أخطاء بعض المصلين المتعلقة بصفة الصلاة(40/11)
الجهر بالنية
النوع الرابع من الأخطاء: أخطاؤهم في صفة صلاتهم، وأول هذه الأخطاء الجهر بالنية، فلو تأملنا في صلاة البعض لسمعنا العجب العجاب، فمنهم من يقول: نويت أن أصلي صلاة العشاء أربع ركعات حاضراً أداءاً، وبعض الناس يقول: الصلاة فرض الله، اللهم أحسن وقوفنا بين يديك، ولا تفضحنا يوم العرض عليك، وبعض طلاب العلم يفعل ذلك فيخالف السنة، والناس المساكين يقتدون به.
فالجهر بالنية لا يجوز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جهر بها، والنية محلها القلب، فلا يشرع الجهر بها في صلاة ولا في صيام.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وعلم المسيء صلاته بأن قال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبر)، ولم يقل له: انوي أو تلفظ بالنية، فالنية محلها القلب وهي أساس الأعمال، كما قال الإمام الشافعي في حديث (إنما الأعمال بالنيات).
يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم.
أي: في الصلاة والوضوء وغيرهما، وأول ركن في التيمم والغسل والصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة هو النية.(40/12)
عدم تحريك اللسان في الصلاة
الخطأ الثاني: عدم تحريك اللسان في التكبير وقراءة القرآن وسائر أركان الصلاة وأذكارها، والاكتفاء بتمريرها على القلب، فيقرأ ويكبر ويقول: سبحان ربي العظيم، كل ذلك بقلبه، وهذا لا يصلح؛ لأن حديث القلب لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، ولا يترتب عليه صحة ولا بطلان.
وقد سبق أن من مبطلات الصلاة: الكلام، ولو أن أحدهم وقف في الصلاة وقال: سأذهب بعد الصلاة إلى مكان كذا، وسوف آكل كذا، أو نحو هذا الكلام فإن صلاته باطلة بالإجماع، لكنه لو قال ذلك بقلبه فحديث القلب لا يؤاخذ الله به، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به نفسها).
إذاً: فلا بد من تحريك اللسان والشفتين في الصلاة، قال الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16]، وكما لا يؤاخذ الإنسان بما حدثت به نفسه من الشر، فكذلك لا يجازى على ما حدث به نفسه من القراءة أو الخير.(40/13)
ترك رفع اليدين إلى حذو المنكبين
جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رفع اليدين إلى حذو المنكبين في أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع، وعند القيام للركعة الثالثة من التشهد الأول، فهذه هي السنة، ولكن كثيراً من الناس يتركونها، وقد رويت بالتواتر عن نحو خمسين صحابياً، فقد رووا كلهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تلك المواضع.
ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الناس: عدم التقيد بالسنة، فإذا رفع يديه حاذ بأطراف أصابعه فروع أذنيه، والسنة: أن يرفع المصلي يديه على حذو منكبيه، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل.
وبعض الناس يبالغون في رفع أيديهم كأنهم في رياضة، وبعضهم يرفع يديه قليلاً فلا يصل بها إلى المنكبين, ولا إلى فروع الأذنين، والواجب الحرص على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(40/14)
ترك الضم
الخطأ الثالث: إسبال اليدين وعدم وضعهما على الصدر أو تحته، فمن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، إما فوق الصدر، وإما تحت الصدر فوق السرة، ولربما قبض عليه الصلاة والسلام بيمناه على كوع يده اليسرى، لذا لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يسدل في الصلاة.
وبعض الناس في هذه الأيام يقف مسدلاً يديه ويزداد الأمر سوءاً حين يفتح رجليه! أما الأحاديث الواردة في وضع اليدين تحت السرة كما يقول الأحناف فلا تصح.
وفي هذه المسألة شبهة يتعلق بها المالكية، وهي ما رواه ابن القاسم رحمه الله في المدونة أن مالكاً رحمه الله كان يسبل في الصلاة.
أي: يصلي مسبلاً دون أن يضم، فقال المالكية بأن السنة هي الإسبال، وأن القبض مكروه، وقال بعضهم: بأن القبض مكروه إذا كان للاعتماد، أي: للاستناد.
والجواب على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن مالكاً روى في الموطأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث: تعجيل فطورنا، وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على مياسرنا في الصلاة)، والقاعدة: أن الراوي إذا خالف روايته فالحجة فيما روى لا في ما رأى، فلو روى أحدهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء (يا سعد! لا تسرف، قال: أفي الوضوء سرف يا رسول الله؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جاري) وبعد ذلك وجدنا الذي روى هذا الحديث إذا توضأ يفتح الماء فينزل بغزارة، فليس معنى ذلك ألا نعمل بهذا الحديث؛ لأن الراوي خالفه، فالحجة فيما روى لا فيما رأى.
فلو ورد بأن مالكاً رحمه الله كان يسبل فالحجة فيما رواه في موطئه، لا فيما رآه رحمه الله.
الوجه الثاني: أن مالكاً كان يسبل؛ لأن جعفر بن سليمان يوم أن كان والياً على المدينة ضربه حتى خلع كتفه، وذلك أن مالكاً رحمه الله كان في مجلسه في المسجد النبوي الشريف يحدث بحديث: (ليس على مستكره طلاق)، أي: من كان أكره على الطلاق فطلاقه لا يقع.
فذهب أناس إلى جعفر بن سليمان فقالوا له: أيها الأمير! إن مالكاً يقول: أيمان بيعتكم هذه ليست بشيء.
وذلك أن البيعة للخليفة كانت تؤخذ بأن يحلف بالطلاق ألا يخرج على الخليفة، أو يقوم عليه بانقلاب؛ أو يريد به شراً.
ففسروا كلام مالك بأنه يقصد الخلافة والخليفة، فبعث إليه جعفر بن سليمان: ألا تحدث بحديث: (ليس على مستكره طلاق)، ثم أرسل إليه جاسوساً يسأله عن طلاق المكره.
-ومن عادة أهل العلم ألا يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ولا يشترون به ثمناً قليلاً- فقال الإمام مالك لما سئل: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس على مستكره طلاق)، فجاء به ذلك الرجل وضربه ضرباً شديداً حتى خلعت كتفه رضي الله عنه، ثم حمله على حمار مستدبراً -أي: عكس اتجاه رأس الحمار- وطاف به في الأسواق، فكان رحمه الله -وهم يطوفون به- يقول: أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، أقول: (ليس على مستكره طلاق)، وهكذا حتى أنزلوه من ظهر الحمار.
وبعد ذلك اعتذر إليه فيما بعد أبو جعفر المنصور وقال له: والله ما كان عن رضا منا، وإنما كان ذلك من والي المدينة، وما أمرنا ولا رضينا حين بلغنا ذلك، وحاول أن يسترضي مالكاً رحمه الله.
ولما كان أبو جعفر المنصور يناضر الإمام مالك في مسائل العلم رفع صوته، فقال له مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك، فإن الله تعالى أدب أقواماً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]، وذم أقواماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4]، ومدح أقواماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3].
وكان ذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم استدعاه الخليفة إلى قصره وأكرمه، وكان لـ أبي جعفر المنصور ولد يأتي ينظر ثم يرجع، وهكذا، فقال له أبو جعفر: يا أبا عبد الله -يعني مالكاً رحمه الله- أتدري لما يصنع الغلام ذلك؟ قال له: لمَ؟ قال له: هيبة منك، فكان يتهيب مالكاً، وهو الذي مدح بقول القائل: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان حتى الولاة كانوا إذا وقفوا أمامه يبتعدون فيرتعدون؛ لأنه خاف من الله فهابه الناس.
المقصود أن مالكاً رحمه الله لو أسبل فإنه معذور؛ لأن كتفه قد خلع، والإنسان إذا خلعت كتفه لا يستطيع أن يرفع يديه، فضلاً عن أن يضمها إلى صدره.
والحجة فيما رواه مالك لا في ما كان يفعله رضي الله عنه.(40/15)
ترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة قبل القراءة
الرابع من الأخطاء التي تتعلق بصفة الصلاة: ترك دعاء الاستفتاح والاستعاذة قبل قراءة الفاتحة، والسنة قد ثبتت بذلك كله.
وعند المالكية أن الاستعاذة ودعاء الاستفتاح والبسملة من المكروهات في الصلاة، وإنما يبدأ المصلي بقراءة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
والذي ينبغي على المصلي ألا يترك دعاء الاستفتاح أو البسملة أو الاستعاذة.
ودعاء الاستفتاح قد ورد بصيغ متعددة: منها: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء البرد).
ومنها: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك).
وبعض العلماء قالوا: هذا الدعاء أفضل من الأول؛ لأن هذا صحبه ثناء على الله، وهو دعاء عبادة ليس دعاء مسألة.
ومنها: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]))، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
ومنها: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
ومنها: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، ومنها: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عن سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك هذا منك وإليك، تباركت ربي وتعاليت).
ولو كان المصلي إماماً فليختر أطول هذه الأدعية.(40/16)
رفع البصر إلى السماء في الصلاة
الخطأ الخامس: رفع البصر إلى السماء، فقد تجد بعض الناس يرفع بصره في الصلاة وينظر إلى أعلى، وقد يقول إنه لم يرفع بصره إلى السماء إنما رفع إلى أعلى.
و
الجواب
أن كل ما هو أعلى منك فهو سماء، ورفع البصر في الصلاة منك فهو سماء، ورفع البصر في الصلاة منهي عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم، لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم).
فالسنة أن ينظر المصلي إلى موضع السجود.(40/17)
الالتفات في الصلاة
الخطأ السادس: الالتفات يميناً وشمالاً في الصلاة، ففي حديث أن عائشة: سئلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات فقال: (هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد).
والنهي عن الالتفات يعم الالتفات بالرأس أو بالعينين، وهو مكروه، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله عز وجل: (يقبل على العبد في صلاته ما لم يلتفت).
ولو ضربنا مثلاً {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]: لو أن أحدنا يكلم ولده فأخذ الولد يلتفت يميناً وشمالاً، فلا شك أنه لن يقبل ذلك التصرف من ولده، فإذا كان الإنسان ينكر هذا الفعل من ولده فكيف لا ينكره وهو واقف بين يدي خالقه!(40/18)
إغماض العينين في الصلاة
الخطأ السابع: إغماض العينين في الصلاة، فقد تجد بعض الناس يغمض عينيه في الصلاة، وهو خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنه ما كان يغمض عينيه في الصلاة، والدليل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام مد يده في صلاة الكسوف ليتناول عنقوداً من عنب الجنة، وكذلك وهو في الصلاة رأى النار، ورأى صاحبة الهرة فيها، ولما مرت شويهة بين يديه وهو في الصلاة تقدم فمرت من خلفه، ولو كان صلى الله عليه وسلم مغمض العينين ما كان سيراها، لكنه صلى الله عليه وسلم رأها فتقدم ليمنعها من المرور بين يديه، ولما أراد غلام أو جارية أن يمر بين يديه في الصلاة منعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من المرور بين يديه.
ومما يدل على أنه ما كان يغمض عينيه في الصلاة أنه صلى الله عليه وسلم رأى خميصة وهو في الصلاة -وهي ثوب فيه أعلام- ولما انتهى من صلاته قال: (اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته؛ فإنها قد ألهتني عن الصلاة آنفاً).
وأيضاً: لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فأخبره أن في نعليه نجاسة فخلعهما، فخلع الصحابة نعالهم، فسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة: (لما خلعتم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا)، وهذا يدل على أن الصحابة ما كانوا يغمضون أعينهم، والرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يغمض لما رآهم؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يلتفت، وأحاديث كثيرة تثبت بأن التغميض ليس من السنة.(40/19)
كثرة الحركة والعبث في الصلاة
الخطأ الثامن: كثرة الحركة والعبث في الصلاة، كتنظيف الأظافر، وتحريك العمامة، والنظر في الساعة، وحك البشرة، والنظر في التلفون، وغير ذلك.
أما إذا نسي التلفون مفتوحاً فيجوز إغلاقه في الصلاة، وتكون الحركة عند ذلك من المصلحة، فبدلاً من أن يشغل الناس يرتكب الضرر الأخف لدفع الضرر الأعظم، وإن كان فيه نقص لكنه من أجل صلاته، ولكي يقطع الشر عن المسلمين، وخاصة أن بعض الإخوان لديه نغمات بألحان الأغاني، فإذا دقت هذه النغمة في الصلاة شغلت المصلين عن صلاتهم، وهذه مصيبة عظيمة أصيب بها بعض الناس في هذه الأيام، فليتقوا الله في صلاتهم.(40/20)
أخطاء بعض المصلين المتعلقة بقراءة الفاتحة
وقد تقدم أن الركن الفعلي لو تعمد الإنسان زيادته فإن صلاته تبطل؛ لأنه تلاعب بالصلاة.
أما الركن القولي كالفاتحة أو تكبيرة الإحرام ففي بطلان الصلاة بتكراره خلاف، لكن الخطأ هو أن تكرر الفاتحة، وهذا هو الخطأ الأول.
الخطأ الثاني: عدم إقامة اللسان بألفاظها، والتهاون في تحقيق حروفها، كقول بعضهم: ((الْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))، وقول بعضهم: ((مَالِكْ يَوْمِ الدِّينِ)).
والأصل أن تقرأ: {مَالِكِ} [الفاتحة:4]، وقول بعضهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بتخفيف الياء وعدم تشديدها، والأصل أن تقرأ بتشديد الياء: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن (إيا) بالتخفيف معناه: الضوء، فيكون المعنى: نعبد الضوء.
ولذلك قال بعض أهل العلم: بأن الصلاة تبطل بمثل هذا الخطأ.
ومن الأخطاء كذلك: كسر الباء في قوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))، وكسر النون في: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، ومن الأخطاء كذلك: وصل همزة القطع في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وبعض إخواننا في الجزيرة العربية يقرءون: ((غَيْرِ الْمَغْظُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الظَّالِّينَ))، وإن كان هذا مما يعفى عنه إن شاء الله؛ لقرب المخارج.
فمن أبدل همزة القطع بهمزة الوصل في قوله تعالى: ((أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ))، فصلاته باطلة، وكذلك من قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ))، بتخفيف الياء في إياك.
ومن الناس من إذا سمع الإمام يقرأ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، قال: استعين بالله، فهذا صلاته باطلة عند جماعة من أهل العلم، فينبغي أن يبين له أن هذا لم ترد به السنة، وأن بعض العلماء يعد هذا الكلام من جنس الكلام الأجنبي الذي تبطل به الصلاة، ومنهم من إذا قرأ الإمام: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، قال: رب اغفر لي ولوالدي وللجيران والأحباب والإخوان، ويدعوا بدعوات ما أنزل الله بها من سلطان، ظاناً أن الناس إذا قالوا: (آمين) فإنما يؤمنون على دعائه، والناس إنما يؤمنون على دعاء الإمام؛ لأن الله عز وجل يقول إذا قرأ المصلي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] (هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل).(40/21)
فقه الصلاة_شروط الإمامة
الإمامة في الصلاة من أرفع المناصب الدينية وأجلها، ولا تصح إلا لمن توافرت فيه الشروط المؤهلة لذلك، ولا يشترط في الإمام أن يكون بالغاً ولا سالماً من البدعة الغير مكفرة أو الفسق، ولا يشترط فيه ألا يكون مأموماً أو معيداً ندباً.
والقدوة بالإمام لها شروط، فلا تصح القدوة إلا بها.
وهنالك أشخاص تجوز إمامتهم وأشخاص يكره إمامتهم.(41/1)
شروط الإمام في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله ومن واله، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فما زال الكلام عن الشروط التي يجب توافرها في الإمام؛ لأن الإمامة من أرفع المناصب الدينية وأجلها، فلا يصلح لها إلا من توافرت فيه شروط.
وأول هذه الشروط: الذكورة، فلا تؤم المرأة الرجال.
ثانياً: الإسلام؛ لأن الكافر لا يقبل ولا يصح منه عمل أصلاً.
ثالثاً: العقل، فلا تصح إمامة مجنون ولا سكران.(41/2)
حكم إمامة الصبي في الصلاة
رابعاً: وهو عند المالكية: البلوغ، بناء على أن الصبي الذي لم يبلغ الحلم فإن الصلاة في حقه ليست فريضة إنما هي نافلة، ولا يصح عندهم أن يؤم المتنفل المفترض.(41/3)
أدلة المجوزين لإمامة الصبي
استدل المجوزون لإمامة الصبي بحديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه أن أباه لما أسلم جاء إلى قومه وقال: جئتكم من عند رسول الله حقاً عليه الصلاة والسلام، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أوصاه بأن يصلي صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا، وأنه قال: (وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) قال: فنظروا فوجدوه أكثرهم قرآناً فقدموه بين أيديهم وهو ابن ست سنين أو سبع سنين.
فهذا دليل على أن الصبي يصلي بالناس صلاة الفريضة، لأن قول الرجل عن النبي صلى الله عليه وسلم صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا يدل على الفرائض الموقوتة بأوقات معلومة، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: (ليؤذن لكم أحدكم) أي: الأذان يكون للفريضة، فمعنى ذلك أن هذه الصلوات التي أم فيها عمرو بن سلمة قومه كانت صلوات مفروضة.(41/4)
أدلة المانعين لإمامة الصبي والرد عليها
المانعون لإمامة الصبي ردوا على هذا الحديث بأجوبة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم).
والعدالة شرط في الإمامة، والصبي ليس عدلاً.
وبأن صلاة الصبي غير صحيحة؛ لأن الصحة معناها موافقة الأمر والصبي غير مأمور.
أما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث) فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبر في هذا الحديث بأن هؤلاء الثلاثة: النائم والصبي والمجنون، لا تكتب عليهم سيئاتهم، فلو أن أحدهم أتى منكراً فإن الله عز وجل برحمته لا يؤاخذه ولا يحاسبه، فلا علاقة بين النص وبين إمامة الصبي.
أما قولهم: العدالة شرط في الإمام والصبي ليس عدلاً، فهذا القول ليس صحيحاً في طرفيه، فالعدالة ليست شرطاً في صحة الإمامة؛ لأنه تصح إمامة الفاسق.
وأما أن الصبي ليس عدلاً فمن أين لهم ذلك؟ فليس بالضرورة أن الصبي ليس عدلاً.
وكذلك قولهم بأن صلاة الصبي غير صحيحة؛ لأن الصحة معناها موافقة الأمر والصبي غير مأمور، فالجواب أن الصحة معناها استيفاء الأركان والشروط، والصبي يمكن أن يستوفيهما، فيمكن أن يتوضأ وضوءاً صحيحاً ثم يأتي بشروط الصلاة وبأركانها كاملةً، فتصح صلاته.(41/5)
القول الراجح في إمامة الصبي
القول الصحيح -والعلم عند الله تعالى- أن إمامة الصبي جائزة في الفريضة والنافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيد الأمر فقال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا سواء فأقدمهم سناً أو قال: إسلاماً) لذلك نجد الناس في كثير من المساجد إذا غاب منهم الإمام انتظروا حتى يأتي رجل بالغ أو مسن وفي القوم حفظة لكنهم صغار، فيقرأ المسن قراءة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأنه استقر في عرف الناس أن الإمام لازم أن يكون رجلاً كبيراً في السن، أما الذي ما طر شاربه وما غلظت لحيته فلا يؤم الناس في الصلاة أبداً.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم) وقال لوالد عمرو بن سلمة رضي الله عنهما: (وليؤمكم أكثركم قرآناً) ولم يقل: وليؤمكم أكبركم سناً.
نعم لو كان الحفظة كثيرين فإننا نقدم من كان أعلم بالسنة، ولو كانوا بالسنة سواء فإننا نقدم أقدمهم سناً، أما أن يتقدم أكبرهم سناً وفي القوم أحفظ منه للقرآن وأعلم بالسنة فلا ينبغي.(41/6)
بقية شروط الإمام في الصلاة
خامساً: أن يكون عالماً بشروط الصلاة وأركانها وبما يفسدها وبكيفية إصلاح الخلل الطارئ عليها.
والنبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن من أشراط الساعة: (غلماناً يتخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنيهم)، فلا يصير همنا أننا نقدم الذي صوته جميل، نعم الصوت الجميل مطلوب؛ لأنه يرغب في الصلاة، والتجويد مطلوب، لكن أهم من هذا أن يكون فقيهاً، فيعرف شروط الصلاة وأركانها ومبطلاتها، ويعرف كيف يصلح الخلل.
لذلك نجد في كثير من المساجد الإمام يخطئ ثم بعد ذلك يقع في حيص بيص، فلا يسعفه فقهه ولا معلوماته، حتى بلغ الحال ببعض الأئمة- لما أكثر الناس من جداله- قال لهم: يا إخواننا امشوا وصلاتكم صحيحة على مسئوليتي، فما وجد حجة يقنعهم بها إلا أن يصرفهم بالأوامر العسكرية، فما يصلح هذا الكلام! فلابد للإمام أن يكون عالماً بالشروط والأركان.(41/7)
أنواع البدعة
سادساً: أن يكون سالماً من البدعة، والبدعة إما أن تكون مكفرة أو غير مكفرة.(41/8)
صور البدعة المكفرة وحكم الاقتداء بصاحبها
إذا كانت البدعة مكفرة فلا يصح الاقتداء بكافر، كمن يعتقد كفر الشيخين أبي بكر وعمر فهو ليس بمسلم؛ لأنه مكذب للقرآن.
أو من يعتقد أن الصحابة قد ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعتقد في قلبه أن الإسلام لا يصلح لزماننا هذا، وأن تشريعات الإسلام في قضايا المرأة كالحجاب والميراث، وفي قضايا الحدود وما أشبه ذلك، كانت صالحة للزمان السابق أما في القرن العشرين فلا.
أو: من يعتقد أن الأولياء يتحكمون في الكون وأن ملك الموت لا يقبض روح أحد من العباد إلا بعدما يستأذن الأقطاب الأربعة أو الثمانية أو الستة عشر، فمن اعتقد أن لأحد في الكون تصرفاً سوى الله رب العالمين، أو أن الولي الفلاني يعلم الغيب، فليس من أهل الإسلام.
لكن هناك بدع كثيرة ليست مكفرة، وتوجد في ممارسات الناس وأفعالهم ولا أطيل بذكر أمثلتها.(41/9)
البدع التي ظهرت في عهد الصحابة
وقد نجمت البدع في عهد الصحابة، كبدعة الخوارج نسأل الله العافية، وكذلك الشيعة وإن لم يظهروا بتكفير الصحابة، وإنما ظهروا بالتشيع لـ علي وتقديمه على الشيخين أبي بكر وعمر.
ولذلك عندما تقرأ في تراجم بعض رواة الصحيحين وأن فيهم تشيعاً، فلا يخطر على بالك التشيع الموجود الآن، كما قيل في عبد الملك بن هشام صاحب السيرة رحمه الله.
فالبدعة إذا لم تكن مكفرة، فلا حرج أن يصلي المسلم خلف المبتدع.(41/10)
حكم إمامة الفاسق(41/11)
الرد على من لا يجيز إمامة الفاسق
سابعاً: أن يكون سالماً من الفسق، وهذا عند المالكية رحمهم الله تعالى، ويرد عليهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً، والصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر) رواه أبو داود وقال الحافظ: رواته ثقات.
وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج.
وأخرج مسلم أن أبا سعيد صلى خلف مروان بن الحكم.
وقد ثبت تواتراً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه (سيكون على الأمة أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان ويصلونها لغير وقتها، فقالوا: يا رسول الله بم تأمرنا؟ قال: صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة).(41/12)
تعريف العدالة
ليس من شرط الإمام أن يكون عدلاً.
والعدالة هي: ملكة في النفس تحمل على فعل الجميل وترك القبيح، وأعلاها: ليس لها حد، وإنما المثل الأعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدناها: السلامة من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
فالسلامة من أسباب الفسق ألا يكون الإمام سارقاً ولا زانياً ولا خماراً ولا مرابياً ولا فحاشاً ولا سباباً ولا لعاناً ولا بذيئاً ولا طعاناً.
والسلامة من خوارم المروءة، بأن لا يأكل أمام الناس ما يسمى تسالي مثلاً أو لبانة أو يلبس الملابس التي لا تليق به.(41/13)
صلاة بعض السلف خلف الحجاج بن يوسف
ليس من شرط الإمام أن يكون عدلاً، فلقد تواتر عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون خلف أئمة بني أمية وحالهم كما تعلمون.
ومن ذلك: أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الذي كان يقول للناس: والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرج خارج من الباب الآخر ضربت عنقه.
وخرج إلى صلاة الجمعة فسمع ضجة فقال: ما هذا؟ قالوا له: أهل السجن يشتكون من الحر.
فقال: قولوا لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون.
أي: جعل نفسه كرب العالمين! فهذا الرجل أخباره معروفة.
والحسن البصري رحمه الله -على ورعه- لما سمع بموت الحجاج، خرَّ لله ساجداً وخطب في الناس فقال: اللهم إنك أمت الحجاج فاقطع عنا سنته، فإنه جاءنا أخيفشاً أعيشاً يمد بيد قصيرة البنان، والله ما غبرها في سبيل الله، يصعد على المنبر فيخطب حتى تفوته الصلاة وتحته مائة ألف أو يزيدون، وما يقدر رجل منهم أن يقول له: الصلاة أيها الأمير، فاحمدوا الله على العافية.
هيهات هيهات حال دون ذلك السيف والسوط.
وكان من هؤلاء الذين يحضرون خطبة الحجاج أنس بن مالك، فكان يصلي رضي الله عنه الفريضة جالساً، ويومئ في صلاته، خوفاً على خروج وقت الصلاة، فإذا نزل الحجاج ليصلي بالناس كان يصلي معه، ويعتبرها نافلة، أما الفريضة فقد أوقعها في وقتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون أمراء يميتون الصلاة ميتة الأبدان ويصلونها لغير وقتها -كـ الحجاج بن يوسف - قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم مع القوم نافلة) فهذا دليل على جواز الصلاة خلف الفاسق؛ لأن الذي يميت الصلاة ويصليها لغير وقتها فاسقاً، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أن نصلي خلفه نافلة، ولا فرق بين النافلة والفريضة.
وكذلك أبو سعيد الخدري كان يصلي خلف مروان بن الحكم والحديث معروف في صحيح مسلم، كان مروان أميراً على المدينة وأمر بمنبر الرسول صلى الله عليه وسلم فأخرج يوم العيد، فطلع مروان المنبر، فأمسكه أبو سعيد بيده وقال له: الصلاة الصلاة، يعني: صلاة العيد أولاً ثم الخطبة، قال له: لو صلينا ما جلس لنا أحد، أي أنهم سينصرفون عنه لأنهم كارهين له، فقال له أبو سعيد: السنة، فقال له: يا أبا سعيد قد مضى ما تعرف، فقال أبو سعيد: والله للذي أعرف خير من الذي لا أعرف.
وأبو سعيد قام يصلي خلف هذا الرجل، والعمدة في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوجب الجهاد مع كل أمير براً كان أو فاجراً، وأوجب الصلاة خلف كل مسلم براً كان أو فاجراً وإن عمل الكبائر.
الخلاصة: لا خلاف بين أهل العلم أن الصلاة خلف الفاسق مكروهة، إنما النزاع في الصحة، والأصل أن كل من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته لغيره، والإجماع أن الصلاة خلف الفاسق مكروهة، والصحيح إن شاء الله أنها صحيحة؛ لأن هذا الفاسق استوفى الشروط والأركان، فصلاته لنفسه صحيحة فكذلك صلاته لغيره صحيحة.
أما إذا كان الإمام يدخن أو يحلق لحيته أو يخففها، فلو أمكن أن يزاح من غير فتنة فهو المطلوب، أما إذا لم تكن إزاحته إلا بفتنة، فيختلف الناس في المسجد وتأتي الشرطة كما حصل في بعض المساجد فلا يزاح، فيصلى خلف الفاسق وحسابه على الله.(41/14)
الأسئلة(41/15)
الرد على من قال إن الخضر لا يزال حياً
السؤال
ما حكم من قال: إنه رأى الخضر؟
الجواب
كثير من الناس يذكرون أنهم رأوا الخضر، فقد يكونون لقوا جنياً- مثلاً- وقال لهم: هو الخضر.
خاصة أن بعض الأئمة الكبار مثل الإمام النووي يرى بأن الخضر حي، والإمام ابن القيم رحمه الله ساق في المنار المنيف عشرة أدلة على أن الخضر قد مات، أوضحها قوله صلى الله عليه وسلم لما كان قاعداً مع الصحابة: (أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يأتي على الناس مائة عام وعلى وجه الأرض نفس منفوسة ممن هو عليها اليوم) فلو كان الخضر حياً في تلك الليلة، فإذا تمت مائة سنة فالمفروض أن يكون قد مات.
واستدل بقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وكذلك لو كان الخضر حياً لكان المفروض أن يأتي للرسول صلى الله عليه وسلم ويبايعه ويصلي معه ويشهد معه الغزوات والمعارك.
فحقيقة هذه المسألة التي حصل فيها ضلال كبير من بعض الناس الذين يقولون بأنهم رأوا الخضر، بلغ السخط ببعضهم أن قال: ذهبت لأحد الصالحين، وقلت له أريد أرى نبي الله الخضر، فقال: تأتي وتصلي معنا صلاة الجمعة.
قال: فلما صليت أقبل رجل ثيابه وسخانه، فقلت للإمام: رأيت نبي الله الخضر؟ فقال لي: أنت لما كنت تصلي ورأيت ذلك الرجل الوسخان، فإنه نبي الله الخضر! فإلى الله المشتكى.(41/16)
تابع شروط الإمام في الصلاة
ثامناً: ألا يكون مأموماً بأن أدرك ركعة فأكثر، أما إن أدرك أقل من ركعة فتصح إمامته، وهذا عند المالكية وتقدم معنا أن الجماعة تدرك بركعة.
فلو أنني جئت في التشهد الأخير، فسلم الإمام فقمت لأتم الصلاة، فيأتي بعض الناس المتأخرين فقدمونني ويصلون خلفي لأنني لست مأموماً، وتقدم معنا في المبطلات أن هذا الصنف من الناس لو سجد مع الإمام سجود السهو فإنَّ صلاته باطلة، أما إذا أدرك ركعة مع الإمام فهو مأموم فلا يصح أن يتحول المأموم إماماً.
ويمكن أن يرد عليهم هذا الشرط بصلاة أبي بكر بالناس، وذلك (لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بين بني عمرو بن عوف حين تشاجروا حتى رمى بعضهم بعضاً بالحجارة، فتأخر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال سيدنا بلال لـ أبي بكر رضي الله عنه: حضرت الصلاة وقد تأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقام بلال الصلاة وتقدم أبو بكر، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ الناس يتنحنحون وكان أبو بكر رجلاً إذا صلى لا يلتفت، فلما أكثر الناس من التنحنح التفت أبو بكر فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن مكانك، فحمد أبو بكر ربه ثم رجع القهقرى حتى قام في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس، وبعد الصلاة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر: ما منعك أن تمكث إذ أمرتك، قال: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله) فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مأموماً فتحول إماماً، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مسبوقاً.
فمن صلى الفريضة منفرداً فأراد أن يعيد مع الجماعة لتحصيل فضيلتها، فصلى بهم إماماً، فعند المالكية لا تصح إمامته؛ لأن صلاته الثانية نافلة.
ويرد عليهم بحديث معاذ رضي الله عنه أنه (كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يذهب فيصلي بقومه)، حتى جاءوا فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله يأتينا معاذ بعدما كلت أبداننا في العمل بالنهار فيطول علينا، أي: يصلي بنا صلاة طويلة؛ لأنه فقيه رضي الله عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم غضب وقال: (أفتان أنت يا معاذ! أين أنت من إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت) أي: أرشده صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ بسور المفصل القصيرة.
ورواية ثانية أيضاً أن معاذاً صلى بهم فقرأ سورة طويلة، فانصرف أحد المصلين من الصلاة ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو معاذاً، فقال معاذ: يا رسول الله إنه منافق، لأنه قطع الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تغيظ على معاذ وغضب وكرر له الكلام نفسه.
لذلك الأصل في الإمام أن يخفف بالناس، وليس معناها أن ينقر صلاته، لأن الإمام ابن القيم قال: تعلق النقارون بحديث (من صلى بالناس فليخفف) أي: كأنهم جعلوا الحديث إذا صلى أحدكم بالناس فليستعجل.
فالخلاصة في الشروط التي يجب أن تتوافر في الإمام: أن يكون مسلماً عاقلاً، ذكراً، عالماً بشروط الصلاة وأركانها وبما يفسدها وبإصلاح الخلل فيها، وأن يكون سالماً من البدعة المكفرة.
ولا يشترط في الإمام أن يكون بالغاً، ولا أن يكون سالماً من البدعة غير المكفرة، ولا أن يكون سالماً من الفسق، ولا يشترط في الإمام ألا يكون مأموماً، وألا يكون معيداً ندباً.
والكفر قد يكون كفراً ظاهراً، نحو: إنسان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد يكون كفراً خفياً كمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلي مع الناس الخمس الصلوات لكنه والعياذ بالله متلبس ببدعة مكفرة قد تخفى على كثير من الناس.
مثلاً يقال لك: إن فلاناً هذا شيوعي، فتقول: والله الشيوعي كافر.
فيقال لك: لكنه يصلي.
أو تجد مثلاً إنساناً كافراً اسمه محمود مثل عبد الله بن أبي بن سلول وهو كافر أخس من أبي جهل.(41/17)
شروط الاقتداء(41/18)
حكم نية الاقتداء بالإمام
المسألة الرابعة: شروط الاقتداء، وهي كما يلي: أولاً: أن ينوي المأموم الاقتداء بالإمام أولاً، فلا ينتقل منفرد إلى جماعة إلا بنية، فمن صلى صلاة الظهر منفرداً -مثلاً-، ثم بعد ذلك وجد جماعة فلا يصح أن يدخل معهم في الجماعة إلا بعد أن يستأنف نية القدوة من جديد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات).(41/19)
حكم اختلاف نية الإمام عن المأموم في الصلاة
ثانياً: أن يتساوي المأموم والإمام في عين الصلاة وصفتها، فلا تصح صلاة من يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، ولا تصح صلاة من يصلي أداءً خلف من يصلي قضاءً، ولا تصح صلاة المفترض خلف المتنفل ولا العكس لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه).
