قوافل العائدات
التوبة إلى الله عز وجل واجبة من كل ذنب، والأمر بالتوبة يشمل الرجل والمرأة، فالمرأة شقيقة الرجل، وما خوطب به الرجل فالمرأة مخاطبة به إلا ما خصه الدليل، فعلى المرأة أن تتوب إلى الله عز وجل، وأن لا تيأس من رحمته، فهو واسع المغفرة، ورحمته وسعت كل شيء.(1/1)
الحقيقة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيتها الغالية! أيتها الأخت المسلمة المؤمنة! حياك الله وبياك وسدد على طريق الحق خطاك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يجعلك آمنة مطمئنة، تقية نقية خفية.
أيتها الغالية! العباد يشرقون ويغربون، وتلهيهم لذات الدنيا وشهواتها، ثم في النهاية لا بد للعبد وللأمة -حتى يجدا الراحة والسعادة والطمأنينة- أن يعودا وينيبا ويرجعا إلى علام الغيوب، فإن الدنيا مهما أعطت ومهما تبهرجت ومهما تزينت، فلن يجد العبد فيها ولا الأمة طعماً للسعادة.
فالسعادة كل السعادة في العودة إلى الله، وفي الخضوع لأوامره، والانتهاء عن نواهيه تبارك وتعالى.
الباحثات عن السعادة كثيرات، والباحثات عن الراحة والطمأنينة كثيرات، لكن أيتها الغالية! أين هي السعادة؟ أين مصادرها؟ ظنت كثيرات أنها في المال، فبحثن عنها هناك فلم يجدنها، وظنت أخريات أنها في الشهرة، فبحثن عنها هناك فلم يجدنها.
جاء في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واد من الذهب لابتغى ثانياً، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).
وظنت كثيرات أن السعادة في الشهوات واللذات؛ فبحثن عنها هناك فلم يجدنها، فأين هي السعادة؟ وكيف الحصول عليها؟ وأين مكانها؟(1/2)
قصة فتاة عادت إلى الله عز وجل
أعطيني السمع أيتها الغالية! وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذن، هيا نستمع وإياك إلى هذه القصة من فتاة كانت تبحث عن السعادة، هيا نسمع كلمات من فتاة انضمت إلى قوافل العائدات، فنحن في درس بعنوان: قوافل العائدات، فهيا نبدأ الدرس بقصة تلك التي عادت وانضمت إلى قوافل العائدات.
تقول الفتاة: بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم، ولكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم، بحثت عنها -يعني: عن أختها- فوجدتها في مصلاها راكعة ساجدة رافعة يديها إلى السماء، هكذا حالها في الصباح وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل، تقول عن نفسها: كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي، أشاهد الفيديو والتلفاز بكثرة، لدرجة أنني عرفت به، تقول: لا أؤدي واجباتي كاملة، ولست منضبطة في صلواتي، -ومثلها كثيرات- وبعد ثلاث ساعات متواصلة على التلفاز أغلقته، والأذان يرتفع من المسجد المجاور، فإذا بأختي تناديني من مصلاها، فقالت: ماذا تريدين يا نوره؟ قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر، قلت: أوه! باقي ساعة على صلاة الفجر، والذي سمعتيه كان الأذان الأول، فنادتني بنبرة حنونة، وهكذا كانت قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش، وقالت: تعالى بجانبي يا هناء! وكنت لا أستطيع إطلاقاً رد طلبها، فكم كنت أشعر بصفائها وصدقها! قلت لها: ماذا تريدين؟ قالت: اجلسي، قلت: ها قد جلست، ماذا لديك؟ فقرأت بصوت عذب رخيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، وسكتت برهة ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، قالت لي: ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟ قلت: بلى، ولكن الله غفور رحيم، والعمر طويل، قالت: ألا تخافين -أخية- من الموت بغتة؟ أليست هند أصغر منك وقد توفيت في حادث سيارة، وفلانة وفلانة؟ أخية! الموت لا يعرف عمراً وليس له مقياس، فقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له سبب معين، ولا وقت معين، ولا مكان معين، يأتي بغتة ونحن لا نشعر، قالت: فأجبتها: إني أخاف من الظلام، ولقد أخفتيني من الموت، فكيف أنام الآن؟ كنت أظن أنك ستقولين: إنك وافقت على السفر معنا في هذه الإجازة، فقالت بصوت متحشرج اهتز له قلبي: لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً! أسافر ربما إلى مكان آخر يا هناء! وسكتت ثم قالت: الأعمار بيد الله، وأخذنا نمشي سوياً، ففكرت في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً، ولكن من أخبرها بذلك؟ أم أنها تتوقع هذا الشيء؟ قالت لي: ما لك تفكرين؟ هل تعتقدين أني أقول هذا لأنني مريضة؟ كلا، ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء.
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر وأنت إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة، ربما أكثر، ثم ماذا؟ لا فرق بيننا؛ فالكل سيرحل، وسنغادر هذه الدنيا إما إلى جنة وإما إلى النار، ألم تسمعي قول الواحد القهار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]؟ تصبحين على خير، هرولت مسرعة وصوتها يطرق أذني: هداك الله، لا تنسي الصلاة.
وفي الثامنة صباحاً سمعت طرقاً على الباب، وهذا ليس موعد استيقاظي، وسمعت صوت بكاء وأصوات، يا إلهي! ماذا جرى؟ قالوا لي: لقد تردت حالة نوره، وذهب بها أبي إلى المستشفى، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا سفر هذه السنة، مكتوب علينا البقاء هذه السنة في بيتنا، وبعد انتظار طويل إلى الواحدة ظهراً، اتصل أبي من المستشفى قائلاً: تستطيعون زيارتها الآن، فأتوا بسرعة، فانطلقنا إلى المستشفى وأمي تدعو لها.
إنها بنت صالحة مطيعة، لم أرها تضيع وقتها أبداً، فدخلنا المستشفى، ورأينا مناظر عجيبة! هذا يتأوه، وهذا يتألم، وهذا يصيح، وثالث: لا ندري هل هو من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة، ولا يعرف قيمة الصحة إلا من فقدها، فصعدنا درجات السلم، وكانت في غرفة العناية المركزة، فأخبرتنا الممرضة أنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها، ولم يسمحوا إلا بدخول شخص واحد فقط، فدخلت أمي ووقفت أنظر من نافذة الغرفة الصغيرة، فرأيت عينيها وهي تنظر إلى أمي واقفة بجوارها، خرجت أمي ولم تستطع إخفاء دموعها، ثم سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أمكث طويلاً فحالتها لا تسمح، فدخلت وقلت: كيف حالك يا نوره؟! لقد كنت بخير البارحة، فماذا جرى لك؟! أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: أنا الآن -ولله الحمد- بخير، فقلت: الحمد لله، لكن يدك باردة، وكنت جالسة على حافة السرير، ولامست يدي ساقها فأبعدت يدي، فقلت لها: آسفة إذا ضايقتك، قالت: كلا، ولكني تفكرت في قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30]، ثم قالت: عليك يا هناء! بالدعاء لي، فربما أستقبل عن قريب أول أيام الآخرة: سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت، وبكيت، ولم أع أين أنا، استمرت عيناي في البكاء، أصبح أبي خائفاً علي أكثر من نوره، لم يتعودوا مني هذا البكاء والانطواء في غرفتي، ومع غروب شمس ذلك اليوم الحزين، ساد صمت طويل في بيتنا، دخلت علي ابنة خالتي، ثم ابنة عمتي، وحصلت أحداث سريعة متتالية، كثر القادمون، واختلطت الأصوات، شيء واحد عرفته هو قولهم: نوره ماتت! لم أعد أميز من جاء، ولا أعرف ماذا قالوا، يا ألله! أين أنا؟ وماذا يجري؟ عجزت حتى عن البكاء، وأخبروني فيما بعد أن أبي ودع أختي الوداع الأخير بيده، وأني قبلتها، ثم لم أعد أتذكر إلا شيئاً واحداً: نظري حين نظرت إليها وهي ممددة على فراش الموت، وتذكرت قولها وهي تقرأ قوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] وعرفت عندها حقيقة، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30].
في تلك الليلة ذهبت إلى مصلاها المظلم وجلست فيه، تذكرت من قاسمتني رحم أمي، فنحن توءمان، وتذكرت من شاركتني همومي، وتذكرت من نفست عني كربتي، وتذكرت تلك التي كانت تدعو لي بالهداية، فكم ذرفت عيناها من الدموع في ليالٍ طويلة وهي تحدثني عن الموت والحساب، والله المستعان! هذه أول ليلة لها في قبرها، اللهم ارحمها، اللهم اغفر لها، اللهم نور لها قبرها، نظرت حولي فرأيت مصحفها وسجادتها، ورأيت الفستان الوردي الذي قالت لي: سأخبئه لزواجي، تذكرتها وبكيت، وبكيت على أيامي الضائعة، بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يرحمني ويتوب علي ويعفو عني، دعوت الله أن يثبتها في قبرها كما كانت تكثر أن تدعو، وفجأة سألت نفسي: ماذا لو كنت أنا الميتة؟ ويا أيتها الغالية! اسألي نفسك هذا
السؤال
ماذا لو كنت أنت الميتة؟ وما هو المصير؟ تقول: لم أبحث عن الإجابة من الخوف الذي أصابني، بكيت بحرقة، ثم انطلق صوت: الله أكبر، الله أكبر، هاهو أذان الفجر قد ارتفع، ولكن ما أعذبه هذه المرة! أحسست بطمأنينة وراحة، وأنا أردد ما يقوله المؤذن، لففت ردائي وقمت واقفة أصلي صلاة الفجر، صليت صلاة المودع كما صلتها أختي من قبل، وكانت آخر صلاة لها، ثم جلست أدعو وأقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم اقبلني في قوافل العائدات.(1/3)
ضرورة السعي للنجاة من العذاب
أختي الغالية! لا أظنك ترضين بجهنم يوم القيامة موطناً، ولا بلهيب النار متنفساً، فما بالك تلقين نفسك فيها راضية، أراك تعصين رب الأرض والسماوات، الذي إن شاء أبدل فرحك حزناً وهماً وعافيتك مرضاً وسقماً، وسعادتك شقاءً ونكداً، فهل تستطيعين رد ذلك؟! أم هل تملكين من الأمر شيئاً؟! أختي الغالية! يوم القيامة لن يقف معك أب ولا أم ولا صاحبة ولا قريب، بل ستقفين وحيدة ذليلة قد أرهقتك الذنوب والمعاصي، وكبلتك الخطايا والعثرات، تنظرين يمنة فلا ترين إلا روحاً وريحاناً، وتنظرين يسرة فلا ترين إلا لهب جهنم ودخانها، وفحيح عقاربها ودوابها، ألا فاختاري: إما الانضمام إلى قوافل العائدات، فحينها أبشري بروح وريحان ورب راضٍ غير غضبان، وأبشري حينها بعز الدنيا وسعادة الآخرة، وإلا فاسمعي النتيجة: صياح بأعلى الصوت: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66]، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29] ويزداد الصياح عند قولهم: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107] فلا مجيب لهم، وإنما الحال كما قال سبحانه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167].
أتدرين ما الداء والدواء والشفاء أيتها الغالية؟!(1/4)
تحتم المسارعة إلى التوبة النصوح
قال الربيع بن خيثم لأصحابه: الداء هو الذنوب، والدواء هو الاستغفار، والشفاء أن تتوب فلا تعود.
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8]، فما هي التوبة النصوح أيتها الغالية؟! قال عمر رضي الله عنه: التوبة النصوح: أن يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود.
وقال الحسن البصري في معنى التوبة النصوح: أن يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أن لا يعود إليها.
وقال أيضاً: التوبة النصوح: ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإظمار بأن لا يعود.
قال يحيى بن معاذ: الذي حجب الناس عن التوبة طول الأمل، وعلامة التائب والتائبة: إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس في كل همة.
قال محمد الوراق رحمه الله: قدم لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن بادر بها غلق النفوس فإنها ذخر وغنم للمنيب المحسن وقال الشاعر: من منا لم يخطئ قط ومن له الحسنى فقط إن أنت رمت محسناً رمت الشطط أخية! ليس العيب أن تخطئي، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما قال صلى الله عليه وسلم، لكن العيب كل العيب أن تصري على الخطأ، فتدبري هذه الدعوة العظيمة من الرحمن الرحيم، وهو يدعوك ويدعو الجميع إلى المسارعة إلى رحمته وجنته، قال سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134]، لكن هل هم معصومون عن الخطأ؟
الجواب
لا، فلا عصمة لأحد، فقد قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] فالإصرار على الذنب هو الهلاك، وهو سبب التعاسة والشقاوة، ولكن لما أخطأ العبد أو الأمة ولم يصرا على خطئهما كانت النتيجة: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137 - 138].
أيتها الغالية! ينقصنا الضمير الحي، النفس اللوامة التي إذا أذنبت لامت وعاتبت، فإن الإصرار على المعصية معصية أخرى، والقعود عن تدارك الفارط من المعصية إصرار ورضىً بها، وطمأنينة إليها، وذلك علامة الهلاك، وأشد من هذا كله المجاهرة بالذنب، مع تيقن نظر الرب جل جلاله من فوق عرشه، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(1/5)
تعريف التائبة
فمن هي التائبة؟ التائبة: هي المنكسرة القلب، الغزيرة الدمع، الحية الوجدان، القلقة الأحشاء.
التائبة صادقة العبارة، جمة المشاعر، جياشة الفؤاد، حية الضمير.
التائبة خالية من العجب، فقيرة إلى الرب.
التائبة بين الرجاء والخوف والنجاة والهلاك.
التائبة في قلبها حرقة، وفي وجدانها لوعة، وفي وجهها أسى، وفي دموعها أسرار.
التائبة لها في كل وقفة عبرة، إذا غرد الحمام بكت، وإذا صاح الطير ناحت، وإذا شدا البلبل تذكرت، وإذا لمع البرق اهتزت.
التائبة تجد للطاعة حلاوة وللعبادة طلاوة، وللإيمان طعماً، وللإقبال لذة.
التائبة تكتب من دموعها قصصاً، وتنظم من الآهات أبياتاً، وتؤلف من البكاء خطباً.
التائبة كالأم اختطفت طفلها من يد الأعداء، وكالغريق في البحر نجا من اللجة إلى شاطئ الأمان.
التائبة أعتقت رقبتها من أسر الهوى، وأطلقت قلبها من فكر المعصية، وفكت روحها من شباك الرذيلة، وأخرجت نفسها من بحر الخطيئة.
أخية! من واجب الناس أن يتوبوا.
ولكن ترك الذنوب أوجب.
والدهر في تركه عجيب.
ولكن غفلة الناس عنه أعجب.
والصبر في النائبات صعب.
ولكن فوات الثواب أصعب.
وكل ما يرتجى قريب.
والوقت من دون ذلك أقرب.(1/6)
تعريف التوبة وأقسام الناس فيها
التوبة من تاب يتوب، ومعناها: العودة والرجوع، التوبة: ترك الذنوب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فالاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لن أفعل.
أو يقول: فعلت لأجل كذا.
أو يقول: فعلت وأسأت وقد أقلعت، وتبت ورجعت.
ولا رابع لذلك، والأخير هو التوبة قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
أقسام الناس: قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11]، قسم الله العباد إلى تائب وظالم، وليس هناك قسم ثالث، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، فمن لم تتب لا أظلم منها؛ لجهلها بربها وبحقه عليها، وبعيب نفسها، وآفات أعمالها، ففي الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله، فوالله! إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة).
وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا يتوب في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وفي رواية: (أكثر من مائة مرة)، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور) مائة مرة، وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إلا قال فيها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي).
والتوبة -أخية- هي الرجوع إلى الله، ومفارقة صراط المغضوب عليهم والضالين، ولا تصح التوبة إلا بعد معرفة الذنب، والاعتراف به، وطلب التخلص من سوء عواقبه في الدنيا والآخرة.
فتعالي نقول بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور بسيد الاستغفار: (اللهم! أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، وأبوء لك بنعمتك علي، أبوء بذنبي- يعني: أعترف وأقر- فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).(1/7)
شروط التوبة
ولما كانت التوبة متوقفة على تلك الثلاثة الأشياء جعلت شروطاً لها، أما أولها فهو الندم، ولا تتحقق التوبة إلا به، فمن لم تندم على القبيح فذلك دليل على رضاها به، وإصرارها عليه، وفي الحديث الصحيح: (الندم توبة).
وثانيها: الإقلاع، فلا توبة إلا بترك الذنب أيتها الغالية.
وثالثها: العزم وهودليل على الصدق في التوبة.
ومن تمام التوبة تقديم الاعتذار بإظهار الضعف والمسكنة والانكسار، فقولي من صميم القلب: ما عصيتك جهلاً بك، ولا استهانة بحقك، ولا إنكاراً لاطلاعك، ولا نسياناً لوعيدك، ولكني ضحية الشيطان والنفس والهوى، وكلي طمع في مغفرتك، وكرمك، وسعة حلمك.
لسان الحال: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ إذ فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني أجن بزهرة الدنيا جنوناً وأقضي العمر فيها بالتمني وبين يدي محتبس ثقيل كأني قد دعيت له كأني(1/8)
علامات التوبة الصحيحة المقبولة
التوبة الصحيحة لها علامات تعرف بها، منها: أولاً: أن تكون الأمة بعد التوبة خيراً مما كانت عليه قبلها.
ثانياً: أنه لا يزال الخوف مصاحباً لها، فلا تأمن مكر الله طرفة عين، فخوفها مستمر إلى أن تسمع قول ملائكة الرحمة عند الموت: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32]، فهناك يزول الخوف والجزع.
ومن علامات التوبة الصحيحة المقبولة: انخلاع القلب، وتقطعه ندماً وخوفاً، وهذا على قدر الجناية وعظمها، فمن لم يتقطع قلبها في الدنيا حسرة وخوفاً على ما فرطت تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق، ورئي ثواب المطيعات، وعقوبة العاصيات، فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
قال عمر بن ذر: كل حزن يبلى، إلا حزن التائب عن ذنوبه.
ومن علامات التوبة الصحيحة أيضاً: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، كسرة أحاطت بالقلب من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، فلا شيء أحب إلى الله من هذه الكسرة والخضوع، والتذلل والإخبات، والانطراح بين يديه، والاستسلام له، وما أحلى قول الأمة في هذه الحال: اللهم إني أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، وأسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، إمائك سواي كثير، وليس لي رب سواك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبتها، ورغم لك أنفها، وفاضت لك عينها، وذل لك قلبها، أن تغفر لي وترحمني، فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم تجد ذلك في قلبها، فلتتهم تلك التوبة ولتراجع الحسابات، فما أسهل التوبة في اللسان! وما عالج أهل الصدق شيئاً أشق من التوبة الخالصة الصادقة.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحل ويرى خرير الدم في أوداجها متنقلاً من مفصل في مفصل ويرى وصول غدا الجنين ببطنها في ظلمة الأحشا بغير تمقل ويرى مكان الوطء من أقدامها في سيرها وحثيثها المستعجل ويرى ويسمع حس ما هو دونها في قاع بحر مظلم متهول امنن علي بتوبة تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول قال شقيق البلخي: علامة التوبة: البكاء على ما سلف، والخوف من الوقوع في الذنب، وهجران إخوان السوء، وملازمة الأخيار.
اللهم! اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(1/9)
سعة رحمة الله عز وجل وعفوه
وهذا نداء من غافر الذنوب وقابل التوب، فاسمعي وتدبري وتأملي، قال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:54 - 61].
فهل سمعت؟ وهل فهمت؟ فالله ينادي من؟ بأحب الأسماء، وبألطفها ينادي الذين نسوه، والذين تجرءوا عليه، ثم يفتح لهم باب الرحمة، ولا يقنطهم منها.
فيا أمة الله! يا من تواتر إحسان الله إليك؛ حيث أزاح عللك، ومكنك من التزود إلى جنته، وبعث إليك الدليل، وأعطاك مؤنة السفر، وما تتزودي به، وما تحاربي به قطاع الطرق عليك، فأعطاك السمع والبصر والفؤاد، وعرفك الخير والشر، النفع والضر، وأرسل إليك رسوله، وأنزل إليك كتابه للذكر والفهم والعمل، وأعانك بمدد من جنده الكرام يثبتونك ويحرسونك، ويحاربون عدوك، ويطردونه عنك، ويريدون منك أن لا تميلي إليه ولا تخالطيه- أي: الشيطان الرجيم- وهم يكفونك مؤنته، وأنت تأبين إلا مظاهرته عليهم، قال عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].(1/10)
غنى الله عز وجل عن خلقه وحاجتهم إليه
أمة الله! أمرك الله بشكره، لا لحاجته إليك، ولكن لتنالي به المزيد من فضله، فجعلت كفر نعمه والاستعانة بها على مساخطه شعاراً لديك، أمرك بذكره ليذكرك بإحسانه عليك، فجعلت نسيانه ونسيان أوامره هيناً عليك، تشكين من يرحمك إلى من لا يرحمك، وتتظلمين ممن لا يظلمك، وتدعين من يعاديك ويظلمك، وإن أنعم عليك بالصحة والعافية والمال والجاه استعنت بنعمه على معاصيه!(1/11)
عظيم فضل الله عز وجل وإحسانه إلى خلقه
أمة الله! دعاك الرحمن إلى بابه، فما وقفت عليه، ولا طرقته، ثم فتحه لك فلم تلجيه، أرسل إليك رسوله يدعوك إلى دار كرامته، فعصيت الرسول وقلت: لا أترك ما أراه لشيء سمعت به، ومع هذا فلم يقنطك من رحمته، بل قال: متى جئت قبلناك، إن أتيت ليلاً قبلناك، وإن أتيت نهاراً قبلناك، إن تقربت مني شبراً تقربت منك ذراعاً، وإن تقربت مني ذراعاً تقربت منك باعاً، وإن مشيت إلي أتيتك هرولة، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشركي بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.
من أعظم مني جوداً وكرماً؟! عبادي يبارزونني بالعظائم وأنا أكلؤهم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم؛ أخلق ويعبد غيري! أرزق فيشكر سواي! خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد! أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويبتعدون عني بالمعاصي، وهم أفقر شيء إلي! فاسمعي النداء يا رعاك الله: من أقبلت إلي تلقيتها من بعيد، ومن أعرضت عني ناديتها من قريب، ومن تركت لأجلي أعطيتها المزيد، ومن أرادت رضاي أردت ما تريد، ومن تصرفت بحولي وقوتي ألنت لها الحديد، أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم، فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين، وإن لم يتوبوا إلي فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب، من آثرتني على سواي آثرتها على سواها، الحسنة عندي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة عندي بواحدة، فإن ندمت عليها واستغفرتني غفرت لها على ما كان منها ولا أبالي، أشكر اليسير من العمل، وأغفر الكثير من الزلل، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي، وعفوي سبق عقوبتي، وأنا أرحم بعبادي من الوالدة بولدها، وأنا أفرح بتوبة التائبين وعودة العائدين.
جاء في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته في أرض مهلكة دوية، عليها طعامه وشرابه، فطلبها حتى إذا أيس من حصولها نام في أصل شجرة ينتظر الموت، فاستيقظ فإذا هي على رأسه، وقد تعلق خطامها بالشجرة، فلله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته)، وهذه فرحة إحسان وبر ولطف لا فرحة محتاج إلى توبة عبده.
قال عز وجل: {أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:16 - 17]، وقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم).
فهيا أخية! بعد هذا النداء العظيم انضمي إلى قوافل العائدات، وهبي من غفلتك، وانفضي تراب زلتك، وشمري عن همتك، واسمعي النداء: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31].(1/12)
من أخبار التائبات
تقول إحداهن: كان الدين هامشياً في حياتي، مع أنني كنت أحس أن الإسلام شيء عظيم، ولكني كنت تائهة، كنت أصلي الصبح فقط، وبقيت الوقت كنت مشغولة بأعمالي في الوسط الفني، كنت أشعر بالملل والضيق من سهرات الوسط الفني مع أنني كنت في ذروة النجاح، فبدأت أحرص نوعاً ما على الصلاة، حتى كانت ليلة كنت في بيت صديق لقضاء ليلة رأس السنة - تأملي الضياع أيتها الغالية- ووسط الصخب والموسيقى والضجيج، سمعت صوتاً هزني هزة عنيفة، سمعت أذان الفجر، ومنادي الله يناديني، من يومها بدأت بالانسحاب من هذه اللقاءات وهذه الاجتماعات العفنة، أقبلت على كتاب الله أقرءوه وأنظر في تفسيره، كنت أجلس عند شباك حجرتي أتطلع إلى السماء، وأجد في ذلك متعة لا حد لها، لقد وجدت الشيء المفقود في حياتي، وجدت الإيمان، ووجدت في الإيمان الراحة مهما كانت الهموم، تقول: أقولها عن تجربة، فالقلب عندما يرتبط بالله يختفي منه القلق والضيق والحزن، ويحل مكانه الهدوء والراحة والاطمئنان، وراحة البال، كنت في الوسط الفني دائمة القلق، أحس أني أجري ألهث خلف سراب، زائدة العصبية مضطربة، الجو حولي مليء بالعفن والكذب، فأنقذني الله، وأخرجني من الظلمات إلى النور، قالت: أنا أعيش حالياً أعظم حب في حياتي، أحب الله بحق، وأناجيه، وأكلمه وأدعوه، جربت الحب الذي يقولونه وخضت في بحاره، ووجدت أن أعظم حب هو حب الله تبارك وتعالى.
نعم أخية! من وجدت الله فقد وجدت كل شيء، ومن فقدت الله فقد فقدت كل شيء، قال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
والأخرى تقول: كنت أستعرض جمالي أمام العيون الحيوانية بلا حرمة تحت مسميات التحرر والتمدن، كنت في غيبوبة عن الإسلام، لا أعرف من القرآن إلا رسمه، ومن الإسلام إلا اسمه، رغم المال والجاه إلا أنه كان في داخلي خوف من شيء ما، كنت أخاف من مصادر الغاز والكهرباء، وكنت أظن أن الله سيحرقني جزاء ما أنا فيه من المعاصي، كنت أقول في نفسي: كيف أنجو غداً من عذاب الله؟ تقول: عندما تزوجت ذهبت مع زوجي إلى فرنسا لقضاء ما يسمى بشهر العسل، ثم ذهبنا إلى كنيسة -اسمعي ضياع أبناء المسلمين والمسلمات- ولما أردت الدخول أجبروني على ارتداء ما يستر جسمي؛ احتراماً لأماكنهم، فقلت في نفسي: سبحان الله! هكذا يحترمون دياناتهم المحرفة، فما بالنا نحن لا نحترم ديننا؟ فقلت لزوجي: أريد أن أصلي شكراً لله على نعمته، فأحضرت معي إلى الغد ملابس طويلة وغطاء للرأس، ودخلت المسجد الكبير بباريس، فأديت الصلاة، وعند باب المسجد عندما خرجت خلعت الحجاب وغطاء الرأس والملابس الطويلة، وهنا كانت المفاجأة: اقتربت مني فتاة فرنسية لن أنساها طوال عمري، ترتدي الحجاب، أمسكت يدي برفق، وضربت على كتفي، وقالت لي بصوت منخفض: لماذا تخلعين الحجاب؟ ألا تعلمين أنه أمر الله؟ كنت أستمع إليها بذهول، حاولت أن أتفلت منها، لكن أدبها وحوارها أجبراني على الاستماع، سألتني: تشهدين أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ قلت: نعم، قالت: تفهمين معناها؟ قالت لي: إنها ليست كلمات تقال باللسان أخية! لا بد من التصديق وإتباع التصديق بالعمل، لقد علمتني الفتاة أقسى درس في حياتي، لقد اهتز قلبي لكلماتها، قالت لي وهي تنصرف: انصري هذا الدين أخية! ونصر هذا الدين لا يكون إلا باتباع الأوامر وترك النواهي والزواجر، تقول: خرجت من المسجد وأنا غارقة في التفكير، بالليل صحبني زوجي إلى مكان إباحي يتراقص فيه الرجال مع النساء شبه عرايا، يفعلون كالحيوانات، بل الحيوانات تترفع عن أفعالهم، تقول: كرهت نفسي الغارقة في الظلام، أردت الخروج بسرعة، وطلبت العودة إلى دياري وبلادي، ومنها بدأت رحلتي مع قوافل العائدات، تقول: لم أكن أعرف الطمأنينة والسكينة إلا كلما صليت وقرأت القرآن، هجرت الجاهلية رغم رفض زوجي ومن حولي، كلهم يريدونني أن أبقى في الظلام، ولكني لا أريد أن أرجع إلى الظلام بعد أن وجدت النور والحياة مع الله، ثم هدى الله زوجي بدعائي وتضرعي، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وثالثة تقول: سبقتني صاحبتي في ترك الفن والضياع، وبقيت مترددة، فأخذت المصحف يوماً ففتحته فوقعت عيني على قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] فأغلقته، ثم فتحته مرة ثانية فوقعت عيني على قوله تعالى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:25 - 28] فأغلقته ثم فتحته مرة ثالثة فوقعت عيني على آية جعلتني أصرخ من الأعماق، إنها قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7] فقمت وأخرجت طراحة بيضاء ولبستها، ونظرت في المرآة فرأيت نوراً قد أحاطني، شعرت أنني في معية الله، وأنه سبحانه قريب مني، وأني قريبة منه، رفعت سماعة الهاتف واتصلت على صاحبتي أبشرها، قلت لها: ادعي لي بالثبات، فلقد انضممت إلى قوافل العائدات، تقول: أشعر أني قريبة منه وأنه قريب مني.
نعم أليس هو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]؟ قريب أسمع وأجيب، وأعطي البعيد والقريب، وأرزق العدو والحبيب، قريب يغيث اللهفان ويشبع الجوعان ويسقي الظمآن، ويتابع الإحسان، قريب عطاءوه ممنوح، وخيره يغدو ويروح، وبابه مفتوح، حليم كريم صفوح.
قريب يدعوه الغريق في البحار، والضال في القفار، والمحبوس خلف الأسوار، كما دعاه عبده في الغار.
قريب فرجه في لمحة البصر، وغوثه في لفتة النظر، المغلوب إذا دعاه انتصر، اطَّلع فستر، وعلم فغفر، وعبد فشكر، قريب جواد مجيد، لا ضد له ولا نديد، أقرب إلى العبد من حبل الوريد، على كل نفس قائم وشهيد، محمود ممدوح حميد.
قريب دعا المذنبين للمتاب، وفتح للمستغفرين الباب، ورفع عن أهل الفجأة الحساب.
الله ربي لا أريد سواه هل في الوجود حقيقة إلا هو الشمس والبدر من أنور حكمته والبر والبحر من فيض عطاياه الطير سبحه والوحش مجده والموج كبره والحوت ناجاه والنمل تحت الصخور الصم قدسه والنحل يلهج حمداً في خلاياه والناس يعصونه جهراًً فيسترهم والعبد ينسى وربي ليس ينساه.(1/13)
ضرورة الحذر من شباك الهواتف والمكالمات
أخية! هل سمعتي عن ضحايا الهواتف والمكالمات، إنها معاصٍ وفضائح وآهات ليلية، وزفرات وأنات، حب وهمي، ووعود كاذبة، والنهاية فضائح.
تقول فتاة مسكينة: اتصل بي شاب في منزلنا، فخاطبني برقة، فرققت له، ترددت في البداية في الكلام معه، ولكن خطوات الشيطان تبدأ بخطوة، فأصبحت أنتظر هاتفه ومواعيده، ودارت بيننا أحاديث، ثم تحولت إلى قضية حب ووعود وأوهام، حتى كانت ليلة طلب مني أن أخرج معه؛ لأننا سوف نتزوج كما زعم ونتفق على الزواج، قال لي: ذرينا نتقابل حتى نرى بعضنا قبل الخطبة، فإن أعجبنا ببعضنا فبها، وإلا فكأن شيئاً لم يكن، فرفضت بشدة، وأخذ يصر على ذلك وهو يقول: إنه أمر يعين على الوفاق في الزواج، أصبحت في قلق وحيرة، هل أخلع ثوب الحياء، وأرمي العفاف؟ كلما اتصل طلب الرؤية والمقابلة، وأنا أعتذر، أصبحت أعيش في حيرة واضطراب، أصبحت أخاف أن يعلم والدي أو أخي، أصبحت أخاف من نظرات المجتمع، وقبل ذلك كله الخوف من الله سبحانه وتعالى، في الصباح ذهبت إلى إحدى معلماتي في المدرسة فأخبرتها بقصتي وأنا أبكي، فقالت لي: لا عليك، وهدأت من خاطري، وقالت لي: الأمر بيدك والحبل ممدود معك، فاحذري من مثل هذا، احذري أن يسلبك العز والشرف، ويعطيك الذل والعار، احذري أن تستبدلي الجنة بالنار، تخيلي لو أنك ركبت معه مرة ثم مرة ثم مرة فكيف ستكون النتيجة، لا تغتري بحال أولئك الذئاب الأخباث اللئام، فإنهم وإن زينوا لك لين الجانب فإنهم يرتدون جلود الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، إنها قلوب خلت من مراقبة الديان، وانساقت إلى سبيل الهوى والشيطان، فما قيمة الفتاة إذا ذهب شرفها وحياءها؟! أسألك بالله: ما المصير لو علم أهلك؟! كم من شابة قتلها أبوها، وأخرى قتلها أخوها! كم من شابة أصابها الجنون وذهب عقلها! كم من شابة طعنت نفسها! ما السبب؟ إنها سماعة الهاتف.
تقول المسكينة: بكيت وبكيت، وقلت لمعلمتي: لقد أيقظتني من سبات عميق ومن غفلة عظيمة، رفعت الفتاة يدها إلى السماء قائلة: رباه! عفوك، رباه! حلمك ومغفرتك يا أرحم الراحمين! رباه! اقبل توبتي واجبر كسرتي، وأجب دعوتي.
اللهم! اقبلها في قوافل العائدات.
أخية! لا تكوني ساجذة ولا غبية، فاسمعي هذا الشاب الذي عاش يطارد الفتيات وله علاقات وعلاقات، فلما أراد الزواج قال لصاحبه: ابحث لي عن أسرة لديها فتيات محترمات، فقال له صاحبه: وأين اللاتي كنت تعرفهن؟ فقال - اسمعي ما قال-: هؤلاء غير محترمات، هؤلاء لا يصلحن للزواج، فالواحدة منهن إن كانت خرجت معي مرة فستخرج مع غيري مرات!! فاحذري -أيتها الغالية- أن تكوني فريسة لهم.
والحل: انضمي إلى قوافل العائدات.(1/14)
بعض الأمور التي تعين على التوبة والاستمرار عليها
إليك أخيراً بعض الأمور التي تعين على التوبة والاستمرار عليها.
قيل: الصادق هو الذي يثبت على توبته، فأخلصي النية، واجتهدي في الأعمال الصالحة، واستشعري قبح الذنب وفداحته، وابتعدي عن مكان المعصية، وأتلفي الأدوات المحرمة من أشرطة ومجلات، وابحثي عن رفقة صالحة، وداومي قراءة القرآن وخاصة الآيات المخوفة والمرققة للقلوب، وتذكري أن العقوبة قد تكون معجلة، وداومي ذكر الله حتى يطمئن القلب، قولي: إليك إله الخلق أرفع رغبتي وإن كنتُ يا ذا الجود والمن مجرما ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم احفظ نساءنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اجعلهن تقيات نقيات صفيات، حافظات للغيب بما حفظ الله.
اللهم من أرادنا وأرادهن بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره.
اللهم اجعلهن ممن يستمعن القول فيتبعن أحسنه.
اللهم احفظهن من بين أيديهن ومن خلفهن، اللهم! احفظهن في دينهن ودنياهن يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة! وأستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/15)
من حال إلى حال
إن الله تعالى يقلب الأمور من حال إلى حال، فكل يوم هو في شأن، فكم من إنسان كان عاصياً متمرداً، ثم غيّر الله تعالى حاله إلى الخير والطاعة، وكم من إنسان كان غافلاً ساهياً لاهياً، فنبهه الله من غفلته، فصار من الذاكرين الشاكرين، فسبحان من بيده مقاليد الأمور يصرفها كيف يشاء!(2/1)
الشباب وأثره في الصلاح والإصلاح
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى، ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.
أيها المسلمون: ليس الهدف من مثل هذه الاجتماعات هو ضياع الأوقات، ولا التسلية، وإنما الهدف منها هو التعاون على البر والتقوى، وأن يقال لنا حين نقوم من هذا المجلس: (قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات).
والهدف منها أن الصالح يزداد في صلاحه، وأن الضال يصحح مساره وينتبه لنفسه قبل أن تزل الأقدام، وقبل أن يطلب الرجوع إلى الحياة فلا يستجاب له.
إن الهدف من هذا اللقاء هو كيف ننجو جميعاً من عذاب الله، وكيف نفوز بجناته جنات النعيم، والهدف أن نسلك جميعاً طريق الهداية وطريق الاستقامة الذي جعله الله صراطاً مستقيماً، ولو كان منحرفاً يمنةً أو يسرةً لكان في سلوكه صعوبة، لكن من فضل الله علينا وعلى الناس أن جعل الصراط مستقيماً، يقول ابن مسعود: (خط لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، وخط على جوانبه خطوطاً، وقال: هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وهذا صراط الله مستقيماً، ثم قرأ قوله جل في علاه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153])، فالعمر فرصة إما أن يستغل في الطاعات، وإما أن يستغل في المعاصي والمنكرات، فالإنسان يعيش عمراً واحداً، وهو مطالب أن يستغل هذه الساعات والدقائق واللحظات فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، والإنسان العاقل هو الذي يعرف قيمة الوقت، ويعرف قيمة الحياة.
هذه مقدمة بين يدي الآيات والأحاديث النبويات والقصص التي أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يترك بها أثراً علي وعلى كل من يسمعها.
إن مرحله الشباب مرحلة مهمة من مراحل العمر، وما يكون بعد الشباب من العمر إنما ينبني على الشباب، فهي أهم مرحلة من مراحل العمر، ولعلك تلاحظ هذا في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن العمر إجمالاً، ثم يسأل عن الشباب خاصة)، فليس الشباب قطعة من العمر؟ بلى هو قطعة من العمر، إذاً: فلماذا السؤال عن مرحلة الشباب خاصة دون غيرها؟
و
الجواب
لأنها أحلى مراحل العمر وأقواها، ويستطيع الشاب في فترة شبابه أن يعطي مالا يستطيع أن يعطيه في فترات قادمة، ولا في فترات ماضية، إن الكوكبة التي كانت حول النبي صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وما قام هذا الدين إلا على أكتاف الشباب، وما استطاعت هذه الأمة أن تسود الأرض، وأن تغير معالم الأرض إلا بعمل الشباب وهممهم، لكن أي شباب نعني؟ إننا نعني الشباب الذي تربى على القرآن، الشباب الذي تربى على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الشباب الذي اختار قدوته محمداً عليه صلوات ربي وسلامه وأصحابه، اختار أولئك الرجال وسار على دربهم، يقول الناظم: لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم قد دراه أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يُصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق تذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح ففي هذه الأماكن المباركة يصنع الأبطال والرجال، فالعمر فرصة، وكل يوم يمضي يقربنا من النهاية، و (الكيَّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).
يقول الحسن البصري: إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا رصيد من الحسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله، قال: كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
قال الله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، إن سبب صلاح الشباب هم الشباب أنفسهم، وسبب ضياع الشباب هم الشباب أنفسهم.(2/2)
الصحبة الصالحة ودورها في استقامة صاحبها
قال الله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29]، فالصحبة لها دور كبير في استقامة الشاب وصلاحه وهدايته، فما مررنا على سجن من السجون، أو إصلاحية من الإصلاحيات، وتكلمنا عن الشباب وعن سبب مآسيهم إلا ذُكر لنا أن سبب الضياع الذي يعيشه الشباب هم الشباب أنفسهم، فكم زين شاب لشاب المعصية، فلما زلت الأقدام قال: إني بريء منك، وكم تخلى صاحب عن صاحبه بعد أن وقع الفأس على الرأس.
إن أحوج ما يحتاجه الشباب اليوم هي الصحبة والرفقة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.(2/3)
قصة شاب تائب
شاء الله في علاه أن نجتمع بإنسان في منطقة عمل، وهو ينتمي إلى تيار وأنا أنتمي إلى تيار آخر، فليس هناك أي نقطة توافق بيني وبينه، فإما أن يؤثر علي وإما أن أؤثر عليه، لكن دائماً الحق يعلو ولا يعلى عليه، والمفترض أن صاحب الاستقامة هو الذي يؤثر ولا يؤثر عليه الآخرون، فهو من جدة وأنا من الظهران، ونعمل في نفس العمل في منطقة جيزان، فأمرنا أنا وهو بالاجتماع هناك حتى نؤدي هذا العمل، فاجتمعت به ومنظري يختلف عن منظره، وتوجهاته تختلف تماماً عن توجهاتي، وأفكاره تختلف تماماً عن أفكاري، فقلت في نفسي: كيف ستكون هذه المدة مع هذا الشاب؟ وقال هو في نفسه: ثلاثة أشهر فترة عمل مع هذا، لا أدري كيف ستمر الأيام وتنقضي! فقد جمعنا مكتب واحد، ومكان نوم واحد، وسيارة واحدة نذهب ونجيء معاً.
وكنت لا أقبل بالصلاة إلا في المسجد، وتجد في بعض المؤسسات يجعلون غرفة مصلى تقام فيها الصلاة، مع أن المسجد قريب منهم، فإذا لم يتعود الإنسان أن يحث الخطا إلى المساجد فما قيمة هذه الأقدام؟! وإن لم تتعود أن تخطو وتسير إلى المسجد في الجمعة والجماعات فما قيمة هذه الأقدام؟! وأول صلاة حضرت وأنا وإياه في المكتب قلت له: هيا نصلي، قال: الغرفة قريبة، قلت: لا، أنا لا أصلي في الغرف، أنا لا أصلي إلا في المسجد، قال: كلهم يصلون في الغرفة، قلت: أنا لا أصلي إلا في المسجد، فإن المسجد لا يبعد أكثر من مائة متر أو مائتي متر، فكيف نستثقل الخطا إلى المساجد؟! إنك ما خطوت لله خطوة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، وستعرف هذا يوم توضع الموازين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة)، فأجر الخطوات إلى الطاعات لا يضيع أبداً، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
فسبحان الله! بدأ هذا الشباب يخطو معي إلى المسجد في كل صلاة، وبدأ يتعود على الذهاب إلى المسجد، ولأنه يسكن معي في غرفة واحدة فهو مضطر إلى أن يقوم لصلاة الفجر، وسبحان الله ما أثقل صلاة الفجر عليه! فقد كان يستغرق وقتاً طويلاً حتى ينتبه من رقدته وغفلته، فكم هي ثقيلة الطاعات على ضعاف الإيمان، وكم هي سهلة على من سهلها الله عليه، فبدأ يتعود على الاستيقاظ لصلاة الفجر، وبدأ يتعود على الذهاب إلى المسجد، وبدأت حياته تتغير، وقد كان صاحبي على موعد مع حياة جديدة بدايتها انطلاقة من المسجد.
وهكذا ينطلق الشباب مع الهداية من المساجد، واعلم أن أي هداية ليس مبناها المسجد فليست بهداية حقيقية، وأي هداية لا تربطك ببيت الله فليست بهداية حقيقية: لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح وقد كنا في شهر شوال بعد رمضان، ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن يتبع رمضان بست من شوال، (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر)، فهذه الطاعة أيام معدودة: ستة أيام، والبعض قد يصوم شهراً كاملاً ثم يستثقل هذه الأيام الستة، وقد كنا في أحد المكاتب فقال قائل في ذلك المكتب: اليوم تفطرون معنا، فقلت: لم نبدأ الصيام بعد.
وسنبدؤه غداً، فقال صاحبي: صيام أيضاً! ذهاب إلى المسجد، واستيقاظ لصلاة الفجر، والآن تريد أن تلزمنا بالصيام أيضاً! قلت: وما الذي يؤخرك عن الصيام؟ أما صمت رمضان؟ قال: بلى، قلت: إذاً ما الذي يمنعك أن تنال مثل هذا الأجر، {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة:42].
فسبحان الله نستثقل أمور الطاعات ولا نستثقل أمور الدنيا! متى سنعرف أننا لم نعط العمر إلا لنصرفه في الطاعات والقربات، والتقرب من الله رب الأرض والسماوات.
فبدأنا الصيام من اليوم الثاني، ولك أن تتخيل منظر صاحبي وهو يستيقظ قبيل الفجر بنصف ساعة حتى يشرب كأساً من الحليب، ويأكل شيئاً من الطعام؛ استعداداً للصيام! فبدأ صاحبي يتعود على إقامة الصلاة، وعلى التقرب إلى الله بالقربات: من صيام، وقراءة قرآن، فأتممنا من الصيام خمسة أيام، ثم جاءتنا مهمة عمل إلى جدة، فاضطررنا إلى السفر وقطعنا الصيام، فتبقّى علينا صيام يوم واحد، فقلت: نصومه إن شاء الله إذا رجعنا من السفر، فمكثنا في جدة ما شاء الله أن نمكث، ثم رجعنا فإذا بصاحبي يذكرني، ويقول: يا شيخ! باقي علينا صيام يوم، فقلت: سبحان الله! الذهاب إلى المسجد، والذهاب إلى الطاعات، والانشغال بالقربات غيرت من حياة صاحبي، وهذا ما يحتاجه الشباب اليوم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وفي تلك المنطقة ارتبطنا بكلمات ودروس ومحاضرات، فبدأ صاحبي يقول لي: إذا ذهبت إلى المساجد بعد نهاية الدوام للكلمات وللقاء الشباب فإني سأراففك، فقلت: أبشر بالذي يسرك، والله! لن أخطو خطوة إلّا وأنت معي.
كنا ننتهي من الدوام، وأحظر ثيابي معي، وأغير في مكان العمل، ثم ننطلق إلى أقرب مكان يكون لنا فيه ارتباط، فبدأ صاحبي يخالط الأخيار والصالحين، فرأى منظرهم يختلف، ورأى أن كلامهم يختلف ورأى أن سيماهم تختلف عن الآخرين، فكلامهم ومظهرهم كله مرتبط بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)، فكم هي الأوامر التي تخالف اليوم، وكم هي السنن التي تهمل في حياة الناس اليوم، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
ومع الوقت قال لي صاحبي: أنا أريد أيضاً أن أجهز نفسي قبل الذهاب إلى الكلمات والدروس والمحاضرات، فألبس ثياباً نظيفة، وأريد أن أتعطر وأتطيب حتى أخالط الآخرين، فقلت: لك ما تريد، فصار يحضر ثيابه، ثم نغير ونبدل وننطلق إلى أقرب مكان يكون لنا فيه ارتباط، وكان ذلك في قرية من القرى، وكان الارتباط عندنا من صلاة المغرب حتى صلاة العشاء، ثم أصروا عليّ وقدموني لصلاة العشاء، وعندما كنت أسوي الصفوف إذا بصاحبي في ميمنة الصف يخط ثوبه في الأرض شبراً، ورأيته يكبكب ثوبه ويرفعه إلى ركبته، فلما انتهينا وانطلقت أنا وإياه راجعين إلى مكان إقامتنا قال لي بصريح العبارة: يا شيخ! ثيابي تفشل، هكذا بالحرف الواحد، قلت: غيرِّ، من الذي يحول بينك وبين التغيير، فغير صاحبي ثيابه، وغير نمط الحياة رأساً على عقب.
وبعد أيام وجدته يحمل في جيبه مشطاً صغيراً، وكل يوم يمشط لحيته المكونة من شعيرات صغيرة لا تكاد تظهر، فقلت له: لماذا هذا المشط؟ قال: أريد أن تكون لي لحية أحسن من لحيتك، وكان يسألني: ماذا يقولون في دعاء الاستفتاح؟ وماذا يقولون في السجود؟ وماذا يقولون في الركوع؟ سبحان الله! عمره على وشك الثلاثين ولا يعرف من الدين شيئاً، وهكذا كثير من الناس يعيشون ولا يعرفون من دينهم شيئاً، فأخذ صاحبي يتعلم كل يوم أموراً جديدة تحيي قلبه، وتغير في حياته، وبعد كل صلاة يخرج الناس من المسجد وهو يجلس في مصلاه، فيفتح حصن المسلم الذي فيه أذكار الصلاة، وأذكار المساء، وأذكار الصباح، وأذكار النوم، وبدأ صاحبي يتعلم كيف يكون الاتصال بالله جل في علاه، فالله يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، ويقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فبدأت حياة صاحبي تتغير رأساً على عقب، وبدأ صاحبي حياة جديدة شعارها العودة إلى الله، شعارها هداية واستقامة ودعاء وتضرع إلى الله، وسؤال الثبات على هذه الاستقامة، فقد جمعتنا غرفة واحدة، فكم من ليلة استيقظ في ساعات الليل الأخيرة فأجده فارشاً سجادته وصافاً قدميه بين يدي الله، لقد جرب صاحبي طعم الطاعة، وقد سألته بعد حين وقلت له: كيف كنت تعيش؟ قال: والله لقد كنا أمواتاً فأحيانا الله، وإن الحياة من قبل لا قيمة لها ولا طعم ولا لون، فقد كنا كالأنعام بل كنا أضل.
وقال: إن عمله كان يبدأ من الساعة السادسة صباحاً حتى الثانية ظهراً، ثم يرجع فيأكل ثم ينام بلا صلاة ولا طاعات ولا واجبات، فينام حتى الحادية عشر أو الثانية عشر ليلاً، فيفوت صلاة العصر والمغرب والعشاء، ثم يمكث الساعات الطوال أمام الشاشات والقنوات حتى يحين موعد العمل، ثم يذهب إلى العمل، فأي حياة هذه؟ وما قيمة الحياة بهذه الصورة؟! {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:43 - 44]، فلما استقام صاحبي تغيرت حياته، وصار ملازماً للمسجد مع صفوف المصلين، وتغيرت حياة صاحبي يوم بدل الأغنية بالقرآن، وتغيرت حياة صاحبي لما بدل الرفقة السيئة بمصاحبة الأخيار، فأصبح مثلاً يضرب في تلك البلاد، فوالله إنه من شدة حيائه وخوفه صار مضرباً للمثل هناك، فما يتناقل الناس في تلك المنطقة إلا أخبار فلان، فقد كان ميتاً وإن كان يشرب ويأكل ويروح ويغدو مع الناس، لكن الناس بلا هداية كالأموات، فالذي يعيش بلا هداية ميت لا قيمة له، كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، فشتان يا إخوان! بين أصحاب الجنة وبين أصحاب النيران، أيستوي الأعمى والبصير؟ أتستوي الظلمات والنور؟ أيستوي الأحياء والأموات؟ لا يستوون.
أحبتي! إن نعمة العقل نعمة عظيمة يمتلكها كل إنسان، ولا يستعملها إلا القليل، أما يعرف الإنسان ما يضره وما ينفعه؟! أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد الغياب إياب تقضت بك الأعمار في غير طاعة سوى عمل ترجوه وهو سراب فلم يبق للراجي سلامة دينه سوى عزلة فيها الجليس كتاب(2/4)
من أخبار عبد الواحد بن زياد
اخترنا لكم قصصاً وآيات وأحاديث وأخباراً من أخبار أولئك الذين اشتاقت نفوسهم إلى ما عند الله، أولئك الذين يسيرون في الأرض ويرددون قوله جل في علاه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فهم سماويون لا أرضيون ولا دُنيويون ولا طينيون، يمشون في الأرض وقلوبهم معلقة في السماء، قال الله عنهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:63 - 65]، فهذا ليل ونهار عباد الرحمن الذين يريدون أن يفوزوا بجنات الرحمن، فاسمع إلى أخبار المشتاقين إلى جنات النعيم ثم قل أين نحن من هؤلاء.
ففي مجلس من مجالس الذكر والقرآن وهو مجلس عبد الواحد بن زياد يقول عبد الواحد: كنا نتذاكر فضل الشهادة في سبيل الله، وفضل الشهداء، والدرجة الرفيعة التي أعدها الله للمجاهدين في سبيله، وقد جاء في الحديث: (إن للشهداء في سبيل الله مائة درجة في الجنة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فتأمل هذا الفضل العظيم الذي هو صفقة بينه جل جلاله وبين عباده الصالحين، فقد اشترى منهم الأنفس والأموال على أن يكون الثمن هو الجنة، فهذا وعد سابق، وعهد صادق، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، ففي مجلس عبد الواحد بن زياد قال: كنا نتذاكر الشهادة في سبيل الله، وفضل الشهداء والمجاهدين، ثم قرأ قارئ في المجلس: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فقام غلام في السادسة عشرة من عمره فقال: يا عبد الواحد! آلله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ قلت: نعم يا صغيري! وكان يتيماً ورث عن أبوية مالاً كثيراً، قال: فإني أشهدك يا عبد الواحد! أني بعت نفسي ومالي لله على أن يكون الثمن الجنة، فمع أن هذا الغلام في السادسة عشرة من عمره إلَّا أن أفعاله أفعال الرجال، وأما اليوم فابن السادسة عشرة والثامنة عشرة يقال عنه: مراهق، وفي السابق لم يكونوا يعرفون هذه المصطلحات التي لا تمت إلى الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، فمن كان في هذه السن فهو شاب مكلف لا بد أن يقوم بالطاعات، وأن يترك النواهي والمحرمات، فقام الصغير وقال: يا عبد الواحد! آلله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؟ قلت: نعم يا صغيري! قال: فإني أشهدك أني بعت نفسي ومالي لله على أن يكون الثمن الجنة، قلت: يا صغيري! أخاف حين تسمع صليل السيوف، ورمي السهام والرماح أن تفر، قال: بئس حامل القرآن أنا إذا فررت من الموت في سبيل الله، يقول عبد الواحد: فلما كان الصباح كان أول من أتى إلي يحمل ماله كله معه، فقال: يا عبد الواحد! هذا مالي كله جهَّز به المجاهدين في سبيل الله، وجهَّز نفسه، وأعد عدته وخرج مع من خرج، يقول عبد الواحد: لقد رأيت منه العجب العجاب، لقد كان قواماً بالليل، صواماً بالنهار، وكان في خدمتنا، فيوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويعطي هذا، وفي خدمة هذا، فقلت: سبحان الله! على ماذا تربى هذا اليتيم؟ إن الذي تربى عليه هذا اليتيم هو القرآن، فهو الذي صنع هذا الشاب الصغير، وصنع قبله أقواماً، وسيصنع القرآن بعده أجيالاً وأجيالاً، إنه القرآن المنزل من عند الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ فأثر القرآن سيظل باقٍ في هذه الأمة شاء أعدائها أم أبوا، فكلما ظنوا أنهم قد استأصلوا شأفة هذا الدين رددت الأمة آيات القرآن، فرجعت فيها الروح أقوى مما كانت، ولم يتعرض دين من الأديان لمؤامرات بالليل والنهار كما تعرض لها هذا الدين، ومع هذا بقي هذا الدين شامخاً عزيزاً؛ لأن الله تكفل بحفظه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فاستعد الشاب وخرج، فلما صفت الصفوف رأيت فارساً مغواراً، ومجاهداً صنديداً، ومقاتلاً عنيداً، وما توقعت أن هذا يخرج من هذا الغلام الصغير، وكل يوم والمعركة تزداد، وهو في كرّ وفرّ، فتراه في الميمنة وتراه في الميسرة، ويتحمل أعباء كثيرة لا يتحملها إلا صناديد الرجال وعمره ست عشرة سنة، يقول عبد الواحد: وفي يوم زاد علينا أذى الكفار، واجتمعت علينا صفوف كثيرة، وعند الظهيرة توقف القتال وأخذتنا إغفاءه واستراحة كما يستريح المحارب، يقول: فأغفى غلامي إغفاءة ثم استيقظ وهو يقول: واشوقاه للعيناء المرضية! فقال أصحابي: وسوس الغلام، قلت: ما بك يا صغيري! قال: يا عبد الواحد! رأيت رؤيا فاكتمها عليّ حتى ألقى الله، قلت: وماذا رأيت يا صغيري؟ قال: رأيت أني في روضة من رياض الجنة وفيها من الحور العين ما الله به عليم، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت حتى إذا أتيت على نهر من ماء غير آسن عليه من الحور العين ما نسّاني ما خلفت ورائي، فإذا هن يشرن إلي ويقلن هذا زوج العيناء المرضية هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت أمامي حتى أتيت على نهر من لبن لم يتغير طعمه، فإذا على جوانبه من الحور العين ما نسّاني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق انطلق، فانطلقت أمامي حتى إذا أتيت على نهر من خمر لذة للشاربين فإذا عليه من الحور العين ما نساني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق، انطلق فانطلقت حتى إذا أتيت على نهر من عسل مصفى، فإذا عليه من الحور العين ما أنساني ما خلفت ورائي، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: انطلق أمامك، فانطلقت أمامي فأتيت على خيمة من لؤلؤ مجوفة مرتفعة في عنان السماء، فإذا على بابها من الحور العين ما نساني ما خلفت، فإذا هن يشرن إلي ويقلن: هذا زوج العيناء المرضية، قلت: أين هي العيناء المرضية؟ قالوا: هي في الداخل بانتظارك، فدخلت فرأيت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، رأيت تلك التي نصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، ورأيت تلك التي لو ضحكت لغطى نور وجهها نور الشمس والقمر، رأيت تلك التي لو بصقت في بحر لجي لأصبح عذباً فراتاً، ورأيت تلك التي أنستني ما خلفت ورائي، فأردت أن أضمها فقالت: انتظر يا حبيبي! أنت فيك روح الحياة، تفطر عندنا اليوم! وقد كان صائماً رحمه الله في أرض القتال، فتجدهم في أرض المعركة في صوم وتقرب إلى الله بالطاعات، قال: ثم أفقت يا عبد الواحد! فواشوقاه للعيناء المرضية! اكتم رؤياي يا عبد الواحد! حتى ألقى الله، يقول عبد الواحد: فما هي إلا لحظات حتى ظهرت سرية من الكفار فانطلق إليها الغلام يصول يمنة ويسرة فقتل منهم تسعة وكان هو العاشر، فجئته فإذا هو يتشحط في دمه وعلى وجهه ابتسامة، وهو يقول: أهلاً بالعيناء المرضية، أهلاً بالعيناء المرضية.
فعلى ماذا تربى هذا الغلام؟ لقد تربى على كلام الرحمن، وتربى على تلك الآيات التي تربي الأنفس وتمنيها بما عند الله جل في علاه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:51 - 59]، فجنات الرحمن تحتاج إلى فئة صادقة مؤمنة لم تغرها الحياة الدنيا، بل تريد ما عند الله جل في علاه، فهذه هي أخبارهم، فما هي أخبار الشباب اليوم؟! فهم كانوا يبيتون سجداً وقياماً، فعلى ماذا يبيت الشباب اليوم؟! وهم تغنوا بالقرآن الكريم، فبماذا يتغنى الشباب اليوم؟! وهم ملئوا الآذان بآيات الرحمن فبماذا ملأ الشباب الآذان اليوم؟ وهم كانت أمنيتهم واحدة وهي: أن ينالوا رضا الله وجنات النعيم، فما هي أمنيات الشباب اليوم؟! إن سبب صلاح الشباب هم الشباب أنفسهم، وإن سبب ضياع الشباب اليوم هم الشباب أنفسهم، فاخترنا لكم قصصاً من الماضي وقصصاً من الحاضر، وهذه القصص مطعمات بآيات لو تنزلت على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.(2/5)
قصة توبة الشاب حسان
فمن هذه القصص: أن جماعة كانوا على ضلالة، وكانوا يتعاونون على الإثم والعدوان، وينهون عن المعروف ويأمرون بالمنكر، حتى منَّ الله على واحد منهم بالاستقامة، فاستقام وصلح حاله، فأراد لصاحبيه الهداية والاستقامة، فاجتهد عليهما حتى هدى الله الثاني، ثم الثالث، فبعد أن كانوا مفاتيح شر أصبحوا مفاتيحاً للخير، وتعاهدوا فيما بينهم أن يعوضوا الأيام الماضية في المعاصي والمنكرات، وأن يستغلوا ما بقي من العمر في الطاعات والقربات، فاتفقوا فيما بينهم أن يجتمعوا كل يوم قبيل الفجر بساعة حين يتنزل الرحمن نزولاً يليق بجلاله، فينادي: هل من تائب؟ هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:1 - 2]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، فالله تعالى يعطي الفرص مرات ومرات، والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فقد كان الثلاثة مجتمعين على المعاصي، ثم بدل الله حالهم واجتمعوا على الطاعات، وقرروا فيما بينهم أن يجتمعوا كل يوم قبيل الفجر بساعة ثم ينطلقون إلى مسجد من المساجد، فيصلون فيه إما فراداً وإما جماعة ما شاء الله أن يصلوا، واستمروا على هذه الحال مدة طويلة، وفي يوم من الأيام تأخر الذي كان عليه الدور أن يمر على الشباب حتى لم يبق على صلاة الفجر إلا نصف ساعة، فلما جاءهم وقفت بجانبهم سيارة تكاد تنفجر من صوت الموسيقى والألحان، وما كأن هذا الوقت ساعة مباركة وساعة استجابة، فأشار إليه الأول فلم يستجب لهم، وأشار إليه الثاني فلم يعطهم بالاً، وأشار إليه الثالث فلم يلتفت إليهم، فانطلق بسرعة حين انطلقت الإشارة، فقالوا فيما بينهم: ما رأيكم لو نسعى في هداية هذا الشاب؟ فننطلق خلفه عل الله يكتب هدايته في هذه الليلة المباركة؟ فأخذوا يلحون على الله بالدعاء أن يهدي هذا الشاب، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، وأي نعمه أعظم من نعمة الهداية والاستقامة، فانطلقوا خلفه، وبدءوا يشيرون إليه بالأنوار العالية عله يتوقف، فظن صاحبنا أن القضية عراك، وظن أنها قصة تحدٍ في ساعات الليل الأخيرة، فتوقف متحدياً، ونزل من السيارة، وكان شاباً طويل القامة، عريض المنكبين، مفتول العضلات، فقال: ماذا تريدون؟! فابتسموا في وجهه وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قال: من أراد العراك لا يبدأ بالسلام، وهؤلاء لا يريدون العراك، قال: ماذا تريدون؟ قالوا: أما تعلم في أي ساعة أنت الآن؟ الساعة الآن قبيل الفجر، وهي ساعة السحر، وهي من أعظم الساعات، ولا يرد الله فيها الدعاء، أما عندك حاجة تطلب الله إياها الآن؟ قال: أما تعرفون من أنا؟ أظنكم لا تعرفوني! قالوا: من أنت؟ قال: أنا حسان الذي لم تخلق النار إلا لي! قالوا: اتق الله، فإن باب الرحمة واسع، والرحمن يقبل من أتاه، (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً).
فبدءوا يذكرونه بواسع رحمة الله، وأن الله يقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، ويقول في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ولا رجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم أتيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي)، وهو الذي يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، فالله بابه مفتوح بالليل والنهار، وهو الذي يقبل توبة التائبين، ويغفر ذنوب المذنبين فارتم ببابه، واسأله الرحمة، فأخذ حسان يبكي ويقول: أيقبلني بعد أن أذنبت وفعلت كذا وكذا وكذا؟! فلم يبق باب من أبواب المعاصي إلا دخلته، ولم تبق مصيبة من المصائب إلا ارتكبتها ثم هو يقبلني؟! قالوا: نعم، ويبدل السيئات حسنات، قال: أنا الآن سكران، وأنا الآن على معصية، فاحتضنوه وأخذوه إلى أقرب دار لهم، فاغتسل حسان، وتطيب وتعطر، ولبس أحسن الثياب، ثم انطلق معهم ليشهد أول صلاة منذ سنوات مضت، يقول لهم: لي سنوات لم أعرف لله أمراً ولا نهياً، وسنوات لم أركع لله فيها ركعة واحدة، فاغتسل وتطيب ودخل المسجد، وقد كان حسان على موعد مع الهداية، فانطلق الإمام يقرأ: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، فأخذ الإمام يقرأ بصوت حنون، ويردد تلك الآيات، ويرغب الناس فيما عند الله جل في علاه، ويبشرهم بجنات النعيم، ثم قرأ الإمام أرجى آية في كتاب الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، فما إن قرأها الإمام حتى ارتفع الصياح في المسجد، وامتلأت أركانه نحيباً وشهيقاً وبكاءً عالياً، والإمام يقرأ وحسان يزيد في البكاء، فلما انتهى الإمام من صلاته التف حوله المصلون يهنئونه بالتوبة والرجعة والعودة إلى الله، فـ حسان الذي كان يقول: ما خلقت النار إلا لي كان على موعد مع الهداية، وكان ذلك على يد هؤلاء الشباب، فالشباب هم سبب صلاح الشباب، والشباب هم سبب ضياع الشباب.
