه، وأحمده وأدعوه، وأحمده وأناجيه؛ حتى يقول الجبار جل وعلا: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فيشفع صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى لأهل الموقف أي: يخفف عنهم ما هم فيه من الهول العظيم، ثم يشفع لأقوامٍ من المؤمنين فيدخلون الجنة بغير حساب، ويشفع لأقوامٍ قد استحقوا النار فيعافيهم الله ويسلمهم من النار، ويشفع لأقوامٍ تخفف درجاتهم في النار أو يخرجون من النار بعد أن يمكثوا منها قليلاً، ويشفع شفاعة خاصة لعمه أبي طالب ذاك الذي كان كثيراً ما يحنوا عليه، ويحدب عليه، ويصونه، ويحوطه، ويعيله، ويقف معه، ويجاهد قريشاً دونه، ولكن ما نفعه ذلك؛ لأنه ما قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أبو طالب الذي يقول:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذارِ مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
أبو طالب الذي وقف وقفة الجبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ما نفعه ذلك؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا الموحدون؛ لأن الجنة لا يدخلها إلا من سلم من الشرك، من سلم من نواقض التوحيد، من سلم مما يشوب توحيده وإيمانه.(28/7)
مجاوزة المؤمنين الصراط ودخولهم الجنة زمراً وجماعات
تخيل أخي! في الدنيا أنك مع زمرة من الكرام والأكابر ذوي الحسب والنسب والمال والجاه والثروة تقدمون إلى قصرٍ من القصور، فإذا دنوتم فتحت أبواب القصور لكم، وخرج المهنئون، وضربت لكم التحايا، واصطفت الناس بين أيديكم، ألا تجدون عظمة في النفوس؟! ألا تجدون شيئاً يملأ القلوب؟! فما بالك إذا فتحت أبوابٌ ليست أبواب قصور الدنيا التي تفنى وتهرم وتبيد:
ونبني القصور المشمخرات في السما وفي علمنا أنا نموت وتخربُ
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أي قصرٍ! تفتح قصور الجنة، أبواب الجنة يوم أن تفتح والملائكة هم الذين يستقبلون ويهنئون ويقولون: سلامٌ عليكم طبتم حياكم الله! طبتم بياكم الله! طبتم أكرمكم الله! نجاكم الله! هداكم الله! وفقكم الله! التحايا من الملائكة في البشارة والتهنئة لهذه الأقدام التي جازت على الصراط، والصراط الذي نصب على جسر جهنم، والكلاليب تخطف الناس عن يمينه وشماله، أليس حرياً أن يهنأ عابرٌ بعد أن جاوز هذا الصراط؟! بلى والله، هذا المشهد العظيم، يقول فيه ربنا جل وعلا: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] طابت أعمالكم، طابت أقوالكم، طابت عقيدتكم، أصبحت نفوسكم زكية، وقلوبكم طاهرة، فبرحمة الله ثم بهذا استحققتم أن تكونوا من أهل الجنة.
ثم يأتي أقوامٌ من المؤمنين يدنون قبيل دخولهم من الجنة، لكن تهذب نفوسهم، وتنقى أبدانهم، روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعضٍ مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمدٍ بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا) أي كرامة! أي عزة! أي نعيم يوم أن تُصَفَّى يوم أن تُنَقَّى يوم أن تُطَهَّر ثم تدخل الجنة! أنت تعرف مكانك في الجنة كما تعرف بيتك لا تتعداه إلى بيت جارك ولا تقصر عنه إلى بيت جارٍ آخر، بل أنت أهدى لمنزلك في الجنة من هدايتك لمنزلك في الدنيا.(28/8)
أول زمرة يدخلون الجنة بغير حساب
ثم أيها الأحبة! هناك كوكبة، هناك زمرة وثلة يدخلون الجنة بغير حساب، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنتيهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحدٍ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجلٍ واحد يسبحون الله بكرةً وعشياً) واسمعوا قول الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] واسمعوا قول الله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:10 - 26].