لكن أيها الإخوان هذه المسألة تحتاج إلى نقاش، فقد ثبت من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سافر سفراً إلا صلى ركعتين فلما كان في غزوة الفتح مكث ثمانية عشر يوماً يصلي بالناس ركعتين إلا المغرب، وكان إذا قضى صلاته قال: يا أهل مكة! أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، أي: جمع مسافر) رواه أحمد، وكذلك كان يفعل عمر حين يقدم مكة رواه مالك في الموطأ.
وثبت أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة متفق عليه.
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الخوف يصلي بكل طائفة ركعتين.
وروت عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يعود من المسجد فيؤم أهله، فلو طبقت هذه السنة، بأن يصلي المسلم صلاة العشاء في المسجد ثم يرجع إلى أهله فيصلي بهم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الحديث السابق الذي ذكرناه عن إمامة الفاسق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه سيكون أئمة يميتون الصلاة ميتة الأبدان، ويؤخرونها عن وقتها، قالوا: فما تأمرنا يارسول الله؟ قال: صلوا الصلاة لوقتها ثم صلوا مع القوم فإنها لكم نافلة) فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي بنية النافلة خلف من يصلي مفترضاً، فهذا دليل على اختلاف عين الصلاة.
كذلك النبي صلى الله عليه وسلم أباح صلاة المسافر خلف المقيم والمقيم خلف المسافر، فقد اختلفت صفة الصلاة، ويأمر أهل مكة من ورائه أن يصلوها أربعاً.
وثبت أن معاذاً رضي الله عنه كان يصلي بالناس نافلة وهم يصلون فريضة، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الفريضة ثم يرجع فيصلي بأهله، أي: بنسائه عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على أنه لا يشترط أن تتحد صلاة المأموم والإمام في عين الصلاة أو صفتها.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه) يفسرها قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد) يعني: لا تسابقوه ولا تماثلوه.(41/20)
حكم من صلى قائماً خلف إمام قاعد
ثالثاً: عدم نقص الإمام في القدرة على الأركان عن المأموم، فلا يصلي قادر على القيام خلف عاجز عنه.
ويرد عليه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بأنه (صلى قاعداً والصحابة من خلفه قيام).
واختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعون) هل هو منسوخ أم أنه يفرق بين من ابتدأ الصلاة قائماً ثم جلس، ومن ابتدأها قاعداً من البداية، فتصوروا لو أننا نصلي جماعة وليس فينا قارئ إلا مقعد، أو أننا لا نعرف شروط الصلاة ولا أركانها، وما فينا إلا فقيه لا يقدر على القيام إما لعذر دائم أو لعذر طارئ، فهل يصلي بنا جاهل لا يعرف عن شروط الصلاة ولا عن أركانها شيئاً أم الفقيه؟(41/21)
حكم من سابق الإمام في ركن من أركان الصلاة
رابعاً: عدم مساواة المأموم للإمام في الإحرام والسلام، فإن تقدمه أو ساواه فيهما بطلت صلاته، والله أعلم.
فبعض الناس يسبق الإمام في تكبيرة الإحرام والسلام، فمجرد ما يقول الإمام: أس، إذا به يقول: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم، فإذا سلم الإمام الثانية، إذا بالرجل في السيارة، فهذا صلاته باطلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما يخشى أحدكم إذا سابق إمامه أن يجعل الله رأسه رأس حمار أو يجعل الله صورته صورة حمار) نسأل الله العافية والسلامة.
ومما يستدل به على جهل الإمام أن يطول في تكبيرة الإحرام أو في السلام، فمن صلى بالناس فليكبر تكبيرة الإحرام سريعاً وكذلك عندما يسلم، فقد يكون الإمام هو السبب في بطلان صلاة بعض المؤتمين، وما يصنعه كثير من الأئمة في السودان من التمهل في السلام، لا ينبغي ذلك.
إذاً شروط الاقتداء ما يلي: الشرط الأول: أن ينوي المأموم الاقتداء بالإمام أولاً، فلا ينتقل منفرد إلى جماعة إلا بها.
الشرط الرابع: عدم مساواة المأموم للإمام في الإحرام والسلام.
أما الشرط الثاني والثالث فليس للمالكية دليل فيما ذكروا.(41/22)
من تكره إمامتهم؟(41/23)
حكم إمامة الأعرابي للحضري
المسألة الخامسة: من تكره إمامتهم؟ وهم ما يلي: أولاً: تكره إمامة الأعرابي -ساكن البادية سواء كان عربياً أو أعجمياً- بالحضري، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا يؤمن فاجر مؤمناً) رواه ابن ماجة وفي إسناده عبد الله بن محمد التميمي وهو تالف من التلف، قال البخاري: منكر الحديث.
وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به.
وقال غيره: كان يسرق الأحاديث ويخلط المتون، فهذا حديثه لا يصلح للاحتجاج.
فلو أن أعرابياً تفقه في البادية وجاء ليصلي بنا، فهل نقول له: لا تصل بنا لأنك من البادية؟ لا يصح ذلك.
لكن المالكية قالوا: الأغلب أن الأعراب في البادية يخلون بالسنن، حتى الذي يصلي منهم، ولو تأملتم الذين يبيعون الخراف، فإن أغلبهم جاءوا من البادية، وصلاتهم مخالفة للسنة، فالمالكية عندهم وجهة نظر في هذه المسألة، وهي أنه لا يؤم أعرابي -بدوي- حضرياً.(41/24)
حكم إمامة من كان به سلس بول أو قروح
ثانياً: ذو السلس أو القروح إلا لمثله، فذو السلس هو الذي لا يتحكم في البول عافانا الله جميعاً، كذلك الإنسان الذي عنده قروح، فقد تتفجر بدون اختياره، وقد تظهر بقع الدم وغيرها.
فالمالكية يريدون أن تطمئن قلوب الناس تجاه الإمام فلا يداخلهم شك ولا ريب، ولذلك من كان به سلس أو قروح، فلا يستحب له أن يصلي بالناس.(41/25)
حكم إمامة مجهول العدالة
ثالثاً: مجهول الحال وهو الذي لا تعرف عدالته من عدمها، فلا نعرف عنه لا بدعة ولا سنة، فإمامته مكروهة، فإذا كان الإنسان لا يُعرف فلا يُقدم ليؤم بالناس، فإذا كنا في مرض الأبدان لا نذهب إلا إلى الطبيب المشهور، وإذا خربت السيارة فإننا نفتش عن الميكانيكي الممتاز، فلماذا فقط في الصلاة أي واحد يصلي بنا؟(41/26)
حكم إمامة من لا يعرف أبوه
رابعاً: مجهول النسب، وهو الذي لا يعرف من أبوه.
روى الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن رجلاً كان يؤم الناس بالعقيق فأرسل إليه عمر بن عبد العزيز فنهاه، قال مالك: وإنما نهاه؛ لأنه كان لا يعرف أباه.
وقال الإمام الباجي رحمه الله: لأن الإمامة موضع رفعة وشرف، وكل ما من شأنه أن يؤثر في ذلك فالأحسن تجنبه، كما أن ذلك قد يعرض الإمام لكلام الناس فيأثمون بسببه.
فإذا كان هذا الرجل قد تفقه وتعلم فهو جدير بأن يصلي بالناس، وإن طعنوا فيه بسبب جهالة النسب.(41/27)
حكم إمامة العبد
خامساً: العبد لا يؤم الناس، وهذا عند المالكية.
وفي زماننا هذا لا يوجد عبيد، لكن لو فرض بأن وجد سبيل شرعي للرق فقدر الله أن عبداً فقيهاً تقدم ليصلي بالناس، فعلى العين والرأس.
والذي يدل على إمامة العبد، حديث ابن عمر قال: لما قدم المهاجرون الأولون فنزلوا العصبة - موضع بقباء- قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآناً، وكان فيهم عمر بن الخطاب وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي رواه البخاري.
فـ عمر بن الخطاب العدوي شريف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي كريم وكلاهما قرشيان، وتقدم عليهما للصلاة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا القرآن من أربعة) وعد من بينهم سالماً رضي الله عنه.
فالعبد يصلي بالناس؛ لأنه ثبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سالماً كان يصلي بالناس، فلذلك سيدنا عمر قال: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته -أي كنت سأجعله خليفة- فإذا سألني ربي قلت له: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) وسالم هذا ممن رفعهم الله بالقرآن.(41/28)
حكم إمامة الخصي
سادساً: الخصي.
وعلى هذا فإن الذين تكره إمامتهم ستة أصناف: إمامة الأعرابي للحضري، وإمامة ذي السلس وذي القروح إلا لمثله، وإمامة مجهول العدالة والنسب، وإمامة العبد، وإمامة الخصي.(41/29)
من تجوز إمامتهم؟
الذين تجوز إمامتهم هم: الأول: الأعمى، فيصح أن يصلي بالناس، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف عبد الله بن أم مكتوم مراراً، قيل: ثلاث عشرة مرة ليصلي بالناس لما كان يخرج إلى الغزوات، وأحياناً كان يستخلفه عليه الصلاة والسلام إماماً ووالياً.
الثاني: المخالف في الفروع، فمثلاً مالكي يصلي خلف شافعي أو حنفي يصلي خلف حنبلي والعكس؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مختلفين في اجتهادهم، وكان بعضهم يصلي خلف بعض ولم يزل الناس كذلك.
الثالث: الصبي، فيجوز أن يصلي بمثله.
كذلك يجوز فصل الإمام عن المأموم بنهر صغير أو طريق بما يسمع معه قول الإمام أو مأمومه أو يراه، فمثلاً في الحرمين أو في غيرهما أحياناً قد يكونون في زحام، بحيث إن الناس يصلون وبينهم وبين الحرم شارع.
وأحياناً هنا أيضاً في مساجدنا فإن الناس يضطرون للصلاة خارج جدار أو خارج صحن المسجد، فلا حرج أن يكون الإمام مفصولاً عن المأمومين، بحيث إن المأموم يسمع صوت الإمام، أو يرى الإمام، أو يرى من يرى الإمام، لحديث عائشة قالت: (كان لنا حصيرة نبسطها بالنهار ونحتجر بها بالليل، -أي نعملها حجرة-، فصلى فيها رسول الله ذات ليلة فسمع المسلمون قراءته فصلوا بصلاته التراويح، فلما كانت الليلة الثانية كثروا فاطلع عليهم فقال: اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا).
قال الشوكاني رحمة الله عليه: الحديث يدل على أن الحائل بين الإمام والمؤتمين غير مانع من صحة الصلاة، والعلم عند الله.(41/30)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [1]
لقد نادى الله عباده المؤمنين بعدة نداءات بما يدل على تشريفه لهم، كما حثهم في غير ما موطن على مخالفة المشركين وأهل الكتاب، وبين لهم أنه إنما شرع الأحكام رحمة بهم وشفقة عليهم.(42/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا)
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا هو النداء الأول من نداءات الإيمان في كتاب الله وهو في الآية الرابعة بعد المائة من سورة البقرة، وهو قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
قال أبو حيان، رحمه الله تعالى: هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الإقبال عليه، وذلك أن أول نداء أتى عاماً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} [البقرة:21]، وثاني نداء أتى خاصاً: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:40]، وهي الطائفة العظيمة التي اشتملت على الملتين اليهودية والنصرانية.
وثالث نداء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنين، فكان أول نداء عاماً أمروا فيه بأصل الإسلام وهو عبادة الله، وثاني نداء ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوفوا من حلول النقم الوبيلة، وثالث نداء علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله والتذكير بالنعم والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، ولم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه.(42/2)
مفردات الآية
(يا أيها) يا: حرف نداء، وأي منادى، وها: حرف تنبيه.
(لا تقولوا) أي: للنبي صلى الله عليه وسلم، راعنا: أمر من المراعاة، وكان المسلمون يقولون له ذلك وهي بلغة اليهود سب من الرعونة، فسروا بذلك وخاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم يعنون بها الرعن وهو الحمق والهوج.
روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه (سمعها منهم فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية، ونهي المؤمنون عنها).
إن استخدام مثل هذه الوسيلة من اليهود لعنهم الله يدل على مدى غيظهم وحقدهم كما يدل على سوء أدبهم وخفة وسيلتهم وانحطاط سلوكهم، ولا غرابة، فقد فعلوا ذلك مع الأنبياء قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69]، وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6]، فهذه هي طبيعة اليهود مع سائر الأنبياء.
((وَقُولُوا -أي: بدلاً منها- انظُرْنَا)) أي: انظر إلينا وأقبل علينا وتأن معنا، من النظر والانتظار، (واسمعوا) أي: ما تؤمرون به سماع قبول وانقياد، لا سماع رد وعصيان، كما قالت اليهود: سمعنا وعصينا.
قال أهل التفسير: حذف المسموع ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن وسماع السنة التي هي الحكمة لفظاً ومعنىً واستجابة، ففيه الأدب والطاعة، وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقي عليكم من المسائل، بآذان واعية، وأذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة، (وللكافرين) أي: لليهود الذين سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاب أليم.(42/3)
وجوب التأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام
لقد جاءت الكلمة آمرة لعباد الله المؤمنين باستعمال الأدب الشرعي الواجب في مخاطبة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، وترك الألفاظ التي فيها احتمال أمر لا يليق بجناب رسول الله، وفي تحقيق هذا المقصد جاءت آيات أخرى في القرآن كقول الله سبحانه: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]، وقوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]، وقوله سبحانه: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9].
وتوعد في هذه الآية الكفار الفجار ممن تعمدوا إساءة الأدب مع النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بعذاب مؤلم جزاءً على كفرهم، وسوء أدبهم، كما توعدهم في آية أخرى بقوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة:8].(42/4)
من فوائد الآية
في هذه الآية العظيمة فوائد كثيرة منها: أولاً: النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم.
ثانياً: وجوب الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن.
ثالثاً: ترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها احتمال لأمر غير حميد، ومن هنا أخذ المالكية رحمهم الله وجوب حد القذف بالتعريض.
رابعاً: وجوب التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم في مخاطبته وترك استعمال أي لفظة قد يفهم منها غير الإجلال والإكبار له صلى الله عليه وسلم.
خامساً: وجوب السماع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتقيد بأمره صلوات الله وسلامه عليه واجتناب نهيه، وعند مخاطبته لمن أكرمهم الله عز وجل بمعايشته والجلوس إليه عليه الصلاة والسلام.
سادساً: تحريف الكلم ليس أمراً غريباً على اليهود، قال الله في شأنهم {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:46].
سابعاً: النهي عن التشبه بالكافرين، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
ثامناً: وجوب التأدب عند سماع القرآن، قال تعالى: ((وَاسْمَعُوا))، وقال سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
تاسعاً: أن العذاب الأليم جزاء لمن كفر وأعرض.
عاشراً: التمسك بسد الذرائع، وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وأدلة سد الذرائع كثيرة، وقد دل على ذلك الكتاب في قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [الأعراف:163] الآيات.
وفي السنة حديث عائشة رضي الله عنها في ذكر أم سلمة وأم حبيبة كنيسة رأتاها في أرض الحبشة وما فيها من التصاوير (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
وقال عليه الصلاة والسلام: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)، فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(42/5)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة)
النداء الثاني بوصف الإيمان في كتاب الله عز وجل في الآية الثالثة والخمسين بعد المائة من سورة البقرة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها جاءت في ثنايا الحديث عن تحويل القبلة، وقد ذكر بعض المفسرين في نزولها سبباً الله أعلم به، قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مكث في المدينة يستقبل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً أنزل الله عليه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] فتهكم المشركون من أهل مكة وقالوا: مثل ما رجع محمد إلى قبلتنا سيرجع إلى ديننا.
وهذا الكلام في واقع الأمر كذب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يوماً من الأيام على دين المشركين، وإنما فطره الله عز وجل على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً، فما تمسح بصنم، ولا طاف حول صنم، ولا ذبح عند نصب، ولا أكل مما كان يذبح على الأنصاب.
وقد أمرنا الله عز وجل في الآية التي قبلها بالشكر فقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وفي هذه الآية أمرنا بالصبر، قال أهل العلم: والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالتين، إما أن يكون في نعمة فيشكر الله عليها، وإما أن يكون في بلاء فيصبر، ويشهد لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجباًِ لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
فالله عز وجل يخاطبنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا))، والاستعانة: طلب المعونة، ((اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ))، الصبر حبس النفس على ما تكره، فالنفس قد تكره أحياناً نوعاً من أنواع العبادة كما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]، فتحبسها على هذا المكروه طالما أنه يرضي رب العالمين جل جلاله، والنفس أحياناً قد تشتهي المعصية وتكره تركها فتحملها على ما تكره.
((اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ))، فالله عز وجل ذكر الصبر قبل الصلاة، قال الألوسي رحمه الله في روح المعاني: لأن الصلاة نوع من أنواع الصبر، والصلاة تحتاج إلى صبر، فكون الإنسان يقوم لصلاة الفجر في الشتاء أو في الصيف مع قصر الليل، فهذا كله يحتاج إلى صبر، ولذلك قدم الله عز وجل الصبر فكأنه خصوص بعد عموم.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)).
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة وقال: أرحنا بها يا بلال).
وكذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنه فقد نعي إليه أخوه قثم بن العباس، وقيل: بل نعيت له بنت من بناته، فتنحى رضي الله عنه وصلى لله ركعتين ثم قال: مصيبة جبرها الله، وعورة سترها الله، واستعينوا بالصبر والصلاة.(42/6)
فضل الصبر
قال الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ))، هذا تذييل في معنى التعليل، ((اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ))؛ لأن الله جل جلاله مع الصابرين، معية تستلزم التوفيق والنصرة والتأييد وإجابة الدعوة وتحقيق الرغبة، وهذه مزية ليست لغيرهم، قال علي بن الحسين رضي الله عنه: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ فيخرج عنق من الناس يتوجهون إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة يقولون لهم: إلى أين يا بني آدم؟ يقولون: إلى الجنة، يقولون: قبل الحساب؟ يقولون: نعم، يقولون لهم: فمن أنتم؟ يقولون: نحن الصابرون، يقولون لهم: وما كان صبركم؟ يقولون: صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله، فتقول لهم الملائكة: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ويشهد لهذا قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
والصبر ذكر في القرآن كما قال الإمام أحمد رحمه الله في تسعين موضعاً، أي: في تسعين آية من كتاب الله، تارة يأمر به، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور:48]، وتارة ينهى عن ضده كالاستعجال، {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، والوهن والحزن {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران:139]، فهذا كله ضد الصبر، وتارة يبين الله عز جل عاقبة الصبر: ((إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))، وتارة يبين جل جلاله أنه مع الصابرين، وأن جزاءهم الجنة، وأنهم الناجون من الخسارة {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2 - 3]، وغير ذلك من المواضع.(42/7)
أحكام الصبر
قال أهل العلم: الصبر تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة: فتارة يكون واجباً وتارة مندوباً وتارة مكروهاً وتارة حراماً وتارة مباحاً، فيكون واجباً في ثلاث حالات.
الأولى: الصبر على فعل الواجبات، وفي اليوم الأول من أيام رمضاًن الغالب على الناس أنهم يعانون فيه ما يعانون لكنهم يصبرون، وهذا صبر واجب، لا مفر منه؛ لأن الصيام يحتاج إلى صبر، والحج يحتاج إلى صبر، وإخراج الزكاة الواجبة يحتاج إلى صبر، فتحمل النفس على ما تكره، صبر على فعل الواجبات.
الحالة الثانية: الصبر على ترك المحرمات، ولو تأملنا حال نبي الله يوسف عليه السلام، لوجدنا أنه نموذج عال للصبر، فإنه لما دعته امرأة العزيز {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] صبر عليه الصلاة والسلام، وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، فصبر عن فعل المعاصي.
الحالة الثالثة: الصبر على أقدار الله المؤلمة، مثل المصائب التي تنزل بالإنسان مما لا اختيار له فيها كالمرض الذي يصيب الإنسان وكفقد الولد، ففي مثل هذا يلزمه الصبر.
النوع الثاني: الصبر المندوب أو المستحب، وهو أيضاً على ثلاثة أنواع.
أولاً: الصبر على فعل المستحبات، كالصبر على صلاة التراويح فهي ليست واجبة وإنما هي مستحبة، والصبر عليها مستحب.
ثانياً: الصبر عن فعل المكروهات، فالشيء الذي ليس بحرام ولكنه مكروه يندب لك أن تصبر عنه.
ثالثاً: الصبر عن مقابلة الجاني بمثل فعله، فلو أن إنساناً شتمك فإنه يستحب لك أن تصبر عليه، وكذلك إذا ضربك، أو أساء إليك، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه أوذي ومع ذلك كان صابراً؛ لأن الله أوصاه بذلك فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34].
النوع الثالث: الصبر المحرم: ومن أمثلته أن يصبر الإنسان عن الطعام وعن الشراب حتى يموت، وهو ما يسمى الآن بالإضراب، أو يمسك عن لحم الخنزير أو عن الميتة في المخمصة والمجاعة حتى يموت، قال بعض أهل العلم: لو أنه في مجاعة فلم يأكل ما أباح الله له من ميتة أو خنزير فمات دخل النار؛ لأن هذا صبر محرم، ومثله أيضاً أن يصبر المؤمن على اعتداء الكافر حتى يقتله أو ينتهك عرضه، فهذا صبر محرم، بخلاف الصبر في الفتنة بين المسلمين، فإن السنة في ذلك الصبر، فلا تحمل سلاحاً، ولا ترفع سيفاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، دعه يبوء بإثمه وإثمك، والله عز وجل أثنى على خير ابني آدم الذي قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28].(42/8)
صبر النبي عليه الصلاة والسلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بالصبر وصبر صلوات الله وسلامه عليه، فقد نشأ يتيماً، لم ير أباه فصبر، وفقد أمه لما بلغ السادسة فصبر، وفقد جده لما بلغ الثامنة فصبر، وصبر على العيلة، وهي الفقر، كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:6 - 8] أي: فقيراً {فَأَغْنَى} [الضحى:8]، فقد كان يمر عليه الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار، وما له من طعام إلا الأسودان عليه الصلاة والسلام.
وصبر على أعباء النبوة، {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، بالليل والنهار، ثم صبر على أذى المشركين بألسنتهم وأيديهم، فربما طرحوا على رأسه الأوساخ وهو ساجد عليه الصلاة والسلام.
ثم صبر بعد ذلك على الأعراب وجفائهم وغلظتهم، فقد قال له أعرابي: (يا محمد! اتق الله، إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله يرحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
وصبر صلى الله عليه وسلم على المنافقين، فقد تكلم عبد الله بن أبي عنه بكلام السوء، فمرة يقول له: يا محمد لقد آذاني نتن حمارك، ومرة يطعنه في عرضه صلى الله عليه وسلم فيتكلم في عائشة بقالة السوء، ومرة يطعن في ذمته المالية ويتهمه بالغلول، فينزل الله عز وجل قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران:161] ومرة يصف النبي صلى الله عليه وسلم بوصف مذموم فيقول عبد الله بن أبي لعنه الله: ما نحن ومحمد إلا كما قالت العرب: سمن كلبك يأكلك، ومع ذلك لما جاء بعض الصحابة يستأذن في قتل ذلك الكافر الأثيم قال عليه الصلاة والسلام: (بل نحسن صحبته ما استطعنا؛ لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
ثم مات أولاده كلهم، القاسم وعبد الله وإبراهيم ورقية وزينب وأم كلثوم، ولم يبق له إلا فاطمة رضي الله عنها فصبر عليه الصلاة والسلام، لقد مات عدد من أحفاده، وأعمامه، وأزواجه فصبر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الصبر هو شطر الإيمان، والصوم نصف الصبر، فالصوم ربع الإيمان، ولذلك مطلوب من المؤمنين أن يصبروا على هذه العبادة المبارك الطيبة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].(42/9)
صبر أيوب عليه السلام
ومن النماذج العظيمة في القرآن نبي الله أيوب عليه السلام الذي قال الله عز وجل عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، قيل: إنه مكث في البلاء ثمانية عشر عاماً حتى تقرح جلده صلوات الله وسلامه عليه، وما شكا لأحد من الناس.(42/10)
صبر يوسف عليه السلام
ونبي الله يوسف عليه السلام ألقي في الجب بتآمر إخوانه فصبر، وأخرج من الجب وبيع عبداً رقيقاً فصبر، ثم أصبح خادماً في بيت عزيز مصر فصبر، ثم ابتلاه الله بالمرأة الفاجرة فصبر، ثم ابتلاه الله بالنسوة الفاجرات اللائي يحرضنه على الفاحشة يقولهن: أطع مولاتك فصبر، وقال لما هددوه بالسجن {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، فلبث في السجن بضع سنين صابراً عليه الصلاة والسلام، ما تضجر ولا شكا.
أما أبوه فقد كان يعاني من فقده ويقول: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، وما شكا لأحد من الناس، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86]، فلما أخرج من السجن مكنه الله من إخوانه فصبر ولم يبطش بهم، وقد صار وزيراً على الخزائن والأموال فصبر عليه الصلاة والسلام، وكانت عاقبته كما قال الله عنه حين قال له إخوانه: {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
والصبر محمود في مواضع القتال قال الله عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125].(42/11)
تأكد الصبر عند مصيبة الموت
الصبر يتأكد عند نزول مصيبة الموت؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصاب بمصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها).
وأم سلمة رضي الله عنه لما مات زوجها قالت في نفسها: من يكون خيراً من أبي سلمة؟ لكنها عادت فقالت ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خراً منها، فأبدلها الله بعد أبي سلمة خير البشر، حيث تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(42/12)
جوائز الصابرين
قال أهل العلم: ويكفي الصابرين أن الله عز وجل وعدهم بثلاث جوائز، قال سبحانه: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، فالصبر عند نزول المصيبة مطلوب.
قال أهل العلم: يفعل الأحمق بعد ثلاث ما يفعله العاقل بعد المصيبة مباشرة، يعني: أن العاقل بمجرد أن يحصل الموت يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما الأحمق فإنه يسخط ويتضجر ويصرخ ويتأوه ثم بعد ذلك بزمان يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون حيث لا تنفعه تلك الكلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).(42/13)
من فوائد الآية
يستفاد من هذه الآية فوائد: الفائدة الأولى: وجوب الاستعانة بالصبر في كل ما ينزل بالعبد من أمر تكليفي بالفعل أو الترك أو بمصيبة هي من قضاء الله وقدره.
الفائدة الثانية: وجوب الاستعانة بالصلاة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
الفائدة الثالثة: إثبات معية الله عز وجل للصابرين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.(42/14)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [2]
أمر الله عباده المؤمنين بالأكل من الحلال، وشكر الله على نعمه الدينية والدنيوية، ومن نعمه الدينية أن شرع لنا صيام شهر رمضان، ومن نعمه الدنيوية أن شرع القصاص في القتلى.(43/1)
وجوب الأكل من الطعام الحلال ووجوب شكر الله على نعمه
الآية الثانية والسبعون بعد المائة من سورة البقرة، وهي النداء الثالث من الرحمن جل جلاله لعباده المؤمنين، قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].
فالله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية ويأمرهم بأمرين اثنين: الأمر الأول: (كلوا)، والأمر الثاني: (اشكروا).
قال أهل التفسير: الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، وكما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
وفي هذا تبكيت للمشركين الذين حرموا ما أحل الله عز وجل، فقد حرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:138 - 139]، فهذا تحليل وتحريم بغير إذن من الله عز وجل، فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا} [البقرة:172]، كما قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88]، الطيبات قيل: هي الحلال، وقيل: المستلذ، ولا تعارض، فإن الأكل مطلوب من الحلال ومن المستلذ.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: أسند الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة؛ لأنه في معرض الامتنان والإحسان، ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ))، وفيه إشارة إلى أن المستحق للشكر هو الله وحده، وليست الأصنام؛ لأنها باعتراف المشركين ما رزقت أحداً، كما قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:3].
فنحن مأمورون بالأكل من الحلال، وقوله: ((كلوا)) قال أهل التفسير: هذا الأكل قد يكون واجباً لدفع الضر، كما لو كان إنسان على شفا هلكة إن لم يأكل هلك، فواجب عليه أن يأكل، ويكون مندوباً إذا أريد به مؤانسة الضيف، أي: لو أن عندك ضيفاً وأنت لا تريد الطعام فإنه يندب لك أن تأكل من أجل أن تؤنسه، وقد يكون الأكل مباحاً عند انتفاء الدواعي والموانع، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)).
والأكل من الحلال هو سمة عباد الله الصالحين، والأكل من الحرام والعياذ بالله سواء كان محرماً لذاته كالخنزير والميتة أو كان محرماً من جهة كسبه؛ لأنه من ربا أو غش أو اتجار في حرام أو أكل لأموال الناس بالباطل هو سمة الفجار؛ ولذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).
وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من عبد يكتسب من مأثم فيتصدق به أو ينفقه على أهله أو ينفقه في سبيل الله إلا جمع الله ذلك كله ثم طرحه في النار)، فالنفقة من الحرام لا تتقبل عند الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) [البقرة:172]، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في مطعمه، (فقد وجد تمرة عليه الصلاة والسلام فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها).
وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أكل طعاماً وهو لا يعرف من أين اكتسب، ثم تبين له أنه ناتج عن كهانة؛ أدخل يده رضي الله عنه في فمه وما زال يتقيأ حتى أخرج ذلك الطعام، فلما قيل له: إنها لقمة يسيرة، قال: والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها! وقد قال بعض السلف: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنة بدوام المراقبة، وتغذى بالحلال؛ أورثه الله عز وجل فراسة لا تخطئ.
فلو أن إنساناً في ظاهره اتبع السنة، وفي باطنة راقب الله عز وجل، وكانت طعمته حلالاًً، فإن الله عز وجل يرزقه فراسة الصالحين، بحيث يستدل بالمحسوس على المغيب، قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)).
فقد أتي بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان يمكن في غير القرآن أن يقال: كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لنا، أو واشكروا لرازقكم، لكنه أتى بالاسم الظاهر ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ))؛ لأن في الإتيان بالاسم الظاهر إشعاراً بألوهيته جل جلاله، وأنه المستحق للشكر وحده ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)).
والشكر في اللغة الظهور، ومنه يقال: دابة شكور، إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، فإذا كانت كذلك فإنها تسمى دابة شكورة، ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيهلك يأجوج ومأجوج قال عليه الصلاة والسلام: (حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم)، لتشكر يعني: تسمن.(43/2)
حقيقة شكر الله سبحانه وتعالى
شكر الله ما حقيقته؟ للعلماء في ذلك كلام، ولعل من أجمعه -والله أعلم- ما قاله الإمام الشبلي رحمه الله، قال: الشكر التواضع، والمحافظة على الحسنات، وبذل الطاعات، ومراقبة جبار الأرض والسماوات، فتتواضع لله عز وجل وتواظب على الحسنات وتديمها.
وقال السري السقطي رحمه الله: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولمن كان مثلك بالثناء، ولمن كان دونك بالإحسان والإفضال.
والفرق بينه وبين الحمد أن الحمد: هو الثناء على الله عز وجل باللسان، أما الشكر فإنه يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، بالقلب بالتفكر في آلائه ونعمه جل جلاله، وباللسان أن تشكره سبحانه وتعالى، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، وبالجوارح استعمالها في طاعة الله، قال أهل التفسير: شكر العينين البكاء، وشكر الأذنين الإصغاء، وشكر اليدين العطاء، وشكر القلب الرضا بالقضاء، وشكر الله عز وجل أن تستعمل هذه الجوارح كلها في طاعته سبحانه وتعالى.
فالله عز وجل في هذه الآية أمرنا بالشكر، وأخبر في آية أخرى أن قليلاً من عباد الله من يلتزم هذا الأمر، قال سبحانه: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، وأكثر الناس كافر بنعمة الله، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].(43/3)
ثناء الله على الشاكرين
أثنى ربنا جل جلاله على من اتصف بهذه الصفة الطيبة، فقال في وصف نبي الله نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، وقال في وصف إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل:120 - 121]، ونبي الله موسى عليه السلام روي أنه قال: (يا رب كيف أشكرك؟ قال الله عز وجل: يا موسى اذكرني فإن ذكرتني شكرتني، وإن نسيتني كفرتني)، فالذي يذكر الله عز وجل هو الشاكر، الذي يستحق الثناء، وقد سمى الله عز وجل نفسه الشكور، ففي الحديث يقول سبحانه: (إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري! وأرزق ويشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد!)، هذا هو حال أكثر الناس مع الله عز وجل إلا أنبياء الله ورسله، صلوات الله وسلامه عليهم وهم سادة الشاكرين فقد كانوا بعكس ذلك، انظروا في حال نبي الله سليمان سخر الله له الجن والإنس والطير، لما أتي بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرفه قال: {هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ -أي لنفع نفسه- وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، ودعا الله عز وجل فقال: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19]، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشاكرين، فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وقالت له عائشة: (يا رسول الله! لم تصنع ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً؟).
(وعرض عليه ربه أن يحول له بطحاء مكة ذهباً، فقال: لا يا رب، بل أجوع يوماً فأصبر، وأشبع يوماً فأشكر) يعني: الله عز وجل هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي هدى، وهو الذي علم، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، ومع ذلك لا يريد منا سوى كلمة: الحمد لله، فلو أن إنساناً طعم طعاماً فقال: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، (وإن الله تعالى ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها) فالله عز وجل لا يريد منا سوى هذه الكلمة، الحمد لله، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصابته نعمة قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أصابه بلاء قال: الحمد لله على كل حال).
{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] أي: إن كنتم يا أيها المؤمنون معترفين بأن الله عز وجل هو صاحب النعم، وهو الذي رزقكم هذه الطيبات التي تأكلونها فواجب عليكم أن تشكروه.(43/4)
ما يستفاد من الآية
يستفاد من الآية فوائد: الفائدة الأولى: عظم نعمة الله عز وجل على العباد في إباحة الطيبات، كما قال في آية أخرى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32].
الفائدة الثانية: أن جميع الطيبات مباحة، وأن الله عز وجل ما أباح شيئاً إلا وهو طيب، فلا يوجد شيء مباح وهو خبيث، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فكل خبيث حرام، وكل طيب حلال.
الفائدة الثالثة: أن الرازق هو الله جل جلاله، وهو يتحدث عن نفسه بنون العظمة، فواجب علينا تعظيمه.