وبدأ حسان يحكي مأساته: فعلت كذا وفعلت كذا، ولي أب وأم كبيران في السن لم أرهما منذ شهور طويلة، وهما بحاجة إلى أن أكون بجانبهما، فأريد أن أرى أبي، وهو يصلي في المسجد الفلاني، ويمكث في ذلك المسجد حتى شروق الشمس، فانطلقوا به إلى ذلك المكان، فوصلوا وقد أشرقت الشمس وارتفعت، فإذا بشيخ كبير خارج من المسجد، فقال: هذا أبي، هذا أبي، ضعف بصره، وانحنى ظهره، وخطواته متثاقلة، وكم هو هذا الأب بحاجة إلى مثل هذا المفتول العضلات؛ حتى يكون في خدمته ورعايته، فجاءوا فسلموا عليه، وقالوا: معنا حسان، فما أن سمع الأب اسم حسان حتى قال: حسان؟! الله يحرق وجهك بالنار يا حسان! عذبك الله كما عذبتني يا حسان!، فأخذ حسان يبكي وارتمى على الأرض، فقالوا لأبيه: إن حسان قد جاءك تائباً منيباً راجعاً إلى الله، قال الأب: حسان يتوب؟! قالوا: نعم، وقد صلى الفجر في جماعة، وغير الحياة وبدل، وانظم إلى قافلة التائبين والعائدين إلى الله، فأخذ الأب يبكي واحتضن ابنه باكياً وفرحاً بتوبة حسان وعودته إلى ربه جل في علاه، والتف الثلاثة من حولهما يبكون فرحاً بتوبة حسان، وأصبح منظرهما في الشارع مؤثراً، شيخ كبير يحتضن مفتول العضلات ويبكي على هدايته.
ثم انطلقوا إلى المرأة العجوز وأخبروها فأخذت تبكي بكاءً شديداً فرحاً بتوبة حسان، أقول: لله أفرح بتوبة حسان مع أن الله تعالى لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني، يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
فانطلق حسان مع التائبين، وأقبل على بيوت الله يتربى في المساجد وفي حلقات القرآن حتى تغير حاله رأساً على عقب، فـ حسان الذي كان يقول: ما خلقت النار إلا لي صار حاله في كل يوم يتبدل، فصار يقبل على الله أكثر من الأيام الماضية، حتى قال في نفسه يوماً: إن عليه من الذنوب والمعاصي ما الله به عليم، ولا يكفر هذا إلا أن أسيل كل قطرة من قطرات دمي رخيصة في سبيل الله، ولا يكفر هذا إلا أن أقدم النفس رخيصة من أجل الذي أعطاني كل شيء، فجاء إلى الأب الشيخ الكبير وقال له: يا أبي! أنا أريد أن أنطلق إلى ساحات الجهاد، وأريد أرفع كلمة الله، وأريد أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وأريد أن أبذل كل قطرة من قطرات دمي في سبيل الله، قال الأب: يا حسان! لقد فرحنا بعودتك وباستقامتك وتريد أن تحرمنا الآن منك! قال: يا أبي! إن كنتم تحبوني فلا تحولوا بيني وبين الموت والشهادة في سبيل الله، فقال الشيخ الكبير: لك ما أردت إذا وافقت العجوز، فانطلق إليها مقبلاً رأسها وقدميها وقال: أماه! ائذني لي أن أنطلق إلى أرض الجهاد، فإن علي من الذنوب ما لا يكفره إلا أن تسيل كل قطرة من قطرات دمي رخيصة في سبيل الله، فقالت الأم: يا حسان! لقد فرحنا بك وبعودتك واستقامتك أفتتركنا الآن وترحل؟! قال: أماه! إن كنتم تحبوني فدعوني أنطلق، دعوني أنطلق، قالت بشرط: على أن تكون شفيعاً لنا عند الله يوم القيامة.
فعلى ماذا تربي الأمهات الأبناء اليوم؟ هل تربيهم على حب الله ورسوله؟ وهل تربيهم على بذل كل غالٍ ونفيس لأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى؟! فالله المستعان.
فانطلق حسان إلى ساحات القتال والجهاد، وإلى ساحات(2/6)
لمن كان له قلب
إن الحديث عن اليوم الآخر ليوقظ النائم من رقدته، وينبه الغافل من غفلته، ويحيي الإيمان في القلوب، ويفزع الناس إلى العمل بالقرآن، والاهتداء بسيد الأنام، لأنه إذا علم العبد أنه سيمر بأحوال وأهوال عظام تشيب لها الولدان استعد وعمل لذلك اليوم، وهذا إنما يكون لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(3/1)
الحديث عن اليوم الآخر
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أحبتي! حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاكم، وجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، وأن يكشف كرب المكروبين، وأن يقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، وأن يغفر للأحياء والميتين.
لعلكم أحبتي قرأتم العنوان أو سمعتم به: لمن كان له قلب، وهل من الممكن أن يكون هناك أناس بلا قلوب؟ نعم أحبتي، القلوب الغافلة، والقلوب الشاردة اللاهية، فإن هذه القلوب لا تعتبر قلوباً حية، وإنما القلوب الحية هي التي تنتفع بكلام الله وبكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
إن لم يكن ذكر الآخرة يحرك القلوب فما الذي يحركها؟! إن لم يكن ذكر الجنة يشوق القلوب فما الذي يشوقها؟! إن لم يكن ذكر النار يخوف القلوب فبالله عليكم قولوا لي: ما الذي يخوفها؟! إن لم يكن هذا الحديث يدعو الصالح إلى الزيادة في صلاحه، ويدعو العاصي إلى الكف عن غيه ومعصيته فما الذي سيدعوه؟! إن الحديث: لمن كان له قلب، إنما هو الحديث عن اليوم الآخر وما به من الشدائد والأهوال، وقد قرن الله تبارك وتعالى الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، فقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، وقال سبحانه: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2] فقدم سبحانه ذكر الإيمان باليوم الآخر على بقية أركان الإيمان الأخرى؛ لأن الإيمان بذلك -أحبتي- هو الضابط الحقيقي لسلوك الإنسان.
إن الإيمان بذلك اليوم وما فيه من الشدائد والأهوال لهو المحرك الحقيقي لهذا الإنسان، فلا رادع للعصاة عن عصيانهم إلا بذكر ذلك اليوم، ولا مشوق لأهل الصلاح للزيادة في صلاحهم إلا بذكر ذلك اليوم، قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105].
إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، وعقيدة من عقائد الإسلام الأساسية، فقضية الإيمان باليوم الآخر هي التي يقوم عليها بناء العقيدة بعد قضية التوحيد، واليوم الآخر وما فيه من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل، ولا سبيل لمعرفتها إلا بالنص القرآني والسنة النبوية، وفي كتاب الله -أحبتي- من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال الشيء الكثير، فما تكاد تخلو صفحة من صفحات الكتاب الكريم من صورة من صور ذلك اليوم، أو موقف من مواقف ذلك اليوم، فهو اليوم الذي لا يوم مثله، ولا يوم قبله، ولا يوم بعده، إنه اليوم العقيم، قال سبحانه: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55].(3/2)
أسباب الحديث عن اليوم الآخر
لماذا الحديث عن اليوم الآخر؟
و
الجواب
أن ذلك لأسباب عدة: أولاً: الغفلة التي استحكمت على حياة كثير من المسلمين، قال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [الأنبياء:1 - 3] أي: بكثرة اللهو وكثرة المغريات.
ثانياً: انشغال الناس بالدنيا وعمارتها أكثر من اشتغالهم بالاستعداد لليوم الآخر، قال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
ثالثاً: أن الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من الثواب والعقاب هو الموجه الحقيقي لسلوك الإنسان، فهناك فرق بين سلوك من يؤمن بالله واليوم الآخر، وسلوك من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمن علم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الأعمال الصالحة هي زاد الآخرة لم ينشغل بعمارة الدنيا عن عمارة الآخرة، قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً - أي: هم الآخرة - كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة) فهناك فرق بين سلوك من يؤمن بالله واليوم الآخر وسلوك ضعيف الإيمان.
قال صاحب الظلال: فالمصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا.
انتهى كلامه رحمه الله.
فتجد المؤمن بالله واليوم الآخر له نظرة مختلفة للحياة، فترى فيه استقامة على دين الله، وترى فيه سعة تصور وقوة إيمان، وترى فيه ثباتاً في الشدائد وصبراً على المصائب، فهو يعلم أن ما {عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36].
وأما الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وما في ذلك اليوم من حساب وجزاء فهو يحاول جاهداً أن يحقق مآربه في هذه الحياة، لاهثاً وراء متعها، وحريصاً على جمعها، قد جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فهو يقيس الأمور بالمنفعة الشخصية والخاصة، ولا يلتفت إلى بني جنسه إلا في حدود ما يحقق له المصالح فتباً له ولأمثاله.(3/3)
الأدلة على إثبات اليوم الآخر
استدل أهل العلم على إثبات اليوم الآخر بأدلة كثيرة، حيث إن الأولين قد أنكروا قضية الإيمان باليوم الآخر، وأنكروا قضية البعث والنشور، قال الله عنهم: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، وقال عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]؛ لهذا ركز القرآن على قضية الإيمان باليوم الآخر، وإثبات البعث والحساب والجزاء، فجاءت أدلة كثيرة لإثبات ذلك اليوم، ومنها:(3/4)
النشأة الأولى
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} [الحج:5] أي: إن كنتم في شك من البعث: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج:5] فمن قدر على خلق الإنسان في أطوار متعددة لا يعجز عن إعادته مرة أخرى، بل الإعادة أهون عليه من البدء.
فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظمة بالية أكل الدهر عليها وشرب، ووضعها بين يديه ففتها، ثم نفخها في الهواء، ثم قال: يا محمد! أيحيي الله هذا بعدما أرم؟ فقال بأبي هو وأمي: (نعم ويدخلك النار).
فقال الله فيه: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78]، قل له يا محمد!: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79].(3/5)
المشاهد الكونية المحسوسة
من الأدلة على إثبات اليوم الآخر: المشاهد الكونية المحسوسة الدالة على إمكان البعث، قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7]، فإحياء الأرض الميتة بالمطر، وظهور النبات فيها دليل على قدرة الخالق جل وعلا على إحياء الموتى وقيام الساعة.(3/6)
القدرة على خلق ما هو أعظم من الإنسان
من الأدلة أيضاً: القدرة الباهرة المتجلية في خلق الأعظم، قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:81 - 83]، فخالق السماوات والأرض على عظمهما قادر على خلق هذا الإنسان الصغير، كما قال هو سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].(3/7)
الحكمة الإلهية
من الأدلة أيضاً: الحكمة الإلهية، فالحكيم لا يترك الناس سدىً، ولا يخلقهم عبثاً، ولا يتركهم فلا يؤمرون ولا ينهون، ولا يزجرون على أعمالهم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40] بلى قادر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود:17].
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء(3/8)
صور وأهوال من يوم القيامة
اسمع وافتح قلبك قبل أن تفتح أذنيك، فإن في هذا الحديث ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وجاء في حديث أبي هريرة كما في حديث الطور قال: (ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار فيقول: قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت، فيقول الله سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل، فينطق الله عز وجل العرش فيقول: أي رب! يموت جبريل وميكائيل! فيقول جل جلاله: اسكت إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي؛ فيموتان، قال: ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله فيقول: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل، فيقول الله سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة عرشك، وبقيت أنا، فيقول سبحانه: ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يقول سبحانه: ليمت إسرافيل، فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب! قد مات حملة عرشك، فيقول سبحانه وهو أعلم: من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت فمت، فيموت، فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً فكان كما كان أولاً، طوى السماء كطي السجل للكتب، ثم قال: أنا الجبار لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه تبارك وتعالى: لله الواحد القهار).(3/9)
النفخ في الصور
تبدأ الشدائد والأهوال بنفخة واحدة، وهي نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ مرة أخرى وهي نفخة البعث، واسمع إلى القرآن وهو يحذر وينذر، ويذكر بشدة الشدائد والأهوال، فقال سبحانه مذكراً بأهوال ذلك اليوم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، إن في ذلك اليوم من الشدائد والأهوال ما فيه حياة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقال سبحانه مصوراً تلك الشدائد: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار:1 - 9].(3/10)
حال السماوات والأرض يوم القيامة
لو كان الإيمان بالله وباليوم الآخر قد خالط القلوب وتمكن منها لما غفلت عن ربها تبارك وتعالى، واسمع إلى هذه الشدائد والأهوال إن كان لك قلب، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:105 - 108].
واسمع رعاك الله! فالحديث لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، من سره أن يرى القيامة رأي العين فليسمع هذه الآيات: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14].
نعم، إن في هذا الحديث حياة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فبنفخة واحدة بدأت القيامة، وبنفخة أخرى يبدأ البعث والنشور، وبعد النفخة الثانية: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] إنه الخروج من القبور، والسير إلى أرض المحشر، قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44] وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]، وقال سبحانه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111] فيسعون إلى أرض المحشر في سكون وخشوع لا تسمع منهم إلا صوت الأقدام والهمسات، ثم يقبض الجبار السماوات بيمينه والأرضين بيده الأخرى، ثم يقول: (أنا الملك، أين الجبارون؟! أين المتكبرون؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
وعن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الموقف، قال: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأراضيه بيديه فيقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها فيقول: أنا الملك، يقول ابن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفله حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
وأما أرض المحشر -أحبتي- فأرض غير هذه الأرض، وأما سماؤه فسماء غير هذه السماء، قال سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].(3/11)
أحوال الناس يوم القيامة
وأما أحوال الناس في ذلك اليوم العظيم، فقد قال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:49 - 52] نعم، (أُوْلُوا الأَلْبَابِ) لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء - أي: مائلة إلى الحمرة - كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد) رواه مسلم، والقرصة: الرغيف.
والنَّقي: الدقيق المنخول المنظف.
وأما حال الناس: فحفاة عراة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً - أي: غير مختونين - قلت: يا رسول الله! النساء والرجال ينظر بعضهم إلى بعض، قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! يا ابنة الصديق! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) متفق عليه.
فمن الناس من يحشر على وجهه، كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! كيف يحشر الكفار على وجوههم يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة: بلى وعزة ربنا) متفق عليه.(3/12)
دنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة
ثم يزداد الهول والكرب بأهل الموقف، فتدنو الشمس من رءوس العباد فيغرقون في العرق، فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، قال سليم بن عامر: فو الله الذي لا إله إلا هو ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).
عبد الله! أما تتفكر وتتدبر في الموقف وشدته، وفي ذل الخلق وانكسارهم في ذلك اليوم الطويل، والأبصار خاشعة، والقلوب وجلة، وأنا وأنت والجميع في انتظار النهاية كيف تكون؟ وأن يكون المصير؟ مثل لقلبك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رءوس العباد تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير؟ فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور(3/13)
مجيء النار يوم القيامة
ثم تزداد الشدائد والأهوال، فيؤتى بجهنم يسمع: {لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، قال سبحانه: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:21 - 24]، وعند ذلك يندم النادمون، ويتحسر المتحسرون، ويتمنون أن لو ساعة واحدة يرجعون ليعملوا صالحاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) لو تركت على أهل المحشر لأتت عليهم من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14].
إنه يوم: {مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7]، إنه يوم الطامة ويوم الصآخة، إنه يوم الفرار قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، والناس على هذه الحال في الموقف الشديد، والكرب العظيم، ويطول الانتظار والكل ينتظر الحساب والوقوف بين يدي الملك الديان.(3/14)
الشفاعة العظمى في أهل الموقف
ثم يأتي الفرج في أهل الموقف بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء عن أبي هريرة عند مسلم، قال: (أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم.
فرفع إليه الذراع فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة.
أتدرون بم ذاك؟ ثم قال: يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، حتى إذا اجتمعوا في صعيد واحد، وأدنيت الشمس من رءوس العباد، وغرق الناس بعرقهم، وازدادت الأهوال والشدائد على الناس نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر.
خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسكنك جنته وأمر الملائكة أن تسجد لك - سجود تشريف لا سجود عبادة - ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي.
فيتبرأ منهم أبو البشر، فيزداد الغم والهم والكرب على الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً.
ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي.
اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام).
يا صاحب القلب! تخيل أنا وأنت معهم: (فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات - لو عددناها لوجدناها من صالح الأعمال - نفسي نفسي).
أحبتي! هذا هو حال الأنبياء، وحال أولي العزم من الرسل، ومقال الحال يقول: اللهم سلم سلم! فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف يكون حال العصاة المقصرين والمفرطين؟! (اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: أنت نبي الله وكليمه.
ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي.
اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً.
ويقول: نفسي نفسي.
اذهبوا إلى محمد صلوات ربي وسلامه عليه، فيأتون محمداً - وفي رواية فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً - اسمع فالحديث لمن كان له قلب- فيفتح الله علي ويلهمني من محامده ما لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي).
وانظر إلى الحبيب فهو لم ينسانا على شدة الموقف والأهوال، نادى بأعلى الصوت: أمتي أمتي، فأين أمته شيبهم وشبابهم ونساؤهم؟ أين هم من سنته وسيرته ونصرة دعوته؟ أما قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
(فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه، من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.
والذي نفس محمد بيده! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر) وفي رواية: (وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام).
يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دين المحبين ما لي أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تهويناً وتدوينا خذها سماوية خيراً تفوز به أو اطرحها وخذ رجس الشياطين(3/15)
الحوض وصفته
هل سمعت أيها الأخ الحبيب عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يرد عليه، ومن يصد عنه؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترد علي أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا؟ قال: نعم، لكم سيما - أي: علامة - ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي فيجيئني ملك فيقول: وهل تدري يا محمد ما أحدثوا من بعدك؟).
كم غيروا! وكم بدلوا! وكم تهاونوا! وقد اختلف العلماء متى يكون الورود على الحوض وأين؟ فقيل: قبل الصراط.
وقيل: إنه يكون بعد الحساب والميزان والصراط والله أعلم.
وأما وصف الحوض ففتح قلبك رعاك الله! فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -أي: آنيته- كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً) متفق عليه.(3/16)
الحساب وأحوال الناس فيه
ثم يبدأ الحساب، فتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] تذكر يا عبد الله! أنك بين يدي الله موقوف، وسيكلمك ربك ليس بينك وبينه ترجمان، فتنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أمامك فلا ترى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، وستقف وستسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، وعن العمر فيم أفنيته؟ وعن الشباب كيف قضيته؟ وعن المال من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ فلا تظن أن الحساب سيكون يسيراً، إنه حساب بالذرة، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، وفي ذلك اليوم قال سبحانه: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]، ويقول تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].
وحال الناس كما أخبر الله عنهم، فقال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وستسأل عن الصلاة كيف أديتها؟ وهل حفظتها؟ وستسأل عن الصوم والزكاة، وعن كل صغيرة وكبيرة، وعن كل كملة قلتها وسمعتها، وستسأل عن حقوق وواجبات وأوامر ومنهيات.
وأما حال الناس في الحساب: فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً، ويدعو ثبوراً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه - أي: ستره - فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى العبد في نفسه أنه قد هلك، قال الله: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]).
وقال تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:105 - 106].
الأمنية: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107].
الجواب
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
إنها محكمة، شعارها: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وقاضيها: الملك الديان الذي: (حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً)، والشهود في المحكمة: السمع والبصر واللسان: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].
فلا إله إلا الله كيف يكون الحال إذا شهدت العينان وقالت: أنا إلى الحرام نظرت! ولا إله إلا لله إذا شهدت الأذنان فقالت: أنا إلى الحرام استمعت! ولا إله إلا لله إذا شهدت اليدان وقالت: أنا بالحرام بطشت وأخذت! ولا إله إلا الله إذا شهدت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت!(3/17)
ذبح الموت
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فينادى أهل الجنة: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، ثم ينادى أهل النار فيقال: يا أهل النار! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيؤمر به فيذبح ثم ينادى: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، وينادى: يا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40]).
إنه اليوم الآخر، إنه اليوم الذي لا يوم بعده، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
يا عجباً للناس لو فكروا وحاسبوا أنفسهم وأبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبر لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقى والبر كانا خير ما يدخر(3/18)
صفة أخذ الكتاب
يا صاحب القلب! تخيل الموقف وقد تطايرت الصحف والكتب، وإلى أي فريق ستنتمي إلى أصحاب اليمين أم إلى أصحاب الشمال؟ وبأي يد ستأخذ الكتاب بالشمال أم باليمين؟ قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، النتيجة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24].
وفي المقابل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26].
الأمنية: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29].
النتيجة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32].
ما ذنبه؟ {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:33 - 37] نسأل الله السلامة والعافية! إن الحديث إنما ينفع صاحب القلب، فإن كنا نعرف هذا ونسمع هذا فلا بد من العمل والصدق والإخلاص والصبر والاحتساب، وإلا سنقول: واحسرتي واشقوتي من يوم نشر كتابيه واطول حزني إن أكن أوتيته بشماليه وإذا سألت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه واحر قلبي أن يكون مع القلوب القاسيه(3/19)
العبور على الصراط وأحوال الناس فيه
يا عبد الله! أتظن أن الموقف قد انتهى؟ لا، فإن القادم أشد وأعظم! ستؤمر -أيها المسكين- أن تعبر الصراط، ثم إما إلى جنة وإما إلى نار، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ويضرب الجسر على جهنم فأكون أول من يجيب ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم! وبه كلاليب - أي: في الصراط - مثل شوك السعدان - نبت له شوك معكوف - غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، يخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق الهالك بعمله، ومنهم الناجي المقطع بالكلاليب، ومنهم من يعبره كطرف العين، ومنهم كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في جهنم، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يسحب سحباً) فقل لي بربك: كيف سيكون العبور؟ أبت نفسي تتوب فما احتيالي إذا برز العباد لذي الجلال وقاموا من قبورهم سكارى بأوزار كأمثال الجبال وقد نصب الصراط لكي يجوزوا فمنهم من يكب على الشمال ومنهم من يسير لدار عدن تلقاه العرائس بالغوالي يقول له المهيمن يا وليي غفرت لك الذنوب فلا تبالي أسألك بالله: كيف سيكون العبور؟ قيل لأحد الصالحين وقد مات فرئي في المنام: ماذا صنع الله بك؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.
نهاية ذلك اليوم: إما إلى جنة وإما إلى نار، قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].
وأما الفريق الآخر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:73 - 74].(3/20)
أحوال الغارقين
ما أكثر الغارقين في الشهوات والملذات، يرتوون منها ويعمون عن مفاسدها وأكدارها، وتناسوا أن لهم أعماراً وآجالاً معدودة، وتناسوا أن الدنيا دار ممر والآخرة هي المستقر، فيا حسرة عليهم، وليتهم يعلمون حقيقة ما هم فيه لعلهم يتوبون إلى الله.(4/1)
من هم الغارقون؟
حديثنا ليس عن الغارقين في البحار والأنهار، فأولئك إن كانوا صالحين كانوا شهداء بإذن العزيز الغفار، ولكن حديثنا رسالة إلى الغارقين في الشهوات والملذات، يرتوون منها وكأنهم مخلدون في هذه الدنيا، تناسوا أن الدنيا دار ممر وامتحان، وبعدها جزاء وحساب، ووقفة تشيب لها الولدان أمام خالق الكون وجبَّار الأرض والسماء.
إنها رسالة إلى التائهين الذين ارتسمت على وجوههم مسحة البؤس والضياع بسبب إغراقهم في الذنوب والمعاصي التي أعمت قلوبهم وأنقصت عقولهم وأزالت عنهم النعم وأحلت بهم النقم.
قال سعيد بن المسيب: ما أكرم العباد أنفسهم بمثل طاعة الله عز وجل، ولا أهانوا أنفسهم بمثل معصية الله عز وجل.
إنها رسالة إلى الذين ليس لهم هدف في الحياة إلا إشباع الغرائز والشهوات، وهم على ما هم فيه من ذل المعصية والهوان تراهم يجاهرون بأفعالهم وعصيانهم وتمردهم على أوامر الله، غاب عن حسهم قوله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
إنهم يغرقون وهم لا يشعرون! يسيرون في طريق أوله خزي وعار وآخره جهنم وبوار، قبل أن ننطلق لسماع أحوالهم وأخبارهم أوجه كلمه للذين ركبوا سفينة النجاة، فأقول: تعالوا نتعاون على إنقاذ هؤلاء فهم بحاجة إلى قلوب رحيمة، و (الراحمون يرحمهم الرحمن) إنهم بحاجة إلى كلمة طيبة، (الكلمة الطيبة صدقة) إنهم بحاجة إلى ابتسامة صادقة، و (تبسمك في وجه أخيك صدقة) {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].(4/2)
أحوال الغارقين
فهيا نسمع بعضاً من أحوال الغارقين:(4/3)
السفر إلى الخارج وراء الشهوات والملهيات
ليلهم ونهارهم سواء يظنون أن السعادة في لذة وشهوات وفي سفر ومغامرات، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19].
يستيقظ الواحد منهم قبل الفجر لموعد طائره وسفر وسياحة ولا يستطيع أن يستيقظ لصلاة الفجر، مع أن التخلف عن صلاة الفجر من علامات المنافقين، تراهم في الملاعب يجوبونها طولاً وعرضاً خلف الكرة ولا يقوون على أداء الصلاة، ولا تراهم في صفوف المصلين رغم أن المسجد لا يبعد عنهم سوى خطوات، قال جل في علاه عن محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] وقال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) إنك لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلاة.
إذا حزبك أمر يدك الجبال فتذكر (أرحنا بها يا بلال) واعلم أنه ما سُميت الصلاة صلاة إلا لأنها تصل بفاعلها والمحافظ عليها إلى الجنة، وتصل بتاركها والمتهاون فيها إلى النار، فأي طريق تريد؟ قال ابن تيميه قدس الله روحه: حدثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس قال لشيخ رآه قد جمع الناس على رقص وغناء: يا شيخ! إن كان هذا هو طريق الجنة فأين طريق النار؟(4/4)
إشغال أوقاتهم في اللهو والغناء
من أحوال الغارقين: أوقاتهم لهو ولعب، غناء وطرب، لا يعرفون معروفاً ولا يُنكرون منكراً، يعرفون أسماء المغنين والمغنيات، والساقطين والساقطات، بل ويعرفون ميولهم ورغباتهم وأخبارهم، بل ربما يعرفون أسماء زوجاتهم وأبنائهم، ولا يعرفون سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.
يقرءون الصحف والمجلات وينفقون في سبيلها عشرات بل قل مئات، ولا يقرءون القرآن ولا حتى لحظات، تراهم عند الإشارات قد رفعوا أصوات مكبرات السيارات على موسيقى وألحان، وهي مزامير الشيطان، تهتز أجسادهم طرباً ونشوة لذلك، ولا يهتز لهم قلب عند سماع القرآن، قال الله للشيطان: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، قال صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف).
قال ابن القيم رحمه الله وهو يرد على أهل الغناء: ألا قل لهم قول عبد نصوح وحق النصيحة أن تُستمع متى علم الناس في ديننا بأنَّ الغنا سنة تُتبع وأنَّ يأكل المرء أكل الحمار ويرقص في الجمع حتى يقع جراحات أمتنا في كل مكان في فلسطين وأفغانستان والشيشان وهؤلاء يمسون ويصبحون على الألحان.
ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد دمع اليتامى فيه شاهد ذلة وسواد أعينهن فيها حداد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أوما لنا سعد ولا مقداد المجاهدون يبيتون على أصوات المدافع والدبابات، وهؤلاء ييبتون على أصوات المغنين والمغنيات، إنهم يغرقون وهم لا يشعرون!(4/5)
ضياع أوقاتهم في الأسواق والمجمعات
من أحوال الغارقين: تراهم في الأسواق والمجمعات، يعتنون بالمظاهر والشخصيات، والسرائر خاوية، فنون وأشكال من القصات والموضات والهيئات، شبان وفتيات {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4].
همهم هتك أعراض المسلمين ومطاردة الساذجات، تناسوا أنَّ لهم أمهات وأخوات وقريبات، إنهم يغرقون وهم لا يشعرون! جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إئذن لي بالزنا، فثار المجلس وفار، فقال الرحمة المهداة للشاب بصوت حنون وقلب رحيم: ادنه، فدنا الشاب، فقال له صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله فداك أبي وأمي، قال صلى الله عليه وسلم: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، قال صلى الله عليه وسلم: أتحبه لأختك؟ قال: فداك أبي وأمي لا والله، فلا زال يذكره، ويقول له: أتحبه لعمتك؟ وخالتك؟ وابنتك؟ والشاب يقول: لا والله جعلني الله فداك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه، فقام الشاب من ذلك المجلس وليس شيء أبغض إليه من الزنا).
وأنت يا من تغرق ومن أجل ذلك تخطط وتدبر وتسافر، أترضاه لأهلك؟ سأترك الجواب لك، اعلم أنه ما عُصي الله بذنب أعظم من نطفه يضعها الرجل في فرج لا يحل له، لذلك قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
إليك خبر من أخبار المتقين قال الحسن البصري: كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاب يلازم المسجد للعبادة، فعشقته امرأة، فأتته في خلوة فكلمته -لاحظ هو لم يذهب إليها- فحدثته نفسه بذلك، فشهق شهقة فغشي عليه، فجاءه عم له فحمله إلى بيته، فلما أفاق قال: يا عم! انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام، وقل له: ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق عمه فأخبر عمر فأتاه عمر فلما رآه شهق شهقة فمات، فوقف عليه عمر فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:46 - 47].
أحسبه والله حسيبه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله (رجل دعته امرأة ذات حسب وجمال، فقال: إني أخاف الله).
فيا دائم الخطايا والعصيان! يا شديد البطر والطغيان! ربح المتقون ولك الخسران {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].(4/6)
صيرورة الذنوب والمعاصي عادة لهم ومنهجا
من أحوال الغارقين صارت الذنوب والمعاصي والآثام عادة لهم ومنهاجاً، فهم في {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، يعيشون بلا أمن ولا أمان، ولا راحة ولا استقرار، بل بلا حياة فأي حياة بلا إيمان؟! قال جل في علاه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، قلوبهم تئن من الذنوب وتشتكي، أطفأت الذنوب نور الإيمان في قلوبهم، وقطعت الآهات والحسرات كبودهم، وأرَّقت الهموم مضاجعهم، يغرقون في لجج المعاصي والآثام، من مصيبة إلى مصيبة، ومن همّ إلى همّ، ومن غمّ إلى غمّ، ولا هم يتوبون ولا هم يذكرون، وصدق الله حين قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:124 - 125] هو مع ضلاله وعصيانه وتمرده يحاجج {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:125 - 127].
إنهم يغرقون ومع هذا لا يفكرون بالتوبة والندم، اللهم إلا خطرات تمر على قلوبهم تناديهم إلى ركوب السفينة والانضمام إلى قوافل التائبين، يسمعون المواعظ ولا يتعظون، يدفنون الموتى ولا يعتبرون، يرون الحق ولا يتبعون، يُدعون ولا يستجيبون، نقول لهم ما قال الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].(4/7)
أخبار الغارقين(4/8)
محاربة من يتوب منهم
ذكرنا بعض أحوالهم، فتعال نسمع بعض أخبارهم: من أخبارهم المتواترة أنه إذا تاب صاحب لهم وركب سفينة النجاة بدءوا بالحرب الإعلامية عليه، يلاحقونه بنبالهم وسهامهم، ويعددون أخطاءه وزلاته، فقائل منهم يقول: لن يصبر وسيعود إلى حالته السابقة، وآخر يقول: أيام وأسابيع وسيرجع إلى سابق عهده، وآخر يقدم له النصيحة فيقول: مالك وهذا الطريق فأنت على خير؟! سبحان الله! لا يصلي ولا يصوم ولا يقيم حدود الله ويغرق في بحار المعاصي ويقول له: أنت على خير، أي خير هذا؟! قال الله جل في علاه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:36 - 44].
هكذا حال الغارقين، لا يريدون أن يغرقوا بمفردهم، ولو حاولت إنقاذهم أغرقوك معهم، وكما قيل: ودت الزانية لو زنت جميع النساء حتى يصبحن سواء، عجباً لهم! بدل أن يفرحوا لهداية صاحبهم واستقامته يخططون كيف يردونه إلى شواطئ العصيان! جاءتنا الأخبار أنَّ أحد الشباب سلك طريق الاستقامة وركب سفينة النجاة، وبدأ يحافظ على الصلاة ويحفظ القرآن، بدأ يتذكر أصحاباً له لا زالوا يغرقون في لجج المعاصي والآثام، ودَّ لو أنهم ركبوا معه في سفينة التوبة والنجاة، وانضموا إلى قوافل العائدين، زارهم وليته لم يفعل! وهذه نصيحة لكل تائب وجديد في طريق الاستقامة، لا تذهب لأصحاب الماضي وحيداً، خذ معك من يعينك على دعوتهم؛ لأنَّ الكثرة تغلب الشجاعة.
زارهم يريد لهم الهداية؛ فبدأ الهجوم عليه من كل الجهات، أتذكر يوم كذا وكذا، وعلت الأصوات، وانطلقت الضحكات، وقام من عندهم بعد أن جددوا جراحاً ماضية، وحركوا في القلب والنفس أشياء، وبدأ الصراع من جديد، جاءوه بعد أيام يعرضون عليه السفر إلى مكان قريب بقصد شراء سيارة، قالوا له: نريد من يذكرنا بالله ويؤمنا في الصلاة ويعلمنا الجمع والقصر، فزينت له نفسه السفر وانطلق معهم، وليته لم يفعل! هناك حيث يُعصى الله استأجروا شقة مفروشة وتركوه فيها، وذهبوا وهم يخططون كيف يعيدونه إلى شواطئ الضياع مرة ثانية، أمضوا ليلتهم في سهرة ليلية بين خمر وغناء، وهو هناك ينتظرهم، اتفقوا مع بغي زانية فاجرة على أن يدفعوا لها الثمن أضعافاً مضاعفة إن هي استطاعت أن توقع صاحبهم في الفاحشة.
الله أكبر! يدفعون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، أدخلوها عليه، ومعها خمر وشريط غناء، حتى تكون الليلة حمراء، والخمر مذهب للعقل، والغناء بريد الزنا، خلت به وخلا بها (وما خلا رجل بامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما) ولا زالت به حتى سقته كأساً من خمر، ثم ثانية ثم ثالثة ثم وقع المحظور، وانهدم في لحظات بنيان لطالما تعب حتى بناه، نام في فراشه عارياً مخموراً والعياذ بالله! فلما أصبح الصباح جاء شياطين الإنس يطرقون الباب وضحكاتهم تملأ المكان، فتحت الفاجرة لهم الباب، فقالوا لها: هاتِ ما عندك، ما الخبر؟ ما البشارة؟ قالت: أبشروا أبشروا فقد فعل كل شيء، شرب الخمر وزنا ثم نام وهو عريان في فراشه الآن! تباً لهم ولأمثالهم أيفرحون ويستبشرون أن عُصي الله؟! يفرحون أنَّ صاحبهم زنا وشرب الخمر، بعد أن كان يصلي ويقرأ القرآن؟! دخلوا عليه ضاحكين شامتين وهو مغطىً في فراشه، أيقظوه، فلان فلان فلم يجبهم، فكرروا النداء فلان فلان فلم يجبهم، حركوه وقلَّبوه في فراشه فلم يستيقظ.
اسمع الفاجعة، صاحبنا شرب الخمر وزنا ونام، ومات من ليلته في فراشه على أسوأ ختام، إنا لله وإنا إليه راجعون! يالله! أما كان صاحبهم يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟! أليس قد جاء معهم يريد لهم الهداية فأرادوا له الغواية؟! لقد دفعوا أموالهم وأوقاتهم ليصدوه عن سبيل الله، فهل سينقذونه من عذاب الله، أي أصحاب هؤلاء؟! وصدق الله حين قال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم فاسق أردى مطيعاً حين آخاه هكذا حال الغارقين، تريد إنقاذهم فإذا هم يخططون لإغراقك معهم؛ لأنهم يغرقون، قال جل في علاه: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:54 - 56]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) رواه ابن ماجة وحسنه الألباني رحمه الله.
ماذا صنعت بهم الذنوب؟! قال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] وقال عز من قائل: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [غافر:21 - 22].
اسمع ماذا صنعت الذنوب والمعاصي والآثام، وكم دمرت من أمم وأفراد وأقوام، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي؟! {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165]، ما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء؟ طرده الله ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الربّ تعالى فأغواه ومقته أكبر المقت، فأرداه الله فصار قائداً لكل فاسق وفاجر، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة، فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك، قال الله للشيطان: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18].
ولقد حذرنا الله من مكره وكيده فقال: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].
ما الذي أوصله إلى تلك الحال؟ إنها الذنوب والتكبر على أوامر الله، ما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟ وما الذي سلط الريح على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7]؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى تقطعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم؟ فالأجساد للغرق والأرواح للحرق، إنها الذنوب قال سبحانه: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ * وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [ا(4/9)
من أخبار الناجين
من أخبار الناجين الذين ركبوا سفينة النجاة، في ثلث الليل الأخير في صلاة القيام ليلة التاسع والعشرين آخر ليلة في رمضان، ونحن نصلي القيام قرأنا بـ (ص) والدخان، ومرت بنا آيات وعظات، تأمل في قول رب البريات: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:49]، ومع تلاوة هذه الآية، بدأت أصوات بكاء شاب صغير في العشرين من عمره ترتفع، بدأت الآيات تهز كيانه، وتحرك قلبه ووجدانه، قطَّع قلوب المصلين ببكائه، وفي الركعة الثانية بدأت آيات سورة الدخان تمر على المسامع لتحرك القلوب، اسمع كيف هانت أمة كاملة على الله لما عصت أوامره، وخالفت رسله، قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ * أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ * فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:17 - 29].
هانوا على الله يوم خالفوا أوامره، لم يستطع صاحبنا التوقف عن البكاء من شدة وقع الآيات عليه، ما أعظم القرآن وما أجمل آياته إذا لامست أوتار القلوب! اسمع بارك الله فيك واسمعي رعاك الله في سياق آيات سورة الدخان ذكَّرنا الله بموعد عظيم، موعد لا تنساه، سيجمع الله فيه الأولين والآخرين، سيأتي الغارقون في لجج المعاصي والآثام {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام:31]، وسيأتي أهل الصلاح تنير الحسنات طريقهم ودروبهم، قال سبحانه: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42].
فماذا أعد الله لهؤلاء من العذاب؟ وماذا أعد الله لأولئك من النعيم؟ {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:43 - 50] هذا ما أعد الله للغارقين في لجج المعاصي والآثام.
فماذا أعد الله لأولئك الذين ركبوا سفينة النجاة، قال الله في سياق الآيات: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان:51 - 59].
صنعت الآيات في صاحبنا عجب العجاب، حتى أشفق المصلون على الشاب من شدة بكائه، ولما انتهت الصلاة التفوا حوله يهدئونه، ويذكرونه برحمة الله وفضل الله، جلست أتحدث أنا وإياه وهو مستمر في بكائه ويقول: والله إني خجل من الله، سنوات طوال وأنا أعصيه وهو يراني، لم أستح من نظره إلي واطلاعه عليّ! سنوات طوال ما صمت فيها ولا صليت، هذا أول رمضان في حياتي أصلي وأصوم وأقوم، كنت أغرق في وحل المعصية والرذيلة، لم يبق ذنب صغير ولا كبير إلا فعلناه وكررناه، سُكر وفواحش ومخدرات، أنام على الأغاني، أصحو على الألحان، أي حياة هذه!! ثم وأنا على هذه الحال وقبل رمضان بليلتين، مرَّ علي الأصحاب وقد جهزت لهم مسكراً ومخدراً، وجئت معي بالعود حيث إني أعزف وأغني لهم، كنا أربعة، أما اثنان منهم فقالا: لقد مللنا من هذا كله، آن الأوان أن نعرف معنى الحياة، لقد ضاع من عمرنا ما فيه الكفاية، ولقد صلينا الليلة العشاء في المسجد، ونريد أن تكون هذه بداية لحياة استقامة ونهاية لحياة الضياع، ولقد كانت بداية ونهاية.
يقول صاحبنا: فنزلت أنا وصاحبي بعدتنا من خمر ومسكر، ومضوا هم في طريقهم أمام أعيننا، فإذا بأحد الشباب المستهترين يتلاعب بسيارته يمنة ويسرة وقد انطلق بسرعة جنونية، فانحرفت سيارته واصطدمت بسيارة الشباب في حادث فظيع ونحن نرى ونسمع، جئنا إلى السيارة مسرعين فإذا الشباب قد تقطعت أجسادهم، وسالت دماؤهم، وتكسرت عظامهم، وفاضت أرواحهم إلى باريها {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
سبحان الله! منذ لحظات كانوا معنا، قالوا لنا: مللنا حياة الضياع، هنيئاً لهم! صدقوا ومضوا في لحظات، هنيئاً لهم فلقد خرجوا لتوهم من المسجد بعد أن صلوا العشاء مع الجماعة، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح) أمسوا ولكنهم لم يدركوا الصباح.
يقول صاحبنا: قلت لصاحبي الذي كان معي وأنا أبكي: كيف لو كنا معهم؟! بأي وجه وعلى أي حال كنا سنلقى الله؟! سنلقاه ونحن سكارى نحمل الخمر والمخدرات معنا!! ما أحلم الله علينا! كم ليلة بتناها على فواحش ومنكرات وهو يرانا.
أخذ يروي خبره وخبر أصحابه ودموعه على خده، وأنا أقول في نفسي: هنيئاً لك هذه الدموع، هنيئاً لك هذا الندم، هكذا حال من يريد أن يركب في سفينة النجاة.
أخذ يقول: وآخجلي من ربي، كيف طريق النجاة؟! وهل يقبلني بعد أن فعلت وفعلت وفعلت؟! هدَّأت من روعه وبشرته بشارات، بشرته بأنَّ الله غفار لمن تاب وآمن، بشرته بأنَّ التوبة تجب ما قبلها، بشرته بأنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، بشرته أنَّ الله يبدل السيئات حسنات، بشرته أنه ليس أحد أفرح بتوبته من الله، بشرته أنه سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين.
كان قد جاء من العمرة منذ ليلتين، شهد ليلة السابع والعشرين في الحرم، ولأول مرة يرى بيت الله، قلت له بعد أن هدأ قليلاً: اذهب الآن حافظ على الصلاة، واحمد الله أن مدَّ في عمرك وأمهلك، قال: الحمد لله الذي أمهلنا ولم يأخذنا على حين غرة، قلت: اترك صحبة السهر والضياع، والزم أصحاب الخير، اركب معهم سفينة النجاة، وأنا أنتظرك بعد أيام، أنتظرك بعد العيد لنتحدث أنا وإياك.
اتصل علي بعد العيد بأيام، قال: سأصلي معك الفجر غداً إن شاء الله، جاء على الموعد، نظرت في وجهه فإذا هو بدأ يظهر عليه نور الإيمان ووقار الصالحين، قلت: صدق الله حين قال: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
لما تكلَّم ظهر من كلامه الراحة والاطمئنان، أول ما تكلم قال: ما أجمل صلاة الفجر وما أجمل القرآن! قلت في نفسي: سبحان الله! بالأمس معازف وألحان واليوم صلاة وقرآن، قال: جئت باثنين من أصحاب الماضي وهم على استعداد لركوب سفينة النجاة، فلقد ملوا حياة الضياع، قلت له: كيف ومتى بدأ الضياع؟! قال: بدأ وأنا في الأول المتوسط، بدأ بسيجارة ثم حبوب للمذاكرة، ثم سهر وتخلف عن الصلوات، ثم حشيش وخمر وفواحش ومنكرات، ثم سفر وضياع سبع سنوات على هذه الحال، {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ما أحلم الله علينا! كم ليلة بتناها على فواحش ومنكرات! أخذ يقول: وآخجلي من ربي جل في علاه.
قلت: احمد الله واستقم على طريق الاستقامة.(4/10)
نصيحة ودعوة
أنت يا من لا زلت تغرق أما آن الأوان لتتوب وتندم، وتقلع عن الذنب وتعزم، هل سنراك تسابق المصلين إلى الصف الأول أم ستبقى على تخلفك تتقاذفك الأمواج حتى يتخطفك الموت على حال لا ترضي ولا تسر؟! أما آن الأوان أن تنطرح على بابه وتفر إليه، وتقول: وقفت ببابك يا خالقي أقلّ الذنوب على عاتقي أجرُّ الخطايا وأشقى بها لهيباً من الحزن في خافقي يسوق العباد إليك الهدى وذنبي إلى بابكم سائقي أتيت مالي سوى بابكم طريحاً أناجيك يا خالقي إلهي أتيت بصدق الحنين يناجيك بالتوب قلب حزين إلهي أتيتك في أضلعي إلى ساحة العفو شوق دفين إلهي أتيت إليك تائباً فألحق طريحك بالتائبين أعنه على نفسه والهوى فإن لم تعنه فمن ذا يُعين أبوح إليك بما قد مضى وأطرح قلبي بين يديك بقايا الخطايا ودرب الهوى وما كان تخفى دروبي عليك(4/11)
إلى من يريد النجاة
تريد النجاة؟! سؤال أسألك إياه ولا أظنك ستقول: لا، تريد النجاة؟ إذاً اركب سفينة النجاة، تعرَّف على الله، تريد أن يكون الله معك فاحرص على تقواه، إذا أردت أن تُحفظ في نفسك وأهلك ومالك فاحفظ الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
أما سمعت عن خبر الثلاثة الذين أخبرنا بخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آواهم المبيت إلى غار، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت فتحة الغار فأصبحوا في ظلام دامس، لا يعلم بمكانهم أحد إلا الله، إنه الموت والهلاك المحقق إن لم يلطف بهم الله، فقالوا: لا ينجيكم اليوم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فدعا الأول ببره بوالديه وأنه كان لا يقدم عليهم مالاً ولا ولداً، ودعا الآخر بترك الفاحشة والزنا وكان قادراً على ذلك، ودعا الثالث أنه أعطى الأجير أجره، وقالوا في دعائهم وتضرعهم: اللهم إن كنت تعلم أنّا فعلنا ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فلما علم الله صدقهم وإخلاصهم انفرجت الصخرة وخرجوا يمشون، فهم تعرفوا على الله في الرخاء فعرفهم في الشدة، وتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فأي عمل سأتوسل به أنا وأنت إلى الله إذا آوانا المبيت إلى غار أو تهنا في الصحراء أو في القفار.
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه كم نطلب الله في ضرّ يحل بنا لما تولت بلايانا نسيناه ندعوه في البحر أن ينجّي سفينتا لما وصلنا إلى الشاطئ عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعة وما سقطنا لأنَّ الحافظ الله قال ابن القيم رحمه الله: إذا استغنى الناس بالناس فاستغن أنت بالله، إذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، إذا أنِسُوا بأحبابهم فاجعل أُنسك بالله، إذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقرَّبوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله، تعرف أنت إلى الله وتودد إليه وانطرح بين يديه؛ تنل بذلك غاية العز والرفعة، كما قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
أخيراً: اسمع بارك الله فيك هناك الحديث: (إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب)، وفي رواية: (عرضه مسيرة سبعين عاماً، لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) فالباب مفتوح فالباب مفتوح فهلا ولجت! واعلم رعاك الله أنَّ الله نادى فقال: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) ولقد سمعت النداء فهلا استغفرت!! اعلم يا رعاك الله أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) والله يحب الاعتذار، فهلا أقبلت واعتذرت! ردد وقل: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قل: أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيباً أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيباً فيا أسفي على عمر تقضَّى ولم أكسب به إلا الذنوب أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا(4/12)
رسالة تائب من الحاضرين
قبل أن نختم وننتهي أود أن أقرأ لكم هذه الرسالة التي وصلتنا من أحد الحاضرين، يقول فيها: إلى الشيخ خالد أنا من أبناء المسلمين، لكني لا أصلي ولا أصوم، أنا كافر، لا أعرف معنى الإسلام، وها أنا اليوم أعلن توبتي أمام الله عز وجل ثم أمامك وأمام الحضور، فجزاكم الله كل خير، أريد أن تُقرأ رسالتي أمام الحضور، ها أنا أردد وأقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ها أنا أردد: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، ادعوا الله لي بالثبات، ادعوا لي بالثبات.
اللهم أحي قلوباً أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم حجابك، يا أكرم من سمح بالنوال! وأوسع من جاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وإحسانك.
اللهم اسلك بنا مسالك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اقبل توبة التائبين اللهم اقبل توبة التائبين اللهم اقبل توبة التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، ودلَّ الحيارى واهد الضالين، واغفر للحاضرين والغائبين، واغفر للأحياء وللميتين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل بلدنا هذا آمناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين، ونسألك اللهم توبة نصوحاً قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا ربَّ العالمين! اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى والمغفرة.
اللهم صل على محمد في الأولين، وصل على محمد في الآخرين، وصل على محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(4/13)
البداية والنهاية
لكل بداية نهاية، وكل نعيم دنيوي زائل، ثم يقدم الناس على ربهم فيجزيهم بأعمالهم، فمن قدم صالحاً أفلح ونجح، ومن اتبع الشهوات ندم وتحسر يوم لا ينفع الندم.(5/1)
قل هو نبأ عظيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71 - 70].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين ويكشف كرب المكروبين ويقضي الدين عن المدينين وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين ويغفر للأحياء وللميتين.
أهلاً بكم أحبتي في ليلة مباركة عنوانها: البداية والنهاية.
ولكل شيء بداية ونهاية! تعالوا نبدأ هذه البداية بنبأ عظيم رواه الله لنا في كتابه جل وعلا، إنه نبأ عظيم غفل عنه الأكثرون، فلنسمع ونتدبر قوله جل في علاه بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:67 - 88].
ومنذ تلك اللحظة بدأت حكاية البداية والنهاية، بدأت المعركة بين الحق والباطل، معركة باطل يتزعمها إبليس وجنوده، هدفهم إضلال البشرية وتزيين الباطل لهم وصدهم عن صراط الله المستقيم واستخدموا لذلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.
قال تعالى على لسان إبليس: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17].
فزينت الشياطين للبشر الضلالة والغواية، وعود وأماني، {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]، فزينوا للناس الدنيا والركون إلى شهواتها ولذاتها وأنسوهم الموت وسكراته والقبر وظلماته، أنسوهم يوم الحشر وكرباته والحساب وشدته.
فأرسل الله الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع، قال سبحانه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:165]، وقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:19].
فأرسل الله إلينا خير رسله، وأنزل علينا أحسن كتبه، وشرع لنا أكمل الشرائع.
من اتبع وأطاع وسلك طريق الهداية فليبشر بروح وريحان، ومن ضل وعصى وسلك طريق الغواية فلا يلومن إلا نفسه.(5/2)
وضوح طريق الهداية
من رحمة الله بنا: أن جعل طريق الهداية والاستقامة طريقاً مستقيماً واضحاً بيناً، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط لنا النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً وخط على جوانبه خطوطاً ثم قال: هذه سبل وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه، وهذا -يعني الخط المستقيم- صراط الله مستقيماً، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]،).
فهيا بنا نبدأ الحكاية وستتكون من العناصر التالية: أول المواعظ.
ثم بداية حياة ونهاية.
ثم بداية موت وقبر ونهاية.
ثم بداية حشر ونهاية.
ثم بداية حساب ونهاية.
ثم آخر الكلام.(5/3)
أول المواعظ
قدم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام متفقداً أحوالها، فزار صاحبه أبا الدرداء في منزله ليلاً، فدفع الباب فإذا هو بغير غلق، ثم دخل في بيت مظلم لا ضوء فيه، فلما سمع أبو الدرداء رضي الله عنه حسه قام إليه ورحب به، ثم جلس الرجلان يتبادلان الأحاديث والظلام يحجب كلاً منهما عن عيني صاحبه، فجس عمر وساد أبي الدرداء فإذا هو برذعة، وجس فراشه فإذا هو حصا، وجس دثاره -يعني لحافه- فإذا هو كساء رقيق لا يغني شيئاً من برد الشام، فقال له عمر: رحمك الله يا أبا الدرداء! ألم أوسع عليك؟! ألم أبعث لك؟! فقال أبو الدرداء: (أتذكر يا عمر حديثاً حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: وما هو؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا: ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب)، فماذا فعلنا بعده يا عمر! فبكى عمر وبكى أبو الدرداء، وما زالا يتجاوبان البكاء والنحيب حتى طلع عليهما الفجر.
فلا إله إلا الله والله أكبر! كيف إذا جاء عمر وأبو الدرداء ونظرا في أحوالنا؟! كم غيرنا؟! وكم بدلنا؟! وكم انفتحت الدنيا؟! ومضت الأيام قدماً وتوفي أبو الدرداء رضي الله عنه كما هو سبيل كل حي، فرأى عوف بن مالك الأشجعي فيما يراه النائم مرجاً أخضر فسيح الأرجاء وارف الأفياء فيه قبة عظيمة من أدم حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط، فقال: لمن هذه؟ فقيل: هذه لـ عبد الرحمن بن عوف، فبينما هو يتأمل في حسن المرج وبهائه إذ طلع عليه عبد الرحمن بن عوف من القبة، وقال: يا ابن مالك! هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن هذا ما أعطانا الله عز وجل على القرآن، ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت ما لم تر عيناك وسمعت ما لم تسمع أذناك ووجدت ما لم يخطر على قلبك، أعده الله عز وجل لمن؟ أعده الله لـ أبي الدرداء لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر.
وصدق الله العظيم حين قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وصدق الله العظيم حين قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:10 - 26].
ما غيروا وما بدلوا.(5/4)
بداية حياة ونهاية
هيا نسمع بداية الحياة ونهايتها، تعال نسمع من أخبار الدنيا.
قبل أن أبدأ في ذكر أخبار الدنيا أريدك أن تعرف أنه ما ذمت الدنيا من أجل الدنيا، إنما ذمت الدنيا لسوء فعل أهلها وغفلتهم عن الآخرة، وإلا فهي طريقنا إلى الآخرة، وفيها نتزود من العمل الصالح، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله).
أما أخبارها فجديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، وحيها يموت، وخيرها يفوت.
لو لم يكن فيها عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها، اسمع حقيقتها كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، هذه حقيقتها: سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف عند الوفاء.
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع(5/5)
المسابقة بالصالحات طريق للنجاة في الدنيا
طريق النجاة فيها: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
خلقها الله للامتحان والابتلاء كما قال سبحانه: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8].
الناس فيها على صنفين: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، وهم أيضاً على حالين {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3].
اسمع رعاك الله! ماذا أعد الله لهؤلاء وماذا أعد الله لهؤلاء؟ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] النتيجة: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:18 - 21].(5/6)
الدنيا سجن المؤمن
قال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).
وقال: (ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها).
وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
وقال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
(مر صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه على شاة ميتة، قال: أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ قالوا: من هوانها ألقوها قال: والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافر منها شربة ماء).
وقال: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون).
تأمل بعد هذا الكلام من سيد المرسلين! تأمل في حياته ومماته! تأمل من البداية حتى النهاية! لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز وكسرت أغلالها لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها(5/7)
تقلل النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا
تقول عائشة: (يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال لا توقد نار في بيوت آل محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: يا خالة! فما طعامكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء).
وقالت أيضاً: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتاليين).
تخبز فاطمة خبزاً فتأتيته بكسرة خبز فيأكلها ثم يقول -بأبي هو وأمي -: (والله يا فاطمة ما دخل بطن أبيك طعام منذ أيام).
يبكي عمر لما رأى حاله وقد أثر الحصير في جنبه وملوك فارس والروم تلبس الحرير وتنام على الوثير، فقال: (يا عمر: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!).
يبغي من الله المكان الأرفعا ما لبس الحرير ولا وضع التاج على الرأس مرصعا.
يقول الحسن البصري رحمه الله: دخلت بيوت النبوة بعد موته صلى الله عليه وسلم بحين فإذا جدرانها من طين، سقفها من جريد، وفرشها من حصير، وطولها وعرضها أمتار.
يقول سعيد بن المسيب: لما هدمت بيوت النبوة لتوسيع المسجد ما رأيت باكياً كما رأيت في ذلك اليوم، يقول: ليتهم أبقوها ليتهم أبقوها، حتى ينشأ ناشئ الفتيان فينا ويروا كيف كانت حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو الذي حيزت له الدنيا بما فيها.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً(5/8)
حال الصحابة مع الدنيا
ثم سار أصحابه من بعده على نهجه ودربه ما شربوا المسكرات والمخدرات، ولا اتخذوا الجواري والقينات، وما أكلوا الأموال الربويات، ولا ألهاهم عن ذكر الله شاشات وقنوات، ولا ضيعوا الأوقات في مطاردة الفتيات في المجمعات.
اسمع من كلامهم وقل بارك الله فيك: أين نحن من هؤلاء؟! يقول أبو بكر لـ خالد رضي الله عنهم: (فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك الحياة، لا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم).
أتعبت من بعدك يا خليفة رسول الله.
كتب عمر إلى ابنه عبد الله رضي الله عنهما في غيبة غابها: (أما بعد: فإنه من اتقى الله وقاه، ومن اتكل عليه كفاه، ومن شكر له زاده، ومن أقرضه جزاه، فأهل التقوى أهل الله، فاجعل التقوى عمارة قلبك وجلاء بصرك، فإنه لا عمل لمن لا نية له، ولا خير لمن لا خشية له).
كان يقول: (كل يوم يقال مات فلان ومات فلان، ولا بد من يوم يقال فيه مات عمر).
ولقد مات عمر لكن على أي حال؟!.
أما من كلام عثمان فقد كان يقول: (لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير).
كان يقول: (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم).
لا عجب، فقد كان يقوم الليل كله بالقرآن! ولـ علي رضي الله عنه كلام فاسمع وتفكر! قال رضي الله عنه: (ألا إن لله عباداً مخلصين كمن رأى أهل الجنة في الجنة فاكهين، ورأى أهل النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، قلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، حوائجهم خفيفة، صبروا أياماً قليلة لعقبى راحة طويلة، أما بالليل فصفوا أقدامهم في صلاتهم، تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا، يطلبون فكاك رقابهم وصلاح قلوبهم، أما بالنهار فعلماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح - يعني السهام، وشبههم بالسهام لأن أجسامهم ضامرة من الصيام والقيام - يقول: ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى، ووالله ما بالقوم من مرض؛ ولكن خالط القوم أمر عظيم.
وما أحلى وأجمل وصف الله لهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فلما وصف نهارهم كان من المناسب أن يصف ليلهم فقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:64 - 66].(5/9)
مآل الدنيا إلى الزوال
بكى أحد الصالحين عند موته فقيل له: ما يبكيك؟! فقال: أبكي أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم انظر على ماذا يبكون! والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب والليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب وجميع ما حصلته وجمعته حقاً يقيناً بعد موتك يذهب تباً لدار لا يدوم نعيمها ومشيدها عما قليل يخرب فالدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له.
من اشتاق للجنة هجر الشهوات واللذات في الدنيا.
الدنيا كالحلم تمر مر السحاب ساعة من زمن ثم تنقضي، ألا إنها رحلة بدأت وسوف تنتهي.
هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذلك إلى انقضاء هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذلك إلى انتقال وما دنياك إلا مثل ظل أظلك ثم آذن بالزوال أحبتي! ليس المطلوب ترك الدنيا بتاتاً، فإن هذا ليس في الإمكان، ولكن المطلوب الاعتدال في طلبها على وجه مباح لا يصد عن ذكر الله وطاعته، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
لو لم يكن في الدنيا عيب إلا أن أهلها يموتون لكفاها!(5/10)
بداية موت وقبر ونهاية
هيا نسمع خبر الموت الموت هو الحقيقة التي لا يستطيع الإنسان مؤمناً كان أو ملحداً أن يفر منها، ذكره يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي؛ إنه أمر فظيع وأليم، يفضح الأسرار، ويهتك الأستار، ويبدي العورات، ويظهر الحسرات، لو نجا منه أحد لنجا منه خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقال له سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
جاء عند أحمد بإسناد جيد: (أن نبي الله داود عليه السلام رأى يوماً رجلاً في داره فقال: من أنت؟ فقال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا يمنعني الحجاب، فقال له داود عليه السلام: فأنت والله إذاً ملك الموت) لا يمنعه مانع ولا يحجزه حاجز.(5/11)
حال العبد عند الموت
أما أحوال الناس عند الموت فقد جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: مستريح ومستراح منه، قلنا: يا رسول الله! ما المستريح؟ وما المستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من تعب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والفاجر يستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
قال لقمان لابنه: يا بني! أمر لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفاجئك.
فكيف بك إذا نزل بك مرض الموت وحلت ساعة الاحتضار ووقف أبوك المشفق بجوارك، وأمك الحنون وأولادك الصغار والكبار من حولك، قد أحاطوا بك إحاطة السوار بالمعصم ينظرون إليك بعين الرحمة والعطف والشفقة.
قد سالت دموعهم وحزنت قلوبهم، يرجون لك الشفاء ويتمنون لك البقاء، ولكن هيهات هيهات حيل بينهم وبين ما يشتهون، فلا يملك أحد من الخلق أن يزيد في عمرك أو يرد إليك عافيتك، إن الذي أعطاك الحياة بلا اختيار منك هو الذي يسلبها منك، فلله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار، إنا لله وإنا إليه راجعون.
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر، وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري، وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر.
يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر، أو ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
قال رجل لـ داود الطائي: أوصني، قال: عسكر الموت ينتظرونك.
كان مالك بن دينار يقول: والله لو استطعت ألا أنام ما نمت، فقيل: لماذا يا أبا يحيى؟! قال: أخشى أن يأتيني ملك الموت وأنا نائم، ولا أريد أن يأتيني إلا وأنا على عمل صالح.
فلله درهم، لكن قل لي بالله العظيم كيف ستكون الخواتيم؟! سمع عامر بن عبد الله المؤذن يؤذن لصلاة المغرب وهو يجود بنفسه في مرض شديد فقال: خذوا بيدي، فقيل له: إنك عليل وقد عذرك الله، فقال: والله إني لأستحي أن أسمع منادي الله ولا أجيب - الله أكبر! كم هم اليوم الذين يسمعون ولا يجيبون - فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
قل لي بالله العظيم كيف يبعث يوم القيامة؟ {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].
فكيف أنت إذا بالماء والسدر غسلوك، وكيف أنت إذا بالكفن الأبيض أدخلوك، وكيف أنت إذا في القبر المظلم أنزلوك!(5/12)
الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة
يقول أحد مغسلي الموتى: جيء بميت فلما ابتدأنا بتغسيله انقلب لونه كأنه فحمة سوداء، وكان قبل ذلك أبيض البشرة، فخرجت من مكان التغسيل وأنا خائف فوجدت رجلاً واقفاً فقلت: هذا الميت لكم؟ قال: نعم، قلت: أنت أبوه، قال: نعم، قلت: فما شأن ميتكم؟! قال الأب: إنه لم يك من المصلين، فقلت له: خذ ميتك فغسله أنت، أما حكم الله ورسوله في مثل هذا فهو ألا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يحمل على الأكتاف، بل يجر على وجهه وتحفر له حفرة في الصحراء يكب فيها على وجهه.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] فهل ترضى أن تكون مثل هذا؟! هذا من أخبار أولئك الذين سلكوا طريق الغواية.