أيها الأحبة! إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم:
هذا وأول زمرة فوجوههم كالبدر ليل الست بعد ثمانِ
السابقون همُ وقد كانوا هنا أيضاً أُلِي سبقٍ إلى الإحسانِ
وقال في الزمرة الأخرى:
والزمرة الأخرى كأضوء كوكبٍ في الأفق تنظره به العينانِ
أمشاطهم ذهبٌ ورشحهم فمسكٌ خالصٌ يا ذلة الحرمانِ
أيها الأحبة! هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب، من هم؟ وكم عددهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجلٍ واحد) انظروا إلى هذا النبي البر الرحيم الحبيب بالأمة صلى الله عليه وسلم قال: (فاستزدت ربي) طلبت الزيادة، أريد أن يدخل أكثر من سبعين ألفاً من أمتي الجنة بلا حساب قال: (فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحدٍ سبعين ألفا) صححه الألباني في صحيح الجامع، وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان عن أبي أمامة بإسنادٍ صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بلا حسابٍ عليهم ولا عذاب، مع كل ألفٍ سبعون وثلاث حثيات من حثيات ربي) صححه الألباني في صحيح الجامع وذكر في هذه الرواية زيادة (وثلاث حثياتٍ من حثيات ربي).(28/9)
خروج الجهنميين من النار
أيها الأحبة! نحن العصاة، نحن المفرطون، نحن المقصرون، متى ندخل الجنة؟ متى نرد إلى أبوابها؟ إن من معتقد أهل السنة والجماعة أن من كان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ولم يأت بما ينقض التوحيد أو يوجب الشرك والكفر، فإنه لو دخل النار لا يخلد فيها بل يخرج منها ويدخل الجنة ولكن الله أعلم كم يمكث في هذه النار؟ روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناسٌ أصابتهم النار بذنوبهم أو قال: بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً -حتى إذا كانوا بسبب لهيب النار وحرها ونارها وسمومها وعذابها- حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة! أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل) رواه مسلم، ولـ مسلم من حديث جابر بن عبد الله يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة) رواه الإمام مسلم وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة يسميهم أهل الجنة بالجهنميين، كما في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة يسمون الجهنميون) وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة الطويل في وصف الآخرة: (حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول: لا إله إلا الله) والشرط تذكروا (من لا يشرك بالله شيئاً) قال: (فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكله، فيخرجون من النار وقد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة؛ فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل).(28/10)
آخر أهل النار خروجاً منها رجل يمشي مرة ويكبو مرة
ولكن أيها الأحبة! هؤلاء الذين خرجوا من النار ودخلوا الجنة، ما بال آخرهم خروجاً من النار ودخولاً الجنة؟! ما بال آخرهم خروجاً من هذا العذاب ودخولاً في بداية النعيم؟! أتراه يظن أنه بقي له من النعيم شيء؟! انظروا إلى حال عبدٍ من عباد الله في هذا الحديث الصحيح الطويل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آخر من يدخل الجنة رجل يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها -ذلك العبد الذي خرج من النار يمشي ويكبو ويسقط ويقوم- يلتفت إلى النار بعد أن جاوزها ويقول: تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين) يظن أن أنعم النعيم هو نجاته وسلامته من النار قال: (فترفع له شجرة فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا يا رب ويعاهد العبد ربه ألا يسأل الله غير البلوغ إلى هذه الشجرة، قال: وربه عز وجل يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه الله من هذه الشجرة، فيستظل ذلك العبد بظلها، ويشرب من مائها.
فإذا استقر فيها رفعت له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول العبد: أي رب أدنني من هذه الشجرة لأشرب من مائها ولأستظل بظلها لا أسألك غيرها فيقول الله جل وعلا: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟! فيقول الجبار جل وعلا: لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيقوم العبد يعاهد ربه ألا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه الله منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها.