الفائدة الرابعة: وجوب شكر نعمة الله عز وجل.
الفائدة الخامسة: من شكر نعمة الله فقد اعترف بها، ومن لم يشكرها فقد كفرها.
الفائدة السادسة: شكر الله يجلب النعم المفقودة، كما أن الكفر يفقد النعم الموجودة، فإذا شكر نعمة الله عز وجل أتاه الله من النعم ما لم يكن موجوداً عنده كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، كما أن الكفر بنعمة الله سبحانه وتعالى ينفر النعم الموجودة، قال الله عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، فقد كانوا في نعمة الأمن وفي نعمة الرزق، فلما كفروا أبدلهم الله عز وجل بالأمن خوفاً وبالرزق جوعاً.(43/5)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى)
النداء الرابع في سورة البقرة في الآية الثامنة والسبعين بعد المائة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178].
هذه الآية نزلت لرفع ظلم كان أهل الجاهلية واقعين فيه، يستوي في ذلك الكفار المشركون عبدة الأصنام وأهل الكتاب الذين كان من المفترض في حقهم أن يكون العدل شريعة سائدة بينهم.
قيل: غزت بنو النضير بني قريظة، فقهروهم وغلبوهم، فكان بعد ذلك إذا قتل القرظي نضرياً قتل به، وإذا قتل النضري قرظياً لا يقتل به، وإنما يفادى بمائة وسق، أي: بني النضير أعلى من بني قريظة، وكذلك أهل الجاهلية، فقد اقتتل حيان من أحياء العرب فكان فيهم ثارات وجروح ودماء ثم بعد ذلك أسلموا دون أن تنتهي بينهم تلك الثارات، وكان أحد الحيين أعلى من الآخر وأجل، فحلفوا بالله بعدما أسلموا أن يقتلوا بالمرأة منهم الرجل من أولئك، وبالعبد من منهم حراً من أولئك، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يبطل فيها شريعة الجاهلية، ويثبت القصاص، وأنه لا يقتل إلا القاتل، وأنه لا يجوز أن يقتل غير القاتل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعتا الناس على الله ثلاثة -ثلاثة أصناف-: رجل قتل في الحرم، ورجل قتل غير القاتل، ورجل أخذ بذحل الجاهلية)، بذحل الجاهلية أي: بعداوة الجاهلية وحقدها.
وقد أنزل الله عز وجل هذه الآية يشرع فيها القصاص، وكلمة القصاص: معناها المماثلة، وهي مأخوذة في الأصل من قص الأثر، قال الله عز وجل: {فارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64]، وقال: على لسان أم موسى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص:11] أي: تتبعي أثره، ومنه سميت القصة قصة؛ لأن الحكاية تساوي المحكي، ومنه سمي المقص مقصاً لتعادل جنبيه، وأصل القصاص أن يفعل بالجاني مثلما فعل، فلو أنه قتل بالسيف فإنه يقتل بالسيف، ولو أنه قتل بمثقل فإنه يقتل بمثقل، ولو أنه قتل بمحدد فإنه يقتل بمحدد، ولو قتل بالسم فإنه يقتل بالسم، فيفعل به مثلما فعل تماماً، وفي الحديث الصحيح: (أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين من أجل أوضاح -يعني: حلي من الفضة- فقتل تلك الجارية، فأتي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها: أقتلك فلان؟ فرفعت رأسها- يعني: لا- أقتلك فلان؟ فخفضت رأسها فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف وأمر برض رأسه بين حجرين).
وهذا التشريع داخل تحت قول الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9].(43/6)
الحكمة من شرعية القصاص
من هداية القرآن للتي هي أقوم -كما يقول العلامة الشيخ الشنقيطي رحمه الله- تشريع القصاص؛ لأن الإنسان الذي ينوي القتل إذا علم أنه سيفعل به مثلما فعل بالآخر فإنه سيتردد مرة ومرة وألف مرة قبل أن يقدم على القتل، فلذلك قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، وليس كما يقول أعداء الله: القصاص شريعة قاسية بدائية تفضي إلى نقص المجتمعات؛ فالقاتل لا ينبغي أن يقتل، وإنما يوضع في السجن ليعيش ويولد له من أجل أن يكثر المجتمع، وهذا هراء؛ فإن الإنسان إذا علم بأنه إذا قتل سيلقى به في السجن اندفع إلى القتل، ولذلك كان القصاص حكمة الله عز وجل كما قال أهل العلم.(43/7)
تفسير آية القصاص
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة:178] (كتب) بمعنى فرض، ومنه قول الله عز وجل: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ))، والمراد الكتابة في اللوح المحفوظ أو الكتابة الشرعية ولا تعارض، فالكل سابق في علم الله، وأصل الكتب النقش في حجر أو ورق أو رق أو غير ذلك.
((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) القصاص هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل، ((فِي الْقَتْلَى)) أي: بسبب القتلى، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة) أي: بسبب هرة، والقتلى جمع قتيل كالجرحى جمع جريح.
((الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى))، أجمع أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى، فلو أن رجلاً قتل امرأة فإنه يقتل بها لو طلب أولياء الدم القصاص، فليست الآية على ظاهرها، ولا يفهم من الآية أبداً أن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقد قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بقول الله عز وجل: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، لكن لا حاجة إلى القول بالنسخ إذا عرفنا سبب النزول، وأن الآية نزلت لأن ذلك الحي من العرب قالوا: إذا قتلت منا امرأة سنقتل بها رجلاً ولعل هذه المرأة قد قتلتها امرأة مثلها، فلم يقتل الرجل الذي لم يقتل وتترك المرأة التي قتلت؟! فمعنى الآية أنه لا يقتل إلا القاتل، ولذلك نقل الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز وابن جزي في التسهيل وغيرهما أجماع أهل العلم على أن الرجل يقتل بالمرأة.
قال الله عز وجل: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ))، (فمن عفي له) أي: ترك ولي الدم الذي هو ولي القتيل، قال الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:33] أي: لا يمثل بالقتيل، ولا يقتل غير القاتل، فإن عفا عنه ولي الدم وترك القصاص، بأن قال له: عفوت عنك ولكن أريد الدية، فهذا يسمى عفو على دية، أو قال له: عفوت عن القصاص وأريد نصف الدية فيكون قد عفا على بعض الدية.
قال الله عز وجل: {فمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:178]، استدل بهذه الآية على أن القاتل لا يكفر، وإن كان قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور)، أو قال: (وشهادة الزور).
وقال: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً على وجهه: آيس من رحمة الله) رواه الإمام ابن ماجة، قال الهيثمي: وفي سنده ضعف.
فالقاتل ارتكب كبيرة ولكنه لم يخرج عن اسم الإيمان، ولذلك فإن الله عز وجل جعل ولي الدم أخاً للقاتل.
قال أهل التفسير: في الآية ترقيق للقلوب وإشعار لولي القتيل بأن يتذكر أن القاتل يجمعه معه الإسلام والإيمان، فهو قد أخطأ واعتدى وأسرف على نفسه لكن اعف، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، {فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178]، فيجب على ولي القتيل أن يطالب بالمعروف من غير رهق ولا تضييق ويجب على القاتل أداء إليه بإحسان من غير مماطلة ولا تسويف.
قال الله عز وجل ((فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهذا فيه قضاء على مفهوم الجاهلية، فإن الجاهلية كانت تستبشع العفو، ويرون أنهم بذلك قد باعوا دم قتيلهم، ولذلك قال قائلهم: فلا تأخذوا عقلاًِ من القوم إنني أرى العار يبقى والمعاقل تذهب والعقل: هو الدية: يقول لهم: إن الدية ستنتهي وسيبقى علينا العار فلا ترضوا إلا بالقصاص.
قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)) أي: ذلك تسهيل من ربكم جل جلالة، وتيسير ورحمة بكم، خلافاً لما كان عند اليهود، فإن اليهود في شريعتهم أنه إذا قتل القاتل فلا بد من القصاص، وليس هناك مجال لدية ولا عفو، والنصارى ليس في شريعتهم قصاص، وإنما لا بد من العفو، فالله عز وجل خيرنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن شاء قتل وإن شاء ودع) أي: إذا أراد أن يقتل القاتل فمن حقه، وإذا أراد أن يقبل الدية فمن حقه، وأفضل من هذا كله أن يعفو.
قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ)) أي: فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب أليم.
فلو أن إنساناً قتل إنساناً فرضي ولي القتيل بالدية وبعد أن أخذها قتله، قال بعض العلماء يقتل القاتل ألبتة، وليس هناك مجال للتخيير، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أمره إلى ولي الأمر، فإن رأى أن يقتله تعزيراً من أجل أن يردع الناس عن مثل هذا فله ذلك، ((فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).(43/8)
فوائد ومصالح القصاص
لقد شرع الله عز وجل القصاص لأمن المجتمعات، ومن أجل أن يطمئن أولياء الدم إلى أن حقهم محفوظ، وأن لهم أن يفعلوا بالجاني مثلما فعل بقتيلهم، وإذا لم يكن القصاص شريعة سائدة في المجتمع فإن ذلك سيؤدي إلى أن أولياء الدم يضطرون إلى أن يأخذوا ثأرهم بأنفسهم، فتسود الفوضى، وهذا هو الحاصل الآن، فكثير من المشكلات كان يمكن القضاء عليها لو طبق شرع الله كما ينبغي، لكن التسويف والتأجيل والمماطلة توغر الصدور، وتدفع بعض الناس إلى أن يأخذ الحق بيده، مع أن إجماع العلماء منعقد على أن تطبيق الحدود ليس للأفراد، وإنما المخاطب بذلك هم ولاة الأمر، حتى في حد السرقة {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، فلو أنك وجدت لصاً في بيتك فقطعت يده لأصبح الأمر فوضى، فيكون الأمر هنا موجه للحاكم، وكذلك حد الزنا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2]، الأمر للحاكم، وكذا قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33] الأمر للحاكم، فتقصير الحاكم في تطبيق الشريعة الإلهية يؤدي بالناس إلى أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم ويحدثوا في الأرض الفساد.
وقد ختم اللهُ هذه الآية المباركة بالتوعد بالعذاب الأليم للمعتدي ثم قال بعدها: ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ))، قال أهل العلم: هذه الآية من فصيحات القرآن، وقد عجزت العرب عن الإتيان بمثلها، فقد عبروا عن القصاص بقولهم: القتل أنفى للقتل، وبقولهم: القتل أبعد للقتل، لكن هذا الكلام لا يعد شيئاً أمام فصاحة هذه الآية.(43/9)
ما يستفاد من آية القصاص
هذه الآية يستفاد منها فوائد: الفائدة الأولى: يجب على أولياء القاتل بل على القاتل نفسه أن يمكن أولياء القتيل من القصاص، فيحرم علينا أن نعرف عن إنسان أنه قاتل ومعتدي ثم نأويه ونحميه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وهذا من إيواء المحدث المحرم في دين الله عز وجل، بل يجب علينا أن نسلمه من أجل أن يطبق حكم الله فيه.
ثانياً: لا يجوز لأولياء القاتل أن يحولوا بين إقامة الحد وبين أولياء الدم.
ثالثاً: قال الله عز وجل: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى))، هذا العموم يخرج منه الوالد، فلو أن الوالد قتل ابنه فإنه لا يقتل به.
يقول الشيخ محمد عبده رحمه الله في تفسير المنار: إن الله عز وجل جبل الأصول -أي: الآباء- على الشفقة والرحمة، فقد يقسو الولد على الوالد وقلما يقسو الوالد على الولد، وإن والداً يقتل ولده عامداً هذا ما يحدث إلا نادراً، وهو إما بسبب أن الولد قد خرج عن الأدب تماماً وأوغر صدر الأب، أو لأن الأب قد أحاط به عذر من طيش أو جنون أو غير ذلك، لكن في طبيعة البشر أن الوالد يتحمل الجوع، ويتحمل الآلام، ويتحمل السهر في مقابل أن يريح ولده، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقتل الوالد بالولد).
وقد أجمع جمهور العلماء على أن الجماعة تقتل بالواحد، فلو أن مجموعة من الناس تعاونوا على قتل واحد فإن جمهور العلماء يرون أن هؤلاء الجماعة يقتلون بالواحد، وقد حدث في زمان عمر رضي الله عنه أن اجتمعت امرأة وخادمها وخليلها على قتل غلام زوجها من امرأة أخرى، فعرضت القضية على عمر رضي الله عنه فقال: إن الله تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، وهؤلاء جماعة، فـ علي رضي الله عنه هو العالم الكامل، فقال له: يا أمير المؤمنين! أرأيت لو أن جماعة من الناس اشتركوا في سرقة بعير، -يعني واحد أخذ الكراع، والثاني أخذ السنام، والثالث أخذ الكبد وهكذا- أكنت قاطعهم؟ قال: اللهم نعم، قال له: هكذا فافعل، اقتلهم جميعاً، فانشرح صدر عمر لهذا الحكم وقال: والله لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، قالوا: ومن ناحية النظر لو لم يقتل الجماعة بالواحد لأفضى ذلك إلى القتل وإلى الفساد والنظر صحيح.
وقد دلت الآية على أن الأصل وجوب القود، وأن الدية بدل منه، كما دلت على أنه يجب على القاتل أداء بإحسان من غير مطل ولا إساءة فعلية ولا قولية.(43/10)
وجوب صوم شهر رمضان
النداء الخامس في الآية الثانية والثمانين بعد المائة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ينادينا الله جل جلاله ويخبرنا بأن الصيام عبادة مفروضة، وحق واجب يجب أن يؤدى خالصاً لله عز وجل، وكتب بمعنى فرض، ويقصد به الكتابة الأزلية في اللوح المحفوظ أو الكتابة الشرعية التي أنزلها الله عز وجل في كتابه الكريم.
والصيام هو الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
((كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))، الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف، كتب عليكم الصيام صياماً كالذي كتب على الذين من قبلكم.
قال بعض أهل التفسير: وجه الشبه في أصل الصوم، أي: أن الصوم مفروض عليكم كما فرض على من كان قبلكم، وقال بعضهم: بل الشبه في القدر والصفة، في القدر شهر، وفي الصفة إمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وقال بعضهم: بل التشبيه في الوقت، أي: أن الله فرض علينا صيام رمضان كما فرضه على من كان قبلنا، قال أهل التفسير: وقد قال الله عز وجل ((كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)) ترغيباً لعباده.
قال الألوسي رحمه الله: لأن في الصوم مشقة، والمشقة إذا عمت طابت، وهذا الكلام نجد مصداقه في الواقع، فالإنسان إذا صام رمضان لا يشعر بذلك التعب والإرهاق الذي يشعر به لو صام الإثنين والخميس، فحين يكون الناس كلهم صائمين يخفف ذلك المشقة عن النفس، ولذلك يقول الله عز وجل من أجل أن يرغبنا: يا عبادي؛ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الصيام لستم فيه بدعاً من الناس، فقد فرضته عليكم كما فرضته على من كان قبلكم من الأنبياء والأمم، ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)).(43/11)
أحوال تشريع الصيام
وهذه الكتابة مرت بأطوار، كما هو الحال في أغلب التشريعات، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال) أي: تشريع الصلاة مر بثلاثة أطوار وتشريع الصيام مر بثلاثة أطوار.
أما الصلاة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعد أن هاجر إلى المدينة سبعة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس حتى أنزل الله عليه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] فوجهه إلى الكعبة.
ثم إنه كان إذا حان وقت الصلاة يؤذن الصحابة بعضهم بعضاً، أي: كان يخبر بعضهم بعضاً، الصلاة الصلاة الصلاة، (حتى نقسوا أو كادوا ينقسون) أي: حتى كادوا يستعملون الناقوس، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: عبد الله بن زيد بن عبد ربه (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيت فيما يرى النائم ولو شئت لقلت: ما كنت نائماً، بين أنا بين النائم واليقظان إذ أتاني رجل عليه ثوبان أخضران فقال لي: يا عبد الله قل: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله مثنى، حتى فرغ من الأذان، ثم مكث ساعة فعاد فقال مثل ما قال أولاً غير أنه زاد قد قامت الصلاة مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علمها بلالاً فإنه أندى منك صوتاً)، وكان الرجل يأتي إلى الصلاة وقد سبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعضها، فكان يشير إلى من بجواره: كم صليتم؟ فيخبره فيأتي بما فاته ثم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن: الصحابي كان إذا جاء وقد فاتته ركعة فإنه يأتي بها أولاً ثم يدخل في الركعة الثانية مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن معاذاً جاء يوماً وقد سبق ببعض الصلاة فقال: (والله لا أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال إلا كنت عليه فيها، فدخل على الحال التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وبعدما سلم قام معاذ فأتم، فقال عليه الصلاة والسلام: (قد سن لكم معاذ سنة فاتبعوه) ومن ذلك اليوم وإلى يومنا هذا إذا جاء الإنسان مسبوقاً فإنه يدخل مع الإمام وبعد سلام الإمام يقوم فيتم الصلاة.
وكذلك الصيام أحيل ثلاثة أحوال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما هاجر إلى المدينة كان يصوم يوم عاشورا وثلاثة أيام من كل شهر، حتى أنزل الله عليه هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فكان من شاء صام ومن شاء أطعم؛ لأن الصيام على التخيير، فالذي يريد يصوم، والذي لا يريد لا يصوم، وله الحق في ذلك، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185]، فصار الصوم واجباً على الغني والفقير، فهذان حالان.
ثم إن الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل ويشرب ويأتي النساء ما لم ينم، أي: إذا غربت الشمس فله الحق في أن يأكل ويشرب ويأتي النساء، فإذا نام منع من هذا كله إلى غروب الشمس من اليوم الذي يليه.
ثم إن رجلاً من الأنصار -والرواية في صحيح البخاري - يقال له: قيس بن صرمة كان يعمل صائماً حتى أمسى، فجاء إلى أهله، فصلى ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح.
وفي بعض الروايات (أنه رضي الله عنه جاء وبينما زوجه تهيئ له طعاماً إذ غلبته عيناه فنام، فجاءت زوجته فقالت: يا هنتاه أنمت؟ فأصبح رضي الله عنه صائماً، فرآه رسول صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً فقال: مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً؟ قال: يا رسول الله! إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت، فأصبحت حين أصبحت صائما) أي: أن هذا الرجل صام يومين متتابعين، فجاء الفرج من الله عز وجل بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فلو أن أحداً منا الآن رجع بعد صلاة التراويح فنام، فإنه يمكنه أن يقوم قبل الفجر فيأكل ويشرب ولا حرج عليه في ذلك، ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ))، والحمد لله رب العالمين.(43/12)
الحكمة من الصيام
قال الله عز وجل: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، هذه هي الحكمة من فرضية الصيام، وهي أن تحصل تقوى الله في القلب، والتقوى ظاهرة في فعل المسلم الذي يصوم لله، فيعاني من الحر الشديد، والجوع الشديد، وهو في بيته وحده، وليس معه أحد من البشر، وعنده ألوان الطعام والشراب، ونفسه تتوق إلى تناول هذه المطعومات والمشروبات، لكن الذي يمنعه هو تقوى الله عز وجل، فتقوى الله تجعله لا يأكل ولا يشرب، لم؟ لأنه يؤمن حقاً بأن الله يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) سبحانه وتعالى.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول الملذات، من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية، وتطغيان على القوة العاقلة، أي: أن الإنسان مركب من روح وجسد، والجسد طبعه كالطبيعة الحيوانية يتوق إلى الطعام والشراب والنكاح، وفيه قوة غضبية تميل إلى التسور على الناس والاعتداء عليهم، وفيه القوة الشهوية، لكن هناك القوة العاقلة، والصيام ينمي هذه القوة العاقلة ويزيدها، ويضعف القوة الشهوية والقوة البهيمية؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد الشباب الذين لا يستطيعون الزواج إلى الصيام فإنه وجاء، فجاءت الشرائع بشرع الصيام.
يقول صاحب المنار رحمه الله: في كل الأديان الصوم مشروع، بل حتى في غير الديانات التي أصلها سماوي، أي: في غير اليهودية والنصرانية، حتى الرومانيون عرفوا الصيام، والفراعنة، والوثنيون ممن يعبدون البقر أو يعبدون بوذا أو غير ذلك عندهم لون من ألوان الصيام، فكأن العقلاء جميعاً متفقون على أن الصيام يهدئ النفس، ويرقق الطبع، وهذا الصيام لا يؤتي أكله إلا إذا التزم فيه الإنسان بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ففي الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وقال: (الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم).(43/13)
ما يستفاد من آية الصوم
في آية الصوم فوائد، منها: أولاً: فرضية الصيام، وأنه واجب بإيجاب الله عز وجل.
ثانياً: أن الصيام كان مفروضاً على الأمم التي كانت قبلنا.
ثالثاً: في الآية تنشيط لهذه الأمة، فكأن الله يقول: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينبغي لكم أن تنشطوا في العبادات من أجل أن تتفوقوا على من كان قبلكم من الأمم، وهذا تنافس مشروع كما قال الله عز وجل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
رابعاً: الصيام ليس من الأمور الثقيلة التي اختصت بها هذه الأمة.
خامساً: الحكمة من فرضية الصيام تحصيل تقوى الله عز وجل، فإن الصيام من أقوى الأسباب في تحصيل التقوى.
سادساً: تنبيه أهل التربية والعاملين في الخير أن يرغبوا الناس في الخير بكل أنواع المرغبات، فإن الله عز وجل رغبنا بالنداء: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، ثم رغبنا بأن الصيام كان مفروضاً على الأمم قبلنا، ثم رغبنا بذكر العلة ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، ثم رغبنا رابعاً فقال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184]، فإذا أراد أحد أن يلقي على الناس موعظة فليقل لهم: عندي كلمتان فاسمعوهما، ثم يتكلم؛ لأن مجالس العلم للشيطان فيها نصيب وحضور، ولذلك تجد أن عندنا استعداد للجلوس على المدرجات لمشاهدة مباراة كرة القدم أكثر من ساعتين وثلاث دون أن نشعر بملل، لكن في مجلس العلم نشعر بالحر، وبالبرد، وبالجوع، وبالعطش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فلذلك إذا أراد الإنسان أن يرغب الناس في الخير، مثل أن يرغب الأطفال في الصيام، أو في الصلاة، أو في قراءة القرآن، أو في أي لون من ألوان البر؛ فليستعمل المرغبات، بأن يبين لهم الفوائد ولا بأس أن يعطيهم الجوائز والعطايا السخية، فالنفس البشرية جبلت على حب العاجلة، فلا نعد الناس فقط بأجر الآخرة، وإنما كما قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20]، فالناس يحبون الجزاء العاجل.(43/14)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [3]
لقد حثت الشريعة الإسلامية المؤمنين على الخير وأمرتهم به، وحذرت من الشر ونهت عنه، وإن مما أمرت به الشريعة الغراء الدخول في دين الله كاملاً، والتمسك به جملة وتفصيلاً، ونهت عن اتباع خطوات الشيطان؛ إذ إنه العدو الأكبر للمؤمن، وخطره أعظم الأخطار، وشباكه أشد الشباك.
ولقد حث الله تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من النفقة في وجوه الخير، وإخراج أطيب الأموال في الحياة الدنيا، قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة.(44/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)
النداء السادس في الآية الثامنة بعد المائتين من سورة البقرة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
سبب نزول هذه الآية كما قال بعض أهل التفسير: إن جماعة من اليهود الذين أسلموا، وفيهم عبد الله بن سلام، وأسد بن كعب، وثعلبة، (سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأذن لهم أن يسبتوا)، يعني: يعظموا يوم السبت، وأن يقوموا الليل بالتوراة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، يأمرهم فيها بشعائر الإسلام والاشتغال بها عما عداها، يعني: يا يهودي! يا من أسلمت! اعلم بأن ديانتك منسوخة، وأن شريعتك قد بطل العمل بها، فوجب عليك أن تجعلها وراء ظهرك، وأن تشتغل بشريعة الإسلام دون سواها.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وفي ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر، إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت، وهو مع تمام إيمانه بتحقق نسخه ورفعه وبطلانه والتعويض عنه بأعياد الإسلام، فـ ابن كثير رحمه الله يقول: عبد الله بن سلام رجل راسخ الإيمان، زكاه الله عز وجل في القرآن، فقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمَْ} [الأحقاف:10]، وقال الله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد:43]، قالوا: هو عبد الله بن سلام، رضي الله عنه.
وعلى كل حال فإن الله عز وجل يأمرنا -نحن المسلمين- بأن ندخل في هذا الدين كله، أصولاً وفروعاً، عقيدة وشريعة، آداباً وأحكاماً، أخلاقاً وسلوكاً، لا نأخذ منه ما يوافق أهواءنا وندع ما يخالفه.
وقال بعض أهل التفسير: بل الآية نازلة في أهل الكتاب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى! آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وادخلوا في دينه، ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)، فاليهودي لن تنفعه يهوديته، والنصراني لن تغني عنه نصرانيته، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(44/2)
وجوب الاستسلام والانقياد لله ظاهراً وباطناً
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208]، قوله: {فِي السِّلْمِ} [البقرة:208]،قرأ نافع، والكسائي، وابن كثير، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع بالفتح، وقرأ الباقون بالكسر، وهما لغتان بمعنى: الاستسلام والطاعة، فكلمة الإسلام معناها: أن تستسلم لله عز وجل في أمره ونهيه، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51]، فهذا هو دأبهم، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
وقوله تعالى: ((ادْخُلُوا)) الدخول حقيقته نفوذ جسم في جسم، واستعير ها هنا لمعنى، وهو ملازمة الاتباع والالتزام وشدة التلبس بالطاعة، فقوله تعالى: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمٌِ)) أي: استسلموا لله جملة، وأطيعوه ظاهراً وباطناً، فاستسلموا لله بقلوبكم وجوارحكم، وارضوا بقضائه وحكمه، وشرعه ودينه.(44/3)
تحريم مشابهة أهل الكتاب في الأخذ ببعض الكتاب وترك بعضه
قال تعالى: {ادْخُلُوا فِي السِّلْم كافهٌِ} [البقرة:208]، قوله ((كَافَّةً)) قالوا: حال من السلم، وأصلها من كف يكف، بمعنى: منع، وعلاقة الجملة شدة الالتزام، كما يقول الألوسي رحمه الله: وأنها مانعه للأجزاء من التفرق.
بمعنى أن الله عز وجل يريد منا ألا نشابه أهل الكتاب، فالذين قالوا: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، قال الله عز وجل عنهم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87]، وقبلها قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة:87]، فالذين جعلوا القرآن عضين، بعضوه وجزءوه، فأطلقوا عبارات يقولون فيها: الدين لله والوطن للجميع، أو يقولون فيها: المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، بمعنى: التسوية بين الكافر والمؤمن، بين الصالح والطالح، ونسمع دعوات إلى وحدة الأديان أو إلى ديانة إبراهيمية تجمع أتباع الملل الثلاثة، فهؤلاء جميعاً الدعاة إلى هذا الباطل يخاطبون بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ٌ} [البقرة:208]، ومثلهم أيضاً الذين يريدون أن يتملصوا من بعض شعائر الإسلام، فيريدون مثلاً أن يغيبوا الجهاد ويذموه، أو يريدون أن يغيروا تشريعات الإسلام فيما يتعلق بحقوق الطفل وحقوق المرأة، ويوافقوا تلك الاتفاقات الدولية والمعاهدات العالمية التي قامت على الزور والباطل وتشريع ما لم يأذن به الله، فهؤلاء جميعاً نقول لهم كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) أي: خذوا الدين كله، وكما قال الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وكما خاطب بني إسرائيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:63]، أما إن كان يريد أن يأخذ الدين في الجزء الذي يتعلق بالمساجد، وشهر رمضان وأيام الحج، ثم بعد ذلك يريد أن يسير على هواه في الأمور الأخرى، فهذا لم يدخل في السلم كافه، وإنما دخل في جزء من السلم، ودين الله عز وجل لا يقوم به إلا من أحاط به كله، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)).(44/4)
كلام سيد قطب في الآية
يقول سيد قطب رحمه الله: الاعتقاد بالآخرة له دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح عالمه، ونسيان القلق والسخط والقنوط.
فإن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة، إنما الحساب الختامي في الآخرة، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب.
والاعتقاد بالآخرة كذلك حاجز دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم، وتداس فيه الحرمات بلا تحرج ولا حياء، فالآخرة فيها عطاء وغناء، وفيها عوض عما يفوت، وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله، وتحقيق إرادة الله، وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والاستقرار والسلام والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق، ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من روح الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء، ومن ثم يحس بالسلام في روحه، فقوله تعالى: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))، يدل على أن الإنسان لو أخذ الدين كله فإنه سيشعر بسلام واطمئنان وراحة وحبور وسرور؛ لأنه يعتقد أنه في طاعة الله، ويمشي مع قدر الله، وأن الله يفعل ما يشاء.(44/5)
النهي عن تتبع خطوات الشيطان
قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))، هذا أمر، أعقبه نهي فقال سبحانه: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانٌِ} [البقرة:208]، قوله: ((خُطُوَاتِ الشَّيْطَانٌِ))، بضم الطاء قراءة الجمهور، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، وخلف العاشر بإسكان الطاء، ومثلها أيضاً في سورة النور، ((وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ))، والخطوات: جمع خطوة، وهي المسافة ما بين القدمين إذا مشى الإنسان، بمعنى: أن الله عز وجل يصور العاصي كأن الشيطان يمشي أمامه، وهو يمشي على خطا الشيطان، وهي صورة مقززة، وصورة تقبح حال العصاة.
يقول أهل العلم: إن الشيطان يزين العمل بمعاصي الله، ويجمل القبيح في أعين الناس، وهو يتبع مع ابن آدم ست خطوات، لابد أن يوقعه في واحدة منها، لأنه قطع العهد على نفسه فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمَْ صَرَاطَكَ الْمُسْتَقِيْم} [الأعراف:16] أي: على صراطك المستقيم، {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهذا الشيطان يحرص على أن يوقع الإنسان في الشرك والكفر بالله عز وجل، سواء كان كفراً بالربوبية، أو بالألوهية، أو بالأسماء والصفات.
فإن عجز أوقع الإنسان في البدعة، أن يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، والبدعة بريد الكفر، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة، حتى يدع بدعت).
ثم إذا عجز عن البدعة أوقع الإنسان في الكبائر، وهي المهلكات الموبقات.
فإن عجز أوقعه في الصغائر، وهي تجتمع على الإنسان حتى تهلكه، فإن عجز انتقل إلى الدرجة الخامسة وهي أن يشغله بالعمل المباح عن العمل الواجب.
فإن عجز شغله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل.
وللشيطان مع كل إنسان مدخل وأسلوب، ففي قول الله عز وجل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرَ} [الحشر:16]، ذكر المفسرون قصة العابد برصيصا من بني إسرائيل، قالوا: كان يتعبد في صومعته، وكان هناك إخوة أربعة أرادوا الخروج إلى الغزو، وعندهم أخت واحدة ليس هناك من يرعاها، فقالوا: لا نأمن عليها إلا هذا الراهب، فجاءوا بأختهم، وقالوا: إنا خارجون للغزو فاجعلها عندك، فاستعاذ بالله من ذلك، لكنهم ألحوا وأصروا، فقال لهم: اجعلوها في تلك الصومعة، يعني: بعيدة عنه، فكان كل يوم ينزل بالطعام ويضعه على بابها ثم يصعد إلى صومعته ويناديها من أجل أن تأخذ الطعام، فجاء الشيطان ووسوس له، وقال له: لو أنها خرجت لتأخذ الطعام لربما يراها بعض الفساق، فأدخل إليها الطعام، فالرجل أدخل الطعام، ثم بعد حين جاء الشيطان وقال له: هذه أنثى وحيدة مسكينة تجلس وحدها، فلو أنك خرجت من مكانك، وهى خرجت في مكانها، فآنستها، وذكرتها بالله، وعلمتها؛ فاستجاب، ثم بعد حين قال له: لو جلست فلربما يراها بعض الفساق، ادخل إلى حجرتها وعلمها، فدخل، وما زال الشيطان يزينها ويجملها ويراود هذا الراهب عن نفسه، حتى ضرب على فخذها ثم وقع عليها، فحملت منه ثم وضعت، فقال له: الآن يأتي إخوانها من الغزو فيفضحوك، اقتل الغلام، فقتل الطفل، ثم قال له: لا شك أنها ستخبر إخوانها، فاقتلها، فقتلها ودفنها، وصعد إلى صومعته كأنه ما فعل شيئاً؛ لأن ضميره قد مات، فبعد ذلك جاء إخوانها وسألوه فبكى وترحم عليها، وقال: الأخت كانت قد مرضت ثم ماتت، فقمت عليها فدفنتها، فصدقوه، فجاء الشيطان للأخ الأصغر في المنام وأخبره بما حصل لأخته من قصة الراهب كاملة، ثم جاء للأخ الأوسط، ثم جاء للذي بعده، ثم للذي بعده، فلما أصبحوا قال الأخ الأصغر: والله! لقد رأيت عجباً، رأيت فيما يرى النائم كأن قائلاً قال لي: وحكى القصة، وقال الآخر: وأنا رأيت مثل الذي رأى، وهكذا، حتى ذهبوا إلى الحاكم وأخبروه، فجاء بالراهب، وما زال به حتى اعترف بكل الذي كان، وبأنه زنى ثم قتل وكذب، فحكم عليه بالصلب، فجاءه الشيطان وقال له: أنا الذي زين لك ما مضى، وإني قادر على أن أنجيك الساعة، قال له: وكيف ذلك؟ قال: تسجد لي، فسجد له، فقال له الشيطان: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين، قال الله عز وجل: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
لذلك فإن الإنسان المؤمن إذا أصبح أو أمسى فإنه يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، وكثير من الناس آتاه الله علما، ولكن والعياذ بالله اتبع خطوات الشيطان، إما خطوات فكرية أو عملية، ولذلك بعضهم بعد أن عاش عمراً طويلاً يبحث في علم الكلام، وفي أدلة المتكلمين قال: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية أمرنا أذاً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا قيل وقالوا فهذا العالم يقول: أفنيت عمري كله في قيل وقالوا، وما استفدت شيئاً والعياذ بالله، فقد أظلم القلب؛ لأنه لم يتبع أنوار الوحي؛ فلذلك حذر الله من اتباع خطوات الشيطان، وعلل الله عز وجل هذا النهي بقوله: ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ))، فقوله: ((إِنَّهُ))، الضمير يعود إلى الشيطان، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ ٌ} [البقرة:16] أي: ظاهر العداوة.