أما أخبار أولئك الذين سلكوا طريق الهداية: فيقول أحد مشايخنا: دفنا شاباً بعد صلاة الظهر وكان شاباً محافظاً على الصلاة في المسجد، ولما غسلناه وكفناه استنار وجهه وأشرق، فلما أتينا القبر وكنت ممن نزل في قبره لإنزاله قلت: باسم الله وعلى ملة رسول الله.
فإذا به أُخِذ مني واستقبل القبلة قبل أن أنزله، قلت لصاحبي: شعرت بما شعرت أنا؟ قال: سبحان الله! أُنزل من يدي قبل أن أنزله أنا في القبر، فلما كشفت عن وجهه وجدته يضحك، فداخلني الخوف بأن يكون حياً وأنا الذي غسلته وكفنته.
فسبحان من وفق لحسن الختام أقواماً، وخذل أقواماً! {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
قال ثابت البناني: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا متقنعاً باكياً، واليوم تشهد الجنائز فترى العجب العجاب.
قال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المعزى فيها لكثرة الباكين، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت، واليوم نشهد الجنائز وكثير من الناس يضحكون ويتحدثون ونداء ربهم يقرع مسامعهم {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
اعلم رعاك الله أن من حمل الجنازة اليوم سيحمل غداً، وأن من رجع من المقبرة إلى بيته اليوم سيرجع إليها غداً اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا في غرة، ولا تجعلنا من الغافلين.(5/13)
بداية حشر ونهاية
لا تظن أن الأمر بالموت قد انتهى بل هناك بداية ونهاية أخرى.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء نعم سيبعثر ما في القبور، وسيحصل ما في الصدور.
فهيا ننتقل من خبر إلى خبر، تعال ننتقل إلى موقف عظيم، ألا هو موقف الحشر.
والحشر: هو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
الحشر: هو جمع الناس أولهم وآخرهم ليوم لا ريب فيه، سماه الله يوم الجمع، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقال جل في علاه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
تأمل حالهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
فلا إله إلا الله على يوم مثل هذا قدرة الله أحاطت بهم فلا يعجزه شيء، حيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، إن أكلتهم الطيور الجارحة، أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض.
تأمل في قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده يأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم فلا ينسى منهم أحداً، ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم ولن يغادر منهم أحداً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:94 - 95].
الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، أسكرتهم الشدائد والأهوال.
قال قتادة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، تدنى الشمس من رءوسهم مقدار ميل فيغرقون في عرقهم.
فقل لي بالله العظيم: كيف سيكون الحال؟! عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (إن الكافر يلجم يوم القيامة بعرقه من طول ذلك اليوم).
وقال علي رضي الله عنه: إن الكافر يقول من طول القيام: رب! أرحني ولو إلى النار.
وأنت وأنا لا محالة من بينهم، فتوهم نفسك وتخيل وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم وضاقت نفسك في صدرك من شدة الفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ منك المجهود ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم كلم بعضهم بعضاً في طلب من يقدم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وصدق الله حين قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:105 - 112].
فلا إله إلا الله على أهوال يشيب لها الولدان، وتذهل المرضعات عن الأطفال، وتضع الأمهات الأحمال، كيف سيكون حالي وحالك: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23].
لا إله إلا الله (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، لو تركت على أهل المحشر لأتت على برهم وفاجرهم)، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت وثارت وشهقت وزفرت نحوهم وتوثبت عليهم غضباً لغضب ربهم {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:7 - 10].
فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها، قد أسبلوا الدموع، ونادى الظالمون بالويل والثبور {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14]، ثم تزفر ثانية فيزداد الرعب والخوف في القلوب، ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق على وجوههم ويشخصون بأبصارهم وهم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها أجارنا الله منها.
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت الواحد الفرد القدير فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تعف فأنت به جدير فتصور وتخيل أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم كل واحد منهم منفرد بنفسه يقول: نفسي نفسي! فلا تسمع إلا قول: نفسي نفسي.
فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه.
إنه يوم قد بدأ وسوف ينتهي؛ لكن قل لي بالله العظيم: كيف ستكون النهايات؟ وإلى أين المصير؟ ما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم والشكور نوح والخليل إبراهيم والكليم موسى والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله وعظم قدر منازلهم عند ربهم.
كل ينادي: نفسي نفسي، هذا حال أتقى البشر، فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف يكون خوفي وخوفك؟! حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم لها وقال: أنا لها أنا لها.
عند الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم وما سواه إلا تحت لوائي).
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] هي الشفاعة، فينطلق صلى الله عليه وسلم إلى العرش فيخر ساجداً فيفتح الله عليه من محامده والثناء عليه ما هو أهله فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي، فيجيبه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم).
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
{أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62].(5/14)
بداية حساب ونهاية
لا تظن أن الأمر بالموت قد انتهى بل هناك بداية ونهاية أخرى.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء نعم سيبعثر ما في القبور، وسيحصل ما في الصدور.
فهيا ننتقل من خبر إلى خبر، تعال ننتقل إلى موقف عظيم، ألا هو موقف الحشر.
والحشر: هو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
الحشر: هو جمع الناس أولهم وآخرهم ليوم لا ريب فيه، سماه الله يوم الجمع، {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقال جل في علاه: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
تأمل حالهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
فلا إله إلا الله على يوم مثل هذا قدرة الله أحاطت بهم فلا يعجزه شيء، حيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، إن أكلتهم الطيور الجارحة، أو الحيوانات المفترسة، أو أسماك البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض.
تأمل في قوله: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده يأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم فلا ينسى منهم أحداً، ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم ولن يغادر منهم أحداً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:94 - 95].
الناس فيه سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، أسكرتهم الشدائد والأهوال.
قال قتادة: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قال: سمعت الحسن يقول: ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، تدنى الشمس من رءوسهم مقدار ميل فيغرقون في عرقهم.
فقل لي بالله العظيم: كيف سيكون الحال؟! عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: (إن الكافر يلجم يوم القيامة بعرقه من طول ذلك اليوم).
وقال علي رضي الله عنه: إن الكافر يقول من طول القيام: رب! أرحني ولو إلى النار.
وأنت وأنا لا محالة من بينهم، فتوهم نفسك وتخيل وقد علاك العرق وأطبق عليك الغم وضاقت نفسك في صدرك من شدة الفزع والرعب، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء، حتى إذا بلغ منك المجهود ومن الخلائق منتهاه، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم كلم بعضهم بعضاً في طلب من يقدم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم وموقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل وينادي بالشغل بنفسه فيقول: نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها، وصدق الله حين قال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]، قال سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:105 - 112].
فلا إله إلا الله على أهوال يشيب لها الولدان، وتذهل المرضعات عن الأطفال، وتضع الأمهات الأحمال، كيف سيكون حالي وحالك: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23].
لا إله إلا الله (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، لو تركت على أهل المحشر لأتت على برهم وفاجرهم)، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، فإذا نظرت إلى الخلائق فارت وثارت وشهقت وزفرت نحوهم وتوثبت عليهم غضباً لغضب ربهم {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:7 - 10].
فتتساقط الخلائق حينئذ على ركبهم جثاة حولها، قد أسبلوا الدموع، ونادى الظالمون بالويل والثبور {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:14]، ثم تزفر ثانية فيزداد الرعب والخوف في القلوب، ثم تزفر الثالثة فتتساقط الخلائق على وجوههم ويشخصون بأبصارهم وهم ينظرون من طرف خفي خوفاً أن تبلغهم أو يأخذهم حريقها أجارنا الله منها.
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت الواحد الفرد القدير فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تعف فأنت به جدير فتصور وتخيل أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم كل واحد منهم منفرد بنفسه يقول: نفسي نفسي! فلا تسمع إلا قول: نفسي نفسي.
فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه.
إنه يوم قد بدأ وسوف ينتهي؛ لكن قل لي بالله العظيم: كيف ستكون النهايات؟ وإلى أين المصير؟ ما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم والشكور نوح والخليل إبراهيم والكليم موسى والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله وعظم قدر منازلهم عند ربهم.
كل ينادي: نفسي نفسي، هذا حال أتقى البشر، فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف يكون خوفي وخوفك؟! حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم لها وقال: أنا لها أنا لها.
عند الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم وما سواه إلا تحت لوائي).
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] هي الشفاعة، فينطلق صلى الله عليه وسلم إلى العرش فيخر ساجداً فيفتح الله عليه من محامده والثناء عليه ما هو أهله فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي، فيجيبه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم).
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
{أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:57 - 62].(5/15)
عظم الموقف عند الحساب
ألا إنها شدة قد بدأت وانتهت، وبدأت بعدها عقبة كئود، إنها الحساب وشدته، وهو أعظم موقف وأشد عقبة، فعلى ضوئها ونهايتها ستحدد البداية التي لا نهاية لها، حين أن يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويقال: يا أهل النار خلود فلا موت.
فهيا نتابع الأحداث والأخبار تعال نتابع بداية حساب ونهايته! لكن كيف ستكون البداية، وكيف ستكون النهاية؟! حسبك أن تعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السماوات والأرضين، ليتبين لك عظم هذا المشهد وجلالته ومهابته {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210].
نعم سيجيء الرحمن مجيئاً الله أعلم بكيفيته، نؤمن به ونعلم أنه حق ولا نؤوله ولا نحرفه ولا نكذب به، وستجيء الملائكة في هذا الموقف الجليل ومعها كتب الأعمال التي أحصت على الخلق أعمالهم وتصرفاتهم وأقوالهم ليكون حجة على العباد {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
ومعنى الحساب: أن يوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه يعرفهم بأعمالهم التي عملوها وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في حياتهم من إيمان أو كفر أو استقامة أو انحراف أو طاعة أو عصيان.
فمن سلك طريق الهداية يعط كتابه بيمينه ويحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومن سلك طريق الغواية يعط كتابه بشماله ويحاسب حساباً عسيراً ويدعو ثبوراً.
ستقام محكمة قاضيها الملك الديان، شعارها: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، شعارها: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً).
ستقوم المحاكمة على قواعد وأصول بينها الله جل في علاه، منها العدل التام الذي لا يشوبه ظلم، قال جل في علاه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
ومنها: لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، قال سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164].
ومنها: إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا)) [آل عمران:30].
ومنها: إقامة الشهود، قال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24 - 25].(5/16)
ما يحاسب عليه الإنسان
عن ماذا سيكون السؤال؟ سيكون السؤال عن خمس فاستعد لل
الجواب
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزول -أي إلى الجنة أو إلى النار- لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم).
الحساب فيه بالذرة، ووالله إنه لحساب شديد ذلك الذي سنحاسب فيه بالذرة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
فتأمل عبد الله! موقفك غداً بين يدي العزيز القهار تنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، تنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، تنظر أمامك فلا ترى إلا النار.
إنها والله ساعة لا يخفى على الموقنين رهبتها ولا على المتقين شدتها: تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن غضب على العصاة ورب العرش غضبانا المشركون غداً في النار يلتهب والموحدون بدار الخلد سكانا فتخيل نفسك عبد الله! إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48].(5/17)
محاسبة الله للعباد فرداً فرداً
تخيل نفسك عبد الله! إذا نوديت باسمك على رءوس الخلائق: أين فلان بن فلان؟ استعد للعرض والوقوف بين يدي الله! وقد وكلت الملائكة بأخذك فساقتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسمك واسم أبيك، إذا عرفت أنك المراد بالدعاء.
تخيل إذا قرع النداء قلبك فعلمت أنك أنت المطلوب، فارتعدت فرائصك واضطربت جوارحك وتغير لونك وطار قلبك، تخطى بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم وأنت في أيدي الملائكة قد طار قلبك واشتد رعبك لعلمك أين يراد بك.
فلا إله إلا الله إذا وقفت بين يدي ربك ليس بينك وبينه ترجمان، في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل وقلب منكسر، والأهوال محيطة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها أبداها وأظهرها، وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف، وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً.
فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت في طاعة ربك! عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه - يعني ستره - فيقرره بذنوبه، حتى إذا ظن العبد أنه هلك، فإذا كان ممن تاب وسلك طريق الهداية قال الله له بعد أن قرره بذنوبه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتابه بيمينه، فينطلق بين الملأ فرحاً مسروراً ضاحكاً مستبشراً يقول بأعلى صوته: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39].
لكن قل لي بالله العظيم: كيف لو كان ممن سلك طريق الغواية وجاءته النهاية بلا توبة ولا أوبة، يقرره الله بذنوبه ثم يقول الجبار: يا ملائكتي! خذوه ومن عذابي أذيقوه، فلقد اشتد غضبي على من قل حياؤه معي فيؤتي كتابه بشماله، فيخرج إلى الملأ وهو يقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42].
فأي مصير تريد؟! أي مصير تريد؟!(5/18)
كرامة الصالحين عند الله
اسلك طريق الهداية وتجنب طريق الغواية، استعن بالصبر والصلاة، اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم، لا تحزن لقلة السالكين، ولا تغتر بكثرة الهالكين، أسهر ليلك بالقرآن والقيام، واقطع نهارك بالظمأ والصيام، صم في دنياك عن الشهوات والمعاصي والمنكرات، وأفطر يوم تلقى الله وتنادى إلى جنة عرضها الأرض والسماوات.
قال إبراهيم بن أدهم لأخ له في الله: (إنه بلغني أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا عليهما السلام يا يحيى! إني قضيت على نفسي أنه لا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك منه إلا كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي يتكلم به، وقلبه الذي يفهم به، فإذا كان عبدي كذلك بغضت إليه الاشتغال بغيري، وأدمت فكرته، وأسهرت ليله، وأظمأت نهاره، يا يحيى! أنا جليس قلبه وغاية أمنيته وأمله، أهب له كل يوم وساعة فيتقرب مني وأتقرب منه، أسمع كلامه وأجيب تضرعه ودعاءه، فوعزتي وجلالي! لأبعثنه مبعثاً يغبطه به النبيون والمرسلون، ثم آمر منادياً ينادي: هذا فلان بن فلان، ولي الله وصفيه وخيرته من خلقه، دعاه إلى زيارته ليشفي صدره من النظر إلى وجهه الكريم، فإذا جاءني رفعت الحجاب فيما بيني وبينه، فنظر إلي كيف شاء وأقول له: أبشر فوعزتي وجلالي لأشفين صدرك من النظر إلي، ولأجددن كرامتك في كل يوم وليلة وساعة).
سبحانك يا علي يا عظيم، يا باري يا رحيم، يا عزيز يا جبار، يا حي يا حليم، سبحان من سبحت له السماوات بأكنافها، سبحان من سبحت له الجبال بأصواتها، سبحان من سبحت له البحار بأمواجها، سبحان من سبحت له الحيتان بلغاتها، سبحان من سبحت له النجوم بأبراجها، سبحان من سبحت له الأشجار بأصولها، سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال.
سبحانك لا إله إلا أنت وحدك.
اللهم صل على محمد في الأولين، اللهم صل على محمد في الآخرين، اللهم صل على محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
اللهم اعصمنا من فتن الدنيا ووفقنا لما تحب من العمل وترضى، وأصلح لنا شأننا كله وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
اللهم أصلح الشباب والشيب واحفظ النساء والبنين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أستغفر الله العظيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(5/19)
أصحاب الجنة والنار
كثيراً ما نجد في كتاب الله الكريم: ترغيباً في الجنة، وترهيباً من النار؛ وذلك لأنهما مآل الإنسان الحتمي الذي لابد منه.
وقد ذكر الله لنا كثيراً من أوصاف النار، وألوان العذاب الذي يلاقيه أهل النار فيها، وبالمقابل كذلك ذكر لنا أوصافاً من النعيم الذي يجده أهل الجنة في جنتهم؛ وكل ذلك ليجتهد الإنسان ويعمل للحصول على المطلوب ولينال المأمول.(6/1)
الجنة والنار نهاية الرحلة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أيها الناس! يا من تطهرتم وتوضأتم وأتيتم إلى بيت الله ترجون رحمته، وتخشون عذابه، أقول لكم: السلام عليكم ورحمة الله، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأله سبحانه أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين: يا من يرى ما في الضمير ويسمعُ أنت المعد لكل ما يتوقعُ يا من يرجَّى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزعُ! يا من خزائن رزقه في قول كُنْ! والخير كله عندك أجمعُ مالي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفعُ مالي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رُددتُ فأي باب أقرعُ ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يُمنعُ حاشا لفضلك أن تقنط عاصياً فالفضل أجزل والمواهب أوسعُ لقد أُرسل إلينا خير الرسل، فشرع لنا أحسن الشرائع، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، ووعد من أطاعه بالنور التام يوم القيامة، وتوعد من عصاه بالعذاب والجحيم.
أيها الناس! نجد في كتاب الله بل في كل صفحة من صفحات الكتاب الكريم نجد مشهداً وصورة من صور ذلك اليوم العظيم، إنه اليوم الذي لا يوم بعده، إنه اليوم العظيم كما سماه رب العزة والجلال، وأمرنا سبحانه بالإيمان به، فإن الإيمان بما في ذلك اليوم من العذاب والنعيم هو الدافع إلى سلوك الطريق المستقيم، والضابط لسلوك الناس، فمن علم أنه لله عبد، وأنه بين يديه موقوف، وعلم أنه في ذلك الموقف مسئول، فماذا أعد للسؤال؟ وكيف يبدأ ذلك اليوم وكيف ينتهي؟ وما هو مصير الناس في ذلك اليوم، يقول تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44]، وقال: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:104 - 105].
وفي ذلك اليوم ينقسم العباد إلى قسمين لا ثالث لهما {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
فإلى أين يكون المصير؟ وكم ذكر لنا رب العزة والجلال تلك المشاهد الرهيبة، وتلك المواقف العظيمة اسمع يا رعاك الله! وافتح قلبك قبل أن تفتح أذنيك لقول الله عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:19 - 35]، فهذا تهديد ووعيد، وأمل لمن أطاع وأناب، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
فالمصير إما إلى جنة وإما إلى نار، فالدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة.
يا عجباً للناس لو فكروا وحاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها واتخذوا الدنيا لهم معبر لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقى والبر كانا خير ما يدخر فالعمر فرصة، ولك أن تختار المصير، {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، فإما أن تختار مصير الشاكرين فإلى جنات النعيم، وإما مصير الكافرين فإلى جهنم والعذاب المقيم.
وقد صور لنا الله تبارك وتعالى صوراً من النار وصوراً من الجنة؛ حتى لا تغفل هذه القلوب عن الحقيقة التي لابد منها، فما ذكر الله النار إلا وأتبعها بصور من الجنة، وما ذكر الجنة إلا وأتبعها بصور من النار، فاسمع ماذا يقول الواحد القهار يوم ينادي عباده الصالحين إلى مرضاته وجنته، ويوم يقاد المجرمين إلى عذاب الله خالدين يقول: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:68 - 80].(6/2)
صفة النار وعذابها
إن النار دار الخزي والبوار، ودار العذاب والنكال، فكم حذر المولى منها وأنذر {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:15 - 16].
وأبوابها سبعة كما قال ربها: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43 - 44]، قال تعالى عن خزنتها: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:26 - 28]، وقال: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
فقعرها بعيد، وحرها شديد، مقامعها من حديد، وطعام أهلها من النار، ولباسهم من النار، وفرشهم من النار، ومساكنهم من النار، وشرابهم من النار، فقد أطبقت عليهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
ويستغيثون فلا يستجاب لهم، ويصيحون فلا يسمع صياحهم: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، فيأتيهم الرد بعد آلاف من السنين: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، ويكون هذا آخر عهدهم بصوت الرحمن تبارك وتعالى.
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
وتغطي على أهل جهنم غيوم وسحب سود فيقال لهم: يا أهل النار! ماذا تتمنون؟ فيتذكرون الماء والمطر والشراب، فيقولون: ربنا أمطر علينا ماء وشراباً، فتمطر عليهم سلاسلاً تزيد في سلاسلهم، وأغلالاً تزيد في أغلالهم، ولهيباً يزيد في احتراقهم، فبئس من كانت هذه الدار داره، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
وطعامهم من ضريع {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، فيغصون بطعامهم فلا هم يستطيعون إدخاله، ولا هم يستطيعون إخراجه، وطعامهم من شجرة الزقوم وما أدراك ما الزقوم! قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان:43 - 50].
يقول صلى الله عليه وسلم مبيناً بشاعة شجرة الزقوم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لغيرت على أهل الأرض معايشهم)، فكيف بمن تكون طعامه؟! وفي النار تضخم الصور وتضخم الأشكال، حتى أن مجلس الكافر في جهنم مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ جلد الكافر أربعين ذراعاً، وكلما نضجت هذه الجلود بُدِّلوا غيرها؛ ليذوقوا العذاب الشديد، فيرسل عليهم البكاء فيبكون ويستجيرون حتى تنقطع الدموع، فيبكون دماً حتى تخط في وجوههم مثل الأخاديد، ولو سيرت بها السفن لجرت، إنه العذاب الأليم الشديد.
فكم أنذر رب العزة وحذر: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:20 - 21]، إنه الويل والثبور، إنه الحساب الذي لا حساب بعده، والوعيد الذي لا وعيد بعده.
إخواني! أما تحذرون من نار جهنم وما فيها من العذاب والنكال؟! واعجباً لمن يقرع سمعه ذكر السعير وهو بالله من عذابها غير مستجير!! أفيك جَلَد على الصديد والجحيم والزمهرير؟! أم بك جلد على نار وقودها الناس والحجارة؟! أم قد رضيت لنفسك هذه الخسارة؟! الحقيقة: أن العذاب لا يوصف، بل هو أعظم مما تتصور.(6/3)
صفة الجنة
في المقابل حتى يرغب الله عباده وتشتاق قلوبهم إلى جنات الله، وإلى النعيم الدائم المقيم، صور الله الجنة وما فيها من النعيم، وما فيها من لطيف الأخبار والإنعام والإحسان الذي ينزله رب العزة والجلال على عباده في دار كرامته.
فلها ثمانية أبواب، وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام، وما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وأول من يُفتح له حبيبنا صلى الله عليه وسلم عندما يقرع فيقال له: لك أمرنا أن نفتح، فتدخل هذه الأمة لكرامتها على الله تبارك وتعالى.
يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [فأول ما يدخل أهل الجنة الجنة إذا بشجرة قد نبع من أصلها عينان كأنهم أمروا أن يشربوا من العين الأولى فيذهب الله ما في بطونهم من أذى وبأس وقذى، ثم يشربون من العين الثانية فتظهر على وجوههم نظرة النعيم، ثم يستقبلهم الولدان المخلدون فيقولون لهم: أبشروا بما يسركم، ويكون هذا عندما يساق {الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73].
فيذهب الولدان المخلدون إلى أزواجهم من الحور العين يبشرونهن ويقولون لهن: أتى فلان ويناودنه باسمه الذي كان ينادى به في الدنيا، فتطير الحسناء فرحاً وطرباً؛ لقدوم الحبيب، فتنتظره على عتبة الباب، حتى إذا أقبل ولي الله على قصره إذا هو قائم أساسه على لؤلؤ ينظر إلى أعلاه، فلولا أن الله كتب ألا يذهب بصره لذهب، ألوان صفر، وحمر، وخضر، فيقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]، فيطأطئ الرأس فإذا بأزواجه من الحور العين، {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:14 - 16]، فيجلس على أريكته ما شاء الله أن يمكث فإذا بنور يسطع في الجنة فيظن أهل الجنة أن الله قد تجلى لهم، فإذا الحورية تناديه وتقول: ولي الله! أما لنا فيك نصيب؟ فيقول لها: من أنت يا أمة الله؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: ((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [ق:35]، فينتقل إليها فإذا فيها من الحسن والجمال ما ليس في الأولى فيمكث عندها ما شاء الله له أن يمكث فإذا بنور قد سطع فيظن أن الله قد تجلى لهم، فإذا بحورية تناديه فيقول لها: من أنت يا أمة الله؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، فينادونه أزواجه إنك لا تُمل ولا تُمل ووالله! ما في الجنة شيء أحسن منك، وما في الجنة شيء أحب إلينا منك.(6/4)
وصف الحور العين
اسمع يا رعاك الله! كيف يصور ابن القيم حسنهن وجمالهن فيقول: يا خاطب الحور الحسان وطالباً لوصالهن بجنة الحيوانِ لو كنت تدري من خطبت ومن طلبـ ت بذلت ما تحوي من الأثمانِ أسرع وحث السير جهدك إنما مسراك هذا ساعة لزمانِ فاسمع صفات عرائس الجنات ثـ م اختر لنفسك يا أخا العرفانِ حمر الخدود ثغورهن لآلئٌ سود العيون فواتر الأجفان والبرق يبدو حين يبسم ثغرها فيضيء سقف القصر بالجدرانِ ريانة الأعطاف من ماء الشبا ب فغصنها بالماء ذو جريانِ والقدّ منها كالقضيب اللدن في حسن القوام كأوسط القضبانِ والجيد ذو طول وحسن في بيا ض واعتدال ليس ذا نكرانِ والريح مسك والجسوم نواعم واللون كالياقوت والمرجان وكلامها يسبي العقول بنغمة زادت على الأوتار والعيدانِ أترى يليق بعاقل بيع الذي يبقى وهذا وصفه بالفاني يقول سفيان: بينما أهل الجنة في الجنة إذ سطع نور فقيل: ما هذا؟ قيل: حورية ضحكت في وجه زوجها، لنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لو بصقت في بحر لجي لأصبح عذباً فراتاً، ولو أطلت من السماء لغطى نور وجهها نور الشمس والقمر.(6/5)
ولدينا مزيد
بينما أهل الجنة في مجالسهم ونعيمهم في طرب وسرور وحبور، إذ نادى المنادي عن نعيم أعظم من هذا النعيم، ولذة أعظم من هذه اللذة، إنها رؤية العزيز الحميد، إنها التمتع بالنظر إلى وجه العزيز الكريم، فينادي المنادي: يا أهل الجنة! إن ربكم تعالى يستزيركم فحيا على زيارته، فيقومون إلى الزيارة مسرعين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مبادرين، حتى إذا جاءوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ونصبت لهم منابر من نور، ومنابر من ذهب، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، وجلس أدناهم على كتان المسك -وحاشاهم أن يكون بينهم دنيء- حتى إذا استووا في مجالسهم نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ألم يبيض وجوهنا؟ ويثقل موازيننا؟ ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة؟ فبينما هم كذلك إذ سطع نور أجرست له الجنة، فإذا الجبار جل جلاله يتجلى لهم ويضحك لهم ويقول: سلام يا أهل الجنة! فلا ترد تلك التحية إلا بقولهم: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام! فيتجلى لهم ويضحك لهم فيكون أول ما يسمعون منه: أين عبادي الذين كانوا يخشوني بالغيب ولم يروني؟ هذا يوم المزيد فسلوني، فيقولون: ربنا! إنا رضينا فارض عنا، فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة أن ربنا أرنا وجهك ننظر إليك، فيكشف الجبار الحجب فيغشاهم من النور لولا أنه كتب عليهم ألا يحترقوا لاحترقوا، فلا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا ويحاضره ربه محاضرة، ويناظره مناظرة فيقول: فلان أتذكر يوم كذا وكذا ويذكره ببعض غدراته في الدنيا؛ فيقول: ربي! ألم تغفر لي؟ فيقول: لو لم أغفر لك لما بلغت منزلتك هذه، فيا لذة الأنظار بتلك المناظرة! ويا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:22 - 39].
فحيا على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلّم(6/6)
ثمن الجنة
كم تُذكر الجنة والنار؟ وكم يحذر الجبار ويرغب؟ فلا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا أذن تسمع، فما هو الثمن أحبتي؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية إلا إن سلعة الله الجنة).
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلانِ فأين الثمن أحبتي؟ فاقرأ في سير القوم وما قدموا، وكم بذلوا وضحوا من أجلها؛ لأنها الأمنية التي عاشوا من أجلها، فيمر عليهم نبي الهدى والرحمة وهم يضطهدون ويعذبون فيقول لهم: (صبراً آل ياسر! إن موعدكم الجنة)، وقال: (إن لكم أن تحيوا فيها فلا تموتوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً).
وأنت الآن في زمن الإمكان والثمن: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11].
إن أحدهم يطعن برمح في ظهره حتى يخرج من صدره، فيتناثر الدم على وجهه، فيمسح وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! والآخر يقول: واهٍ لريح الجنة، إني لأشم ريح الجنة دون أُحد.
إنها الجنة وما أدراك ما الجنة، إنه الإيمان والتقوى والإحسان الذي قاد أولئك الرجال إلى نعيم الله والرضوان.
وهذا حارثة يصبح فيقول له النبي: (كيف أصبحت يا حارثة؟! فيقول: أصبحت مؤمناً حقاً، فيقول له صلى الله عليه وسلم: وما حقيقة قولك وإيمانك؟ فيقول: عزفت نفسي عن الدنيا: فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، ولكأني أرى عرش الرحمن بارزاً أمامي، وكأني أرى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أرى أهل النار يتعاوون فيها)، فيقتل يوم بدر فتأتي أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: يا رسول الله! أين حارثة؟ هل هو في النار فأجتهد وأبكي، أم في الجنة فأفرح له، فقال: (يا أم حارثة! إنها جنان وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى).
فيا بائعاً هذا ببخسٍ معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم وحتى قلوب النساء كانت معلقة بالجنة، فـ نسيبة الأنصارية الداعية المجاهدة يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (يوم أحد -يوم دارت الدوائر- ألتفت يمنة، فإذا بـ أم عمارة تذود عني، وألتفت يسرة فإذا بـ أم عمارة تذود عني أقول لها: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟ سليني يا أم عمارة تقول: نسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله!).
إنها الجنة يا أحبتي! إنها الجنة التي تقطعت أكباد الصالحين من أجلها، فهذا سعد بن الربيع يسمع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف وهو يقول: (من يرد عنا الرجال وهو رفيقي في الجنة)؟ فما إن يسمع اسم الجنة حتى يطير قلبه، وتتحرك أحاسيسه إنها الجنة التي بايعنا من أجلها، إنها الجنة التي وعدنا يوم العقبة يوم أن تواعد الرجال مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن نحن قدمنا الغالي والنفيس وأظهرك الله ماذا لنا يا رسول الله؟! قال: لكم الجنة، قالوا: مد يمينك نبايعك.
لما سمع سعد بن الربيع اسم الجنة رمى كل ما يثقله وانطلق في صفوف الكافرين يهزهم هزاً، فكان أسداً مقبلاً غير مدبر، فلما رأى القوم بسالته وشدته اجتمعوا عليه حتى أردوه قتيلاً، فكان أول ما انتهى القتال أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا صنع سعد بن الربيع؟ من يبحث لنا ويأتي لنا بخبر سعد بن الربيع، يقول أبو موسى الأشعري: فتحسسته وبحثت عنه بين القتلى فوجدته في آخر رمق من الحياة، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤك السلام ويقول: كيف تجدك؟ فتهلل وجهه لما سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم وعلم أن القائد حي يرزق فقال: أقرؤه مني السلام، وقل له: جزاك الله عنا خير ما جُزي نبي عن أمته، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، ثم اسمع الوصية فهو لم يوص بمال ولا بعيال وإنما قال: (أقرئ قومي الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم أمام الله أن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف).
إنه الثبات في المحيا وعند الممات، فلما رجع أبو موسى وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر تحركت مشاعر القائد صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وقال: (اللهم! القَ سعد بن الربيع وأنت عنه راضٍ، ثم قال: رحمك الله يا سعد نصحت للإسلام حياً وميتاً)، إنه الثمن، فالذين اجتهدوا بالطاعات وتقربوا إلى الله بالقربات فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما الذين سوفوا وغرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور فكيف سيكون الحال إذا انقسم الناس إلى قسمين إما إلى جنة وإما إلى نار؟ إن الأمر جد، والخطب جلل، والأمر أعظم مما يتصور الإنسان، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، ليجازي المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
والناس في هذه الدنيا صنفان لا ثالث لهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، والنتيجة هي في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:18 - 21].
فالحقيقة التي لابد منها أن بعد هذه الحياة موتاً وقبراً وبرزخاً، وبعد البرزخ بعثاً وحشراً وحساباً وميزاناً وصراطاً وجنةً وناراً، {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:97 - 104].
أحبتي! عندما قصرنا في النظر إلى كتاب الله، وقصرنا في تدبر آياته، وفي اتباع المنهج الصحيح، وعندما غرتنا الحياة الدنيا وشغلتنا أموالنا وأهلونا أصبحت الحياة لا قيمة لها ولا معنى، فقيمة الحياة تكون بالهدف الذي يعيش الإنسان من أجله، وقيمة الحياة هي في الغاية التي يعيش الإنسان من أجلها: (يا ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد من عبادي وكادته السموات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً، وعزتي وجلالي! ما اعتصم عبد من عبادي بغيري إلا أغلقت عليه أبواب السماء، وأزحت الأرض من تحته).
فلتكن الحياة لله وفي الله، وإذا أَنِسَ الناس بالدنيا فافرح أنت بالآخرة، وإذا فرح الناس بالدرهم والدينار فافرح أنت بالله: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36]، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19]، فأصحاب النهى والعقول هم الذين تدبروا وتفكروا واستعانوا على طاعة الله في عباد الله الصالحين، فهم من طاعة إلى طاعة، ومن قربة إلى قربة، والحياة ممر وطريق والعمر فرصة فاستغلوا الأوقات، واستغلوا الدقائق والثواني قبل أن يأتي وقت الندم والحسرة، فإنك لا تدري أين سيكون اسمك غداً، ولا تدري أنك إذا أصبحت هل تدرك المساء، وأنك إذا أمسيت هل تدرك الصباح.
أحبتي! هذه القصيدة لم تكن على البال، ولم تكن معدة لأقولها في هذا المكان، ولكن بطلب من أحد الإخوة الذين أحبهم في الله، وأشهد الله على حبكم أجمعين، وتلبية له والقصيدة هي للشيخ: سعيد بن مسفر(6/7)
الملتقى الجنة
جعل الله الجنة دار جزاء خالد للمتقين الذين شمروا في طاعة الله واجتنبوا محارمه، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهنيئاً لمن استعد لها وفاز بها.(7/1)
آيات وتفسير
أحبتي أهلاً بكم، وأهلاً بالجميع.
إن لله عباداً أسكنهم دار السلام, فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام, وأغمضوا الجفون عن مناظر الحرام، قيدوا الجوارح عن فضول الكلام, وطووا الفرش وقاموا في جوف الظلام، طلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام, فلم يزل في نهارهم صيام, وفي ليلهم قيام, حتى أتاهم ملك الموت عليهم السلام.
فارقوا الدنيا على أن يكون ملتقاهم الجنة, سموا وسعوا إلى دار ليس فيها ما يشينها, دار لا يفني فيها ما يزينها، دار لا يزول عزها، ولا يزول تمكينها، قال الله عن تلك الدار وعن ساكنيها: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه:118 - 119].
فيا الله ما أتم نعيمهم! وما أعم تكريمهم! وما أفضل حريمهم! وما أكرم كريمهم! وما أظرف حديثهم! منحوا الخلود، افترقوا في الدنيا على أمل أن يكون اللقاء في الجنة.
دفعني إلى الموضوع: تشويق النفوس إلى ما أعده الله لأهل الطاعات, وبيان خسارة أولئك الذين آثروا الشهوات واللذات.
دفعني إلى الموضوع: حتى يزيد الصالح في صلاحه, ويثبت الثابت على استقامته وعلى مكانه فأي فوز أعظم من الفوز بجنات النعيم، ورؤية الرحمن الرحيم؟! قال يحيى بن معاذ: ترك الدنيا شديد, وفوات الجنة أشد, وترك الدنيا هو مهر الجنة.
لي معكم في هذا اللقاء خمس وقفات وخمس تأملات: فالوقفة الأولى: آيات وتفسير.
والوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.
والوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.
والوقفة الرابعة: ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا! والوقفة الخامسة: الطريق إلى الجنة.
فهيا ننطلق مع الوقفة الأولى: آيات وتفسير: جاء من ذكر الجنة في القرآن الكثير الكثير، تثبيتاً للعاملين, وتشويقاً للمشتاقين، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:8 - 11] قال المفسرون: معنى قوله: ((نَاعِمَةٌ)) أي في نعمة وكرامة، وقوله: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} أي أنها رضت ثواب عملها الذي كانت تعمله في الدنيا، وقوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي عالية المنازل متفاوتات الدرجات، وقوله: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} أي لا تسمع فيها كلام لغواً أو باطل، كما قال سبحانه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].
ثم بين ما في تلك الجنان من نعيم فقال سبحانه: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:12 - 16].
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} قال: ألواحها من ذهب مكللة بالزبردج والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها فإذا جاءوا وأرادوا الجلوس تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، فإذا قاموا عادت وارتفعت إلى مكانها.
وقوله: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} وهي الأباريق التي لا عري لها موضوعة عندهم، وقوله: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} هي الوسائد مصفوفة إلى جنب بعضها.
وقوله: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} هي الطنافس أي البسط والفرش كثيرة متفرقة هذا بعض ما فيها! أما الحق الذي نعرفه فإن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
اسمع واسمعي عن أدناهم منزلة وأعلاهم منزلة في الجنان: روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال الله لموسى: هو رجل يجيء بعدما دخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت رب، فيقول له: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة: رضيت رب! فيقول: ولك هذا وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك.
فيقول: رضيت رب! فما أعلاهم منزلة؟ قال الله: أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).
فماذا كان عملهم حتى جزاهم ونضر وجوههم وقال عنهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39].
فاسمع رعاك الله! عن تلك الوجوه! وجوه طالما غسلتها الدموع، وجوه طالما أذلها الخشوع، وجوه ظهر عليها الاصفرار من الجوع، وجوه إذا ذكرت أذعنت وذلت، وجوه ألفت الركوع والسجود فما كلت ولا ملت، وجوه توجهت إلى ربها وما نكصت على أعقابها وما تولت، وجوه سارت في الدنيا بين الرجاء والخوف، رجاء دخول الجنان والخوف من النيران، لسان حالهم في دنياهم كما قال ربهم جلا في علاه: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:10 - 22].
سعيكم مشكور إذ صبرتم على طاعتي سعيكم مشكور إذ صبرتم عن معصيتي سعيكم مشكور إذ صبرتم على الأذى في سبيلي صبرت عن اللذات حتى تولت وألزمت نفسي هجرها فاستمرت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن توقت تاقت وإلا تسلت اسمعي واسمع بعض من سعيهم كما قال ربهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1 - 11].
اللهم اجعلنا ممن يقال لهم يوم العرض الأكبر: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34].(7/2)
من أخبار المشتاقين(7/3)
أبو ريحانة المجاهد
الوقفة الثانية: من أخبار المشتاقين.
روى ابن المبارك في الزهد عن مولى لـ أبى ريحانة قال: قفل أبو ريحانة من بعث غزا فيه، فلما انصرف أتى أهله فتعشى من عشائهم ثم دعا بوضوء فتوضأ منه ثم قام إلى مسجده -يعني مصلاه في بيته- فقرأ سورة ثم أخرى، ولم يزل كذلك كلما فرغ من سورة افتتح الأخرى حتى إذا أذن المؤذن من سحر شد عليه ثيابه، فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة قد غزوت فتعبت في غزوتك ثم قدمت إلي فلم يكن لي منك حظ ولا نصيب، فقال: بلى والله ما خطرت لي على بال، ولو ذكرتك لكان لك علي حق، قالت: فما الذي شغلك عنا يا أبا ريحانة؟ قال: لم يزل قلبي يهيم فيما وصف الله في جنته من لباسها وأزواجها ونعيمها ولذاتها حتى سمعت المؤذن.
الله أكبر! لما سمع القوم قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21]، فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة.
قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه أنت في الآخرة.
وقال رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
اعلم رعاك الله واعلمي بارك الله فيك! أنه: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم قام رجل من الصالحين يصلي من الليل فمر بقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] فجعل يرددها ويبكي حتى أصبح، فلما أصبح قيل له: أبكتك آية ما مثلها يبكي، إنها جنة عريضة واسعة، فقال: يا ابن أخي! وما ينفعني عرضها إن لم يكن لي فيها موضع قدم؟ فيا عجباً كيف ينام طالبها؟! وكيف لم يستخدم فيها خاطبها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! وكيف قر للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟! وكيف قر دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟! وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟! فسل المتيم أين خلف صبره في أي واد أم بأي مكان أترى يليق بعاقل بيع الذي يبقى وهذا وصفه بالفاني اعلم رعاك الله! واعلمي بارك الله فيك! أن من جد وجد، ومن سهر ليس كمن رقد، ومن لم تبك الدنيا عليه لم تضحك الآخرة له.
لسان حال المشتاقين: إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم جعلت اشتغالي فيك يا منتهى شغلي عن كريب أنه سمع أسامة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها, ورب الكعبة نور يتلالأ, وريحانة تهتز, وقصر مشيد, ونهر مطرد, وثمرة نضيجة, وزوجة حسناء جميلة, وحلل كثيرة, في مقام أبد, في دار سلمة, وفاكهة خضراء, وحبرة ونعمة, في محلة عالية بهية, قالوا: نعم يا رسول الله! نحن المشمرون.
قال: قولوا: إن شاء الله.
فقال القوم: إن شاء الله).
هنيئاً لهم سمعوا الأوصاف والأخبار فشمروا، وصدقوا الأقوال بالأفعال، علموا أن السلعة غالية، فقدموا الثمن من الأنفس والأموال، لأن الله اشترى وهم باعوا والثمن الجنة، وعد صادق، وعهد سابق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].(7/4)
حارثة وأم حارثة
اسمع خبراً من أخبارهم: قتل يوم بدر حارثة العابد الزاهد الملازم للمساجد فجاءت أمه أم حارثة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم شاكية باكية قالت: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة أين هو؛ في النار فأبكيه أم في الجنة فأفرح لما هو فيه؟ قال: (يا أم حارثة أمجنونة أنت؟! إنها ليست جنة ولكنها جنان، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى).
قال الله جلا في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107]، وقال جل في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10].
لله قوم أخلصوا في حبه فاختصهم ورضي بهم خداما قوم إذا هجم الظلام عليهم قاموا فكانوا سجداً وقياما يتلذذون بذكره في ليلهم ونهارهم لا يفترون صياما فسيفرحون بورد حوض محمد وسيسكنون من الجنان خياما وسيغنمون عراساً بعرائس ويبوءون من الجنان مكانا وتقر أعينهم بما أخفى لهم وسيسمعون من الجليل سلاما هذا طريقهم فأين السالكون؟ وهذا وصفهم فأين المشمرون؟ كان رجل من الموالي اسمه صهيب وكان يكثر قيام الليل والبكاء، فعوتب على ذلك فقال: إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه.(7/5)
الملتقى الجنة
الوقفة الثالثة: الملتقى الجنة.
عن رافع بن عبد الله قال: قال لي هشام بن يحيى الكناني: لأحدثنك حديثاً رأيته بعيني وشهدته بنفسي، قلت: حدثني يا أبا الوليد.
قال: غزونا أرض الروم سنة ثمان وثلاثين وكنا رفقة من أهل البصرة وأهل الجزيرة، وكنا نتناوب الخدمة والحراسة وإعداد الطعام وكان معنا رجل يقال له سعيد بن الحارث ذو حظ من عبادة يصوم النهار ويقوم الليل، وكنا نحرص على تخفيف النوبة عليه لطول قيامه وكثرة صيامه، فكان يأبى إلا بالقيام بكل المهمات وما رأيته في ليل ولا نهار إلا في حالة جد واجتهاد , فأدركني وإياه النوبة ذات ليلة في الحراسة وكنا قد حاصرنا حصناً من حصون الروم فاستصعب علينا، فرأيت من سعيد في تلك الليلة من الجلد والصبر على العبادة ما جعلني أحتقر نفسي.
قال: فلما أصبح الصباح لم ينم، فقلت له: خفف على نفسك فلنفسك عليك حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكلفوا من العمل ما تطيقون)، فقال لي: يا أخي! إنما هي أنفاس تعد وعمر يفنى وأيام تنقضي، فأنا رجل ينتظر الموت في أي لحظة.
فبكيت لجوابه ودعوت الله لي وله بالعون والتثبيت، ثم قلت: نم قليلاً لتستريح، فإنك لا تدري ما يحدث من أمر العدو، فنام تحت ظل خيمته وتفرق أصحابنا في أرض المعركة، وأقمت في موضعي أحرس رحالهم وأصلح طعامهم، فبينما أنا كذلك إذ سمعت كلاماً يأتي من ناحية الخيمة، فعجبت فليس هنا إلا سعيداً نائماً، ظننت أن أحداً جاءه ولم أره.
فذهبت إلى جانب الخيمة فلم أر أحداً وسعيد على حاله نائماً إلا أنه كان يتكلم في نومه ويضحك، أصغيت إليه وحفظت كلامه، ثم مد يده وهو نائم كأنه يأخذ شيئاً ثم ردها بلطف وهو يضحك ثم قال: الليل إذاً! ثم وثب من نومه وهو يرتعد خائفاً، فاحتضنته إلى صدري حتى سكن وهدأ، وجعل يهلل ويكبر ويحمد الله، فقلت: ما شأنك؟ فقد رأيت منك عجباً وسمعت منك عجباً، فحدثني بما رأيت! قال: أعفني من ذلك، فذكرته حق الصحبة وقلت: لعل الله ينفعني بما تقول، فحدثني عما رأى في منامه قال: جاءني رجلان لم أر قط مثل صورتهما كمالاً وحسناً فقالا: أبشر يا سعيد فقد غفر ذنبك, وشكر سعيك, وقبل عملك, واستيجب دعاؤك, وعجلت لك البشرى في حياتك، فانطلق معنا حتى ترى ما أعد الله لك من النعيم، قال: فأتيت على حور, وقصور, وجوار, وغلمان, وأنهار, وأشجار, فأدخلوني في قصري ثم إلى دار فيه حتى انتهيت إلى سرير عليه واحدة من الحور العين كأنها اللؤلؤ المكنون، فقالت لي: قد طال انتظارنا إياك! فقلت لها: أين أنا؟ فقالت: أنت في جنة المأوى، قلت: ومن أنت؟ قالت: أنا زوجتك الخالدة, فمددت يدي إليها، فردتها بلطف وقالت: أما اليوم فلا، إنك راجع إلى الدنيا، قلت: لا أريد الرجوع، فقالت: لا بد من ذلك وستقيم هناك - يعني في الدنيا- ثلاثا ثم تفطر عندنا إن شاء الله تعالى، فقلت: بل الليلة، قالت: إنه كان أمراً مقضياً، ثم قامت من مجلسها، فوثبت لقيامها، فإذا أنا قد استيقظت، وأنا أسألك بالله ألا تحدث بحديثي هذا واسترني ما حييت! قلت: أبشر فلقد كشف الله لك ثواب عملك، ثم قام وتطهر واغتسل ومس طيباً ثم حمل سلاحه ونزل إلى أرض القتال وهو صائم وظل يقاتل حتى الليل، فلما انصرف أصحابه وهو فيهم قالوا: يا أبا الوليد لقد رأينا من هذا الرجل عجباً، حرص على الشهادة وطرح نفسه تحت السهام والرماح، وكل ذلك يصرف عنه، قلت في نفسي: لو تعلمون خبره لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً! قال: فأفطر على قليل من الطعام وبات ليله قائماً، فلما أصبح صنع كصنيعه بالأمس، وفي آخر النهار عاد هو وأصحابه وذكروا عنه مثلما ذكروا بالأمس، حتى إذا كان اليوم الثالث انطلقت معه وقلت: لا بد أن أشهد أمره وأرى ما يكون، فلم يزل يقاتل ويكبد الأعداء الخسائر وينكل بهم ويصنع الأعاجيب وهو يبحث عن القتل والموت في مظانه، وأنا أراه وأرعاه بعيني ولا أستطيع الدنو منه، حتى إذا نزلت الشمس للغروب وهو أنشط ما كان، فإذا برجل من أعلى الحصن قد تعمده بسهم فوقع في نحره فخر صريعاً وأنا أنظر إليه، فصحت بالناس، فحملوه وبه رمق من حياة وجاءوا به، فلما رأيته قلت له: هنيئاً لك ما تفطر عليه الليلة، يا ليتني كنت معك فأفوز فوزاً عظيماً، فعض شفته السفلى وأومأ لي ببصره وهو يضحك وقال: اكتم أمري والملتقى الحنة، ثم قال: الحمد لله الذي صدقنا وعده! فوالله ما تكلم بشيء غيرها، ثم فاضت روحه وآيات الله تناديه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
هذي الجنان تزينت فتفتحت أبوابها طرباً إلى العشاق أينام من عشق الجنان وحورها وكرائم الجنات للسباق بل كيف يغفل موقن بعظيم سلـ ربه وبذا النعيم الباقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً, وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً, وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً, وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً)، فذلك قول الله جلا في علاه: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43].
فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.(7/6)
ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا
الوقفة الرابعة: ما أهون ما بذلوا في عظيم ما نالوا! قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من نساء الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحاً, ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
الله أكبر! إذا كان النصيف خيراً من الدنيا وما فيها، فما بالك بربة النصيف وصاحبة الخمار.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: (إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف عن يمينها، وعن يسارها كذلك، تنادي وتقول: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟).
فأبشروا يا رجال الحسبة! وأبشر يا من تغار على هذا الدين!.
وهذه همسة أهمسها في أذنيك أيتها الغالية! هل تأملت في أوصاف الحور العين وما ذكر من حسنهن وجمالهن؟! أقول: فأنت أفضل من ذلك في الجنة، فضلت على الحور العين بالصلاة والقيام فكل صفة للحوراء أنت أولى بها، فاعملي مع العاملين.
قال عطاء السلمي لـ مالك بن دينار: يا أبا يحيى شوِّقنا، قال يا عطاء: إن في الجنة حوراء يتباهى أهل الجنة بحسنها لولا أن الله كتب على أهل الجنة ألا يموتوا لماتوا من حسنها وجمالها، فلم يزل عطاء كمداً حزيناً من قول مالك.
عن يزيد الرقاشي قال: بلغني أن نوراً سطع في الجنة لم يبق موضع في الجنة إلا دخل من ذلك النور فيه، فقيل: ما هذا؟ قيل: حوراء ضحكت لزوجها، قال صالح المري: فشهق رجل من ناحية المسجد فلم يزل يشهق حتى مات في مكانه.
ولقد روينا أن برقاً ساطعاً يبدو فيسأل عنه من بجنان فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك في الجنة العليا كما ترياني فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت من ضحكها! وإذا انتقلت من قصر إلى قصر قلت هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها! وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة المخاصرة! وحديثها السحر الحلال لو انه لم يجن قتل المؤمن المتحيز إن طال لم يملل وإن هي حدثت ود المحدث أنها لم توجز وإن غنت فيا لذة الأبصار والأسماع، وإن آنست وأمتعت فيا حبذا تلك المؤانسة والإمتاع، وإن قبلت فلا شيء أشهى من ذلك التقبيل، وإن نولت فلا ألذ ولا أطيب من ذلك التنويل.
هذا وإن سألت عن يوم المزيد وزيارة العزيز الحميد ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه كما ترى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، فذلك موجود في الصحاح والسنن والمسانيد من رواية جرير وصهيب وأنس وأبي هريرة وأبي موسى وأبي سعيد.
فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! إن ربكم تعالى يستزيركم فحي على زيارته! فيقولون: سمعاً وطاعة! وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتى إذا أتوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعداً وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحداً، أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك، ثم نصبت لهم منابر من نور, ومنابر من لؤلؤ, ومنابر من زبرجد, ومنابر من ذهب, ومنابر من فضة، وجلس أدناهم - وحاشاهم أن يكون فيهم دني - جلس أدناهم على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا, حتى إذا استقرت بهم مجالسهم, واطمأنت بهم أماكنهم, نادى المنادي: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا؟! ويثقل موازيننا؟! ويدخلنا الجنة؟! ويزحزحنا عن النار؟! فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور, فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جلا جلاله, وتقدست أسماؤه, قد أشرق عليهم من فوقهم, وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم! فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام! فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم, ويقول: يا أهل الجنة! ويكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ هذا يوم المزيد، سلوني فهذا يوم المزيد.
فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قد رضينا فارض عنا! فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي, سلوني هذا يوم المزيد! فيجتمعون على كلمة واحدة: أن ربنا أرنا وجهك ننظر إليه, فيكشف لهم الرب جلا جلاله الحجب ويتجلى لهم فيغشاهم من نوره ما لو أنه تعالى قضى ألا يحترقوا لاحترقوا، فلا يبق في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله تعالى محاضرة وناظره مناظرة, حتى أنه يقول له: يا فلان! أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ - يذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول: يا رب! ألم تغفر لي؟ فيقول: لو لم أغفر لك لما بلغت منزلتك هذه.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا لذة الأنظار بتلك المناظرة، ويا قرة عيون الأبرار في الدار الآخرة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، قال سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
قال يزيد الرقاشي لـ حبيب العجمي: ما أعلم شيئاً من نعيم الجنة وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إلى ذي الكبرياء العظيم, إذا رفعت الحجب وتجلى لهم الكريم, فصاح حبيب عند ذلك وخر مغشياً عليه.
أقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
اسمع وقل: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
أخرج مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري في السماء, قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجاله آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، قال الله: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر:20]).
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.(7/7)
الطريق إلى الجنة
الوقفة الخامسة والأخيرة: عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (أول ما قدم رسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: يا أيها الناس! أفشوا السلام, وأطعموا الطعام, وصلوا الأرحام, وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قلت: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد سألتني عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤتي الزكاة المفروضة, وتصوم رمضان, وتحج البيت.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة, والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار, وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وسنامه؟ رأس الأمر الإسلام, وعموده الصلاة, وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا -وأشار إلى لسانه- قال: يا نبي الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، حديث صحيح.
هذا هو الطريق؛ لكن في الطريق عقبات نعم عقبات، فتن وشهوات لأن الجنة حفت بالمكاره, وحفت النار بالشهوات، قال الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
هل يتجاوزونها؟ نعم يتجاوزونها إذا عرفوا ثمن الثبات، قال الله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15].
من هم أصحاب هذه المنازل وأصحاب هذه الدرجات؟ {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، صفاتهم: {الصَّابِرِينَ} [آل عمران:17] بقلوبهم، {وَالصَّادِقِينَ} [آل عمران:17] بأرواحهم، {وَالْقَانِتِينَ} [آل عمران:17] بنفوسهم، {وَالْمُنْفِقِينَ} [آل عمران:17] أموالهم، {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ} [آل عمران:17] بألسنتهم.
اللهم اجعلنا منهم ومعهم.
اسمع الطريق: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً).
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب اعلم أنه إذا عرف الثمن هانت العقبات أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك؟ فيقول لهم: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك.
قالوا: يا ربنا! فأي شيء أفضل من ذلك؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
هنيئا لمن أضحى وأنت حبيبه ولو أن لوعات الغرام تذيبه أيها المشتاق للقاء في جنات النعيم، ليكن بيتك الخلوة, وطعامك الجوع, وحديثك المناجاة، فإما أن تموت بدائك, وإما أن تصل إلى دوائك.
أخيراً أحبتي! ها نحن في بيت الله التقينا وأوشك اللقاء على النهاية، سنفترق في دروب الحياة وكلنا أمل ورجاء وحسن ظن بالله أن يكون الملتقى الجنة.
لئن لم نلتق في الأرض يوماً وفرق بيننا كأس المنون فموعدنا غداً في دار خلد بها يحيا الحنون مع الحنون يا من أحل الصادقين دار الكرامة، وأورث البطالين منازل الندامة، اجعلني ومن حضر من أفضل أوليائك زلفى، وأعظمهم منزلة وقربة، تفضلاً منك علي وعلى إخواني وأخواتي يوم تجزي الصادقين بصدقهم.
يا أكرم من رجي، ويا أحق من دعي، ويا خير من اتقي، امنن علينا بغفرانك، وعاملنا بفضلك وإحسانك، وهب لنا نوراً من أنوارك، وذكراً من أذكارك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم، ونجنا من عذابك ونيرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، والحاضرين منهم والغائبين.
اللهم اجعل ملتقانا بعد تفرقنا في دنيانا في جناتك، اجعل خير عمرنا آخره، وخير عملنا خواتيمه، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اجمع شملنا ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، واغفر لنا وارحمنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
أستغفر الله العظيم.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.(7/8)
أحوال الغارقات
ما أكثر الغارقات في الشهوات والملذات، يحسبن السعادة في ذلك ولا يجنين من ذلك إلا الشقاء والتعاسة والحسرات، يتعامين عن أخطار وأضرار ذلك الطريق المظلم، ويتناسين أن لهن آجالاً مضروبة، وأعماراً معدودة، ويتناسين أن الدنيا دار ممر والآخرة هي المستقر، فيا حسرة عليهن، وليتهن يعلمن حقيقة ما هن فيه لعلهن يتبن إلى الله.(8/1)
مآسي الغارقات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة والأخوات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكِ الله وبياكِ، وسدد على طريق الحق خطانا وخطاكِ، نحن وإياكِ في مكان مبارك في ليلة مباركة في اجتماع مبارك، في محاضرة بعنوان: (أحوال الغارقات).
نعم أخية! إننا نوجه في هذه الليلة حديثاً من القلب إلى القلب إلى فتيات الإسلام، نوجه حديثاً إلى فتيات الإسلام اللاتي حدن عن الطريق، وتناسين أنهن حفيدات خديجة وعائشة وسمية علهن يراجعن الحسابات، ونوجه حديثاً للصادقات حتى يكون سبباً لهن على الثبات.
أخية! من طلب شيئاً بحث عنه وسعى لتحصيله، وكلنا يبحث عن السعادة والأمان اللذين يملئان القلب راحة واطمئنان.
تقول إحدى الباحثات عن السعادة: لقد بحثت عنها في كل شيء فما وجدتها، ألبس أفخر الملابس وأفخمها، طفت العالم مع أهلي، تنقلنا من شاطئ إلى شاطئ، فما زادني ذلك إلا هماً وضيقاً، ظننتها في موسيقى وألحان، فاشتريت أغلب الألبومات عربية وغربية، قضيت في سماعها ساعات أرقص على أنغامها فما ازدت إلا بعداً وضياعاً.
ظننتها -أي السعادة- في مشاهدة مسلسلات وأفلام، فتنقلت بين الفضائيات على أطباق ومسلسلات أبحث عن الضحك والفرفشة، نعم ضحكت، لكنني في نفس الوقت كنت أنزف دماً وأتألم في أعماقي، فلا زال هناك شيء مفقود.
مع الوقت زادت الجراح، وحاصرتني الهموم، واستشرت صويحباتي فقلن لي: إن السعادة في الارتباط بشاب وسيم يبادلك الحب والغرام، ويبثك عبارات العشق والهيام، ويتغزل بمحاسنك عبر الهاتف، فأعطوني الأرقام وسلكت هذا الطريق، وأخذت أتنقل من شاب إلى آخر بحثاً عن السعادة الحقيقية، فما وجدتها، بل بالعكس لقد تنازلت عن كثير، تنازلت عن عرضي، وكرامتي، وحيائي، وقبل هذا ديني الذي كان في واد وأنا في واد، لقد هربت من جحيم إلى جحيم أبشع وأفظع.
تقول: أريدكم أن تعرفوا عني وعن كثير من الغارقات أمثالي، إننا ضحايا ولسنا بمجرمات، نحن تائهات وحائرات، أنا لا أقول ذلك دفاعاً عن نفسي وعن الغارقات، إنما أقول ذلك حتى إذا رأيتموهن فارحموهن وأشفقوا عليهن، وادعوا لهن بالهداية فإنهن غارقات.
أيتها الغالية! سأسوق إليك في هذه الليلة أخباراً ومآسي ومبشرات، نظمتها كما يلي: خمس مآسي وبين كل مأساة وأخرى وقفة: المأساة الأولى: خزي وعار، ثم وقفة لرجال الهيئة.
المأساة الثانية: مسلمات لكنهن كافرات، ثم وقفة بعنوان: نجاة غارقة.
المأساة الثالثة: يا ويلها هتكت عرض أهلها، ثم وقفة بعنوان: الثمن الجنة.
المأساة الرابعة: ألعوبة في يد الشباب، بل قولي الذئاب، ثم وقفة بعنوان: رسالة إليكِ.
المأساة الخامسة: بدون عنوان، فلقد احترت في اختيار عنوان لها، ثم وقفة بعنوان: متفائلون بإذن الله.
ثم الخبر الأخير: الخير باق في هذه الأمة وطريق السعادة.
فهيا ننطلق، مآسي وآهات، إليكِ بعضاً منها، ووالله الذي لا إله إلا هو إنها حقائق لا كذب ولا افتراءات.(8/2)
المأساة الأولى: خزي وعار
هربت من المدرسة لأنها على موعد مع أحد الغارقين، فلما ركبت سيارته وانطلق حصل لهما حادث، فجاء رجال المرور فطلبوا منه الانتظار حتى ينهوا إجراءات الحادث، فاتصل هذا الشاب بزميل له حتى يأتي ويأخذ الفتاة، ويوصلها إلى الشقة المعروفة عندهم، حتى ينتهي من إجراءات الحادث ثم يخلو هو وإياها قبل إرجاعها إلى المدرسة.
جاء الشاب وليته لم يأت، ركبت معه فلما التفتت إليه فإذا هو أخوها! خزي وعار لا عجب، هي غارقة وهو من الغارقين، فكم تطاول هو على أعراض الناس الآخرين! وكما تدين تدان، والله إنها حقائق لا كذب ولا افتراءات.(8/3)
وقفة: مع رجال الهيئة
طلبت من الشباب الذين يعملون بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكتبوا لي بعضاً من القصص والمواقف التي مرت بهم من أحوال الفتيات، بكى بعضهم حزناً وألماً على بنات المسلمين، وإلى أي درجة من الضياع وصلن إليه، بل أصبحن يتطاولن على الدين وأهله، وما درت أن هؤلاء يريدون حفظ عرضها وشرفها.
كتب لي أحدهم قال: كنا نعمل في المكتب الذي يتبع كلية البنات، كنا نلاحظ ونراقب الجهة المقابلة للكلية ونتابع الطالبات اللاتي يحضرن من داخل الحي، لأن اللاتي يخرجن مع الشباب ينزلن هناك ثم يأتين مشياً إلى الكلية.
مرة من المرات: وجدت زميلي يتحدث مع طالبة ويسألها: من أين أتيت؟ أخذت تحلف وتقسم بالله إنها جاءت من الكلية وليس من الحي، فقلت لزميلي: أمتأكد أنت إنها جاءت من الحي؟ قال: متأكد كما أنك أمامي، قال: حولها إلى المركز وأكمل الإجراءات والتعليمات، قال: لقد حلفت وأقسمت وسأتركها من أجل ذلك، والله يتولى أمرنا وأمرها، فمن يكن كاذباً فعليه كذبه، ونحن أصلاً لا نريد منها شيئاً إلا المحافظة على سمعتها وشرفها من الذئاب.
ذهبت الطالبة إلى طالبات يجلسن أمام محلات تجارية مقابل الكلية، وأخذت تقول لهن بأنها ألجمتنا وأسكتتنا، وأننا اتهمناها ظلماً وبهتاناً، وأخذت تحرض الطالبات علينا وعلى عدم السكوت لنا وعلى عدم مهابتنا.
لما وصلنا إلى الرصيف الآخر أنا وصاحبي إذا بصوت فرامل سيارة خلفنا، التفتنا فإذا بهذه الطالبة ملقاة على الأرض قد صدمتها السيارة وهي تحاول أن تقطع الطريق، لا أقول لكم: إنها ماتت فأنا لا أعلم، ولكنها أصيبت إصابات خطيرة {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].(8/4)
المأساة الثانية: مسلمات لكنهن كافرات
تقول لي قريبة لي تعمل معلمة في إحدى الثانويات: خرجت من غرفة المدرسات يوماً، فإذا بطالبتين يتبادلن الحديث قريباً من الغرفة، وكان الوقت وقت صلاة الظهر.