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة -كل هذه الأماني كل هذه الطيبات قبل وصول باب الجنة- وهي أحسن من الأوليين فيقول العبد: أي رب! أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها يا رب! فيقول الله: يا ابن آدم! ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب لا أسألك غيرها وربنا عز وجل يعذره؛ لأن ذلك العبد يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه الله منها؛ فإذا أدناه الله من هذه الشجرة سمع أصوات أهل الجنة فيقول العبد: يا رب! أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم! وما الذي يرضيك أو يقطع مسألتك يا عبد! أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال العبد: يا رب! أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟! فضحك ابن مسعود رضي الله عنه فقال ابن مسعود: ألا تسألونني مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! فيقول: إني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر) أخرجه الإمام مسلم.
أيها الأحبة! الجنة نعيمٌ وخلودٌ وبقاءٌ لا فناء بعده: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف:107 - 108].
وفي الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) رواه الإمام مسلم في صحيحه.(28/11)
وصف بناء الجنة
أيها الأحبة! من هؤلاء الذين يبيعون الجنة بسفرٍ إلى الخارج في الإجازات يعاقر الشراب وصور العاريات، وفرش البغايا والزانيات؟! من هؤلاء الذين يبيعون الجنة بنعيم أعد الله فيه لأهل الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟! جلس الصحابة رضوان الله عليهم ذات يوم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن بناء الجنة؟ فقال صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في وصف الجنة قولاً لذيذاً جميلاً طيباً يقول صلى الله عليه وسلم: (الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الإذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه) رواه أحمد والترمذي وهو صحيح، وصدق الله حيث يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] أما ما أخفاه الله عن أهل الجنة من نعيمها فشيءٌ عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار، قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).(28/12)
أهل الجنة في درجات مختلفة ومتفاوتة
ثم إن أهل الجنة إذا دخلوها هم في درجاتٍ يتفاوتون: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هل يستوي أولئك الذين تعرض عليهم الأفلام فيقولون: إنا نخاف الله ونستخدم البصر في طاعة الله مع الذين يسهرون البصر على معصية الله؟! هل يستوي أولئك الذين يصومون النهار ويقومون الليل مع أولئك الذين ضيعوا صيامهم وناموا عن صلاة الفجر؟! هل يستوي أولئك الذين يتعففون عن الحرام، وينتبهون كيف يدخلون الحلال مع الذين يجمعون المال بالرشوة وبكل سبيلٍ لا يبالون أمن حلال أم من حرام؟! لا.
ولأجل ذلك فإن من دخل الجنة ولو بعد خروجه من النار فإنه في درجاتٍ متفاوتة بينه وبين أهل الجنة السابقين، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها، قالوا: يا رسول الله! أفلا نبشر الناس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة) الجنة درجات، الجنة منازل، الجنة غرفٌ من فوقها غرفٌ منبية، ثبت في الصحيح عن أنس أن أم حارثة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قتل ولدها حارثة في معركة بدر أصابه سهمٌ طائش فقالت: (يا رسول الله! قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان حارثة في الجنة لم أبكِ عليه، وإلا سوف أريك ما أصنع إن لم يكن في الجنة فقال لها: أجنة واحدة هي يا أم حارثة؟ إنها جنانٌ كثيرة، وإن ولدك حارثة قد أصاب الفردوس الأعلى منها) الله أكبر! الجنة درجات، فهنيئاً لمن كان في أعلى درجاتها، هنيئاً لمن نالها برحمة الله، هنيئاً لمن شمر لها وأعد لها، وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا التفاوت الواضح في درجات ومنازل أهل الجنة ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو من المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! أتلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده رجالٌ آمنوا بالله وصدقوا المرسلين) هذه الجنة كما يقول ابن القيم.
غرفاتها في الجو ينظر بطنها من ظهرها والظهر من بطنان
سكانها أهل القيام مع الصيام وطيب الكلمات والإحسانِ(28/13)
وصف أنهار الجنة
أيها الأحبة! وهذه الجنة ترابها المسك وفيها حبايل اللؤلؤ، وفيها من النعيم: عيونٌ من الكافور، عيونٌ من التسنيم، عيونٌ من السلسبيل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45]، {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50]، {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] هذه العيون النابعة في الجنة ما هي ومن أي شراب؟ إن في الجنة عينان يشرب المقربون ماءهما صرفاً غير مخلوطٍ، ويشرب منها الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره، العين الأولى عين الكافور قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6].