قال مطرف بن عبد الله الشخير رحمه الله: أغش عباد الله لعباد الله الشيطان.(44/6)
من فوائد الآية
من فوائد الآية: وجوب قبول شرائع الإسلام كافة، وحرمة التخير فيها، يعني: لا يجوز لك أن تختار وتنتقل، وإنما كما قال تعالى: ((ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ٌ)).
ثانياً: ما من مستحل حراماً أو تارك واجباً إلا وهو متبع للشيطان في ذلك، فالذي يصوم ولا يصلي هو ممن اتبع خطوات الشيطان، لأن الذي أمر بالصيام هو الذي أمر بالصلاة، وهو الله جل جلاله.
ثالثاً: تحريم اتباع الشيطان فيما يدعو إليه من الكفر والضلال، وأن يستعيذ الإنسان منه بقوله تعالى: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98].(44/7)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم)
النداء السابع في الآية الرابعة والخمسين بعد المائتين من سورة البقرة: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254]، هذه الآية جاءت بعد الآية التي بين الله فيها أنه قد أرسل رسلاً، وأنه قد فضل بعضهم على بعض، فكأن الأمر بالإنفاق بعد ذكر الرسل ليبين ربنا جل جلاله أن هذه الشعيرة المباركة وهذه الخصلة الفاضلة هي مما جاءت به الرسل، وأمرت به الأمم، وقبل ذلك بآيات أمر الله عز وجل بالجهاد، فقال سبحانه: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:244]، ثم بعدها أمر بالإنفاق فقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةًَ} [البقرة:245]، يقول بعض أهل التفسير: النفقة ها هنا مقصود بها النفقة في الجهاد، كأنهم شبهوا هذه الآية على هذا النسق بقول الله عز وجل {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهَِ} [التوبة:41].
يقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)) النفقة: هي إخراج المال الطيب في الطاعات والمباحات، والإنسان إذا أخرج مالاً في الطاعة كالزكاة الواجبة، أو صدقة التطوع، أو تفطير الصائمين، أو في المباحات كنفقته على نفسه، في طعامه وشرابه ولباسه وأثاثه وسكنه، وكان هذا المال من حلال طيب، فهذه هي النفقة التي أمر الله عز وجل بها، وأخبر أنها متقبلة عنده.
يقول ابن عطية رحمه الله: ظاهر هذه الآية أنها تعم جميع وجوه البر: من سبيل خير، وصلة رحم.
يعني: سواء كانت هذه النفقة في سبيل من سبل الخير، أو في صلة رحم، فنحن مأمورون بها.(44/8)
الحث على الإنفاق قبل الموت
يذكرنا ربنا جل جلاله أننا لا ننفق من أملاكنا وأموالنا، وإنما مما أفاء الله علينا، ومما أنعم به علينا، فيقول: ((أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ))، كما قال في آية أخرى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فكأن الله يقول: أنفقوا مما رزقناكم في حياتكم الدنيا ولا تنتظروا الموت، حتى إذا أتى الموت قال الواحد منكم: هكذا وهكذا ولفلان كذا، ولفلان كذا، وإنما لينفق الواحد منكم وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى.
قال تعالى: ((أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ))، وهو يوم القيامة، فهناك لا يستطيع إنسان أن يفدي نفسه ولو بذل ملء الأرض ذهباً، كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47]، فالكفار في ذلك اليوم يريدون أن يفدوا أنفسهم بكل شيء لكن لا يستطيعون، فإن ذلك اليوم لا بيع فيه؛ لأن الناس سيبعثون حفاة عراة غرلاً، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104].(44/9)
نفرة الخلق عن بعضهم يوم القيامة
قوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌٌ} [البقرة:254] لا خلة: أي: لا صداقة، وسميت الصداقة خلة؛ لأنها مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين، فيوم القيامة لا تنفع الصداقة ولا المودة كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] بل حتى الرحم لا تنفع في ذلك اليوم كما قال الله عز وجل: {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11] ((وَصَاحِبَتِهِ)) أي: زوجته {وأخيهِ * وَفَصِيلَتِهِ} [المعارج:12 - 13] أي: قبيلته {الَّتِي تُؤْويهِ} [المعارج:13]، {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:14].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].(44/10)
الشفاعة المنفية والشفاعة المثبتة
قوله تعالى: ((وَلا شَفَاعَةٌ)) الشفاعة مشتقة من الشفع الذي هو ضد الوتر، والشفاعة معناها الوساطة، بأن يضم الشافع جاهه إلى جاه المشفوع فيه عند مشفوع عنده من أجل أن يحق حقاً، أو يبطل باطلاً، أو من يجلب مصلحة، أو يدفع مفسدة، فهذه هي الشفاعة، والقرآن الكريم هاهنا ينفيها.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: والشفاعة المنفية هاهنا هي الشفاعة التي لا يسع من بذلت عنده ردها.
فمثلاً إذا أراد الأستاذ أن يعاقب الطالب، أو يفصله، أو يطرده، أو يحرمه من الامتحان وغير ذلك، فجاء أبو الطالب يشفع، فللأستاذ أن يقبل وأن يرد، لكن لو أن وزير التعليم قال لذلك الأستاذ: أنا أشفع في هذا الطالب، فهل يسعه ردها؟ في الغالب لا، فهذه هي الشفاعة المنفية، ولله المثل الأعلى، فلا يستطيع أحد أن يشفع عند الله شفاعة لا ترد، بل الله عز وجل يقبل شفاعة من يحب أن يقبل شفاعته ويرد من لم يقبل شفاعته، وهذا هو معنى (لا شفاعة)، كما قال الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109]، وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، ولذلك قال العلامة ابن جزي المالكي رحمه الله: حيثما كانت الشفاعة منفية في القرآن فهو عند الحديث عن أهوال القيامة، وحيثما كانت الشفاعة مقترنة بإذنه جل جلاله فهو من أجل الشفاعة التي كان يعتقدها الكافرون، وفي آية أخرى قال الله عز وجل: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].
لكن الشفاعة ثابتة في الأحاديث المتواترة أن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (سل تعط، واشفع تشفع)، فيشفع النبيون، ويشفع الصديقون، ويشفع الشهداء، ويشفع العلماء، ويشفع الأبناء في الآباء والآباء في الأبناء، وهناك شفاعات خاصة، وشفاعات عامة، وهذا كله مما يجمع به بين نصوص الشرع بحيث لا تتعارض.(44/11)
خلاف أهل العلم في المقصود بالكافرين في قوله تعالى (والكافرون هم الظالمون)
يقول الله عز وجل: ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)).
قال الزمخشري: الكافرون أي: مانعوا الزكاة، واستدل بقول الله عز وجل: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت:6 - 7]، قال: وقد سماهم الله كافرين تغليظاً مثلما قال: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، ((وَمَنْ كَفَرَ)) أي: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين.
والمراد بالكافرون هاهنا على قول الزمخشري: مانعوا الزكاة، لكن أهل التفسير قالوا: الكافرون هم الذين يلقون الله عز وجل كفاراً، أي: لا أظلم ممن وافى الله يوم القيامة كافراً، فهؤلاء الذين ظلموا الحق فأنكروه، وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك، وظلموا الناس وصدوهم عن الهدى، وفتنوهم عن الإيمان، وموهوا عليهم الطريق، وحرموهم من الخير.
قال عطاء بن دينار رحمه الله: الحمد لله الذي قال: ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون؛ لأنه لو قال كذلك لكان كل ظالم كافر، لكن الله عز وجل أخبر في هذه الآية أن كل كافر ظالم، وهذا تشهد له نصوص كثيرة كقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114]، وغير ذلك من الآيات.(44/12)
فضل النفقة
هذه الآية المباركة حثت على النفقة، وقد أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين ما في النفقة من الأجر والثواب والخير والبركة، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها فيما أنفقت، ولزوجها أجره بما كسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً) يعني: أنك تكتسب وتجعل في البيت سكراً وقمحاً وزيتاً وخلاً وبصلاً وعسلاً، فلو أن الزوجة وجدت أن المصلحة والخير أن تنفق من هذا الشيء لجارة أو ذات رحم أو صديقة أو غير ذلك فلها أجرها بما أنفقت، ولا يضيع أجرك أنت؛ لأنك أنت الذي جئت بهذا الشيء، وللخادم في البيت الذي يتولى العطاء أجره.
وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك؛ أعظمها أجراً الذي تنفقه على أهلك).(44/13)
شروط النفقة المتقبلة
النفقة المتقبلة لها شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون من الطيب، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] يعني: فلا تنظر الطعام الذي قاربت مدته على النهاية فتتخلص منه، بل لا بد أن يكون من طيبات ما كسبت.
ثانياً: أن تخرجه طيبة به نفسك، فلا تخرجه ويدك ترتجف، وقلبك محترق، بل أخرجه طيبة بها نفسك.
ثالثاً: لا تتبعها مناً ولا أذى، وفي الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر من بينهم: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه).
وفي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص: (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك).
فالمعنى: أنفقوا مما رزقناكم، وليس المقصود فقط الزكاة، أو الصدقة فقط، وإنما حتى النفقة التي تنفقها في البيت، الخبز الذي تشتريه، الخضر، الفاكهة، السكر، اللحم، كله في ميزان حسناتك لو أنك ابتغيت به وجه الله.
وفي الحديث: (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالتبرع والدعاء)، وفي الحديث الآخر: (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)، وفي الحديث الثالث (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وينزل فيه ملكان يناديان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) أي: هذا الممسك أتلف اللهم ماله، وفي الحديث (صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار، وصلة الرحم تزيد في العمر) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة.(44/14)
من فوائد الآية
هذه الآية فيها فوائد كثيرة منها: الفائدة الأولى: الحث على النفقة في جميع طرق الخير، إذ قال: أنفقوا، ولم يعين باباً، فالأبواب كلها أبواب خير، فلك أن تنفق في علاج مريض، أو كفالة يتيم، أو إطعام جائع، أو التصدق على مسكين، أو كسوة عار، أو تفطير صائم، أو في بناء مسجد، إلى غير ذلك من أبواب الخير.
الثانية: التذكر بنعمة الله على الناس؛ لأنه جل جلاله هو الذي رزقهم، وأنعم عليهم بالنعم.
الثالثة: أن الله عز وجل أمرنا بإنفاق بعض المال لا كله، إذ لم يقل: أنفقوا ما رزقناكم، وإنما قال: (مما رزقناكم)؛ لأن الله عز وجل يعلم أن النفس مجبولة على الشح؛ ولذلك الله عز وجل قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُوْن} [البقرة:2 - 3]، فقال مما رزقناهم هو يمثل الجزء، فلذلك لو احتسبت الزكاة في المليون فستكون خمسة وعشرين ألفاً، وهي لا تمثل شيئاًً، وفي أربعين شاة شاة، وفي ثلاثين بقرة تبيع، وفي خمس من النوق شاة، فدائماً الصدقة القليلة متقبلة عند الله عز وجل.
الرابعة: دلت الآية على أن هذه النفقات مدخرة عند الله ليوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه، ولا التبرعات ولا الشفاعات، ولذلك الممسك يوم القيامة يندم، ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:9 - 11]، فهذا تحذير من الغفلة وتنبيه لوجوب الأخذ بأسباب النجاة التي تعين في نجاة العبد يوم القيامة، ثم حصر الظلم في الكفار؛ لأنهم خرجوا على ما خلقهم الله له، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً.(44/15)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)
النداء الثامن في الآية الرابعة والستين بعد المائتين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:264] الله جل جلاله خالق النفس وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير، يعلم أن النفس الإنسانية مجبولة على الشح، وأنها تحب ذاتها وتكره إخراج المال، إلا إذا ترقت هذه النفس، وتطبعت بالخصال الحميدة والصفات الجميلة لالتزامها بشرع الله عز وجل، إذ شرع الله يأمرنا بالنفقة، ويخبرنا بأن الله عز وجل يخلف علينا، كما قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وفي الحديث أن الملك يقول: (اللهم أعط منفقاً خلفاً)، وفي الحديث الآخر: (ثلاثة أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة)، ولذلك الشريعة تؤدبنا في هذه الصدقة، وتقول لنا: يا مؤمنون! لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، فالمن هو ذكر النعمة على وجه التعديد لها، بأن يقول المتصدق لمن تصدق عليه: ألم أعطك؟ ألم أتفضل عليك؟ ألم أكرمك؟ ألم أفعل لك كذا وكذا؟ وهذه هي سنة فرعون الذي قال لموسى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الشعراء:18 - 19]، ففرعون هو المنان الأول، ولذلك المن من أراذل الأخلاق، وقد نهى عنه رب العالمين جل جلاله، وأكد النهي رسوله صلى الله عليه وسلم.(44/16)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [4]
الربا من أعظم الكبائر الموبقات، وقد حرمه الله لما فيه من المفاسد العظيمة والأضرار الكبيرة، فيجب على كل مسلم أن يحذر من الربا بجميع أنواعه وصوره، ومن رحمة الله بعباده أن شرع لهم ما يحفظون به أموالهم من الضياع، ومن ذلك أن أطول آية في القرآن هي من أحكام المداينة.(45/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)
النداء العاشر في الآية الثامنة والسبعين بعد المائتين في سورة البقرة، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278].
سبب النزول: ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل والسدي أن الآية نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني المخزوم، وكان بينهم رباً في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا وقالت بنو المغيرة: لا نؤد الربا في الإسلام لكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد رضي الله عنه وهو نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279]، فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كله.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب ثم قرأ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].(45/2)
معنى قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)
معاني المفردات: يقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)) أي: خافوه وراقبوه فيما تفعلون، قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: أمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا؛ لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب؛ ولأن ترك الربا من جملتها.
قال سبحانه: ((اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) أي أتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار، ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) أي: إن كنتم مؤمنين بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
قال الرازي رحمه الله تعالى: فإن قيل: كيف قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) -ثم قال في آخره- ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ))، فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن هذا مثل ما يقال: إن كنت أخاً فأكرمني، معناه: أن من كان أخاً أكرم أخاه.
الوجه الثاني: قيل: معناه إن كنتم مؤمنين قبله.
الوجه الثالث: إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان.
الوجه الرابع: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) بلسانهم ((َذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)) بقلوبكم.
قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، بأخذ الزيادة ((وَلا تُظْلَمُونَ)) أي: بوضع رءوس الأموال أيضاً، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
وقيل في تعريف الربا: هو عقد في الشرع فاسد وإن لم تكن فيه زيادة؛ لأن بيع الدراهم بالدراهم نسيئة ربا، وإن لم تتحقق فيه زيادة.(45/3)
ذم الربا في القرآن
الآيات في ذم الربا كثيرة، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]، وقال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]، وقال سبحانه في ذم اليهود {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:161]، وقال تبارك اسمه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39].(45/4)
ذم الربا في السنة
الأحاديث في ذم الربا قد تواترت تواتراً معنوياً، منها: ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
ومنها حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي آكل الربا يوم القيامة مخبلاً يجر شقيه، ثم قرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275])، قال المنذري رحمه الله في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني والأصفهاني من حديث أنس ونحوه عند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنها ما جاء عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم حجة الوداع فقال: (وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن حنظلة -غسيل الملائكة- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية)، قال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق فانطلقنا، فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، فإذا في النهر سابح يسبح، وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي الجالس الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قلت: ما هذان؟ قالا: إنه آكل الربا).
وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله)، قال المنذري في الترغيب: رواه أبو يعلى بإسناد جيد، وأخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.(45/5)
ما يستفاد من هذه الآية
في هذه الآية الكريمة فوائد: أولها: وجوب تقوى الله في الأمر كله.
ثانيها: حرمة الربا وأنه من كبائر الذنوب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: من كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه، فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
ثالثها: وجوب التوبة من الربا ومن كل المعاصي.
رابعها: اجتناب الربا من مقتضيات الإيمان.
خامسها: قال الرازي رحمه الله: اعلم بأن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا؛ وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقض ولا يفسخ، وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب، فإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى، -أي: ذلك الصداق- وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى.(45/6)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
هذا هو النداء الأخير من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في سورة البقرة، وهو النداء الحادي عشر، ففي سورة البقرة أحد عشر نداءً، وآخر نداء في الآية الثانية بعد المائتين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، وهي أطول آي القرآن على الإطلاق، وقد تناولت شأن هذه المعاملة المالية، من أجل قطع التنازع والاختلاف بين بني الإنسان؛ لأن الإنسان مجبول على النسيان كما في حديث ابن عباس الذي أخرجه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول من جحد آدم عليه السلام، إن الله تعالى أراه ذريته فرأى رجلاً أزهر ساطع اللون فقال: يا رب! من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب! فما عمره، قال: ستون سنة، قال: يا رب! زد في عمره، قال: لا إلا أن تزيده من عمرك، قال: يا رب! وما عمري؟ قال: ألف سنة، قال آدم: قد وهبت له أربعين سنة، -من أجل أن يكمل له المائة- قال: فكتب الله عليه كتاباً وأشهد عليه ملائكته، فلما حضرته الوفاة جاءته الملائكة فقال آدم: إنه قد بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: قد وهبتها لابنك داود، قال: ما وهبت لأحد شيئاً، قال: فأخرج الله تعالى الكتاب، وشهد عليه ملائكته، وأتم الله لداود مائة سنة، ولآدم ألف سنة) أي: أن الله عز وجل رد لآدم الأربعين، وزاد داود أربعين، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، أي: في أم الكتاب عند الله أن عمر داود مائة، وعمر آدم ألف، لكن هذا التغير في علم البشر، وفي علم آدم، أما علم الله فهو ثابت، وعنده أم الكتاب.
فالآدمي مطبوع على النسيان والجحود، وخاصة فيما يتعلق بالأموال؛ ولذا شرع الله عز وجل للمؤمنين هذا التشريع المحكم؛ من أجل أن تدوم الأخوة بينهم.(45/7)
تفسير آية المداينة
قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282] أي: إذا تعاملتم بالدين، سواء كان هذا الدين قرضاً أو بيعاً أو سلماً، ((إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ))، أي: إلى وقت معروف، وإلى شهر معلوم، أو يوم محدود فاكتبوه.
وقوله: ((وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ)) أي: بالحق، فلا يكتب الدائن ولا المدين، وإنما يكتب بينهما طرف ثالث.
وقوله تعالى: ((وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)) أي: يا أيها الكاتب! يا من علمك الله الكتابة! إذا دعيت لتكتب بين الناس كما علمك الله فعليك أن تخدم الناس، كما قال سبحانه: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
وقوله تعالى: ((وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)) تأكيد.
((وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)) الذي عليه الحق هو المديون، وهو الذي يملي؛ لأنه بعيد من أن يفرض أو يزيد على نفسه ما ليس واجباً عليها، وليملل بمعنى: وليملي، ويملي ويملل: لغتان.
وقوله تعالى: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} أي: لا ينقص من هذا الدين الذي وجب عليه شيئاً.
وقوله تعالى: ((فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ)) أي المدين ((سَفِيهًا))، والسفه هو: عدم إحسان النظر في المال، إما لصغر أو جنون، فإن كان هذا المدين سفيهاً، ((أَوْ ضَعِيفًا))، الضعيف كالصغير وشبهه، {أو لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} [البقرة:282] أي: لا يستطيع أن يملي؛ لأن فيه بكماً أو صمماً أو عمى، أو غير ذلك من الأعذار، فإذا كان المدين سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو، فلا بد أن يولي عليه ولياً، قال تعالى: ((فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)) أي: من له ولاية على السفيه والصغير، كالأب والوصي وعرفاء القبيلة.
((وَاسْتَشْهِدُوا)) أي: اطلبوا الشهادة، ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ))، هذا نص في أن شهادة الصبي لا تقبل، وأن شهادة الكافر لا تقبل؛ لأن الله عز وجل قال: (شهيدين من رجالكم) أي: المسلمين.
قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: أما الكافر فلأن اختلاف الدين يوجب التباعد في الأحوال والمعاشرات والآداب، أي: إذا كان الدين مختلفاً لن يكون بيننا خلطة ومعاشرة كالتي تكون بين المسلم والمسلم، أو بين الكافر والكافر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، وكذلك المسلمون بعضهم أولياء بعض، ولما كان اختلاف الدين موجباً للتباعد وعدم المعاشرة والاختلاط بصورة كافية، ترتب على ذلك أنه لا يمكن الإحاطة بأحوال العدول والمرتابين من الفريقين، ولأنه قد عرف من حال غالب أهل الملل استخفاف المخالف في الدين بحقوق مخالفيه، هذا في الغالب؛ ولأجل هذا اتفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر، يعني: لو أن مسلمين اختلفا لا يصلح أن يدخل بينهما شاهد كتابي، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، ومن باب أولى من ليس كتابياً، فمن كان مجوسياً أو وثنياً فهو أبعد من أن يشهد على المسلمين.
قال الله عز وجل: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ)) أي: إن لم يوجد رجلان، قال الله عز وجل: ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)) أي: فالشاهد رجل وامرأتان، أو فليشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان.
وهنا اتهم كثير من الناس الإسلام أنه يحقر المرأة؛ لأنه يجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل، والحق أن الإسلام لم يحقر المرأة فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13]، وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، ولكن القضية أن المرأة أيها الإخوة أضعف من الرجل بأصل الجبلة وبحسب الغالب، فالغالب عليها النسيان، وليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، ولذلك غالباً ما تكون ذاكرتها في هذه الأمور ضعيفة، بخلاف الأمور المنزلية التي هي شغلها الشاغل، فإن ذاكرتها في تلك الأمور تكون قوية، فإن قيل: يوجد من النساء من تدير مكتب عقارات، ومنهن من تكون سمسارة، وغير ذلك من الأمور التي قد تتولاها النساء.
ف
الجواب
أن هذا على سبيل الشذوذ، والشاذ لا حكم له، والغالب على النساء ليس لهن اهتمام بالأمور المالية، ولذلك قال الله عز وجل: ((فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)).
أما الشيء الخاص بالنساء والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات، فالأمور التي تتعلق بالعيوب النسوية، أو التي تتعلق بالولادة، فإذا أردنا أن نحكم على امرأة بأنها بكر أو ليست بكراً، فهذا القضية تقبل فيها شهادة النساء، كما تقبل شهادتهن في الاستهلال، فإذا ولد مولود وأردنا أن نحكم عليه هل استهل أو لم يستهل، فالغالب أنه لم يحضر ذلك الموضع إلا النساء، ولذلك تقبل شهادتهن.
قال الله عز وجل: ((فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ))، وعلل ذلك فقال: ((أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى))، وقرأ حمزة: ((إنْ تَضِلَّ)) على أنها شرطية، {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ إنْ تَضِلَّ} أي: لو ضلت ونسيت إحداهما فالأخرى تذكرها، من أجل أن تتعاضد شهادتهما في إحقاق الحق.
قال الله عز وجل: ((وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)) أي: لو دعوا إلى شهادة فليتقوا الله ولا يكتموها؛ لأن هذه الشهادة يتم بها إثبات الحقوق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهداء: من يؤد الشهادة قبل أن يسألها) أي: أنه قبل أن يطلب منه الشهادة يؤديها حسبة لوجه الله عز وجل.
قال سبحانه: ((وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ)) معنى (لا تسأموا): لا تملوا، والسأم: الملل، ومنه قول القائل: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا له يسأم قوله: ((وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ))، أي: أن تكتبوا الدين، وهذا الحكم الذي مضى من أجل ثلاث علل هي: ((ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا))، أي: هذا الذي شرعته لكم ليس من أجل إعناتكم وإرهاقكم، ولكن لأن ذلك ((أَقْسَطُ)) أي: أحفظ للحق، ((وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ)) أي: أعون على إقامتها، ((وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا)) أي: أقرب إلى نفي الريبة والشك، بدلاً من أن يدخل أنا الدائن وأنت المدين في جدال، يقول الدائن: أعطيتك عشرة ملايين، ويقول المدين: لا بل كانت تسعة أو ثمانية، وبعد ذلك لا بد من أيمان بالله أو بالطلاق وما أشبه ذلك، فالكتابة تحفظ لكل ذي حق حقه.
قال الله عز وجل: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)) أي: إلا إذا كان بيعاً فيه أخذ وعطاء فلا داعي للكتابة؛ لأن هذا فيه نوع من التعكير والتضييق، فإذا ذهب الإنسان إلى التاجر؛ ليشتري سلعة وكان لا بد من كتابة البيع والشراء ففيه تضييق على حياة الناس، فإذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها.
قال الله عز وجل: ((وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ))، هذا الأمر أمر إرشاد، لا أمر إيجاب، ((وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ)) أي: لا يحل للدائن والمدين أن يوقعا الضرر مع الكاتب فتوقعوه في الحرج والمشقة.
وكذلك الشهيد فلا يجوز للدائن أو المدين ترغيبه أو ترهيبه؛ من أجل أن يلوي لسانه بالشهادة، فيؤدي غير ما عرف، ولا يجوز الإضرار به كذلك بأن ترفع القضايا إلى الحكام، وفي كل يوم يستدعى هذا الشاهد الذي ليس إلا متطوعاً.
قال الله عز وجل: ((وَإِنْ تَفْعَلُوا)) أي: هذه المضارة ((فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)) أي: أن الذي يتعمد الإضرار بالمسلم فهو فاسق.
قال الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) كلمة: (الله) هنا تكررت ثلاث مرات، ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))، وفي هذه الآية إظهار في مقام الإضمار، قال البيضاوي رحمه الله: كرر لفظة الله في الجمل الثلاث؛ لاستقلالها، فالأولى حث على التقوى، والثانية وعد بالنعمة، والثالثة تعظيم لشأنه جل جلاله.
والعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله قال: الإظهار في مقام الإضمار أدخل في التعظيم، ومنه قول القائل: اللؤم أكرم من وبر بوالده واللؤم أكرم من وبر وما ولدا واللؤم داء لوبر يقتلون به لا يقتلون بداء غيره أبداً ومنه قول الشاعر وكان متضايقاً من الشيب لكنه يظهر خلاف ما يبطن يقول: لما رأيت الشيب لاح بياضه بمفرق رأسي قلت للشيب مرحباً فكرر الشيب مرتين.
وقد ظهر بين المسلمين من الدجالين الذين لم يقرءوا القرآن، ولم يشتغلوا بالعلم من يشرع للناس ويقول: إنه قد جاءه فيض من الله، وأن الله يقول: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ))، وقال بعضهم: أنتم تحدثون عن فلان وفلان من الأموات، ونحن نحدث عن الحي الذي لا يموت، وقال آخر: حدثني قلبي عن ربي، فلا يحتاج إلى علماء ولا إلى شيوخ.
قال محمد عبده كما في تفسير المنار: اشتهر على ألسنة المدعين في معنى هاتين الجملتين: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)) أن التقوى تكون سبباً للعلم، وبنوا على ذلك أن سلوك طريقتهم وما يأتونه فيها من الرياضة وتلاوة الأوراد والأحزاب تنشر لهم الع(45/8)
ما يستفاد من آية الدين
هذه الآية اشتملت على فوائد، منها قول الله عز وجل: ((فَاكْتُبُوهُ)) ففيه أن الأمر ليس أمر إيجاب، بدليل قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283]، والرهن ليس واجباً، فإذا استدان أحدهم من آخر مالاً، فليس واجباً أن يعطيه المدين رهناً، فإذا كان البدل من الكتابة وهو الرهن ليس بواجب، فالمبدل عنه وهو الكتابة ليس بواجب كذلك، بدليل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة:283] أي: إذا كان بينكم أمانة، ونوع من الثقة، ولا تريدون الكتابة فلا حرج في ذلك إن شاء الله.(45/9)
الأسئلة(45/10)
حكم لبس المرأة القفازين في الصلاة
السؤال
ما حكم لبس المرأة القفازين في الصلاة؟
الجواب
لو أن امرأة صلت وهي لابسة للقفازين فلا حرج في ذلك، وصلاتها صحيحة، والممنوع أن تلبس القفازات وهي محرمة، كما لو كانت في العمرة أو في الحج.(45/11)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [5]
حذر الله المؤمنين في كتابه من طاعة اليهود أو النصارى، ومن أطاعهم فإنهم سيردونه كافراً بعد إيمانه والعياذ بالله، وخير لهم أن يطيعوا الله ورسوله ويتقوا الله، ويتولوا الله ورسوله والمؤمنين، ويعادوا الكافرين.(46/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
هذا هو النداء الثاني عشر من نداءات الرحمن لأهل لإيمان، في الآية مائة من سورة آل عمران، وهو قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
سبب نزول هذه الآية كما ذكر أئمة التفسير: أن شأس بن قيس كان شيخاً من شيوخ يهود، وكان شديد الضغن على الإسلام وأهله، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم.
مر هذا الرجل على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاضه ذلك فقال: والله ما لنا بهذه الأرض من قرار -أي: إذا اتفق الأوس والخزرج واتحدت كلمتهم-، فأمر شاباً من شباب اليهود أن يذهب إلى ذلك المجلس، ويذكرهم بيوم بعاث، وكان يوماً قد وقعت فيه حرب بين الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس، فذهب ذلك الشاب، وبدأ يستنشد القوم ما قالوا من أشعار في ذلك اليوم حتى غلت الدماء في العروق، وتذكر القوم ما كان بينهم من ثارات وإحن، وتنادوا إلى حمل السلاح، وقال قائلهم: إن شئتم رددناها جذعة، وتواعدوا ظهر الحرة، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم وقال لهم: (يا معشر الأوس والخزرج! أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة) أي: اتركوا الدعوى للجنس وللقبيلة وللعصبية، فإنها دعوة منتنة وقبيحة لا تؤدي إلى خير، وبدأ صلى الله عليه وسلم يذكر الأوس والخزرج بأن الله أكرمهم بالإسلام، وقطع عنهم أمر الجاهلية، حتى رقت قلوبهم، فألقوا أسلحتهم وعانق بعضهم بعضاً وهم يبكون، يقول الصحابي: فما رأيت يوماً أقبح أولاً ولا أحسن آخراً من ذلك اليوم، وأنزل الله عز وجل هذه الآية وما بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100].
يقول الألوسي رحمه الله: هذا النداء تشريف للأوس والخزرج؛ لأن قبله نداءات لأهل الكتاب وتبدأ بقل، كقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65]، وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} [آل عمران:98 - 99]، وهنا لم يقل: قل يا أيها الذين آمنوا، وإنما خاطبهم مباشرة من غير واسطة فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا)).(46/2)
معاني المفردات
قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا)) الفريق: الطائفة من الناس، والمعنى: إن تطيعوا هذه الطائفة الحاقدة الحاسدة الظالمة الباغية من الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ((إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ))، والذين آتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، ولكن المراد بأهل الكتاب هنا هم اليهود؛ لأنهم هم الذين كانوا يساكنون المسلمين في المدينة.
((إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ)) أصل الرد: الصرف والإرجاع، والمراد به هنا التصيير، أي يصيرونكم ويحولونكم بعد إيمانكم كافرين، بمعنى التصيير والتحويل، ومنه قول القائل: فرد شعورهن السود بيضاً ورد وجوههن البيض سوداً أي صيرها وحولها.
فإذا أطعتم أهل الكتاب في إحياء النعرات الجاهلية والعصبيات القومية سيصيرونكم -بعد إذ كنتم مؤمنين طيبين تعرفون الله ورسوله- إلى جاهليتكم كفاراً لا تعرفون الله.
وهذه الآية قد ورد في معناها آيات، كقول الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقول الله عز وجل وجل: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69]، وغير ذلك من الآيات.(46/3)
خطر طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم
يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه في الظلال: إن طاعة أهل الكتاب والتلقي عنهم، واقتباس مناهجهم وأوضاعهم تحمل ابتداءً معنى الهزيمة الداخلية، والتخلي عن دور القيادة الذي من أجله أنشأت الأمة المسلمة، كما تحمل معنى الشك في كفاية منهج الله لقيادة الحياة وتنظيمها والسير بها صعداً في طريق النماء والارتقاء، وهذا بذاته دبيب الكفر في النفس وهي لا تشعر به، ولا ترى خطره القريب.
ويجب أن نفرق بين قضيتين: قضية اقتباس مناهج من أهل الكتاب وفق روح الإسلام، وتوجيهه؛ من أجل أن ننتفع بجهود البشر في الارتقاء بحياتنا وخدمة ديننا، فهذا لا بأس به، وقد فعله المسلمون الأولون، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مصر الأمصار ودون الدواوين وجعل للجند عطاء وغير ذلك من التراتيب الإدارية والنظم إنما اقتبسها من غير المسلمين، لكنها لا تعارض دين الله عز وجل، هذه قضية.
والقضية الثانية: اقتباس مناهج أهل الكتاب في التفسير، والاعتقاد، والنظر إلى الكون والحياة، والنظر إلى الخالق جل جلاله، فهذا هو الممنوع المحذور، وقد وقع في ذلك دعاة القومية العربية، وقامت حربان كونيتان عظيمتان هلك فيهما ملايين من البشر، وهاتان الحربان سببهما: اعتقاد تفوق جنس على جنس، فأصحاب الجنس الآرمي، أو أصحاب الجنس الأنجلو سكسوني، كل منهم يعتقد أنه الأفضل والأرقى والأحسن، وأنه ينبغي أن يقضي على الجنس الآخر، فكانت النتيجة قيام الحروب الطاحنة التي هلك فيها من البشر ما لا يعلمه إلا الله، هذه الفكرة الخاطئة الكاذبة انتقلت إلى بلاد العرب في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، عبر دعاة القومية العربية، وهي حركة سياسية فكرية متعصبة، تقوم على ربط الناس برابطة الدم والجنس واللغة والتاريخ والآمال والآلام كما زعموا، وتنحية رابطة الدين.