قالت الأولى للثانية: لماذا لا تصلين معنا في مصلى المدرسة؟! قالت الثانية: أنا لا أصلي حتى في البيت، وأزيدك من الشعر بيتاً، أهلي كذلك لا يصلون!! لا إله إلا الله! بكل صراحة ووقاحة وقلة حياء تقول: أنا لا أصلي، أسألك بالله العظيم ما الفرق بينها وبين الكافرات؟ صدق الله في علاه حين قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: معنى (أضاعوها) يعني: ما تركوها بالكلية، ولكنهم أخروها عن أوقاتها.
نعم رعاك الله! تهاون وتكاسل، لا تصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا تصلي العصر إلا المغرب، ولا تصلي المغرب إلا العشاء، ولا تصلي العشاء إلا الفجر، ولا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس.
هكذا حال الغارقات، فمن ماتت أخية وهي على هذه الحال فقد توعدها الله بغي واد في جهنم، بعيد قعره شديد حره، لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره، فهل تقوين على هذا؟! أما سمعت تلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)؟! فكم هن الكافرات من الغارقات، ولو سئلن عن أسمائهن لقلن خديجة وعائشة وكذبن والله، وكذبن والله فإنهن غارقات.
روى الذهبي في كتابه: (الكبائر) عن بعض السلف أنه دفن أختاً له ماتت، فسقط منه كيس من ماله في القبر فلم يشعر بذلك، ثم ذكره فرجع إلى القبر ينبشه بحثاً عن الكيس، فوجد القبر يشتعل ناراً، فردَّ التراب ورجع إلى أمه باكياً وحزيناً، قال: أمّاه! أخبريني عن أختي وما كانت تعمل؟ قالت: وما سؤالك عنها؟ قال: يا أمّاه! رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً، فبكت أمّه وقالت: يا ولدي! أختك كانت تتهاون في الصلاة وتؤخرها عن وقتها.
سمعتِ يا أمة الله! هذا حال من تؤخر الصلاة، هذا حال من تؤخر الصلاة عن وقتها، فكيف سيكون حال تلك التي تقول: أنا لا أصلي وأهلي أيضاً لا يصلون؟ قال الله عنهم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42] يعني: يوم القيامة {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:42 - 45].
والله إنك لن تتقربي إلى الله بقربة بعد توحيده أعظم من الصلوات، فصلي بارك الله فيك، صلي رعاك الله قبل ألا يصلى عليك، فتاركة الصلاة لا يصلى عليها ولا تغسل ولا تكفن ولا تحمل على الرقاب، بل تُجَرُّ على وجهها، يُحفَرُ لها حفرة في الصحراء تُكَبُّ فيها على وجهها، لا يُدعى لها ولا يستغفر لها، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33]، فهل ترضين بهذا؟ سأترك الجواب لك، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(8/5)
وقفة: مع نجاة غارقة
تقول إحدى الغارقات: كنت أجمع الشعر الساقط وأحفظه وأتداوله مع الفتيات، كنا نظن أن تلك السعادة ولكن الله أراد لي هداية ونجاة من أمواج الشهوات، جلست في إحدى المحاضرات يوماً في الكلية بجانب فتاة صالحة مستقيمة، كانت قد كتبت على دفتر محاضراتها هذا الدعاء: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك) قلت: نحن نكتب الشعر الساقط وهؤلاء الفتيات يكتبن مثل هذه الكلمات.
فهزتني الكلمات، وتأثرت بها تأثراً شديداً، فماذا عملت؟ سألت نفسي وقلت: ماذا عملت أنا حتى أنجو بنفسي من عذاب الله؟ فأخذت أبكي وشعرت هي ببكائي، وسألتني عن السبب، فأخبرتها بأنه الدعاء المكتوب على دفتر محاضراتها، وقلت: لقد أثر في، قالت: الحمد لله أراد الله بك خيراً، فاعملي بارك الله فيك لكي تنجي من عذاب الله.
كلمات بسيطة عظيمة في معناها، أيقظتها من غفلتها، وأنتِ يا من لا زلت تغرقين بين شاشات وقنوات، ومحادثات على الإنترنت ومعاكسات، تصرين على الذنب تلو الذنب، وتتهاونين في الصلوات، أما آن أن تتوبي وتقلعي عن الذنب وتئوبي؟ أما آن أن تحاسبي النفس وتقولي: يا نفس توبي قبل أن لا تقدري أن تتوبي واستغفري لذنوبك الـ ـرحمن غفار الذنوب إن المنايا كالريـ ـاح عليك دائمة الهبوب والله إنك لا تقوين على عذاب الله، فلا تحاربيه بالمعاصي، وتذكري موقفاً ستقفينه بين يديه عارية حسيرة كسيرة، الكل ينظر إليك، يالله! كيف سيكون حالك إذا دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربك والملك صفاً صفاً؟ يا الله! كيف سيكون حالك إذا جيء يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى؟ أما حال الغارقات فيقلن: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:24 - 26].
أما التائبات الناجيات فينادين: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت النار ورأيت أكثرها النساء).
فاتق الله أمة الله، ورددي صباح مساء: (اللهم قني عذابك، يوم تبعث عبادك).(8/6)
المأساة الثالثة: يا ويلها هتكت عرض أهلها
طالبة في الكلية، المتوقع أنها إذا تخرجت وحملت الشهادة ستصبح معلمة للأجيال ومربية للأطفال، فإذا هي تعصي ربها وتخالف دينها وتبيع شرفها وتخون أهلها وتخضع حياءها، فإن لم تكن أمينة على نفسها فماذا يرجى منها؟ في يوم الأربعاء ومع نهاية الدوام في الكلية أخبرت صاحبتها التي تشاركها البحث أنها لن تأتي يوم السبت ولكنها ستحضر يوم الأحد، لقد خططت ودبرت، فستخرج مع أحد الشباب في يوم السبت، فاستعارت جوال صاحبتها للاتصال بمن ستخرج معه.
خرجت وهي تظن أن أحداً لن يراها، نسيت أن رب الأرض والسماء يراها، في صباح السبت مع دخول الفتيات إلى الكلية أنزلها أهلها عند الباب وكلهم فخر وثقة، أنزلوها ظناً منهم أنها ستكون في الكلية لتتعلم وتتخرج وتنفع نفسها، وقبل ذلك تنفع أمتها، هذه الأمة الجريحة التي هي أحوج ما تكون لفتيانها وفتياتها.
بدلاً من أن تتوجه إلى بوابة الكلية اتجهت إلى سيارة الشاب الذي كان ينتظرها.
لفت ذلك انتباه حارس الكلية فميز السيارة ومن فيها، وأخبر أمن الكلية بذلك، فقالوا له: ترقب رجوع السيارة ظهراً وقت الانصراف.
سبحان الله! وصلت الجرأة بالبنات أن يركبن مع الشباب دون تردد أو حياء، عند الظهر جاءت السيارة ووقفت إلى جانب الكلية تحت الأشجار، فاتجه الحارس الأمين إليها، ولما نزلت الفتاة من السيارة جاءهم الحارس وأمر صاحب السيارة بالوقوف، فهرب الجبان مخلفاً ضحيته.
فقال لها الحارس بعد أن أخذ رقم السيارة: من أين أتيت؟ قالت: أنا خرجت من الكلية، فقال الحارس: إذاً ارجعي إلى الكلية! فرفضت، فلما رفضت أخذ الحارس منها شنطتها التي كانت بيدها لإجبارها على الدخول إلى الكلية لكنها رفضت.
فأخبر الحارس إدارة الكلية وسلمهم الشنطة، جاء الشاب بعدها يطالب بحقيبة الفتاة، فأخذه الحارس إلى المكتب ثم استدعى رجال الهيئة حماة الدين والأعراض، أسأل الله أن يحفظهم من كل سوء ومكروه.
قبل قدومهم استأذن الجبان لإحضار جواله من السيارة، ذهب ولم يعد، لكن العين الساهرة الشرطة أتت به برقم سيارته، في مساء ذلك اليوم اتصلت على صاحبتها بعد صلاة المغرب التي أخبرتها أنها لن تحضر في يوم الأربعاء، اتصلت عليها لتقول لها: إني أريد مساعدتك في التستر عليّ، لأنني كنت من الصباح إلى الظهر مع أحد الشباب، فقالت الصاحبة: سأساعدك، فمن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة.
تقول صاحبتها: اضطررت أن أكذب من أجلها، بل حلفت على المصحف كاذبة.
عجيب أمرهن! تستر على الباطل وتعاون على الإثم والعدوان! وأمّا صاحبتها الثانية فشهدت كذباً وبهتاناً وزوراً بأنها رأتها يوم السبت في الكلية وهي لم ترها، لا إله إلا الله! هل يظنون أن الله غافل عمّا يعملون؟ أمّا هي فلقد ادعت أن حقيبتها سرقت وأحضرت صويحباتها ليكذبن معها، بل جاءت بأمها لتقول: إنها كانت في البيت ظهراً، وتقول في التحقيق: أقسم بالله العظيم وأمام المصحف الكريم بأني كنت متواجدة يوم السبت الموافق كذا وكذا داخل الكلية من الساعة السابعة والنصف وحتى الثانية عشرة ظهراً ولم أخرج من الكلية، والله على ما أقول شهيد.
حسبي الله ونعم الوكيل! جعلت الله أهون الناظرين والسامعين إليها.
قامت الهيئة بدورها، وقام رجال الشرطة بدورهم، وجاءوا بالشاب ولا يحق إلا الحق أمام الأدلة والبراهين، اعترف الشاب بخروجها معه، وتراجعت الصويحبات أمام الاعترافات، فخارت قواها، وانكشف كذبها وعارها، ووجه لها ولصويحباتها إنذارات فصل من الكلية.
فهل من المعقول أن يكنّ هؤلاء مربيات للأجيال وصانعات للأبطال؟! المأساة الكبرى حين جاء أبوها إلى الكلية بعد استدعائه ليوقع على إنذار الفصل، جاء مطأطئ الرأس، شارد الذهن، دموعه على خده.
تقول: رجعت مع والدي وأنا أتجرع غصص الموت والألم والسهام الجارحة، لم يتكلم معي طوال الطريق، لكن نظراته الصامتة تلاحقني وكأنها تقول: لقد أجرمت بحقك وحقنا، لقد شوهت ولطخت سمعتنا، إنا لله وإنا إليه راجعون! ومثلها من الغارقات كثير.
وقفة إنا لله وإنا إليه راجعون، ومثلها من الغارقات كثير: خرجت تمزق مع الصباح حجابها قد قصرت بين الأنام ثيابها خرجت وكل الهائمين تجمهر صرخت وجمع العابدين أجابها يا ويلها هتكت عرض أهلها قد أرخصت يوم الخروج نقابها يا ويلها هذا العفاف تدوسه قد أوسقت رأس الوفاء ترابها(8/7)
الثمن الجنة
نعم أخية! إن ثمن الصبر عظيم، والصابرون والصابرات يوفون أجورهم بغير حساب، فما جزاء الصابرة على الطاعات والصابرة عن الفواحش والمنكرات والصابرة على ما تلاقيه من أذى في سبيل ربها؟! ما ثمن العفة والحياء والصبر على البلاء؟! اسمعي أخية وقولي: أين نحن من هؤلاء؟ أيتها الغالية! إن أجمل لباس تلبسينه هو لباس العفة والحياء، فإذا خلعته فوالله لباطن الأرض خير لك من ظاهرها، وإليك خبراً من أخبار العفيفات، وانظري إلى عظيم ثمن العفة والحياء.
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة) اسمعي ثمن الصبر على العفة والحياء، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: بل أصبر -لأن الثمن غالي- لكني أتكشف، فادع الله ألا أتكشف، فدعى لها).
الله أكبر! هذا حال من رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، لن تتخلى عن حيائها في أحلك ساعات حياتها، وفي أشد أوقات بلائها، بل قالت بعزة المؤمنة: أصبر على الألم أصبر على البلاء، ولكني لا أصبر على خلع الحياء، فما جزاء صبرها؟ قال الله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:12 - 22].
هذا ثمن الصبر وجزاء الصابرات، فما بال نساؤنا اليوم؟ وما بال الفتيات زهدن بالجنة وما فيها؟ أختاه إن رمت الوصول لجنة فيها الخلود ونظرة الرحمن فعليك تطبيق الشريعة دائماً في أي شأن أو بأي زمان ماذا دهاك فتسمعين نعيقهم ولديك صوت الحق في الفرقان لوذي به عنه لا تتحولي لا ليس يعدله كتاب ثاني الله أعطاك الحياة تكرماً فعلام تذهب في هوى الشيطان إن لم تسيري في الحياة مع التقى ليكن ضياع الأمر في الحسبان أختاه تأملي بنصيحتي وبها اعملي تجدين طعم حلاوة الإيمان قال الله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18].(8/8)
المأساة الرابعة: ألعوبة في يد الشباب
هذه صيحة أطلقها بأعلى الصوت إلى الآباء والأمهات، وإلى ولاة الأمر وأصحاب المشورات: أنقذوا فتياتنا أنقذوا فتياتنا أنقذوا فتياتنا.
أيها الأب أيتها الأم! كلكم مسئول، إن غفلة البيوت والتفكك الأسري ووجود شاشات وقنوات، وإنترنت وجوالات بلا حسيب ولا رقيب سبب من الأسباب، فتيات في الأسواق بلا حاجة ولا هدف، قلت الغيرة على الأعراض، نساؤنا يخرجن مع السائقين صباح مساء، لا رقيب ولا حسيب، تخرج أمام أبيها بلا حجاب وعباءة مزركشة فاضحة للمفاتن، ثم يلامُ الشباب.
أقول للفتاة: أنت سبب من الأسباب، خلعتِ الأدب والحياء، وخرجت كاسية عارية، ماذا تريدين؟ أتريدين أن تجذبي أنظار الرجال، أما علمت أنك لست لكل الرجال، أنت لرجل واحد هو زوجك وإن لم تكوني زوجة فأنت في مرحلة الاستعداد للزواج.
قال مستشرق لرجل مسلم: لماذا تلبس نساؤكم الحجاب؟! قال: لأن نساءنا لا يرغبن أن ينجبن من غير أزواجهن.
فهمتي؟! اسمعي ماذا تقول الإحصائيات -نعم بارك الله فيك- اسمعي ماذا تقول الإحصائيات عن عدد الأطفال اللقطاء -يعني: أولاد الزنا والسفاح الذين عُثر عليهم في المزابل وفي الصناديق أمام المساجد-: في العام الماضي (1423) عدد الأطفال اللقطاء في المنطقة الشرقية فقط وعلى مدى عام كامل 32 طفلاً، أما في عامنا الحالي (1424) وعلى مدى ستة أشهر فقط من بداية العام، عدد الأطفال اللقطاء في المنطقة الشرقية بلغ 48 طفلاً، فقط في هذه المنطقة، ولم أتتبع الإحصائيات في كل مناطق المملكة، أليست هذه مآس وآهات؟! لا تلمني فلا يلام الجريح حين يشكو وحين تشكو القروح لا تلمني فلا يلام طريدٌ لا يلام المظلوم حين يصيح لا تلمني ولُم خافق بين جنبيك لم تعتليه صروح وأنا لن ألوم من مات حساً إنما اللوم للذي فيه روح وأنا لن يضيق باللوم صدري إن صدر المحب كونٌ فسيح(8/9)
وقفة بعنوان: رسالة بين المآسي والآهات
نعم رسالة إلى صاحبة العباءة المزركشة، وصاحبة العباءة المعلقة على الأكتاف، اسمعي هذا الخبر من فتاة أرسلت برسالة إليكِ عنوانها: (إليكِ من قلب يحترق عليك).
تقول في رسالتها: أختي الغالية! تذكرة بسيطة أقدمها إليك، قد لا تعلمينها أو قد تكوني غافلة عنها، أقرئيها واسمعيها ثم فكري جيداً فيما سمعت وقرأت، ثم اختاري الطريق، فالله يقول: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، قد لا تكونين قد دخلت مغسلة الموتى من قبل، ولكنني والله دخلت مع أغلى إنسانة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، دخلت مع أمي الحبيبة، تلك الأم الرائعة قلباً وقالباً، هذا ليس رأيي فيها بل رأي كل من رآها وعرفها، أو سمع عنها رحمها الله.
تقول: سوف أحكي لكِ موقفاً بسيطاً قبل الدخول في موضعنا عنها، لقد أصابها المرض الخبيث -يعني أمها- ولقد تعذبت كثيراً، ولكنها لم تشتك، نعلم بشدة مرضها من الأطباء الذين يستغربون من صبرها وتحملها وعدم شكواها، كان ذكر الله على لسانها لا يتوقف، وهذا سر قوتها وتحملها، أما قال الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
في العام الذي توفيت فيه وفي شهر شعبان ازداد المرض عليها، وكانت تتعذب من شدة الألم لكنها كانت تدعو وتقول: (اللهم إن كنت قد كتبت علي الموت فإني أسألك أن تبلغني رمضان، لأنك تعلم أنني لا أحب الدنيا إلا لرمضان، اللهم لا تقبضني إلا بعد رمضان) كانت دائماً تكرر هذا الدعاء، استجاب الله دعاءها وبلغها رمضان، ثم ماتت في نهاية يوم عرفة وبداية ليلة العيد، ماتت وهي متبسمة، ماتت بعد أن نطقت بالشهادة والملائكة تستقبلها بروح وريحان.
تقول: أخية! قد أكون قد أطلت عليكِ في رسالتي، لكني أردت من خبر أمي أن تعلمي أن من حفظ الله في الدنيا حفظه الله عند الموت وبعد الموت.
أخية! إن لم تكوني قد دخلت مغسلة الموتى من قبل فلا بد من دخولها لغسل إنسانة حبيبة على قلبك، أو ليغسلك أحباؤك.
أخية! هل تعلمين أن المرأة بعد تغسيلها وتكفينها تغطى بعباءتها، حتى إذا أنزلوها في القبر أرجعوا العباءة، هذا ما عرفته بعد أن غسلنا أمي الحبيبة وودعناها.
فيا من تلبسين العباءة المزركشة! ويا من تلبسين عباءة الكتف! ويا من تلبسين العباءة الملتصقة على الجسد التي تفتن الشباب وتظهر المفاتن! هل تقبلين أن تكون هذه العباءة من يرافقك إلى المقبرة؟؟!! لا تغفلي عن الموت أخية، واعمري العمر بالطاعات وتجنبي الفواحش والمنكرات، اعلمي أن الطاعة محبة وتوفيق من الله، وأن المعصية خذلان وإبعاد.
كان لرجل جارية قامت من الليل تصلي فأيقظته فلم يقم، فكررت إيقاظه فلم يقم، فتوضأت وأسبغت الوضوء وأخذت تناجي ربها، فاستيقظ فبحث عنها، فإذا هي ساجدة تناجي ربها وتقول: بحبك لي إلا ما غفرت لي، فلما انتهت قال لها: كيف علمت أنه يحبك؟ فقالت: لولا محبته لي ما أنامك، وأقامني بين يديه.
سمعتي وفهمتي؟! الطاعة محبة وتوفيق، والمعصية خذلان وإبعاد.
أسالك بالله العظيم أما تردد هذا الحديث على مسامعك مرات ومرات، لكن هل فهمتي معناه؟ وهل عملتي على أن تنجي من الوعد والوعيد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث؟ قال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما، -ثم قال:- ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كاسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها -اسمعي بارك الله فيك! لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها- وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم، وفي رواية: (العنوهن فإنهن ملعونات).
أسمعتي؟ هل استشعرت عظيم الأمر والخطر؟ لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها! وعيد تهتز لهوله الأبدان، ثم في قوله: (العنوهن فإنهن ملعونات) والله إنها لدعوة تخشاها العقول قبل القلوب، هذا عن الوعيد، فكيف أنت بمن توعدن به، كاسيات عاريات، أما رأيتيهن في الأسواق والمجمعات؟ لبسن عباءات على آخر الصرخات والموديلات، علقن العباءات على الأكتاف، فبدت الصدور بارزة والجسوم مخصرة وغطاء وجه يشكو إلى الله استغناء صاحبته عنه، ما درت أن الحجاب والعباءة ليسا للزينة، إنما لستر الزينة وإخفائها.
أسألك بالله! أهذه العباءات الفاضحة تليق بحفيدات عائشة وفاطمة؟ إذا خوطبت قالت أنا بالنفس واثقة حريتي دون الهوى تبدو قلت أنا اثنان يا أختاه ما اجتمعا دين الهوى والفسق والصد والله ما أردى بأمتنا إلا ازدواج ما له حد(8/10)
المأساة الخامسة: بدون عنوان
إنني والله احترت ماذا أقول وكيف أعنونها، فاختاري أنت بعد سماعها عنواناً ولك الخيار.
اتصلت علي تعرض مشكلتها قالت: كنت في علاقة مع شاب، وكان من ثمراتها أني وقعت في الحرام مرات ومرات، لكنني بعد حج هذا العام تبت وندمت وأقلعت عن الذنب، فبماذا تنصحني؟ قلت: اصدقي في التوبة، واسألي الله السماح، فانفجرت باكية وهي تقول: والله إني صادقة، لقد أحرقت المعاصي قلبي، وأجرت دمعي حاراً على وجهي، فهدأتها وقلت: ابشري بالخير فرحمة الرحمن واسعة، وإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
قالت: بقيت مشكلة أعاني منها، قلت: ما هي؟ قالت: لا زال يتصل بي من حين إلى حين، أو يرسل إلي رسائل في الجوال، مع العلم أنه هو أيضاً قد صلح حاله وتبدلت أوضاعه، فقلت: ما الهدف إذاً من الاتصال والإرسال؟ هذا باب من أبواب الشيطان ولابد أن يغلق، فإن الله قد قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] إن كان صادقاً ويريد تصحيح ما كان فليطرق البيت من بابه، قالت: إنه يستمع لأشرطتك ويتابع أخبارك، قلت: أعطيني رقم هاتفه وسأتصل عليه.
اتصلت عليه، وعرفته بنفسي، ففرح واستر، فقلت له: اتصلت عليّ فتاة يهمها أمرك وتريد لك الخير، لقد قالت: لقد كنت أنت وإياها على علاقة محرمة، ثم منَّ الله عليكما بالتوبة والهداية، فاحمد الله على ذلك، ثم قلت: لكن بقي أمر، قال: ما هو؟ قلت: أمر الرسائل والاتصال، إن كنت صادقاً تريد أن تصحح ما مضى فاطرق البيت من بابه، كما قال الله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وإلا فاقطع ذلك وأغلق باب الشيطان، فوعدني خيراً.
دارت الأيام ومضت الليالي، ثم اتصلت علي الفتاة مرة أخرى فسألتها عن أخبارها وحالها، فقالت: على أحسن حال، ثم سألتها عن فلان فقالت: لقد انقطعت الرسائل تماماً وانقطع الاتصال، لكن! ثم سكتت وطال سكوتها، فقلت: ما بكِ؟ قالت: هناك أمر لابد أن تعرفه فكيف أستحي منك وأنا لم أستح من الله، قلت: ما هو؟ قالت: لم أقل لك: إني متزوجة وعندي ثلاثة أطفال! فصعقت أنا وتلعثمت ولم أستطع الكلام، صاح في داخلي صائح ونادى مناد: يا ألله! ألهذه الدرجة وصل بنا الضياع والانحلال؟! حبست دموعي أسىً على واقع المسلمين، قالت باكية: لم لا تتكلم؟! أعلم أن جرمي عظيم ولكني تائبة، والله يحب التوابين، ووالله إني نادمة ومنطرحة بباب رب العالمين.
تمالكت نفسي، وقلت: والأطفال أطفال من؟! فقالت: أقسم بالله العظيم إنهم أبناء أبيهم وأنا متأكدة من ذلك، فقلت: هل عرفت الآن لماذا كان الزنا من أبشع الجرائم وأقبحها؟ به تنتهك الأعراض وتختلط الأحساب والأنساب، لذلك قال الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، بل رتب عليه أبشع العقوبات، الرجم حتى الموت، وبدأ بالزانية قبل الزاني فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]، فبدأ بها لأنها لو لم تمكن من نفسها لما حدثت هذه الجريمة.
فبكت حتى قطعت قلبي من بكائها، تقول: أشعر كلما رأيت زوجي أني مجرمة، وأني حقيرة، ودائماً أردد على مسامعه: سامحني واعف عني، وهو لا يدري لماذا أقول له هذا، بل فكرت مرات ومرات أن أصارحه، فقلت: استري على نفسك، فمن سترت على نفسها ستر الله عليها، ولكن اصدقي مع الله في التوبة.
فزاد بكاؤها، شعرت حينها أنها صادقة في توبتها، أحسبها كذلك والله حسيبها، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.(8/11)
وقفة: متفائلون بإذن الله
رغم المآسي، رغم الآهات، لكننا متفائلون بإذن الله، مستبشرون بملايين الفتيات العائدات، العائدات إلى بيوتهن، المتمسكات بشريعة ربهن، المعتزات بحجابهن، والداعيات إلى الله بمطلق العزة والإيمان.
إن الأمة اليوم تنتظر منك أن تصنعي أبطالاً فاتحين، وعباداً زاهدين، وعلماء ربانيين، ولن يتحقق ذلك حتى تكوني على مستوى المسئولية، ففاقد الشيء لا يعطيه.
سأسوق لك أخباراً ترفع همتك ولتعلمي أن أمة الإسلام أمة معطاءة برجالها ونسائها بل حتى بأطفالها.
اسمعي بارك الله فيك، بعض الفتيات يغرقن بين أحلام وأوهام، وأخواتك الصادقات يحملن آهات وهموم شجون وأحزان، آهات ليست كآهات الغارقات في آهات حب وغرام، وهموم ليست كهموم الغافلات، هموم شهوات ومعاكسات، اتصلت من تقول لي: أريد بريدك الألكتروني، فعندنا رسالة نريد أن نوصلها لك، وصلت الرسالة، قرأتها فاحتقرت نفسي، شعرت بالخجل وأنا أقرأ كلمات تلك الرسالة، سجدت لله شكراً أن عندنا مثل هؤلاء الفتيات، لعلك تريدين أن تسمعي بعضاً من عبارات تلك الرسالة، التي أحمل لمن كتبنها كل الحب والتقدير والاحترام.
إنها رسالة من فتاتين في مقتبل العمر، تربين على حب الله ورسوله والبذل للإسلام، تقولان في الرسالة: يا شيخ! باختصار وبدون مقدمات، مشكلتنا أننا بنات لكننا لسنا كالبنات، همنا يختلف عن هموم البنات، همنا رفع راية لا إله إلا الله تحت ظل السيوف، الموت بالنسبة لنا حياة، والحياة بالنسبة لنا جهاد، وأعظم أمانينا الشهادة! كيف يقر لنا قرار ويهدأ لنا بال ونحن نرى أطفال المسلمين يقتلون، وأمهاتهم تسبى، وآباءهم يسحبون ويعذبون ويؤسرون، إننا لا نستطيع أن نقف مكتوفات الأيدي ونتفرج كما يفعل الرجال الآن، إن كنتم عرفتم للنوم لذة فإننا لم نعرف تلك اللذة، ننام على أصوات المدافع والطائرات، إننا لا نعيش معكم رغم أننا معكم، ونحن حينما كتبنا لك لا نريد منك رسالة عزاء على مصاب الأمة، ولا نريد مدحاً وثناء لأن الكل منا يعرف نفسه، إنما كتبنا لأننا نريد السبيل إلى الجهاد، وأعظم أمانينا الموت والاستشهاد.
لا تقل لنا: أنتن نساء، فنحن نعلم ولكننا نساء بأرواح الرجال، رجال لا يرضون الذلة والمهانة، لا تقل لنا: أنتن جهادكن الحج والعمرة، فنحن نطمع بالأعلى، نطمع بالموت في سبيل الله، فأرواحنا أغلى ما يمكن أن نقدمه في سبيل رضا رب العالمين، والذي أنفسنا بيده! إننا نتوق للجنان، ونعلم بفضل الشهيد عند الرحمن، ونطمع أن نكون منهم ومعهم.
وختمتا الرسالة بتوقيعهما أم عبد الله وأم عبد الرحمن.
هذه بعض من العبارات التي كتبنها، والتي جعلتني أراجع مع نفسي الحسابات، ولعلك أنت أيضاً تراجعين.
إن أمة تمتلك مثل هؤلاء الفتيات أمة لا تقهر بإذن الله، فنحن خير أمة أخرجت للناس، مهما كانت الظروف والأحوال.
أيتها الصادقة! لا ترهبي التيار، أنت قوية بالله مهما اشتد التيار: تبقى روح الحق شامخة وإن أرغى وأزبد حولها الإعصار(8/12)
الخبر الأخير: الخير باق في أمتي
الخبر الأخير عنوانه: الخير باق في أمتي.
نعم أخية! رغم كثرة الغارقات لا زال في أمتنا خير وأمل، لا زال في أمتنا فتيات وأمهات صادقات، أذاعت إحدى القنوات مشهداً أعاد لنا مشاهد طالما سمعناها عن الصحابيات الصادقات، ومن سار على نهجهن على صراط رب الأرض والسماوات، إنه مشهد لطالما اشتقنا لسماع مثله ورؤياه، إنه مشهد لأم فلسطينية، ظهرت بجانب ولدها ابن 20 سنة وهو يقرأ وصيته الأخيرة قبل أن يقوم بإحدى العمليات الاستشهادية.
اسمعي أماه، اسمعي بارك الله فيك، ما أعظمها من تضحية وعظمة! تقدم فلذة كبدها وتعده للشهادة في سبيل الله، ولا يستطيع فعل ذلك إلا أصحاب القلوب التي تعلقت بما عند الله، قدمته وودعته ونداء ربها في مسامعها {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
يا ألله! كيف كانت هذه الأم وهي تضمه إلى صدرها الضمة الأخيرة، وهي تدرك أنه بعد قليل قد لا يتبقى منه عضو تتعرف به عليه؟! يا ألله! كيف كانت وهي تقبله على جبينه، وهي تعلم أنها القبلة الأخيرة؟ بل كيف كانت وهو يغادر المكان وهي تعلم أنها لن تلقاه بعد هذه اللحظة؟ يا ألله! كيف كانت حين نظرت في عينيه نظرة أخيرة؟ وكيف كانت وهي تسمع دوي الانفجار يردد على مسمع من العالم كله؟ نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً انفجار يعلن للعالم والملأ أننا أمة لا تقهر؛ لأن معنا القوي الجبار.
لله درك يا أم الشهيد، لم تستسلمي للذل وللعار، أقسم بالله العظيم إنك قد قلتي ووفيت، ووالله إنك نور وسنا برق في زمن الذل والعار، إن أمة تنتمين إليها لا يمكن أن تهزم بإذن الله، لقد أعدتي لنا الأمل ومسحتي عنا العار، وإنك والله ستفرحين بما قدمت يوم تقفين يوم القيامة مع الملأ بين يدي الواحد القهار، لقد أعدتي إلينا إيمان الصحابيات والتابعيات، فابشري والله بالخير، قال الله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35] فإذا أردت النجاة فاتصفي بهذه الصفات.
إن كنت صادقة في البحث عن السعادة فأنا أدلك على الطريق وكلنا يبحث عن السعادة، والله لن تجدي السعادة إلا في طاعة الله، إلا في الحياة مع الله وفي مرضاته، السعادة في التوبة والأوبة، السعادة ستجدينها في دموع الأسحار، وفي مصاحبة الصالحات الأبرار، ستجدينها في بكاء وأنين المذنبات، ستجدينها -أي: السعادة- في الخشوع والركوع والامتثال لله والخضوع، وفي البكاء من خشية الله والدموع، السعادة والله في الصيام والقيام، وفي امتثال شرع الملك العلام، السعادة في تلاوة القرآن وهجر المسلسلات والألحان، وربك باسط يده لك بالليل والنهار، يفرح بالتائبات ويفرح بمن أتاه وهو قريب ممن دعاه، حليم كريم يغفر الذنب ويستر العيب.
أطرقي الباب وسيفتح لك، سيري على الطريق وستشعرين بالفرق العظيم، وسترين النتيجة بنفسك.
اللهم احفظ فتياتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم دل الحائرات، وأنقذ اللهم الغارقات، اللهم من حادت عن الطريق فردها إليك رداً جميلاً، اللهم وفقهن لتوبة نصوح واستقامة على الحق يا رب العالمين! اللهم اغفر ذنب المذنبات، واقبل توبة التائبات، وفرج هم المهمومات، واكشف كرب المكروبات.
اللهم ثبت الصادقات، واجعلهن راضيات مرضيات، تقيات نقيات خفيات.
اللهم حبب لهن الإيمان وزينه في قلوبهن، وكره لهن الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهن -يا رب- من الراشدات.
اللهم من أرادنا وفتياتنا بسوء فاشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم زين فتياتنا بالإيمان والعفة والحياء والحجاب، اللهم حبب لهن الحجاب وكره لهن التكشف والسفور، ووفقهن لخيري الدنيا والآخرة يا عزيز يا غفور! اللهم اجعل اجتماعنا مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(8/13)
أحوال العابدات
هناك الكثير من المواقف البطولية المشرفة لنساءٍ صنعهن الإسلام ورباهن سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
فمنهن من جادت بدمها وولدها دفاعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهن من خاضت المعارك بأعمدة الخشب دفاعاً عن عرضها وشرفها ودينها، ومنهن من أذاقت الأعداء الويلات فانغمست في صفوفهم تقتل وتجرح، وتضرب وتطعن.(9/1)
المكانة العظيمة للمرأة في الإسلام
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: حياكم الله وبياكم! وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
لقاؤنا هذا خاص بأمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا، خاص بالمرأة المسلمة التي هي أساس هذا المجتمع، ولا يقوم المجتمع إلا على أكتاف الرجال والنساء، بل لا يستطيع الرجال أن يقوموا بأدوارهم إلا إذا قامت النساء وسدت جميع الثغرات، وما كان للأبطال السابقين أن يحققوا ما حققوا إلا في ظل وجود المرأة المسلمة الصالحة التقية النقية الخفية.
حديثنا إليك أنت بارك الله فيك، فأنت من أحسن ما قيل فيك: إنك نصف المجتمع، ثم أنت تلدين النصف الآخر.
فأنت المجتمع كله، أنت أساس هذا المجتمع، وخلف كل رجل عظيم امرأة عظيمة بارك الله فيك.
اختار الله لمحمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه حين أراد أن يكلفه بمهام الدعوة، اختار له خديجة، فكانت نعم الزوجة، ونعم الأم، ونعم المربية، ونعم الداعية الصابرة المحتسبة الباذلة المعطية، كل شيء من أجل هذا الدين، ولا عجب أنها وصلت إلى مرتبة رفيعة، ومرتبة سامية؛ يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (هذه خديجة أتتك ومعها إناء من طعام، أقرئها من ربها ومني السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، أسألك بالله العظيم كيف وصلت خديجة إلى تلك المرتبة، الرفيعة، إلا لأنها جعلت حياتها لله رب العالمين.
أخية! المعركة بين الحق والباطل معركة قائمة مستمرة، قد يظهر الباطل حيناً، لكن الغلبة والتمكين لا يكونا إلا للحق، بشرط أن يأخذ أهل الحق بالحق بقوة، ويقدموا من أجل الحق كل غال ونفيس.
قد يظهر الباطل حيناً، لكنه امتحان وابتلاء من الله للصادقين والصادقات، قال الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وقال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].(9/2)
المرأة المسلمة جزء من المعركة مع الباطل
أنت بارك الله فيك جزء من المعركة، بل على عاتقك الجزء الأكبر منها، فأنت مطالبة بدعم الصفوف الخلفية، وبمساندة الخطوط الأمامية، وحتى تستطيعي أن تقومي بذلك الدور لابد أن تكوني عابدة، صلتك بالله قوية مترابطة، إنهم يشغلونك عن الدور العظيم بتوافه الأمور، يشغلونك باللهو والضياع؛ لأنهم يعلمون تمام العلم أنك متى ما تفرغت للمعركة فهي محسومة لك بإذن الله.
فخلف الرجال العظماء نساء عظيمات، وما كان للرجال أن يؤدوا دورهم لولا الدور العظيم الذي قامت به النساء، فأنت مطلوبة في كل المجالات، ومطلوبة في سد كل الثغرات، في التعليم، والطب، والتربية، وحتى في القتال، فقد لعبت النساء على مر التاريخ دوراً عظيماً في حسم المعارك، فنساء الصحابة رضوان الله عليهن كن يحرضن أزواجهن على الجهاد وهو أعظم تضحية، بل منهن من حملت السيف تقاتل دفاعاً عن عقيدتها ودينها، يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: لما كان يوم أحد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان حتى رئي خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآن القرب، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم.
وهذه مقالةٌ عظيمة من امرأة عظيمة تقول لرسول الله وقد سألها عن خنجر في يدها: إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه يا رسول الله، وأقتل هؤلاء الذين يفرون عنك كما أقتل هؤلاء الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل.
إنها مقالة أم سليم بنت ملحان زوجة أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه ورضي عنها، كان ذلك يوم حنين حيث أبلت بلاء حسناً، فكانت تسقي العطشى، وتداوي الجرحى، وتحمل قرب الماء، وهي مع ذلك حامل بابنها عبد الله، فقالت تلك المقولة للرسول صلى الله عليه وسلم لتترك للتاريخ عبرة، ولتؤكد أن المرأة المسلمة جزء لا يتجزأ من معركة المسلمين ضد الباطل عبر الزمان والمكان.
فأنت مربية الأجيال، وصانعة الأبطال، أنت المقاتلة إذا دعت الضرورة والحال، لن أحكي لك عن أخبار الصائمات والقائمات، والمتصدقات والباذلات، ولكن سأسوق إليك أخبار وأحوال العابدات المجاهدات.
الخبر الأول: خبر أول شهيدة في الإسلام.
الخبر الثاني: خبر الفارس الملثم.
الخبر الثالث: مسلمات في الأسر.
الخبر الرابع: شهيدة في ليلة عرسها.
الخبر الأخير: المجاهدة المقاتلة.
ثم الخير في هذه الأمة حتى تقوم الساعة.(9/3)
أول شهيدة في الإسلام(9/4)
فضل الشهادة
الخبر الأول: أول شهيدة في الإسلام.
الشهادة درجة رفيعة يختار الله لها من يشاء من رجال ونساء، يكفي أن تعلمي أن الله أعد للشهداء ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن للشهداء عند الله مائة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، والشهداء أحياء عند ربهم فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون.
يجب أن تعلمي -بارك الله فيك- أن طريق الجنة محفوف بالمكاره والابتلاءات، وأن ثمن الجنة غال أيتها الغالية، وأن الطريق إليها صعب وشاق فيه تبذل الأرواح والمهج، وتبذل الأموال، ومن أجله تراق الدماء، لما كانت السلعة غالية، كان لابد أن يكون الثمن غالياً، ولابد دون الشهد من إبر النحل.(9/5)
سمية بين مجتمع الاضطهاد
إليك خبر أول شهيدة من العابدات الزاهدات: كانت سمية ضعيفة في صباها وشيخوختها، فقد كانت أمة مملوكة في مجتمع جاهلي لا رحمة فيه للعبيد والمماليك، أسلم ابنها عمار، ودخل في الإسلام الذي يحقق العدل والمساواه للجميع، فقرأ رسول الله على مسامعهم كلام الله فانشرحت الصدور، وأقبلوا على دين الله يتعلمونه ويعلمونه.
دخلوا في هذا الدين وهم يعلمون أنهم سيدفعون الثمن غالياً، فلقد كانت قريش تعذب وتضطهد كل من أسلم، فمن كان له قبيلة حمته قبليته، ومن لمن يكن له كآل ياسر فلقد تفننت قريش في تعذيبهم من ضرب وجوع وعطش تحت أشعة الشمن الملتهبة، حتى كادت نفوسهم أن تزهق جوعاً وعطشاً وتعذيباً، لكن كأن صوتاً من السماء يناديهم: يا نار كوني برداً وسلاماً على آل ياسر، كما كنت برداً وسلاماً على إبراهيم.(9/6)
ثبات سمية في سبيل الله
لكِ أن تتخيلي أيتها الغالية تلك المرأة الناحلة الجسد، الكبيرة السن، وهم يصبون عليها أصناف العذاب، والعذاب يشتد يوماً بعد يوم، وجاءت المواساة للأسرة المعذبة في دينها يوم مر عليها نبي الهدى والرحمة ورأى صنوف العذاب وهي تنهال على تلك الأجساد الضعيفة، فواساها بكلمات كالسلسبيل، تخفض حدة العذاب، وتعطي للإيمان طعماً وللحياة معنى وقيمة: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، فصنعت تلك الكلمات في تلك النفوس العجب العجاب من صبر وثبات.
فالسلعة غالية: يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمان يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأرخص الأثمان طال العذاب وسمية تتحمل مع أسرتها أنواع التنكيل والإرهاق، كل ذلك من أجل الله، ومن أجل دين الله جل في علاه، وكلما زاد العذاب زاد الصبر والثبات، حتى لم يعد الكفار يطيقون رؤيتها، ونفذ صبرهم من صبرها، فأخبروا أبا جهل بما يلاقون من عنادها وشدتها وثباتها، فأقبل في مساء يوم ومعه فتية من بني مخزوم قد أشعلوا النار في دار آل ياسر، ووضعوا آل ياسر في قيود الحديد، وصاروا يتفننون في تعذيبهم، ويلهبون أجسادهم بالسياط، ويطعنون أجسادهم بالخناجر والرماح، ويحرقونهم بالنار، ويلقون عليهم الأحجار الثقال، ما ذنبهم؟ وما هي جريمتهم؟ {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:7 - 9].
وهاهم يكررون نفس الأفعال في العراق وفي كل مكان، {َإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، ملة الكفر لا تختلف سابقاً ولا لاحقاً، والعذاب يزداد وأبو جهل ينتظر من آل ياسر صيحة ردة عن دين الله، فيظفر بلا شيء، بل تقول سمية بكل قوة عندما ترى النبي صلى الله عليه وسلم يمر عليهم: (أشهد إنك لرسول الله، وأشهد أن وعدك الحق) أي: وعد الصبر الجنة، وعد صادق، وعهد سابق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122].
أما اشترى الله منهم الأنفس والأموال على أن يكون الثمن الجنة؟! تقول ذلك وهي في شدة العذاب.(9/7)
استشهاد سمية في سبيل الله
يصيح أبو جهل: لتذكرن محمداً بسوء، وتذكرن آلهتنا بخير، أو لتموتن؟ أليست هي نفس سياسة فرعون السابقة: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} [الأعراف:124]، فسياسة الكفر لا تتغير مهما تغير الزمان.
فترد عليه سمية: بؤساً لك ولآلهتك! فيشتد الغضب بـ أبي جهل فيضربها في بطنها برجله، ثم يطعنها بحربة كانت في يده؛ لتكون أول شهيدة في الإسلام، فسجلت بذلك سبقاً جهادياً بين أقرانها وبين أخواتها المسلمات.
قدمت حياتها لتعطي درساً على العزة والثبات، ما وهنت ولا استكانت ونداء ربها في مسامعها: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:139 - 142].
لسان حال الصادقين والصادقات: فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا ماتت موتة الأبطال وأهل المبادئ، ماتت وهي تنتظر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يمر عليهم ويرى العذاب: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].(9/8)
خبر الفارس الملثم
الخبر الثاني: خبر الفارس الملثم.
بينما خالد بن الوليد يصف صفوف المقاتلين لقتال الروم إذا بفارس ملثم ذي ثياب سود، قد حزم وسطه بعمامه خضراء، ثم سحبها على صدره.(9/9)
شجاعة خولة بنت الأزور وقتالها للروم
سبق هذا الفارس الناس كأنه برق، فقال خالد: ليت شعري من هذا الفارس؟ وايم الله إنه لفارس شجاع! ثم تبعه خالد والناس.
وكان هذا الفارس أسبق إلى صفوف المشركين؛ فحمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة، فزعزع كتائبهم، وحطم مواكبهم، ثم غاب في وسطهم، ثم خرج وسيفه ملطخ بالدماء وقد قتل رجالاً، وجندل أبطالاً، وعرض نفسه للهلاك.
ثم اخترق مرة ثانية غير مُكترث ولا خائف ولا مبال، فقلق عليه المسلمون، وقال رافع بن عميرة: ليس هذا الفارس الملثم إلا خالد بن الوليد فإذا بـ خالد بن الوليد على يمينه قد أشرف عليه، فقال رافع: من هذا الفارس الذي تقدم أمامك، فلقد بذل نفسه ومهجته؟! فقال خالد: والله إني أشد إنكاراً له منكم، ولقد أعجبني ما ظهر منه من شجاعة، فقال رافع: أيها الأمير! إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يميناً وشمالاً.
فقال خالد: معاشر المسلمين! احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن الدين، فأطلقوا الأعنة، وقوموا الأسنة، والتصق بعضهم ببعض، وخالد أمامهم، ونظر إلى الفارس فوجده كأنه شعلة من نار، كلما لحقت به الروم، لوى عليهم، وكر وفر، وصال وجال.
فتعجب المسلمون من هذا الفارس الملثم! ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسملين، فتأملوه فرأوه قد تخضب بالدماء، فصاح خالد والمسلمون: لله درك من فارس، اكشف لنا عن لثامك لنعرف من أنت.
فمال عنهم ولم يخاطبهم، وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب، وكذلك المسلمون، وقالوا: يا أيها الرجل الكريم، يا أيها الفارس الملثم، أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه؛ اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيماً -يريدون ما عند الله، بينهم وبين الله أسرار لا يعلمها إلا الله- فلم يرد عليهم جواباً، فلما ابتعد عن خالد سار إليه خالد بنفسه، وقال له: ويحك شغلت قلوب الناس، وشغلت قلبي بفعلك، فمن أنت؟! فلما ألح عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث، وقال: إنني يا أمير المؤمنين لم أعرض عنك إلا حياء منك؛ لأنك أمير جليل، وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور! فقال لها خالد: من أنت بارك الله فيك؟ قالت: أنا خولة بنت الأزور.
إنها تلميذة من مدرسة النبوة، إنها فارسة مقاتلة عنيدة تخرجت من مدرسة لا إله إلا الله، ما كانت لتكون كذلك إلا لأنها عابدة صوامة قوامة، ما كانت لتفعل تلك الأفعال وتسجل تلك اللحظات إلا لأنها عابدة صوامة قوامة، أما اليوم فما أكثر النساء المسلمات المأسورات في السجون: أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا كم اشتكت نساء فلسطين، ونساء الشيشان، ونساء العراق خاصةً في الفلوجة؟! لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي(9/10)
أسر خولة وتخلصها منه
في معركة من معارك الشام وقعت مجموعة من المسلمات في الأسر، من بينهن فارسنا الملثم خولة بنت الأزور، فقامت تخطب في النساء فقالت: يا بنات حمير! وبقية تبع! أترضين لأنفسكن علوج الروم، ويكون أولادكن عبيداً لأهل الروم؟ أين شجاعتكن وبراعتكن التي تتحدث بها عنكن أحياء العرب، وإني أراكن بمعزل عن ذلك، وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه الأغلال.
فأجابتها إحدى تلميذات المدرسة النبوية عفراء بنت عصام الحميرية: صدقت والله يا بنت الأزور! ونحن والله في الشجاعة كما ذكرت، وفي البراعة كما وصفتِ، وصاحت: غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت، وإنما داهمنا العدو على حين غفلة، وما نحن إلا كالغنم بدون سلاح.
فقالت خولة: يا بنات التبابعة! أترضين أن تحملن في بطونكن أبناء هؤلاء العلوج؟ كم تشتكي نساء العراق! وهن يقللن بطوناً ملأى بأبناء أحفاد الصليب، ولا حياة لمن تنادي.
فقالت عفراء بنت عصام: والله ما دعوت إلا إلى ما هو أحب إلينا مما ذكرت، ثم تناولت كل واحدة عموداً من أعمدة الخيام، وصحن صيحة واحدة، وألقت خولة على عاتقها عموداً، وسعت من وراءها عفراء ومسلمة بنت زارع وروعة بنت عملون وسلمة بنت النعمان وغيرهن، فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض، وكن كالحلقة الدائرة، لا تفترقن فيقع بكن التشتيت، حطمن رماح القوم، واكسرن سيوفهم، وهجمت خولة، وهجمت معها النساء، وقاتلن قتالاً شديداً، حتى أدركهن مجموعة من المسلمين، جاءت في الوقت المناسب لتخليصهن، فكان الفرج من الله.(9/11)
أثر التربية الإيمانية على خولة ومثيلاتها
قد تسألي رعاك الله: علام تربت تلكم النساء؟ على الموضة وآخر الصيحات! وعلى أكاديم استار! أم على ماذا؟ رباه عم الفسق في الأوطان فلقد تركنا سنة العدناني أضحت فتاة اليوم أكثر معرض للحم حتى قل سعر الضان حيناً ببنطال الرجال وتارة بلباسها المخزي كالسعدان ما قلدت أما لها أو جدة بل قلدت أوروبة الشيطان قد تسألي أيتها المؤمنة: هل كن يقضين الأوقات أمام الشاشات والقنوات أم على ماذا؟ أما آن وأنت تنتمين إلى نفس المدرسة -مدرسة لا إله إلا الله- أن تنفضي الغبار وتشمري عن ساعديك، فأنت مطالبة بالقيام بالدور الذي لابد منه، لابد أن تصنعي لنا الأبطال، وتربي لنا الأجيال، وتقاتلي إذا دعت الضرورة والحال، لن تستطيعي أن تكوني كذلك حتى تكوني عابدة صوامة قوامة.(9/12)
شهيدة بعد ليلة عرسها(9/13)
ثبات أم حكيم بعد مقتل زوجها وأبيها
الخبر الرابع: شهيدة بعد ليلة عرسها: نعم.
شهيدة في اليوم الثاني من عرسها، أدخلت على زوجها ثم استشهد في اليوم الثاني، فمن هما وما خبرهما؟ إنها أم حكيم بنت الحارث، زوجة عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم.
خرجت معه إلى اليرموك، وكانت خلف الجيش ترد المتراجعين والفارين من أرض القتال، وقفت هي وغيرها من النساء يشجعن الرجال، ويسقين الجرحى، ويداوين المرضى، وأمسكت بعضهن بأعمدة الخيام يرجعن من فر من أرض المعركة، أو يوبخنه قائلات: إلى أين يا لكع، أتتركوننا للعلوج والكفار؟ فكان لكلماتهن أكبر الأثر في رفع همم الرجال.
لما علمت أم حكيم بمقتل زوجها عكرمة وأبيها الحارث بن هشام، تأثرت بذلك كثيراً، ولكنها هدأت وقرت عينها حين تذكرت أنهما شهيدان بإذن الله، وأنهما قتلا في سبيل الله، وأن الجنة في انتظارهما.(9/14)
زواج أم حكيم بخالد بن سعيد بن العاص
ولما أكملت عدتها تقدم لخطبتها اثنان من كبار قواد المسلمين يزيد بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، ولقد كانت عادة العرب أنهم يرون في حسن الوفاء لصاحبهم المتوفى أن يتزوجوا بزوجته.
وافقت أم حكيم على الزواج من خالد بن سعيد وقدم مهرها، لكن الحرب كانت مستمرة بين المسلمين والروم، والمفروض أن يؤجل الزواج حتى تنتهي الحرب، لكن خالد بن سعيد الصحابي الجليل رأى الزواج في الحال دون انتظار فرفضت أم حكيم، فالوقت غير مناسب، ولأنها رأت أعداداً من الروم قد اتجهت نحو المكان، فقالت: لو أخرت الدخول حتى يصد الله هذه الجموع! لكن خالداً أصر على موقفه وقال: إن نفسي تحدثني أنني سأصاب في جموعهم وسأقتل، فوافقت أم حكيم مرغمة، وقالت له: الرأي ما ترى.
أقيمت الأعراس، ونصبت الخيام للولائم في مرج الصفر عند قنطرة على النهر، سميت بقنطرة أم حكيم ثم بدأت المبارزة فخرج العريس، وقاتل قتال المستميت، فقتل منهم عدداً لا يستهان به، لكنهم تكاثروا عليه وقتلوه كما قتلوا ابنه من قبل، ترك عروسه التي في الدنيا، واستقبلته الحور العين.(9/15)
ثأر أم حكيم لزوجها واستشهادها
كانت العروس أم حكيم في خيمتها تسمع وترى ما يجري في المعركة وتراقب الأحداث، فلما علمت بمقتل زوجها اندفعت هي الأخرى تقاتل وآثار زينتها لا تزال عليها، فشدت عليها ثيابها، واقتلعت عموداً من خيمة عرسها، وانتظرت قدوم الروم من نحوها وسلاحها في يديها، مر الرومي الأول فضربته بالعمود فأردته قتيلاً، ثم مر الثاني فأردته قتيلاً، ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس، حتى قتلت سبعة؛ وما أن ابتعد الروم قليلاً حتى خرجت تقاتل مع الرجال، فأصيبت بسهم كان سبب مصرعها، فخرت شهيدة رضي الله عنها بزينة عرسها مضرجةً بدمها إلى جنة ربها.
وانهزم الروم وقتل منهم خلق كثير، وأسفرت المعركة عن استشهاد العروسين في صبيحة عرسهما.
رأت رضي الله عنها أن الوقت ليس وقت زواج، فطلبت التأجيل، وقالت: هذا أوان قتال وكفاح، لكن مقتل الزوج لم يجعلها تضعف أو تجبن حزناً، بل استبسلت وقاتلت مؤكدة أنها تنتمي إلى مدرسة لا إله إلا الله.
فلو أن النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال وما كان لها أن تكون كذلك إلا لأنها عابدة صوامة قوامة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(9/16)
زوجة المجاهد وأم المجاهدين(9/17)
فضل أم عمارة رضي الله عنها
الخبر الأخير: اسمعي أيتها الغالية! قصة المجاهدة المقاتلة، زوجة المجاهد وأم المجاهدين، مدرسة في التربية، مدرسة في البذل والعطاء والتضحية، إنها التي نذرت نفسها لله ولرسوله، إنها التي سطرت أعظم الصور، إنها نسيبة بن كعب المازنية أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها، هي من بني النجار، فلها صلة قرابة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم.
هي زوجة زيد بن عاصم، وأم عبد الله بن زيد، وحبيب بن زيد.
كانت هي وأسرتها ممن بايعوا بيعة العقبة، وشهدت تلك البيعة رضي الله عنها وأرضاها، بايعوا في يوم البيعة بيعة الحرب بيعة العقبة الثانية، عاهدوا يومها على بذل الغالي والنفيس على أن يكون الثمن الجنة، صدقوا الله فصدقهم الله لقد سطرت رضي الله عنها تاريخاً ناصعاً تفخر به المرأة المسلمة، فما أحوج المرأة اليوم للقدوة، وإذا لم تكن نساء السلف قدوة لك فمن يكون؟(9/18)
قتال أم عمارة في غزوة أحد، وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها
عادت بعد بيعة العقبة الثانية وهي تبث روح الفداء والتضحية والثبات في أبنائها، فلما كان يوم بدر خرج ابنها عبد الله بن زيد، يقاتل تحت راية التوحيد، ولم يخرج ابنها الثاني حبيب؛ لأنه يومها لم يبلغ الحلم.
توفي زوجها زيد، فتزوجها غزية بن عمرو، فلما كان يوم أحد خرجت هي وزوجها وابنها عبد الله، وعبد الله بن جحش، وكبار الصحابة، ولما اشتدت المعركة، وانقلبت الموازين.
لما خالف الرماة الأوامر وتركوا أماكنهم، والتف المشركون حول النبي صلى الله عليه وسلم: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11]، وصار نبيهم في خطر! تآمر الأعداء على كلمة واحدة في ذلك اليوم: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أنى لهم ذلك والرجال والنساء يحوطونه بأجسادهم وقلوبهم! فالتفت كوكبة من المؤمنين حول نبيهم تفديه بالأرواح، وهم قلة قليلة من بينهم أم عمارة وزوجها غزية وابنها عبد الله، الأسرة كاملة تترست أمام النبي صلى الله عليه وسلم، لما رأت رضي الله عنها تغير الظروف رمت السقاء واستلت السيف فقاتلت به دون حبيبها صلى الله عليه وسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم عنها: (ألتفت يميناً فإذا بـ أم عمارة تذود عني، ألتفت يساراً فإذا بـ أم عمارة تذود عني).
رآها النبي صلى الله عليه وسلم بلا ترس، ولملح رجلاً متراجعاً معه ترسه، فقال له: (ألق ترسك إلى من يقاتل) فألقى ترسه، فأخذته أم عمارة تترس به النبي صلى الله عليه وسلم، ما ترست نفسها، ولكنها دافعت عن حبيبها، فهجم عليها أحد الكفار بسيفه، فتترست له، وهجمت عليه، وضربت عرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم ابنها عبد الله: (يا ابن أم عمارة! أمك أمك) فتعاونا حتى قتلا الكافر، وجرح ابنها في يده اليسرى ونزف منه الدم فقالت له أمه: انهض بارك الله فيك.
انهض نضارب القوم، وندافع عن هذا الدين، ونحمي حبيبنا صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟).
توقفي أيتها الغالية! واسألي نفسك هذا
السؤال
كيف استطاعت أم عمارة أن تتحمل كل هذا؟ أليس هو الإيمان الذي حرك أولئك الرجال والنساء؟ أليس هو القرآن الذي صنع ذلك الجيل الفريد؟! نعم إنه الإيمان بالله، وبوعده وووعيده الذي حمله لنا القرآن: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].(9/19)
أم عمارة تثأر لولدها
لم تنته المعركة بعد، فلا زال التاريخ يسطر تلك الأمجاد وتلك البطولات التي سطرتها أم عمارة.
وبينما والمعركة تدور، إذا بالرجل الذي ضرب ابن أم عمارة قد أقبل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا ضارب ابنك يا أم عمارة)، فاعترضته وضربت ساقه فبرك وسقط على وجهه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه، وقال: انتقمت يا أم عمارة).
ثم أقبلت على الكافر حتى قتلته، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أظفرك، وأقر عينيك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك).(9/20)
ذود أم عمارة عن الرسول يوم أحد
زادت حدة المعركة واجتمع الكفار على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فهجموا عليه هجمة واحدة، وأقبل أحدهم يقال له ابن قميئة يقول: دلوني على محمد، لا نجوت إن نجا.
فاعترضته المجاهدة المقاتلة، اعترضته أم عمارة، ومعها مصعب بن عمير، فاستشهد مصعب، ووقفت أم عمارة في وجه الكافر، فضربها ضربة أصابتها في عنقها إصابة بالغة، فما وهنت وما ضعفت وما استكانت، بل ردت الضربة ضربات، ولكن عدو الله كان معه درعان.
يقول صخرة بن سعد المازني حفيد أم عمارة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يرى نسيبة أم عمارة يومئذ تقاتل أشد القتال حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، ثم يقول: وإني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عنقها وقد أعظم جراحها، فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جرحها، فنادى ابنها عبد الله: أمك، أمك؛ اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت)، ما أعظمها من دعوة وشهادة وتزكية لذلك البيت! (فلما سمعت أم عمارة صوت النبي صلى الله عليه وسلم والدم ينفجر منها صاحت: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فأتاها الجواب منه صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة، فهتفت رضي الله عنها: والله ما أبالي ما أصابني من الدنيا بعد اليوم).
هل سمعت الأمنية؟! هل سمعت المطلب؟! هل سمعت السؤال؟! إنها مرافقة الحبيب في الجنة، وما أدراك ما الجنة؟! ريحانة تهتز، ونور يتلألأ، ونهر مطرد، وقصر مشيد، وثمرة نضيجة، فأين المشمرات؟! أين الصادقات؟! أين العابدات؟! (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها).
اعمل لدار غدٍ رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها دلالها المصطفى والرحمن بايعها وجبرائيل ينادي في نواحيها قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها أنهارها لبن تجري ومن عسل والخمر يجري رحيقاً في مجاريها من يشتري الدار بالفردوس يعمرها بركعة في ظلام الليل يحييها أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها ولا زال للتاريخ حديث يخبرنا به عن أم عمارة وماذا صنعت، وماذا سطرت.
فلما عاد القوم إلى المدينة وقد استشهد الصفوة الأخيار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رجعت أم عمارة صابرة على جراحها، وفي اليوم التالي نادي منادي النبي صلى الله عليه وسلم للخروج مرة ثانية لمن شهد المعركة فقط، وأرادت أم عمارة أن تخرج، وهي التي أصيبت إصابات بالغة، شدت عليها ثيابها فما استطاعت من شدة الجراح والآلام وكثرة النزف، فمكثت وهي كارهة، وحولها نساء المسلمين يضمدن جراحها، حتى عاد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيام.
فلما وصل أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها، فأخبروه أنها بخير وسلامة، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وكيف لا يفرح وهي التي فدته بروحها.
لقد كانت رضي الله عنها مجاهدة ومربية للمجاهدين، فلقد شهد أبناؤها المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تشعل في نفوسهم الحماس وروح الجهاد، فلم يتخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة من معاركه.
ونحن نريدك أن تشعلي الحماس في النفوس، وتبثي حب الجهاد والتضحية لهذا الدين الذي هو شرف لكِ وعز في الدنيا والآخرة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].(9/21)
أم عمارة في حروب الردة
لما مات النبي صلى الله عليه وسلم واصلت المسيرة مع خليفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ارتد المرتدون وادعى مسيلمة الكذاب النبوة، أرسل أبوبكر كتاباً إلى مسيلمة حمله حبيب بن زيد ابن أم عمارة، ولكن مسيلمة لم يرع حرمة الرسل، فقبض عليه وأوثقه، وجعل يقول له: اتشهد أني رسول الله! وهو يقول: لا أسمع، وجعل يقطعه عضواً عضواً حتى مات، وما تراجع وما ارتد عن دينه.
اسمعي بارك الله فيك: قطعوه وعذبوه وما انتكس، فما بال الرجال والنساء اليوم ينتكسون، ولم يصبهم ما أصاب القوم؟ فلما علمت المجاهدة باستشهاد ابنها -الذي تعلم في مدرسة لا إله الله أن الجهاد غاية المسلمين ومبتغاهم، وأن الشهادة أعظم غاية- صبرت أم عمارة واحتسبت؛ لأنها رضيت لها ولأهلها ولأبنائها حياة المجاهدين، ونذرت لله أن تشهد مقتل مسيلمة الكذاب، وتشارك في مقتله.
وتم لها ما أرادت؛ فقد خرج جيش المسلمين قاصداً مسيلمة، وخرج مع الجيش ابنها عبد الله وخرجت معه، وكان عمرها يومئذ قد جاوز الستين عاماً، وتركها المسلمون تخرج رغم كبر سنها لتفي بنذرها.
الله أكبر! لم يمنعها سنها من الخروج والمشاركة.
وكما قيل: إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام وحين ارتفع لواء الحق وأقبل المهاجرون والأنصار، استلت سيفها وهجمت على المنافقين والمرتدين مع مجموعة كان ابنها عبد الله معهم، ودارت المعركة بين الحق والباطل، وأخذت تقاتل لله درها حتى أصابها اثنا عشر جرحاً ولم تبال، قطع ذراعها ولم تبال حتى وصلت هي ومن معها إلى مسيلمة الكذاب، وانقضوا عليه وهي في المقدمة رضي الله عنها وأرضاها ومعها ابنها عبد الله لتقتله بسيفها ثأراً لدينها ولابنها، وعادت المجاهدة مع الجيش المنتصر بذراع واحد.(9/22)
أحوال العابدين
هناك عبادٌ أتقياء عابدون، سجلوا التاريخ وصنعوه باجتهادهم في العبادة، والعكوف على ذلك، والإعراض عن الدنيا وزينتها.(10/1)
أسباب التحدث عن أحوال العابدين
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
عنوان هذا اللقاء المبارك: أحوال العابدين.
وسيتكون اللقاء من هذه النقاط: أولها: سبب الاختيار للموضوع، ثم أولياء لرب العالمين، ثم سيد العابدين، ثم من أحوال العابدين، ثم أين نحن من هؤلاء، ثم خبر عابد صغير، وأخيراً اغتنم شبابك.