والعين الثانية عين التسنيم قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:22 - 28].
ومن عيون الجنة عينٌ اسمها السلسبيل قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان:17 - 18].
أيها الأحبة! {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] اسألوا أنفسكم، ولنسأل أنفسنا في ماذا تنافسنا؟ في الأسهم! في العقارات! في المسابقات الوظيفية! في السيارات الفارهة! في متاع الدنيا! في حطامها الفاني! أموالٌ نجمعها لورثتنا، ودورٌ نبنيها لخراب دهرنا، والله إننا نضيع حظنا من الآخرة بحطامٍ فانٍ في الدنيا.
أما قصور الجنة، أما مساكن الجنة يقول تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:12] ويقول تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20].(28/14)
وصف غرف الجنة وقصورها
لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، وخرجوا يستقبلونه، يقول عبد الله بن سلام: فكنت فيمن انجفل فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم علمت أنه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما قال: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام) وقد أخبرنا جل وعلا أن هذه القصور وهذه الغرف وهذه الخيام فيها أمرٌ عجيب قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] وهذه الخيام -أيها الأحبة- خيمة عجيبة من اللؤلؤ بل كل هذه الخيمة لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، وفي بعض الروايات أن عرضها ستون ميلا، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الخيمة درة مجوفة، طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهلٌ لا يراهم الآخرون) أتريدون بيوتاً في الجنة؟ أتحبون أن تعمروا دوراً في الجنة؟ أتحبون أن تشيِّدوا قصوراً في الجنة؟ (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له به بيتاً في الجنة) بناؤك لمسجد ولو بقدر ما تقع فيه قطاة أو حمامة أو طير تجعله وقفاً لله يصلي فيه المسلمون سواءً في هذه البلاد أو في أي بلاد، تحرص أن يكون هذا المسجد يعبد الله فيه وحده ولا يشرك به شيئاً، أبشر بأن هذا من أسباب بناء الدور لك في الجنة.
في مسند أحمد عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة عن أم حبيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً بنى الله له بيتاً في الجنة) يعني: الفقير الذي ما عنده ريالات أو دنانير أو دولارات أو دراهم يبني بها مسجداً يداوم على اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة تطوعاً مع محافظته على الفرائض والواجبات فإنه بذلك يبنى له بيتٌ في الجنة.
قال ابن القيم:
للعبد فيها خيمة من لؤلؤٍ قد جوفت هي صنعة الرحمن
ستون ميلاً طولها في الجو في كل الزوايا أجمل النسوانِ
يغشى الجميع فلا يشاهد بعضهم بعضاً وهذا لاتساع مكانِ
فيها مقاصيرٌ بها الأبواب من ذهبٍ ودرٍ زين بالمرجان
وخيامها منصوبة برياضها وشواطئ الأنهار بالجريانِ
ما في الخيام سوى التي لو قابلت للنيرين لقلت منكسفانِ
يعني: ما في الخيمة إلا حورية لو قابلت الشمس والقمر لسطع نورها أمام الشمس والقمر وقلت: إن الشمس والقمر منكسفان منخسفان:
لله هاتيك الخيام فكم بها للقلب من عُلقٍ ومن أشجانِ
فيهن حورٌ قاصرات الطرف خيراتٌ حسانٌ هن خير حسانِ
خيرات أخلاقٍ حسانٌ أوجهاً فالحسن والإحسان متفقانِ(28/15)
ليس في الجنة ليل ولا نهار
أيها الأحبة! هل في الجنة ليل؟ هل في الجنة نهار؟ قال العلماء: ليس في الجنة ليلٌ ولا نهار، وإنما هم في نورٍ دائماً وأبداً، ويقول الله جل وعلا: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] فهل يدل ذلك على أن في الجنة ليلٌ ونهار؟ قال العلماء: إنما هو نورٌ دائم وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره ابن الجوزي.