إن هذه الدعوة القومية أتى بها مجموعة من النصارى في سوريا ولبنان ومصر، وهم بطرس البستاني وسليم البستاني ومنيف خوري ونصيف اليازجي وخير الله خير الله، وغيرهم، وكلهم من النصارى، إلى أن وصل الأمر إلى ميشل عفلق، الذي أسس حزب البعث الذي قضى على الأخضر واليابس، هذه الدعوة تقوم على جملة من الأفكار الكفرية، وهي أن الدين لله والوطن للجميع، وأن رابطة الجنس هي التي توحد، وأن الدين لا يوحد، ثم تناولوا شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصفه عبقرياً عربياً، لا بوصفه رسولاً نبياً، وقالوا: إن العبقرية العربية تتجلى في عدة صور فتارة في صورة شريعة حامورابي وتارة في صورة الشعر الجاهلي، وتارة في صورة الإسلام، أي: أن الإسلام مرحلة من مراحل القومية العربية، وقالوا بأن محمداً كان كل العرب فليكن كل العرب محمداً، إلى غير ذلك من الكلمات الفارغة، وبلغ الكفر ببعضهم أن يقول: هبوني عيداً يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم أي: أنه يريد أن يعلي رابطة الجنس، والدم، ويلغي رابطة الدين.
ولقد كانت النتيجة أن قامت الجامعة العربية، وهي فكرة إنجليزية؛ من أجل القضاء على فكرة الجامعة الإسلامية التي كان ينادي بها بعض العلماء بعد سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، حيث دعوا إلى قيام جامعة إسلامية تجمع شتات المسلمين عرباً وعجماً، فقامت فكرة الجامعة العربية وحصرتها في الجنس العربي، بصرف النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو غيره، ومنذ أن قامت هذه الجامعة لم ير الناس منها خيراً، ولم تنتصر لقضية واحدة من قضايا المسلمين، وقلصت القضايا وضيقتها، فقضية فلسطين التي هي قضية إسلامية أممية، جعلوها قضية عربية، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية قطرية تخص شعباً معيناً، ثم لم يمض زمان حتى صارت قضية داخلية تخص الشعب الفلسطيني الذي يقيم في داخل فلسطين.
وهذه الدعوة تعارض أصول الإسلام؛ لأن الإسلام لا يعتد برابطة الجنس أو غيرها، إنما يعتد برابطة الدين، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52]، إلى غير ذلك من النصوص التي يعلمها كل مسلم.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، هذه الآية ينبغي أن تكون أمام المسلمين في كل موقف.(46/4)
ما ورد في السنة مما يؤيد معنى الآية
في معنى هذه الآية أحاديث ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن ثابت رضي الله عنه قال: (جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني مررت بيهودي من بني قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة.
-أي: أن اليهودي كتب لـ عمر بعض الصفحات من التوراة- ألا أعرضها عليك؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن ثابت: يا عمر! ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -أي: انتبه، أما ترى ما في وجه رسول الله من الغضب- فقال عمر رضي الله عنه: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، قال: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: عادت إليه بشاشته- وقال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين)، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر رضي الله عنه الله عنه: ليس لو كتب لك صحائف من التوراة، بل لو جاء موسى عليه السلام حياً بين أظهركم فتبعتموه لظللتم؛ لأن موسى عليه السلام تابع لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث آخر عن جابر قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أن أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني).(46/5)
ما يستفاد من هذه الآية
هذه الآية يستفاد منها فائدتين عظيمتين: الفائدة الأولى: طاعة اليهود والنصارى في الأخذ بنصائحهم، والتسمي بأسمائهم واتباع توجيهاتهم وما يشيرون به على المسلم تؤدي بالمسلم إلى الكفر رضي ذلك أو لم يرض.
الفائدة الثانية: الحذر من تقلب القلوب، والرجوع إلى الكفر بعد الإيمان، فلا يضمن أحد لنفسه الإسلام؛ لأنه مسلم بين أبوين مسلمين، وقد نشأ على الإسلام، ويظن أنه لا خوف عليه، فإن الله عز وجل يقول للصحابة: ((يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ))، وغيرهم من باب أولى.
نسأل الله أن يثبتنا على الإسلام.(46/6)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته)
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] النداء الثالث عشر في الآية الثانية بعد المائة من سورة آل عمران قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، هذه الآية جاءت عقب الآية التي نهت عن طاعة أهل الكتاب، وبينت أن في طاعتهم الهلاك والضلال والفسق.
يأمر ربنا تبارك وتعالى في هذه الآية المباركة عباده المؤمنين بتقواه، والتقوى فعل المأمور واجتناب المحذور، فقد أكد ربنا هذا المعنى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، وبين سبحانه بأن هذه هي وصيته للأولين والآخرين، فقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، بمعنى أن تجتنبوا عذاب الله عز وجل وجعلوا بينكم وبينه وقاية، وهذه هي التقوى.(46/7)
ثمار التقوى وفوائدها
بين ربنا جل جلالة ثمار التقوى وفوائدها في الدنيا والآخرة.
ومن هذه الثمار النجاة من العذاب، قال الله تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61].
ومنها أن الله عز وجل ضمن لمن اتقاه أن لا يخاف مما يستقبل، ولا يحزن على ما مضى، فقال: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35].
ومن فوائد التقوى كذلك: التيسير لليسرى، فالله عز وجل ييسر العبد لعمل الخير، وللانبعاث في طاعته عز وجل بأنواع العمل الصالح، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
ومن أعظم ثمرات التقوى كذلك: الوصول إلى الجنة، قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [مريم:63]، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
ومن ثمرات التقوى: تكفير السيئات، يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [المائدة:65]، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5].
ومن ثمرات التقوى كذلك: كثرة البركات التي تفتح من الأرض والسماوات، قال عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96].
ومن ثمرات التقوى: الحصول على معية الله، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
ومنها: حصول الكرامة عنده جل جلاله، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
ومن ثمرات التقوى أيضاً: حصول العلم النافع، قال عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] أي: تفرقون به بين الحق والباطل، {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
ومن ثمارها كذلك: الرزق الواسع، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
ومنها: الأمان من كيد الذين يريدون أن يضروا المؤمن في هذه الدنيا، والذين يريدون ضره ليسوا قلة، وإنما هم كثرة من شياطين الإنس والجن، فمن أراد أن يتقي مكرهم وكيدهم وبطشهم فليمتثل بقول الله عز وجل: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، وفي الآية الأخرى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120].
ومن فوائد التقوى: تيسير الأمر، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4].
ومنها حصول رحمة الله، والفلاح والولاية: قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].(46/8)
ما جاء من الآثار في معنى التقوى
يقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ))، قال ابن مسعود: هو أن يذكر فلا ينسى، ويطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، هذه هي حق تقاته، أن تذكر الله ولا تنساه، وتطيعه ولا تعصيه، وأن تشكره جل جلاله ولا تكفره.
وقال أنس رضي الله عنه: لا يتقي العبد ربه حتى يخزن لسانه.
وفي الحديث: (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس).
بمعنى: أن يتقي الشبهات خوف الوقوع في المحرمات.
وقال ابن عباس: أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.(46/9)
اختلاف أهل العلم في نسخ هذه الآية
أكثر العلماء على أن هذه الآية منسوخة بقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، لكن المحققين من أهل العلم في القديم والحديث يقولون: لا نسخ، ولا حاجة إلى القول بالنسخ، بل معنى الآية: اتقوا الله حق تقاته بقدر الطاقة، لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
قال ابن جزي رحمه الله: لا نسخ إذ لا تعارض، فإن العباد أمروا بالتقوى على الكمال فيما استطاعوا، تحرزاً من الإكراه وشبهه.
وقال ابن عاشور رحمه الله: والحق أن هذا بيان لا نسخ.(46/10)
الثبات على الإسلام
قال الله عز وجل: ((اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))، ظاهر الآية النهي عن الموت، ولكن معناها النهي عن ترك الإسلام حتى يتوفى العبد عليه، ومثله قول يعقوب عليه السلام: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] معنى الآية: حافظوا على الإسلام حال صحتكم، من أجل أن يتوفاكم الله عليه؛ لأن عادة الكريم قد جرت أن الإنسان يموت على ما عاش عليه، فمن عاش مسلماً مؤمناً موحداً فإن الله عز وجل يقبضه مسلماً مؤمناً موحداً.
قال الألوسي رحمه الله: وقال بعضهم: المراد بالإسلام هاهنا: الإيمان أي: ولا تموتن إلا وأنتم مؤمنون؛ لأن الإسلام إذا كان مراداً به الأعمال فالأعمال ليست ممكنة عند الموت، وإنما الممكن عند الموت هو الإيمان القلبي، ولذلك في دعاء صلاة الجنازة نقول: (اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان)، حال الحياة نريد الحياة على الإسلام، وهو أعمال الجوارح، كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فهذه كلها من الخمس التي بني الإسلام عليها، أما الإيمان فهو الأعمال القلبية، وهذا على مذهب من يفرق بين الإسلام والإيمان.
وقول الله عز وجل: ((وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) قال الإمام السيوطي في التحبير: ومن عجيب ما اشتهر في تفسير: (مسلمون) قول العوام: ((وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) أي: متزوجون، قال: وهو قول لا يعرف له أصل، ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه، أي: أن المسلم لا يسمع لأي كلام يقال، ثم ينشره بين الناس، وكلام الله عز وجل لا يجوز الإقدام على تفسيره بمجرد الرأي، ومن قال برأيه في كتاب الله فأصاب فقد أخطأ.
ومثله أيضاً ما ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم) فهذا الكلام ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من وضع الناس الذين يحبون الزواج الكثير، بل قد يكون الأعزب من الأخيار المتقين، وكذلك ما نسب إليه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو خشيت من شيء لخشيت أن ألقى الله عزباً).
فهذا ليس حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا أن المسلم ليس مأموراً بالزواج، بل مأمور به ويحض عليه.
إن السعيد من مات مسلماً، والشقي من مات على غير الإسلام، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)) [آل عمران:19]، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن:14]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(46/11)
ما يستفاد من هذه الآية
في هذه الآية فوائد: منها: أن على المسلم أن يراقب الله في ليل أو في نهار، في الخلوة أو في الجلوة، حيثما كان يتقي الله عز وجل، ومن أراد أن يكون تقياً فلا يكتف بالفرائض، وإنما يضم إليها السنن والمستحبات والنوافل والمندوبات، ويجتنب المكروهات والشبهات، يترقى، حتى يرتقي إلى أعلى الدرجات، ولذلك كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال)، ولم يقل: لحسن الأخلاق والأقوال والأعمال، بل لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال.
ومنها وجوب التمسك بالإسلام حتى الموت.
نسأل الله أن يتوفانا مسلمين.(46/12)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم)
النداء الرابع عشر في الآية الثانية عشر بعد المائة من سورة آل عمران قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] سبب نزول هذه الآية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رجالاً من المسلمين كانوا يواصلون رجالاً من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة، والمعنى: أنه كان بعض المسلمين له علاقات قديمة مع اليهود، فلما جاء الله بالإسلام لم تنقطع تلك العلاقات، بل كان المسلمون يصلون أولئك اليهود ويوادونهم، ولربما يطلعونهم على بعض أسرار الدولة المسلمة، فأنزل الله هذه الآية، ويمكن أن يراد بالآية المنافقون؛ لأن السياق يدل على ذلك، فبعدها قول الله عز وجل: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ} [آل عمران:119]، وهذه صفة المنافقين، كما قال ربنا في سورة البقرة، {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14]، فيمكن أن يراد بالآية أهل الكتاب، ويمكن أن يراد بالآية المنافقون.(46/13)
معاني المفردات
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً)) بطانة الرجل: خاصته وصفيه وخليله، وجمعها: بطائن، وأصل البطائن: داخلة الثوب، فشبه الخليل والصفي ببطانة الثوب؛ دلالة على شدة ملازمته لصاحبه، كما يقال: فلان شعاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنصار: (الأنصار شعار، والناس دثار).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ)) (من دونكم) أي: من غيركم، كما قال سبحانه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] أي من غير المؤمنين.
وقوله: ((لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)) لا يألونكم: من الألو وهو التقصير، يقال: ألا فلان في الأمر يألوا إذا قصر فيه.
والخبال هو الفساد، ومنه يقال: رجل مخبول إذا كان فاسد العقل ناقصه، ومعنى الآية: لا تتخذوا بطانة آليكم خبالاً بادية بغضاؤهم.
((وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)) أي: ودوا عنتكم، والمعنى: ودوا ما فيه إرهاقكم، والمشقة والضرر عليكم، وودوا ما عنتم في دينكم ودنياكم.
((قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)) أي: أن البغض قد لاح على صفحات وجوههم من العداوة؛ لأنهم لا يتمالكون أنفسهم من شدة البغض لكم، كما قال سبحانه: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
((وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ)) أي: ما تخفي صدورهم من العداوة للإسلام والبغضاء لأهله أكبر مما ظهر على صفحات وجوههم وفلتات ألسنتهم.
وهناك وظائف أجمع أهل العلم أنه لا يجوز أن يتولاها غير المسلم، أولها الإمامة الكبرى أو الحكم، فلا يجوز أن يتولاها غير المسلم؛ لأنها خلافة موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به، ولا يمكن أن يتولى الولايات الدينية غير المسلم، وكذلك المناصب التي إن تولاها غير المسلم اطلع على أسرار الدولة الإسلامية لا يجوز أن يتولاها المنافقون وأهل الأهواء.(46/14)
ما جاء من الآيات في معنى هذه الآية
هذه الآية أصل في تحريم موالاة الكفار، وفي معناها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57]، وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقوله سبحانه: ((لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ))، وقال ربنا سبحانه ذاماً اليهود: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة:80] فقوله: (كثيراً منهم) أي: من اليهود، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:81].(46/15)
معنى موالاة الكفار وصور من هذه الموالاة
موالاة الكفار هي التقرب إليهم، وإظهار الود لهم، بالأقوال والأفعال والنوايا.
ومن صور موالاة الكفار في هذا الزمان: أن يرضى بعض أهل الإسلام أن يستبدل بدار الإسلام دار الكفر، ويترك البلاد المسلمة الطيبة، التي أهلها مسلمون في الجملة، فيستبدل بالبلدة المسلمة بلدة كافرة، حيث لا يسمع فيها أذاناً ولا قرآناً، ويصبح ويمسي على المنكرات بالليل والنهار، وينشأ أولاده في الروضة وفي المدرسة والشارع بين قوم كفار، يتطبعون بطبائعهم ويتخلقون بأخلاقهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) رواه أبو داود والترمذي.
ومن مظاهر موالاة الكفار في هذا الزمان: أن بعض المسلمين يخجل من بعض شعائر الإسلام، سواء كانت متعلقة بالجهاد أو بنظام الأسرة أو بقضايا المرأة أو بحقوق غير المسلمين أو غير ذلك، فيحاول أن يتهرب ويتبرأ منها أو لربما يتقول على الله بغير علم فيقول: هذا التشريع ليس من الإسلام! ومن مظاهر موالاة الكفار في هذا الزمان: التشبه بهم، جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم).
قال عبد الله بن عتبة رضي الله عنه: ليتق أحدكم ربه أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر.
قال محمد بن سيرين رحمه الله: فظنناه يريد هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وفي سورة النساء قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144]، وهناك سنتعرض هذه الصور بالتفصيل إن شاء الله.(46/16)
ما يستفاد من الآية
في هذه الآية فائدة: وهي حرمة اتخاذ الكافرين أولياء وخواصاً من دون المؤمنين، إذا كانوا على الأوصاف الأربعة التي ذكرت في الآية، وهي: الوصف الأول: ((لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا)) أي: لا يقصرون فيما فيه ضرركم وفسادكم وإفساد الأمن عليكم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الوصف الثاني: ((وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ)) أي: يتمنون ضرركم حالاً ومآلاًَ، في دينكم ودنياكم.
الوصف الثالث: ((قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)) أي: يظهرون تكذيب نبيكم صلى الله عليه وسلم، وكتابكم، وينسبونكم إلى الحمق والجهل، ولا شك أن من اعتقد حمقك وجهلك فإنه لا يحبك.
الوصف الرابع: ما يظهرونه على ألسنتهم من علامات الحقد أقل مما في قلوبهم منه.(46/17)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [6]
حذر الله المؤمنين من الربا وبين لهم خطره، ونهاهم عن طاعة الكافرين حتى لا يبطلوا عليهم دينهم، ونهاهم عن التشبه بهم حتى لا يصيبهم ما أصاب الكافرين من الحسرة والندامة.(47/1)
ذم الربا وتحريم التعامل به أو أكله
النداء الخامس عشر: قول ربنا تبارك وتعالى في الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:130]، هذه هي المرحلة الثانية من مراحل تحريم الربا، وكان في المرحلة الأولى قول الله عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ} [الروم:39]، وفي هذه الآية حرم الله عز وجل تضعيف الربا إلى أن جاءت آيات سورة البقرة وهي آخر ما نزل من الأحكام فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278 - 279].
وهذه الآية جاءت في ثنايا الحديث عن غزوة أحد، فقبلها قول الله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:121 - 122]، ثم بعدها أيضاً حديث عن غزوة أحد في آيات طويلة، ولذلك تحير المفسرون رحمهم الله في علة ذكر الربا في أثناء الحديث عن غزوة أحد، حتى قال الفخر الرازي رحمه الله: لا أحفظ في ذلك سبباً مروياً، هذا كلام ابن عطية الغرناطي.
وبعض المفسرين أراد أن يجد علة فقال: لما أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا عقبه ببيان أن الوعيد لا يخصهم، بل يتناول العصاة، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر ربنا في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، وهذا كلام مقبول، فإنه نهى عن أكل الربا، وفي الآية التي بعدها ذكر الحث على التقوى، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ثم ذكر من هم المتقون فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:134 - 135]، فذكر أهم خصال المتقين التي يجب أن يتحلوا بها.
والآية تنهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، وهذه عادة أهل الجاهلية، فقد كان إذا حل الدين على المعسر ولم يحصل منه شيء قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة وتزيد ما في ذمتك بمعنى: أمهلني أزدك، فيترتب على ذلك أن المدين يستبشع غريمه اضطراراً ويلتزم في ذمته مالاً زائداً اغتناماً لراحته الحاضرة، فإما أن يقضي أو يرتب في ذمته هذا الدين أضعافاً مضاعفة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك قال سبحانه: ((لا تَأْكُلُوا الرِّبَا))، فقدم الأكل دلالة في أن الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57].
وقوله: ((لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً))، ضعف الشيء مثله، فتصير أربعة، وليس معنى هذا أن الربا لا يكون حراماً إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان دون ذلك فيجوز، فالأربعة في المائة والخمسة والسبعة والتسعة ليست أضعافاً مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم، لا، فالأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطاً يتعلق به الحكم، مثاله قول الله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور:33] يعني: حرام عليك أن تكره فتاتك على الزنا إن أرادت التحصن، فنقول: إن لم ترد التحصن أيصح لك إكراهها أو أن تسمح لها بالزنا؟
الجواب
لا يصح، لكن الله عز وجل يصف واقعاً معيناً، وذلك أن رجلاً من المنافقين هو ابن سلول كان عنده فتيات يكرههن ويدير بهن بيوتاً للبغاء.
مثال آخر: قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ- إلى أن قال- وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء:23]، لو كانت بنت زوجتك ليست في حجرك وإنما تربت عند جدتها أو في بلدة أخرى، أيحل لك نكاحها؟
الجواب
لا يحل، فقول الله عز وجل ((فِي حُجُورِكُمْ)) وصف لواقع، كما يقول أهل الأصول: وصف كاشف وليس قيداً للاحتراز، وهنا أيضاً وصف لواقع أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد ((وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) أياً كان.(47/2)
وعيد من تعامل بالربا
وردت الأحاديث الكثيرة في ذم الربا والتي تواترت تواتراً معنوياً، منها حديث أبي هريرة في الصحيحين: (اجتنبوا السبع الموبقات) وذكر من بينهن (أكل الربا).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي آكل الربا يوم القيامة مخبلاً -أي: مجنوناً- يجر شقيه، ثم قرأ: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]).
وفي حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وربا الجاهلية موضوع وأول رباً أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله).
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (درهم رباً يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني، وقال المنذري: ورجال أحمد رجال الصحيح.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم في المستدرك، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي رحمه الله.
وفي حديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقنا فأتينا على نهر أحمر مثل الدم وإذا في النهر سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً، قلت: ما هذان قالا: إنه آكل الربا)، يعني: آكل الربا والعياذ بالله يسبح في نهر أحمر كالدم كلما أراد أن يخرج ألقمه رجل حجراً يجعله يرجع من حيث أتى.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) فكلهم ملعونون، الآكل والموكل والكاتب والشاهد.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل).(47/3)
تعريف الربا وصوره
الربا: هو عقد في الشرع فاسد وإن لم تكن فيه زيادة، وهذا تعريف المالكية، قالوا: لأن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة يعد رباً وإن لم تكن فيه زيادة، والآن دراهم بدنانير لا تكاد توجد، لكن يوجد نظيرها من العملات التي يتعامل بها الناس كالدولار والريال واليورو والاسترليني وما أشبه ذلك، ولابد فيها من التقابض؛ لأنها تقوم مقام الذهب والفضة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، والآخذ والمعطي سواء).
بمعنى: أن الإنسان إذا أراد أن يستبدل مالاً بمالٍ من جنسه كدولار بدولار، أو ريال بريال، أو دينار بدينار، فلا بد من أمرين اثنين: تقابض وتماثل، أما إذا اختلف الصنفان كدينار بدولار فلا بأس من التفاضل بأن يكون الدولار بألفين وستمائة دينار مثلاً، لكن بشرط أن يكون هناك تقابض في الحال، فمثلاً هناك رجل يعمل في التجارة فيأخذ دولارات من رجل مقابل دنانير سودانية، فيأخذ الدولارات ثم هذا يؤخر المال أياماً إلى أن يسلم أهله الدنانير السودانية، فهاهنا نقول: لا بد من التقابض، فلا بد أن يكون عنده هنا إنسان يتعامل معه ويتصل به للتو فيقول: سلم آل فلان كذا من المال، من أجل أن يتحقق شرط التقابض.
كذلك ما يصنعه النساء حين تذهب إحداهن إلى صاحب الذهب فتعطيه ذهباً قديماً فيزنه فيبلغ مثلاً خمسين جرام أو مائة جراماً ثم بعد ذلك تريد ذهباً جديداً، فيزن لها ذهباً جديداً مما تختاره، فمثلاً إذا كان ذهبها مائة جرام يكون هذا ثمانين جراماً فيعطيها ذلك، فهذا هو الربا؛ لأن الذهب بالذهب ربا، دون اعتبار لاختلاف العيار أو الصنعة أو النقشة كما يقولون، والحل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال، فقد أتى للنبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ فقال: لا يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا بصاعين من ذاك) يعني: الصاع من التمر الجيد بصاعين من التمر الرديء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه! عين الربا عين الربا) يعني: هذا الذي وقعت فيه هو الربا، فكونك تستبدل تمراً بتمر متفاضلاً، هذا هو عين الربا، ثم قال له: (بع ما عندك ثم ابتع جنيباً) يعني: بع التمر الرديء وخذ الدراهم وابتع بالدراهم جنيباً.
كذلك نفس الشيء بالنسبة للتي تملك ذهباً، فتذهب إلى الصائغ فتبيع ما عندها من ذهب ثم تأخذ المال، فإن شاءت تشتري من عنده عقداً جديداً أو تشتري من غيره، وتكون المعاملة بذلك صححه إن شاء الله.
ومن صور الربا: بيع العينة، وبيع الدين بالدين، وبعض صور السلم التي يمارسها الناس، وكثير من المرابحة التي تقع في البنوك في هذه الأيام، وفي تجارة العملة صور كثيرة ولعل أشهرها الآن أن إنساناً يأخذ الدولار بشيك آجل لكن بسعر أعلى فيكون قد اجتمع فيه نوعا الربا: ربا الفضل وربا النسيئة.
فلذلك أقول: أي إنسان يريد أن يتعامل بمعاملة ما فعليه أن يسأل ويحتاط لئلا يقع في الربا، ونسأل الله أن يطيب مطاعمنا.(47/4)
قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)
النداء السادس عشر في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]]، هذه الآية شبيهة بآية أخرى من سورة آل عمران هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، فهذه الآية نزلت عقيب غزوة أحد، ونعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن غزوة أحد مثلت زلزالاً للمؤمنين، فقد زلزلوا زلزالاً شديداً، حيث قتل سبعون من خيارهم وجرح آخرون، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين ألقوا بأيديهم، وبعضهم ولى مدبراً لما سمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعضهم تساءل: أنى هذا؟ يعني: كيف نهزم ونحن المؤمنون الموحدون؟ والمنافقون واليهود انتهزوها فرصة من أجل أن يشككوا المسلمين في دينهم، فقال اليهود: لو كان محمد نبياً ما غُلب، ولكنه ملك كسائر الملوك تارة يغلب وتارة يُغلب، فصوروا النبي صلى الله عليه وسلم على أنه طالب ملك، وطالب رئاسة يسري عليه ما يسري على غيره.
وأما المنافقون فقد قالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، واطلبوا الأمان منهم، فاذهبوا إلى أبي سفيان واطلبوا منه الأمان؛ لأنهم سيغزون المدينة ثانية، فأنزل الله هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، والمراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أطلقت هذه الشائعات من حولهم، والعبرة بعموم اللفظ.
وقوله: ((إِنْ تُطِيعُوا)) الطاعة تطلق على مطلق امتثال أمر من آمر، وقوله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) الرد: التصيير، كما مر معنا في قوله تعالى: ((يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ))، وقوله تعالى: ((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))، فالرد على الأعقاب أي الارتداد والرجوع إلى الشرك، فقوله تعالى: ((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) أي: فترجعوا خاسرين في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فالذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، وحرمان الوعود التي وعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
وقال الحسن البصري رحمه الله: معنى الآية: إن تستنصحوا اليهود والنصارى؛ وتقبلوا منهم؛ لأنهم كانوا يستغوونهم ويرمون لهم الشبه، فإن تطيعوا هؤلاء وتستنصحوهم وتقبلوا منهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
وهذه الآية في معناها آيات كقول الله عز وجل في المنافقين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقول الله عز وجل في أهل الكتاب {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69].
وما زال الكفار في القديم والحديث مثابرين على أن يردوا المسلمين عن دينهم ويزلزلوا عقائدهم، فتارة ببعثات تبشيرية وحملات تنصيرية، وتارة بفعل أهل الاستشراق الذين استغووا كثيراً من أبناء المسلمين ممن ذهبوا إلى بلاد الغرب طلباً للعلم بزعمهم أو عن طريق الحملات العسكرية كما هو حاصل الآن، وهي حملات عسكرية سافرة، أطلقوا عليها الحرب المقدسة، وهذا كله من أجل أن يردوا المسلمين على أعقابهم فينقلبوا خاسرين.(47/5)
كلام سيد قطب في تفسير الآية
يقول سيد قطب رحمه الله: يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة، فبها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر، فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه -والعياذ بالله- كافراً، ومحال أن يقف سلبياً بين بين، محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه، فإنه قد يخيل إليه هذا، فيخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح أنه يستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع ذلك محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه، وهذا وهم كبير.
فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الشر والباطل والضلال والطغيان والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم؛ يتنازل في الحقيقة عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى، فليست العبرة بهزيمة في معركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد هزموا بنص القرآن الكريم، فالله عز وجل بين بأنهم نصروا أولاً ثم انكسروا في الأخير، لكن هل شك رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة؟ لا، والله! فهو صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ودمه ينزف: (اصطفوا لأثني على ربي)، وأثنى على ربه جل جلاله بكلمات وكأنه المنتصر عليه الصلاة والسلام، وهو في حقيقة الأمر منتصر؛ لأن المبدأ والعقيدة ما تغيرت ولا تزلزلت، والأنبياء هكذا سنتهم يدال عليهم مرة ويدالون مرة، وهذه سنة الله عز وجل كما قال جل في علاه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].(47/6)
صور من الثبات على المنهج
وكاتب هذه الكلمات سيد قطب رحمه الله تمكن منه أهل الطغيان، وسجن وعذب وأوذي، ثم في ختام الأمر قتل رحمة الله عليه، لكن هل ذهب فكره؟ وهل نسي أمره؟ وهل ذابت عقيدته؟ لا، والله! بقيت كلماته كما قال: إن كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة، فما زال إلى يومنا هذا كثير من أبناء حركة الإسلام والصحوة الإسلامية موجههم الأول هو فكر سيد قطب، وما بثه وما نثره في كتبه.
بل أبلغ من ذلك أبو العباس ابن تيمية شيخ الإسلام رحمة الله عليه، هذا الرجل الذي قاتل التتار، وقاتل الصليبيين، وأحيا السنة، وأمات البدعة، وجاهد في الله حق جهاده، بعض العلماء هددوه وما اتقوا الله فيه، ووشوا به عند السلطان، فألقي في السجن ومات فيه، رحمة الله عليه، فمات في سجن القلعة، لكنه ما هزم، بل ما زال فكره رحمه الله هو المغذي وهو المحرك، وما زال علماء الإسلام يرجعون إلى فتاويه وإلى كتبه وإلى أقواله التي طبقت المشارق والمغارب.
وأبلغ من هذا وأوضح الإمام أحمد رحمة الله عليه الذي جلد بالسياط في فتنة خلق القرآن، لكنه رضي الله عنه ما تنازل ولا تغير؛ فجعل الله العاقبة له وأظهر أمره، وصار إمام أهل السنة.
ومن قبله مالك رحمة الله عليه وأبو حنيفة وسفيان الثوري وغير هؤلاء كثيرون ممن لم يطيعوا الذين كفروا، ولم يداهنوا الذين نافقوا، ولم يتنازلوا عن شيء من الدين، فما ردوا على أعقابهم خاسرين، بل جعل الله لهم رفعة الذكر في الدنيا وإن شاء الله جنة عرضها السموات والأرض في الآخرة.
وهناك أناس يطيعون الذين كفروا شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ بهم الأمر أن يتنازلوا عن الدين كله، نسأل الله السلامة والعافية.(47/7)
كلام الجصاص في تفسير الآية
قال أبو بكر الرازي الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن: فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً، {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم، كالجاسوس والخريت الذي يهدي على الطريق، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة كان دليلهم عبد الله بن أريقط وكان كافراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ائتمنه ومشى خلفه وهو يصف له الطريق إلى أن بلغ المدينة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وثق به، فقد يكون كافر من الكفار خريتاً خبيراً بالطريق، أو يصلح أن يكون جاسوساً للمسلمين، وأوضح من هذا صاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة، والزوجة تشير بصواب، يعني: لو فرض أن إنساناً متزوجاً من كافرة كأن تكون نصرانية أو يهودية فبينك وبينها ولد أو أولاد، فأنت تقول: نذهب بالأولاد إلى مدرسة كذا، وهي قالت: لا، بل نذهب بهم إلى مدرسة كذا والسبب كذا وكذا وكذا وكذا، ووجدت أن رأيها صواب، هنا في هذه الحالة لا نقول: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] فإشارة الزوجة -مع كفرها- لو أشارت بالصواب فالقول قولها، كذلك الخبير والجاسوس، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة.(47/8)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض)
النداء السابع عشر في الآية السادسة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران: قو ل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران:156].
هذه الآية أيضاً في سياق الحديث عن غزوة أحد، فإنه لما قتل من المسلمين سبعون عليهم من الله الرضوان، بدأ المنافقون يشككون المسلمين ويحاولون أن يلقوا الندم في قلوبهم ويقولون لهم: لو قعد هؤلاء الذين خرجوا للقتال كما حكى الله عنهم: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156].
هذه الفرية التي يروج لها المنافقون قال الله عز وجل عنها في سورة النساء: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78].
وهنا في هذه الآية الله عز وجل يقول: يا مؤمنون! لا تتشبهوا بهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، فأنتم مؤمنون، قد أنزل الله عليكم قرآناً، وفي هذا القرآن بيان أن الآجال محدودة، وأن الأنفاس معدودة، وأنه {َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]، وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولا يموت أحد إلا في الساعة التي عينها رب العالمين جل جلاله لقبض روحه.
وقوله تعالى: ((لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا))، فلا تكونوا كالمنافقين، أمثال عبد الله بن أبي وأصحابه الذين قالوا كما قال الله تعالى: ((الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ))، فاللام هنا بمعنى عن، أي: عن إخوانهم، والمقصود بالإخوة هنا أخوة النسب، أو اللام لام التعليل أي: لأجل إخوانهم، كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، أي: لأجل الذين كفروا، فقوله تعالى: ((وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ)) أي في النسب.
((إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ)) أي: خرجوا مسافرين للتجارة أو لغيرها ((أَوْ كَانُوا غُزًّى)) أي خرجوا للغزو والجهاد في سبيل الله، لو كانوا مقيمين أو باقين ((عِنْدَنَا)) أي: في الظلال وفي البيوت وحيث هم، ((لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا))، ما ماتوا في السفر، ولا قتلوا في الغزو، قال الله عز وجل: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، فجعل هذا الاعتقاد الفاسد مسيطراً عليهم ومستبداً بهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم قال تعالى: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ))، واللام كما يقول أهل اللغة لام العاقبة، فعاقبتهم الحسرة كما في قوله سبحانه: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8] أي لتكون العاقبة الحزن والحسرة في قلوبهم والعداوة.
فهاهنا أيضاً: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ))، والحسرة الندامة على فراق المحبوب، وهؤلاء المنافقون جلسوا يتحسرون، ويقولون: إخواننا هؤلاء ضيعوا الحزم وما أحسنوا الرأي، ولا أبرموا الأمر، خرجوا للغزو وما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وما زالوا متلهفين على ما فاتهم، وهذا صنيع من لا يؤمن بقضاء الله وقدره.
قال الله عز وجل: ((وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ)) فالحياة بيده، والموت بيده، فقد يحيي من خرج للغزو مع تعرضه للحتوف، وقد يكون في سفينة مع قوم فيغرقون جميعاً ويسلمه الله عز وجل، وقد يكون الإنسان في مكان يشب فيه حريق أو يهدم بيت على من فيه والله عز وجل ينجي من شاء، وقد يكون إنسان آمناً في سربه، وعلى فراشه، وفي ريعان شبابه، وميعة صباه، واكتمال قوته، ووفرة صحته ثم يختطفه الموت.