وأحب قبل أن أنطلق أن أبين للأخوات أني لم أتطرق في الموضوع إلى أحوال العابدات، والسبب أني سأخص هذا بموضوع منفرد لحاجة النساء إلى مثل هذا.
أسأل الله أن ينفع السامع والمتكلم بما نسمع وبما نقول.
إن سبب اختيار هذه الأحوال والأخبار ما نراه من قسوة في القلوب وهجر للقرآن، فلا يعرف ختم القرآن إلا من رمضان إلى رمضان.
قال الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
ومن الأسباب أيضاً: ما نراه من تفريط بالنوافل، بل بالفرائض، فالصلاة أصبحت مجرد حركات، من قيام وقعود بلا أثر، وكذلك ما نراه من تخلف عن تكبيرة الإحرام ورضا بالصفوف الأخيرة.
اعلم أنه من عزم ثابر، ومن أراد إدراك المفاخر لم يرض بالصف الآخر.
ومن الأسباب أيضاً: ما نراه من تكاسل عن الجمعة والجماعات، وشح في البذل والصدقات، كأن لم يكن الله قد اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنات.
إن حاجتنا للعبادة كحاجة الأرض للمطر، فلا تحيا القلوب إلا بذكر علام الغيوب، فنحن في أمس الحاجة إلى تقوية الصلة بالله؛ حتى نكون من أوليائه الذين قال عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، وهل تنتصر الأمة إلا بأوليائها والعباد والزهاد الصادقين، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
بالصادقين والمخلصين الذين يدعون ويتضرعون تنتصر الأمة، عن علي رضي الله عنه قال: (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح يناجي ربه ويتضرع: اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد بعد اليوم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسُهم حتى سقط رداؤه عن ظهره، فقال له أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: هون عليك يا رسول الله! إن الله منجزك وعده، ثم غفا إغفاءة، ثم قال: أبشر يا أبا بكر هذا أخي جبريل آخذ بعنان فرسه، فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:9 - 13]).
بالعباد الأولياء وبرهبان الليل وفرسان النهار تنتصر الأمة، لذا فإن حاجتنا اليوم لتقوية الصلة بالعبادة أشد من حاجتهم، فأهل العصور الماضية كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل ويسوده التواصي بالحق، أما اليوم فغفلة وقسوة في القلوب، وانشغال بتوافه الأمور.(10/2)
أخبار الأولياء تحفز النفوس إلى العبادة
نذكر أخبارهم تحفيزاً للنفوس، وتشجيعاً للسير على طريقهم، فهم أولياء رب العالمين، قال الله عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
{الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63]، فماذا لهم بإيمانهم وتقواهم؟ قال سبحانه: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:64]، صدقوا إيمانهم بتقواهم، وذلك بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.
فكل من كان مؤمناً تقياً كان لله تعالى ولياً؛ لذلك كانت لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فالثناء الحسن، والمودة في القلوب، والرؤية الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به، وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرف سيِّئها عنه، أما في الآخرة فبشارة عند قبض أرواحهم، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31]، ثم تثبيت لهم في قبورهم قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، ثم تمام البشرى بدخول جنات النعيم والنجاة من العذاب الأليم.
هم أولئك الذين إذا رءوا ذكر الله عز وجل، هم أولئك الذين تنبعث من وجوههم أنوار الطاعة، هم أولئك الذين قال الله عنهم كما في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، هم أولئك الذي يثبت الناس برؤياهم وكلامهم.
حكى ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: يعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاب، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة.
قال الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.(10/3)
من أخبار الأولياء والصالحين
وإليك طرفاً من أخبار الأولياء والعابدين: قال البخاري: ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.
وقال الشافعي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً، ولو أعلم أن الماء يفسد علي مروءتي ما شربته.
وقيل لـ محمد بن واسع: لم لا تتكئ؟ قال: إنما يتكئ الآمن، وأنا لا زلت خائفاً.
وقُرئَ على عبد الله بن وهب: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47]، فسقط مغشياً عليه.
وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
وعن جعفر بن سليمان قال: بكى ثابت البناني حتى كادت تثقب عيناه؛ فجاء رجل يعالجها فقال الطبيب: أعالجك على أن تطيعني، قال ثابت: على أي شيء أطيعك؟ قال: على ألا تبكي، قال: فما خيرهما إن لم تبكيا؟ أما قال الله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، أما قال عن أوليائه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109].
سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع عن سلام بن مطيع قال: جيء للحسن بكوز من ماء؛ ليفطر عليه وكان صائماً، فلما أدناه إلى فيه بكى، فقيل: ما أبكاك؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار في قوله جل في علاه: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50]، ثم ذكرت
الجواب
{ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].
دخلت امرأة على أهل الأوزاعي، فنظرت فوجدت بللاً في موضع سجود الأوزاعي، فقالت لزوجته: ثكلتك أمك، أراك غفلت عن الصبيان حتى بالوا في مسجد الشيخ، فقالت زوجة الأوزاعي: ويحك أمة الله، هذا أثر دموعه في مسجده، وليس من بول الصبيان.
لله درهم، أما قال الله عنهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].
لسان حالهم: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي كان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، وذكر له المسلمين ومن أوصافهم فقال: لا ينامون بالليل، ولا يأكلون بالنهار، شعث رءوسهم، بالية ثيابهم.
فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث إليك جيشاً أوله في منابت الزيتون يعني: في الشام، وآخره في الصين.
ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول، فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم، وتعيش في ظلهم، وتأمن في عدلهم.
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا قال الحافظ ابن حجر: المراد بولي الله المواظب على طاعته، المخلص في عبادته، ومن أعظم ما يتبين به الولي أن يكون مجاب الدعوة، راضياً عن الله في كل حال، قائماً بالفرائض، مجتهداً بالنوافل، تاركاً للنواهي، له هدف غير أهداف الناس الدنيوية، غير حريص على الدنيا وما فيها، إذا وصل إليه القليل صبر، وإذا وصل إليه الكثير شكر، يستوي عنده المدح والذم، والفقر والغنى، غير معتد بما منَّ الله عليه من خصال الولاية، كلما زاده الله رفعة ازداد تواضعاً وخشوعاً.
من صفاته: حسن الأخلاق، كريم الصحبة، كثير الحلم، كثير الصبر والاحتمال، فمن اتصف بهذه الصفات فليس ببعيد أن تظهر على يديه الكرامات؛ لأن الله تعالى قال عنه كما في الحديث القدسي: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).(10/4)
من أخبار سيد العابدين محمد صلى الله عليه وسلم(10/5)
خشوعه صلى الله عليه وسلم في الصلاة
إليك رعاك الله موجزاً مختصراً عن سيد الأولياء والعابدين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صلوات ربي وسلامه عليه، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأوابين العابدين المتبتلين، لم تتغلب نفسه على أهداف حياته العظمى قيد شعرة، ولم يخلف موعده مع الله في عبادة ولا جهاد، لله در أمهات المؤمنين حين يصفن علو همته صلى الله عليه وسلم للصحابة، تقول إحداهن: (وأيكم يطيق ما كان يطيق) وتقول الأخرى: (ما لكم وصلاته صلى الله عليه وسلم) همة عالية في كل مقامات الدين.
فلقد كان صلى الله عليه وسلم سيد المجاهدين والعابدين والصابرين والصائمين، كان أعلى الناس توكلاً، وأوفر الناس نصيباً من الرضا والحمد والدعاء والشكر والتبتل، وأعلى الناس يقيناً.
كان أشجع الناس، وأرحم الناس، وأشد الناس حياء.
كان أحسن الناس خلقاً ومروءة وتواضعاً، وأكثر الناس مراقبة لربه، وأعلى الناس خشوعاً، وأشد الناس عبادة، وكان أطول الناس صلاة.
عن حذيفة: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، فكان يقول في صلاته: الله أكبر -ثلاثاً- ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه فكان قيامه نحواً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه من السجود فكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، في أربع ركعات، قرأ البقرة، والنساء، وآل عمران، والمائدة أو الأنعام)، شك الراوي في ذلك.
يقول أبو هالة في وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان دائم الفكر ليست له راحة).
وتقول عائشة رضي الله عنها: (قام صلى الله عليه وسلم ليلة بآية يرددها حتى الفجر وهو يبكي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]) أقول: ردد وكرر هذه الآية، ثم انظر إلى الأثر في قلبك رعاك الله.
يقول عبد الله بن الشخير: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء).
قال له ربه: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، فانطلق يبلغ دعوة الله.
وقال له ربه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، فقام حتى تفطرت قدماه.
قال لـ عائشة ليلة: (دعيني أتعبد لربي، تقول: فقام يصلي، وجعل يبكي حتى بل لحيته، ولا يزال يبكي حتى بل الثرى تحته، فجاءه بلال ليعلمه بدخول وقت الصلاة فوجده يبكي، فقال له: تبكي بأبي أنت وأمي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال صلوات ربي وسلامه عليه: كيف لا أبكي يا بلال! أفلا أكون عبداً شكوراً؟! لقد تنزلت علي الليلة آيات، ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم تلا قوله جل في علاه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194]).
إنها آيات تصور العابدين في ليلهم ونهارهم وفي جميع أحوالهم تصور خوفهم ورجاءهم وتذكرهم ودعاءهم.
لما علمت بأن قلبي فارغ مما سواك ملأته بهواكا وملأت كلي منك حتى لم أدع مني مكاناً خالياً لسواكا فالقلب فيك هيامه وغرامه والروح لا تنفك عن ذكراكا والسمع لا يصغي إلى متكلم إلا إذا ما حدثوا بعلاكا والطرف حيث أجي له متلفتاً في كل شيء يشتهي معناكا اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك يا رب العالمين.(10/6)
حرصه صلى الله عليه وسلم على صلاة الجماعة
كان سيد العابدين صلوات ربي وسلامه عليه حريصاً على صلاة الجماعة حتى في أشد الأحوال وأصعبها، فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، فلما صلينا الظهر، قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة واحدة لاقتطعناهم، فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقد قالوا: إنهم ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من أولادهم، فلما حضرت صلاة العصر، قال: قمنا صفين، والمشركون بيننا وبين القبلة، قال: فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا، وركع وركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، فلما قاموا سجد الصف الثاني، ثم تأخر الصف الأول، وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الأول فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبرنا، وركع وركعنا، ثم سجد وسجد معه الصف الأول، وقام الثاني، فلما سجد الصف الثاني جلسوا جميعاً، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم بهم جميعاً).
الله أكبر! المقام مقام حرب وخوف وقتال شديد، ومع هذا ما تأخر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما تكاسلوا وما تهاونوا في صلاة الجماعة، ولقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في أيام مختلفة، وعلى أشكال متباينة، كل هذا الحرص؛ ليربي العباد على المحافظة على الصلوات في كل الظروف والأحوال.
وروى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبه قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: ألا تحدثيني عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: بلى، ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء -يعني: ليقوم- فسقط فأغمي عليه، ثم أفاق صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب ليقوم فسقط فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ضعوا لي ماء في المخضب، فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس).
الله أكبر! كم كان صلوات ربي وسلامه عليه حريصاً على صلاة الجماعة، يشتد مرضه فيغتسل، ثم يغمى عليه فيفيق فيغتسل ثم ثانية وثالثة، كل ذلك لعله يكتسب خفة ونشاطاً يمكنه بفضل الله تعالى من حضور صلاة الجماعة، فكيف كانت الخفة؟ وكيف كان خروجه للناس؟ اسمع رعاك الله! روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فخرج يهادى بين الرجلين، كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع).
سبحان الله! لم يكن يتمكن من المشي إلا اعتماداً على رجلين، ولم يكن يقدر على تمكين رجليه على الأرض لشدة ضعفه، ومع هذا خرج لصلاة الجماعة في المسجد؛ ليبين للناس أن العابدين لا يتخلفون عن الصلوات في المساجد، خرج ليبين أن العابدين لا يكونون إلا في المساجد والمحاريب.(10/7)
من صفات العابدين(10/8)
التعلق بالمساجد
إن أي استقامة لا تنطلق من المسجد والمحراب لا خير فيها، إن سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة هي من أهم صفات العابدين، ولئن ظن أهل الدنيا أن جنتهم في الدينار والنساء والقصر المنيع، فإن جنة العابدين في محرابهم في صلواتهم لربهم، أما سمعت قول الله ليحيى عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]، إن صلوات العباد في المحاريب تربية لهم وتيجان على رءوسهم أغلى من التيجان على رءوس الملوك.
أعيد وأكرر: وهل تنتصر الأمة إلا بالعباد والزهاد؟ فهيا معاً نسمع أحوال العابدين الذين جعلوا محمداً صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة لهم، من أحوال العابدين:(10/9)
إنهم كالعملة النادرة
العباد الزهاد في الناس كالعملة النادرة، يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة)، رواه مسلم.
ومعنى الحديث: أن المرضي الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف، الحسن المنظر، القوي على الأحمال والأسفار، قليل جداً، كقلة الراحلة في الإبل، ولذا عمت المصيبة بفقدهم وعمت الرزية بموتهم.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير فالرجل من أولئك بألف، قال أبو بكر رضي الله عنه: (صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل).
ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لفتح مصر كتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف، الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد.
وهل تنتصر الأمة على أعدائها إلا بأمثال هؤلاء؟! (قال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم الترك -وهذا هو أمرهم- سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو معك في الميمنة، جانح على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء قال: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(10/10)
إنهم أهل للمحافظة على الفرائض
ومن أهم صفات العابدين: أنهم أهل صلاة وقيام وأهل محافظة على الفرائض، وتقرب إلى الله بالنوافل، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) الحديث.
فلما سمع القوم منادي المحب يناديهم؛ انطلقوا خفافاً إليه، وعلموا أن أفضل القربات هي الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).
كيف لا وهي عماد الدين، وعصام اليقين، ورأس القربات، وهي المعين للعبادة، التي تفتح القلب وتوثق الصلة بالله.
ولقد بدأ الله صفات المؤمنين بالصلاة وختمها بالصلاة؛ لعظيم مكانها في بناء الإيمان، وهي أكمل صورة من صور العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر)، حسنه الألباني رحمه الله.
وقال سيد العابدين صلوات ربي وسلامه عليه: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، رواه مسلم.
وقال بأبي هو وأمي: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)، حسنه الألباني رحمه الله.
أما يكفيك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه)، صححه الألباني رحمه الله.
علم العباد قدر الصلاة وأنها ميدان سباق، فانطلقوا يتسابقون ولسان حالهم: من فاته منك وقت حظه الندم ومن تكن همه تسمو به الهمم(10/11)
في رياض العابدين
روى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
لله درهم من مرضى، لا والله بل نحن المرضى، مرضى القلوب.
وعن عطاء بن السائب قال: (دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي وهو يقضى -يعني: ينازع- في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى دارك وفراشك فإنه أوفر لك، فقال لهم: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه، فأنا أريد أن أموت في مسجدي) يا ألله! من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: رجل قلبه معلق في المساجد.
قيل لـ نافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
وعن محمد بن زيد: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان له متراس فيه ماء فيصلي فيه ما قدر له، ثم يصير إلى فراشه فيغفي إغفاءة الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمس.
وروى نافع: أن ابن عمر كان يحيي بين الظهر والعصر.
فمن منا فعل ذلك؟! عن الربيع بن خثيم قال: أتيت أويساً القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد في مصلاه، فقلت: لا أشغله عن التسبيح، فلما كان وقت الصلاة -يعني: بعد الشروق- قام فصلى إلى الظهر، فلما صلى الظهر قام فصلى إلى العصر، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب، فلما صلى المغرب صلى إلى العشاء، فلما صلى إلى العشاء قام فصلى إلى الصبح، فلما صلى الصبح جلس فأخذته عينه ثم انتبه، فسمعته يقول: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة، وبطن لا تشبع.
رحم الله أويساً ما أعلى همته، يعاتب نفسه على إغفاءة خاطفة، ولهذا يعده الشاطبي ممن يأخذ بما هو شاق على الدوام، ومع هذا لا يعتبر مخالفاً للسنة، بل إنه من السابقين الأولين، ألم يكن سيد العابدين يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟! عن أصبغ بن زيد قال: كان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح, وكان إذا أمسى قال: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح، كان رحمه الله يقول: لأعبدن الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء.
أما سيد التابعين في العلم والعمل سعيد بن المسيب فكان كاسمه في الطاعات سعيداً، ومن المعاصي والجهالات بعيداً، عن أبي حرملة عن ابن المسيب قال: ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين، وما نظرت في قفا رجل منذ خمسين سنة، وما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد.
قال رحمه الله: من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة.
والله لولا الأسانيد الصحاح والرجال الثقات لقلنا: إن هذه الأخبار ضرباً من الخيال، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن لج ولج، ومن وقف على الباب يوشك أن يفتح له.
عن شرحبيل: أن رجلين أتيا أبا مسلم الخولاني فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد فوجداه يركع ويسجد، فانتظراه فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاثمائة ركعة قبل أن ينصرف، فقالا له: يا أبا مسلم كنا قاعدين خلفك ننتظرك، فقال: لو عرفت مكانكما لانصرفت إليكما، وأقسم لكما بالله إن خير ما قدم المرء ليوم القيامة كثرة السجود.
عمن أخبرك؟ عن الربيع، أمْ عن عامر بن قيس، أم أسمعك من خبر الحسن والفضيل وابن المبارك، أم أتلو عليك خبر مرة الهمداني.
قال الذهبي: يقال له مرة الخير لعبادته وخيره وعلمه قال الذهبي: بلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جسده.
عن عطاء بن السائب قال: كان مرة يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة، فلما ثقل وبدن صلى أربعمائة ركعة، وكنت أنظر إلى مباركه كأنها مبارك الإبل.
ومثل هؤلاء كثير ممن نعرفهم وممن لا نعرفهم، لكن الله يعرفهم.
أما مسروق العالم بربه الهائم بحبه، فقال عنه ابن إسحاق: حج مسروق فما بات إلا ساجداً.
قال سعيد بن جبير: لقيني مسروق فقال: يا سعيد! ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفِّر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى.
كانت امرأة مسروق تقول: والله ما كان مسروق يصبح ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام، وكنت أجلس خلفه فأبكي رحمة له.
وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً، ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف كما يزحف البعير من الضعف.
إن الذي قاد هؤلاء وأوصلهم إلى ما هم عليه تلك الهمم العالية والنفوس الأبية.
قال السعدي في أبيات جميلة يصور سيرهم وحالهم: سعد الذين تجنبوا سبل الردى وتيمموا لمنازل الرضوان فهم الذين أخلصوا في مسجد متشرعين بشرعة الإيمان وهم الذين بنوا منازل سيرهم بين الرجا والخوف للديان وهم الذي ملأ الإله قلوبهم بوداده ومحبة الرحمن.
أقول: من أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سار على الدرب وصل(10/12)
قصة عابد صغير
إليك خبر عابد صغير من أهل زماننا، أخبرني أحد الثقات عن ابن أخيه، واسمه مسفر وعمره خمس سنوات.
يقول: بدأت قصة مسفر عندما قلت له: إن الذي يصلي يحبه الله، ومنذ تلك اللحظة وهو محافظ على الصلوات جميعها، بل في الصف الأول، بل خلف الإمام أكثر الأحيان وإذا سألته لماذا تصلي؟ يجيب بكل بساطة وعفوية: حتى يحبني الله، يقول: في يوم من الأيام ارتفعت حرارة مسفر واحمرت عيناه من شدة المرض، فلما رأى أباه خارجاً سأله: إلى أين يا أبي؟ فقال: إلى المسجد، إلى صلاة العصر، فقام من حضن أمه وقال لأبيه: سوف أذهب معك إلى المسجد، فقال: ولكن أنت مريض، وحرارتك مرتفعة، فرد مسفر: أذهب إلى المسجد والله سيشفيني؛ لأن الله يحب الذين يصلون.
يقول صاحبي: فذهب إلى المسجد وصلى، وخرج من المسجد معافى، كأنه لم يكن به شيء، ولم تنته القصة: ذهب مسفر لزيارة عمته، ولما أراد أبوه أن يرجعه إلى البيت، رفض الرجوع، قال: أريد البقاء مع عمتي، وهي أمي من الآن وأصبح يناديها بأمي.
أتدرون ما السبب؟ السبب: أن زوج عمته مؤذن، ويأخذه إلى المسجد مبكراً، وهو يحب التبكير إلى الصلاة كلما اتصلت عليه أمه، قال: اسمعي أماه، الله أكبر، الله أكبر.
يردد على مسامعها الأذان، أقول: آن الأوان أن نربي أنفسنا وصغارنا على الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر).(10/13)
اغتنم شبابك
قبل النهاية أوصي الشباب بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم شبابك قبل هرمك)، الشباب: هو زمن العمل؛ لأنه فترة قوة بين ضعفين: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة.
لذا قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)، رواه الحاكم وصححه.
فالشباب هو وقت القدرة على الطاعة، وهو ضيف سريع الارتحال، فإن لم يغتنمه العاقل تقطعت نفسه حسرات: ألا ليت الشباب يعود يوماً.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) الحديث.
والسؤال الذي أسألك إياه أخي الكريم: أليس الشباب قطعة من العمر؟ فلماذا التأكيد والتشديد على مرحلة الشباب، ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: شاب نشأ في عبادة الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما آتى الله عز وجل عبداً علماً إلا شاباً والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله جل في علاه: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]، وقوله سبحانه: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإنما العمل في الشباب، وهل كان صحابة محمد صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه إلا شباب؟! شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماةً يدكون المعاقل والحصونا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا ولم تشهدهم الأقداح يوماً وقد ملئوا نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا وما عرفوا الخلاعة في بنات ولا عرفوا التخنث في بنينا كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مخلصاً حراً أمينا.
حكى المسعودي في شرح المقامات: أن المهدي العباسي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية وهو صبي، وخلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة وإياس يتقدمهم، فقال المهدي: أما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث؟ ثم إن المهدي التفت إليه وقال: كم سنك يا فتى؟ فقال: سني أطال الله بقاء الأمير سن أسامة بن زيد لما ولاه النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم أبو بكر وعمر، فقال المهدي: تقدم بارك الله فيك.
فالشباب هم روح الأمة، وهم حملة الراية، ولن تقوم للأمة قائمة إلا على أكتاف الشباب الذين يريدون ما عند الله والدار الآخرة.
لقد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً؛ يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة).
اعلم رعاك الله أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال، واحتمال المشتاق تكون الفرحة واللذة.
قيل للربيع بن خثيم: لو أرحت نفسك، قال: راحتها أريد.
وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة.
أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول عوتب أحدهم لشدة اجتهاده فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولن أكون فيها، ولا أحب أن أغفل أيامي.
فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، فكن رجلاً رجله في الثراء وقامة همته في الثريا فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا.
قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19].
وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرَّتْ بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها).
فكم ضاعت ومرت بنا من ساعات؟ عن قتادة أن عامر بن قيس لما حُضِرَ جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك، قال: ما أبكي جزعاً من الموت ولا حرصاً على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء.
قال فضيل رحمه الله: الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
قيل لـ محمد بن واسع: إنك لترضى بالدون، قال: إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا.
هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى انتقال فما دنياك إلا مثل ظل أظلك ثم آذن بالزوال اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم أصلح الشباب والشيب واحفظ النساء والأطفال يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير إنك يا مولانا نعم المولى ونعم النصير، أستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(10/14)
أحوال الناس في استغلال الأوقات
لقد أقسم سبحانه وتعالى بالوقت وذلك بقوله: (والعصر) وقوله: (والضحى) وقوله: (والليل) وقوله: (والفجر)، وهذا يدلنا على عظم شأن الوقت وأهميته، وأهمية استغلاله فيما ينفع في الآخرة؛ لأنه رأس مال المرء وهو حياته.
فالذي ينبغي على المسلم والمسلمة المحافظة على الوقت وعدم التفريط فيه، واستغلاله في الطاعات، وعدم استغلاله في المنكرات والمحرمات، ولقد كان السلف الصالح حريصين على استغلال الوقت فيما يقربهم إلى الله عز وجل.(11/1)
ضرورة استغلال العمر في الطاعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الهدف والغاية السامية التي خلقنا الله من أجلها معروفة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57]، فالغاية هي: تحقيق العبودية لله تبارك وتعالى بالذل والخضوع والانكسار، (يا ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب)، فإذا عرف العبد والأمة الغاية والهدف من الحياة أصبح للحياة معنىً، وأما الحياة بلا هدف ولا غاية فلا معنى لها.
إن الناس يوم القيامة يقوّمون بإيمانهم وأعمالهم الصالحة، فالعمر فرصة للازدياد من الحسنات، ورفع الرصيد من الأعمال الصالحة، ولما كانت هذه الأمة أقصر الأمم أعماراً ضاعف الله لها الأجر والثواب، وشرع لها أعمالاً سهلة ميسرة يترتب عليها أجر كبير، فالحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، فعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)، صححه الإمام الألباني رحمه الله.
فعلى افتراض أن العمر ستون سنة فإننا ننام فيها ثمانِ ساعات كل يوم، فهذه عشرون سنة في النوم، وخمس عشرة سنة في الطفولة قبل التكليف، وسنتان أو ثلاث في الأكل والشرب وقضاء الحوائج، فبقي من العمر ثلاث وعشرون سنة، فإذا لم تستغل الاستغلال الصحيح فكيف سيكون الرصيد؟! إن الإنسان حريص على دخله الدنيوي ومصالحه الدنيوية، وكل موظف وموظفة حريص على زيادة دخله الشهري، ولا عيب في هذا، ولكن العيب كل العيب أن يمر العمر دون حرص على زيادة رصيد الحسنات ورصيد الأعمال الصالحة، فعن أبي بكرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره، وساء عمله)، صححه الإمام الألباني رحمه الله.
وقال الحسن البصري: إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا رصيد من الحسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله، قال: وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، قال الله عنهم: {هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37].
أخية! تأملي هذا الدعاء الجميل من سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، كما جاء في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: (اللهم! إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت يقوم فتنة فتوفني غير مفتون، اللهم! إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك، وقال صلى الله عليه وسلم: إنها حق فادرسوها) أي: احفظوها وتعلموها.
رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
أخية تأملي هذا الدعاء ففيه طلب التوفيق إلى فعل الطاعات وترك المنكرات، وفيه سؤال الله تبارك وتعالى أن يتوفاه إذا كان العمر سبباً للخسارة والفتنة وزيادة السيئات.
إن للحياة معنىً عظيماً، فنحن لم نخلق عبثاً، ولم نُترك هملاً، فلا بد من تحقيق العبودية لله، وأن نجمع أكبر قدر ممكن من الحسنات، حتى لا نندم عند الممات، وحتى لا نطلب الرجوع بعد الموت فلا يستجاب لنا، قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]، وقال سبحانه عن تلك اللحظات: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24].(11/2)
حال السلف مع الوقت
كان يزيد الرقاشي يحاسب نفسه ويقول: يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟! يا يزيد! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ يا يزيد! من ذا الذي يُرضي عنك ربك بعد الموت؟ ثم يبكي ويقول: أيها الناس! ألا تبكون على أنفسكم وتنوحون؟! من كان الموت يطلبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، فكيف يكون حاله؟! أيتها الغالية! إن الواحدة لتحزن أشد الحزن إذا ضاع عليها مبلغ زهيد من المال، أو عقد من الذهب، ولا تحزن على ضياع وقتها وعمرها فيما لا ينفع! كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: ما من أحد إلا وفي عقله نقص عن حلمه وعلمه، وذلك أنه إذا أتته الدنيا بزيادة مال ظل فرحاً مسروراً، والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك، ما نفع مال يزيد وعمر ينقص.
وكان السري يقول: إذا اغتممتَ بما ينقص من مالك فابك على ما ينقص من عمرك.
وقال أبو بكر بن عياش: إن أحدهم لو سقط منه درهم لظل يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي، ولا يقول: ذهب يومي، ما عملتُ فيه؟! اعلمي -أخية- أنك منذ ولادتك يبدأ العد التنازلي في ساعات عمرك، فابدئي أنت في العد التصاعدي في جمع الحسنات الكثيرات؛ لتنفعكِ بعد الممات.
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما.
وقال الحسن البصري: الأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد.
قال الزهري: كان عمر بن عبد العزيز إذا أصبح أمسك بلحيته ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] ثم يبكي ويقول: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم فلا أنت في الأيقاظ يقظان حازم ولا أنت في النوام ناجٍ فسالم تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما سُرّ باللذات في النوم حالم وتسعى إلى ما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم(11/3)
أصناف الناس مع أوقاتهم
في هذه الوقفة نتعرف على أحوال الناس مع أوقاتهم، فالناس على أحوال ثلاثة في استغلال الأوقات، وقد بينهم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].(11/4)
الصنف الأول: الظالم لنفسه
وهم يظنون أن الحياة غناء ورقص ولعب ولهو وأكل وشرب ونوم، وما علم المساكين أن الله سوف يسألهم عن كل دقيقة من دقائق حياتهم، فقد استغلوا الأوقات بالازدياد من اللذات والشهوات ومضاعفة السيئات، ونسوا أو تناسوا رقابة الواحد الأحد رب الأرض والسماوات.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني لقد نسي هؤلاء المساكين مراقبة الله ولقاءه، فتجد كثيراً من بناتنا تسمع الموسيقى والغناء، وترقص على المعازف والألحان، ونسيت أنها حفيدة خديجة التي أقرأها الله السلام، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا تعب فيه ولا نصب، ونسيت المسكينة أنها حفيدة عائشة الصديقة بنت الصديق الصائمة القائمة المتصدقة، راوية الحديث، وعالمة الأمة.
ونسيت المسكينة أنها حفيدة المجاهدة نسيبة الأنصارية أم عمارة التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما رآها تذود وتدافع عنه: (تمني وسليني يا أم عمارة! فقالت: أسألك مرافقتك في الجنة يا رسول الله!)، فاسمعي أخية! تلك الأمنيات والرغبات، فماذا تسأل المسلمات اليوم؟! أين المضيعات للعمر والساعات عن مثل هؤلاء؟! أين المضيعات للحقوق والواجبات؟! قد هيوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(11/5)
الصنف الثالث: السابق بالخيرات
هن فتيات الإسلام، وهن نجوم التوحيد، وهن المتبعات لسنة نبيهن محمد صلى الله عليه وسلم، وهن أمل الأمة للخروج من الذل الذي تعيش فيه، إنهن فتيات عرفوا معنى الحياة، وعلموا أنهم سيقفو بين يدي علام الغيوب، وعرفوا أن الستين أو والسبعين سنة هي مزرعة للآخرة، وعرفوا أن نساء السلف استثمروا أوقاتهم في مرضاة ربهم، فقد كانوا صائمات قائمات مجاهدات في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فأردوا أن يكونوا مثلهم.
والأمة اليوم أحوج ما تكون لمثل هؤلاء الذين تربوا على تقوى من الله ورضوان.(11/6)
الصنف الثاني: المقتصد
إنها أخية التي لم يستغل الأوقات في معصية الله، وإنما استغلوها في المباحات، فهم يؤدون الفرائض ولا يفعلون المحرمات، ولكنهم تنام كثيراً، ويكثر من الزيارات والفسحات، فأين استثمار الوقت في العلم والتعلم وقراءة القرآن؟ يقول الإمام الغزالي رحمه الله: من نام في كل أربع وعشرين ساعة ثمان ساعات فقد نام -مَنْ عمرُه ستون سنة- عشرين سنة، ثم تبقى أربعون سنة ما بين لهو ولغو ومعاصٍ ومخالفات وشغل بالدرهم والدينار، فماذا تبقَّى من العمر؟! أليست القضية أيتها المؤمنة قضية ميزان ترجح فيه كفة الحسنات أو السيئات؟! أليس في يوم الحسرات يتمنى العبد والأمة أن لو يزداد في الرصيد من الحسنات؟ ولكن هيهات هيهات! أليست مكانة عند الله على قدر إيمانها وأعمالها؟! ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل كله حتى تفطرت قدماه، ثم إذا عوتب قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟(11/7)
أهمية الوقت وأهمية استغلاله
لقد أقسم الله تبارك وتعالى بالوقت لعظمه، فقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} [العصر:1]، وقال تعالى: {وَالضُّحَى} [الضحى:1]، وقال تبارك وتعالى: {وَاللَّيْلِ} [الليل:1]، ولا يقسم الله إلا بعظيم، وله سبحانه أن يقسم بما يشاء وليس لمخلوق أن يقسم إلا بالله تبارك وتعالى.
اعلمي أيتها المؤمنة أنك ستسألين عن الوقت، وستحاسبين عما عملت فيه، فإن كنتِ صالحةً ستفوزين، وإن كنتِ مضيعة فستندمين وتخسرين، قال سبحانه وهو يسأل العباد عن ذلك: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، فأما المضيعات اللاهيات المفرطات فيقلن: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113]، فيأتي التوبيخ الشديد من رب العالمين: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:114 - 115]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، وعدّ منهن: عن عمره فيما أبلاه، وعن شبابه فيما أفناه).
أخية! لقد سأل عن العمر إجمالاً وعن الشباب خاصة، فلماذا السؤال عن الشباب؟ أليس الشباب قطعة من العمر؟ فلماذا التركيز على مرحلة الشباب؟
الجواب
لأن الشباب أحلى سنين العمر وأقوها، فإن لم تصرفه لله فكيف سيكون الجواب؟ وما هي حجتك التي بها ستحتجين بها؟! قال سبحانه: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:6 - 9] فهل تأملت شدة الوعد والوعيد؟ ومع هذا اسمعي عجب العجاب.(11/8)
تضييع الأوقات في المكالمات الهاتفية المحرمة
أخية! عجباً لشابات يضيعن الساعات في مكالمات هاتفية محرمة نهايتها إلى الرذيلة والخسارة والهوان! وإذا فقدت الفتاة حياءها وشرفها فبطن الأرض خير لها من ظهرها، فكم نسمع عن قصص وحكايات، ومآس متكررات، وكم نقرأ استغاثات ومناشدات من هؤلاء الضائعين والضائعات، وكم نرى مثل هؤلاء الحائرين والحائرات في الأسواق والتجمعات، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]، وكم نقرأ في الصحف والمجلات عن مهاترات ومناقشات بين شبان وشابات يتكلمون عن الكرة وأخبارها، وعن المغنين والمغنيات، ويتكلمون عن آخر الموضات والصيحات، فقل لي بربك: كيف تحيا وتنهض أمة هذا حال فتيانها وفتياتها؟!(11/9)
تضييع الأوقات في تصفح الجرائد والمجلات غير النافعة
أخية! هل سمعت عن تلك الفئة التي تجلس الساعات والساعات تتصفح الجرائد والمجلات، وتتابع أخبار النجوم كما يقولون ويدعون كذباً، وهم الله ليسوا بنجوم، وإنما النجوم تلك التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وأما أولئك فهم عاهرون وعاهرات، وغافلون وغافلات، وفاجرون وفاجرات، فكيف يكونون قدوة للأولاد والبنات؟! بل كيف ترضين أن تكوني لأخبارهم من المتابعات؟! فإلى الله نشكو حال شبابنا وفتياتنا، بل حتى حال كثير من عجائزنا وشيبنا، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
وقال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما: هيا بنا نزور أم أيمن كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها في حياته، فلما جاءها بكت، فقالا لها: يا أم أيمن! أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله؟ قالت: بلى أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء).
ونحن نقول يا أم أيمن: قد بكيت وإننا نلهو ونمجن دون معرفة الأدب لم تبصري وضع الحديث ولا الكذب لم تشهري بعض المعازف والطرب لم تشهدي شرب الخمور ولا الزنا لم تلحظي ما قد أتانا من عطب لم تشهدي فرق الضلالة والهوى لولا مماتك لرأيت من العجب لم تشهدي فعل العدو وصحبهم ها نحن نجثو من يهود على الركب واحر قلبي من تمزُّق أمتي أضحت أمورك أمتي مثل اللعب تالله ما عرف البكاء سراتنا ومع التباكي لا وشائج أو نسب(11/10)
تضييع الأوقات في الأسواق والمنتديات
عجباً لفتية وفتيات يتسكعون في الأسواق والمنتديات، ويقضون ساعات وساعات بين نظرات ومساومات، الكل لا يعرف ماذا يريد، ويظنون أن الحياة مظاهر ومغريات، قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)، وقال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك)، فالعمر فرصة لا تعوض، فإن كل يوم تشرق فيه الشمس ينادي ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني، فإني إذا ذهبت لا أرجع أبداً.
والأحوال العجيبة كثيرة، فأين نعمة العقل التي يعرف بها الإنسان ما يضره وما ينفعه؟!(11/11)
تضييع الأوقات أمام القنوات الفضائية
عجباً لأناس يقضون الساعات الطوال أمام الشاشات: ما بين فلم ومسلسل، وما بين أغنية وألحان، وزيادة على ما هم فيه من الضياع فإنهم متكاسلون عن فعل الطاعات وإقام الصلوات.
فكم من الحسنات قد كسبوا في هذه الساعات؟ وماذا استفادوا مما شاهدوه وسمعوه؟ أليست الحقيقة أخية أنهم لم يحفظوا السمع والبصر والفؤاد عن الحرام؟ أما قال الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]؟ أما قال الجبار سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]؟ أليس الرجال ينظرون إلى النساء المتبرجات، والنساء ينظرن إلى الرجال؟ والله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقال مخاطباً المؤمنات: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31]؟ فأين قول المؤمنين والمؤمنات: سمعنا وأطعنا؟ تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وأليس هؤلاء قد زادوا من رصيد السيئات يوم أن ضيعوا الأعمار في هذه الساعات والملهيات والمحرمات؟ فأين العقول السليمة؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].(11/12)
تضييع الأوقات في القيل والقال والغيبة والنميمة وغير ذلك
عجباً لفئة أخرى من النساء اللاتي يجتمعن عند فلانة وفلانة ومدار حديثهن: القيل والقال، والغيبة والنميمة، والزور والبهتان، أما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مجلس لا يذكر فيه اسم الله فهو حسرة وندامة على صاحبه يوم القيامة)؟ وشبه صلى الله عليه وسلم أصحاب هذه المجالس كمن قام عن جيفة حمار، فكم من الجيف يجتمع عليها في كل ليل ونهار.
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة -يعني: نقص وحسرة-، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل أوى إلى فراشة فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة)، رواه أحمد.
أيتها المؤمنة! قولي لي بالله العظيم: كم مجلس جلسناه نذكر فيه نعم الله علينا؟ والله يقول لنا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
وكم من طريق مشيناه ونحن نتفكر فيه بآيات الله؟ والله سبحانه يقول: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]؟ وكم ليلة بتناها ونحن نحاسب أنفسنا؟ والله يقول: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191].
قال بعض السلف: لقد عاشرنا أقواماً كانوا أشح بوقتهم منكم على دراهمكم.
فلست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد(11/13)
الوقت هو الحياة ورأس المال
إن الوقت أخية هو الحياة وهو رأس المال، فإياك ثم إياك أن منه دقيقة واحدة في غير طاعة.
أخية! لو رأيت إنساناً يحرق كل يوم مبلغاً زهيداً من المال فستقول عنه: إنه مجنون وسفيه، ولا بد أن يحجر عليه، لكن والله الذي لا إله إلا هو! إن الذي تضيع جزءاً من عمرها فيما لا ينفع هو أعظم سفهاً ممن يحرق المال؛ لأن المال يمكن أن يعوض، ولكن العمر إذا ذهب لا يعوض أبداً، وصدق الشاعر حين قال: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني أخية! إن المؤمن الصادق تعلم أنها في صراع دائم مع الوقت، وأن الساعة التي تمر عليها ولا تغتنم بفعل الطاعات، فإنها مغبونة عليها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.
وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات، فنقل عن عمرو بن قيس أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: أمسك الشمس.
ومعنى كلامه: أن عقارب الساعة تسير إلى الأمام دائماً وأبداً، وأنها لا تقف ولا ترجع أبداً إلى الوراء، فينبغي للمسلم أن تعرف شرف زمانها وقيمة وقتها، فلا تضيع منه لحظة في غير قربة إلى الله، وتحرص على تقديم الأفضل فالأفضل من القول والعمل.
قال ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي ساعة الاحتضار، فقال: يا بني! دعني فإني في وِردي السادس.
فانظر كيف كانوا في آخر اللحظات يحرصون على استغلال الأوقات بالطاعات.
ودخل ناس على أحد السلف عند موته وهو يصلي فقال: دعوني فالآن تطوى صحيفتي.(11/14)
المعنى الحقيقي للحياة
قال سبحانه مبيناً حقيقة الحياة ومبيناً أيضاً طريق النجاة: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، فالخالق أخية يبين أن الحياة لا تعدو عن كونها خمسة أشياء: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر، من انشغلت بهذه الأشياء عن طاعة ربها كان له في يوم القيامة عذاب شديد، ومن سددت وقاربت كان لها يوم القيامة مغفرة من الله ورضوان.
أقول: الذي بين الحقيقة لهذه الحياة هو أيضاً بين طريق النجاة، فقال سبحانه في الآية التي تليها: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، اللهم لا تحرمنا فضلك، فلما كانت الحياة سباقاً وجهاداً وتعباً ونصباً، فهم الأولون هذا المعنى، وساروا إلى الهدف.(11/15)
نماذج وصور من أخبار المتسابقين إلى الطاعات
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مني مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت-يعني عمر -: لا أسبقه إلى شيء أبداً).
إنه الصديق وما أدراك ما الصديق، لما حانت الوفاة أوصى عمر وصية، فقال: (يا عمر! إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل).
ما أعظمها من وصية لو فهمناها يا أخية.(11/16)
من صور السباق: بر الوالدين
قال محمد بن المنكدر: بت أغمز قدم أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما تسرني ليلته بليلتي.
وقال الحسن البصري مؤكداً على هذا الكلام: ما يعدل بر الوالدين شيء من التطوع لا حج ولا جهاد.
وكان حبيب بن طلق يقبل رأس أمه، ولا يمشي فوق ظهر بيت وهي تحته؛ إجلالاً وتعظيماً لها.(11/17)
من صور السباق: صدقة السر، وقيام الليل
قال عمر بن ثابت: لما مات علي بن الحسين رحمه الله غسلوه فجعلوا ينظرون إلى آثار سواد في ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقالوا: كان يحمل أكياس الدقيق ليلاً على ظهره، يعطيه فقراء المدينة، وفي رواية: إنه كان يسير بالليل ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل.
إنه عمل وصدق وإخلاص.
ولما حانت ساعة وفاة معاذ رضي الله عنه قال: (اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لقيام الليل وصيام الهواجر ومجالسة العلماء).
أخية! هم يبكون على فعل الطاعات وعلى قيام الليل، وصيام الهواجر، ونحن على ماذا نبكي؟! النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار المرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها أما ليل أهل السباق فليل عجيب، قال الله عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] وقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إن لم تستطع قيام الليل وقيام النهار، فاعلم أنك محروم، ثم قال: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي أيتها النفس خذي حظك من الآخرة.
هكذا كان ليلهم، فكيف هو ليلنا يا أَمَةَ الله؟ أترك الجواب لكِ.(11/18)
نماذج وصور من أخبار المتسابقات إلى الطاعات
إن التسابق في الخير ليس من نصيب الرجال فقط، فقد ضربت النساء فيه أروع الأمثلة، فهذه عائشة أنفقت ثمانين ألف دينار في يوم واحد في سبيل الله، ولم تبق ديناراً واحداً لإفطارها وكانت صائمة.
وذهبت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد فقالت: يا إمام إني ربما ينطفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر فهل عليّ عند البيع أن أميز هذا من هذا؟ فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.
فسبحان الله! تخاف أن تغش وتأكل الحرام، فأين النساء اللاتي لا يبالين في أين يأكلن أمن حلال أم من حرام.
وهذه زوجة الحطاب كانت تقول لزوجها كل يوم عندما يريد الخروج: اتق الله فينا وفي الكسب الحلال، فإننا نصبر على الجوع ولكننا لا نقوى على النار.
وأما سباق الأمهات ففيه العجب العجاب، فاسمعي يا أم المستقبل! قال أبو بكر القرشي: حدثنا الحارث بن محمد التميمي قال: حدثنا علي بن محمد القرشي عن جويرية بن أسماء أن إخوة ثلاثة من بني قطيعة شهدوا يوم تستر فاستشهدوا، فخرجت أمهم يوماً إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجل قد حضر أمر تستر فعرفته فسألته عن بنيها، فقال: لقد استشهدوا، فقالت مستفسرة: أمقبلين أم مدبرين؟ فقال لها: مقبلين، فقالت: الحمد لله نالوا الفوز، وحاطوا الذمار، اللهم تقبلهم مني واجعلهم شفعاء لي عندك يوم القيامة.
هل رأيت وسمعت يا أم المستقبل كيف يدفعن بأبنائهن إلى أرض الجهاد والقتال، ونحن لا ندفعهم إلى المساجد والصلوات، فهذا هو الفرق بيننا وبينهم.
واسمعي أخية! عن هذه المتسابقة الصغيرة، فقد ذهبت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنها وهي ابنة خمس سنين في حاجة عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ثوبها يجر وراءها شبراً أو يزيد، فأراد عمر رضي الله عنه أن يمازحها، فرفع ثوبها حتى بدت قدماها، فقالت له: أما إنك لو لم تكن أمير المؤمنين لضربت وجهك.
تتكلم بهذا وهي بنت الخامسة فالله أكبر، ولله درها، رحمك الله يا أم كلثوم! أين أنت من بنات ونساء المسلمين اليوم؟! وكيف لو رأيت كاشفات الوجوه؟! وكيف لو رأيت من يظهرن السيقان؟! وكيف لو رأيت المتعطرات والمتبرجات؟! كيف لو رأيت الخرّاجات والولاجات؟! وكيف لو سمعت عن أخبار البنين والبنات؟! وكيف لو سمعت عن الاختلاط واللقاءات؟! وكيف لو سمعت عن أحاديث الطرق والمباريات حتى ممن تعدّ من الصالحات؟!(11/19)
سباق العابدات
قال أبو عياش: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكان لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما سمع وتعجب من عبادتها على صغر سنها، فبينا الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت، فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: ما يبكيك يا صغيرتي؟ قالت له: يا أبا سعيد! التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد! انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبراً واسعاً، وكفنها بكفن حسن، والله يا أبا سعيد! لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، فكيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها، وبيت الظلمة والدود.
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون(11/20)
خصائص الوقت
حتى نعلم أخية قيمة الوقت فلا بد أن نعرف بعضاً من خصائص الوقت، فمن خصائص الوقت أنه سريع الانقضاء، فما إن يبدأ اليوم حتى نجد أنفسنا في نهايته، فاسألي نفسك يا ابنة العشرين والثلاثين، واسأل نفسك يا ابن الأربعين والستين: كيف مرت هذه السنون، وكيف انطوت هذه الليالي والأيام.
فقد سئل نبي الله نوح عليه السلام -وقد عاش أكثر من ألف سنة- كيف مر بك العمر؟ فقال: كأني دخلت من باب وخرجت من الباب الآخر.
ومن خصائص الوقت: أنه أغلى من الذهب والفضة؛ وذلك لأن الذهب والفضة يعوضان، ولكن العمر لا يعوض أبداً.
ومن خصائص الوقت أيضاً: أنه إذا ذهب فإنه لا يعود أبداً، فهل تستطيعين إرجاع ساعة من العمر الذي مضى، أو دقيقة، أو ثانية؟
الجواب
لا أحد يستطيع ذلك.
وانظري أخية إلى عقارب الساعة، هل تسير إلى الخلف أم إلى الأمام؟ وهل تستطيعين أن توقفي الشمس عن الشروق، أو توقفيها عن الغروب؟ لا أحد يستطيع ذلك.
فقل لنفسك وحاسبها: ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى وأن مثواك غدا في قعر لحد بلقع آهاً له بيت البلى والمنزل القفر الخلى ومورد السفر الألى واللاحق المتبع بيت يرى من أودعه قد ضمه واستودعه بعد الفضاء والسعة قيد ثلاث أذرع لا فرق أن يحله داهية أو أبله أو معسر أو من له ملك كملك تبع إلامَ تشكو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع فالعمر يمضي ولا تتوقف الأيام والليالي، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.(11/21)
الختام
مر سفيان الثوري على جنازة، وكان معه صاحب من أصحابه، فقال له سفيان: كم مضى لك؟ يعني: كم راح من العمر، قال: ستون، قال: ستون سنة وأنت تسير إلى الله أوشكت أن تصل، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال سفيان: تعرف معناها؟ قال: معناها: أنا لله عبد وأنه إليه راجع، فقال سفيان: من علم أنه لله عبداً فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فماذا أعد للجواب؟ قال الرجل: وما الحيلة، قال سفيان: بسيطة، تصلح ما بقى، يغفر لك ما مضى وما بقى، وإلا تؤخذ بما مضى وبما بقى.
إذاً: فالحيلة إذاً بسيطة أن تصلح ما بقى، يغفر لك ما مضى وما بقى، وإلا تؤخذي بما مضى وبما بقى، ما أجمل كلام الله إذا تدبرته القلوب.
نختم بهذه الآيات الكريمات التي ذكر الله فيها الحكمة من تعاقب الليل والنهار، ثم ذكر سبحانه صفات عباد الرحمن من الذكور والإناث، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:61 - 77].
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
اللهم اجعل خير عمرنا آخره، وخير عملنا خواتيمه، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم احفظ نساءنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم خص منهن الحاضرات، واجعلهن تقيات نقيات، اللهم اشرح صدورهن، ويسر أمورهن، واغفر ذنبهن، واستر عيبهن، وأصلح شأنهن يا أرحم الراحمين! اللهم من أرادنا وديننا ونساءنا بسوء فاجعل تدبيره في تدميره، وكيده في نحره، وأشغله في نفسه يا قوي يا عزيز! اللهم أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، واجمع شمل المسلمين، ووحد صفهم، وأعلِ شأنهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الكافرين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/22)
اعملي وأبشري
أولى الله سبحانه وتعالى للوقت أهمية عظيمة، وأكد عليها في آيات كثيرة من كتابه العزيز، وأفضل ما يمكن أن يُستغل به هذا الوقت هو ممارسة الأعمال الصالحة، فهي الترجمة الفعلية الحقيقية للإيمان الصادق؛ ولهذا كثيراً ما قُرنت بالإيمان في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
ولهذه الأعمال الطيبة ثمار قد يجني صاحبها بعضها في الدنيا وذلك من تفريج للهموم، وحفظ للمال والأهل والولد.
وبعضها قد يجد الإنسان ثمرتها في الآخرة وأعظمها أنها من أفضل الطرق الموصلة إلى جنة النعيم.(12/1)
أفضل عمارة للأوقات تكون بالأعمال الصالحات
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، وقيوم السماوات والأرضين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأثني عليه الخير كله.
هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يعز ويذل، يحيي ويميت، لا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين، وأحكم الحاكمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ضد له، ولا ند له، ولا مثيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: أختي المؤمنة! حياك الله وبياك، وسدد على طريق الحق خطاك، وأسأله سبحانه أن يجمعنا وإياكن في دار كرامته {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
تكلمنا فيما مضى عن الوقت وأهميته، وأن الوقت هو العمر، وأن العمر هو أخو المال، وأنه أغلى من الذهب ومن الفضة، وإذا مضى فإنه لا يرجع أبداً، والفَطِنة الذكية هي التي تعرف قيمة الوقت، وتستغل أوقاتها في مرضاة ربها، وذلك بمجاهدة النفس على فعل الطاعات، وبمجاهدة النفس على ترك المحرمات، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، فإن خير ما تصرف فيه الأوقات هي الأعمال الصالحات على اختلاف أنواعها من ذكر، وصلاة، وقيام، وقراءة قرآن، ومن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وصلة أرحام، والمجال لذكر الأعمال الصالحة يضيق؛ لكثرة هذه الأعمال، فالمجال مفتوح لمن أراد أن يتقدم أو يتأخر.
فحث الله تبارك وتعالى عباده على المسارعة والمسابقة فيما ينالون به مرضاته وجنته، فقال عز من قائل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال في موضع آخر: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وامتدح أنبياءه وعباده الصالحين فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، فمن صفات المؤمن والمؤمنة أنهم يسارعون ولا يتأخرون، فالحياة مضمار سباق وتنافس كما قال سبحانه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، ولقد حثنا نبي الهدى والرحمة على اغتنام العمر ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
فالحياة مجال واسع لفعل الطاعات وترك المنكرات، ولا شك أن من يعمل عملاً ينتظر ثمار هذا العمل، فالأجير ينتظر أجرته، والله أعظم معطي وأعظم مسئول، قال الله: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، وقال: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، فالله لا يضيع أجر العاملين والعاملات.(12/2)
العمل الصالح ترجمة للإيمان الصادق
لم يذكر الله تبارك وتعالى الإيمان في كتابه إلا وذكر العمل الصالح قريناً له؛ لأن الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر، ولأن الأعمال الصالحات هي الترجمة الحقيقية لهذا الإيمان، فلا إيمان إلا بالعمل، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] في مواضع كثيرة، وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالعمل الصالح هو الترجمة الحقيقية لهذا الإيمان، ويعتقد أهل السنة والجماعة أن الإيمان: هو ما وقر في القلب، وعملت به الجوارح والأركان، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان، فالإيمان ساعة وساعة، فساعة في قوة وازدياد، وساعة في نزول ونقصان، والمفترض أن نحافظ على الإيمان، ونعمل على تقويته ولا نغفل عن تعاهد قلوبنا من حين إلى حين؛ لأن مدار صلاح الأعمال على صلاح القلوب.(12/3)
ثمار العمل الصالح(12/4)
محبة الله وملائكته
إن ثمار العمل الصالح كثيرة، وسنذكر بعضاً منها، ومن أعظم هذه الثمار: أن العمل الصالح سبب لحب الله للعبد، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، من صفاتهم: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
فمن أعظم ثمرات العمل الصالح أنه سبب لحب الله لهذا العبد، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، وكفى بحب الله شرفاً! والله! إن القلب ليطير فرحاً إذا قيل له: إن فلاناً أو فلانة من الناس يحبك أو يذكرك بالخير، فكيف إذا أحبك الله، وهو الملك الواحد الأحد الذي ما تقرب إليه عبد إلا تقرب إليه، وأقبل عليه برحمته وعفوه وكرمه، فكان مع العبد في سرائه وفي ضرائه، ومن كان الله معه فقد فاز وأفلح.
يا من يحار الفهم في قدرته وتطلب النفس حمى طاعته تخفى عن الناس سما طلعته وكلما في الكون من صنعته الله أكبر إن الغني يحب الفقراء، والقوي يحب الضعفاء، والعزيز يحب الأذلاء، فما أعظمها من منزلة ومكانة! ولا ينالها إلا من جاهد وصبر.
ومن ثمار العمل الصالح: حب الله والملائكة، قال جل من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]، قال أهل التفسير: يعني: حباً وقبولاً بقدرة الله.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل وقال له: إني أحب فلاناً فأحببه، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، ذكراً كان أم أنثى فكم من الفضل العظيم عند التقرب من الرحمن الرحيم! ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً والله! مهما تبذل الأمة ويبذل العبد لكسب محبة الناس فلا يستطيعون ذلك، ومن ابتغى رضا الله في سخط الناس، رضي الله عنه وأرضى الناس عنه، ومن ابتغى رضا الناس في سَخْط الله سَخِطَ الله عليه وأسخط الناس عليه، فبحب الله تحصل على خير الدنيا وخير الآخرة.(12/5)
السعادة في الدنيا والآخرة
ومنْ ثمار العمل الصالح: أنه سبب للسعادة التي ضل عنها كثير من الناس، فبحثوا عنها في غير أماكنها، فكم من باحث وباحثة عنها في المال، وأخرى في العمل والوظيفة، وأخرى في الجاه والسلطان، لكن اسمعي ماذا يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: حياة فيها سعادتك وانشراح صدرك، يقول الشاعر: ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد فهنيئاً لأولئك النساء اللاتي شغلن الأوقات بالعمل الصالح.
إن الحياة مصائب وآلام، ونعيم وفرح، ولا تدوم على حال واحد، لكن الأمة المؤمنة المصابرة المجاهدة على فعل أوامر ربها، والتاركة لما نهاها الله لا تتأثر بمصائب الدنيا إذا وقعت، ولا تفرح بالدنيا إذا أقبلت؛ لأنها ترى إلى أبعد من هذا، ترى أن {َمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36]، واسمعي ماذا قال الله عن أهل الصلاة قال سبحانه: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21]، ثم استثنى الله أهل الصلاة فقال: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22 - 23]، ثم تتابعت الآيات وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34]، فأهل الصلوات إناثاً كانوا أم ذكوراً لا يفرحون بالدنيا إذا أقبلت، ولا يحزنون عليها إذا أدبرت؛ لأنهم على يقين أن الحياة دقائق وثوانٍ.(12/6)
تفريج الهموم وكشف الغموم
من ثمرات العمل الصالح: أنه سبب لتفريج الهموم، وكشف الغموم والكربات، وأنه سبب لقضاء الحاجات، وإجابة الدعوات.
قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
وقال سبحانه عن ذي النون: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
وقال سبحانه عن زكريا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء:89 - 90]، ثم اسمعي ماذا قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]؛ لأنهم كانوا من المسارعين في الخيرات، ولأنهم من الذين تقربوا إلى الله بالأعمال الصالحات، فلذلك استجاب الله دعاءهم، وفرج همومهم، وقضى حوائجهم: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88]، والله يستجيب لكل من سار ولكل من سارت على نفس الطريق، فقد جاء في الحديث عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم)، والشاهد من الحديث: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
أخية! تخيلي الموقف: كهف وظلمة، لا ماء ولا طعام ولا هواء، وقد انقطعت بهم السبل، وأغلقت عليهم الأبواب ولم يبق إلا باب واحد وهو باب السماء، الباب الذي لا يغلق أبداً، فتشاوروا فيما بينهم، وقالوا: (إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فدعا الأول ببره لوالديه)، واسمعي فضل بر الوالدين (فقال: اللهم! إنه كان لي أبوان شيخان كبيران لا أقدم عليهما مالاً ولا ولداً، وكنت إذا غبق -يعني: أحضرت- الحليب واللبن لا أسقي قبلهما أحداً، ولا أقدم عليهما أحداً، وأخرني طلب الحطب يوماً فجئت فإذا بالشيخين نائمين، فوقفت على رأسيهما وصغاري من حولي يتضاغون من الجوع حتى طلع الفجر فسقيتهما، ثم دعا وقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه)، فانظري يا رعاك الله! إلى الإخلاص، وإلى دعاء الله، والتوسل إليه بالعمل الصالح، فالتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة من التوسل المشروع، (فقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً لا يستطيعون معه الخروج، ثم قال الثاني: وأما أنا فكانت لي ابنة عم أحب ما تكون المرأة إلى الرجل، فراودتها عن نفسها) يعني: طلبها بالحرام (فامتنعت حتى ألمت بها ضائقة، وجاءت تطلب حاجتها، فقلت لها: لا أعطيك حتى تمكنيني من نفسك، فرضخت مرغمة محتاجة، فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً من الذهب، فلما جلست منها كما يجلس الرجل من المرأة قالت لي كلمة) اسمعي ما قالت (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه)، الله أكبر إنها كلمة عظيمة لو وصلت إلى القلوب (قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، يقول: فقمت عنها -وهي أحب ما تكون المرأة إلى الرجل- ثم دعا الله وتضرع فقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه)، فترك الفاحشة عندما ذكر بالله وخوف بالله، وعندما قيل له: اتق الله! فكم يقال لنا في هذا الزمان: اتقوا الله ولا تفعلوا كذا؟! ولا تقولوا كذا؟! وقليل هم الذين يستجيبون لأمر تقوى الله تبارك وتعالى، بل البعض قد يغضب إذا قيل له: اتق الله، أما قال الله لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1]، وخاطب الله عباده فقال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]، (قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه يقول: فقمت عنها وهي أحب ما تكون المرأة إلى الرجل، ثم قال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً قليلاً لا نستطيع معه الخروج، ثم دعا الثالث وقال: وأما أنا فكان لي أجراء يعملون عندي بأجر، حتى إذا انتهوا من عملهم أعطيت كل واحد منهم أجرته إلا واحداً ترك أجرته ومضى، فاستكثرت هذه الأجرة ونميتها حتى أصبحت خيراً كثيراً، فجاءني بعد حين يطلب أجرته، قلت له: ترى ما في هذا الوادي من دواب -من إبل، ومن بقر، ومن عبيد- هي كلها لك، قال: أتسخر مني؟ قلت: لا، هي كلها لك، فساقها ولم يترك منها شيئاً، ثم دعا وقال: اللهم! إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون)، وكان هذا جزاء العمل الصالح، وليس أي عمل صالح وإنما العمل الصالح الذي اقترن بالصدق والإخلاص مثل: بر الوالدين، وما أدراك ما بر الوالدين، فكم يشتكي الآباء والأمهات من عقوق الأبناء والبنات؟ وكم يشتكون من التطاول ورفع الأصوات عليهم، ويشتكون من قلة أدب الأولاد والبنات، فأين بر الوالدين في هذا الزمان؟ بل من هو الذي سيدعو الله ببره لوالديه؛ حتى يفرج الله همه، ويجيب دعوته؟! وأما الفاحشة وتركها فحدث ولا حرج، فشباب المسلمين الآن يقطعون المسافات، والأراضي الشاسعات؛ حتى يعاقروا الفاجرات والمومسات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما الأُجراء فكم يشتكي الخدم والخادمات من تضييع الحقوق، ومن تضييع الواجبات.
فالأول: دعا ببره بوالديه، والثاني: بتركه للفاحشة، والثالث: بإعطاء الأجير أجره، قد تظنين أنها أعمال بسيطة، لكن الأعمال البسيطة إذا اقترنت بالصدق والإخلاص كانت كبيرة عند الله الذي قال: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، فالعمل الصالح سبب لتفريج الهموم وكشف الغموم.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله إذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ما لامرئ حيلة فيما قضى الله اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيأسن فإن الصانع الله ومن داوم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه الله من حيث لا يحتسب.(12/7)
حفظ الأهل والمال
من ثمار العمل الصالح أخية! أنه سبب في حفظ الأهل والمال والعيال، قال سبحانه في سورة الكهف، وهي السورة العظيمة التي يقرؤها كثير من الناس يوم الجمعة، ولكن القليل هم الذين يفهمون لماذا أُمرنا بقراءة هذه السورة العظيمة؟ فهي من أعظم سور القرآن؛ لذلك أمرنا بقراءتها من الجمعة إلى الجمعة، إنها سورة تصحح مفاهيم الناس، ومعتقداتهم، ونظرتهم إلى الحياة الدنيا وزينتها، قال الله في أوائل السورة: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:7 - 8]، ثم قال في آية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46]، تذكرنا بوضع الحساب، وبالوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، وتذكرنا هذه السورة العظيمة أنه مهما طالت الحياة فلابد من النهاية، ولابد من أن تجزى كل نفس بما كسبت، فيجازى المسلم على إحسانه، والمسيء على إساءته.
قال سبحانه بين سطور السورة: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، والشاهد من الآية قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، فبصلاح الأب حفظ الأبناء، وقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم العظيم يوم أن قال لـ ابن عباس وهو غلام: (احفظ الله يحفظك) أي: احفظ الله بفعل أوامره والمحافظة عليها، واحفظ الله بترك نواهيه، واحفظ الله بالمحافظة على العمل الصالح، والنتيجة: حفظ الله لك في دينك ودنياك وأهلك ومالك، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
ولا شك أنك تحبين الأبناء والبنات أماً كنت أم بنية، فأما الأم فتعرف هذا الشعور، وأما البنية فستعرفه إن شاء الله يوم أن يرزقها الله بالزوج الصالح، ويرزقها الله بالأبناء عندها ستعلم قيمة الأولاد، ولا يمكن أن نعرف قيمة الشيء حتى نجربه.