ويقول ابن تيمية في هذه المسألة: الجنة ليس فيها شمسٌ ولا قمر، أين الشمس والقمر؟ يكونان ثورين يكوران في النار، الله أكبر هذه المخلوقات العجيبة أين تكون؟ هذه الجبال والشمس والقمر والسماء، الله أكبر! {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105] تنتهي قبل بلوغ هذه المرحلة: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات:10] هذه الجبال العظيمة الرواسي لو جمعت جيوش الأرض منذ أن قامت الساعة إلى يومنا هذا ليزيلوا جبال بقعة من بقاع الأرض ما أزالوها، لكن الله جل وعلا: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:5] ترى الجبال متطايرة كأنها الصوف المتطاير من شدة الهول: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار:1 - 4]، {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2].
كل هذه الكواكب وكل هذه الأفلاك، وكل هذه المخلوقات العظيمة التي هي أعظم من خلق الأرض ومن عليها وما فيها تتطاير وتنتهي وتزول حتى البحار تتفجر وتشتعل ناراً: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] أي: تشتعل بالنار.
أيها الأحبة! قلنا: إن الشمس والقمر غير موجودين في الجنة أو لا يوجد ليلٌ ولا نهار وإنما هو نورٌ -كما يقول ابن تيمية - والجنة ليس فيها شمسٌ ولا قمرٌ ولا ليلٌ ولا نهار، ولكن يعرف البكور والعشي بنورٍ يظهر من قبل العرش.(28/16)
طعام أهل الجنة
إخواننا! ما هو طعام أهل الجنة؟ طعامنا إذا لم نجده نموت من الجوع، وإذا شبعنا أمرضنا وأتخمنا، ثم نخرجه عذرة وغائطاً وبرازاً في الخلاء والمراحيض، مشقة في كل الأحوال، مشقة في طلبه، مشقة في أكله، مشقة في هضمه، مشقة في إخراجه، ولو بقي الطعام لرضي الواحد أن يجز بطنه وأن يشق جوفه من أجل إخراج لقمٍ أكلها وكان يشتهيها، والشراب الذي نشربه نشربه ثم لو انحصرنا فلم نستطع أن نخرجه لرضينا أن تشق منا الأجواف لإخراجه، طلب الماء مشقة ولو فقدناه لهلكنا، ولو أودعناه أجوافنا مللنا منه حتى نخرجه هذا مثال الدنيا، أيها الأحبة! لكن طعام أهل الجنة، يقول ابن القيم فيه بنظمه الجميل في النونية: الكافية الشافية:
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طيرٍ ناعمٍ وسمانِ
وفواكه شتى بحسبِ مناهم يا شبعة كملت لذي الإيمانِ
لحمٌ وخمرٌ والنسا وفواكهٌ والطيب مع روحٍ ومع ريحان
وصحافهم ذهبٌ تطوف عليهم بأكف خدامٍ من الولدانِ
وانظر إلى جعل اللذاذة للعيون وشهوة للنفس في القرآن
للعين منها لذة تدعو إلى شهواتها بالنفس والأمران
سبب التناول وهو يوجب لذة أخرى سوى ما نالت العينانِ
أيها الأحبة! قد يقول قائل: أليس أهل الجنة لا يجوعون فلماذا يأكلون؟! وقد يقول قائل: أليس أهل الجنة لا يظمئون فلماذا يشربون؟! قد أورد القرطبي هذا وأورده كثيرٌ من السلف رضوان الله عليهم فقالوا: إن طعام وأكل أهل الجنة ليس عن جوع، وإن شرابهم ليس عن ظمأ، ولكنها لذات الأكل ولذات الشراب، فإذا شبعوا وأكلوا كان الأكل لذة، وكان تصريف هذا الطعام والشراب لذة قال ابن القيم في هذا:
هذا وتصريف المآكل منهم عرقٌ يفيض لهم من الأبدانِ