فـ خالد بن الوليد رضوان الله عليه البطل المجاهد الذي عقمت النساء أن يلدن مثله والذي قال فيه أبو بكر الصديق: إن أسدكم قد عدى على أسد الفرس فغلبه على خراذيله، أي: قطع اللحم التي بين يديه، ولما بدأ خالد يفتح الفتوح في بلاد فارس، -هذا البطل الأشم والأسد الضرغام رضي الله عنه- تعرض للشهادة مراراً حتى بلغ من حاله أنه في بعض بلاد الروم وجد كيساً فاستخرجه ثم سأل سيد الروم وقال له: ما هذا؟ قال له: إنه لم يكن شيء أبغض إلي من شر أدخله على قومي، وإني قلت: لو كان هؤلاء الناس أهل شر أحتسي هذا السم فأموت، يعني: هيأ هذا السم من أجل أن ينتحر، وهذا صنيع الكفار في كل زمان، فقال خالد رضي الله عنه: باسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم أخذ السم ليتناوله، فأسرع إليه المسلمون ليمنعوه لكنه غلبهم رضي الله عنه وابتلع السم، فقال ملك الروم: والله! إن قوماً فيهم هذا لن يغلبوا، وما حدث لـ خالد شيئاً رضي الله عنه، فهذه من كراماته، ثم مات هذا البطل على فراشه، وقال وهو على فراش الموت: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهاأنا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! وهذه سنة الله عز وجل، فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد وإن كان تحت ظلال النعيم قال الله تعالى: ((وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فبصره نافذ لا تخفى عليه خافية، قال أهل التفسير: وهذا تهديد للمؤمنين أن يماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد.
ونظير هذه الآية قول الله عز وجل: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168]، وكذلك كان المنافقون يقولون للمؤمنين: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، قال الله عز وجل: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72]، وقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب:18]، وهذا حال المنافقين، يثبطون المؤمنين عن القتال قبل أن يقع، ثم إذا وقع وقُتِلَ ناس جرياً على سنة الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، فهذه سنة الله عز وجل، فهؤلاء يقولون: هؤلاء حمقى مغفلون، سفهاء، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وهذه الآية تشير إلى عقيدة لا بد أن تنطوي عليها قلوبنا، وهي الإيمان بقضاء الله وقدره، أنه لا يقع في الكون شيء إلا وقد كتب عند الله، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، أي: من قبل أن نخلقها، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).
فلذلك الإنسان المسلم إذا نزلت به مصيبة فإنه يستسلم لقضاء الله وقدره، فلو أصابه حادث، أو نزل به نقص في المال، أو هلك له ولد أو والد أو زوج فلا يقول: لو فعلت كذا لما حدث كذا، ولو أني ما أتيت من هذا الطريق لما وقع هذا الحادث ونحو ذلك، بل يجب على المسلم أن يرضى بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، ولذلك ينسب للشافعي رحمه الله أنه صور هذا المعنى فقال: تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وكم من عروس زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر(47/9)
من فوائد الآيات السابقة
هذه الآيات يستفاد منها فوائد: الفائدة الأولى: النهي عن التشبه بالكفار والمنافقين، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:105].
الفائدة الثانية: أن دأب المنافقين في كل زمان تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله عز وجل.
الفائدة الثالثة: أن الله عز وجل يعاقب الإنسان بعمله ولا يظلم ربك أحداً، فلما قالوا هذه القولة الكاذبة الخاطئة قال الله عز وجل: ((لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ)).
الفائدة الرابعة: أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل، فهو المحيي وهو المميت.
الفائدة الخامسة: علم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء.(47/10)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [7]
أمر الله المؤمنين بالصبر والمصابرة على طاعته واجتناب نهيه، وأن يتقوه لعلهم يفلحون في الدنيا والآخرة.
وأمرهم بحسن العشرة مع أزواجهم.
وأرشدهم لحفظ أموالهم وأنفسهم.(48/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)
النداء الثامن عشر في آخر آية من سورة آل عمران: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وقد نزلت بضع وخمسون آية في شأن غزوة أحد وما كان فيها من مصاب المسلمين في سبعين من خيارهم، وما كان من مصاب المسلمين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جرح وشج رأسه صلوات ربي وسلامه عليه، حتى بلغ من شدة الضرب عليه أن البيضة قد تهشمت على رأسه، فختم ربنا السورة بهذه الآية، فكأنه يقول: يا مؤمنون! اصبروا على تكاليف الدين، واصبروا على تحليل الحلال وعلى تحريم الحرام، واصبروا على فعل المأمور واجتناب المحظور، واصبروا على قضاء الله وقدره، واصبروا على الصلوات الخمس وعلى غير ذلك من التكاليف.
((وَصَابِرُوا))، المصابرة حقيقتها: أن يصبر الإنسان أمام الصابر، فالمصابرة مفاعلة، فأمامك عدو صابر، يصيبه القرح والجرح ويؤذى ويقتل ومع ذلك هو قادر عليك، صابر في مواجهتك وفي قتالك، فواجب عليك أن تصبر أمام هذا الصابر، وهذا معنى قول الله عز وجل: ((وَصَابِرُوا)).
وقال زيد بن أسلم: معناه مصابرة الأعداء، وقال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا ضراء ولا لشدة ولا رخاء حتى يموتوا مسلمين، وأمروا أن يصابروا الأعداء الذين يكيدون لدينهم.
فالأمر الأول بالصبر، والأمر الثاني بالمصابرة، والأمر الثالث قال الله عز وجل: ((وَرَابِطُوا))، أي: أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم، مستعدين للجهاد في سبيل الله، وهذا معنى المرابطة أو الرباط.
وقيل: بل المراد الصبر على الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
ولا تنافي بين التفسيرين، فتفسير المرابطة بأنها المرابطة على الصلوات الخمس، نوع من أنواع الرباط، وبأنها ربط الخيل استعداداً للجهاد في سبيل الله، هذا كذلك نوع من أنواع الرباط.
قال الله عز وجل: ((اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: اتقوا الله بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، فاتقوا الله بأن تعملوا بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وأن تصبروا عن معصية الله على نور من الله خوفاً من عقاب الله، واتقوا الله بأن تخافوا من الله عز وجل، وأن تعملوا بكتابه، وأن تقنعوا بما رزقكم، وأن تستعدوا للقائه جل جلاله.
وقوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) لعل بمعنى اللام أي: لتفلحوا، بمعنى: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لتفلحوا، أو المعنى على رجاء منكم أن يحصل لكم الفلاح، والفلاح البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه.
قال الإمام النسفي رحمه الله في محاسن التأويل: قيل: معنى الآية: اصبروا في محبتي، وصابروا على نعمتي، ورابطوا أنفسكم في خدمتي؛ لعلكم تظفرون بقربي.
ذكر هذا الوجه من أوجه التفسير.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الرباط والمرابطين، فروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
وفي صحيح مسلم عن سلمان: (رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله، الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان).
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: (خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه في الناس يوماً فقال: أيها الناس! إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم وبصحابتكم، فليختر مختار لنفسه أو ليدع).
يعني: أن عثمان يقول لهم هذا الحديث أنا كتمته؛ لأني أعلم أني لو حدثتكم به فكلكم ستعملون به وتتركونني وأنا حريص على صحبتكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة قيامها وصيامها).
وقال عليه الصلاة والسلام: (حرمت النار على عين دمعت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله).
وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة أو كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).
وهذه الآية قد دلت على معانٍ سبقت في آيات مضت، فقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)) قد مضى معنا نظيره في قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} [البقرة:45]، وقول الله عز وجل: ((وَصَابِرُوا)) دلت عليه آيات من القرآن كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، وقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وقال سبحانه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65]، وكذلك الرباط، فكل الآيات التي أمرت بالجهاد فهي قد أمرت ضمناً بالرباط؛ لأن الرباط نوع من أنواع الجهاد.
وأما قول الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) فقد مر معنا في آية الصيام والتي هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ومر معنا في آية القصاص: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:178]، إلى أن قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فكل التشريعات التي جاءت بها شريعة الإسلام إنما جاءت لتحصيل هذا الغرض العظيم، وهو تقوى الله عز وجل، وقد مر معنا قول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، وذلك بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وعرفنا أن تقوى الله عز وجل سببٌ لكل خير في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين.(48/2)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً)
النداء التاسع عشر في الآية التاسعة عشر من سورة النساء: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وهذه الآية المباركة هي النداء الأول بوصف الإيمان في سورة النساء، وقد جاءت لتعالج نوعاً من الظلم كانت المرأة تتعرض له في الجاهلية.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فأنزل الله هذه الآية) يعني: المرأة في الجاهلية كانت تورث عن الرجل كما يورث المتاع، والأرض، والمال، فإذا مات الرجل فأولياؤه أي: أبناؤه أحق بها إن شاء بعضهم تزوجها، فيمكن في عهدهم أن يتزوج الولد امرأة أبيه، وإن شاءوا زوجوها وأكلوا صداقها، وإن شاءوا حبسوها إلى أن تموت فيرثوها.
وكان من أشهر ما وقع من ذلك في الجاهلية أنه لما مات أمية بن عبد شمس وترك امرأته وكان له من تلك المرأة أولاد أربعة العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص، وكان له أولاد من امرأة أخرى منهم أبو عمرو بن أمية، فلما مات أمية بن عبد شمس تزوج أبو عمرو امرأة أبيه التي هي أم العاص وأبي العاص والعيص وأبي العيص، فولدت له مسافر، أنجب منها ولداً أسماه بهذا الإسم، وولد آخر اسمه أبو معيط، فكان مسافر وأبو معيط إخوة للعاص وأبي العاص والعيص وأبي العيص من أمهم، وفي الوقت نفسه هم أعمامه! انظروا إلى هذه اللخبطة والفوضى التي كان يعيش فيها أهل الجاهلية، فأنزل الله هذه الآية: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ)) أي لا يجوز، ويحرم عليكم ((أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا))، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الكاف: {كُرْهًا} [النساء:19]، فقوله: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا))، أو (كُرهاً) بمعنى الإجبار والمشقة، قال الله عز وجل: ((لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)) أي لا يجوز أن تجعلوا المرأة كالمتاع يتزوج الواحد منكم بالواحدة منهن من غير رضاها، أو يعضلها حتى تفدي نفسها.(48/3)
حرمة عضل المرأة وأنواعه
قال الله: ((وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ))، وحقيقة العضل في اللغة: الحبس والمنع.
وكان هناك أيضاً صور من الظلم، فمن صور الظلم أن الرجل يتزوج بالمرأة ثم بعد ذلك يملها ويكره العيش معها، وبدلاً من أن يسرحها بإحسان، يبدأ يضايقها ويكدر صفوها ويسيء معاشرتها ويضارها من أجل أن تفتدي منه بالمال، فتقول له: طلقني، فيقول: لا أفعل حتى تردي إلي الصداق وما دفعت، وهذا حرام في الإسلام.
وكذلك من أنواع العضل الداخل في هذا النهي أن يمنع الأب ابنته من الزواج بغير سبب شرعي، إما لأن عندها راتباً وهو يتأكل من وراء هذا الراتب، أو لأنها ذات مال وهو لا يريد للزوج أن يشاركه في هذا المال، أو لغير ذلك من الأسباب غير الشرعية.
قال القرطبي رحمه الله: متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها، والولي هو الأب أو الأخ إن لم يكن الأب موجوداً.
قال الله عز وجل: ((وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)) أي: لا تضار المرأة ولا تسيء معاشرتها من أجل أن ترد إليك ما دفعته، قال الله عز وجل: ((إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)) أي: ظاهرة، وفي قراءة: {مُبَيَّنَةٍ} أي: يبينها من يدعيها، والمعنى: أن المرأة والعياذ بالله لو وقعت في الزنا فللزوج أن يضيق عليها ويضارها من أجل أن ترد إليه ما دفع، وهذا قول ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، فعندهم الفاحشة المبينة هي الزنا.
وقال الضحاك وعكرمة: الفاحشة المبينة: النشوز والعصيان، يعني: إذا الرجل دفع صداقاً، ودفع مهراً وأثث بيتاً واشترى لها ذهباً وأنفق نفقات كثيرة ثم بعد ذلك اكتشف أنها ناشز، يقول لها: ائتني بالماء، فتقول له: لا، بل تقوم أنت تشرب! فهذا نشوز وعصيان وتمرد؛ لأن من السنة أن تخدم المرأة زوجها، وهذه قسمة الحياة، وقد كانت أمهات المؤمنين يخدمن الرسول عليه الصلاة والسلام، ففي هذه الحالة يجوز أن تضجرها وتضيق عليها حتى تستبرئ منك ببعض حقها أو كله وتفارقها؛ لأنها تسببت في بعثرة بيت الزوجية بسوء خلقها ونشوزها، وأحوجتك إلى تجديد زوجة أخرى، فمن العدل في هذه الحالة أن تطالب بكل ما دفعته، فتعيده إليك وتسرحها.(48/4)
حسن معاشرة الزوجة
قال الله عز وجل: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ))، المعاشرة: مفاعلة من العشرة وهي المخالطة، ومشتقة من العشيرة أي: الأهل، والمعروف ضده المنكر، وسمي الأمر المكروه منكراً؛ لأن النفوس لا تأنس به، فقوله تعالى: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ))، معناه: أنصفوهن في المبيت والنفقة وأجملوا في القول، وطيبوا أقوالكم لهن.
قال أهل العلم: تطييب القول يكون في النداء، فتنادي زوجتك بالاسم الطيب: يا فلانة! أو كما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يقول: (يا عائش!) أو يقول: (يا حميراء!)، ونحو ذلك، كنوع من التدليل للزوجة، فهذا من السنة، ومن غلظت طباعهم لا يعرفون هذا الكلام، وليس من السنة ولا من الأدب أن تناديها: يا امرأة! فهذا لا يجوز، وهذا من سوء المعاشرة وعدم الطيب، بل الواجب أن تناديها بأحب الأسماء، كيا فلانة! أو يا أم فلان، أو تلقبها وتدللها ثم بعد ذلك تجمل في الطلب، أحضري لي كذا، فإذا أردت أن تأتي لك بما تريد تدعو لها، كجزاك الله خيراً، أو أحسن الله إليك، ونحو ذلك من الكلام.
فطيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم معهن، وحسنوا هيئاتكم، يعني: كما تحب من زوجتك أن تتجمل لك فأنت أيضاً تجمل لها، فهذا من المعاشرة بالمعروف كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228]، وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي)، وكان من أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه، وبعض الرجال يعتقد أن من الحزم أن يكون دائماً عبوساً! وهذا خطأ، بل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضاحك أهله ويسابق عائشة رضي الله عنها، ويتودد إليها بذلك، كما قالت عائشة: (سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم) يعني: قبل أن تبدن، وتسمن، (ثم سابقته بعد أن حملت اللحم فسبقني وقال: هذه بتلك)، يعني: واحدة بواحدة.
وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، يعني إذا كان مبيته عند أم سلمة، فكل نسائه يجتمعن في بيت أم سلمة ويتناول معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار عليه الصلاة والسلام.
وبعض الرجال بلغ به من سوء العشرة أنه لا ينام معها في سرير واحد قط، بل عندما ينزل في بعض الفنادق ويجد أن السريرين ملتصقان، ينادى العامل في الفندق ويقول له: أبعد السريرين عن بعضهما! فهذا من سوء المعاشرة ومن غلظة الطبع نعوذ بالله من ذلك.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى العشاء يدخل منزله ويسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام ويؤانسهم بذلك، فهذا من عاداته صلى الله عليه وسلم مع أنه كان مشغولاً، فهو إمام المسجد، وهو القائد، وهو رئيس الدولة، وهو النبي الذي يوحى إليه، وهو القاضي، وهو المفتي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، ومع ذلك عليه الصلاة والسلام كان يسمر مع أهله، وليس كما يصنع بعض الرجال الآن لا يأتي البيت إلا آخر الليل، فإذا أرادت أن تكلمه بشيء يقول: أنا تعبان أو أنا مشغول، أو أنا كذا، ثم يعطيها ظهره وينام، وقد يحصل بسبب هذا كراهية.(48/5)
الصبر على الزوجة
قال الله عز وجل: ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ)) أي: لعيب في أخلاقهن؛ لأنها غضوبة، أو لأن صوتها عالٍ، أو لدمامة في خلقهن؛ لأنها ما صارت جميلة في عينيك، أو لتقصير في العمل الواجب عليها، فقد لا تحسن المرأة العمل في البيت فلا تعرف طبخ الطعام، ولا ترتيب الأمور، أو ربما تميل إلى غيرها، فإذا حصلت الكراهية في تلك الحال فاصبروا ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، فهذه التي كرهتها ربما يجعلها الله عز وجل سبباً لدخولك الجنة، فإن كرهتموهن فاصبروا ولا تعجلوا بمفارقتهن، ((فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا))، قال ابن عباس: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً ويكون في ذلك الولد خير كثير.
ومن الخير الكثير في ذلك امتثال أمر الله وقبول وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)، فلذلك سيدنا عمر لما جاءه رجل قال له: إني أريد أن أطلق، قال: ولم؟ قال: لا أحبها، فضربه رضي الله عنه وقال: أكل البيوت تبنى على الحب، فأين الرعاية؟ إنما يتعايش الناس بالإسلام والإحسان، يعني: ليس بالضرورة أن يكون هناك حب، فالحب الذي نسمع به إنما هو في المسلسلات وغيرها، وكلها خيال، وأوهام، وإنما الناس يعيشون بأن يذكر بعضهم بعضاً.
يقول سيد قطب رحمه الله: وما أعظم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجه؛ لأنه لا يحبها: ويحك! ألا تبنى البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية؟ ثم قال: وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم الحب، وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة، ويبيحون باسمه انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية بل خيانة الزوجة لزوجها؛ لأنها لا تحبه، وخيانة الزوج لزوجها لإنه لا يحبها، وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنىً أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة، ونزوة الميل الحيواني المسعور.
فهؤلاء بعيدون عن الله عز وجل يقول تعالى: ((فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)).
وقال الإمام أبو بكر بن العربي الإشبيلي المالكي صاحب أحكام القرآن: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني من العلم والدين في المنزلة والمعرفة بمكان، يعني: كان رجلاً عالماً كبيراً، وكانت له زوجة سيئة العشرة، تقصر في حقوقه، وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها، يعني كان يقال له: ألا تتخلص منها؟ ألا تأدبها؟ فكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني، فلعلها بعثها الله إلي عقوبة على ذنبي، فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها، فانظروا كيف هذا التفسير! ويحكى أن امرأة جميلة ومليحة كان زوجها ذميماً، فنظرت في المرآة يوماً فقالت له: إني لأظن أني أنا وأنت من أهل الجنة إن شاء الله، قال لها: ولم؟ قالت له: لأنك رزقت بي فشكرت، وأنا ابتليت بك فصبرت!(48/6)
من فوائد الآية السابقة
من فوائد الآية: أولاً: إبطال قانون الجاهلية القائم على أن ابن الزوج يرث امرأة أبيه.
ثانياً: حرمة العضل من أجل الاستيلاء على المهر وغيره.
ثالثاً: جواز العضل حال الوقوع في الفاحشة من قبل الزوجة.
رابعاً: وجوب المعاشرة بالمعروف.
خامساً: ترغيب الزوج في الصبر حال كراهية الزوجة.
سادساً: الإرشاد إلى إعماق النظر، وتغلغل الرأي في عواقب الأشياء، وعدم الاغترار بالبوارق الظاهرة.
أسأل الله أن يصلحنا وأزواجنا.(48/7)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)
النداء العشرون في الآية التاسعة والعشرين من سورة النساء: قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف العاشر (تجارةً)، بنصب التاء، على أن (كان) ناقصة، واسمها ضمير يعود على الأموال و (تجارة) خبرها، فالتقدير: إلا أن تكون الأموال تجارة.
وقرأ الباقون (تجارةٌ) برفع التاء على أن (كان) تامة، تكتفي بمرفوعها، والتقدير: إلا أن تحدث تجارة أو تقع تجارة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أنزل الله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)) قال المسلمون: إن الله نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل أموالنا، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فشق على الناس، فأنزل الله سبحانه، {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61]، إلى آخر الآية التي في سورة النور.
وهذه الآية المباركة فيها بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، ففي الآية إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور.
يقول الله عز وجل: ((لا تَأْكُلُوا)) الأكل مجاز في الانتفاع بالشيء انتفاعاً تاماً، ولا يعود معه إلى الغير، أكل الأموال والاستيلاء عليها عليها بنية عدم إرجاعها إلى أربابها، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية، كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في قالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا.
ومن أكل الأموال بالباطل: أكل مال اليتيم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، وكذلك الرشوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والإمام أحمد في المسند.
ومن أكل أموال الناس بالباطل: احتكار السلع الضروريات لإغلائها، وبيع ما ليس يباع كالعرض والذمة والخلق والدين والضمير.
قال تعالى: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ))، وهذا استثناء منقطع، وكأنه سبحانه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في الأموال، لكن المتاجرة المشروعة كعقد المضاربة والمشاركة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال، كما قال سبحانه {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151]، وكقوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56].
والتجارة في اللغة: المعاوضة، ومنه الأجل الذي يعطيه البارئ سبحانه للعبد عوضاً عن الأعمال الصالحة التي هي بعضاً من فعله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10]، وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، ويقول الله عز وجل: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) أي: بارتكاب محارم الله، وتعاطي معاصيه، وأكل أموالكم بينكم بالباطل.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى: وأجمع المأولون أن المعنى: هو النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضاً.
وقال الزمخشري عن الحسن: إن المعنى لا تقتلوا إخوانكم، ففي الإجماع الذي نقله ابن عطية رحمه الله نظر.
وقال أبو حيان: وعلى هذا المعنى أضاف القتل إلى أنفسهم؛ لأنها كنفس واحدة أو من جنس واحد.
وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)) أي فيما أمركم به، أو نهاكم عنه، فما نهاكم عما يضركم إلا رحمة بكم.
وقيل: بل المعنى: أنه سبحانه أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصاً لخطاياهم، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيماً، حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة.
وهذه الآية المباركة تضمنت النهي عن أمرين عظيمين، وأحدهما أعظم من الآخر وهما: النهي عن قتل النفس، والنهي عن أكل المال بالباطل، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته بيده يجؤ بها بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام: (كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً حز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة) رواه الشيخان من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه الشيخان.(48/8)
ما يستفاد من الآية
في الآية الكريمة فوائد: منها: الأسلوب الرفيع للقرآن وما فيه من الإيجاز في قوله تعالى: ((لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ))، وقوله: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) بأن شمل أموالك وأموال غيرك، وقتل نفسك وقتل غيرك.
ومن فوائدها: إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين، ففيه دلالة على أن المؤمنين كالجسد الواحد.
ومن فوائدها: إباحة المكاسب والتجارات القائمة على تبادل المنافع بالتراضي.
ومن فوائدها: أن إباحة التجارة دليل على أنه يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة، والمشهور إمضاء البيع، قاله ابن جزي المالكي رحمه الله.
وقال الطبري في هذه الآية: إبانة من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول المتصوفة المنكرين طلب الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)) أي: اكتساباً، فقد أحل الله ذلك.
ومن فوائد الآية: تحريم قتل النفس وقتل أنفس الآخرين.
ومن فوائدها: إثبات الاسم المبارك الحسن وهو (الرحيم) لله عز وجل.(48/9)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [8]
من مراحل تحريم الخمر أن الله نهى المؤمنين عن الصلاة وهم سكارى، ثم نزل التحريم الصريح للخمر في كل وقت.
وقد أمرنا الله بطاعته وطاعة رسوله، فإن في ذلك كل خير في الدنيا والآخرة، وأمر الله أيضاً بطاعة أولي الأمر فيما لا يخالف الحق، وفي ذلك مصالح عديدة وفوائد كثيرة.(49/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)
النداء الحادي والعشرون في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43].
مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى ذكر في الآيات التي سبقتها قيام العبد بين يديه يوم القيامة فقال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42]، وفي هذه الآية ذكر الله عز وجل قيام العبد في الصلاة، وقيام العبد في الصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى يذكره بقيامه بين يديه يوم القيامة؛ لذلك لا بد أن يكون حاضر القلب، خاشع الجوارح، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].(49/2)
سبب نزول هذه الآية
أما سبب نزول هذه الآية فقد روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعانا فسقانا خمراً، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)).
قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.(49/3)
معاني مفردات هذه الآية
ينادينا ربنا جل جلاله -معشر المؤمنين- ويقول لنا: ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ)) أي: حال كونكم مسلوبي العقول بفعل السكر، وقول الله عز وجل: ((لا تَقْرَبُوا)) مبالغة في النهي، ونجد دائماً أن الله جل جلاله إذا نهى عن كبيرة من الكبائر فإنه لا ينهى عن فعلها فقط، وإنما ينهى عن قربانها، يقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وقال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، وقال {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقال هنا أيضاً ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ)) أي: حال كونكم سكارى.
قوله عز وجل: ((وَأَنْتُمْ سُكَارَى)) السكارى: جمع سكران، وهو مشتق من السكر، وهو السد، يقال: هذا باب مسكر إذا كان مغلقاً مشدوداً، وكأن السكران قد سُدَّت منافذ عقله فلا يعي شيئاً، والسكران هو الذي تناول شيئاً بفعل نفسه فأذهب معه عقله مع نشوة وطرب.
قوله: ((حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)) أي: حتى تعود إليكم عقولكم التي تميزون بها أقوالكم وأفعالكم، ويظهر من هذه الآية أن السكران لا يعلم ما يقول.
يقول ابن جزي المالكي رحمه الله: ومن هذه الآية انتزع بعض العلماء: أن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه لا يعلم ما يقول، وأيضاً قال بعض أهل العلم: ردة السكران لا تقع.
أي: لو أن السكران حال ذهاب عقله تلفظ بكلمات فيها ردة فإنه لا يحكم عليه بأنه مرتد؛ لأنه لا يعي ما يقول.
يقول الإمام النسفي رحمه الله تعالى: قراءة سورة الكافرون بطرح اللامات كفر.
يعني: لو أن رجلاً قرأ سورة الكافرون وطرح اللامات، أي: أنه بدلاً من أن يقول: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] قال: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، وأنتم عابدون ما أعبد، فطرح اللامات عمداً فإنه يكفر.
قال: ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الصحابي الذي قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، ولا حكم بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان.
وكما نهانا ربنا عن الصلاة حال السكر فقد نهانا أيضاً عن الصلاة في حال الجنابة، فقال: ((وَلا جُنُبًا)) والجنابة إما أن تكون بجماع أو بإنزال، يقال: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، فهذه الكلمة لا تثنى ولا تؤنث، ((وَلا جُنُبًا)) أي: ولا تقربوا الصلاة وأنتم على جنابة.
وقال بعض أهل التفسير: بل المقصود مواضع الصلاة وهي المساجد، أي: لا تقربوا المساجد وأنتم جنب.
قوله: ((وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ)) العبور هو الجواز والمرور، وإذا لم يكن ثمة طريق إلا من المسجد فللجنب أن يمر فيه.
قوله: ((وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) أي: يا أيها الناس! من كان منكم مريضاً، والمرض: هو خروج الجسم عن حال الاعتدال والصحة إلى حال الاعتلال والعلة، والسفر: هو الخروج من الدار أو من محلة القوم إلى مكان تقصده، ((أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ)) الغائط: هو المنخفض من الأرض، وكل مكان منخفض تسميه العرب غائطاً، وهو كناية عن الحدث الخارج من السبيلين، فالعرب كانت تأنف أن تتخذ الكُنُف في بيوتها، فإذا أراد أحدهم أن يحدث فإنه يرتاد مكاناً منخفضاً من أجل أن يستتر عن أعين الناس، والغائط حقيقة عرفية مستعملة في الحدث.
قوله: ((أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ)) الملامسة هنا هي الجماع، وقال بعضهم: بل المراد الجماع وما دونه من التقبيل ونحوه، وقال بعضهم: بل المراد مطلق اللمس، أي: مباشرة الجسم بالجسم، وفي هذه الأحوال كلها: لو كنتم جنباً، أو كنتم مرضى، أو كنتم على سفر، أو حصل منكم جماع للنساء ((فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا))، والتيمم: هو القصد، والصعيد: هو ما ظهر على وجه الأرض من جنسها، والطيب: هو الطاهر، ((فَتَيَمَّمُوا)) أي: اقصدوا إلى ما ظهر على سطح الأرض من تراب، أو رمل، أو حصباء، أو غير ذلك، ((فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)).
ونلاحظ في الوضوء أن الإنسان يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه فرضاً، وفي الغسل فإنه يعمم بدنه بالماء، وأما بالنسبة للتيمم فقد اقتصر على مسح الوجه واليدين، والمراد باليدين: الكفان، والعلة في ذلك كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه: أن التيمم لا يقصد به التطهير الحسي، ولا يقصد به تجديد النشاط، ولكنه مجرد استكمال الحالة للصلاة، قال الله عز وجل: ((فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا)) أي: بالترخيص والتيسير، ((غَفُورًا)) أي: عن الخطأ والتقصير.(49/4)
أدب القرآن في استخدام الألفاظ
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في (الظلال): ولا بد أن نقف أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذه الآية المباركة التي تدل على أدب القرآن، يقول الله عز وجل: ((أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ))، ولم يقل سبحانه: أو ذهبتم فعملتم كذا وكذا، أي: بلتم وتغوطتم وخرجت منكم الفضلة والأذى، ولا قال سبحانه: أو جئتم من الغائط، وإنما قال: ((أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ))، وهذا يدل على أدب الخطاب، واستعمل الكناية هنا ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون.
وكذلك حين يعبر الله عما يكون بين الرجل والمرأة فإنه لا يعبر بتعبيرات مكشوفة أو ألفاظ فاضحة، وإنما يقول: ((أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ))، ويقول في آية أخرى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21]، وفي آية ثالثة يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، ويقول في آية رابعة: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران:47]، هذا هو تعبير القرآن في الحديث عن مثل هذه الشئون.(49/5)
من فوائد الآية
هذه الآية المباركة يستفاد منها عدة فوائد: الفائدة الأولى: اشتداد تحريم الخمر عند قرب وقت الصلاة، وهي حرام بالليل والنهار، وسواء قرب وقت الصلاة أو بَعُد، لكن ذلك التحريم يشتد إذا قرب وقت الصلاة؛ لأن فيه ذهاب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها ومقصودها.
الفائدة الثانية: إذا كان الله تعالى قد نهانا عن الصلاة في حال السكر فإنه يقاس على السكر ما كان مثله مما يذهب بالخشوع كالنعاس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم فليرقد؛ فلعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه)، فالنعسان بمنزلة السكران لا يدري ما يقول.
الفائدة الثالثة: أن الآية فيها إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي: إذا كان هناك طعام وأنت تشتهيه فكل ثم صل، وإذا كان الإنسان حاقناً يحتاج للتبول، أو حاقباً يحتاج للتغوط فإنه يذهب يقضي حاجته ثم يأتي إلى الصلاة، ولا يصلي وهو مشغول بطعام أو شراب أو غير ذلك.
ومن فوائدها الحث على حضور القلب في الصلاة، وتحريم دخول المسجد على الجنب إلا مروراً.
وفي الآية أيضاً دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأن الله سمى المتيمم جنباً.
وكذلك في الآية إشارة إلى القاعدة المتفق عليها وهي: أن المشقة تجلب التيسير، وأنه يجب طلب الماء قبل شروعه في التيمم، ويشترط لجواز التيمم عدم الماء أو التضرر باستعماله.(49/6)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
النداء الثاني والعشرون في الآية التاسعة والخمسين: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
هذه الآية تعالج مشكلة قديمة جديدة، وهذه المشكلة ما انفكت البشرية تعاني منها، وهي: ما هي طبيعة العلاقة بين الراعي والرعية، أو بين الحاكم والمحكوم، أو بين الدولة وبين الشعب؟ هذه القضية أريقت بسببها دماء، وأزهقت أرواح، وأتلفت ممتلكات، وصارت عداوات وبغضاء بين الناس، فهذه الآية تضع لها العلاج المناسب.(49/7)
سبب نزول هذه الآية
سبب نزول هذه الآية كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وهذه رواية الشيخين البخاري ومسلم: نزلت في عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، فقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية فلما خرجوا وجد عليهم في شيء -يعني: غضب على أفراد السرية؛ لتقصير وقعوا فيه، أو ذنب اقترفوه-، فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً، فلما جمعوا الحطب دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها -أي: ادخلوا في هذه النار-، فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوه، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف) أي: لو دخلتم هذه النار التي أمركم عبد الله بن حذافة أن تدخلوها لدخلتموها ومنها إلى نار جهنم مباشرة، (إنما الطاعة في المعروف).(49/8)
طبيعة العلاقة بين الراعي والرعية
هذه الآية تقرر طبيعة العلاقة بين الناس وبين ولي الأمر، وفي الآية التي سبقتها أمر الله عز وجل ولاة الأمر بأمرين اثنين: أمرهم بأداء الأمانات إلى أهلها، وأمرهم بالحكم بالعدل، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]، ثم في هذه الآية بين حقوق ولاة الأمر: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ)) أي: اتبعوا كتابه جل جلاله، ((وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)) أي: خذوا بسنته صلوات الله وسلامه عليه، وعظموا أمره ونهيه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من أناس يقول الواحد منهم: أعمل بالقرآن ولا أعمل بالسنة فقال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه، ألا إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله) أي: أن ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حرام فكأن الله تعالى قال فيه: هذا حرام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، فهو مؤيد بالوحي من ربه؛ ولذلك كرر الفعل في هذه الآية، فلم يقل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول؛ بل قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ))، فكرر الفعل هنا للاهتمام بتحصيل طاعته صلوات ربي وسلامه عليه؛ لتكون أعلى من طاعة أولي الأمر، فنطيعه في كل شيء.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ))، الأمر هنا هو: الشأن وما يُهتم به من الأحوال والشئون، وأولي الأمر هم أصحاب الأمر الذين بيدهم التوجيه، وإصدار القرارات، وإملاء السياسات.
وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إما أن تكون بإسناد ذلك إليهم من الخليفة ونحوه، والآن لعدم وجود خليفة يضم شتات المسلمين قال أهل العلم: إن القائم على إقليم معين أو على قطر معين هو بمنزلة الخليفة أو تكون هذه الولاية ثابتة لهم عن طريق جماعة المسلمين، فالمسلمون هم الذين ولوا فلاناً من الناس عليهم، أو عن طريق صفات الكمال التي تجعلهم محل اقتداء الأمة بهم، وهي الإسلام والعلم والعدالة فالإنسان إذا كان حسن إسلامه، وكان عنده علم، وهو عدل في نفسه وليس بفاسق ولم يأت بشيء من خوارم المروءة فإن الناس يقتدون به.