وقد كنت في أحد المستشفيات فأحضر أب ابنه الصغير لإصابة في قدمه، فكانت الممرضة تريد تنظيف وتطهير الجرح، وكان الغلام كلما وضعت يدها على الجرح اشتكى، والأب يقول لها: اتقي الله في الغلام، وأنا لم أرها قد فعلت شيئاً، ثم تعاود الكرة، ويبكي الصغير والأب يتقطع ألماً أمامي، فقلت له: يا أخي! هي لا تستطيع أن تطهر الجرح حتى تلمسه، وحتى تضغط عليه قليلاً، قال: والله إنه كلما قال: آه وجدت أثرها في قلبي، قلت: سبحان الله! كم الأبناء والبنات غالون، فإذا كنت تريدين لهم الحب، وتريدين لهم الأمن والأمان فاحفظي الله، وعلميهم حب الله وحب رسوله؛ لأن الله خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.(12/8)
العمل الصالح أنيس لصاحبه في قبره
ومن ثمار العمل الصالح: أنه يكون رفيقاً لصاحبه في القبر، بل لنعيم القبر، جاء في الحديث عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يتبع الميت ثلاثة: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).
وفي حديث أبي هريرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الميت إذا وضع في قبره إن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات -من الصدقة والصلاة والمعروف والإحسان إلى الناس- عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن شماله فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من عند رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخل) أو كما جاء في الحديث، (ثم يتمثل له عمله الصالح في قبره فيأتيه رجل طيب الريح، جميل الوجه، فيقول له العبد: من أنت فوجهك والله! الذي لا يأتي إلا بالخير؟! فيقول له: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح)، فيكون العمل الصالح أنيساً لصاحبه في قبره، (فيفتح للعبد نافذة من الجنة فيأتيه من روحها وريحانها، ويوسع له في قبره مد البصر، ويكسى حلة من الجنة، ويطرح له فراشاً من الجنة، فينادي بأعلى صوت: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة) حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وأما العبد المضيع والأمة المضيعة: (فيأتيه رجل قبيح الوجه، نتن الرائحة، فيقول العبد أو الأمة: من أنت؟ فوجهك والله! الذي لا يأتي بالخير، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، وأنا عملك السيئ، فيفتح له نافذة من النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أضلاعه، ويفرش له فراش من النار، ويكسى حلة من النار، فيصيح بأعلى صوته، أو تصيح بأعلى صوتها: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة).
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(12/9)
الفلاح والنجاح في الآخرة
من ثمار العمل الصالح أخية! أنه سبب للفلاح والنجاح، وهو أعظم سبب لدخول الجنة بعد توحيد الله جل وعلا، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108]، وقال سبحانه: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان يا سلعة الرحمن سوقك كاسد ولقد عرضت بأبخس الأثمان يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان لما كان عنها قط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني ولكنها حفت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلى بمشيئة الرحمن فالدنيا مزرعة للآخرة: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20]، والعمر فرصة، ونكرر هذا دائماً، فلابد من اغتنام الأعمار، فقد قال الله في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد فيها خيراً فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا اتخذوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا إن مجالات الأعمال الصالحة لا تعد ولا تحصى، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35]، فهذه صفات المؤمنين والمؤمنات الذين يريدون ما عند الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]، فالتجارة مع الله تجارة رابحة، والتجارة الرابحة تكون في أن الله يضاعف لعباده الأجر بالعشرات، فالحسنة بعشر أمثالها، ويزيد الله ويضاعف لمن يشاء.
أخية: إنا سنعرف قيمة العمل الصالح وقيمة العمر في ساعات الاحتضار، وهي لا شك ساعة يؤمن فيها الكافر، ويقر فيها الفاجر.
قال الله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
ومر الحسن البصري مع رجل معه على جنازة فقال الحسن لصاحبه: أترى هذا الرجل إذا رجع للحياة يعمل صالحاً؟ قال: نعم، قال: فكن أنت ذلك الرجل، وكوني أنت كذلك فأنت الآن في زمن الإمكان، وأنت الآن في أيام مباركة، والعمر فرصة، والفرص قد لا تتكرر، فكوني ممن يعرفن لله حقه، وكوني من اللائي يعرفن للوقت قيمته، ويعرفن للمناسبات قيمتها وأنها قد لا تتكرر.
وأختم الكلام بكلمات قالها النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه حيث قال: (أيها الناس! إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري كيف صنع الله فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليتزود العبد لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشباب قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت فوالذي نفس محمد بيده! ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار).
فاستعيني بالله على فعل الطاعات، واستعيني بالله على ترك المنكرات.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقكن لفعل ما فيه مرضاته سبحانه، وأن يوفقكن لترك ما فيه سخطه سبحانه.
اللهم! اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم! اغفر لوالدينا، ووالد والدينا، ولكل من له حق علينا.
اللهم! احفظنا في ديننا ودنيانا، وأهلنا وأموالنا.
اللهم! استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/10)
اقتربت الساعة
يجب على العبد المسلم الإيمان بيوم القيامة وما يحصل فيه من أحداث ومواقف، كما يجب عليه أن يستعد لذلك اليوم بالإيمان والعمل الصالح، ويجب عليه أيضاً أن يبتعد عن الذنوب والمعاصي؛ فإنها سبب هلاك العبد في ذلك اليوم.(13/1)
حقيقة الحياة الدنيا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:80 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! الشيء الذي لا بد ألا ننساه هو أننا في هذه الدنيا ضيوف، وأننا نعيش في هذه الحياة من أجل الاستعداد للحياة الباقية، فلا بد أن نعرف ونعي أن العمر مهما طال فهو قصير، وأن هذه الحياة مهما عظمت فهي حقيرة عند الله، فهي تساوي عند الله جناح بعوضة.
فلا بد أن نعرف -عباد الله- أن بعد هذه الحياة موتاً، كما قال الله جل في علاه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِِ} [آل عمران:185].(13/2)
وجوب الإيمان بالبعث بعد الموت
عباد الله! لا بد أن نعرف أن بعد الموت قبراً، كما قال الله جل في علاه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
ولا بد أن نعرف ونعي أن بعد القبر بعثاً، وهو إحياء الموتى يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، كما قال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
فإذا علمنا هذا كله فالمطلوب من الجميع هو ما ذكره الله جل في علاه بقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:8 - 9]، فاستعدوا عباد الله! واحرصوا على الخواتيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
فعن أبي رزين العقيلي قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يعيد الله الخلق؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي قومك جدباً، ثم مررت به يهتز خضراً؟ قلت: نعم.
قال: فتلك آية الله في خلقه)، حديث صحيح؛ وهو موافق لنص التنزيل، قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].(13/3)
بعض صور إحياء الموتى في القرآن الكريم
عباد الله! لقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة وحدها ذكر الله عزّ وجل خمسة أمثلة على ذلك: المثال الأول: ما حكاه الله عز وجل عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام حين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [* ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]، فأحياهم الله بعد أن أخذتهم الصاعقة.
المثال الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل زمن موسى عليه الصلاة والسلام، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها؛ ليخبرهم بمن قتله، ففعلوا فأحياه الله، وأخبرهم بمن قتله، قال الله جل في علاه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:72 - 73].
المثال الثالث: في قصة القوم الذين قال الله عز وجل عنهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243]، قال وكيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تبارك وتعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ)) قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا ((فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا))، فلما كان بعد دهر مر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم، فأمره الله تعالى أن يقول: أيتها العظام البالية! إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك يحدث وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، فأحياهم وهم يقولون: لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين.
فكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، لهذا قال سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)) أي: لذو فضل على الناس فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة، وقوله: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)) أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم، وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء القوم خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آنٍ واحد.
المثال الرابع لإحياء الموتى: قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال جل في علاه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]، واختلف المفسرون في هذا الذي مر، فقال علي: هو عزير، وهذا هو المشهور، وقيل: هو الخضر، وقيل: هو رجل من أهل الشام اسمه: حزقيل بن بوار، وقال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل.
وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها.
وأما المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين سأل الله أن يريه كيف يحيى الموتى، قال عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
فهذه خمس صور في كتاب الله في سورة البقرة أخبرنا فيها المولى عز وجل كيف يحيي الموتى.(13/4)
وجوب الإيمان بيوم القيامة وما يقع فيه من أحداث
إذا علمنا أن هناك بعثاً فاعلم -رعاك الله- أن هناك حشراً، وهو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم، والقضاء بينهم، وسمي الله ذلك اليوم بيوم الجمع، قال جل شأنه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50]، فلا إله إلا الله ما أشد يوماً مثل هذا! فتأمل في قدرة الله التي تحيط بالعباد، فالله لا يعجزه شيء، وحيث هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم، فإن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، أو أكلتهم الطيور الجارحة، أو افترستهم الحيوانات المفترسة، أو ابتلعتهم الحيتان في البحار، أو غيبوا في قبورهم في الأرض، فإن الله قادر على بعثهم، قال سبحانه: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده فيأتي بهم حيثما كانوا فكذلك علمه محيط بهم، فلا يتخلف منهم أحد ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى وعدهم عداً، قال جل في علاه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47].
وأما القصد من الجمع فهو العرض والحساب، قال جل وعلا: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكننا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء عباد الله! إنه العرض والحساب، قال عز وجل: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:51].
عباد الله! أخبرنا ربنا جل وعلا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69]، فحسبك عبد الله! أن تعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السماوات والأرض؛ ليتبين لك عظم هذا المشهد وجلالته ومهابته، ولعل هذا الإشراق المذكور في الآية إنما يكون عند مجيء الملك الجليل للقضاء بين العباد، قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]، وقال سبحانه: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:21 - 29]، ومجيء الله الله أعلم بكيفيته، وعلينا أن نؤمن به، ونعلم أنه حق ولا نؤوله ولا نحرفه ولا نكذب به.
والآية تنص أيضاً على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل تحضره ملائكة الرحمن ومعها كتب الأعمال التي أحصت على الخلق أعمالهم، وتصرفاتهم وأقوالهم؛ ليكون ذلك حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها، قال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسئلون عن الأمانة التي حملهم الله إياها وهي إبلاغ الوحي إلى من أرسلوا إليهم، فيشهدون على أقوامهم وما عملوه معهم، ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم فيشهدون على الخلائق بما كان منهم، والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء، كما تشهد على العباد الأرض والسماء والأيام والليالي، كما في قول الجبار جل في علاه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5].
والله! إنه لحساب شديد ذلك الذي سيحاسب فيه الإنسان بالذرة، عباد الله! يؤتى بالعباد وقد عقد الحق تبارك وتعالى محكمته العظيمة لمحاكمتهم ويقامون صفوفاً للعرض عليه، ويؤتى بالمجرمين منهم وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض بغير الحق، يؤتى بهم مقرنين في الأصفاد، مسربلين بالقطران، كما قال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:49 - 50].
ولشدة الهول تجثو الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب لعظم ما يشاهدون وما هم فيه واقعون، قال سبحانه: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29].(13/5)
معنى الحساب
يوم القيامة مشهد جليل عظيم نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله ومنه وكرمه، فما معنى الحساب عباد الله؟! معنى الحساب: أن يُوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في الدنيا من إيمان وكفر، واستقامة وانحراف، وطاعة وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، ثم يُعطون الكتب إما بالأيمان إن كانوا صالحين، وإما بالشمال إن كانوا طالحين، ويشمل الحساب ما يقوله الجبار لعباده وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود، ووزن الأعمال.
وأما نوع الحساب عباد الله! فعسير ويسير، ومنه حساب التكريم والتوبيخ، ومنه الفضل والصفح والعفو، والذي يتولى ذلك كله هو أكرم الأكرمين وأسرع الحاسبين، وقيوم السماوات والأراضين.
وشعار محكمة ذلك اليوم: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو العدل سبحانه ولو عذب عباده جميعاً لم يكن ظالماً لهم؛ لأنهم عبيده وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء.
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت الواحد المولى الغفور إن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جدير أفر إليك منك وأين إلا إليك يفر منك المستجير ولكن الحق تبارك وتعالى يحاسبهم محاسبة عادلة تليق بمحكمته وعدله وعظمته وجلاله، وقد بين لنا سبحانه في كثير من النصوص جملة من القواعد التي تقوم عليها المحاكمة، فمنها: العدل التام الذي لا يشوبه الظلم، قال عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47].
ومن قواعد تلك المحكمة: أن الله لا يؤاخذ أحداً بجريرة أحد، قال سبحانه: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى))، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
ومن تلك القواعد أيضاً: إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال، قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
ومن قواعد المحاكمة في ذلك اليوم: إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين والفجرة، قال عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24 - 25].
عباد الله! نفعنا الله بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(13/6)
وجوب الاستعداد للقاء الله عز وجل
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقوى الله الاستعداد للوقوف بين يدي الله جل في علاه، فعماذا سيكون السؤال في ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؟ فاسمع السؤال وأعد الجواب بارك الله فيك: عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول -أي: إلى الجنة أو إلى النار- قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم)، رواه الترمذي وقال الألباني: وإسناده حسن.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:18 - 21].
فلا تظن أن الأمر سهل عبد الله! بل في ذلك اليوم يشتد غضب الجبار جل جلاله على من خلقه فعبد غيره، وعلى من رزقه فشكر غيره، وعلى من أسبغ عليه النعم ثم عصاه.
عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر وهو يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، قال صلى الله عليه وسلم: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول: أنا الملك)، قال ابن عمر: (والله! كأني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عليه، وأنا أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).(13/7)
أحوال العصاة والمجرمين يوم القيامة
فتأمل حال العصاة والمجرمين في ذلك اليوم يوم يشتد غضب الجبار جل في علاه، قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24]، فهم يطلبون رضاء ربهم فلا يستجاب لهم.
فتأمل عبد الله! موقفك غداً بين يدي العزيز القهار، والله! إنها ساعة لا يخفى على المقيمين رهبتها، ولا على المتقين شدتها، فاللهم يسر ختامنا! ويمن كتابنا، وثقل موازيننا، وزحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار! تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل: خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدي إلى النيران عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سكانا(13/8)
وجوب الاستعداد للحساب بين يدي الله عز وجل
قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14]، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق.
وقال ابن أدهم: كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت، وإذا بعث نشرت، وقيل له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
قال ابن عباس رضي الله عنه: معنى طائره: أي: عمله.
وقوله تعالى: ((وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا)) قال الحسن: يقرأ الإنسان الكتاب أمياً كان أو غير أمي، يعرف القراءة أو لا يعرفها، ينطق ويقرأ في ذلك اليوم.
فتخيل نفسك إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رءوس الخلائق: أين فلان ابن فلان؟ فاستعد للوقوف بين يدي الله، وهلم إلى العرض على الله، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله لا يمنعها اشتباه الأسماء باسم أبيك، فإذا عرفت أنك المراد بالدعاء، وإذا قرع النداء قلبك علمت أنك المطلوب فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، وتخطي بك الصفوف إلى ربك للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيدي الملائكة قد صار قلبك ممتلئاً رعباً؛ لعلمك أين يراد بك.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
فتخيل عبد الله! نفسك واقفاً بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبئة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل، وقلب منكسر حسير، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها؟ وكم من سيئة كنت قد أخطيتها قد أظهرها وأبداها؟ وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص لك فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيماً؟ فيا حسرة قلبك! ويا أسفك على ما فرطت في طاعة ربك! عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، متفق عليه.
ثم يبدأ الحساب، وتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح، فتذكر عبد الله أنك بين يدي الله موقوف، وأنك ستكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، وستقف وستسأل عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، فتسأل عن العمر، وعن الشباب، وعن المال، وعن كل نظرة، وكل كلمة قلتها، قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30]، فستسأل عن كل صلاة تخلفت عنها، وهل حفظت الصوم والزكاة أم لا؟ وهل أمرت بالمعروف ونهيت المنكر ودافعت عن أعراض المسلمين أم لا؟ وستسأل عن حقوق وواجبات وأوامر ومنهيات، فمن العباد من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً، ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي: يضع عليه ستره- فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: أي نعم رب! أعرف، حتى يقرره بذنوبه، حتى إذا رأى العبد أنه قد هلك قال أرحم الراحمين: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، فهذا هو الحساب اليسير).
وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]!(13/9)
الحذر من الغفلة
عباد الله! حاسبوا أنفسكم واستعدوا للعرض أمام الله جل في علاه، فإلى متى الغفلة -عباد الله- ومنادي الله يناديكم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]؟! واعلم رعاك الله أنه عند ساعة الموت لا عثرة تقال، ولا توبة تنال، كان خليد العصري يقول: كلنا أيقن بالموت وما نرى له مستعداً، وكلنا أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً، وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً! فإلى متى الغفلة عبد الله؟! وأين ندمك على ذنوبك؟ وأين حزنك على عيوبك؟ إلى متى تؤذي بالذنب نفسك؟ وتضيع يومك كما ضيعت أمسك؟ فلا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، فهلا بسطت يداً سائلة؟ وهلا أجريت دموعاً سائلة؟ فانتبه قبل أن تنادي: رباه! ارجعون فيقال: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون).
فانتبه قبل أن توقف أمام الله للعرض، فتقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
مر الحسن البصري على أقوام يضحكون فقال: هل مررتم على الصراط؟ قالوا: لا، قال: أتدرون إلى الجنة يؤخذ بكم أم إلى النار؟ قالوا: لا، قال: فعلامَ الضحك؟! لا على الصراط مررتم، ولا إلى الجنة تؤخذون، ولا من النار تنجون فكيف تضحكون؟! فاتقوا الله عباد الله! واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وأدوا الحقوق، وتحللوا من بعضكم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، فأخلصوا أعمالكم لله، وحافظوا على الصلوات، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين! اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وأمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا فيه الجنة يا رب العالمين! اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم ارحم الشيب، وبارك في أعمارهم يا رب العالمين! اللهم احفظ نساءنا وأطفالنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم، اللهم صن أعراضهم واحقن دماءهم، وتقبل شهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من يهود ونصارى وحاقدين، وافضح المنافقين والمعتدين يا عليم يا خبير يا قوي يا عزيز! اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين يا قوي يا عزيز! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(13/10)
الاستغفار سيد الأذكار
إن الله سبحانه أمر العباد بالاستغفار؛ لأنه يعلم أن كل بني آدم خطاء، وأن خير الخطائين التوابون، والحق أن الاستغفار يفرج الهموم، ويزيل الغموم، ويفتح الرزق، وهو صفة الأنبياء والأصفياء والأتقياء.
وإذا كان سيد الأولين والآخرين يستغفر الله في اليوم مائة مرة، فكيف بالمضيعين الغافلين؟(14/1)
الاستغفار يكفر الذنوب
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
ومعنى: حياكم الله وبياكم: هو أن آدم لما أنزل إلى الأرض، جاءه ملك، فقال له: حياك الله يا آدم وبياك يعني: حياك الله وأصلح حالك، فبياكم معناها: أصلح حالكم، ونحن في حاجة إلى صلاح الحال؛ لأننا ذوو أخطاء، فمن منا لم يخطئ قط؟ ومن له الحسنى فقط؟ (كل بني آدم خطاء) ولا عصمة لأحد، فنحن ننسى لأننا ضعفاء.
وفي مرة من المرات تعبت حتى عافت نفسي الطعام والشراب، ولم أستطع أن أنام فقلت: ماذا حل بي؟ فهرولت إلى الطبيب، فقال: لا بأس عليك، قلت: ما المشكلة؟ قال: ارتفاع درجتين فقط في درجة الحرارة! قلت: درجتان صنعتا بي ما صنعتا! كم نحن ضعفاء! ولضعفنا لا نؤدي العبادة على الوجه الكامل، فمن منا إذا دخل صلاته لم يحدث نفسه؟ ولم يخطر على باله خاطر؟ ما منا أحد.
ومن منا إذا صلى وصام وقام لم يخالف ذلك العمل نقصاً أو خطأً؟ ومن منا إذا حج أو اعتمر لم يرفث ولم يفسق ولم يجادل؟ ما منا أحد.
فكان من رحمة الله بنا أن شرع لنا الاستغفار، في أدبار العبادات، وفي سائر الأوقات؛ لأن الاستغفار يجبر النقص، والخطأ؛ ولأن الاستغفار يقوم مقام النسيان؛ ولأن الاستغفار يقوي الضعف؛ ولأن الاستغفار يكمل العبادة الناقصة، فأول لفظ نلفظه بعد الصلاة: أستغفر الله (ثلاثاً) فمن منا لم يحدث نفسه ولم تأخذه الخواطر يمنة ويسرة وهو في الصلاة؟ لذلك نستغفر الله بعد أداء العبادة، فمن هديه صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ من صلاته قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله يقولها ثلاثاً)، ومن هديه: (أنه كان يعد له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم)، في كل مجلس يجلسه يردد هذا الاستغفار أكثر من مائة مرة.
ومن هديه أنه قال: (من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك) فلا تنس هذا الدعاء، فمن منا إذا جلس مجلساً لم يلغ فيه؟ وقد قيل: إن رجلاً كان مشهوراً بالكذب، نزل بيت إنسان يعرفه، فضيفه صاحب البيت وهو يعرف أنه كذاب، فقال: الليلة سأعمل لك عشاء، لكن توجد مشكلة، قال: ما هي المشكلة؟ قال: لقد جمعت أهل الحي كلهم، قال: وما هي المشكلة في ذلك؟ قال: المشكلة أنك تكذب كذباً لا يُصدق، قال: وماذا أعمل، لقد تعودت على هذا، يقول الشاعر: عود لسانك قول الصدق تحظ به إن اللسان لما عودت معتاد فالمضيف ما أحب أن يضيق عليه فقال له: خذ راحتك، لكني إذا رأيتك تماديت في الكذب فسأعطيك علامة، قال: وما هي العلامة؟ قال: السعال، فإذا سعلت فاعلم أنك قد تماديت في الكذب.
وعند اجتماع الضيوف بدأ الرجل يعطيهم من الكذب يميناً ويساراً، فقال لهم: يا جماعة الخير! أنا بنيت مسجداً طوله ألف متر، فسعل صاحب البيت أي: أعطاه العلامة، فقال: وعرضه متر واحد، فقالوا له: لماذا ضيقته؟ قال: ما ضيقته أنا، ولكنهم ضيقوا علي! فهذا يجب عليه أن يتوب وأن يقول إذا قام من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(14/2)
الاستغفار يزيل الهموم
فمن رحمة الله بنا أن شرع لنا هذه الكلمات اليسيرة ليكفر عنا بها السيئات، ويرفع لنا بها الدرجات.
فمن منا لم تلزمه الهموم والغموم؟ ومن الذي يرتاح دائماً؟ ما منا أحد، فالحياة لا تكون على وتيرة واحدة، فإذا ضحكت اليوم فستبكي غداً.
إن أضحكتك الأيام يوماً لابد أن تبكيك أياماً اليوم تفرح وغداً تحزن، اليوم تستقبل مولوداً، وغداً تودع ميتاً، اليوم إذا كنت في سعة من العيش، غداً ستكون في ضيق من العيش، (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، فالأيام تتقلب بي وبك.
فمن منا من لم يحمل هم الرزق وهم العيال؟ هل سأبني لهم داراً؟ وهل سأفعل لهم كذا وكذا؟ وهذه هموم نحملها بشكل طبيعي بالليل وبالنهار، لكن اسمع بارك الله فيك! عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) بشرط: أن يلزم الاستغفار، وهل تريد سعة الرزق؟ هل تريد تفريج الهموم؟ هل تريد كشف الغموم وقضاء الحاجات؟ أكثر من قول: أستغفر الله العظيم، جرب واجعل ذكرك في ذلك اليوم من أوله إلى آخره الاستغفار في كل غدوة وروحة.(14/3)
فضل الاستغفار
إن المسكين: هو من لا يستطيع أن يكسب أمثل هذه الدرجات الحسنات جزاء أعمال يسيرة، (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، كتبت له ألف حسنة، وحطت عنه ألف خطيئة) وهذا العمل يسير، والأجر المترتب عليه كبير، فأسهل العبادات وأيسرها ذكر الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، بالليل والنهار، الهج بحمده، ويكفيك شرفاً يا من تذكر الله قول الله: {اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)، من أنت حتى تذكر في ذلك المجلس؟ هناك من يقول: هل دعاء المجلس يكفر الغيبة؟ لا؛ لأن الغيبة كبيرة من الكبائر، والكبائر لا يكفرها إلا التوبة، فإذا اغتبت أحداً، فكفارتها التوبة، ومن شروط التوبة: أن ترد المظالم إلى أهلها، وقد يتقبل الاعتذار، ويقول: عفا الله عنك، وبعضهم لا يتقبل، فدرءاً للمفسدة اقصد المجلس الذي ذكرته فيه بغيبة أو بشر واذكره فيه بخير، وادعو له واستغفر له، واسأل الله أن يعفو عنا وعنه.
وحديث: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وصحح إسناده أحمد شاكر.
إذاً: فأمر الاستغفار عظيم، فما خرج الاستغفار من لسان صادق وقلب خاشع إلا غفر لصاحبه الذنب مهما كان، فعن زيد رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثاً غفر له وإن كان فر من الزحف)، والفرار من الزحف من الموبقات السبع لكنه إذا صدق بلسانه وخشع بقلبه، وقال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر له ما كان منه، ولو فر من الزحف، ومهما كان الذنب، وهذا مصداق قول الله في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة).
فلماذا يغلق الباب أمام المذنبين والمقصرين؟ فلما قال ذلك العابد للذي قتل تسعة وتسعين نفساً: ليس لك توبة، كانت النتيجة أنه قتله، فمن يغلق باب الرحمة؟! كل الأبواب تغلق إلا باب الرحمة، بل إن آخر باب يغلق باب التوبة والاستغفار، فإذا طلعت الشمس من مغربها فذلك حين {لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158]، فهذه آخر العلامات وبعدها يغلق الباب، ولكن قبلها مهما بلغت الذنوب فالباب مفتوح.
والكثير من الناس يرسلون لنا ويقول أحدهم: أنا فعلت، وأنا فعلت، وأنا فعلت، وأنا فعلت، فهل يغفر الله لي؟ نعم يغفر لك مهما كان الذنب، بشرط: أن تصدق في توبتك، وتصدق في رجوعك إلى الله، حتى لو زنيت أو سرقت أو أكلت مال ربا، وفعلت كل شيء، مهما فعلت، لكن بشرط أن تعود وتستغفر وتلين وترجع إلى الله.
فالذنب لا يضر الله لا من قريب ولا من بعيد: (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني).(14/4)
من أسماء الله الحسنى: الغفور والغفار
ومن أسماء الله الحسنى: الغفور والغفار جل ثناؤه، وهما من أسماء المبالغة، ومعناهما: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، فلا يسترها فقط، بل ويتجاوز عنها، والغفران والمغفرة من الله تعالى تكون: بأن يصون الله العبد من أن يمسه العذاب إذا غفر له، فلا عذاب عليه.
قال الغزالي: الغفار هو: الذي أظهر الجميل وستر القبيح، ومن منا ليس عنده قبيح من الأفعال؟ فالله يعلم بهذا ويعلم بذاك، فمن مغفرته أنه يظهر الجميل ويستر القبيح.
قال الخطابي: الغفار هو: الذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد أخرى، كلما تكررت التوبة من الذنب تكررت المغفرة.
قال ابن منظور: أصل الغفر: التغطية والستر، فقولهم: غفر الله له أي: ستر له ذنوبه.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدني الله العبد منه حتى يضع عليه كنفه -أي: ستره-، فيقرره بذنوبه، فيقول: تذكر يوم كذا، تذكر يوم كذا، حتى إذا ظن العبد أنه هلك، قال أرحم الراحمين: فإني قد سترتها لك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم)، فيخرج العبد بين الملأ وقد أعطي كتابه بيمينه وهو رافع رأسه {يَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] فما أحلم الله! وما أرحم الله جل في علاه! قال أهل العلم: ومن أسماء الله الحسنى: غافر الذنب، وعن أبي هريرة مرفوعاً: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة) وليس المعنى: أنها فقط هي أسماء الله الحسنى ولا يوجد غيرها، بدليل حديث: (اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيِّ حكمك، عدل فيِّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) إذاً: فلله أكثر من تسعة وتسعين اسماً.
وليس معنى أحصاها: أي عدها، فمن السهل على أحدنا أن يسردها سرداً، لكن أين أثرها؟ أين أثر السميع؟ أين أثر البصير؟ أين أثر القادر؟ أين أثر المحيي؟ أين أثر المميت؟ أين أثر الضار النافع؟ فالمطلوب عند إحصائها: أننا نعرف ونستشعر أثرها، بصير يعني: أنه في كل مكان يراني، السميع أي أنه: يسمع سري وعلانيتي، الخبير أي أنه: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم أي أنه: لا يضع الأمور إلا في نصابها، العزيز أي أنه: لا يغلب جانبه ولا يقهر، والعزة مستمدة منه ومن كتابه ومن دينه، فلابد أن نستشعر معاني الأسماء والصفات، وإلا ماذا يعني أن نقول: سميع ثم نتكلم بغيبة ونميمة.
فقد جاء في خبر المجادلة التي جاءت تشتكي إلى رسول الله قول عائشة: والله! الذي لا إله إلا هو ما بيني وبينها إلا ستار، ووالله! ما سمعت شيئاً من كلامها، وفي لحظات يأتي وحي رب الأرض والسماوات من فوق السماء السابعة، وما بين سماء وسماء مسيرة خمسمائة سنة ويقول: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]، رفع الله عنها الظلم والعدوان، تقول عائشة: (تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، والله! ما بيني وبينها إلا ستار، ثم تأمل في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(14/5)
الفرق بين الغفران والعفو
فإن قيل: فما الفرق بين الغفران والعفو؟ فالجواب قال الكفوي: إن الغفران يقتضي إسقاط العقاب، ولا يقتضي الثواب، ولا يستحق ذلك إلا المؤمن الذي يتوب ويرجع إلى الله، قال الله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] يعني: ثم استقام على طريق الاستقامة، وقال الله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] ولا يستعمل الغفار إلا في حق الباري تعالى، فلا يقال: فلان غفار، ولا يقال: غفرت لفلان، لكن العفو يقال في حق البشر أيضاً، قال بعضهم: العفو يقتضي إسقاط اللوم والندم، ولا يقتضيه الثواب، فقد يعفو عنك لكنه لا يثيبك على هذا، لكن إذا غفر لك أثابك وبدل سيئاتك حسنات، وبدل ذلك إلى مغفرة ورضوان.(14/6)
الغفران دليل على سعة رحمة الله
وقد تكرر لفظ الغفران في القرآن مرات ومرات مما يدل على سعة رحمة الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها في الأرض رحمة واحدة يتراحم بها العباد، حتى ترفع الدابة حافرها عن وليدها حتى لا تطأ عليه، فإذا كان يوم القيامة بسط الرحمن رحمته فغفر الذنوب وستر العيوب) أو كما قال رسول الله، ومن واسع رحمة الله في ذلك اليوم أن الشيطان الرجيم يظن أن رحمة الله ستناله، فلماذا نغلق الباب أمام الناس؟ لماذا نضيق على الناس ونقول لهم: لابد من كذا وكذا؟! فباب الرحمة واسع، فإذا تحققت التوبة غفر الذنب مهما كان، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] بشرط: أن تتحقق في قلوبنا التوبة والندم، والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب، فإذا تحققت هذه الشروط -بإذن الله- يغفر الله الذنب مهما كان.
لقد قتل رجل مائة نفس ومع ذلك استقبلته ملائكة الرحمة، مع العلم أنه ما صنع خيراً قط، إلا أنه خرج بقلب تائب، وصدق في توبته، فصدق الله معه، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، تقول ملائكة الرحمة: يكفي أنه خرج بقلب تائب، وتقول ملائكة العذاب: إنه ما صنع خيراً قط، فاختصموا فيه، فأرسل الله ملكاً على صورة بشر يحكم بينهم فقال: قيسوا المسافة بين هذه القرية وتلك، فكان إلى القرية التي خرج إليها أقرب بشبر واحد.
وجاء في رواية: أن الله أمر تلك القرية أن تقاربي، من أجل هذا الذي خرج تائباً.
هذا واحد فكيف لو تاب الناس ورجعوا إلى ربهم جل في علاه؟ إذاً: فالغفران دليل الرحمة، وقد تكرر قوله: ((غَفُورٌ رَحِيمٌ)) عشرات المرات في القرآن مما يدل على ذلك، والمغفرة والتجاوز عن الذنوب دليل عزة لا دليل ضعف، ولذلك لما خاطب الله عيسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم: {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116 - 118] ولم يقل: إنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن الموقف موقف عزة، وموقف تفضل وكرم، فلو عذب الله البشرية من أولها إلى آخرها لما كان ظالماً لها، (إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا) والذي يقول هذا هو خير من صلى وصام وقام، وخشي الله في السر والعلانية، يقول: وحتى أنا لن أدخل الجنة بعملي، وقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، (إلا أن يتغمدني الله وإياكم بفضل منه ورحمة)، لذلك يقول الله يوم القيامة: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58] ليس بأعمالهم، وإنما يفرحون بفضل الله ورحمته، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عن لقاء ربه جل في علاه) {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:118 - 119].(14/7)
أمر الله عباده بالاستغفار في كل حال
وقد أمرنا الله بالاستغفار في كل حال، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199]، وقال متعجباً من حال الناس: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74]، وقال: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل:20]، وما دعا الله الأنبياء وأقوامهم إلا إلى الاستغفار فهذا محمد صلى الله عليه وسلم يؤمر بإعلان التوحيد وبالاستغفار من الشرك، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} [هود:1 - 5] إلى آخر الآيات.
فأمرنا الله بالتوحيد ثم بالاستغفار بعده، فمن منا لم يخطئ قط؟ كلنا صاحب ذنب وخطأ.
ماذا تريد من هذه الحياة؟ أنت تسعى من الصباح حتى المساء ألا تريد داراً؟ ألا تريد مالاً؟ ألا تريد عيالاً؟ ألا تريد زوجة؟ ألا تريد قضاء حاجات من حوائج الدنيا؟ ستنالها بإذن الله إذا صدقت في الاستغفار، قال الله على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12].
جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: انقطع المطر فماذا نصنع؟ قال: أكثر من الاستغفار، وجاء رجل يشكو الفقر فقال له: أكثر من الاستغفار، وجاءه رجل يريد الذرية، فقال له: أكثر من الاستغفار، فقال الجالس له: عجباً لك يا أبا سعيد! جاءك هذا يطلب كذا فقلت: أكثر من الاستغفار، وجاءك هذا يطلب كذا، فقلت: أكثر من الاستغفار، وجاءك ذاك يطلب كذا، فقلت: أكثر من الاستغفار، قال: هذا هو العلاج، أما قال الله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:10 - 12].
عجيب أمرنا! فلله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، ثم لا نرجوه في حاجاتنا، ولماذا هذا؟ لأننا ما صدقنا في التعامل معه، ولذلك حين أُخبر أحد الصالحين بما حدث من ارتفاع في الأسعار قال: كيف أخاف الفقر أو أخشاه وسيدي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟ أنت تتوكل على الغني، على القوي، على العزيز، {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، وقال سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61].(14/8)
الاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين
والاستغفار من صفات الأنبياء والصالحين، قال الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، وقال عنهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران:193]، وقال عن نوح: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، وقال عن السحرة: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} [طه:73]، وقال عن داود: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24]، وقال عن سليمان: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، ليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب أن نتمادى في الخطأ، وتكرار الذنب تلو الذنب، بلا توبة ولا ندم ولا استغفار.
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكير والحزن دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهلا عسى عبرة منها تخلصني فأحب الناس إلى الله الذين يطأطئون الرءوس ويقولون: أستغفر الله، قال الله لأحد أنبيائه: (بشر المذنبين أنهم إن تابوا قبلت منهم، وحذر الصالحين أني إذا أخذتهم بعدلي عذبتهم) وهذا حتى لا يغتر الصالح بعمله، ولا يقنط العاصي من رحمة الله جل في علاه، لكن لا بد أن تعلم أن قبول الله للاستغفار يرتبط بالتوبة والعمل الصالح، كما قال الله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] وقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60] وفي الحديث القدسي: (أذنب عبدي ذنباً، فاستغفرني، علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، غفرت لعبدي، ثم أخطأ، ثم استغفر، فقال الله: أذنب عبدي ثم استغفرني، علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي)، وفي الحديث: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يستغفرون الله فيغفر لهم).
فالله اسمه التواب، ولابد أن هناك ناساً يذنبون ويتوبون حتى يتوب الله عليهم، والله اسمه الغفار، ولابد أن هناك أناساً يخطئون فيستغفرون الله فيغفر لهم، قال الفضيل: استغفار بلا إقلاع، وبلا توبة وبلا ندم هذا استغفار الكذابين، ولاحظ من يقول بعد الصلاة ثلاثاً: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، ثم انظر في حاله إذا خرج من مسجده، شاشات وقنوات، ودخان، ومقاه وآهات، أين ذهبت أستغفر الله وأتوب إليه؟! لذلك قال أحد الصالحين: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
وقد سئل سهل بن سعد عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب قال: أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة، فأول الاستغفار الاستجابة، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24] ثم الإنابة: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54] ثم توبوا.
إذاً: فاستجابة ثم إنابة ثم توبة، قال: فالاستجابة عمل الجوارح، فلا ينظر ولا يسمع ولا يرى ولا يذهب ولا يأتي إلا في طاعة، ثم الإنابة: وهي عمل القلب، فيخضع ويستكين لله رب العالمين، ثم التوبة والإقبال على الله بالقلب والجوارح.(14/9)
الاستغفار هو الأمن والأمان
إن الاستغفار هو الأمن والأمان للذي يستحق بتركه العذاب، قال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، قال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب الأمان الأول وبقي الأمان الثاني، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ))؛ لأنك كنت أمانهم فذهبت وبقي لهم الأمان الثاني: وهو الاستغفار: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون).
قال ابن الجوزي: إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، فلما رأيت فيهم ذلك نفثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
فكثير من الناس يعيش في ضياع وهو يظن أنه على خير، وقد قال لي أحدهم: إن فلاناً مرءوسه في العمل يقول: فلان أخلاقه عالية لكن فيه عيباً واحداً، قلت: وما هو؟ قال: لا يصلي مع الناس في المسجد، ثم لقيته بعدها بأيام وأنا خارج من المسجد وهو خارج من الصالة الرياضية، فهو يحرص على جسمه كما قال الله عن المنافقين: {َإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4] يهتمون بالمظاهر، أما السرائر فخاوية لا يعلمها إلا الله، والمشكلة مصيبة المضيعين أنهم يظنون أنفسهم على خير، قال: لقيته فقلت له: كيف حالك؟ قال: بخير، فقلت: رئيسك يذكرك بخير؟ فضحك وابتسم لأنه يرضي الخلق ولا يرضي الخالق، نسأل الله العفو والعافية، قلت: يقول رئيسك: إنك على خير وأخلاق وكذا، وهو يضحك، ثم قلت: لكنه يقول: إن فيك عيباً واحداً قال: وما هو؟ لأنه حريص على ألَّا يراه رئيسه على خطأ معين، قلت: يقول: إنك لا تصلي مع الناس في جماعة، قال: والله! صحيح، فنحن مقصرون، قلت له: قلت: مقصرون؟! لا يا عبد الله! فعندما لا تراني في تكبيرة الإحرام كل يوم فأنا مقصر، وعندما لا أدرك ركعتي السنة قبل الفجر فأنا مقصر، وعندما تفوتني قراءة وردي في وقت قراءته فأنا مقصر، لكنك مضيع، وتعيش في ضياع وأنت لا تشعر: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37]، فمن لا يشهد جمعة ولا جماعة هل يقول: أنا على خير، أنا مقصر؟! بل هو رجل مفرط بكل ما تعني الكلمة، ذكرناه فقال: أنا أحسن من فلان! فبعد أن كان التنافس في درجات الجنان أصبح التنافس في الإقلال من المعاصي، وانقلب الميزان! نسأل الله العفو والعافية! وأحد الجالسين الآن معنا تاب واستقام وصلح حاله فآذاه أصحاب الماضي، يقول: كنت لا أصلي ولا أقوم، وهذا أول رمضان أقومه، فأتى إلي أصحاب الماضي يقولون: ما لك ولهذا الطريق؟ أنت على خير، قلت: وأي خير هذا؟ فهم على ضلال، ويريدون أن يضل صاحبهم معهم، وفي المثل: ودت الزانية لو أن كل النساء زواني، وهكذا حال كثير من الناس يزين بعضهم لبعض الضياع، يقولون: أنت على خير، لماذا التشدد؟ ولماذا التعصب؟ ولماذا التطرف والإيمان في القلب؟ فلا يحتاج أن تفعل كذا وكذا، قلت: فهم مساكين، يريدون شيئاً والطريق في الاتجاه الآخر.(14/10)
أفضل أوقات الاستغفار
فإن قيل: فما هي أحسن أوقات الاستغفار؟ فأنا وأنت ابتلانا الله، فمنذ أن خرجنا إلى هذه الحياة ونحن في ابتلاء.
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً فالعبرة النهايات، فاعمل أنت في فترة الابتلاء التي قال الله عنها: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:14 - 15] من هم العباد؟ قال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16]، ما هي صفاتهم؟ {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فهل نحن منهم حتى ننجوا؟! إذا أردت أن تنجو فاتصف بصفاتهم، قال الله عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
سبحان الله! على ماذا يستغفرون وهم لم يذنبوا؟ لقد صفوا الأقدام أمام الله، يبكون ويتضرعون، ولما انتهوا خافوا ألا يقبل منهم، ولذلك لما سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم: عن قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:57 - 60] قالت: يا رسول الله! أهم الذين يسرقون ويزنون؟ قال: (لا، بل هم الذين يصومون ويقومون، ويعملون العمل ويخافون ألا يتقبل منهم)، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ينزل إلى السماء الدنيا -نزولاً يليق بجلاله- فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟)، ولك أن تنظر إلى حال أهل الأرض في تلك الساعة! يقول تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].(14/11)
كلنا نحتاج إلى الاستغفار
فكلنا نحتاج إلى الاستغفار حتى الأموات، تقول عائشة: (لما كانت ليلتي انقلب النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي فوضع رداءه، وخلع نعليه فاضطجع، تقول: لما ظن أني رقدت أخذ رداءه رويداً، وانتقل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويداً، تقول: فاختمرت وتبعته) أي: تبعته عائشة رضي الله عنها لأنها كانت تحبه حباً جماً، وكانت تغار عليه غيرة لا يعلمها إلا الله، ولكنها لا تلام، فالذي بين يديها هو سيد البشر، فهي لا تلام في حبه؛ لأنه سيد البشر، تقول: (اختمرت وتبعته، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم لما انتهى انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، وهرول فهرولت، تقول: فتبعني إلى غرفتي فقال لها: لتخبرنني أو ليخبرنني اللطيف الخبير، فاعترفت، قال: فأنت السواد إذاً، تقول: فلهزني في صدري لهزة أوجعتني، وقال لها: أظننتي أن يحيف الله عليك ورسوله؟ -أي: تظنين بأني سأخرج من عندك حتى أذهب إلى إحدى نسائي؟! إن جبريل أتاني فناداني، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فظننت أنك رقدت، فكرهت أن أوقظك، وقال لي: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم؟ قلت: كيف أقول لهم؟ قال: قل: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) فالأموات أيضاً يحتاجون إلى الاستغفار ويحتاجون إلى من يدعو لهم ويستغفر لهم، وثق تمام الثقة أنك إذا دعوت لهم فإن الله سيقيض لك من يدعو لك إذا وسدت في التراب، وفارقك الأهل والأحباب.(14/12)
بشارات للمستغفرين والتائبين
وهذه بشارات للمستغفرين والتائبين يقول تعالى: {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136]، والذي يبشرهم: هو الله، ففي الاستغفار نجاة، وفي الاستغفار تفريج للهموم، وكشف للغموم.
ولك أن تجرب بارك الله فيك وتملأ اليوم والليلة والنهار بـ (أستغفر الله العظيم)، وسترى الآثار، ماذا يقول أهل الجنة في الجنة، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:26 - 29].
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من المستغفرين في الأسحار، ومن المستغفرين في كل حال بالليل وبالنهار.
اللهم! اغفر ذنبنا، واستر عيبنا، وتجاوز عنا.
اللهم اغفر لنا، واجعلنا خيراً مما يقولون، وأحسن مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون، أصلح علانيتنا، وإسرارنا يا حي! يا قيوم! اللهم! لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك -يا مولانا- نعم المولى ونعم النصير.
اللهم! آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! انصر العراق وأهل العراق، وانصر فلسطين والشيشان وكشمير، واجبرنا في شهدائنا خيراً يا رب العالمين.
اللهم! اجمع شملنا، ووحد صفنا، واكبت عدوك وعدونا إنك على ذلك قدير.(14/13)
البنيان المرصوص
ما أشبه الإيمان والقيام بالأعمال الصالحة بعملية البناء الذي يكون فيه الشيء الكثير من المشقة والتعب، وما أجمل أن يبني الإنسان ويستمر في تشييد بنائه إلى أن يحين الأجل، وتحين ساعة التوقف.
وبئس الرجل الذي يبني إلى أن يصل إلى النهاية ثم فجأة يهدم ما بناه، ومثله الذي يهدم إيمانه بالذنوب والمعاصي.(15/1)
قوة الإيمان وضعفه
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوءتم من الجنة منزلاً، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين، ثم أما بعد: فحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم.
نحن في سفر، والسفر طويل، والمسافر في طريقه يحتاج إلى متاع يبلغه وينفعه، وكلما قل المتاع وغلا ثمنه كان أسهل للمسافر في طريقه، وكلما كثر المتاع وقلت قيمته تعب المسافر في طريقه.
إننا نشاهد مشاهدَ ونحن في طريق السفر من الدنيا إلى الآخرة، وكثيراً ما يتكرر أمام أبصارنا مثل هذا المنظر، وهو أن رجلاً يبني بنياناً حتى إذا أوشك البنيان على التمام أخذ المعول وأخذ يضرب في أساس البنيان حتى يسقط هذا البنيان، فماذا نقول عن هذا الرجل؟ إن أقل ما نقوله: إنه غير عاقل، وتتكرر فينا مثل هذه الصور! فمثلاً: إذا أقبل رمضان أقبل الناس على بيوت الله دعاء، وتضرعاً وصياماً وذكراً وقرآناً، وهذا كله زاد يتزود به المسافر في طريقه، حتى إذا انتهى رمضان عاد المسافر إلى ما كان عليه، فيضيع الصيام، ويتخلف عن الصلوات، ويقلل من الذكر والطاعات، حتى يضيع ما بناه طوال شهر كامل {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92]، ضرب الله مَثَل هذا بامرأة تغزل فبعد أن أوشك الغزل على التمام أخذت تفل خيوط هذا الغزل حتى عاد إلى ما كان عليه.
أحبتي! إن الهدم سهل، ولكن البناء صعب، فالبناء يحتاج إلى مجهود أكبر، لكن بالمقابل في ساعات قليلة تستطيع أن تهدم بنىً كاملاً يتكون من أربعة أدوار أو ستة أدوار، استغرق من الوقت في بنائه شهور أو سنوات، لكن عند هدمه فالعملية لا تستغرق سوى ساعات.
فالصعود إلى القمة صعب وفيه مشقة وتعب ويحتاج إلى عزيمة، ويحتاج إلى جهد وطاقة، لكن النزول من القمة سهل، وهكذا كثير من الناس يبني ويتعب، ثم يغريه الشيطان في دقائق وفي ساعات فيهدم مجداً عظيماً قد بناه، يبني ويتعب ويكدح ثم لشهوة في مرقد أو في مضجع، أو الشهوة في نفس أو في مال يهدم ما قد بناه.
إن القضية قضية إيمان، فيوم بنى هذا الرجل بنيانه كان على إيمان أن {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36]، وعندما ضعف إيمانه بدأ يهدم هذا البنيان.
إنما يتفاوت الناس في بنائهم وفي هدمهم بتفاوت الإيمان، فهذا إيمانه قوي وهذا إيمانه ضعيف، والفرق بين فلان وفلان في مقدار الإيمان الذي وقر في صدور أولئك الرجال؛ لأن فلاناً من الناس يستطيع المحافظة على الصلوات الخمس، فيناديه منادي الله في كل حين: حي على الصلاة؛ فلا يتخلف، ودائماً يجيب النداء، وفلان من الناس يناديه المنادي مرات ومرات لكنه مرات يتخلف ومرات يلبي، وكثيراً ما يتخلف، فلماذا هذا قوي في بنائه وهذا ضعيف في بنائه؟ وما هو الفرق؟ إن الفرق هو الإيمان الذي وقر في صدر هذا والذي وقر في صدر ذاك.
إن فلاناً من الناس إذا نام مبكراً، أو نام متأخراً يستيقظ إذا ناداه منادي الله: الصلاة خير من النوم؟ وفلان من الناس يقول: والله لو تضرب مدافع عند رأسي لا أستيقظ! فما هو الفرق؟ ما الذي أيقظ هذا وحركه للإجابة لنداء الله، ولم يتحرك ذاك ولو بصوت المدافع، ما هو الفرق؟ إنه الإيمان، لماذا هذا يبني وهذا يهدم؟ الدافع الحقيقي لهذا الإنسان هو الإيمان، والمحرك الحقيقي لهذا الإنسان ليفعل الطاعات هو الإيمان، فالذي جعل هذا يبني ويحافظ على البنيان هو الإيمان، والذي جعل هذا يتساهل ويهدم هو ضعف الإيمان.
إن الظاهرة اليوم التي عمت وطمت وانتشرت حتى أصبحت مظهراً سائداً عاماً في حياة المسلمين هي ظاهرة ضعف الإيمان، وعلى قدر الإيمان تكون الأعمال، وعلى قدره يصمد هذا البنيان.
إن قوي الإيمان لا يسقط أمام الشهوات واللذات والمغريات مهما كانت، إنه ثابت في المحيا وثابت عند الممات.
ولماذا فلان من الناس عندما يذكّر مرة واحدة يكفيه؟ وآخر عندما يذكر مرات ومرات ومرات فلا يرتدع ولا يستجيب؟ ما هو الفرق؟ إنه فرق الإيمان، فأهل الإيمان من سماتهم أنهم أصحاب قلوب حية، فلا يمر الكلام عليهم مرور الكرام، إنه يقف ويتدبر ويتفكر.
وكم خاطبنا الله بهذا النداء: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، فالقضية مهمة في بناء الإيمان، ولهذا خاطبنا الله بنداء الإيمان، ولما كانت القضية مهمة قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]، فأليسوا أهل إيمان؟ بلى هم أهل إيمان، فلماذا كرر الله الأمر بالإيمان مع أهل الإيمان؟ لأن القضية مهمة، والمعنى: احفظوا الإيمان، وارعوا الإيمان، وتعاهدوا الإيمان.(15/2)
من مظاهر ضعف الإيمان: التحسر على أمور الدنيا أكثر من أمور الآخرة
إن الإيمان ليخلق في قلب الرجل، وإنه يضعف ويقوى، فلماذا -أحبتي- نندم على أمور الدنيا إذا فاتت ولا نتحسر على أمور الدين؟! ومن الذي إذا استيقظ وقد أشرقت الشمس وطارت الطيور بأرزاقها -كما يقولون- تحسّر وندم، فقد فاز المصلون، وفاز أولئك الذين دخلوا في ذمة الله في ذلك اليوم؟! وكم من إنسان استيقظ بعد شروق الشمس ولا يوجد في قلبه حسرة ولا ندامة على ما فاته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش).
يقول أحدهم: دخلت على رجل في مكتبه في الوظيفة فإذا على وجهه من آثار الهموم والغموم ما الله به عليم، فقلت في نفسي: هذا أصابته مصيبة عظيمة إما في أهله أو في ماله، فآثار هذه المصيبة ظاهرة وبادية في وجهه، فقلت له: يا فلان! خيراً إن شاء الله -فمن حق المسلم أن يعزي أخاه-، فقال: اسكت إنها فرصة لا تعوض، قلت: يا رجل! كل شيء يعوض إلا العمر إذا مضى، قال له: يا رجل! فرصة العمر ما تعوض، قلت: خيراً إن شاء الله، قال -واسمع ما قال-: أرض تجارية في موقع تجاري عليها تصريح لستة أدوار، والدور الأول كله محلات تجارية، وقد بيعت بثمن بخس وثمن زهيد، فقلت في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون، على هذا يتحسر المسلمون اليوم؟! على هذا يندم المسلمون اليوم؟! قلت له: يا رجل! ما كتبها الله لك، أما قال الله: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23]، فاسمع على ماذا نبكي، واسمع على ماذا نتحسر.
واسمع عن بكائهم وتحسرهم في لحظات احتضار فهذا معاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام، اسمع تزكية النبي له وهو يقول له: (والله إني لأحبك يا معاذ)، إنها تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب الذي بنى البنيان وحافظ عليه حتى ساعات الاحتضار.
وعند ساعات احتضاره بليل قال لابنه: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، فسأله بعد حين فقال: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، ثم قال له مرة ثالثة: أصبحنا؟ قال: نعم، فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صبيحتها إلى النار، ثم لما ازدادت سكرات الموت وأتت ساعة الاحتضار، أخذ ينادي ربه، ويتضرع إليه ويدعوه قائلاً: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء، فاسمع على ماذا يتحسر ويندم، إنه يتحسر على قيام الليل وعلى صيام الهواجر، وعلى مجالسة أهل العلم والفضل: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها فالقضية قضية بناء، فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها.
وكثير من يفعل الطاعات لكن قليل من يترك المحرمات، وأصبحت القضية قضية هدم وبناء في نفس الوقت، يبني ويهدم، ويبني ويهدم، وهكذا لا يكتمل البنيان أبداً.(15/3)
لا يكتمل الإيمان مع إضعافه بالمعاصي
إن الإيمان يجب أن يكون صافياً ونقياً وطرياً؛ حتى نستشعر له حلاوة، وحتى نرى للبنيان جمالاً، وحتى تظهر آثار التعب والنصب في هذا البنيان، فالعسل إذا لم يكن مصفى لا تستشعر حلاوته، ولا تعرف قيمته، فكلما زادت نقاوة العسل وخلوه من الشوائب كان طعمه أحلى، وهكذا الإيمان إذا صفي ونقي من الشوائب والمعايب كان له طعم وحلاوة.
والمشكلة اليوم في حياتنا أن القضية أصبحت مخلوطة، فكثير من المسلمين يصلي، لكن ينظر إلى الحرام، ويأكل الحرام، ويصلي ويفعل الطاعات من صيام وصدقة ولكن في المقابل يفعل المحرمات، فما هو الإيمان؟ الإيمان هو ما وقر في القلب، وصدقه اللسان، وعملت به الجوارح والأركان، ويزيد بالطاعة -أي: ينبني بالطاعة-، وينقص بالعصيان -أي: ويهدم بالمعاصي-، قال الله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102]، وهذا حالنا اليوم، فنفعل الطاعات، لكن لم نترك المحرمات، فلم يظهر للإيمان أثر في حياتنا؛ لأن العملية أصبحت مخلوطة، فإذا قرأ العبد القرآن ارتفع إيمانه، وإذا حافظ على الصلوات الخمس ارتفع إيمانه، وإذا حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها والسنن الرواتب ارتفع إيمانه، وإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ارتفع إيمانه، وإذا تصدق ارتفع إيمانه، وإذا تبسم في وجه أخيه يبتغي بذلك مرضاة الله ارتفع إيمانه، وكل طاعة يفعلها ترفع الإيمان، لكن في المقابل إذا جلس أمام التلفاز وأطلق للسمع وللبصر العنان ينخفض ويضعف الإيمان.
فالذي يعمل الطاعات يبني إيمانه بالقرآن والذكر والتسبيح والتهليل، لكن في المقابل هو يضعف إيمانه إذا استمع إلى الأغاني، وإذا نظر إلى الحرام، ضعف إيمانه، وإذا أكثر من القيل والقال فيما لا يعنيه ضعف الإيمان، وهكذا حال كثير من المسلمين اليوم، فهدم وبناء، وهدم وبناء، وأصبحت حياتنا لا قيمة لها، وكلما أوشك البنيان على التمام أخذنا في الهدم!! والقضية يوم القيامة قضية ميزان، فإما أن ترجح فيها كفة السيئات أو كفة الحسنات، وإن رجحت كفة السيئات خاب وندم، وإن رجحت كفة الحسنات أفلح وفاز، لكن متى ترجح كفة الحسنات؟ ترجح إذا حافظ على الطاعات حتى يلقى الله تبارك وتعالى، وترجيح إذا ترك السيئات والمحرمات.
والله! إن أهل الجنة في جناتهم بين حورهم وقصورهم يتحسرون ويندمون على دقائق ضاعت منهم عندما يرون الكرامات، ويرون ماذا أعد الله لعباده الصالحين، ويتمنى أهل الجنة أن لو زادوا في الطاعة، ويتمنى أهل الجنة أن لو زادوا في القربات لما يرون من الكرامات التي أعدها الله لعباده الصالحين، فما ظنك بالفريق الآخر وهو يتقلب في النار؟! {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب:66]، كيف يكون حالهم؟ يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66].
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28]، ماذا عمل بك؟ قال: ما ساعدني على البناء إنما ساعدني على الهدم والضياع، وهذا حال كثير من الناس اليوم، لو تسألهم عن سبب هدمهم لبنيانهم لقالوا: فلان وفلان وفلان هم السبب.(15/4)
شدة التكاليف على الرجال في السابق
عبد الله! أعلم أنه لا يصنع الرجال إلا الإيمان، وعلى قدر الإيمان في القلوب تكون ثمراته، اسمع ماذا صنع الإيمان بالرجال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه ذاق بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، ومعنى هذا الكلام أنه إذا أتاك الأمر فعليك أن تفعل، وإذا جاءك نداء الله ألا تفعل فعليك ألا تفعل، وقد كانت التكاليف في السابق شديدة على الرجال ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، واليوم التكاليف سهلة، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فهم أقاموا البنيان، وإقامة البنيان أصعب شيء، فتعالوا نستمر في بناء ذلك البنيان الذي بناه أولئك الرجال بتضحياتهم، وبدمائهم، وبأوقاتهم، وبأموالهم وبكل ما يملكون.
فهذا رجل واحد يناديه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، خالد الهذلي رجل كان يجمع الرجال حتى يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بجندي واحد من جنود الإيمان، ليس بكتيبة ولا سرية ولا بجيش عرمرم، وإنما برجل واحد وقال له: (اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، فما قال الجندي: لا أستطيع، أو العملية شاقة ومتعبة وخطيرة، لا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، فلا يختار الجندي إذا أمره القائد، فقال: إني لا أعرف الرجل -أي: ما رأيته قط، واسمع علامات الرجل- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (علامة الرجل أنك إذا رأيته تهابه)، وهنا زادت القضية خطورة؛ فالرجل خطر، وكانت العرب تقول عن خالد الهذلي: إنه رجل بألف رجل، ومع هذا ما قال الجندي: أعذرني، وما قال: ابحث عن غيري، أو مدّني بفلان أو فلان، وإنما قال: سمعاً وطاعة، وخرج حتى وصل إلى عرفات قرب مكة حيث أقام الرجل هناك معسكره يجمع الشباب والرجال حتى يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه وقال له: أنا أريد أن أنضم إلى الرجال الذين معك حتى نقتل محمداً -صلى الله عليه وسلم- فآواه وقربه وأدناه حتى اطمئن إليه، ثم سار معه خلف الخيام يتباحثون في القضية والموضوع، حتى إذا ابتعدوا عن أعين الناس استل عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه سيفه واجتز رقبة الرجل وعاد يخبر القائد أن المهمة قد تمت، وكان الوحي قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما إن دخل الجندي على القائد حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح الوجه، خذ عصاتي توكأ عليها أعرفك بها يوم القيامة، وقليل هم المتوكئون)، فلما احتضر عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه أمر بتلك العصا أن تكفن معه في كفنه؛ كي تكون شاهدة ودليلاً على أنه أطاع الله وأطاع الرسول.
فانظر لقد كانت التكاليف صعبة وشاقة على الرجال ومع ذلك ما تخلف منهم رجل واحد.
وفي يوم بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثهم ويحرضهم على القتال، ويرفع شعار المعركة ويقول لهم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، فيتعجب الرجل ويتأمل ويتفكر ويقول: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: (يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ ماذا بيني وبينها؟ قال: أن تقاتل في سبيل الله فتقتل، قال: ادعُ الله أن أكون من أهلها، قال: أنت من أهلها، وكان في يده تمرات فقال: بخ بخ، وقذفها وانطلق وهو يقول: والله! إنها لحياة طويلة إن أنا عشت حتى آكل هذه التمرات)، ولسان حالهم: ركضاً إلى الله بغير زادِ غير التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد وكل عمل عرضة للنفادِ إلا التقى والبر والرشاد.
(ادع الله يا رسول الله! أن أكون من أهلها قال: أنت من أهلها، ثم ينطلق ويبارز القوم ويقاتلهم حتى يسقط قتيلاً رضي الله عنه وأرضاه).
فما الذي دفع أولئك الرجال إلى تلك الأفعال؟! إنه الإيمان يوم بنوا البنيان حافظوا على البنيان حتى وصل إلى تمامه، ونحن اليوم نبني ونهدم، فلم نستشعر الإيمان وحلاوته، واسمع ماذا كانوا يقولون، كانوا يقولون: إذا لم تستطع قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم.
والله! إننا في حرمان لا يعلمه إلا الله، وذلك يوم لم نستشعر الإيمان وحلاوته ولذته، والأنس بالله، والقرب من الله تبارك وتعالى، فإذا أنس أهل الدنيا بالدنيا فليأنس أهل الإيمان بالله، وإذا أنس أهل الدرهم والدينار بمالهم فليأنس أهل الإيمان بالله تبارك وتعالى.
إنه الإيمان الذي يصنع الرجال (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أي: تبذل الغالي والنفيس للذي أعطاك، ووهب وسخر لك كل شيء، فهكذا تكون حياة أهل الإيمان.(15/5)
صفات أهل الإيمان
هذا الشاب الجديد في انطلاقته في طريق الإيمان، وفي طريق البناء، يوم أن بدأ يسير على الطريق كانت من أمنياته أن يحفظ سورة الفرقان، وما أجملها من سورة لو تدبرناها! فهي تصف عباد الرحمن أولئك الذين يبنون البنيان ويحافظون عليه، يقول: من أمنياتي وأنا في بداية الطريق أن أحفظ سورة الفرقان، فاجتهدت في حفظها بعد صلاة الفجر، فيوم أن نام النائمون مكثت أنا في المسجد أحفظ هذه السورة العظيمة، يقول: فلما أتممت حفظ السورة وخرجت من المسجد فمن السعادة التي في قلبي شعرت أن هذا الكون لا يستطيع أن يتحملني، وشعرت أني أستطيع أن أوزع الإيمان على الكون كله، وأستشعر السعادة في هذا الكون كله، يقول: فالتفت يمنة ولا يسرة ما أريد أن ينظر إليَّ أحد؛ لأني كنت أشعر أني لا أسير على الأرض! ما هو هذا الشعور أليس هو الإيمان؟ أليست هي الطاعات التي جعلتهم يستشعرون الإيمان؟ أليس البنيان الذي بنوه وحافظوا عليه هو الذي كمل إيمانهم؟ فيأيها الغالي! حافظ على الطاعات من كل ما يشوبها وينقص من قيمتها.
وأما صفات عباد الرحمن فقد قال الله عنهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فلما وصف نهارهم قال أهل التفاسير: كان من باب أولى أن يصف ليلهم، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:63 - 68]، ثم قال في الآيات التي تليها: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، أي: ليس عندهم مجال لتضييع الأوقات وتضييع الأعمار، وكل باطل وزور لا يشهدونه، وكل مجالس لهو وتضييع لا يشهدونها؛ لأنهم ما خلقوا من أجل هذه {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:73 - 74]، ما هي ثمرات حفاظهم على البنيان؟ {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:76 - 77].
فهذه أحوال الذين يبنون، وأما أحوال المضيعين والمفرطين الذين يهدمون البنيان فهي عكس صفات الرحمن تماماً.