كروائح المسك الذي ما فيه خلطٌ غيره من سائر الألوانِ
فتعود هاتيك البطون ظوامراً تبغي الطعام على مدى الأزمانِ
لا غائطٌ فيها ولا بولٌ ولا مخطٌ ولا بصقٌ من الإنسانِ
ولهم جشاءٌ ريحه مسكٌ يكون به تمام الهضم بالإحسانِ
هذا وهذا صح عنه فواحدٌ في مسلم ولـ أحمد الأثرانِ
الله أكبر! أي هذا الخير! أي هذا النعيم! أي تلك النعم وتلك البركات وتلك الرحمات!!(28/17)
وصف أشجار الجنة
أيها الأحبة! إننا نستطيع أن ندرك نصيبنا بإذن الله وبرحمته مما نحن بصدده، ولكن ما الذي يقعد بنا عن هذه الجنة؟ قبل أن أجيب على ذلك نكمل شيئاً مما بقي من وصفها فأما أشجار الجنة الحدائق والنخيل ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها) هذه شجرة واحدة، وسدرة المنتهى في الصحيحين أيضاً قال صلى الله عليه وسلم (ثم انطلق بي حتى انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة -يشير إلى أمة كانت عنده صلى الله عليه وسلم- فغشيها ألواناً لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبايل اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك) وأما شجرة طوبى فشجرة عظيمة كبيرة تخرج منها ثياب أهل الجنة، ففي مسند أحمد وتفسير ابن جرير وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) وقد دل على أن ثياب أهل الجنة تشقق عنها ثمار الجنة حديثٌ رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر قال (جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تخلق أم نسجاً تنسج؟) صحابي يفكر في الثياب في الجنة فجاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل هي خلقٌ يخلق أم نسجٌ ينسج؟ فضحك بعض القوم الجالسين فقال صلى الله عليه وسلم: (ومم تضحكون من جاهلٍ سأل عالماً؟! ثم أكب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أين السائل؟ فقال: هو ذا أنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
بل تشقق عنها ثمرة الجنة).(28/18)
في الجنة كل ما تشتهيه الأنفس
والذين يحبون الأباعر ويعشقون الخيل والدواب في الجنة ما تتمناه أنفسهم، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ففي مسلم وأخرجه أيضاً أبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود قال: (جاء رجلٌ بناقة مخطومة فقال: يا رسول الله! هذه الناقة في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم: لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة) وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، أهل الجنة يتمنون أشياء، وقد تعجبون من الأماني، يتمنى بعض أهل الجنة أمنية، فهذا واحدٌ يستأذن ربه أن يزرع في الجنة، واحدٌ من أهل الجنة يستأذن الله أن يزرع في الجنة ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث وعنده رجلٌ من الأعراب من أهل البادية فقال صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له الله جل وعلا: يا عبد ألست فيما شئت؟) فلم الحاجة إلى الزرع؟ ماذا تريد من الزرع وأنت في زرعٍ وظلٍ ونعيم؟ (ألست فيما شئت؟ قال: بلى.