قوله: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء، ولا معارضة بينهما، فالأمراء بيدهم الحل والعقد، والعلماء أمرنا الله عز وجل بالرجوع إليهم والنزول على حكمهمض فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأمراء: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) وهو في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.(49/9)
حقوق الوالي على الرعية
إن لولي الأمر حقوقاً على الرعية، وهذه الحقوق تتمثل في الآتي: أولاً: السمع والطاعة لهم في العسر واليسر، والمنشط والمكره كما في حديث عبادة رضي الله عنه في الصحيحين: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، فقال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان).
وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: (سيليكم ولاة بعدي، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يأمرنا بطاعة ولاة الأمر في طاعة الله، ولو أمر ولي الأمر بما فيه معصية الله فلا قيمة لأمره؛ لأن قضاء الله أحق وشرط الله أسبق، (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
ثانياً: عدم منازعتهم فيما ولاهم الله من أمور المسلمين، فنفوس العباد مجبولة على التطلع إلى الجاه إلا من رحم الله، فكثير من الناس يطمعون أن يكونوا وزراء، أو رؤساء، أو قادة، أو ولاة وما أشبه ذلك، لكن المسلم العاقل يعتقد أن هذا الوزير أو هذا الوالي أو هذا الرئيس في بلاء ومصيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يتولى أمر عشرة من الناس إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، فإما أن يفكه عدله، وإما يوبقه جوره)، فلا ننازعهم، وإنما نعتقد أنهم في بلاء، وقد جرت العادة بأن الوزير إذا استُوْزِر، والرئيس إذا رئس فالناس يهنئونه، ولو أنصفوا لعزوه وقالوا له: أحسن الله عزاءك، وجبر الله كسرك؛ لأنه لو مكث في ولايته أو وزارته يوماً ثم انصرف عنها أو مات فسيحاسبه الله عز وجل على الرعية كلهم.
ثالثاً: الوفاء ببيعتهم وعدم إعانة الخارجين عليهم، قال الإمام القرطبي رحمه الله: لو خرج خارج على إمام معروف بالعدالة وجب على الناس جهاده، فإن كان الإمام فاسقاً والخارجي مظهِراً للعدل فلا ينبغي للناس أن يسارعوا إلى نصرة الخارجي حتى يتبين أمره فيما يظهر من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الإمام الأول، وذلك أن كل من طلب هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح.
الحق الرابع لولي الأمر: أن تبذل له النصيحة في رفق ورحمة، فليس الغرض هو التشنيع عليه والتحريض على خلعه، وإنما نبذل له النصيحة في رفق ورحمة، وهذا من حق المسلم على المسلم.
خامساً: عدم متابعتهم في الباطل، وعدم تزيين المنكر لهم، بل لا بد من الإنكار عليهم بالطرق المشروعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا) رواه الإمام مسلم.
الحق السادس: أداء الصلاة معهم ما داموا مسلمين.
سابعاً: أن هذه الطاعة ليست قاصرة على نوع معين من الحكام ذوي النسب الشريف، بل هي لكل من ولي أمر الأمة مسلماً براً كان أو فاجراً، شريفاً كان أو وضيعاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)، وفي رواية: (وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف)، هذه هي الحقوق التي تجب.(49/10)
أهمية وجود الوالي
واعلموا أن وجود الحاكم خير من عدمه ولو كان فاجراً ظالماً، والعراق خير مثال على ذلك، فلما فقد الحاكم صارت الأمور فوضى لا يأمن الناس على أموالهم ولا دمائهم ولا أعراضهم، ولا يستطيعون أن ينتشروا في الطرقات آمنين، ولذلك قال علماؤنا رحمهم الله: لا بد للناس من إمام، ولا بد للناس من إمرة بارة كانت أو فاجرة، قال العضد الإيجي رحمه الله: إن في نصب الإمام دفع ضرر مظنون، وإنّ دفع الضرر واجب شرعاً، وبيان ذلك: أنّا نعلم علماً يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والحدود والمقاصات وإظهار شعائر الشرع في الأعياد والجماعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً، وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعنّ لهم.
وهذا الكلام من الوضوح بمكان.(49/11)
إنما الطاعة في المعروف
قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ)) فالمتنازعان إما أن يكون الرعية مع الراعي، وإما أن يكون الرعية فيما بينهم، وإما أن يكون العلماء فيما بينهم اختلفوا في مسألة من المسائل أو قضية من القضايا أو نازلة من النوازل، أو الأمراء فيما بينهم، فقد يختلف الأمراء فيما بينهم كما هو حادث في كثير من بلاد الله عز وجل، وسواء كان الاختلاف في شأن من شئون الدين، أو شأن من شئون الدنيا، قال الله عز وجل: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ)) و (شيء) هنا نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) أي: حال حصول النزاع بينكم يا مسلمون! سواء كنتم أمراء، أو علماء، أو عامة فهذا النزاع ردوه إلى الله والرسول، كما قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10].
قوله: ((فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) أي: إلى الكتاب والسنة كما قال مجاهد وغير واحد من علماء السلف، ولذلك قال مروان بن الحكم الخليفة الأموي لـ أبي حازم العبد الصالح: ألستم قد أمرتم بطاعتنا في قوله تعالى: ((وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ))؟ فقال أبو حازم: أليس قد نزعت الطاعة عنكم إذا خالفتم الحق بقوله سبحانه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ))؟ أي: إلى القرآن وإلى الرسول في حياته، وإلى أحاديثه بعد وفاته.
((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) أي: أن دليل إيمانكم بالله وباليوم الآخر أنه عند التنازع ترجعون إلى الكتاب والسنة، ((ذَلِكَ خَيْرٌ)) أي: في العاجل، ((وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)) أي: أحسن عاقبة ومآلاً.
لقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتي أمراء فيهم شر وعدوان وعدم قيام بحقوق الرعية، فما العلاج؟ قال عليه الصلاة والسلام: (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية) رواه الشيخان.
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: (وإن هذه الأمة قد جعلت عافيتها في أولها)، وهذا صحيح ليس فيه شك، فأولها كان يحكمها أبو بكر، وعمر، وعثمان وعلي خيار من خيار من خيار، ثم من جاء بعدهم من هو أقل خير منهم، ولكن الخير ما زال مستمراً، (وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضاً) يعني: كل ما جاءت فتنة ونظر الناس في المصيبة وحجم الفتنة فإنهم سيرون أن التي قبلها فتنة رقيقة، (وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)، يقول عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة: الذي يروي هذا الحديث: دنوت من عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت له: أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقال له عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ونقتل أنفسنا، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29] الآية، قال: فسكت عبد الله بن عمرو بن العاص ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله.(49/12)
حكم الخروج على الحاكم الظالم والكافر
إن أهل السنة متفقون على أن الحاكم الفاسق الفاجر لا يجوز الخروج عليه؛ لأن مفسدة الخروج عليه أعظم من مفسدة فسقه وفجوره، وأنا دائماً أضرب للناس مثالاً حول هذا الأمر، وهو: أن رجل المرور يقوم بضبط الشئون، وينتصف للناس من بعضهم لبعض، ويمنع التعدي، ولا يسلم هو من ظلم أحياناً، فيظلم الناس أحياناً ببذاءة لسانه، وأحياناً يظلم الناس في أمور أخرى، لكن رجل المرور هذا لو غاب في يوم ما فالناس يترحمون عليه ويقولون: يا ليته كان موجوداً بظلمه وتعديه! لم؟ لأن مفسدة غيابه أعظم من مفسدة وجوده، فوجوده فيه مصلحة ومفسدة، ولكن وجوده أهم من غيابه، فنقول: وكذلك الحاكم أو الإمام، فكل إنسان يريد أن يعمل انقلاباً ويحدث بلبلة، ويريق الدماء، هذا شر يترتب عليه تضييع الكثير من المصالح، وارتكاب الكثير من المفاسد.
وهنا مسألة وهي: لو كان الحاكم كافراً وليس فاسقاً، كما يوجد في بعض بلاد المسلمين حكام يحلون الحرام ويحرمون الحلال، فمثل هذا أجمع أهل العلم على أن خلعه واجب إذا توافرت القدرة على ذلك، وأما ما جرت عليه عادة بعض الصالحين من شباب المسلمين بأنهم إذا رأوا الحاكم قد ظهر منه الكفر البواح الذي عندهم من الله فيه برهان فإنهم يخرجون من مسجد من المساجد أو من مكان ما وهم مائة أو مائتان، أو ألف أو ألفان فيحملون الأسلحة، وهذه الأسلحة ليست دبابات ولا طائرات، فيريدون الخروج بها على الحاكم! فيقوم هذا الكافر أو الفاجر فيدكهم دكاً بطائراته ودباباته، ولربما تهدمت المساجد على رءوس أهلها، وبعد ذلك يحاصرون الدعوة ويحدثون في الأرض الفساد فنقول: إن مثل هذا الخروج مفسدته راجحة وغالبة، بل تكاد تكون مفسدته محضة ليس فيه مصلحة أصلاً، فيا حبذا لو أن الناس فهموا هذه القواعد من أجل أن يسلموا من كثير من الشرور، وفي هذه الآية سبع فوائد تأملوها تعرفوها.
وصلى الله على سيدنا محمد.(49/13)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [9]
للجهاد أحكام كثيرة بينها الله في كتابه للمؤمنين، ومن ذلك أن يأخذوا حذرهم من أعدائهم وأن ينفروا على كل حال، وأن يتبينوا إذا رأوا من أظهر الإسلام من الكفار، فلا يستعجلوا بقتله بحجة كفره، فإن الله كلفنا بالأخذ بالظاهر وهو يتولى السرائر.(50/1)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات)
النداء الثالث والعشرون في الآية الحادية والسبعين من سورة النساء: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71].
هذه الآية واحدة من الآيات التي تضع أحكاماً وآداباً للجهاد في سبيل الله، وكثير من آيات القرآن قد تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ولا غرابة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عد الجهاد ذروة سنام الإسلام.
يقول الله عز وجل لنا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ))، الحذر والحذر: بمعنى واحد كالإثر والأثر، وأخْذ الحذر معناه: الاحتياط والاحتراز من المخوف، يقال: حذر من كذا، إذا احترز منه، وابتعد عنه، واحتاط له.
قوله تعالى: ((خُذُوا حِذْرَكُمْ)) قال أهل التفسير: هذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لـ خالد بن الوليد لما بعثه إلى الشام: حاربهم بمثل ما يحاربونك به السيف بالسيف، والرمح بالرمح، قال أهل التفسير: ويشمل ذلك استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب، وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم، ويكون أخذ الحذر كذلك ببذل المال للجهاد في سبيل الله كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11]، ويشمل ذلك أيضاً تجهيز الغازي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا).
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه، وسلاحه، وبلاده، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء، وجر الأثقال، وما يعين على ذلك من صناعة الطائرات، والقنابل، والدبابات، والبوارج المدرعة، والمدافع المضادة للطائرات إلى غير ذلك؛ حتى لا يؤخذ المسلمون على غرة فتستباح بيضتهم، وتحتل أرضهم، ويعارَض ويحارَب دينهم.
((خُذُوا حِذْرَكُمْ)) لا من العدو الخارجي فحسب، بل حتى من العدو الداخلي كذلك، وهم المنافقون الذين يثبطون المسلمين عن القتال كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء:72]، وفي هذه الأيام التي ترفع فيها رايات الجهاد في فلسطين، وفي العراق، وفي أفغانستان، وفي غيرها من بلاد الله نجد كتابات تنشر هنا وهناك بأنه لا فائدة من المقاومة، وأنه لا بد للمسلمين أن يبحثوا عن أرضية مشتركة بينهم وبين عدوهم، ويقبلوا بحكم الواقع، هكذا يروج كثير من الناس لمثل هذه الأفكار الكاذبة الخاطئة، فهؤلاء جميعاً نحن مأمورون بأخذ الحذر منهم ((خُذُوا حِذْرَكُمْ)).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً بهذه الآية، فكان عليه الصلاة والسلام على علم بأرض عدوه، وكان له العيون والجواسيس الذين يأتونه بالأخبار، ففي غزوة بدر قبل أن يذهب صلى الله عليه وسلم بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضوان الله عليهما إلى الحوراء على ساحل البحر؛ من أجل أن يترصدوا عير أبي سفيان، وكان أحياناً يبعث بـ حذيفة بن اليمان وأحياناً بـ عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وغيرهم رضوان الله عليهم، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن قريشاً قد نقضت العهد الذي أبرم في الحديبية استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تأجيل المعركة، وكان يظن أن المسلمين ما علموا بنقضه للعهد.
قوله: ((خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا))، وهو من نفر ينفُر بالضم، ومن نفر ينفِر بالكسر، وهو الخروج للجهاد في سبيل الله كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة:38 - 39]، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ))، الثبات: جمع ثبة، أي: جماعة بعد جماعة، وفرقة بعد فرقة، وسرية بعد سرية، ((أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)) أي: انفروا كلكم إلى الجهاد، وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرين معاً، فتارة كان يبعث بالقطعة من الجيش، أو بالنفر المعينين لمهمة من المهام كما فعل في سرية عبد الله بن جحش الأسدي رضي الله عنه، فقد بعث به إلى وادي نخلة بين مكة والطائف، وبعث سرية بقيادة محمد بن مسلمة لقتل عدو الله كعب بن الأشرف اليهودي، وبعث عبد الله بن أنيس وهو رجل واحد لقتل خالد بن سفيان بن نبيح الكلبي الهذلي الذي كان يجمع الجيوش في وادي عرنة من أجل أن يغزو المدينة المنورة، وأحياناً يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين جميعاً، كما حدث في غزوة تبوك، فطبق الأمرين معاً، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)).(50/2)
هدي النبي في الجهاد
كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد أحسن الهدي، وأكمله، وأعلاه، وأفضله، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد): كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك، فهو يريد حنين ناحية الطائف ويسأل عن نجد؛ لأن في داخل الصفوف منافقين، وفي داخل الصفوف عيون للأعداء، وجواسيس ينقلون أخبار المسلمين، ويدلون على عوراتهم، فلذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يأخذ بالأسباب، ولا يبين الوجهة التي يقصدها، وإنما يوري بغيرها، وكان يقول: (الحرب خدعة) وخدعة: اسم مَرَّة، أي: خدعة واحدة تحسم بها الحرب، أو أن خدعة مصدر بمعنى أنها تعتمد على الحيلة والخداع، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويبعث الطلائع، ويبيت الحرس، وما كان يقول: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منصور بأمر الله فناموا أيها المسلمون! واطمئنوا فأنتم محروسون بعين الله، وإنما كان يقيم الحرس يحرسونه هو وأصحابه رضوان الله عليهم، وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم؛ لأن الله تعالى قال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] فذكر الله عند التقاء الصفين مطلوب، وكان يرتب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، وكان يبارَز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، ويلبس عليه الصلاة والسلام اللأمة -وهي الدرع الواقي- من الحديد من أجل أن يتقي به الضربات، وكان يضع على رأسه البيضة من أجل أن يتقي الضربات، وفي يوم أحد هشمت هذه البيضة على رأسه صلوات الله وسلامه عليه من كثرة ما وجه له من الضربات، وكانت له الألوية والرايات، فهذه راية بني فلان، وهذه راية بني فلان، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً، أي: أنه إذا فتح بلداً فإنه عليه الصلاة والسلام يقيم بها ثلاثة أيام ثم يقفل، وأحياناً كان يقيم أكثر من ذلك كما فعل عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، حيث أقام بها تسعة عشر يوماً، وكان إذا أراد أن يغير انتظر، فإذا سمع في الحي مؤذناً لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيت عدوه كما فعل ببني المصطلق، وربما فاجأهم نهاراً كما فعل باليهود في خيبر، جاءهم بالنهار وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم، فمجرد ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: (محمد والخميس)، والخميس هو الجيش، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، الله أكبر خربت خيبر)، ففتحها الله عليه، وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار، وكان العسكر إذا نزلوا انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم، وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ويقول: تقدم يا فلان! تأخر يا فلان! وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو قال: (اللهم! منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم)، ولربما قال: (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).
وكان يقول: (اللهم! أنزل نصرك)، وكان يقول: (اللهم! أنت عضدي، وأنت نصيري، وبك أقاتل)، وكان إذا اشتدت الحرب، وحمي الوطيس، واحمرت الحدق يحتمي الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه عليه الصلاة والسلام، يقول علي: وإن الشجاع منا للذي يحاذيه يقف في صفه وكان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان يجعل للصحابة شعاراً، وهو ما يسمى الآن بكلمة السر، من أجل أن يعرف الناس بعضهم بعضاً إذا تكلموا، فكان شعارهم مرة (أمت أمت)، ومرة (يا منصور!) ومرة (حاميم لا ينصرون)، وكان يلبس الدرع والخوذة ويتقلد السيف، ويحمل الرمح، ويتترس بالترس، وكان يحب الخيلاء في الحرب عليه الصلاة والسلام، فالخيلاء ممنوعة ومحرمة، لكنها في الحرب مطلوبة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان: (إن من الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء -أي عند الحرب- واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في البغي والفخر).
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل النساء والولدان، وكان ينظر في مقاتلة العدو فمن رآه أنبت قتله، ومن رآه لم ينبت استحياه، وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول لهم: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا)، فالتمثيل بالعدو ولو كان كافراً حرام لا يجوز، وذلك كأن نفقأ عينه، أو تقطع أذنه، أو تجدع أنفه، فهذا كله حرام، وليس من التمثيل ذبحه؛ لئلا تخلط الأمور، فالذبح يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، وما عندنا في الشريعة نص يحرم الذبح، لكن هم يريدون أن يحكمونا بمقاييسهم ومعاييرهم، ويريدون أن يجعلوا القتل بالشنق والخنق والقتل بالحقنة أو بالكرسي الكهربائي شيئاً حضارياً ومباحاً، وأما القتل ذبحاً فوحشية، وليس ذبح البشر وحدهم وحشية عندهم، بل حتى لو ذبحت خروفاً فأنت متوحش ولست متحضراً، فالخروف عندهم يصعق بالكهرباء، أو يضرب بمثقل أو بعيار ناري، والطيور تلقى في الماء الحار فتخرج ميتة مسلوخة، فهذه هي الحضارة عندهم، وأما ذبحها وتذكيتها على ما شرع الله فهذه وحشية لا تليق! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً)، وأيضاً نحن المسلمين منهيون عن تخريب العامر، وقطع الشجر المثمر، وقتل الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة التي لا تقاتل، وأما المرأة إذا كانت تشترك في القتال فإنها تقتل.
ومن فوائد هذه الآية: وجوب أخذ الحذر من أعدائنا، وأن أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون.
ومن فوائدها: وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله، وهذا النفرة تكون حسب المصلحة، فإما جماعات وإما جميعاً، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)).
أسأل الله أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله.(50/3)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا)
النداء الرابع والعشرون في الآية الرابعة والتسعين من سورة النساء: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:94].
هذا النداء كسابقه يتحدث عن أحكام الجهاد وآدابه، ففي النداء الذي مضى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:71]، وهذا النداء يحذر عباد الله المؤمنين من أن يجترئوا على سفك الدم بغير حق.(50/4)
سبب نزول هذه الآية
سبب نزول هذه الآية كما روى الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رجل في غنيمته فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: {فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء:94] الآية).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: عرض الدنيا تلك الغنيمات التي أخذها الصحابة من ذلك الرجل الذي قتلوه.
وذكر ابن عباس سبباً آخر لنزول هذه الآية رواه الإمام أحمد عنه قال: (مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم، فقالوا: لا يسلم علينا إلا تعوذاً منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية).
وهناك سبب ثالث ذكره الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله، قال: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثاً فلقيه عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بين محلم بن جثامة وعامر بن الأضبط عداوة في الجاهلية، فعمد إليه فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات، -أي: مات بعد سبعة أيام- فدفنوه فلفظته الأرض، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الأرض لتقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم، فطرحوه بين صدفتي جبل وألقوا عليه الحجارة، ونزلت الآية: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) [النساء:94]).
وفي الصحيح أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (كان في معركة فلما أهوى بسيفه على رجل تشهد الرجل شهادة الحق فقتله أسامة، فلما جاء وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام قال: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! ما قالها إلا تعوذاً من القتل، قال عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن صدره! كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! حتى قال أسامة: تمنيت أني ما أسلمت إلا يومئذ).
هذه أربعة أسباب مروية في سبب نزول هذه الآية، وكما علم من علوم التفسير بأنه لا مانع من أن تتعدد الأسباب ويكون المنزل واحداً، فقد تنزل آية واحدة وتتعدد أسبابها.(50/5)
مفردات الآية
فالله عز وجل ينادينا: يا مؤمنون! ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: خرجتم مسافرين غزاة وغايتكم إعلاء كلمة الله عز وجل: ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا))، وفي قراءة نافع وحمزة والكسائي وخلف العاشر: (فتثبتوا)، فالمراد أن الإنسان يتأكد مما يراد منه، ويتبين الأمر على وجهه الصحيح قبل أن يقدم على سفك الدم.
قوله: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ))، وفي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وأبي جعفر ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا))، بغير ألف (السلم) أي: استسلم وانقاد لحكمكم، وعلى القراءة الأخرى: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ)) أي: التسليم، وهي تحية الإسلام، ((لَسْتَ مُؤْمِنًا)).
وفي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع (لست مؤمّناً) أي: لن نؤمنك على نفسك، والمعنى: لا تقولوا لمن ظهر من حاله أنه مسلم أو أنه مستسلم: أنت تقول هذا الكلام تعوذاً من القتل، وطلباً للسلامة، وحذراً من بأسنا، لا عليكم بالظاهر، وكلوا إلى الله السرائر، ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) أي: والحال أنكم تبتغون عرض الدنيا أغناماً كانت أو أبقاراً أو إبلاً، وهي حطام سريع النفاذ.
قال الله عز وجل: ((فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)) أي: عند الله عز وجل خير من متاع الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم مما طلبتموه من غير طريقه.
ثم ذكرهم ربهم جل جلاله بالحال التي كانوا عليها: ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: كذلك كنتم من قبل هذه الحال تسرون إيمانكم كهذا الذي أسر إيمانه، وكنتم في مكة قلة مستضعفين في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، وكان كثير منكم يستخفي بإسلامه، ولا يستطيع أن يجهر به بين قومه.
وقيل في معنى قول الله عز وجل: ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت بها دماؤكم، وعصمت أموالكم، من غير انتظار للاطلاع على مواطئة قلوبكم ألسنتكم، بل بمجرد ما قال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عصم دمه وماله وعرضه، ولم يقل أحد له: لا، بل ننتظر ونتثبت هل أنت مسلم على الحقيقة أما أنك تقول ذلك حذراً من القتل، ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ)) أي: كذلك كنتم كفرة، فهذا أيضاً من معاني هذه الآية: كذلك كنتم كفرة فمن الله عليكم بالإسلام، فلا تنكروا أن يكون ذلك الشخص كافراً ثم من الله عليه في لحظة فدخل في الإسلام.
((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: بالعزة والنصر والسؤدد حتى أظهرتم إيمانكم، وأشهرتم دينكم، واستقمتم على أمر ربكم.
((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) قيل أيضاً: من منّة الله التوبة، فقد تاب الله على أسامة وعلى غيره من الصحابة الذين عمدوا إلى قتل الإنسان الذي أظهر الإسلام متأولين أنه قال ذلك تعوذاً من القتل، وأما محلم بن جثامة فلم يتب الله عليه؛ لأنه تعمد قتل نفس معصومة من أجل إحنة وعداوة شخصية لا من أجل الله.
قوله: (فتبينوا) كرر الله الأمر بالتبين للتأكيد، فقال في أول الآية: ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا))، وهنا قال: (فتبينوا)، ثم ختم الآية بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))، قال سعيد بن جبير رحمه الله: هذا تهديد ووعيد أي: لا تتهافتوا إلى القتل واحتاطوا فيه؛ لأن سفك الدم عند الله عظيم، ولذلك لا بد من التثبت والتبين.(50/6)
من فوائد الآية
لقد اشتملت هذه الآية على عدة فوائد: أولها: مشروعية الضرب في الأرض والسفر للتجارة أو للغزو، وهذا دأب الصالحين من عباد الله منذ القديم.
ثانيها: وجوب التبين والتثبت قبل الإقدام على سفك الدم.
ثالثها: وجوب أخذ الناس بظواهرهم وإرجاع سرائرهم إلى الله تعالى، فكل من شهد شهادة الحق فإننا نجري عليه أحكام الإسلام، ولو مات صلينا عليه ودعونا له، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154]، وأما هل هو في باطنه مسلم أو ليس مسلماً فهذا علمه عند ربي سبحانه.
رابعها: تحريم التشكيك في النوايا، والتفتيش عما في الصدور، فلا تقل: فلان نيته ليست خالصة، وفلان نيته ليست بطيبة، فلان ما أراد بالإسلام إلا منفعة دنيوية؛ لأن ما في القلوب لا يطلع عليه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى، وأما أنت فعليك بالظاهر، ثم من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فالله عز وجل نهى الصحابة عن القتل من أجل عرض الدنيا، وقال لهم: ((فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)).
ومن فوائد هذه الآية: الاعتبار بالحال السابقة وبذل الأعذار للناس، فبعض الناس يكون في ضلال وخبال، ثم يمن الله عليه بالهداية فيستقيم ويحافظ على الفرائض، ثم بعد ذلك هذا الإنسان الذي كان ضائعاً حتى الأمس القريب إذا رأى إنساناً في ضياع مفرط فإنه ينظر إليه شزراً ويشمت به، لا، المفروض أن يعتبر هذا الإنسان الشامت بحاله التي كانت من قبل، ويرجو كما من الله عليه أن يمن على أخيه المسلم.
ومن فوائد الآية: عظيم منة الله على المؤمنين بإعزاز الدين وإظهار أهله، فقد من الله علينا بإظهار ديننا ونشر ألويته في الآفاق.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه: دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك؛ لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما يتهم المتهم غيره فللغير أن يتهم من اتهمه، وتتنابز الأمة بالألقاب: يا كافر! يا مشرك! يا منافق! يا عدو الله! ونحو ذلك من التهم التي ما ينبغي أن تشيع في مجتمع المسلمين.
أختم هذا البحث فأقول: إذا كانت الآية فيمن أظهر الإسلام ولم يُعلم الباعث له على ذلك فأين هذا من حرْص من لم يهتدوا بكتاب الله في إسلامهم ولا في عملهم في الأحكام على تكفير من يخالف أهواءهم من أهل القبلة، بل من أهل العلم الصحيح والدعوة إلى الكتاب والسنة؟ فقد نبتت في الناس هذه النابتة فنسأل الله العافية، وسلفهم في ذلك الخوارج؛ فإنهم يحرصون على تكفير كل من خالفهم في صغير أو كبير، ولو كان المخالف لهم أقدم إسلاماً وأرسخ إيماناً وأقوى علماً كـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وكذلك نبتت في المسلمين نابتة إذا خالف الواحد منهم أخاه فإنه يسارع إلى تبديعه واتهامه بأنه مخالف للسلف، مباين لسبيل الأولين، وأنه قد أتى بحلة جديدة وملة ما عرفت، وهكذا يبدأ الناس يتنابزون بالألقاب؛ فهؤلاء جميعاً نخاطبهم بقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا))، وخاصة إذا كانت المسألة حمالة أوجه، وللاجتهاد فيها مساغ، وقدر أن هذا المسلم يصلي معك الخمس، ويستقبل معك قبلة واحدة، ولعل له تأويلاً سائغاً، ولعل له سلفاً ممن سبقه من أهل العلم، فنسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.(50/7)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [10]
أمر الله عباده أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ومن ذلك أن يؤمنوا بالله ورسوله والكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، وأن يؤمنوا بالملائكة واليوم الآخر، ليكونوا بذلك أولياء الله في أرضه.(51/1)
قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط)
النداء الخامس والعشرون في الآية الخامسة والثلاثين بعد المائة من سورة النساء: يقول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135].
قرأ ابن عامر وحمزة بن حبيب: (وإن تلووا) بضم اللام وواو ساكنة بعدها على أنها فعل مضارع من ولي يلي ولاية، وولاية الشيء هي الإقبال عليه، وقرأ الباقون: (وإن تلووا) بإسكان الواو وبعدها واوان: الأولى: مضمومة، والثانية: ساكنة على أنه فعل مضارع من لوى يلوي، يقال: لويت فلاناً حقه إذا لم أعطه.
سبب نزول هذه الآية المباركة كما روى ابن المنذر من طريق ابن جريج عن مولى لـ ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أول سورة نزلت ثم أردفتها سورة النساء قال: فكان الرجل يكون عنده الشهادة قبل ابنه أو ابن عمه أو ذوي رحمه فيلوي بها لسانه أو يكتمها؛ لما يرى من عسرته، حتى يوسر فيقضي حين يوسر، فنزلت: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)).(51/2)
معاني المفردات
قول ربنا تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ)).
القوام: صيغة مبالغة، أي: كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط، وهو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، والقسط في حقوق الله: ألا يستعان بنعمه على معصيته، بل تصرف في طاعته، والقسط في حقوق الآدميين: أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك كما تطلب حقوقك.
((شُهَدَاءَ لِلَّهِ)) أي: أدوها ابتغاء وجه الله، كما قال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، حسبة لله وتعاملاً مباشراً مع الله، لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم، ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة، بل تجرداً من كل ميل وهوى، ومن كل مصلحة، ومن كل اعتبار.
((وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ)) أي: ولو عاد ضررها عليكم، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً.
والمراد بذلك: الإقرار، فهو شهادة على النفس بإلزام الحق.
((أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)) أي: ولو عاد ضررها على الوالدين والأقربين، فإن الحق حاكم على كل أحد.
((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا)) أي: إن يكن المشهود عليه غنياً يرجى في العادة ويخشى، فلا ترعاه لغناه، أو كان فقيراً يترحم عليه في الغالب ويحمى، فلا تشفق عليه لفقره.
((فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي: الله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك، وأعلم بما فيه صلاحهما، فلا يكن غناه ولا فقره سبباً للقضاء له أو عليه، والشهادة له أو عليه.
والمقصود من الآية: التحذير من التأثر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحق لما يحس به من عوارض يتوهم أن مراعاتها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فمن الناس من يتوهم أن الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حق غيره، فيقول في نفسه: هذا في غنية عن أكل حق غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة، ومن الناس من يميل إلى الفقير رقة له، فيحسبه مظلوماً، أو يحسب أن القضاء له بمال الغني لا يضر الغني شيئاً، فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة، وهي قوله سبحانه: ((إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)).
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: وقد عرفت قاضياً لا مطعن في ثقته وتنزهه، ولكنه كان مبتلى باعتقاد أن مظنة القدرة والسلطان ليسوا إلا ظلمة من أغنياء أو رجال، فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين، فلا يستوفي التأمل لحججهما.
قال تعالى: ((فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إياكم على ترك العدل في أمركم وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان، كما قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، وذلك ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين أراد اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازيز، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
قال الله تعالى: ((فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) يحتمل المعنى هنا: العدل أو العدول، كأنه قال: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو: إرادة أن تعدلوا عن الحق.
((وَإِنْ تَلْوُوا)) أي: وإن تحرفوا الشهادة وتغيروها كما قال مجاهد وغير واحد من السلف، واللي هو التحريف وتعمد الكذب، كقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران:78].
((أَوْ تُعْرِضُوا)) أي: تكتموا الشهادة، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها).
((فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)) وسيجازيكم على ذلك.(51/3)
ما يستفاد من الآية
في الآية فوائد عظيمة: منها: وجوب إقامة العدل بين الناس.
ومنها: أهمية العدل لقيام المجتمعات.
ومنها: وجوب الإخلاص في ذلك لله وحده.
ومنها: أن العدل مطلوب مع القريب والبعيد، وأنه لا تأثير للغنى والفقر في أداء الشهادة، وأن الله جل جلاله أولى بالغني والفقير.
ومنها: النهي عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى مانع من إقامة العدل.
ومنها: النهي عن التحريف في الشهادة، وتحريم الإعراض عن أدائها.
ومنها: أن شهادة الإنسان على والديه وأقاربه مقبولة، وأن شهادة الإنسان على والديه لا تنافي برهما، وشهادته على أقاربه لا تنافي صلتهم.
ومنها: علم الله المحيط الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.(51/4)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله)
النداء السادس والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في الآية السادسة والثلاثين بعد المائة من سورة النساء: يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء البصري: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نُزِّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136].(51/5)
توجيه طلب الإيمان من المؤمنين في قوله (يا أيها الذين آمنوا آمنوا)
هناك إشكال عند كثير من أهل التفسير في قول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)) وهو كيف أنهم مؤمنون ويطالبون بالإيمان؟ ذكروا في ذلك وجوهاً: الوجه الأول: أن المخاطبين بهذه الآية هم أهل الكتاب؛ فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: آمنوا بموسى وعيسى، ((آمِنُوا)) آمنوا بالله إيماناً شرعياً صحيحاً، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)) محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن ((وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، إذاً: المخاطب بهذه الآية هم أهل الكتاب.
الوجه الثاني: أن المخاطب بهذه الآية هم المنافقون، فقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: آمنوا بألسنتهم، ((آمِنُوا)) بقلوبكم، ((آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) إيماناً يتواطأ عليه القلب مع اللسان، ولا يكن إيمانكم لسانياً لا يغني عنكم من الله شيئاً.
الوجه الثالث: أن المخاطبين بهذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأمر بالإيمان: الدوام والثبات عليه حتى موافاة رب العالمين جل جلاله به، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] وهو عليه الصلاة والسلام سيد المتقين، لكن المعنى: اثبت على تقوى الله، وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] وهو عليه الصلاة والسلام من يومه الأول يبلغ رسالة ربه، لكن المراد الدوام والاستمرار.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهو الجاري على ألسنة أهل العلم، وبناء عليه جعلوا الآية شاهداً لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام، كما أن الله عز وجل يأمرنا في القرآن كثيراً بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:110]، ومن المعلوم أن المؤمن لابد له من صلاة وزكاة، لكن المراد هو المداومة والاستمرار.