وجاءتنا الأخبار أن أحد الشباب سلك طريق الاستقامة، وركب سفينة النجاة، وبدأ يحافظ على الصلاة ويحفظ القرآن، وبدأ يتذكر أصحاباً له لا يزالون غارقين في لجج المعاصي والآثام، فودّ لو أنهم ركبوا معه في سفينة التوبة والنجاة، وانضموا إلى قوافل العائدين، زارهم وليته لم يفعل، وهذه نصيحة لكل تائب جديد في طريق الاستقامة ألا يذهب لأصحاب الماضي وحيداً، فخذ معك من يعينك على دعوتهم؛ لأن الكثرة تغلب الشجاعة، فزارهم يريد لهم الهداية، فبدأ الهجوم عليه من كل الجهات: أتذكر يوم كذا وكذا، وعلت الأصوات وانطلقت الضحكات، وقام من عندهم بعد أن جددوا جراحاً ماضية، وحركوا في القلب والنفس أشياء، وبدأ الصراع من جديد.
جاءوه بعد أيام يعرضون عليه السفر إلى مكان قريب بقصد شراء سيارة قالوا له: نريد من يذكرنا بالله ويؤمنا في الصلاة، ويعلمنا الجمع والقصر، فزينت له نفسه السفر وانطلق معهم، وليته لم يفعل، هناك حيث يعصى الله استأجروا شقة مفروشة، وتركوه فيها وذهبوا وهم يخططون كيف يعيدونه إلى شواطئ الضياع مرة ثانية، فأمضوا ليلتهم في سهرة ليلية بين خمر وغناء وهو هناك ينتظرهم، واتفقوا مع بغي زانية فاجرة على أن يدفعوا لها الثمن أضعافاً مضاعفة إن هي استطاعت أن توقع صاحبهم في الفاحشة، الله أكبر! يدفعون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فأدخلوها عليه ومعها خمر وشريط غناء حتى تكون الليلة حمراء، والخمر مذهبة للعقل، والغناء بريد الزنا، فخلت به وخلا بها (وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، ولا زالت به حتى سقته كأساً من خمر، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم وقع المحظور وانهدم في لحظات بنيان طالما تعب حتى بناه، فنام في فراشه عارياً مخموراً -والعياذ بالله-، فلما أصبح الصباح جاء شياطين الإنس يطرقون الباب وضحكاتهم تملأ المكان، ففتحت الفاجرة لهم الباب فقالوا لها: ما عندك؟ ما الخبر؟ ما البشارة؟ قالت: أبشروا فقد فعل كل شيء: شرب الخمر، وزنى، ثم نام وهو عريان في فراشه الآن، تباً لهم ولأمثالهم أيفرحون ويستبشرون إن عُصي الله؟ أيفرحون أن صاحبهم زنى وشرب الخمر بعد أن كان يصلي ويقرأ القرآن؟! فدخلوا عليه ضاحكين شامتين وهو مغطىً في فراشه، فأيقظوه فلم يجبهم، فكرروا النداء فلم يجبهم، فحركوه وقلبوه في فراشه فلم يستيقظ، واسمع الفاجعة: إن صاحبنا شرب الخمر، وزنى، ونام، ومات من ليلته في فراشه على أسوأ ختام! إنا لله وإنا إليه راجعون! فيا ألله! أما كان صاحبهم يصلي ويصوم ويقرأ القرآن؟ أليس قد جاء معهم يريد لهم الهداية فأرادوا له الغواية؟ لقد دفعوا أموالهم وأوقاتهم ليصدوه عن سبيل الله، فهل سينقذونه من عذاب الله؟ فأي أصحاب هؤلاء؟! وصدق الله حين قال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاه(15/6)
استشعار وتذكر اليوم الآخر من أهم أسباب المحافظة على البنيان
ما الذي قاد أولئك الرجال إلى حفظ الإيمان؟ وما هي القضية التي كانت قوية في حياتهم ضعيفة اليوم في حياتنا؟ إنها قضية الإيمان باليوم الآخر، فالإيمان باليوم الآخر هو الذي قاد أولئك الرجال إلى صنع تلك العجائب التي صنعوها، واليوم هذا الشعور ضعف في حياتنا، ولو استشعرنا أن هناك يوماً سيجمع الله فيه الأولين والآخرين فهل ترى الرجل يتخلف عن الصلوات؟ أتراه يتنازل عن الطاعات؟ أتراه يتساهل في المحرمات؟ من علم أنه لله عبد، وأنه بين يدي الله سيقف، أتراه يضيع العمر؟ أبداً والله! والله! ما ضاع المسلمون إلا يوم ضعف استشعار الإيمان باليوم الآخر في حياتهم، كما قال الله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج:6 - 7].
{ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105].
وقد جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم قال له: هناك قضية شغلتني بالليل والنهار، قال له إبراهيم: دعني فأنا أيضاً مشغول، فعندي ما يكفيني ويشغلني، قال: يا شيخ! إما تشغلني، وإما أنا أشغلك بقضيتي، قال له إبراهيم: هي ثلاث قضايا لا تفارقني بالليل ولا بالنهار، قال الرجل: هات الأولى، قال: الأولى: يقول الله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، وأنا لا أدري إلى أي فريق أنتمي، وممن أكون: أمن الذين تبيض وجوههم أو من أولئك الذين تسود وجوههم.
والثانية: يقول الله: ((فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ))، وأنا لا أعلم أمن الأشقياء أكون أم من السعداء.
والثالثة: يقول الله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، فلا يوجد بين البين فإما جنة وإما نار.
فاستشعارهم لليوم الآخر هو الذي غير مجرى حياتهم، وضعف هذا الشعور اليوم في حياتنا هو الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، ولو تدبرت آيات هذا الكتاب الحكيم فستجد أنها في كل صفحة من صفحاته تربطنا بذلك اليوم، {الْقَارِعَةُ} [القارعة:1]، {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1]، {الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1]، {ذَلِكَ يَوْمٌ} [هود:103]، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1]، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
فمن تعلق قلبه بذلك اليوم حافظ على البنيان، ومن ضعف تعلقه بذلك اليوم هدم البنيان ولم يبال.
يقول ابن الحسن البصري: أمسى أبي صائماً حتى حانت ساعة الإفطار، فقدم إليه الطعام فقيل له: الطعام يرعاك الله، قال: فاسترجع وبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، ثم قرأ عليهم قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، فسبحان الله عندما تعرض عليهم أمور الدنيا يربطوها بالآخرة، يقول: حتى عافت نفسه الطعام، وأصبح صائماً لليوم الثاني على التوالي، ولم يذق الطعام ولا الشراب حتى حانت ساعة الإفطار فقيل له: الطعام -يرعاك الله-، فاسترجع وقرأ قوله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، حتى عافت نفسه الطعام، وأمسى ليله كله باكياً حتى أصبح صائماً لليوم الثالث على التوالي، ولم يذق الطعام ولا الشراب.
فأسألك بالله ما الذي حرمهم لذيذ المنام ولذيذ الطعام أليس هو استشعار اليوم الآخر؟ أليس هو استشعار المسئولية عند الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى؟ فلما حانت ساعة الإفطار لليوم الثالث على التوالي ذهب ابنه إلى ثابت البناني، ويحيى البكاء ويزيد الضبي فقال: أدركوا أبي! ثلاثة أيام لم يذق الطعام، ولا الشراب! فلا زالوا يكلمونه ويحدثونه حتى ذاق سويقة من تمر، ثم قرأ عليهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، تخيل المشهد يرعاك الله، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل:14 - 16]، ثم الخطاب لنا {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:17 - 19]، والله! لو أن القلوب سليمة لتقطعت ألماً من الحرمان، ولكنها سكرى بحب الدنيا، وسوف تفيق بعد زمان، والله! إن استشعارهم لليوم الآخر هو الذي حرك أولئك الرجال، وضعف هذا الشعور في حياتنا هو الذي جعلنا نهدم البنيان كلما بنيناه، متى يكتمل البنيان؟ وأنى له أن يكتمل إذا كان هذا يبني وهذا يهدم؟! فالقضية خطيرة جد خطيرة، القضية قضية مصير إما جنة وإما نار وليس لهما ثالث.(15/7)
كيفية المحافظة على بنيان الإيمان
إن حفظ البنيان لا بد فيه من المجاهدة، ولا بد فيه من الصبر، ولا بد من الصدق مع الله تبارك وتعالى {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، فالعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، واسمع كيف يستشعر المؤمن الإيمان وحلاوته.
(دخل النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ فقال: أصبحت مؤمناً حقاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وما حقيقة هذا الإيمان؟)، اسمع علامات الإيمان، وعمل أهل الإيمان قال: (عزفت نفسي عن الدنيا)، وهكذا المؤمن، فقلبه ليس معلقاً بالدنيا وحطامها، وكيف يتعلق في الدنيا وما فيها والله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، يقول الناظم في الدنيا: إذا هدمت فزدها أنت هدماً وحصن أمر دينك ما استطعتا ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا أراك تحب عرساً ذات خدر أبت طلاقها العقلاء بتا وتطعمك الطعام وعن قليل ستطعم منك ما فيها طعمتا تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررت فإنك لا تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا قال: (عزفت نفسي عن الدنيا)، ثم إن الإيمان لا بد أن يترجم إلى عمل.
يقول الحسن البصري: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه اللسان، وعملت به الجوارح والأركان.
فالإيمان ليس بالتمني ولا بالتخلي، ولابد أن يكون مترجماً إلى عمل، قال: (فأسهرت ليلي قياماً، وأظمأت نهاري صياماً)، وهو لا يتكلم عن رمضان، نحن لا نعرف الصيام ولا القيام إلا من رمضان إلى رمضان، وهذا يتكلم عن سائر الأيام طوال العام فليلهم قيام، ونهارهم صيام.
عبّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه على الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم خرجوا إلى الموت يستجدون رؤياه فيا ربِ ابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً تليداً قد أضعناه يقول: (أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري).
ثم إذا ارتقى الإيمان بالعبد فإنه يصل به إلى مرتبة الإحسان؛ لأن الدين ثلاث مراتب: إسلام، فإيمان، فإحسان، نحن مطالبون -أيها الغالي- أن نرقى بإيماننا وأن نرقى بمستوانا يوماً بعد يوم {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، إنه التفاضل في حسن العمل، فالكل يصلي لكن شتان بين مصل ومصلٍ، والكل يعمل الطاعات لكن هناك فرق بين من يحسن الطاعات ويراقب الله فيها، وبين من يؤديها أداء واجب.
إن الدين عهد وميثاق بيننا وبين الله، فكم الذين يقومون بالدين ويحافظون عليه؟ لقد سمَّى الله الذين أوفوا بالعهد مع الله رجالاً فقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، والدين عهد بيننا وبين الله، والمطلوب أن نقوم به على أحسن وأتم وجه.
ولما ارتقى الرجل في إيمانه قال: (أسهرت ليلي، وأظمأت نهاري)، ويقول: (كأني أرى عرش الرحمن بارزاً أمامي، وكأني أرى أهل النار يتعاوون فيها، وكأني أرى أهل الجنة يتزاورون فيها)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت إنسان عرفت فالزم) أي: هذا هو الإيمان، فهو قول وعمل.
ثم اسمع إلى ثمرات الإيمان، ففي يوم بدر يقتل حارثة رضي الله عنه وأرضاه، فتأتي أم حارثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (يا رسول الله! أين حارثة، هل مكانه في الجنة فأفرح له، أم في النار فأجتهد في البكاء عليه؟ فيقول لها يا: أم حارثة! إنها ليست جنة يا أم حارثة! ولكنها جنان، وإن حارثة أصاب الفردوس الأعلى)، بماذا وصل إلى تلك المرتبة الرفيعة العالية عند الله؟ {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10]، فالإيمان هو الذي صنع أولئك الرجال، وأقام ذلك البنيان تعلقهم بالله، وما عند الله هو الذي قادهم إلى جنات النعيم، واليوم عندما ضعف الإيمان في حياتنا أصبح الإيمان لا يكفي لإيقاظ الرجل لصلاة الفجر، اليوم الإيمان لا يكفي ليترك الرجل منامه وفراشه من أجل الله تبارك وتعالى.
يقول الشاعر مخاطباً نفسه: تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل إن الإيمان هو الذي يصنع البنيان، وكلما قوي الإيمان كان البنيان قوياً، وكلما ضعف الإيمان بدأ البنيان بالسقوط.
فتعالوا! نحفظ على الطاعات، ونجاهد النفس، ونلزمها على فعل الطاعات وترك المحرمات؛ لكي لا تصير القضية مخلوطة في حياتنا.
وإذا استشعرنا الإيمان فوالله! لن نرضى به بدلاً، إذا استشعرت حلاوة الإيمان فثق تمام الثقة أنك لن ترضى به بديلاً، واسأل أولئك الذين ساروا على طريق الاستقامة، اسألهم عن الماضي الذي كانوا فيه عندما كانوا يهدمون البينان، واسألهم الآن هل ترجعون إلى الماضي؟ إن أحدهم لا يرجع إلى ما كان عليه أبداً؛ لأنه استشعر الإيمان وحلاوته، وكلما تقربت وزدت في الطاعات كان أثر الإيمان واضحاً في حياتك (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً)، وهكذا الإيمان! قال الله عن أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، فالإيمان يزيد، والهداية ليست باباً واحداً بل أبواب، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
إن المسئولية مسئوليتك أنت، فكلما اجتهدت في المسير، وقمت على بناية البنيان ورعايته، فثق تمام الثقة أن المردود أعظم في الدنيا قبل الآخرة.
فما رأيت شيئاً يصنع الرجال كالصلوات الخمس، وهو عمر الخبير يقول: من كان محافظاً عليها كان على غيرها أحفظ، ومن كان لها مضيعاً كان لغيرها أضيع.
وما أظن أن رجلاً يحافظ على الصلوات الخمس يبني ويهدم، وإنما جاءت قضية الهدم والبناء لأولئك الذين صلاتهم متقطعة، وأشهد بالله العظيم لو أن رجلاً استقام في صفوف المصلين أربعين يوماً لاهتدى، ولن يرضى أن يعود إلى الماضي القبيح، فهل تستطيع أن تجاهد النفس لله أربعين يوماً؟ لقد جاهد الرجال سنين طويلة، فهذا يقول: منذ أربعين عاماً ما فاتتني تكبيرة الإحرام، والآخر يقول: منذ خمسين عاماً ما فاتتتني لا في سفر ولا في حضر، أليست هممهم عالية؟ أليس إيمانهم راسخاً؟ ثق تمام الثقة وخذ بالعلاج، فالمريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب ثم يوصف له العلاج، فإذا داوم وحافظ على العلاج فبإذن الله يشفى، وضعف الإيمان علاجه الاستقامة على الطاعات، وفي نفس الوقت ترك المحرمات والمعاصي، وثق بعد الأربعين أنك لن ترضى أن تعود إلى الماضي السابق من الهدم والبناء في نفس الوقت، وما تدري وأنت تبني إلا ويقال لك: توقف انتهت المدة، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظني وإياكم بحفظه، وأن يعينني وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، واعل شأننا، وأصلح ولاة أمورنا، اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد.(15/8)
الذي يراك حين تقوم
خلق الله الخلق وابتلاهم لينظر كيف يعملون، وجعل الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات، فمن راقب الله في سره وعلنه وتذكر نظر الله إليه عند المعصية فاجتنبها فاز برضاه، وإلا فيا خسارته وبواره!(16/1)
مراقبة الله
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا وأنت وأنت في ليلة أذكرها بعنوان: (الذي يراك حين تقوم).
وأي عنوان أحلى وأجمل من هذا؟ أي أسطر أجمل من تلك التي تتكلم عن الله وعن عظمته وبره ورحمته.
لن أذكر للعنوان عناصراً، بل سأدع العناصر يسوق بعضها بعضاً حتى الختام.
فهيا ننطلق! الدافع للموضوع: ما نراه من كثرة الفواحش والمنكرات، ما نلمسه من ضعف الوازع عن المحرمات، وما تأتي به الأخبار عن ضعف التربية، وقلة المراقبة في الخلوات هذا يتساهل في النظر، وذاك يمارس عادات، وآخر يأكل الربا وغيره يتمايل مع الغناء.
أحبتي! كثير من الناس وجودهم كالعدم، لم يتأملوا دلائل الوحدانية، ولم يقفوا عند أوامر الله ونواهيه، هم كالأنعام بل هم أضل، إن وافق الشرع مرادهم قبلوه وإن لم يوافق تركوه، إن حصلوا على الدرهم والدينار رضوا وأخذوه، ولم يبالوا من حلال أم من حرام كسبوه، إن سهلت عليهم الصلاة فعلوها، وإن لم تسهل تركوها.
أحبتي! من تفكر في العواقب أخذ الحذر! ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر! تمضي السنون وتنقضي الأيام والناس تلهو والأنام نيام والناس تسعى للحياة بغفلة لم يذكروا القرآن والإسلام والمال أصبح جمعه كتهجد وتمتع الشهوات صار قيام قد زين الشيطان كل رذيلة والناس تفعل ما تريد حرام يا نفس يكفي فالذنوب كثيرة إن الغرور يسبب الإجرام هل تعلم اليوم المحدد وقته الله يعلم وحده العلام ماذا تقول إذا حملت جنازة ودفنت بالقبر الشديد ظلام هذا السؤال فهل علمت جوابه ماذا تجيب إذا نطقت كلام من ذا نصيرك إن روحك غرغرت جاء المفرط كي يقول ختام اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي وغداً تموت وترفع الأقلام يروى أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى الدنيا في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينة فقال لها: كم تزوجت؟ فقالت: لا أحصيهم! قال: فكلهم مات عنك أو كلهم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت! فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين؟.
اعلم رعاك الله! واسمعي بارك الله فيك! لا يقطع الطريق إلا بالصبر والتسلية كما قيل، فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى.
حكي عن بشر الحافي أنه سار ومعه رجل في طريق طويل فعطش صاحبه فقال له: نشرب من هذه البئر، فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى, فلما وصلا إليها قال له: اصبر إلى البئر الأخرى، فما زال يعلله ويصبره ثم قال: هكذا تنقطع الدنيا، بالصبر والتصبير.
فدرب النفس على هذا الأصل وتلطف بها وعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت.
كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك هذا الذي تحبين إلا من الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك.
يعني أكرهتها على العمل حتى استقامت ورضيت.
فمن هجر اللذات نال على المنى ومن عشق اللذات عض على اليد ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد(16/2)
آية ومعنى
آية ومعنى: قال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217 - 220].
قال السعدي رحمه الله: وأعظم مساعد للعبد على القيام بما أمر به الاعتماد على ربه، والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور، فذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217].
والتوكل: هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته بالله وحسن ظنه بحصول مطلوبه، فإنه عزيز رحيم بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وأمته، وكل ذلك برحمته.
ثم نبهه عند فعل الأوامر وترك النواهي باستحضار قرب الله والنزول في منزل الإحسان فقال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، أي يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة، يراك وقت قيامك وتقلبك راكعاً ساجداً، خصها بالذكر -يعني الصلاة- لفضلها وشرفها، ولا بد من استحضار القلب حين فعلها، لأنه من استحضر فيها قرب ربه خشع وذل وأكملها، وبتكميلها يكمل سائر عمله ويستعين بها على جميع أموره.
ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:22] أي: السميع لسائر الأصوات على اختلاف تشتتها وتنوعها، والعليم الذي أحاط بالظواهر والبواطن والغيب والشهادة.
فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به وعلمه بما ينطوي عليه قلبه من الهم والعزم والنيات يعينه على بلوغ منزلة الإحسان.(16/3)
معنى الإحسان والمراقبة
فما هو الإحسان؟ الإحسان جاء في الحديث الصحيح عند مسلم في حديث وصف الإسلام والإيمان لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
نعم يراك ويعلم سرك ونجواك، في الصحراء يراك، في الجو أو في السماء يراك، إن كنت وحيداً رآك، أو كنت في جمع رآك، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4].
معنى الإحسان: استحضار عظمة الله ومراقبته في كل حال.
فما هي المراقبة؟ قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين بذلك هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله، ومن راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه.
قال أحدهم: والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه.
قال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله.
وقال إبراهيم الخواص: المراقبة: خلوص السر والعلن لله جل في علاه، من علم أن الله يراه حيث كان، وأن الله مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلوته أوجب له ذلك العلم واليقين.
كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته جل في علاه.
أو كما قال.
وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف.
وقالوا: أعظم العبادات مراقبة الله في سائر الأوقات.
قال ابن القيم: والمراقبة: هي التعبد بأسمائه الرقيب, الحفيظ, العليم, السميع, البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة.(16/4)
أسماء الله الحسنى وأثرها على من استحضرها
فهيا معاً أحبتي ننظر في معاني هذه الأسماء وآثارها.
من آثار هذه المعاني والصفات: اعلم بارك الله فيك واعلمي رعاك الله! أن أسماء الله الحسنى هي التي أثبتها الله تعالى لنفسه وأثبتها له عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآمن بها جميع المؤمنين قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110]، وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:8].
وجاء في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)، ومعنى أحصاها: حفظها وعدها واستوفاها وعمل بمقتضاها.
فكما أن القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه دون العمل به كذلك أسماء الله وصفاته، ولا بد أن نعلم أن أسماء الله ليست بمنحصرة في التسعة والتسعين المذكورة في حديث أبي هريرة ولا فيما استخرجه العلماء من القرآن، ولا فيما علمته الرسل والملائكة وجميع المخلوقين، لحديث ابن مسعود عند أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أصاب أحداً همّ ولا حزن فقال: اللهم أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحداً من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، من قالها أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحاً، فقيل: يا رسول الله! أفلا نتعلمها؟ فقال: بلى.
ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها).
فتعلموها وعلموها رعاكم الله.
واعلم واعلمي أن من أسماء الله عز وجل ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بمقابله، فإذا أطلق وحده أوهم نقصاً تعالى الله عن ذلك، فمنها المعطي المانع والضار النافع والقابض الباسط والمعز المذل والخافض الرافع، فلا تطلق على انفرادها بل لا بد من ازدواجها بمقابلها إذ لم تذكر في القرآن والسنة إلا كذلك.
ومن ذلك: (المنتقم) لم يأت في القرآن إلا مضافاً إلى: (ذي) كقوله: (عزيز ذو انتقام) أو مقيداً بالمجرمين كقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة:22].
ومما يجب علمه أيضاً أنه ورد في القرآن أفعال أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال في ذات الله عز وجل؛ لكن لا يجوز أن يشتق له تعالى اسم منها ولا تطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات، كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، وقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
فلا يطلق على الله تعالى أنه مخادع ولا ماكر ولا ناس ولا مستهزئ ونحو ذلك، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولا يقال: الله يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ ولكن هذا فعله بالمخادعين ومكره بالماكرين واستهزاؤه بالمستهزئين ونسيانه للذين نسوه.
وهي في هذا السياق مدح وكمال.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وفي كتاب الله من ذكر أسمائه وصفاته أكثر من ذكر آيات الجنة والنار، وإن الآيات المتضمنة لأسمائه ولصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد.(16/5)
استشعار اسم الله تعالى الرقيب(16/6)
المواضع في القرآن التي ورد فيها ذكر اسم الله: (الرقيب)
من أسمائه جل في علاه: الرقيب، ورد هذا الاسم في القرآن ثلاث مرات في سورة المائدة في قوله تعالى مخاطباً عيسى عليه السلام يوم القيامة في مشهد عظيم وموقف جسيم {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116 - 118].
فمن هم الناجون في ذلك اليوم؟ اسمعوا رعاكم الله! {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، لن ينجو إلا أهل الصدق والإخلاص {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:119 - 120].
وجاء ذكر الرقيب في قوله تعالى في آية من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، قال ابن جرير في قوله: (إن الله كان عليكم رقيباً) يعني: إن الله لم يزل عليكم رقيباً حفيظاً، محصياًً عليكم أعمالكم ومتفقداً أحوالكم.
وجاء ذكر الرقيب في سورة الأحزاب في قوله جل في علاه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52]، قال الزجاج: الرقيب هو الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال الحليمي: الرقيب هو الذي لا يغفل عما خلق.
وفي نونية ابن القيم: هو الرقيب على الخواطر واللوا حظ كيف بالأفعال والأركان قال السعدي: الرقيب: المطلع على ما أكنته الصدور القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير، فهو سبحانه رقيب على الأشياء بعلمه الذي وسع كل شيء {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7].
وهو رقيب على الأشياء ببصره الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو رقيب على الأشياء بسمعه المدرك لكل حركة وكلام.
فأين أثر هذا في حياتنا؟ إنه يسمع ويرى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فأين أثر هذا في تصرفاتنا, في معاملاتنا, في عباداتنا؟(16/7)
قصة إسلام عمير بن وهب بعد علمه أنه الله مطلع عليه
جاء في السير: بعد معركة بدر وبعد أن عادت قريش تجر أذيال الهزيمة وبعد أن تلقت درساً من معسكر الإيمان قعد صفوان بن أمية وعمير بن وهب في الحجر، فأخذا يتذاكران أصحاب القليب، وكان صفوان بن أمية قد قتل أبوه وأخوه يوم بدر.
فقال عمير لـ صفوان: لولا صبية صغار لا أحد يرعاهم بعدي وديون ركبتني لذهبت إلى المدينة وقتلت محمداً، فقال صفوان: دينك علي وأنا أرعى صغارك على أن تقتل محمداً.
فاتفقا ولا ثالث معهما إلا الله الذي يعلم السر وأخفى، وصل عمير إلى المدينة متظاهراً بأنه جاء لدفع الفداء عن ابنه وهب الذي كان أسيراً عند المسلمين.
فرآه عمر رضي الله عنه فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد وقال: يا رسول الله! هذا عدو الله عمير جاء متوشحاً سيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخلوه علي، فجاء به عمر وقد أخذ بتلابيبه فأوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: أرسله يا عمر! ثم قال: ادن يا عمير! فدنا ثم قال: أنعم صباحاً يا محمد! وكانت هذه تحية الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير أكرمنا بالسلام تحية أهل الجنة {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44].
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا عمير؟ فقال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم، فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟! قال: اصدقني يا عمير! ما الذي جئت من أجله؟ قال: ما جئت إلا لذاك.
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب، ثم قلت أنت: لولا دين علي وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً.
فتحمل لك صفوان بن أمية بالدين ورعاية العيال على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله! نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما يتنزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه وعلموه القرآن وأطلقوا أسيره.
الله أكبر ولا إله إلا الله، تدبر في قوله جل ّفي علاه: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108].
أين أثر هذه الآيات في حياتنا؟! بل أين أثر قوله جل في علاه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غداً للناظرين قريب قال ابن كثير: إن عميراً هذا بعد أن هداه الله للإسلام استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في العودة إلى مكة ليكون داعيةً إلى الإسلام فقال: يا رسول الله! إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم.
فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم، فلحق بمكة، وكان صفوان ينتظر وصوله بين آونة وأخرى، فكان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب قبل عمير فأخبر صفوان عن إسلامه، فغضب غضباً شديداً وحلف ألا يكلمه أبداً ولا ينفعه نفعاً أبداً.
قال ابن إسحاق: فلما قدم عمير مكة وكان شجاعاً مهيباً جاهر أهل مكة بإسلامه ولم يجرءوا على التعرض له، وأخذ يدعو إلى الإسلام.
أسألك بالله من أين أتت الشجاعة؟ لما دخل موسى وهارون على فرعون {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا َخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:45 - 46].
فأخذ عمير يدعو إلى الإسلام ويؤذي من خالفه أذىً شديداً، فأسلم على يديه خلق كثير.
لكن قل لي وقولي لي: كيف أسلم عمير؟! أسلم يوم استشعر عظمة الله ورقابة الله وإحاطة الله بكل شيء.
فهلا استشعرنا ذلك واستشعرنا قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59].
{لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5].(16/8)
استشعار اسم الله تعالى: الحفيظ(16/9)
مفهوم اسم الله: (الحفيظ)
ومن أسمائه جل في علاه: الحفيظ.
وهو الذي حفظ خلقه وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات، ولطف بهم في الحركات والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاؤها.
هل تعرف معنى: (احفظ الله يحفظك) معناها: احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا نتجاوزها.
المعنى: فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمات جميعاً.
وقد مدح الله عباده الذين يحفظون حدوده، فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
نعم! بشرهم إذا حفظوا أوامره وحدوده، حفظهم في دينهم ودنياهم وفي أولاهم وأخراهم.(16/10)
التوحيد أعظم ما يجب حفظه
ومن أعظم ما يجب على العباد حفظه من حقوق الله هو التوحيد، وهو أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، روى البخاري من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ بن جبل قال: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ألا يعذبهم).
فهذا هو حق العظيم الذي أمر الله سبحانه عباده أن يحفظوه ويراعوه، ومن أجل حفظه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وكان الله رقيباً على الجميع {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28].
فمن حفظ توحيده في الدنيا حفظه الله تعالى من عذابه يوم القيامة وسلمه وأمنه، وكان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ويجيره من النار، وإن عذب بسبب ذنوبه إن لم يتب منها فإنه أيضاًً محفوظ بتوحيده من الخلود في النار مع الكفار الذين ضيعوا هذا الحق العظيم.(16/11)
الصلاة من أعظم ما أمر الله بحفظه
ومن أعظم ما أمر الله بحفظه من الواجبات: الصلاة، وما أدراك ما الصلاة؟ قال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9].
فمن حافظ على الصلوات وحفظ أركانها حفظه الله من نقمته وعذابه وكانت له نجاة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).
قال ابن القيم رحمه الله: والصلاة مجلبة للرزق, حافظة للصحة, دافعة للأذى, مطردة للأدواء مقوية للقلب, مبيضة للوجه، مفرحة للنفس, مذهبة للكسل, منشطة للجوارح, ممدة للقوة, شارحة للصدر, مغذية للروح, منورة للقلب, حافظة للنعمة, دافعة للنقمة، جالبة للبركة, مبعدة من الشيطان, مقربة من الرحمن.
وللصلاة تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلي رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبته أسلم.
وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، لا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة.
وسر ذلك: أن الصلاة صلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها وتقطع عنه من الشرور أسبابها، تأمل في قوله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: (يا ابن آدم اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفيك آخره).
ومن حفظ الله للمصلين أن صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، أما من ضيعها، فقد توعده الله بالهلاك والشر العظيم قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
فكيف هي صلاتنا؟ هل حفظناها؟ هل راقبنا الله فيها؟ هل تدبرنا قوله تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]؟ كم مرة تفوتك صلاة الجماعة؟ كم مرة تفوتك تكبيرة الإحرام؟ كم مرة تنام عن الصلاة المكتوبة؟ والله لن يستقيم لحال إلا إذا استقام العبد والأمة في أداء الصلاة.(16/12)
حفظ السمع والبصر
ومما أمرنا بحفظه السمع والبصر والفؤاد، قال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
فاحفظ سمعك فلا تسمع إلا ما يرضيه، واحفظ بصرك فلا تنظر إلا إلى ما يرضيه، واحفظ قلبك فلا يمتلئ إلا بما يحبه ويرضيه، واحفظ عقلك فلا تفكر إلا في طاعته ومراضيه.(16/13)
حفظ الفروج
ومما أمرنا بحفظه الفروج، قال سبحانه: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30]، وقال سبحانه: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
ومدح الله المؤمنين والمؤمنات بذلك فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5].(16/14)
حفظ الأيمان
ومما أمرنا بحفظه الأيمان، فقال سبحانه: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] وقال: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، لأن حفظ اليمين يدل على إيمان المرء وورعه.
فكثير من الناس يتساهلون في الحلف والقسم، وقد تلزمه الكفارة وهو لا يدري، أو يعجز عنها فيقع في الإثم لتضييعه وعدم حفظه لأيمانه.
وبالجملة فالعبد مأمور بحفظ دينه أجمع، فلا يترك منه شيئاً لتعارضه مع هواه ومصلحته، بل هو مطيع لربه على أي حال وفي كل زمان ومكان، لأن ربه يراه ويسمع سره ونجواه وكلما كان وفاء العبد والأمة بحفظ حدود الله وشرائعه أعظم كان حفظ الله له ولها مثل ذلك، قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(16/15)
استشعار اسم الله تعالى: السميع(16/16)
مفهوم اسم الله: (السميع)
ومن أسمائه سبحانه السميع: قال جل في علاه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، أي تسمع وتجيب.
وقال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، وقال عن نفسه: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50].
فهو السميع لأقوال عباده وحركات مخلوقاته، يسمع السر وأخفى، {سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:10 - 13]، فهو سميع ذو سمع بلا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل.(16/17)
قصة المجادلة: (خولة بنت ثعلبة)
جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها قالت: قال لي أنت علي كظهر أمي.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أراك إلا قد حرمت عليه).
تشتكي وترفع شكواها إلى الله قالت: يا رسول الله! إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إلي جاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا فقال بأبي هو وأمي: (والله ما أراك إلا قد حرمت عليه).
قالت تجادل وتشتكي وترفع شكواها إلى الله: لقد أفنى شبابي وأفنى مالي، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أراك إلا قد حرمت عليه).
وما هي إلا لحظات حتى جاء جواب ربها يواسيها ويرفع عنها الظلم والعدوان: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة:1 - 2].
تقول عائشة: تبارك الله الذي وسع سمعه كل شيء، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وتجادله وأنا في ناحية البيت ما بيني وبينها إلا ستار، والله ما سمعت شيئاً من كلامها، وفي رواية: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات! تأمل في قوله يوم ناداه زكريا نداءً خفياً، فسمع الصوت وأجاب الدعاء.
عند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكنا إذا علونا كبرنا فقال: أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعاً بصيراً قريباً).
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] سار عمر يوماً ومعه أبو عبيدة: فالتقته امرأة في الطريق فقالت: إيه يا عمر لقد كنت تسمي عميراً تصارع الفتيان في أسواق عكاظ، ثم ما لبثت أن سميت عمر، ثم ما لبثت حتى أصبحت أميراً للمؤمنين فاتق الله يا عمر! واعلم أن الله سائلك عن الرعية كيف رعيتها.
فبكى عمر بكاءً شديداً، فلام أبو عبيدة المرأة على قسوتها على عمر فقال له عمر: دعها يا أبا عبيدة فهذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فحري على عمر أن يسمع قولها.
سبحانه سميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم وعند اجتماعهم، لا تختلف عليه اللهجات ولا اللغات، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، وقد يعجز القائل عن التعبير عن مراده والله يعلم ذلك فيعطيه الذي في قلبه.
وجاء اسمه السميع مقترناً بغيره من الأسماء: (سميع عليم)، (سميع بصير)، (سميع قريب)، وهي تدل على الإحاطة بالمخلوقات كلها وأن الله محيط بها لا يفوته شيء منها ولا يخفى عليه، بل الجميع تحت سمعه وبصره وعلمه، وفي ذلك تنبيه للعاقل وتذكير للغافل كي يراقب نفسه وما يصدر عنها من أقوال وأفعال، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
ومتى آمن الناس بذلك وتذكروه فإن أحوالهم تتغير من القبيح إلى الحسن ومن الشر إلى الخير وإذا تناسوا ذلك فسدت أخلاقهم وأعمالهم.(16/18)
استشعار اسم الله تعالى: البصير
ومن أسمائه جل في علاه: البصير، أي: له بصر يرى به سبحانه.
ويعني كذلك أنه ذو البصيرة بالأشياء الخبير بها، يبصر كل شيء كبر أو صغر، يبصر ما تحت الأرض وما فوق السماء وما في أعماق البحار: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
لا تراه في الدنيا العيون ولا تخالطه الظنون ولا تغيره الحوادث والسنون، لا تواري عنه سماء سماءً ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره ولا بحر ما في قعره، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
هذه آثار وأخبار نعرفها تمام المعرفة لكن أين أثرها في حياتنا؟ سمع عمر ليلة عجوزاً تقول لبنيتها: امزجي اللبن بالماء، فقالت البنية: أما علمت يا جدة أن أمير لمؤمنين عمر نهى عن مزج اللبن بالماء، فقالت العجوز في لحظة غفلة: وأين عمر حتى يرانا؟ فقالت المؤمنة الموقنة بنظر الله: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا.
قصة يعرفها الصغير والكبير، ولكن أين أثرها في حياتنا وفي معاملاتنا؟ وفي ليلة أخرى يتجول عمر فإذا بامرأة في ظلام الليل تردد هذه الأبيات: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه ولكن تقوى الله عن ذا تصدني وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه الله أكبر! عظموا الله فراقبوه، واستحيوا منه فهابوه.
الله أكبر! عظم الأمر فعظمت الأوامر.
ومر ابن عمر على رويعي غنم في صحراء فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه! فقال: أنا مملوك ومؤتمن، فقال ابن عمر ممتحناً إيمانه: قل للمالك أكلها الذئب! فقال رويعي الغنم الذي امتلأ قلبه خشية من الله: إن قلت للمالك أكلها لذئب فماذا أقول لله؟ ماذا يقول إذا نطقت الجوارح والأركان {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا َعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24 - 25]، فبكى ابن عمر وأرسل إليه من يعتقه وقال له: كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه.
هذه أخبار كلنا يعرفها وسمعها مرات ومرات! لكن أيها الغالي! أيتها الغالية! أين أثر هذا في حياتنا؟ أين أثر هذا في حياتنا؟! ومن معاني البصير: أي الخبير بأحوالهم وأفعالهم يعلم من يستحق الهداية ومن يستحق الغواية {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27]، {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} [الإسراء:17].(16/19)
استشعار اسم الله تعالى: العليم
ومن أسمائه سبحانه العليم: أي: الذي يعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن لو كان كيف سيكون، عليم بكل ما أخفته صدور خلقه من كفر وإيمان وحق وباطل وخير وشر، العالم بالسرائر والخفيات، هو عليم بذات الصدور.
قال السعدي: وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات، وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء.
قال ابن القيم في نونيته: وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وبكل شيء علمه سبحانه فهو المحيط وليس ذا نسيان وكذا يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيف يكون ذاك الأمر ذا إمكان تأمل وتدبر في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ َمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7].
وتأمل في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:60 - 62].
هذه بعض من أسمائه وصفاته جل في علاه فأين أثرها في حياتنا؟ أين الإيمان في حياتنا؟ أين أثر الإحسان في معاملاتنا وعباداتنا؟ إذا أردت أن تعرف مدى إيمانك فراقب نفسك في الخلوات، إن الإيمان لا يظهر في صلاة ركعتين أو صيام نهار بل يظهر في مجاهدة النفس والهوى.(16/20)
من راقب الله نال رضاه
والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل لا ظله رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وآخر دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله.
أف للذنوب ما أقبح آثارها، وما أسوأ أخبارها، وهل تحدث الذنوب إلا في الغفلات والخلوات! يا من لا يقصر لحظة عما يشتهي قل لي من أنت، وما علمك، وإلى أي مقام ارتفع قدرك؟ بالله عليك أتدري من الرجل؟ الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه تذكر وتفكر وعلم أن الله يراه، ونظر إلى نظر الحق إليه فاستحيا من ربه كيف يعصيه وهو يراه.
هيهات هيهات! والله لن تنال ولاية الله حتى تكون معاملتك له خالصة، والله لن تنال ولايته حتى تترك شهواتك، وتصبر على مكروهاتك، وتبذل نفسك لمرضاته، إن أقواماً أحبهم فأحبوه، واشتاق للقياهم فاشتاقوا إليه.
رأى عبد الله بن عمرو الأنصاري ليلة أحد أنه يقتل فأوصى جابراً بأمه وأخواته خيراً فقالت الأم: أين الملتقى يا أبا جابر؟ قال: الملتقى الجنة.
فخرج يريد الموت ويتمناه فأعطاه الله ما تمنى، مقبلاً غير مدبر، فحزن عليه ابنه جابر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع، وإن الله كلم أباك كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فقال: تمن يا عبدي! فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن يا عبدي! قال: رب أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك! قال: فإني أحللت عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً.
ثم جعل الله روحه وأرواح إخوانه الذين قتلوا معه في حواصل طير خضر ترد الجنة فتأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش حتى يرث الأرض ومن عليها، {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لََهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:32 - 35]).
في كل يوم للجنان قوافل شهداء راض عنهم العلام ماذا أقول بوصف ما قاموا به عجز البيان وجفت الأقلام لله در ضياغم من أسدنا لعظائم الأعمال فيها قاموا من كل عاف للحياة مجاهداً وسلاحه الإيمان والإقدام عظموا الله فخافوه، فعظموا أوامره ونواهيه.
كيف لا يعظمونه والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، كيف لا يعظمونه وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(16/21)
التحذير من الغرور بالدنيا
روى الترمذي في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قرأ رسول الله صلَى الله عليه وسلَم: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، قال: قرأها حتى ختمها ثم قال: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد وملك قائم، والله لو تعلمون ما أعلم لضحتكم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُعدات تجأرون إلى الله تعالى).
ومعنى الحديث: لو علمتم ما أعلم من عظمته جل في علاه وانتقامه ممن يعصيه لطال بكاؤكم وحزنكم وخوفكم مما ينتظركم، ولما ضحكتم أصلاً.
يا مذنب الذنب أما تستحي الله في الخلوة ثانيك غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويك اسمع فضيحة العصاة يوم القيامة: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
إياك والاغترار بحلمه وكرمه فكم قد استدرج من عاص وقصم من جبار وظالم! إذا همت النفس بالمعصية فذكرها بنظر الله، لا يكن الله أهون الناظرين إليك.
إذا ما خلوت الدهر يوماً بريبة والنفس داعية إلى العصيان فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني الله الله! في مراقبته الحق جل في علاه! الله الله في الخلوات! الله الله في البوطن! الله الله في النيات! فإن عليكم من الله عيناً ناظرة، فسبحان الذي يراك حين تقوم، وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم.
راقب العواقب تسلم، لا تمل مع الهوى فتندم.
أين لذة المعصية؟ أين تعب الطاعة؟ رحل كل بما فيه.
فليت الذنوب إذا تخلت خلت.
إن كنت تعتقد أنه لا يراك فما أعظم كفرك! وإن كنت تعصيه مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك! وما أقل حياءك! اقبل الموعظة، اعمل بالنصيحة؛ لأنه من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً * كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ * كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:49 - 56].
يا مسكين! بأي بدن ستقف بين يدي الله، وبأي لسان ستجيب! أعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً! فماذا أعددت للنجاة من عظيم عقاب الله وأليم عذابه؟ لا يندفع ذلك إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات! اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك قول الحق في الرضا والغضب ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين يا رب العالمين.
اللهم إنك ترى ما حل بإخواننا في العراق وما حل بإخواننا في فلسطين وما حل بهم في الشيشان وأفغانستان؛ اللهم إنك ترى مكانهم وتسمع كلامهم، فرحماك بهم يا أرحم الراحمين.
اللهم رحماك بالأطفال الرضع، ورحماك بالشيوخ الركع، ورحماك بالبهائم الرتع.
اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مظلومون.
اللهم انصر من نصرهم، اللهم اخذل من خذلهم.
اللهم لا تدع للكافرين قوة في الأرض إلا دمرتها، ولا قوة في السماء إلا أسقطتها، ولا قوة في البحر إلا أغرقتها.
اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض وما نزل من السماء.
اللهم اقلب عليهم البحر ناراً، والسماء شُهباً وإعصاراً، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه يا رب العالمين، أصلح ولاة أمورنا ووفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم أقم علم الجهاد واقمع أهل الشرك والزيغ والفساد، أبرم لأمتنا أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا رب العالمين.
اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا وجهلنا وإسرافنا في أمرنا يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافين.
وصلى اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/22)
السلاح المعطل
الدعاء سلاح المؤمن، به ينتصر المظلوم، ويعطى المحروم، ويشفى السقيم، ويكبت العدو، وللدعاء شروط وآداب يجب الالتزام بها حتى يستجاب الدعاء.(17/1)
شروط الدعاء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة نساءً ورجالاً، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! حياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
عنوان اللقاء أحبتي في هذه الليلة المباركة: السلاح المعطل وهو الدعاء.
وسيتكون الحديث من سهام لا من عناصر، لأن الحديث عن السلاح فكان مناسباً أن نرسل سهاماً إلى المسامع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن القوة الرمي).
السهم الأول: مقدمة عن الدعاء وشروطه.
السهم الثاني: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال:9].
السهم الثالث: سهام الجمعة.
السهم الرابع: الله المستعان.
السهم الخامس: بمن تنتصر الأمة؟ السهم السادس: سؤال يطرح نفسه؟ السهم السابع: سهام عابرة للقارات.
السهم الثامن: كيف تفتح أبواب الجنان؟ السهم التاسع: أجمل وأحلى الأوقات.
السهم العاشر: كيف تعطل السلاح؟ والسهم الأخير: آخر السهام.
فتعالوا أحبتي ننطلق! يوم أن أطلق الأولون سهام الدعاء في الأسحار وأوقات الإجابة، قهروا أعداءهم وسادوا وشادوا، فليس أكرم على الله من الدعاء، فهو العبادة، وهو الذل والانكسار، وهو الرجاء والافتقار، وهو طريق الصبر والانتصار؛ فيه صدق اللجوء وتفويض الأمر والتوكل على الله.
عبادة سهلة ميسرة غير مقيدة بمكان ولا زمان، ولا حال من الأحوال، فهي في الليل والنهار، والبر والبحر والجو، وفي السفر والحضر، وحال الغنى والفقر، والمرض والصحة، والسر والعلانية.
فالدعاء -وايم الله- وظيفة العمر، به يرفع البلاء ويدفع الشقاء، قال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:48].
بالدعاء تستجلب الرحمات وبه العز والتمكين ورفعة الدرجات.
فلله ما أعظم الدعاء! وما أعظم نعمة الله على عباده به! جمعت شروطه وآدابه في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56].
أركانه: الإخلاص، والمتابعة، مع اليقين وحسن الظن بالله، من غير اعتداء بإثم أو قطيعة، مع الاستفتاح بالحمد والثناء على رب الأرض والسماء بما هو أهله، والصلاة على خاتم الأنبياء في أوله ووسطه وخاتمته - فهي للدعاء كالجناح يصعد بخالصه إلى عنان السماء - مع طيب مطعم، وملبس، ومسكن، وإيقان بالإجابة {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فإذا استوفى الدعاء شروطه وانتفت موانعه لا يرد بإذن الله قال سهل التستري: شروط الدعاء سبعه: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.
وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركاناً، وأجنحة، وأسباباً، وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح؛ فأركانه: حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته: الصدق، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.(17/2)
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم
جاء في الأخبار والسير عن عمر رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف فقال: اللهم إنهم قلة فكثرهم، حفاة فاحملهم، جياع فأطعمهم.
ثم نظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه إلى السماء وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض أبداً.
قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده على ظهره، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز ما وعدك، فأنزل الله جل في علاه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، يقول أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: فخفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة -أي إغفاءة قليلة- ثم انتبه ثم قال: أبشر يا أبا بكر! أبشر يا أبا بكر! أتاك نصر الله أتاك نصر الله، هذا أخي جبريل آخذ بعنان فرسه.
لا إله إلا الله! {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:45 - 46].
لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
صدق الرجال مع الله فصدق الله معهم، استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف، فقال: أشيروا علي أيها الناس! فقال المهاجرون: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولجالدنا من دونك، ما تخلف منا رجل واحد، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم تكلم الأنصار فقالوا: يا رسول الله! آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، امض لما أردت ونحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد، والله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله! صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، فوالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فسر بنا على بركة الله.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
نصروا الله فنصرهم، قال عنهم سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:123 - 126].
كيف انتصر هؤلاء؟ انتصروا بالدعاء والتضرع إلى رب الأرض والسماء، باعوا الأنفس والأموال فاشتراها الله، فربح البيع والله.
البائعون نفوسهم لمليكهم الله أمضى بيعهم وتكرما والحاملين إلى الوغى أرواحهم وعلى نحورهم تحدرت الدما قوم كأن وجوههم شمس الضحى طلعت ففر الليل كالح مظلما إن أسدل الليل البهيم ستاره عكفوا على آي الكتاب ترنما أو أشرق الصبح البهيج فلن ترى إلا الكتائب حاسراً ومعمما ملكوا الفؤاد وما دروا يا ويحهم أن الفؤاد بهم يهيم متيما يتلذذون ببذلهم ويرونه حقاً أكيداً للإله ومغنما ربح البيع والله! أن تجعل حياتك كلها خالصة لوجه الله، دعوة لله وجهاداً في سبيل الله، حياة ظاهرها عذاب وضيق، وباطنها عذوبة وبريق، ظاهرها دموع وألم، وباطنها خشوع وأمل، تعب الجسد ونعيم الروح، جسد يمشي على الأرض وروح ترفرف حول العرش.
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]: قال ابن عباس: فضل الله هو الإسلام، ورحمته أن جعلكم من أهل القرآن.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، وقاعدين، وراقدين، أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، يا رب العالمين.(17/3)
سهام الجمعة
السهم الثالث: سهام الجمعة وما أدراك ما يوم الجمعة! أين السابقون يوم الجمعة؟! لا تنصر الأمة إلا بأولئك الذين يرفعون أكف الضراعة إلى رب الأرض والسماء.
في معركة عين جالوت انتظر الملك المظفر قطز بالمسلمين وقت صلاة الجمعة ليباشروا قتال أعدائهم وخطباء المسلمين على المنابر يعجون مع المسلمين إلى الله بالدعاء أن يؤيدهم وينصرهم.
ولما نشبت المعركة واشتدت تعرض السلطان للقتل على أيدي التتار، فأحاط به مجموعة من الفرسان قذفوا بأنفسهم شاهرين سيوفهم يدافعون عنه، وكان منهم فارس ملثم يدافع عنه، فأصابته طعنة قاتلة خر على إثرها صائحاً: صن نفسك يا سلطان المسلمين صن نفسك يا سلطان المسلمين! ها قد سبقتك إلى الجنة ها قد سبقتك إلى الجنة! ولما تبين للسلطان أن الفارس الملثم إنما هو السلطانة زوجته هاله الأمر.
اسمعي رعاك الله اسمعي بارك الله فيك! حمل زوجته حتى أدخلها الخيمة، ووضعها على فراشها، وأخذ يقبل جبينها والدموع تنهمر من عينيه وهو يقول: وازوجاه! واحبيبتاه! فأحست به ورفعت نظرها إليه، وقالت بصوت متقطع وهي تجود بروحها: لا تقل واحبيبتاه! لا تقل واحبيبتاه! ولكن قل: واإسلاماه! ثم ما لبثت أن لفظت أنفاسها الأخيرة.
فوضع السلطان على جبينها قبلة، ومسح دموعه، وترك الشهيدة لمن يتولى تجهيزها، وخرج إلى جيشه فكبر وكبروا، وحملوا واستبسلوا، واشتدت الهجمات، فتقدم السلطان فكشف عن خوذته وألقى بها إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: واإسلاماه واإسلاماه! ودعوات المصلين في المساجد ترتفع إلى رب الأرض والسماء: اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم دمر الشرك والمشركين.
وحمل القائد المظفر قطز ومن معه على التتار حملة صادقة وهم يرددون آيات الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46].
بالصبر والثبات والدعاء تنتصر الأمة على الأعداء، برهبان الليل وفرسان النهار يقهر الكفار.
اعلمي رعاك الله! واعلم بارك الله فيك! أن قيام الليل وإطلاق السهام في الظلام عز في الدنيا وشرف في الآخرة وعون على الأعداء في الجهاد.
سأل عظيم الروم رجلاً من أتباعه - كان قد أسر مع المسلمين - فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم! قال: أخبرك كأنك تنظر إليهم، هم رهبان بالليل، فرسان بالنهار، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، يقفون على من حاربوه حتى يأتوا عليه.
فقال عظيم الروم: لئن صدقت ليملكن موقع قدمي هاتين.
ولقد فعلوا ولقد فعلوا لله درهم.
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرها صحائف من ضياء فما نسى الزمان ولا نسينا وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر: أين المسلمونا نعم أيتها الغالية! تقدمت الأمة يوم أن صامت، وقامت، وحكمت كتاب ربها وسنة نبيها؛ فلما ضيعت الأوامر ضاعت وتعطلت أسلحتها، ولما نسيت أمر الله نسيها، ولم تصب سهامها، وتسلط عليها أعداؤها.
يقول أحد مراسلي الإذاعات عن مجزرة وقعت في كشمير: رأيت مجزرة لم أشهد أبشع منها؛ كان ضحيتها ألفاً من المسلمين، كنت أرى جثثاً بلا رءوس لأطفال ونساء.
لماذا يذبحون؟! لماذا يذبحون ونستكين ولا أحد يرد ولا يبين أللإسلام نسبتنا وهذا دم الإسلام أرخص ما يكون دم الإسلام مسفوك فمن ذا يرد له الكرامة أو يصون تحاصرنا المجازر كل يوم وتهدم في مرابعنا الحصون فكم من مسجد أضحى يباباً وعاث به التهتك والمجون وما ذنب الضحايا غير دين تهون له النفوس ولا يهون(17/4)
الله المستعان
الله المستعان: يوم تعطلت أسلحتنا وسهامنا، فعلوا بنا هذا، فالله المستعان.
إذا حل الأمر الصعب، وادلهم الخطب، وعم الجدب، فالله المستعان.
إذا أظلم الأفق، وضاقت الطرق، وانشق بالمصائب الأفق، فالله المستعان.
إذا جاعت البطون، وأخطأت الظنون، وحلت المنون، فالله المستعان.
إذا قست القلوب، وظهرت العيوب، وكثرت الذنوب، فالله المستعان.
إذا فقد الولد، وقحط البلد، وضعف السند، فالله المستعان.
سبحان من انتشل ذا النون من الظلمات، ونجا نوحاً من الكربات.
سبحان من أطفأ النار لإبراهيم، وجمد الماء للكليم.
سبحان من على العرش استوى، سبحان من يسمع ويرى سبحان الله العظيم.
سبحان من لا يموت، سبحان من تكفل بالقوت، سبحان من وهب النور في الأبصار، وقصر بالموت الأعمار.
لا إله إلا الله، لا نعبد سواه، غالب فلا يقهر، أغنى وأقنى، أضحك وأبكى، وهو رب الشعرى.
لا إله إلا الله! عدد ما خطت الأقلام، وسجع الحمام، وهطل الغمام، وقوضت من منى الخيام.
لا إله إلا الله كلما برق الصباح، وهبت الرياح، وكلما تعاقبت الأحزان والأفراح، عز فارتفع، خضع له كل شيء وركع، أعطى ومنع، خفض ورفع، وأعز وأذل، {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
يهدي ضالاً، ويغني فقيراً، ويغفر ذنباً، ويستر عيباً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء(17/5)
بمن تنتصر الأمة
تنتصر الأمة بأولياء الله الصالحين، بالمخلصين والصادقين الذين رباهم القرآن، أولئك الذين تربوا في روضة القرآن، وفي ظل الأحاديث الصحاح.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم جاءوا إلى الموت يستجدون رؤياه قال الحسن البصري رحمه الله: قراء القرآن ثلاثة أصناف: صنف اتخذوه بضاعة، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، وصنف وضعوا القرآن على داء قلوبهم فاستشعروا الخوف فقاموا في محاريبهم.
بمثل هؤلاء تنتصر الأمة على أعدائها، وبمثل هؤلاء يستسقى الغيث من السماء.
قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لهذا الصنف من حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر.
لما صف المسلمون يوم اليمامة لقتال مسيلمة الكذاب ومن معه، حمل راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة فقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أتيتم من قبلي فبئس حامل القرآن أنا أكون! بات قتيبة بن مسلم ليلة لقائه مع الترك باكياً متضرعاً، فلما أصبح الصباح سأل: أين محمد بن الواسع؟ فبحثوا عنه فوجدوه يصلي ويدعو رافعاً أصبعه إلى السماء، فأخبروا قتيبة بن مسلم بذلك فقال: والله لأصبع محمد بن الواسع أحب إلي من ألف سيف شهير، وألف شاب طرير.
ولما حاصر عمرو بن العاص رضي الله عنه حصن بابليون بمصر طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمده بمدد عدده أربعة آلاف مقاتل يستعين بهم على إتمام فتح مصر، فأرسل إليه عمر أربعة رجال وعلى رأسهم الزبير بن العوام، وكتب إليه: بعثت إليك بأربعة رجال وعلى رأسهم الزبير؛ كل رجل بألف رجل، ولقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جيش فيه المقداد لا يهزم بإذن الله).
بمثل هؤلاء تنتصر الأمة، أولئك الذين إذا رؤوا ذكروا بالله عز وجل، أولئك الذين تنبعث من وجوههم أنوار الطاعة، أولئك الذين قال الله عنهم: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، أولئك الذين إذا قال المرء منهم: يا رب! قال الله: لبيك وسعديك، أولئك الذين تربوا في محاريب الظلام، أولئك الذين تدربوا على إطلاق السهام في صلاة القيام.
لما انتدب الله محمداً صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل قال له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].
وربى محمد صلى الله عليه وسلم أصحابه في تلك المدرسة؛ مدرسة الليل، {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20].
في مدرسة الإخلاص تربى الرجال والنساء، إنها التربية على الصبر، والإخلاص، ومجاهدة النفس، وعلو الهمة.
قال قتادة رحمه الله: لا يقوم الليل منافق -وصدق والله- لا يقوم الليل إلا مؤمن صادق.
فإذا أردت الانضمام إلى ركب الصالحين فعليك بسهام الليل والدعاء.
إن كنت فقيراً تشتكي الفقر فعليك بسهام الليل والدعاء.
إن كنت مظلوماً تريد الانتصار فعليك بسهام الليل والدعاء.
إن كنت قد أثقلتك الذنوب والمعاصي فعليك بسهام الليل والدعاء.
إن كنت مريضاً تطلب الشفاء فعليك بسهام الليل والدعاء.
إن كنت عقيماً تريد الأطفال فعليك بسهام الليل والدعاء.
عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، وملهاة عن الإثم، ومطردة لداء الجسد)، رواه الطبراني في الكبير.(17/6)
سؤال يطرح نفسه
قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: (فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية).
وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
مدح الله سبحانه وتعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واسغفاره ومناجاته بقوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، وقال عن ليلهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
ونفى سبحانه التسوية بين المتهجدين القانتين وغيرهم في قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
من مزايا أهل الليل: أن الله يحبهم ويباهي بهم ويستجيب دعاءهم.
روى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، فذكر منهم: الذي له امرأة حسناء، وفراش حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد، والذي إذا كان في سفر وكان معه رهط فسهروا ثم هجعوا، فقام هو من السحر يتملقني).
قال بعض السلف: قيام الليل يهون طول القيام يوم القيامة.
السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاعوا القيام وإطلاق السهام؟
الجواب
استطاعوا بأمور: منها وأهمها: الصدق والإخلاص.
ومنها: سلامة الصدور، وخلوها من الأحقاد، وتعلقها بالآخرة، فلا هم إلا هم الآخرة.
كان داود الطائي يناجي في الليل: اللهم همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين السهاد.
والأهم منها خوف لازم القلوب وقصر الأمل، لأنه من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، لأن من تفكر في أهوال الآخرة، ودركات جهنم طار نومه وعظم حذره، كما قال طاوس: إن ذكر جهنم طير نوم العابدين.
وكما قال ابن المبارك: إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع ومن ذلك أيضاً: عرفوا فضل قيام الليل يوم تليت عليهم الآيات {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16].
سمعوا قوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لمن أفشى السلام وطيب الكلام وصلى بالليل والناس نيام).
ومن الأمور أيضاً وأعجبها: الحب الصادق، جربوا لذة المناجاة، وحلاوة الخلوة مع الحبيب.
قال أحدهم: أفرح لقدوم الليل لأني أخلو بربي وأكره قدوم النهار لملاقاة الناس.
قال علي البكار: أربعين سنة ما أحزنني شيء سوى طلوع الفجر.(17/7)
سهام عابرة القارات
إن كانت صواريخهم طويلة المدى فصواريخ الدعاء سهام عابرة للقارات.
اسمع واسمعي ماذا يصنع الدعاء! خرج رجل من الصالحين العباد الزاهدين في تجارة فاعترضه قاطع طريق فقال: أقتلك، قال: خذ المال والتجارة، ودعني أمضي في طريقي، فقال: سآخذ المال والتجارة وسأقتلك، فقال العابد الزاهد: دعني أصلي لله قبل أن ألقاه، قال: صل ما بدا لك! فصلى، ورفع شكواه إلى الذي يسمع سره ونجواه، دعاه سراً وناجاه: يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، يا مغيث أغثني! يا مغيث أغثني! يا مغيث أغثني! سلم وأنهى صلاته، فإذا بقاطع الطريق ملقىً على الأرض ينزف دماً وعلى رأسه فارس أبيض، ذو ثياب بيضاء وعمامة بيضاء، على فرس أبيض، فقال من شدة الفرح: من أنت؟! قال: أنا ملك من السماء الرابعة، لما دعوت الدعاء الأول قرقعت أبواب السماء، ولما دعوت الدعاء الثاني ضجت الملائكة في السماء، ولما دعوت الدعاء الثالث قلت: يا ربي! مضطر يناديك، فائذن لي في إغاثته، أنا من جند {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
يا صاحبي في شدتي، ويا مؤنسي في وحدتي، ويا حافظي عند غربتي، ويا وليي في نعمتي، ويا كاشف كربتي، ويا سامع دعوتي، ويا راحم عبرتي، ويا مقيل عثرتي، يا إلهي بالتحقيق، يا ركني الوثيق، يا رجائي عند الضيق، يا مولاي الشفيق، ويا رب البيت العتيق، أخرجني من حلق المضيق إلى سعة الطريق، وفرج من عندك قريب وثيق، واكشف عني كل شدة وضيق، واكفني ما أطيق وما لا أطيق.
اللهم فرج عني كل هم وكرب، وأخرجني من كل غم وحزن، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، يا منزل القطر، يا مجيب دعوة المضطرين، يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا كاشف كل ضر وبلية، ويا عالم كل سر وخفية، يا أرحم الراحمين.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ادع الله يوم سرائك، يستجب لك يوم ضرائك) -إي وربي- (من تعرف على الله في الرخاء تعرف الله عليه في الشدة).
إن الدعاء عباد الله! من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ومن أنفع الأدوية، وهو يدفع البلاء ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل.
لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء، فعليكم بالدعاء عباد الله! رجل يقال له صهيب يسهر الليل، يبكي، ويناجي، فعوتب على ذلك، فقالت له مولاته: أفسدت على نفسك يا صهيب! فقال: إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه.
سبحانك ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، وما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه.
طوبى لقلوب ملأتها خشيتك، واستولت عليها محبتك، فمحبتك مانعة لها من كل لذة غير مناجاتك والاجتهاد في مرضاتك، وخشيتك قاطعة لها عن كل معصيه خوفاً من أليم عقابك.
ما ضر المقبلين على الله ما فاتهم من الدنيا إذا كان الله لهم حظاً، وما ضرهم من عاداهم إذا كان الله لهم سلماً.
ولله در القائل: هنيئاً لمن أضحى وأنت حبيبه ولو أن لوعات الغرام تذيبه وطوبي لقلب أنت ساكن سره ولو بان عنه إلفه وقريبه فما ضر قلباً أن يبيت وما له نصيب من الدنيا وأنت نصيبه ومن ترض عنه أنت في طي غيبه فما ضره في الناس من يستغيبه فيا علة في الصدر أنت شفاؤها ويا مرضاً في القلب أنت طبيبه وصدق الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
والدعاء سلاح المؤمن والمؤمنة، والسلاح بضاربه، فمتى كان السلاح قوياً لا آفة فيه، والساعد قوياً، والمانع مفقوداً، حصلت النكاية في العدو؛ ومتى تخلف واحد من هذه الثلاث تخلف التأثير.
فتدربوا على استعمال السلاح، واعلموا أن العلم بالتعلم، والصبر بالتصبر، والحلم بالتحلم.