ولكن أحب الزرع، فآتاه الله ما أراد فبذر -أخذ يبذر- فبادر الطرف نباته -يعني: ما يضع البذرة حتى يلاحق الثمار ببصره- فبذر فبادر الطرف نباته واستواءه وحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله تعالى: دونك يا ابن آدم! فإنك لا يشبعك شيء قال الأعرابي الذي كان جالساً عند الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! والله لا تجد هذا السائل إلا قرشياً أو أنصارياً -هذا الذي يريد أن يزرع في الجنة- يقوله الأعرابي يا رسول الله! والله لا تجد هذا السائل إلا قرشياً أو أنصاريا فإنهم أصحابُ زرع وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وهذا رجلٌ آخر من أهل الجنة يتمنى أمنية، يتمنى الولد فيحقق الله له أمنيته في ساعة واحدة، حيث يتم الحمل والوضع في ساعة، روى الترمذي في سننه وأحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه في ساعة واحدة كما يشتهي).(28/19)
غناء الحور العين في الجنة
ثم نداءٌ إلى أهل الطرب الذين يحبون الطرب ويحبون أن يلذذوا الأسماع، ويحركوا الأشجان، لا تبيعوا طرباً في الجنة بطربٍ على أعوادٍ واجتماعٍ على المعصية، وصورٍ محرمة، ومقابلاتٍ خبيثة، ومجالس سيئة، وروائح نتنة، في الجنة غناء جميل أخبر صلى الله عليه وسلم أن الحور العين في الجنان يغنين أغاني جميلة، أغاني حلوة بأصواتٍ جميلة عذبة ففي معجم الطبراني الأوسط بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصواتٍ ما سمعها أحدٌ قط وإن مما يغنينه: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرن بقرة أعيان) وإن مما يغنين به أيضاً: نحن الخالدات فلا يمتن، ونحن الآمنات فلا يخفن، ونحن المقيمات فلا يظعن قال ابن القيم في هذا المقام في الكافية الشافية:
قال ابن عباسٍ ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصانِ
فتثيرُ أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان بالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
أو ما سمعت سماعهم فيها غناء الحور بالأصوات والألحانِ
واهً لذياك السماع فإنه ملئت به الأذنان بالإحسانِ
واهً لذياك السماع وطيبه من مثل أقمارٍ على أغصانِ
واهً لذياك السماع فكم به للقلب من طربٍ ومن أشجانِ
واهً لذياك السماع ولم أقل ذياك تصغيراً له بلسانِ
ما ظن سامعه بصوتٍ أطيب الأصوات من حور الجنان حسانِ
نحن النواعم والخوالد خيرات كاملات الحسن والإحسانِ
لسنا نموت ولا نخاف وما لنا سخطٌ ولا ظغنٌ من الأضغانِ
طوبى لمن كنا له وكذاك طوبى للذي هو حظنا لفظانِ
ثم يقول ابن القيم ينادي أولئك الذين أشغلوا أو ضيعوا وفوتوا نعمة ذلك السماع والغناء اللذيذ في الجنة بأغاني المطربين والتافهين والساقطين والمهرجين والممثلين الماجنين وغيرهم يقول:
نزه سماعك إن أردت سماع ذياك الغنى عن هذه الألحانِ
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمانِ
إن اختيارك للسماع النازل الأدنى على الأعلى من النقصانِ
والله إن سماعهم في القلب والإ يمان مثل السم في الأبدانِ
والله ما انفك الذي هو دأبه أبداًَ من الإشراك بالرحمنِ
فالقلب بيتُ الرب جل جلاله حباً وإخلاصاً مع الإحسانِ
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلانِ
وهذا والله صحيح الذين يسمعون الأغاني وهي ذكرهم -والعياذ بالله- بكرة وعشياً بعضهم يسمع الكلام عن الجنة فلا تدمع عينه شوقاً، ويسمع الآيات عن النار فلا يضطرب قلبه وجلاً وخوفاً، ثم يسمع صوتاً كأنه صوت البوم كأنه صوت الغربان، كأنه صوت الشياطين ولو صدر من بشر، ثم تجده يطرق ويبكي ويتكسر من هذا الغناء الدنيوي الساقط ويبيع حظه من الأخروي قال:
فإذا تعلق بالسماع أصاره عبداً لكل فلانة وفلانِ
حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعانِ
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمانِ
واللهو خف عليهم لما رأوا ما فيه من طربٍ ومن ألحانِ
قوت النفوس وإنما القرآن قوت القلب أنى يستوي القوتانِ
ولذا تراه يحظ في النقصان كالجهال والصبيان والنسوانِ
يقول: هذه الأغاني التي يسمعها أهل الدنيا هي حظ أهل النقصان
وألذهم فيه أقلهم من العقل الصحيح فسل أخا العرفانِ
يا لذة الفساق لست كلذة الأبرار في عقلٍ ولا قرآنِ(28/20)