الوجه الرابع في قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)): أنه خطاب للمؤمنين، أي أن المطلوب منكم إيماناً لا تشوبه كراهية بعض كتب الله، تحذيراً من ذلك؛ لئلا يدفعهم بغض اليهود الذين كانوا يساكنونهم المدينة وما بينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرح به اليهود من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكار نزول القرآن، فاليهود -قاتلهم الله- كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وينكرون نزول القرآن، فالله عز وجل حذر المؤمنين من أن يسلكوا مسلكهم، وأن يقابلوا ظلمهم بظلم المثل، وقد بدر من بعض المسلمين شيء من ذلك لما قال واحد من اليهود وهو في السوق: لا والذي اصطفى موسى على البشر.
يحلف بالله الذي اصطفى موسى على البشر، وهذا كلام فيه نوع عنصرية وعنجهية، فرفع المسلم يده فلطمه لطمة منكرة وقال له: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا، أي: أنت تقول هذا الكلام والرسول صلى الله عليه وسلم موجود عندنا في المدينة، أما تعرف أنه عليه الصلاة والسلام قد اصطفاه الله على العالمين؟ فلما جاء اليهودي يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروا بين الأنبياء)، وهو عليه الصلاة السلام يعلم أنه المخير، وأنه أول شافع وأول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يأخذ بحلقة باب الجنة، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأكثر الأنبياء تابعاً، وإمام الأنبياء في ليلة الإسراء وخطيبهم صلوات ربي وسلامه عليه، وكلهم صلوا من ورائه دلالة على أفضليته، لكنه عليه الصلاة والسلام نهى عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان ذلك على سبيل العصبية والفخر، وهضم بعض الأنبياء، أو التوسل بذلك إلى الحط من أقدارهم صلوات الله وسلامه عليهم.
فالخطاب في هذه الآية إما أن يكون لأهل الكتاب، وإما أن يكون للمنافقين، وإما أن يكون للمؤمنين على إرادة الدوام والاستمرار كما قال سبحانه: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، وإما أن يكون خطاباً للمؤمنين تحذيراً لهم من أن يسلكوا مسلك اليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.(51/6)
معنى الإيمان بالله
الله عز وجل يخاطبهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)) أي: آمنوا بالله إيماناً شرعياً صحيحاً بأركانه الأربعة: إيماناً بوجوده جل جلاله، وبربوبيته وأنه الخالق الرازق المحيي المميت النافع الضار الذي بيده ملكوت كل شيء، وإيمان بألوهيته سبحانه وتعالى، وأنه الإله المعبود بحق ولا يستحق العبادة أحد سواه فلا إله غيره، وكل ما عبد سواه فهو معبود بباطل، وأنه سبحانه وتعالى الحكم الذي له حق التشريع والتحليل والتحريم، وإيمان بأسمائه وصفاته، وأنه موصوف بالكمال جل جلاله، ومنزه عن كل نقص، وله الأسماء الحسنى والصفات العلا.(51/7)
كيفية إنزال الكتب على الأنبياء
قوله تعالى: ((آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)) محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)) القرآن، ((وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) يشمل جميع الكتب ما علمنا منها وما لم نعلم، ما سماه الله لنا في القرآن، وما لم يسمه.
ونلاحظ في قول الله عز وجل: ((وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) أن الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام كانت كتبهم تنزل جملة واحدة، كما في قصة موسى عليه السلام: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:144 - 145]، فرجع موسى إلى قومه وهو يحمل الألواح فيها التوراة كاملة، ولما وجد قومه يعبدون العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل ما أنزل عليه القرآن جملة واحدة، وإنما كما قال الله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء:106]، وقال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32] أي: ينزل شيئاً بعد شيء على حسب الحوادث والأحوال، فلربما تنزل منه السورة كاملةً، ولربما تنزل الآيات أو الآية أو بعض آية مراعاة من الله عز وجل لحال هذه الأمة.(51/8)
تعظيم أمة محمد للأنبياء
أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوحيدة التي حققت هذا الإيمان، فما من مسلم يستطيع أن يذكر نبياً من الأنبياء بسوء، ولو فعل لقلنا له: لست بمسلم، وما من مسلم يستطيع أن يذكر كتاباً من الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه بسوء، بل نؤمن بها كلها، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم تؤمن بالكتاب كله، وأما الأمم الأخرى سواء كانوا اليهود أو النصارى فلم يحققوا هذا الشرط، ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
يقول سيد قطب رحمه الله: والإيمان بالكتاب كله بوصف أن الكتب كلها كتاب واحد في الحقيقة هو السمة التي تنفرد بها هذه الأمة المسلمة؛ لأن تصورها لربها الواحد، ومنهجه الواحد، وطريقه الواحد هو التصور الذي يستقيم مع حقيقة الألوهية، ويستقيم مع وحدة البشرية، ويستقيم مع وحدة الحق الذي لا يتعدد والذي ليس وراءه إلا الضلال: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]، هذه هي سمة هذه الأمة المباركة.(51/9)
تفريق اليهود بين الله ورسله وملائكته
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136] أي: ومن خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد؛ لأن الكفر ببعضه كفر به كله، ومن المعلوم أن اليهود عليهم لعائن الله لم يفرقوا بين الرسل فقط بل حتى بين الملائكة، فالملائكة عندهم فيهم رأي، ولذلك لما جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: (يا محمد! إنا سائلوك عن أمور إن أجبتنا فأنت رسول، فقال لهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى إن أنا أخبرتكم لتتابعنني على ديني؟ قالوا: بلى، وأخذ عليهم العهود والمواثيق، -فطرحوا عليه أسئلة- فقالوا: ما الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ وهل ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ ومن وليك من الملائكة؟ قال لهم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى إن أنا أخبرتكم لتؤمنن بي ولتابعنني على ديني؟ قالوا: بلى، قال: أما تعلمون أن إسرائيل عليه السلام -وهو يعقوب- قد كان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها، فمرض مرضاً شديداً، فنذر لله إن عافاه أن يحرم أحب الطعام والشراب على نفسه؟ قالوا: بلى، قال: اللهم اشهد، ثم قال: أسألكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون في كتابكم أن ماء الرجل غليظ أبيض، وأن ماء المرأة رقيق أصفر؟ قالوا: بلى، قال: اللهم اشهد، قال: أسألكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون أنه إذا سبق ماء الرجل أشبه الولد أباه، وإذا سبق ماء المرأة أشبه الولد أمه؟ قالوا: بلى، -بقي سؤال واحد على طريقة المصابرة كما يقولون- قالوا له: الآن أخبرنا من وليك من الملائكة، فعندها نجامعك أو نفارقك؟ -وهذا نوع من المحاصرة- فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن وليي جبريل، وما بعث الله نبياً إلا وهو وليه، قالوا: جبريل ذاك عدونا لو كان غيره لاتبعناك) أي: هذه هي المشكلة بيننا وبينك، فاليهود قبحهم الله بما طبعوا عليه من عنصرية وعنجهية لهم رأي في الأنبياء، ولهم رأي في الملائكة، ولهم رأي في الكتب، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يؤمنون بالكتاب كله، وبالرسل كلهم، وبالملائكة كلهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(51/10)
ما يستفاد من الآية
هذه الآية تثبت أن القرآن قد نزل منجماً، ونستفيد منها: وجوب الثبات على الإيمان والاستقامة عليه حتى الممات، وأن الإيمان بالله لا يصح إلا إذا انضم إليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، وأنه لا يصح الإيمان بالقرآن إلا إذا انضم إليه الإيمان بالكتب السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، وأن إطلاق وصف الكفر يصلح على كل من أخل بواحد من تلك الأركان، سواء كان كفره بالله أو برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو بأحد من المرسلين، أو بأي كتاب من الكتب، أو بأحد الملائكة، أو باليوم الآخر، ولا ضلال أعظم من ضلال من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.(51/11)
نداءات الرحمن لأهل الإيمان [11]
نهى الله المؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء، وأمرهم أن يوفوا بالعقود سواء كانت مع المؤمنين أو الكافرين، ونهاهم أن يحلوا شعائر الله، كل ذلك لمصلحتهم الدينية والدنيوية.(52/1)
قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء)
النداء السابع والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان في الآية الرابعة والأربعين بعد المائة من سورة النساء: يقول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144].
هذه الآية ناطقة بما دلت عليه آيات أخرى من القرآن، كقول ربنا الرحمن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] وكقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1]، وقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:57]، وقول الله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28].
إن الله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية بألا يتخذوا الكافرين أعواناً ونصراء من دون المؤمنين، سواء كان كفرهم كفر شرك، أو كفر عناد ومكابرة، أو كفر نفاق؛ لأن الكفر في النهاية ملة واحدة، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] ويمكن أن يراد بالكافرين في هذه الآية مشركو مكة، ويمكن أيضاً أن يراد بهم أهل الكتاب الذين كانوا في المدينة من اليهود، ويمكن أيضاً أن يراد بهم المنافقون من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول وأقرانه.
يقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ))، ثم يوجه ربنا جل جلاله سؤالاً: ((أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا)) أي: أتريدون يا من تتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أن تجعلوا لله حجة بينة في إنزال عقوبته بكم وتمكينه بكم أو أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة في أن يسلط هؤلاء الكافرين عليكم بذنوبكم بعد ما اتخذتموهم أولياء؟!(52/2)
من صور اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين
إن اتخاذ الكافرين أولياء قضية لها صور في واقعنا المعاصر من الذين ينتسبون إلى الإسلام في الجملة سواء كانوا من الحكام أو المحكومين، إن اتخاذ الكافرين أولياء لها صور وأشكال ينبغي لكل واحد منا أن يحتاط لئلا يقع فيها، فمن هذه الصور: الرضا بكفر الكافرين، وعدم تكفيرهم، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح أي مذهب من مذاهبهم الكافرة، فمن رضي بكفر الكافر، أو شك في كفره، أو صحح دينه ومذهبه فقد والاه من دون المؤمنين.
ونحن الآن نجد فئاماً من المسلمين لا يعتقدون كفر اليهود والنصارى، بل يعتقدون أنهم في جملة أهل الإيمان، وأن الواحد منهم يمكن أن يصل إلى الجنة، وأنهم في النهاية يعبدون الله، فإذا كان المسلم يعبد الله في المسجد فذاك يعبد الله في الكنيسة أو الكنيس، وإذا كان المسلم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم فذاك يتبع عيسى أو موسى، هكذا يعتقد بعض الأغرار من المسلمين مثل هذه العقيدة الباطلة، وما علم هؤلاء أن هذا من نواقض الإيمان؛ لأن الله عز وجل أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني، ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار) فهذه القطعيات الواضحات صارت عند كثير من الناس مبهمات.
ومن صور الموالاة ومظاهرها: اتخاذ الكافرين أعواناً وأنصاراً وأولياء، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله: صح أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين.
ومن صور المولاة: الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم إليهم دون كتاب الله، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51].
ومما هم عليه من الكفر تلك المقولة التي شاعت عند الكفار: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين، أو مقولة: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فإنك تجد بعض المسلمين يردد هذه المقولة، وقد ارتضاها واستبطنها واعتقد أن لله عز وجل المسجد، وشهر رمضان، وموسم الحج، أما بعد ذلك فحياتنا نسيرها كيفما نشاء وكيفما نريد، وهذا هو مبدأ فصل الدين عن الدولة، فكثير من الناس الآن ينادي بأن تكون المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات دون النظر إلى الدين، بمعنى أننا لا ننظر هل هذا مسلم أو كافر ولا اعتبار لذلك، فإذا كان مواطناً فالمواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، ويرددون هذا الكلام سراً وعلانية، بل صار ذلك عند كثير من الناس من الأمور المسلمة، وهذا مما يناقض قول الله عز وجل: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، فلو كان هناك مسلمان أحدهما بر والآخر فاجر فإنهما لا يستويان، ناهيك أن يكون أحدهما مؤمناً موحداً لله عز وجل، والآخر كافراً مشركاً بالله عز وجل.
ومن صور الموالاة: مودتهم ومحبتهم، وقد نهى الله عن ذلك بقوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة:22]، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أخبر الله أنك لا تجد مؤمناً يواد المحادين لله ورسوله، فإن الإيمان ينافي موادته كما ينافي أحد الضدين الآخر، فإذا وجد الإيمان انتفى ضده، وهو موالاة أعداء الله، فإذا كان الرجل يوالي أعداء الله بقلبه كان ذلك دليلاً على أن قلبه ليس فيه الإيمان الواجب، وأن قلبه خال من الإيمان.
وقال بعض العلماء المعاصرين: ومن مظاهر ذلك: أن الواحد منهم إذا لقي الكافر حياه، ووضع يده على صدره وقلبه، كأنه يقول له: مكانتك في القلب! أو وضع يده على رأسه كأنه يعني مكانتك فوق الرأس.
ومن مظاهر موالاة الكافرين: مداهنتهم ومداراتهم ومجاملتهم على حساب الدين، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وهذا كثير، فإنك تجد بعض الناس إذا جلس مع الكفار ينكر بعض مسلمات الدين أو يتنازل عنها، سواء كانت متعلقة بتشريع الجهاد، أو ببعض التشريعات من السياسة الشرعية كالجزية مثلاً، أو ببعض التشريعات المتعلقة بالمرأة، أو العلاقات الدولية كمعاملة الكفار، فتجده ينكر ذلك كله، حتى تكلم بعض الناس وكان وزيراً للتعليم في بعض البلاد لما بدأ الأمريكان يطالبون بتغيير المناهج لئلا تفرخ الإرهاب كما زعموا، قال هذا الوزير: أنا لما كنت وزيراً شكلت لجنة لحذف الآيات التي تحض على كراهية الآخر! وذلك كقول الله عز وجل: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) ومثيلاتها، فلو حذفها من المنهج ماذا سيصنع بالمصاحف وهي باقية؟ ولو حذفها من المصاحف ماذا سيصنع بها وهي في صدور المسلمين يقرءونها بالليل والنهار؟ فتجد بعض الناس -والعياذ بالله- يتفوه بالكفر وهو لا يدري! ومن مظاهر موالاتهم: طاعتهم فيما يأمرون به ويشيرون، وهذا الآن كثير، فإذا أمر أعداء الله عز وجل بأمر فإنك تجد كثيراً من المسلمين يتبارون ويتسابقون ويتنافسون في تنفيذ إشاراتهم، وجعل أوامرهم واقعاً، وقد قال الله عز وجل: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] هذا منطوق القرآن.
ومن مظاهر موالاتهم: مجالستهم والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، يقول الله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:140] أي: في الكفر، {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
زار الرئيس الأمريكي السابق بعض البلاد قبل سنة أو أكثر، وتكلم بأن المسلمين يجب عليهم أن يسمحوا للنساء بقيادة السيارات، وأن أكثر العلماء لا يمنعون المرأة أن تقود السيارة، وهذا أهون من أن تركب مع السائق الأجنبي الذي ليس بزوج ولا محرم ثم إن هذا الإنسان قال: إن المرأة يجب أن يسمح لها، ولا يعترض على ذلك أحد من علماء الدين، ولو كان النبي محمداً موجوداً لسمح لزوجاته بقيادة السيارات، بل لفتح وكالة سيارات، قال هذا الكلام والجلوس أكثرهم مسلمون يضحكون ويصفقون والعياذ بالله، وقد رد عليه بعض العلماء وسخروا منه وقالوا: هذا المسكين يتصور القضية على غير وجهها، ولو كان كلام كلنتون صحيح -وهو شيطان وليس بشيخ- لقال العلماء المعارضون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من قيادة السيارات وهم لم يقولوا ذلك أبداً، وإنما يستدلون بأمور معينة درءاً للفتنة وسداً للذريعة، وغير ذلك من المسوغات التي يذكرونها.
ومن مظاهر موالاتهم أيضاً: الرضا بأعمالهم والتشبه بهم، ومثال ذلك: الأعياد التي ستأتي بعد شهر والتي تسمى أعياد الكرسمس أو أعياد الميلاد، وبعدها أعياد رأس السنة، وتجد كثيراً من المسلمين ينتظرونها ويسأل بعضهم بعضاً: أين ستقضي فترة العيد؟ وبعضهم يهنئ بعضاً بقوله: كل سنة وأنت طيب، بل أحياناً يأتي أحدهم في صلاة الصبح ويقول للآخر: الصبح كل سنة وأنت طيب! في يوم الكرسمس أو في يوم شم النسيم، أو شم الفسيخ كما يسمونه.
يهنئ بعضهم بعضاً بعيد من أعياد الكفار، وفي هذا دلالة على تمييع الشخصية، وعدم وضوح الوجهة.
ومن مظاهر موالاتهم: البشاشة معهم والطلاقة، وانشراح الصدر لهم وإكرامهم وتقريبهم، وكون الإنسان يبش لهم وينشرح صدره لهم، وينطلق معهم ويكرمهم ويقربهم، هذا كله من مظاهر الموالاة.
ومن مظاهر الموالاة: معاونتهم ونصرتهم على ظلمهم، وهذه القضية يشغبون بها كثيراً في العراق؛ لأن أحد المسلمين قُتل لأنه متعاون مع الصليبيين الكفار، ولا فرق بين من يتعاون مع الأمريكان في العراق، ومن يتعاون مع اليهود في فلسطين؛ لأن يهود فلسطين والأمريكان كفار، والكفر ملة واحدة، فهؤلاء معتدون وهؤلاء معتدون، وهؤلاء ظلمة محتلون وهؤلاء ظلمة محتلون، لا فرق بينهم، فالمسلم الذي يتعاون معهم، ويدلهم على عورات المسلمين، ويتجسس عليهم لمصلحة هؤلاء الكفار الغاصبين، لاشك أن حكمه حكمهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
أيضاً من مظاهر الموالاة التي ينبغي أن ننتبه لها وننقلها لمن وراءنا: السكنى معهم في ديارهم وتكثير سوادهم، وقد روى أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله) وروى الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على(52/3)
ما يستفاد من الآية
من فوائد هذه الآية: تمام عدل الله، وأنه سبحانه لا يعذب أحداً قبل قيام الحجة عليه.
ومن فوائدها: التحذير من المعاصي، فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطاناً مبيناً.
ومن فوائدها: تحريم موالاة الكافرين.
قال ابن كثير رحمه الله: موالاتهم مصاحبتهم، ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة لهم.
ومن فوائد الآية: أن موالاة الكافرين دليل ظاهر وحجة بينة على النفاق.(52/4)
قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)
هذا هو النداء الثامن والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان، وهو في الآية الأولى من سورة المائدة: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
في القرآن ثلاث سور بدأت بهذا النداء: سورة المائدة، وسورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، وسورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1].
قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
يقول الإمام ابن عطية الغرناطي رحمه الله: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، ولمن عنده أدنى إبصار، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود، وتحليل بهيمة الأنعام، واستثناء ما تُلي بعده، واستثناء حال الإحرام فيما يصاد، وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
حكي أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم! اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال نعم: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحداً، وإني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين، ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في مجلدات، أي: أن سطرين من كتاب الله عز وجل تضمنت أحكاماً كثيرة، وصدق ربنا سبحانه حين قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115].
في هذه الآية ينادينا ربنا جل جلاله بوصف الإيمان: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) ثم يأمرنا ((أَوْفُوا)) وقد سبق أن هذا النداء إما أن يعقبه أمر أو نهي، كما قال ابن مسعود: إذا سمعت الله يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) فأرعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.(52/5)
أنواع العقود
قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا)) الوفاء: هو الإتيان بالشيء وافياً كاملاً لا نقص فيه، والعقود: هي العهود، وحكى شيخ المفسرين الطبري رحمه الله الإجماع على أن العقود هي العهود، والعقود معرفة بالألف واللام للاستغراق، فالمطلوب من المسلم أن يفي بالعقود التي أمر بالوفاء بها، وأولها: العقد الذي بينه وبين الله عز وجل، وهو الإقرار بألوهيته وربوبيته: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] هذا عهد وعقد بين كل إنسان وبين ربنا جل جلاله.
ثم العقد العام الذي أخذه الله على آدم حين أهبطه من الجنة، كما قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] فهذا عهد عام بيننا وبين ربنا جل جلاله مطلوب منا فيه أن نتقيد بالضوابط التي وضعها ربنا جل جلاله فيما أحل لنا وحرم علينا وفرض وأوجب فكل هذه عقود، فالصلاة عقد بينك وبين الله، والحج والصيام والصدقة وبر الوالدين وسائر الأوامر التي أمرت بها عقود بينك وبين الله.
ثم العقود التي بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (كان عليه الصلاة والسلام إذا بايع الناس يأخذ عليهم ستة أمور: ألا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه صلى الله عليه وسلم في معروف)، هذه عقود بيننا وبين النبي عليه والسلام، ثم قال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (فمن وفى منكم فأجره على الله -أي: وفى بهذه العقود فأجره على الله- ومن أصاب منها شيئاً فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).
والأمر بالوفاء بالعقود يشمل العقود التي بين المسلمين وغير المسلمين، كما في قول الله عز وجل: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2]، وقول الله عز وجل: ((وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)).
ويشمل كذلك العقود التي بين المسلمين، كعقود النكاح، والبيوع والمداينة، ونصرة المظلوم، وكل تعاقد وقع على غير أمر محرم فهذه كلها يجب الوفاء بها.(52/6)
معاني المفردات
قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) خطاب من الله لنا.
ثم قال سبحانه: ((أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)) أي: أن بهيمة الأنعام لكم حلال، والبهيمة: كل ما لا عقل له، وسميت البهيمة بهيمة لإبهام أمرها من جهة عدم عقلها، ونقص فهمها، وعدم تمام نطقها وتمييزها، وما إلى ذلك فالدواب بهائم، والطيور بهائم، ولكن العرف خص كلمة البهيمة بذوات الأربع من دواب البر أو البحر، فكل ما كان يمشي على أربع فهو بهيمة.
قول الله عز وجل: ((بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)) إضافة تفيد البيان، أي: ليست كل البهائم حلالاً لكم وإنما بهيمة الأنعام، وهي الأزواج الثمانية من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فمن الضأن اثنين الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين التيس والمعزة، ومن الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، هذه كلها حلال.
((أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) إلا ما يتلى عليكم: هي العشرة التي حرمها ربنا في الآية الثالثة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3]، فهذه العشرة حرام، ولو كانت من الإبل أو البقر أو الغنم لا يحل لكم أكلها.
((إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)) أي: إذا كنتم محرمين بالنسك بحج أو عمرة، ووصلتم إلى الحرم أو لم تصلوا فلا تستحلوا الصيد، والصيد هو: إمساك الحيوان الذي لا يألف، وهو غير الحيوانات الأليفة كالإبل والبقر والغنم، فهناك حيوانات لا تألف ولا يستطيع الإنسان أن يمسك بها إلا صيداً، إما باليد أو بوسيلة كالشباك، والحبائل، والرماح، والسهام، والكلاب، والبازات، هذه كلها وسائل صيد، ويمكن للإنسان أن يصيد بالكلب أو الباز أو السلاح أو الشباك أو بغير ذلك، فإذا كنتم محرمين فلا يحل لكم أن تصيدوا لا في الحرم، ولا في خارج الحرم.
ثم ختم الله عز وحل الآية بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)) أي: إن الله هو الذي يحكم وهو الذي يحلل ويحرم ويأمر وينهى ويشرع، كما قال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، وقال: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]، وغير ذلك من الآيات التي تثبت أن الحكم لله، قال أهل التفسير: حكم الله على نوعين: الأول: الحكم القدري الكوني: ما يقع في هذا الكون من حياة أو موت، ومن صحة أو سقم، ومن غنى أو فقر، ومن طاعة أو عصيان، ومن هدى أو ضلال كل ذلك بحكم الله الكوني القدري، وكله بخلقه وإيجاده كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]، هذا الحكم الكوني القدري يسري على الجميع.
الثاني: الحكم الشرعي الديني: كقول الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، هذا واجب وهذا ليس بواجب، فهذا كله لله عز وجل، ولا يملك أحد سواه أن يشرع للناس حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يشرع للناس بأمر الله، فتشريعه فرع عن تشريع رب العزة جل جلاله، وهو الذي قال: (ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله).(52/7)
ما يستفاد من الآية
هذه الآية اشتملت على فوائد منها: وجوب الوفاء بالعقود كلها ما كان لله وما كان للناس، وخاصة الشروط التي تكون في عقد النكاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج)، فالشروط التي تكون في عقد النكاح مطلوب من المؤمن أن يوفيها كاملة، ومن فوائد الآية: حل بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية، واستدل ابن عمر وابن عباس رضوان الله عليهم، وغير واحد من أهل العلم بهذه الآية على إباحة أكل الجنين إذا ذكيت أمه، فلو أنك ذبحت شاة ثم وجدت في بطنها جنيناً، فإن هذا الجنين لو خرج حياً فلا خلاف بين أهل العلم في أنه يذكى، لكن لو خرج ميتاً فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذكاة الجنين ذكاة أمه) أي: أن ذكاة أمه تسري عليه فيؤكل حلالاً.
ومن فوائد الآية: تحريم الأنواع العشرة من المطاعم التي ذكرها الله سبحانه في الآية الثالثة؛ لأنه قال: ((إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) وقد عرفنا أن المتلو هو تلك العشرة.
ومن فوائد الآية: أن كتاب الله عز وجل يفسر بعضه بعضاً فقول الله عز وجل: ((إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) فسر بعد ذلك بآيتين.
ومن فوائد الآية: تحريم الصيد حال الإحرام بالنسك، سواء أكان في الحرم أو في غيره طالما أن المسلم متلبس بالنسك فلا يجوز له صيد البر، قال الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96].
ومن فوائد الآية: إباحة الصيد بعد الإحلال؛ لأن الله عز وجل قال: ((وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)) وهذا منطوق الآية التي ستأتي إن شاء الله، فهي مفهومة من النص.
قال أهل العلم: كل شيء كان جائزاً، ثم حرم لموجب، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب؛ فالأمر للإباحة، كالبيع مثلاً فإنه حلال ولكنه يحرم بعد أن يصعد الإمام المنبر يوم الجمعة، بعد ذلك قال الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10]، فالأمر هنا للإباحة، كذلك قول الله عز وجل: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]، فجماع الزوجة في الحيض حرام، ثم قال الله عز وجل: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة:222]، فيكون الأمر ههنا أيضاً للإباحة.
ومن فوائد الآية أيضاً: إثبات الإرادة لله عز وجل.(52/8)
قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله)
النداء التاسع والعشرون من نداءات الرحمن لأهل الإيمان: قول ربنا تبارك وتعالى في الآية الثانية من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].
تعتبر سورة المائدة من أكثر سور القرآن التي اشتملت على النداء بوصف الإيمان، وأكثر سورة في القرآن نودي فيها المؤمنون بقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، فقد اشتملت على ستة عشر نداء، وقد مر في سورة البقرة أحد عشر نداء، وفي سورة آل عمران سبعة نداءات، وفي سورة النساء اثنا عشر نداء، وههنا في هذه السورة المباركة ستة عشر نداء.(52/9)
سبب نزول الآية
سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً يقال له: الحطم بن هند البكري من ربيعة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يدخل عليه قال النبي عليه الصلاة لأصحابه: (يدخل عليكم رجلٌ من ربيعة يتكلم بلسان شيطان)، جاء هذا الرجل وقد خلف خيله خارج المدينة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فلما عرض عليه الإسلام ودعاه إلى الله قال: انظروا لعلي أسلم، وأرى في أمرك غلظة -يقول ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام- ولي من أشاوره، سأذهب وأشاور القوم، ومن المعلوم أن الإنسان إذا آمن لا يقول: لي من أشاوره، ولو فهم الكلام على وجهه ما كان سيخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أرى في أمرك غلظة، (فلما خرج قال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد دخل بوجه كافر وخرج بقلب غادر، فمر بسرح من سرح المدينة) والسرح: الغنم التي خرجت للسوم، تطلب العلف والطعام، فساق هذا السرح وانطلق وهو يقول: قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياماً وابن هندلم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم يمدح نفسه، ويثني عليها، ثم أقبل هذا الرجل نفسه من العام الذي بعده حاجاً، وقد ساق هدياً، وهي تلك التي سرقها يهديها إلى الكعبة المشرفة، فأراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعرضوا له، وأن يستولوا على ما معه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)).
قال ابن عباس: يعني مناسك الحج، وقيل: بل المراد الصفا والمروة، وقيل: بل محارم الله عز وجل لا تنتهكوها.(52/10)
حكم القتال في الأشهر الحرم
قوله: ((لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)) أي: إن الشهر الحرام أنتم مأمورون بتعظيمه، فلا تعتدوا فيه على أحد ولا تبتدئوا أحداً بقتال، كما قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ} [البقرة:217]، والنبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قال: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جماد وشعبان)، وجمهور العلماء على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، ولم يستثن ربنا سبحانه شهراً حراماً من غيره، ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة، ولا خلاف بين أهل العلم في أن قتال الدفع في الشهر الحرام وغيره ليس داخلاً في النهي، فما يقوم به إخواننا في العراق أو فلسطين أو أفغانستان هو قتال دفع لا يشترط له أن يخرج الشهر الحرام، بل يجوز في الشهر الحرام كما يجوز في غيره، يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: وأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بقتال فإنه يجوز للمسلمين القتال دفعاً عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء.(52/11)
معاني المفردات
قوله تعالى: ((لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ)) أي: الأشهر الحرم، ((وَلا الْهَدْيَ)) أي: ما يهدى إلى البيت من النسائك، كالإبل والبقر، والغنم، فلا تتعرضوا له بسوء.
((وَلا الْقَلائِدَ)) القلائد: جمع قلادة وهو ما يجعل في عنق البهيمة من نعل أو لحاء شجر أو عروة مزادة أو غير ذلك دلالة على أنها نسك يتقرب بها إلى الله عز وجل، وقيل: المراد ذوات القلائد وهي البدن.
قال سبحانه: ((وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ)) أي: قاصدين البيت الحرام، فلا تستحلوا قتال من قصد بيت الله الحرام؛ لأن من دخله كان آمناً، وهذا كله قبل نزول سورة التوبة التي قال الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28]، ولذلك لما نزلت هذه السورة بعث أبو بكر رضي الله عنه -وكان أمير الحج- منادياً ينادي: ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، فحرم على المشركين دخول البيت الحرام.
((وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا)) (فضلاً) أي: التجارة، ((وَرِضْوَانًا)) كان المشركون يأتون إلى الحج يبتغون بزعمهم رضوان الله عز وجل، فالله عز وجل خاطبهم على ما يعتقدون.
قال سبحانه: ((وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)) أي: إذا فرغتم من النسك، وحللتم من إحرامكم فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد وذلك في قول الله عز وجل: ((وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا)).
قال سبحانه: ((وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ)) أي: لا يحملنكم، كما قال القائل: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي: حملت فزارة.
((شَنَآنُ)) مصدر على وزن طيران، وقرأ بعضهم: (شنْآن) على أنها صفة كعطشان، وسكران، وهي قراءة ابن عامر وشعبة وابن وردان.
وقوله: ((وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ)) أي: بغض قوم، ((أَنْ صَدُّوكُمْ)) أي: على أن صدوكم، وفي قراءة ابن كثير وأبي عمرو {إِنْ صَدُّوكُمْ} [المائدة:2] على أنها شرطية.
((أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا)) أي: أن هؤلاء الذين صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية لا يحملنكم صدهم إياكم على أن تقابلوا الفعل الحرام بفعل حرام، فالمسلمون لديهم آداب وقواعد وأحكام وتعاليم يقفون عندها.
قال الله عز وجل: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) أي: على فعل الخيرات، وكل ما فيه تقوى الله، وقال بعض المفسرين: البر فعل الخيرات، والتقوى ترك المنكرات، وقال ابن جزي المالكي رحمه الله: الفرق بين البر والتقوى: أن البر عام في فعل الواجبات والمندوبات وترك المحرمات، وفي كل ما يقرب إلى الله، والتقوى في الواجبات وترك المحرمات دون فعل المندوبات، والمقصود: أن البر أعم من التقوى فبينهما عموم وخصوص.
قال الله عز وجل: ((وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) والفرق بين الإثم والعدوان: أن الإثم ما كان ذنباً بين العبد وربه، والعدوان ما كان فيه تعد على الناس، فالإثم كالشرك وشرب الخمر، والعدوان ما كان فيه عدوان على الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم، فهذا يسمى عدواناً.
قال سبحانه: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) شديد العقاب لمن عصاه ولم يتقه.(52/12)
ما يستفاد من الآية
هذه الآية المباركة أفادت تحريم انتهاك شعائر الله عز وجل المكانية والزمانية، فنحن مأمورون بتعظيمها، فنعظم الأشهر الحرم، ونعظم بيوت الله، وأنبياء الله، وأولياء الله، وحرمات المسلمين، وكتاب الله سبحانه وتعالى، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم، فهذه كلها شعائر نحن مأمورون بتعظيمها {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وسواء كانت هذه الشعائر زمانية أو مكانية.
ثم أيضاً الأشهر الحرم لابد من تعظيمها، ومن عصى الله فيها فإثمه عظيم.
وأفادت الآية: حرمة التعرض لما أهدي إلى البيت الحرام، وحرمة التعرض لمن سعى إلى البيت الحرام بنسك حاجاً كان أو معتمراً.
وأفادت الآية كذلك: إباحة التلبس بالنسك، وهذا منصوص عليه في قوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198].
وأفادت الآية: أن العدل واجب مع الموافق والمخالف، كما قال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا} [المائدة:8] حتى مع من تبغضونهم وحتى مع من يخالفكم في الدين، فهذه هي العدالة المطلقة {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
وأفادت الآية كذلك: أن الظلم لا يقابل بمثله مما فيه معصية لله عز وحل؛ لأن الله لا يمحو الخبيث بالخبيث، ومثاله: لو أن إنساناً لا يتقي الله سب أباك وأمك فلا تكن مكافئتك إياه بأن تسب أباه وأمه؛ لأن هذا تعد على من ليس له ذنب فلا تسب أباه ولا تسب أمه.
وكذلك أفادت الآية: وجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان، ووجوب تقوى الله عز وجل على كل حال.(52/13)