فيا معلم آدم وإبراهيم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين.(17/8)
كيف تفتح أبواب الجنان
بالدعاء والتضرع تفتح أبواب الجنان قال سبحانه في سورة الطور: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور:17 - 18].
اسمعي واسمع رعاك الله! إذا استقر المتقون في الجنان دار بينهم هذا الحوار، قال الله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28].
اسمعي واسمع أثر الدعاء! {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:28 - 29].
قال السعدي رحمه الله في قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} قال يتساءلون عن الدنيا وأحوالها، ثم أخذوا في بيان الذي أوصلهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ}، أي في الدنيا كنا خائفين وجلين، فتركنا من خوفه الذنوب، وأصلحنا لذلك العيوب، فكان نتيجة ذلك: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}، أي من علينا بالهداية والتوفيق، وأجارنا وأنقذنا من عذاب الجحيم.
ثم بينوا حالهم وما الذي كان سبباً في فوزهم ونجاتهم، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}، كنا نسأله وندعوه أن يقينا عذاب السموم وأن يوصلنا إلى جنات النعيم، فمن بره ورحمته بنا أنالنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.
سر نجاتهم أنهم عاشوا على حذر من هذا اليوم، عاشوا في خشية من لقاء ربهم، عاشوا مشفقين من حسابه، عاشوا كذلك وهم في أهلهم حيث الأمان الخادع، لكنهم لم ينخدعوا حيث المشغلة الملهية، فرفعوا إلى الله سؤالهم وحاجاتهم، وتضرعوا إليه، طلباً للفوز والنجاة، وهم يعرفون من صفاته أنه البر الرحيم بعباده.
أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء).
في إحدى معارك المسلمين قال المغيرة بن حبيب: لما برزنا للعدو قال عبد الله بن غانم: هذه الجنان تزينت، فعلام آسى من الدنيا، فوالله ما فيها لعاقل مقام، ووالله لولا محبتي لمباشرة السهر بصفحة وجهي، وافتراش جبهتي في ظلم الليل رجاء الثواب وحلول الرضوان، لتمنيت فراق الدنيا وأهلها.
ثم كسر جفن سيفه وتقدم وقاتل حتى قتل، فلما دفن أصابوا من قبره رائحة المسك، فرآه رجل فيما يرى النائم فقال له: يا أبا سراق! ماذا صنعت؟ قال: خير الصنيع.
قال: إلام صرت؟ قال: إلى الجنة، قال: بم؟ قال: بحسن اليقين، وطول التهجد، وظمأ الهواجر، وكثرة الدعاء.
قال: فما هذه الرائحة الطيبة التي توجد من قبرك؟ قال: تلك رائحة التلاوة والظمأ.
قال: أوصني! قال: أوصيك بكل خير.
قال: أوصني! قال: اكسب لنفسك خيراً، لا تخرج عنك الليالي والأيام عطلاً، فإني رأيت الأبرار نالوا البر بالبر، قال سبحانه: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:22 - 27].
حتى تكون منهم فعليك بالدعاء والتضرع، فلقد قالوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27].
ردد وقل: أتيتك سائلاً فارحم عنائي فعندك يا كريم دواء دائي فيا مولى الورى جد لي بعفو ومن بنظرة فيها شفائي رأيت كثير ما أهدي قليلاً لمثلك فاقتصرت على الثناء اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا.(17/9)
أجمل وأحلى الأوقات
أجمل الأوقات هي ساعات الإجابة.
فمنها: عند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبة، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة، وآخر ساعة بعد العصر من ذلك اليوم.
ما أجمل وأحلى تلك الساعات! أما أجمل منها وأحلى منها: فثلث الليل الأخير ساعة السحر، كيف لا وهو وقت النزول الإلهي، أخرج أحمد في مسنده وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ من ذا الذي يستكشف الضر أكشفه عنه؟ حتى ينفجر الفجر).
قال سبحانه: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
جاء في كتب التفاسير أنه لما قال أبناء يعقوب له: {اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف:97] أخرهم إلى السحر لقوله: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} [يوسف:98].
وفي الزهد لـ ابن حنبل: (أن داود عليه السلام سأل جبريل عليه السلام: يا جبريل! أي الليل أفضل؟ قال: يا داود! لا أدري إلا أن العرش يهتز من السحر).
قلت لليل هل في جوفك سر عامر بالحديث والأخبار قال لم أر حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار! قال صلى الله عليه وسلم: (إن من الليل ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه، وذلك كل ليلة)، فأين السائلون؟! فيا ألله ما أحلى حديثهم ودموعهم، ومناجاتهم في تلك الساعات! فقائل منهم يناجي ويقول: يا خير معبود، ويا خير مسئول، وخير مشكور، ويا خير محمود، ويا خير مقصود، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، اللهم أغلقت الملوك أبوابها، وقام عليها حراسها وحجابها، وبابك مفتوح للسائلين، نامت العيون، وغارت النجوم، وعينك لا تنام يا حي يا قيوم.
وآخر يردد ويقول: إلهي! فرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه، وأنت حبيب المتهجدين، وأنيس المستوحشين.
إلهي! إن طردتني عن بابك، فإلى باب من ألتجي، وإن قطعت عني خدمتك، فخدمة من أرتجي.
إلهي! إن عذبتني فإني مستحق العذاب والنقم، وإن عفوت فأنت أهل الجود والكرم.
إلهي! أخلص لك العارفون، وبفضلك نجا الصالحون، وبرحمتك أناب المقصرون، يا جميل العفو أذقني برد عفوك، إن لم أكن أهلاً لذلك، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
فاز -والله- من سبح والناس هجوع، يدفن الرغبة ما بين الضلوع يغشاه سكون وخشوع بذكر الله والدموع هموع سوف يغدو - والله - ذلك الدمع شموع كان بعض السلف يقول: اللهم إن منعتني ثواب الصالحين، فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته، اللهم إن لم ترض عنا فاعف عنا يا أرحم الراحمين.
أين أحباب الرحمن؟! أين خطاب الجنان؟! يا قوام الليل في الأسحار! اشفعوا في النوام، يا أحياء القلوب! ترحموا على الأموات.
يقول مالك بن دينار: سهوت ليلة عن وردي ونمت، فإذا أنا في المنام بجارية كأحسن ما يكون وبيدها رقعة، فقالت: أتحسن القراءة؟ فقلت: نعم، فدفعت إلي الرقعة فإذا فيها: أألهتك اللذائذ والأماني عن البيض الأوانس في الجنان تعيش مخلداً لا موت فيها وتلهو في الجنان مع الحسان تنبه من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقران يقول ابن القيم: عجباً لمن آثر الحظ الفاني الخفيف على الباقي النفيس! فباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات! عجباً للجنة كيف نام طالبها، وكيف لم يدفع مهرها خاطبها! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟! تأمل في قول أهل الجنان: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28]، فكيف غفلت عن تلك الساعة التي ينزل الله فيها إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظيم سلطانه فيقول: هل من تائب؟! هل من داع؟! والله لو قام أهل الحاجات وأهل الذنوب في الأسحار، وسألوا مولاهم، وقدموا الطلبات، ورفعوا الحاجات، وأتبعوها بالاستغفار والآهات، لرقت قلوبهم، وقضيت حاجاتهم، وسترت عيوبهم، وغفرت ذنوبهم، وأقيلت العثرات، ومحيت الزلات.
والله لو شممت رحيق الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور.(17/10)
كيف تعطل السلاح
كيف تعطل ذلك السلاح؟ تعطل يوم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لك)، رواه الترمذي وقال حديث حسن؛ فهل أمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، لعل الله أن يستجيب دعاءنا.
تعطل السلاح يوم أكل الحرام، جاء عند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يمد إليه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له.
تعطل السلاح يوم كثرت الذنوب والمعاصي، جاء في الأثر: (ما طفف قوم كيلاً، ولا بخسوا ميزاناً، إلا منعهم الله عز وجل القطر، وما ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، وما ظهر في قوم الربا إلا سلط الله عليهم الجنون، ولا ظهر في قوم القتل إلا سلط عليهم عدوهم، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا ظهر فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم، ولم يسمع دعاؤهم)، رواه ابن أبي الدنيا والطبراني.
قال يحيى بن معاذ عن هؤلاء: آثروا النوم على القيام، والراحة على الجهاد والمجاهدة.
تعطل السلاح يوم قل المستغفرون بالأسحار.
تعطل السلاح يوم قل فرسان الليل، وقل فرسان النهار، فتطاول علينا الكفار.
قيل لـ إبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، أما قال الله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92].
وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، أما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، أما قال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29].
أكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها، أما قال جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83].
وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، أما قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
وعرفتم النار فلم تهربوا منها، أما قال جل من قائل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].
وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، أما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، أما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، أما قال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].(17/11)
آخر السهام
اسمعي واسمع! يا من توقن أنك لا شك راحل، قم في الدجى قيام مشفق سائل، وأجب منادي: هل من سائل، لعلك ولعلك تحظى بالقبول، وتفوز بالمسئول، وتدرك المطلوب والمأمول.
لله در أقوام هجروا الدنيا وتركوها، وطلبوا الآخرة بالجد وآثروها، إن جاء النهار قطعوه بالصيام، وإن جاء الليل نصبوا أقدامهم للقيام.
لله درهم؛ أبصروا عيوب الدنيا وميزوها، عرفوا طرق الجنة فسلكوها، وعرفوا طرق الضياع وتجنبوها، إن أظلم الليل صفوا أقدامهم وانصبوها، وإن أقبل النهار حفظوا جوارحهم وكفوها.
لله درهم كم تعبت أبدانهم بين جوع وسهر، كم كفت جوارحهم عن لهو وبطر، كم حفظوا ألسنتهم وأعينهم عن الكلام والنظر، كم تغنوا بكلامه والقلب خاشع وحاضر في السحر.
يا حسنهم والليل قد أجنهم ونورهم يفوق نور الأنجم فماذا أعد الله لهم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
اللهم إنا نعوذ بك من بدن لا ينتصب بين يديك، ونعوذ بك اللهم من قلب لا يشتاق إليك، ونعوذ بك من دعاء لا يصل إليك، ونعوذ بك من عين لا تبكي عليك.
سبحانك يا من تفرد بك المتفردون في الخلوات، وسبحانك من سبحت لعظمتك الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك اصطفت الأمواج المتلاطمات، أنت الذي سجد لك سواد الليل، وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، وكل شيء عندك بمقدار.
يا مؤنس الأغوار في خلواتهم، يا خير من حطت به النزال، سبحانك لك الجمال والجلال، ولك الكمال.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك اللهم من سخطك والنار، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
نسألك اللهم إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وصلاةً خاشعةً، وعلماً نافعاً، ورزقاً حلالاً واسعاً، اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله إنك سبحانك أهل التقوى وأهل المغفرة.
أستغفر الله العظيم.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(17/12)
الغفلة
إن الله سبحانه وتعالى كتب الموت على كل حي فلا يبقى إلا وجهه، وقد أنزل الله كتابه ليحكم الإنسان، وأنزل سنة رسوله لتنظم حياته، فإن زاغ عن طريق الحق اعترته الغفلة حتى يأتيه الموت وهو على أسوأ خاتمة، وشتان بين الوجل الخائف من الموت الذي يوفقه الله لحسن الخاتمة، وبين الغافل الذي يركض وراء الدنيا وملذاتها، فيموت على سوء خاتمة والعياذ بالله.(18/1)
اغترار الناس بالدنيا
الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة الأخيار! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، أسأله سبحانه أن يجمع شملنا، ويوحد صفنا، ويصلح ولاة أمورنا، وأن ينصرنا على القوم الكافرين.
إلى متى الغفلة؟ وها هو الموت يتخطف الناس يمنة ويسرة، فلا يكاد يمضي يوم إلا والمستشفيات تودع رجالاً ونساء، صغاراً وكباراً، والمقابر تستقبلهم.
جاء في الآثار أن الدنيا تمثلت لعيسى بن مريم في صورة عجوز حسناء عليها من كل زينة فقال لها: كم تزوجت، قالت: كثير، قال: أكلهم مات عنك أم طلقك؟ قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: تعساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(18/2)
الغفلة مرض قلبي خطير
إن الأمراض التي تصيب بني آدم على نوعين: أمراض تصيب الأبدان، ومنها نفر إلى الطبيب ونطلب العلاج.
وأمراض تصيب القلوب، وهي أشد فتكاً، وأشد خطراً من أمراض الأبدان؛ لأنها لا تكتشف إلا عند ساعات الموت؛ ولأن أمراض القلوب تؤدي إلى خسارة الدنيا وخسارة الآخرة، وتؤدي إلى فساد الدين؛ لذلك كانت أشد خطراً من أمراض الأبدان.
إن حياة القلوب حياة للأبدان، وموت القلوب موت للأبدان، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4]، لكن القلوب خاوية، والناس اليوم يشكون من قسوة القلب.
إنها الغفلة التي استحكمت على حياة كثير من الناس، إنها مرض خطير، تصد عن الهداية، وتنسي الآخرة، سيظل الإنسان في غفلته ما بين راحة وجيئة حتى يفاجئه الموت، فإذا جاءه صاح بأعلى الصوت: رباه ارجعون، يريد أن يداوي ذلك القلب، يريد أن يذهب إلى الطبيب، ويبحث عن علاج لهذا القلب المريض.
أقول أحبتي: رجل من أهل الخير مر عليه رجل من أهل الغفلة فقال له: يا أبا فلان! الحالة التي أنت عليها هل ترضاها للموت؟ قال: لا، فقال له: هل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟ قال: ما اشتاقت نفسي بعد، قال: هل يوجد بعد هذه الدار دار فيها معتمل؟ قال: لا، قال: وهل تضمن أن لا يأتيك الموت وأنت على هذه الحال؟ قال: لا، قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال! اسأل نفسك: الحالة التي أنت عليها هل ترضاها للموت؟ انتهى الأجل، وانقضت الساعات، وأزف الرحيل، أمستعد أنت لمغادرة هذه الحياة، والانتقال إلى حياة أخرى؟ فالغفلة مرض خطير، حذرنا القرآن منها فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
وما غفل الناس إلا لاشتغالهم بأمور دنياهم بشهواتهم ولذاتهم، قال الله جل في علاه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [الأنبياء:1 - 3].
الغفلة أودت بحياة كثير من الناس، سببها الانشغال بالدنيا، ونسيان الموت، غفلنا عن الموت وسكراته، غفلنا عن القبر وظلماته، غفلنا عن اللحد وضمته، غفلنا عن السؤال وشدته، غفلنا عن يوم القيامة وكرباته، غفلنا أن المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد عنه براءه وإنه للفيصل الذي به يعرف ما للعبد عند ربه والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران إن يك خيراً فالذي من بعده خير عند ربنا لعبده وإن يك شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد مر علي على أهل القبور فقال: يا أهل القبور! إما تخبرونا خبركم أو نخبركم بأخبارنا، أما أخبارنا: فإن البيوت قد سكنت، والنساء قد تزوجت، والأموال قد قسمت.
ثم قال: أما والله لو تكلم أهل القبور لقالوا: تزودوا فإن خير الزاد التقوى، أمرنا بعمارة الأعمار، واستغلالها في الطاعات؛ لأن العمر الذي نحياه عمر واحد، إذا مضى لا يرجع أبداً، فاغتنم هذا العمر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم الحياة قبل الممات، اغتنم الشباب قبل الهرم، اغتنم الصحة قبل المرض، اغتنم الفراغ قبل الانشغال، اغتنم الغنى قبل الفقر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)، تأمل في حال الناس اليوم حتى ترى مقدار الغفلة التي يعيشها كثير من الناس إلا من رحم الله.(18/3)
من أحوال الغافلين ترك الصلوات
من أحوال الغافلين النوم عن الصلوات، بل ربما لا يصلون، ينامون عن الصلوات مرات ومرات، ومنذ أشهر مضت مات شيخ في السبعين من عمره، فجاءني سائل يسأل ويقول: يا شيخ! ما حكم الصلاة على من لا يصلي؟ قلت: ما الخبر؟ قال: مات شيخ كبير في حينا تجاوز السبعين من عمره ما رأيناه قط في المسجد، وما رأيناه صلى يوماً ولا ركع لله، وعندما سئل أهله عن أخباره، قالوا: ما رأيناه يوماً يصلي! أي غفلة هذه؟ تمر بنا الأيام، وتنقضي بنا الليالي، وأنا وأنت نسير إلى النهاية التي لابد منها، أين الاستعداد للرحيل.
كان أحد الصالحين يقوم في هجيع الليل الأخير يرقى على أعلى مكان في قريته، ينادي بأعلى صوته يذكر الناس: الرحيل! الرحيل! الرحيل! حتى جاء يوم انقطع ذلك الصوت، فسأل عنه أمير القرية فقيل له: مات، قال: لا زال يذكر الناس بالرحيل حتى رحل هو.
لا يزال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمال فأصابه متيقظاً متشمراً ذا أهبة لم تلهه الآمال والله ما حال بين الناس وبين الاستعداد للآخرة إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، فلا تراهم يصلون، بل ينامون عن الصلوات، بل قد لا يركعون ولا يسجدون.
مجموعة من الشباب لقيتهم على إحدى الطرقات فركبوا معي، ثم دار بيني وبينهم هذا الحديث: قلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد المكان الفلاني.
قلت: ما هو هدفكم هناك؟ قالوا: نبحث عن وظائف وأعمال.
سألتهم عن المؤهلات فلا تكاد تذكر، لا يحملون من الشهادات الدراسية أو المهنية شيئاً يذكر، سألتهم: كيف أنتم مع الصلاة؟ لعلمي يقيناً من كتاب الله وسنة نبيه أن الصلاة مفتاح البركات، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
فقال الأول: أتريد الصدق أم تريد أن أكذب عليك؟ قلت: إن كذبت فأنت تكذب على نفسك، أما أنا فلا يضرني.
قال: يا شيخ! أنا لا أصلي.
قلت: كافر؟ قال: لا.
قلت: هذا حكم الله وحكم رسوله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
أما الثاني فقال: أنا أحسن منه حالاً، قلت: كيف؟! قال: أنا أصلي في اليوم مرتين.
قلت: إن هذا الأمر عجب، الله أمرنا بخمس صلوات، وأنت تصلي صلاتين، أي غفلة هذه؟ أما بني الإسلام على خمس؟ هل ممكن أن مسلماً يغفل عن هذه الأركان أو يجهل هذه الحقيقة؟ إنه عبد مأمور بأداء خمس صلوات.
أما الثالث فكان أعجب من الاثنين، قال: أنا أحسن حالاً، أنا أصلي من الجمعة إلى الجمعة، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي والله لن يستقيم حال المرء حتى يستقيم في صلاته، والله لا يتغير حال الإنسان من حال إلى حال حتى يضبط أمر صلاته، قال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلاة.
فترى الغافلين لا يصلون، وانظر في غفلة المجتمع كله اليوم، إذا أذن المؤذن: الصلاة خير من النوم، فإذا خرجت إلى الشارع لا تكاد ترى سيارة تتحرك، ولا تكاد ترى إنساناً يسير، وتدخل المسجد فترى أباً أو شيخاً أو قلة من الشباب الذين هداهم الله، والبقية في غفلة لا يعلمها إلا الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179].
وبعد أذان الفجر بساعة تلاحظ مقدار غفلتنا، إذا نادى منادي الدنيا: حي على الأعمال، حي على الوظائف! امتلأت الشوارع بالغادين والرائحين صغاراً وكباراً، ذكراناً وإناثاً، والبيوت بعد غفلتها هبت من نومتها واستعدت لطلب دنياها.
كيف يتغير واقع الأمة وهي لا تزال تعظم دنياها أكثر من تعظيمها لأوامر الله، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].
فتراهم لا يصلون، ويتساهلون في الصلوات، وتراهم يطلقون النظرات يمنة يسرة في حلال وفي محرمات، وتراهم قد هجروا القرآن، وأكبوا على الأغنيات بالليل وبالنهار، والليل والنهار عندهم سواء.(18/4)
تحذير للسلف من الغفلة
أما أهل الصلاح فإن لليلِ والنهار معنى آخر عندهم، كان عمر بن عبد العزيز يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل أنت فيهما.
وكان الصديق يوصي عمر قائلاً: إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً في النهار لا يقبله بالليل.
فأين نحن من هذه الحقوق والواجبات؟ فما وصلت الأمة إلى الحالة التي وصلت إليها إلا لغفلة الشباب والشيب.
زار أبو ذر مكة بعد طول غياب فرأى من أهلها عجباً، رآهم قد تطاولوا في البنيان، ورآهم توسعوا في المأكل والمشرب، فنادى بهم وهو يطوف حول الكعبة، فقال: يا أيها الناس! أنا جندب بن جنادة، وأنا لكم ناصح مشفق أمين.
فأقبلوا عليه، فقال: أرأيتم لو أن رجلاً أراد السفر، أليس يأخذ من الزاد ما يبلغه في سفره؟ قالوا: بلى، قال: فإن سفر الآخرة أطول ما تريدون فخذوا له ما يبلغكم، قالوا: وما يبلغنا؟! قال: صلوا في ظلمة الليل لظلمة القبور، وحجوا حجة لعظائم الأمور.
واجعل الدنيا مجلسين: مجلساً في طلب الآخرة، ومجلساً في طلب الدنيا، وآخر يضرك لا تَرِدْه، واجعل الدرهم درهمين: درهماً تنفقه في سبيل الله، ودرهما تنفقه على نفسك وعيالك ومن عندك، وآخر يضرك لا ترده، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون فتطيلون، قتلكم حرصٌ على الدنيا لستم ببالغيه.
أقول: إلى الله المشتكى، كيف لو جاء أبو ذر ورأى أحوالنا؟ ورأى القصور الشاهقة لا يسكنها إلا اثنان أو ثلاثة؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى أرصدتنا في البنوك الربوية؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى نساءنا وأطفالنا يتمايلون مع المعازف والألحان؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى ليلنا أمام الشاشات والقنوات؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى الملاعب تغط بالبنين والشباب؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى عباد البقر يهدمون مساجدنا؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى عباد الصليب ينتهكون حرماتنا وأعراضنا؟ كيف لو جاء أبو ذر ورأى أحفاد القردة والخنازير يتلاعبون بنا؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون، فما وصلنا إلى هذه الحال إلا من غفلتنا، وما أوتينا من قبل قوة القوم، ولكن أوتينا من ضعفنا، ومن غفلتنا، أما آن الأوان أن نسمع المواعظ فنتعظ، ونسمع النصائح فنتغير ونتبدل.
أما آن أن نتذكر أن الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، ولا يعرف صيفاً ولا شتاء، ولا ليلاً ولا نهاراً.
أما آن أن نعرف أنه ينتظر كلاً منا شدائد وأهوال، وفي القبر ضمة وسؤال.
إنها ثلاثة أسئلة ستطرح على كل واحد منا: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ ولا تظن أن قضية الإجابة بالقضية السهلة، فإنه لن يستطيع أهل الغفلة الإجابة، ولن يجيب إلا أصحاب القلوب الحية ثباتاً وتثبيتاً من الله جل في علاه، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(18/5)
الغفلة تصد عن الحق
الغفلة تصد عن الحق، وتصد عن اتباع المواعظ، وتصد عن استماع النصيحة، قال جل جلاله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
فماذا أعددت للموت وسكراته؟ وماذا أعددت للقبر وظلماته؟ وماذا أعددت ليوم مقداره خمسون ألف سنة؟ وماذا أعددت لسؤال وجواب في ذلك اليوم العظيم؟ ستسأل عن الصلوات، وستسأل عن النظرات، وستسأل عن الكلمات، وستسأل عن كل صغيرة وكبيرة.
مر الحسن البصري على مجموعة من الشباب، ومن بينهم شاب يضحك بأعلى صوته، فقال له الحسن: هل مررت على الصراط؟ قال: لا، قال: هل تدري إلى الجنة يؤخذ بك أم إلى النار؟ قال: لا، قال: إذاً: على ماذا هذا الضحك؟ إلى متى أحبتي! ونحن ندفن موتانا ولا نعتبر؟ إلى متى ونحن نودع الصغار والكبار ولا نزدجر؟ ندخل المقابر مرات ومرات وغطاء الغفلة لا زال يخيم على القلوب.
كان السلف يقولون: إذا سرنا في جنازة لا نرى إلا متقنعاً باكياً.
وانظر في واقعنا إذا سرنا في الجنازات اليوم، كانوا يقولون: كنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين، واليوم لا ندري من نعزي لكثرة الضاحكين، وعند المصائب والآلام تدخل المقبرة حين توديع الأموات فلا ترى الناس يتأثرون، فإذا لم تؤثر المقابر وأخبار أهل القبور فينا وتغير من أحوالنا فما الذي يؤثر فينا ما الذي يغير الواقع؟ إن مصير الغافلين مصير مظلم لا يعلمه إلا الله، تخونهم الذنوب والمعاصي في ساعة هم أحوج ما يكونون للتثبيت من الله جل في علاه.(18/6)
قصص من الواقع عن أحوال الغافلين والصالحين عند الموت
الغفلة تصد عن الحق، وتصد عن اتباع المواعظ، وتصد عن استماع النصيحة، قال جل جلاله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
فماذا أعددت للموت وسكراته؟ وماذا أعددت للقبر وظلماته؟ وماذا أعددت ليوم مقداره خمسون ألف سنة؟ وماذا أعددت لسؤال وجواب في ذلك اليوم العظيم؟ ستسأل عن الصلوات، وستسأل عن النظرات، وستسأل عن الكلمات، وستسأل عن كل صغيرة وكبيرة.
مر الحسن البصري على مجموعة من الشباب، ومن بينهم شاب يضحك بأعلى صوته، فقال له الحسن: هل مررت على الصراط؟ قال: لا، قال: هل تدري إلى الجنة يؤخذ بك أم إلى النار؟ قال: لا، قال: إذاً: على ماذا هذا الضحك؟ إلى متى أحبتي! ونحن ندفن موتانا ولا نعتبر؟ إلى متى ونحن نودع الصغار والكبار ولا نزدجر؟ ندخل المقابر مرات ومرات وغطاء الغفلة لا زال يخيم على القلوب.
كان السلف يقولون: إذا سرنا في جنازة لا نرى إلا متقنعاً باكياً.
وانظر في واقعنا إذا سرنا في الجنازات اليوم، كانوا يقولون: كنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين، واليوم لا ندري من نعزي لكثرة الضاحكين، وعند المصائب والآلام تدخل المقبرة حين توديع الأموات فلا ترى الناس يتأثرون، فإذا لم تؤثر المقابر وأخبار أهل القبور فينا وتغير من أحوالنا فما الذي يؤثر فينا ما الذي يغير الواقع؟ إن مصير الغافلين مصير مظلم لا يعلمه إلا الله، تخونهم الذنوب والمعاصي في ساعة هم أحوج ما يكونون للتثبيت من الله جل في علاه.(18/7)
شباب يموتون وهم يرددون الغناء
أحد الذين يعملون في أمن الطرقات يقول: حادث شنيع حدث أمام أعيننا، سيارتان مسرعتان ارتطمتا وجهاً لوجه، فانطلقنا إلى مكان الحادث.
جئنا إلى السيارة الأولى فإذا الذي فيها قد فارق الحياة، وجئنا إلى السيارة الثانية فإذا فيها ثلاثة من الشباب، والذي يظهر أنهم في ساعات احتضار، أنزلناهم من السيارة، ومددناهم على جانب الطريق، أخذ صاحبي يردد عليهم: قولوا لا إله إلا الله، قولوا لا إله إلا الله، وفجأة ارتفعت أصواتهم بالغناء، وصاحبي يردد عليهم: قولوا لا إله إلا الله، وهم يرددون ألحان الشيطان حتى خمدت أنفاسهم والعياذ بالله.
وهكذا خانتهم المعاصي والذنوب، خانتهم الأغاني، وخانتهم المخالفات، وخانهم الشيطان في تلك اللحظات.
ما عمروا القلوب بالطاعة، ما ملئوا الأسماع بالقرآن، فلا عجب حين قيل لهم: قولوا لا إله إلا الله، فانطلقوا يرددون كلام الشيطان، تخونهم المعاصي عند الموت وبعد الموت، والعياذ بالله.(18/8)
شاب لا يصلي فاسود جلده بعد الموت
يقول أحد الذين يغسلون الموتى: جيء لنا بشاب في مقتبل العمر شديد البياض، فما أن بدأنا بتغسيله حتى انقلبت بشرته من البياض إلى السواد الشديد والعياذ بالله، وصدق الله حين قال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51]، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].
يقول: انقلبت بشرته من البياض إلى السواد الشديد والعياذ بالله، وخفنا من المنظر، وخرجنا من مكان التغسيل، فإذا رجل يدخن خارج الغرفة، قلنا: الميت ميتكم؟ قال: نعم، أنا أبوه.
الأسرة كلها تعيش في غفلة لا يعلمها إلا الله، قلت: ما خبر ميتكم هذا؟ قال: ميتنا هذا لم يكن من المصلين! قال: قلت: خذوا ميتكم أنتم غسلوه وكفنوه، أما حكم الله ورسوله في هذا أنه لا يغسل ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يحمل على الرقاب، ولا يدعى له، ولا يستغفر له، بل تحفر له حفرة في الصحراء يكب فيها على وجهه والعياذ بالله، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].
إنها الغفلة، وما تصنع بأصحابها، ألم نودع أمثال هؤلاء؟ لقد ودعنا أمثال هؤلاء كثيراً، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17] أما آن أن نعتبر بمن مضى؟ خل ادكار الأربع والمعهد المرتبع والظاعن المودع وعدَّ عنه ودعِ واندب زماناً سلفاً سودت فيه الصحفا ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها لشهوة أطعتها في مرقد ومضجع وكم خطىً حثثتها لخزية أحدثتها وتوبة نكثتها لملعب ومرتع وكم تجرأت على رب السماوات العلى ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي وكم غمطت بره وكم أمنت مكره وكم نبذت أمره نبذ الحذا المرقع وكم ركضت في اللعب وفهت عمداً بالكذب ولم تراع ما يجب من عهده المتبع فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع إلامَ تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجاة القضا وحاذري أن تخدعي وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى فإنَّ مثواك غداً في قعر لحد بلقع آهاً له بيت البلا والمنزل القفر الخلا ومنزل السفر الألى واللاحق المتبع بيت يرى من أودعه قد ضمه واستودعه بعد الفضاء والسعة قيد ثلاث أذرع لا فرق أن يحله داهية أو أبله أو معسر أومن له ملك كملك تبع فالكل سيموت: الصغير سيموت، والكبير سيموت، والذكر سيموت، والأنثى ستموت، والغافل سيموت، والصالح سيموت، والله لا يظلم أحداً، أما أهل الغفلة فتأخذهم الغفلات في ساعات احتضارهم، وأما الصالحون فيثبتهم الله عند ساعات احتضارهم.(18/9)
شاب يموت وهو يقرأ القرآن
يقول الذي شهد مشهد الشباب على الأغاني: بعد حين شهدت مشهداً آخر: شاب في مقتبل العمر تعطلت سيارته تحت نفق من الأنفاق، فنزل لإصلاح العطل، فجاءت سيارة فارتطمت به من الخلف، وسقط على الأرض، وتكسرت عظامه، وسالت دماؤه! يقول: أسرعنا إلى مكان الحادث، جئناه فإذا هو في حال لا يعلمها إلا الله، حملناه في السيارة، ويظهر على مظهره الالتزام، فإذا هو يهمهم بأصوات وكلمات لم نميزها حتى وضعناه في الكرسي الخلفي من السيارة، وعندما انطلقنا تبين لنا ذلك الكلام الذي كان يهمهم به، كان يقرأ القرآن بصوت عذب ندي، ما سمعنا أجمل من ذلك الصوت، هو يقرأ ونحن نبكي.
أقول في نفسي: سبحان الله ما كأنه تكسرت عظامه، فقلت في نفسي: ألقنه الشهادة، فأنا صاحب خبرة من المواقف الماضية، يقول: فجأة بدأ صوته يخفت شيئاً فشيئاً، فالتفتُ إلى الخلف فإذا هو رافع إصبعه السبابة يتشهد، ثم سقطت يده على صدره وفارق الحياة.
فهذا لا يحتاج أن تلقنه لا إله إلا الله؛ لأنه عاش على (لا إله إلا الله)، فعرف معنى (لا إله إلا الله)، وبذل حياته من أجل (لا إله إلا الله)، فثبته الله في ساعة احتضاره، لم تتخل عنه الصلوات، ولم يتخلَّ عنه القرآن، ولا تخلى عنه التسبيح والتهليل، بل كان الله معه في تلك الساعة، فغادر الحياة وهو يقول: لا إله إلا الله!(18/10)
ظهور أمارات السعادة على شاب عند غسله ودفنه
وآخر من أحد دعاتنا يقول: جيء بشاب من أهل الصلاح والاستقامة، أحسبه والله حسيبه من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن الحريصين على حب الخير للناس، جيء به إلينا حتى نغسله، فلما بدأنا بتغسيله، وبدأنا بإعداد المسك والكافور، والله الذي لا إله إلا هو لقد فاحت رائحة المسك منه قبل أن نضع المسك عليه، وامتلأت الغرفة بمسك ما شممنا بمثله من قبل.
قال: قلت لصاحبي: هل تشم ما أشم؟ قال: إي والله، فنظرنا في وجهه فإذا هو كالقراطيس من شدة البياض، غسلناه، وكفناه، وأخذناه إلى المقبرة، وكنت ممن نزل في قبره، فلما أعطونا إياه فإذا هو يؤخذ من بين أيدينا، والله ما حملناه، بل أُخذ من بين أيدينا، قلت لصاحبي: أتشعر؟ قال: إي والله.
ووسد التراب، والله ما وسدناه، ووجه إلى القبلة، ووالله ما وجهناه، وكشفت عن وجهه فإذا هو يضحك، فخفت وظننته حياً، لولا أنني أنا الذي غسلته وكفنته! هذا الشاب الصالح لم تخنه الطاعات حتى في قبره، ولم تخنه الصلوات حتى في قبره، إذا مات ابن آدم تبعه عمله، أما أهل الغفلة فتتبعهم غفلاتهم، وأما أهل الطاعات فتتبعهم طاعتهم، وتضيء لهم قبورهم، فإلى متى والناس يوماً بعد يوم يرحلون والحال لا يتغير ولا يتبدل؟ إن المرض في القلوب ولابد من علاجها، وعلاج القلوب لا يكون إلا بالمواعظ القرآنية.
قال ابن القيم: وعلاج القلب في خمسة: قراءة القرآن بتدبر، وقيام الليل.
ولكن الناس اليوم يمكثون أمام الشاشات ساعات وساعات، ويضيعون الواجبات والطاعات، وأحوال أمتنا في كل مكان مآسي وجراحات.
ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أوما لنا سعد ولا مقداد إنَّ علاج القلب بالتضرع في السحر، والارتماء بين يدي الله جل في علاه، والعلاج يكون بتقليل الأكل والشرب والطعام، فما فسدت القلوب إلا لما أثخنت البطون أكلاً وشرباً ولهواً وغفلة، ثم علاج القلوب بمصاحبة الأخيار، والطيور على أشكالها تقع.(18/11)
من أخبار أصحاب القلوب الحية
إنَّ من أخبار أصحاب القلوب الحية، يقول سلمان الفارسي: ثلاثة أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وضاحك ملء فيه لا يدري ربه راض عنه أو ساخط عليه.
وآخر يقول: ما نمت ليلة إلا ظننت أني لا أستيقظ بعدها.
والآخر كلما أراد الخروج من المسجد بكى بكاء شديداً، فإذا قيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: أخاف أن لا أرجع إليه مرة ثانية.
كان حبيب الفارسي إذا أصبح قال لزوجته: إذا مت اليوم فابعثي إلى فلان يغسلني، وابعثي إنساناً يكفنني، واصنعي كذا، واصنعي كذا، فقيل لها: رؤيا رآها، قالت: لا، كل يوم يقول مثل هذا الكلام.
فهذه هي القلوب الحية.
أما عبد الله بن عامر فسمع منادياً ينادي لأذان المغرب وكان في مرض شديد، بل ربما كان ينتظر ساعة الاحتضار، فقال لأبنائه: خذوني إلى المسجد، قالوا: أنت ممن عذر الله، ليس على المريض حرج، قال: والله إني لأستحي أن أسمع النداء فلا أجيب! واليوم يمرون من جانب المساجد كأن الأمر لا يعنيهم، ويسمعون حي على الصلاة، حي على الفلاح فلا يجيب إلا قليل.
قال: خذوني إلى المسجد، فإني والله لأستحي أن أسمع النداء ولا أجيب، فاغتسل وتطيب وتعطر وذهب لأداء صلاة المغرب، فلما سجد السجدة الأولى لم يرفع رأسه بعدها، وما أحلاه من ختام، وما أحلاها من نهاية، قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].
هذه أخبار أصحاب القلوب الحية، فإن لم تكن مثلهم فتشبه بهم، إن التشبه بالصالحين صلاح، وانتبه أن تطلب وقتاً مستقطعاً ووقتاً إضافياً فلا يستجاب لك، خذ بالعلاج إذا أردت الشفاء.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار جيء بالموت على هيئة كبش أقرن أملح بين الجنة والنار، ثم ينادى بأهل الجنة: يا أهل الجنة! تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، ثم ينادى بأهل النار: يا أهل النار! تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون ويقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، فيؤمر بالموت بين الجنة والنار فيذبح، ثم ينادى بأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود فلا موت، وينادى بأهل النار: يا أهل النار خلود فلا موت).
فيقال لأصحاب القلوب الحية: إن لكم ألا تجوعوا فيها أبداً، إن لكم أن تصحوا فيها فلا تمرضوا أبداً، وأن تحيوا فيها فلا تموتوا أبداً، وأن تقيموا فيها فلا تظعنوا أبداً، وأن تشبوا فيها فلا تهرموا أبداً.
ويقال لأهل الغفلة وأهل النار: خلود فلا موت: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12])، فهم يتمنون العودة، ولكن هيهات هيهات! ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
فاتقِ الله عبد الله! وانفض غبار الغفلة، واستعد للرحيل، فإنك قد تمسي ولا تدرك الصباح، وقد تصبح ولا تدرك المساء، والشاب يغتر بشبابه، وإنك تجد أنَّ أكثر من يموت هم الشباب، والشيخ الكبير يغتر بصحته، والمرض يأتي فجأة، وإذا جاء المرض فقد اقترب الموت.
يا عجباً للناس لو فكروا أو حاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها إنما الدنيا لهم معبر لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقى والبر كان خير ما يدخر اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم انصر المستضعفين في كل مكان، في فلسطين والشيشان وفي كشمير والفلبين، وفي العراق وأفغانستان.
اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً.
اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(18/12)
المسيح الدجال
إن فتنة المسيح الدجال من أعظم الفتن، ولذلك ما من نبي إلا وحذر قومه منه، ولقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم منه أشد الحذر، وبين أوصافه وضلالاته وخوارقه، وبين الأسباب التي تعصم من فتنته، وسن لنا دعاء في الصلاة للاستعاذة بالله من شر فتنته، فما علينا إلا أن نمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم حتى نسلم من فتنته وشره.(19/1)
التحذير من فتنة الدجال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! حدثتكم في الجمعة الماضية عن خروج المهدي وعن أحداث تسبق خروجه، وحدثتكم عن صفاته وبعض من أخباره، وحتى يكون الحديث متصلاً سأحدثكم اليوم عن الدجال، وهو أعظم فتنة تمر على البشرية، فما من نبي إلا حذر قومه الدجال، ولكن تحذير نبينا صلى الله عليه وسلم كان أشد؛ لأنه سيخرج في هذه الأمة، وخروجه أمر عظيم وجسيم، وتبلغ فتنته مبلغاً لا يعلمه إلا الله، أما ترى أننا نتعوذ من فتنته في دبر كل صلاة، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت، وأنه يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر عليهم، ويأمر الأرض أن تنبت لهم، إنها والله فتنة عظيمة، لذلك حذر الأنبياء منها، وكان نبينا أشد الأنبياء تحذيراً.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وكان أكثر خطبته عن الدجال والتحرز منه، وكان من قوله: يا أيها الناس! إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال، وإن الله تعالى لم يبعث نبياً بعد نوح عليه السلام إلا حذره أمته، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين أظهركم فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، وإنه يخرج من خلة بين العراق والشام، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً، ألا يا عباد الله فاثبتوا، فإنه يبدأ فيقول: أنا نبي، ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، ولن تروا ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، وربكم ليس بأعور، مكتوب على جبهته: كافر، يقرؤها كل مؤمن كاتب وغير كاتب).
إنها فتنة عظيمة عباد الله! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يخرج حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر، من أجل هذا اخترت الحديث عنه حتى لا تسكت المنابر عن التحذير من فتنته.
فهيا معاً نطوف بين الأحاديث والآثار التي تحذر وتنذر وتخبر عن فتنته، وقد أطيل قليلاً لكني أردت أن يكون الحديث تاماً ومتصلاً من وقت خروجه إلى نهايته.(19/2)
سبب تسمية الدجال بالمسيح وعيسى بالمسيح
أما لماذا سمي الدجال بالمسيح؟ فعلى عدة أقوال: قال ابن فارس: لأن أحد شقي وجهه ممسوح مشوه، وقيل: لأنه ممسوح العين، وهذا ما اختاره أكثر أهل العلم، وقيل: لأنه يمسح الأرض، أي: يقطعها تجولاً في أربعين يوماً، فلا تبقى بقعة في الأرض إلا يطؤها في أربعين يوماً.
وقد يقول قائل: ولماذا سمي المسيح ابن مريم بذلك؟ اختلف في ذلك على عدة أقوال، منها: أنه يمسح على الأعمى والأكمه والأبرص فيبرأ بإذن الله، ويمسح على الميت فيحيا بإذن الله، وقيل: لأنه أمسح الرجل، فليس لرجله أخمص، وقيل: إنه خرج من بطن أمه كأنه ممسوح بالدهن، وقيل: إن حسن الوجه يسمى مسيحاً في اللغة، فعلى هذا يكون على وجهه مسحة جمال وحسن، وقيل غير ذلك.
فلدينا مسيحان: مسيح على وجهه مسحة قبح، ومسيح على وجهه مسحة حسن وجمال.
ويقول البعض عن الدجال: المسيخ، بدلاً من المسيح؛ وذلك للتفريق بينهما، وهذا ليس بصحيح، وإنما يفرق بينهما فيقال: مسيح الهداية ومسيح الضلالة.
فمسيح الهدى يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، ومسيح الضلالة يفتن الناس بما يعطاه من الآيات، كإنزال المطر وإحياء الأرض وغيرها من الخوارق.(19/3)
سبب تسمية الدجال بالدجال
لماذا سمي بـ الدجال؟ فيه أقوال عدة اخترت منها قول ابن دحية الحافظ: قال العلماء: الدجال في اللغة يطلق على عدة وجوه، منها: الدجال بمعنى: الكذاب، وهذا معروف وما أكثره اليوم.
ومنها: الدجال مأخوذ من الدجالة وهو طلاء البعير بالقطران؛ سمي بذلك لأنه يغطي الحق ويستره بسحره وكذبه، كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة والنصب والاحتيال.
ومنها أيضاً: أن الدجال هو الضارب في نواحي الأرض وقطعه لها، يقال: دجل الأرض إذا ضرب في مشارق الأرض ومغاربها.
ويقال: الدجال من التغطية، أي: أن كل شيء غطيته فقد دجلته، فـ الدجال يغطي الحق ويظهر الباطل.
وقالوا كذلك: الدجل من ماء الذهب الذي يطلى به الشيء فيحسن ظاهره وداخله خزف أو عود، فـ الدجال يطلي الأشياء لتصبح في ظاهرها حسنة وهي باطلة.(19/4)
أخبار من فتنة الدجال ودجله على الناس
اسمع رعاك الله وبارك الله فيك عن فتنته ودجله على الناس: جاء في رواية: (وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلي بناره فليستعن بالله وليقرأ فواتح سورة الكهف، فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم عليه السلام) وفي رواية أخرى: (معه نهران يجريان، أحدهما: رأي العين ماء أبيض، والآخر: رأي العين نار تتأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً، وليغمض عينيه، ثم ليطأطئ رأسه فيشرب، فإنه ماء بارد) فجنته نار وناره جنة، لا إله إلا الله! إنها والله لفتنة عظيمة، ولا ينجو منها إلا من صدق مع الله عز وجل.
وإليك مزيداً من الأخبار، فأعوانه وجنوده الشياطين كيف لا وهم أنصار كل باطل وأعداء كل حق؟! قاتلهم الله أنى يؤفكون! جاء في رواية: (وإن من فتنته أن يقول لإعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وبعثت لك أمك، أتشهد أني ربك، فيقول الإعرابي: نعم، فيتمثل له شيطانان على صورة أبيه وعلى صورة أمه، فيقولان له: يا بني! اتبعه فإنه ربك) فهل من فتنة أشد من هذا!(19/5)
العلامات التي تسبق ظهور الدجال وتنبئ بخروجه
عباد الله! ولأن خروجه أمر عظيم وأمر جسيم، فمن سنة الله أن تسبق هذا الحدث علامات تنبئ بظهوره وبخروجه، ومنها: ظهور المدعين للنبوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كل يزعم أنه رسول) متفق عليه.
ومنذ أيام مضت ادعى رجل في اليمن النبوة، وادعى قبله أقوام.
ومن العلامات التي تسبق ظهوره أيضاً: فتح القسطنطينية، عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الملحمة العظمى، وفتح قسطنطينية، وخروج الدجال في سبعة أشهر فقط) حسنه الترمذي.
ومن العلامات ومما نلاحظ في هذه الأيام: تغير الأحوال وتبدل الأشياء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) صححه ابن حجر.
ومن العلامات السابقة لظهوره كذلك: جوع وقحط وحاجة، جاء في حديث أبي أمامة الطويل: قال صلى الله عليه وسلم: (وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد، يأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثم يأمر الله السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله، فلا تقطر قطرة، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله، فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا من شاء الله، فقال أحد الصحابة: وما يكون طعام الناس حينها؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن، وسنده حسن وله شواهد.(19/6)
حال الناس عند خروج الدجال
إن حال الناس عند خروجه في ضعف وضنك وظمأ وجوع وجهل، وهذه أسباب تساعد الدجال على نشر دعواه وسرعة انتشاره، فيخرج ومعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان، ويتبعه من المسلمين سبعون ألفاً من الأغنياء، وأكثر أتباعه اليهود والنساء.
وجاء أنه (يأتيه الأعرابي وقد اشتد به الحال وعظمت عليه المصائب، فيستغل الدجال جهله فيقول له: أرأيت إن أحييت لك إبلك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول الإعرابي: بلى، فيحييها له).
ويكون معه جبل من خبز ونهر من ماء، والناس جائعون ليس معهم خبز ولا ماء، فماذا يمنعهم من اتباعه؟! إنها والله فتنة عظيمة، فالغني يريد أن يزيد في غناه، والفقير يريد أن يخرج من فقره، وأهل البادية في جهل، والنساء ناقصات عقل ودين، واليهود له تبع؛ لأنه منهم.
جاء في رواية: (أنه لا ينجو منه إلا سبعون ألفاً من الرجال وخمسون ألفاً من النساء، والذين يعرفون كذبه يفرون إلى الجبال).(19/7)
وقت خروج الدجال، ومكان ذهابه، ومدة مكثه في الأرض
عباد الله! إن الحديث عن خروج الدجال ومكان خروجه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، أو بوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أكثر من ذكر الدجال وفتنته، فمتى يخرج؟ وأين يذهب؟ وماذا يصنع؟ وكم يمكث في الأرض؟ إليك مزيداً من الأخبار: فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال ليخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة) أي: وجوههم عريضة، صححه الحاكم وأقره الذهبي.
وقال أبو هريرة: أحدثكم ما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (إن الأعور الدجال مسيح الضلالة يخرج من قبل المشرق، في زمن اختلاف من الناس وفرقة، فيبلغ ما شاء الله أن يبلغ من الأرض في أربعين يوماً، الله أعلم ما مقدارها، الله أعلم ما مقدارها).
قالها مرتين.
وقد اختلفت الروايات في تحديد تلك الفترة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين) قال الراوي: لا أدري: أربعين يوماً أو أربعين شهراً أو أربعين عاماً.
وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا قدره)، فانظر كم هم حريصون على صلاتهم؛ لأن الفتن يستعان عليها بالصبر والصلاة.(19/8)
ذكر سبب خروج الدجال
أما سبب خروجه فلقد جاء في حديث حفصة عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إنما يخرج الدجال من غضبة يغضبها)، وأما أول باب يطرقه بعد خروجه فعن ابن مسعود رضي الله عنه: إني لأعلم أول أهل بيت يقرعهم الدجال، قال: أنتم يا أهل الكوفة.
رواه ابن أبي شيبة والطبراني، ورجاله ثقات.
قال أهل العلم: إنما قال ذلك لشدة حبهم للفتن والقلاقل، وليس للصحابي أن يقول ذلك اجتهاداً، إنما هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم.(19/9)
صور من فتنة الدجال وخوارقه
من فتنته وخوارقه أيضاً أنه لا يترك بقعة في الأرض إلا وطأتها قدماه إلا مكة والمدينة، فعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس نقب من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق) رواه البخاري.
وأما إسراعه في الأرض فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله الصحابة عن ذلك: (فقالوا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح) رواه مسلم.
ومعنى ذلك: أن سرعته كالمطر عندما ينزل فتتبعه الريح.
عباد الله! وعلى الرغم من شدة البطش التي عرف بها الدجال وتلك الخوارق التي معه، إلا أنه في الشدائد يعرف الرجال بإيمانهم، ويعرفون بصدقهم، ويعرفون بثباتهم، ويعرفون بتمسكهم بالحق، فلا يخشون إلا الله، ولا يفرون من الموت، واسمع من خبرهم في مواجهة الدجال، فهم يعرفونه لأنه مكتوب على جبينه كافر لا يقرؤها إلا المؤمن، وإن كان لا يقرأ أو يكتب.
فعند مسلم من حديث أبي سعيد قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حديثاً طويلاً، حدثنا عن الدجال فكان فيما حدثنا أنه قال: يخرج الدجال فيتوجه قبله رجل من المؤمنين، فيلقاه المسالح -قوم معهم سلاح من أعوان الدجال وحراسه- فيقولون له: أين تعمد؟ فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال: فيقولون له: أوما تؤمن بربنا! فيقول: ما بربنا خفاء نعرف ربنا، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم -يعني الدجال - أن تقتلوا أحداً دونه؟ قال: فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس! هذا الدجال الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فيأمر الدجال به فيشبح -يمدد على الأرض- فيقول: خذوه وشجوه، أي: اقطعوا رأسه، فيوسع ظهره وبطنه ضرباً، قال: فيقول له الدجال: أوما تؤمن بي؟ قال: فيقول: أنت المسيح الدجال، قال: فيؤمر به فينشر بالمنشار من مفرق رأسه حتى يفرق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائماً، قال ثم يقول لي: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت فيك إلا بصيرة، أنت الدجال، قال ثم يقول المؤمن: يا أيها الناس! إنه لا يفعل هذا بعدي بأحد من الناس، قال: فيأخذه الدجال ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً، فلا يستطيع إليه سبيلاً، قال: فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسبه الناس إنما قذفه إلى النار وإنما ألقى به في الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين) أي: هذا الرجل أعظم شهادة عند رب العالمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(19/10)
حقيقة وجود الدجال وكيفية نهايته(19/11)
حديث الجساسة وحقيقة وجود الدجال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم! صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وإن من تقواه التمسك بكتابه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم الذي حذرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته.
عباد الله!
السؤال
هل الدجال موجود؟ وكيف تكون نهايته؟ فاسمع رعاك الله وبارك فيك.
عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنهما قالت: (خرجت إلى المسجد فصليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور الرجال، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ليلزم كل إنسان مصلاه، ثم قال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكني جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً فجاء فبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن المسيح الدجال، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً، فلعب بهم الموج شهراً كاملاً في البحر، وأرفئوا إلى جزيرة في البحر حين مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة -إما في آخر السفينة أو في القارب الصغير الذي يكون في السفينة- فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثيرة الشعر لا يدرون ما قبله من دبره؛ من كثرة شعر هذه الدابة، فقالوا: ويلك ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة -يعني: التي تجس الأخبار للدجال - انطلقوا إلى هذا الرجل في هذا الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق، قال -أي: تميم -: لما سمت لنا رجلاً فرقنا -يعني: خفنا- منها أن تكون شيطانة، قال تميم رضي الله عنه: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟! قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية فصادفنا البحر حين اغتلم -يعني: ثارت بهم أمواجه- فلعب بنا الموج شهراً ثم أرفأ بنا إلى جزيرتك، فقال: أخبروني عن نخل بيسان -مكان بين الأردن وفلسطين- قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم، قال: أما إنه يوشك ألا يثمر، قال: أخبروني عن بحيرة طبرية، قلنا: وماذا عن شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر -قرية بمشارف الشام فيها عين-، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل بيثرب -يعني المدينة-، قال: أقاتله العرب؟ قلنا له: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه، قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا له: نعم، قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه -قالها وهو الدجال! - قال تميم: فقال لنا: إني مخبركم عني: إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة؛ فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده سيف صلت يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها) وهذا حديث صحيح وصريح وثابت من طرق متعددة.
فـ الدجال موجود، وينتظر فقط أن يؤذن له، والله أعلم.(19/12)
كيفية نهاية الدجال وأتباعه
عباد الله! سيخرج الدجال كما أخبر الصادق المصدوق، فإذا عاث في الأرض فساداً جاء الأمر من الله بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام، ونزول عيسى علامة أخرى من علامة الساعة الكبرى التي أخبر الصادق المصدوق عنها، فينزل عيسى عليه السلام ليكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، لكن لماذا عيسى دون سائر الأنبياء؟ ذلك لأسباب، قال أهل العلم: إن اليهود تدعي أنهم قتلوه وصلبوه، ونزوله إبطالاً لباطلهم: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157]، قالوا: ونزوله دليل على قول من قال: إنه لم يمت، فلدنو أجله ينزل ثم يموت، فكل نفس ذائقة الموت، وقالوا: وجد عيسى في الإنجيل فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] فدعا عيسى عليه السلام ربه أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله دعاءه.
فسيعيث الدجال في الأرض فساداً، ثم ينزل عيسى عليه السلام، فماذا يحدث للدجال إذا رأى عيسى عليه السلام؟ إذا جاء الحق زهق الباطل، وإذا جاء النور تبدد الظلام، وإذا جاء العدل هرب الظلم والظلمة والطغاة، فإذا رأى مسيح الضلالة مسيح الهدى ذاب كما يذوب الملح في الماء.
وهذا منظر بديع حين ينزل عيسى عليه السلام، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان مرفوعاً: (فبينما هو كذلك -يعني الدجال - يعيث في الأرض يمنة ويسرة، إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد نفسه إلا مات حين رؤية عيسى عليه السلام، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه).
الله أكبر إنه منظر جليل بديع يؤذن بنهاية الظلم والكفر والطغيان.
قالت أم شريك في حديث آخر: (يا رسول الله! فأين الناس حينها؟! -أي: أين الناس حين ينزل عيسى عليه السلام؟ - قال: هم يومئذ قليل وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم رجل صالح - يعني: المهدي - فيسير الدجال حتى ينزل فيها يحاصر بيت المقدس، فبينما هو يحاصرهم إذ نزل عيسى عليه السلام، فيعرفه الرجل الصالح فيرجع القهقرى في صلاة الفجر؛ ليتقدم عيسى عليه السلام، فيضع عيسى عليه السلام يده بين كتفيه فيقول له: تقدم فصل فإنها لك قد أقيمت، فيصلي عيسى وراءه، فإذا سلم ذلك الإمام قال عيسى عليه السلام: افتحوا وأقيموا الباب، فيفتح باب بيت المقدس ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وسلاح، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وانماع، ثم ولى هارباً، فيقول عيسى عليه السلام: إن لي فيك لضربة لن تسبقني بها، قال: فيدركه عيسى عليه السلام عند باب لد الشرقي فيقتله عليه السلام، ويهزم الله عز وجل يهوده ويقتلون أشد قتلة، فلا يبقى شيء مما خلق الله دابة ولا شجر ولا حجر يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود، قال صلى الله عليه وسلم: فيكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً عادلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب، ويذبح الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصدقة، فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتملأ الأرض من السلم والعدل كما يملأ الإناء من الماء، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها) فلا جهاد؛ لأنه لا كفر في ذلك اليوم، ثم تتابع أشراط الساعة تلو الأخرى، ثم تعود الأرض إلى كفرها وشركها فلا يبقى على وجه الأرض مؤمن واحد، وعلى هؤلاء تقوم الساعة، ولعلنا في الجمعة القادمة نتابع الحديث إلى قيام الساعة وتتابع الأشراط.
عباد الله! ما نذكر هذا إلا ليزداد المؤمن إيماناً: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:18 - 19]، وحتى ننجو من فتنته، فلا بد من المبادرة بالأعمال الصالحة، والاستعاذة من شره، وحفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، وفي رواية: من آخر سورة الكهف، فإنها تعصم من فتنته.
أسأل الله أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الموحدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين! اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! وسدد رأيهم ورميهم، وصن أعراضهم واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(19/13)
المنافقون
منذ بزغ الإسلام بنوره والمنافقون يدبرون المكائد، ويحيكون الدسائس لإطفاء نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وما أصاب الأمة من نكبات وهزائم إلا بجهود أولئك المنافقون، فخطرهم على الأمة عظيم؛ لأنهم يعيشون بيننا ويتكلمون بألسنتنا، ولشدة خطرهم أنزل الله سورة فضحت مكائدهم وبينت أخلاقهم، وأوضحت سماتهم، والمنافقون موجودون في كل زمان ومكان، وإن اختلفت الوسائل والأساليب، ورغم ما يبذلونه من مخططات للإطاحة بالإسلام إلا أن المستقبل لهذا الدين والعاقبة للمتقين.(20/1)
المعتصم يلبي صوت المفجوعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! منذ قرون مضت هاجم الرومان إحدى بلدان المسلمين، فانتهكوا الأعراض، وسبوا الديار، ودنسوا المقدسات، لكن امرأة واحدة رأت بارقةَ أمل في أحد قادة المسلمين، فرفعت صوتها وصرخت: وامعتصماه! فصاح المعتصم لصيحتها: لبيك أختاه، لبيك أختاه! فأعدَّ العُدَّة وجهز الجيوش لنصرتها، وحين حاول المنجمون الجبناء أن يثنوه عن عزمه ضرب بكلامهم عرض الحائط، وخرج بنفسه على رأس جيوشه حتى وصل إلى عمورية، فأحرقها ولقن الرومان درساً لن ينسوه، وكسر شوكتهم، وأدب جيوشهم، فسطر التاريخ له ذلك، وتسابقت أبيات الشعر تصف ذلك الموقف العظيم.
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب أين الرواية بل أين النجوم وما صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب وخوفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب(20/2)
حال الأمة اليوم
ثم دار الزمان دورته، وتركت الأمة أسباب عزها وقوتها، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) صححه الألباني رحمه الله.
فيا ألله ماذا أصابنا؟! وماذا جرى لأمتنا؟! هاهي أعراضنا تنتهك، ومقدساتنا تدنس باسم السلام والشرعية الدولية! والأعجب من هذا أن ترى كثيراً من أفراد هذه الأمة عاكفين على اللهو والعبث، فهذه بطولات للكرة يتابعونها، وهذه حفلات غنائية يقيمونها! يا ألله! كيف يستطيع صاحب الطعام أن يتلذذ بطعامه؟! وكيف يستطيع صاحب الصبيان أن يمازح ويدلل صبيانه؟! يا ألله! كيف يهدأ لنا بال ويقر لنا قرار، ونحن نرى الأطفال في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وأفغانستان وهم يُقتَّلون في أحضان أمهاتهم؟! ما ذنبهم؟! وما هي جريمتهم؟! والعالم الحيران يرى ويسمع ولا يجيب! يا ألله! كم انتهكت من الأعراض هنا وهناك! وكم ارتفعت أصوات المسلمات: وامعتصماه وامعتصماه! ولكن لا مجيب ولا مواتي! ماذا جرى لأمتي حتى ترضى بالهوان؟! أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقَّاك وطرفي مطرقٌ خجلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عاتباً لبقايا كبرياء الألم ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمي رب وامعتصماه انطلقت ملءَ أفواه الصبايا اليتَّم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم إن ما تعانيه أمتنا ليس بسبب قوة أعدائها، فلقد قهرت أمتنا أقوى وأعتى الأعداء وهي أقل عدة وعتاداً.(20/3)
خطر المنافقين
عباد الله! منذ بداية ظهور قوة الإسلام وعزة أهله، بدأ الأعداء يخططون ويدبرون، وبدأت التكتلات تظهر ضد الإسلام وأهله، وأبرز هذه التكتلات وأخطرها النفاق والمنافقين.(20/4)
خطر المنافقين أشد من خطر الكافرين
إن خطر المنافقين أشد من خطر الكفار والمشركين، ولقد حذر الله منهم فبين أنهم هم الأعداء الحقيقيون، فالعدو الذي يُظهر عداوته أهون بكثير من المنافقين الذين قال الله عنهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
ولشدة خطورتهم وعدائهم كان موقعهم في أشدِّ مواقع النار عقوبة وعذاباً، قال الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145]، فوظيفة المنافقين الدسُّ والوقيعة بين المسلمين، وفتنة ضعفاء الإيمان، ومن أعظم وظائفهم: التعرف على مصادر قوة المسلمين لاستخدامها ضد المسلمين.
ولخطورة النفاق والمنافقين فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحاً أو تصريحاً.
وقد خصهم الله بسورة تتكلم عن أخلاقهم وأكاذيبهم، ففضحت السورة دسائسهم ومناوراتهم، وأظهرت ما في قلوبهم من بغض وكيد للإسلام والمسلمين.
ثم حذر الله في آخر السورة المؤمنين من الاتصاف بصفاتهم ولو من بعيد، ومن أعظمها الغفلة عن ذكر الله وعن الاشتغال بأوامره بالأموال والأولاد، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].(20/5)
وجود النفاق في كل زمان
عباد الله! إن النفاق الذي بدأ بدخول الإسلام المدينة، واستمر إلى وفاته صلى الله عليه وسلم لم ينقطع في أي وقت من الأوقات، وإن تغيرت مظاهره ووسائله من حين إلى حين.
وتأمل في إعلام النفاق الذي تسلط على الأمة اليوم، ففي حين تعبث مروحيات اليهود وطائراتهم في سماء فلسطين وتقصف الآمنين، ترى أن دور قنواتنا التي ملأت فضاءنا تخدر الأمة بالرقصات الغنائية الفاضحة، والمسابقات الفنية والكروية من آسيا إلى أوروبا إلى بطولات كأس العالم! وهاهم أبطال طاش ينتهكون حرمة المقابر، فلم يسلم من سخريتهم واستهزائهم حتى الأموات، ومهما كان هدفهم فالمقابر ليست مكاناً للتمثيل والتصوير، لكن الله المستعان! عباد الله! إن خطر المنافقين عظيم، وأي خطر أعظم من أن تظن أنه معك فإذا هو يحاربك، ويخطط ضدك بالليل والنهار!(20/6)
أبرز صفات المنافقين
لقد شن القرآن عليهم حملة قوية لفضحهم وبيان ما يقومون به داخل الصف المسلم لتضعيفه وتشتيته، وأنا لن أتوسع في ذكر صفاتهم، لكن سأقف مع آيات في سورة النساء ذكرت صفاتاً هي من أخطر صفاتهم، فاسمع بارك الله فيك، وقس هذا على واقعنا اليوم.(20/7)
موالاة الكافرين
من أعظم صفاتهم: موالاة الكافرين، قال الله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:138]، من هم؟ أجاب القرآن: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:139].
فالمنافقون مرضى نفوس، وقد اغتروا بقوة الكافر وسيطرته وظهوره في وقت من الأوقات، وما علموا أن العزة لله رب العالمين، وقد فضحهم الله فقال: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52].
وقد أرعبتهم طائرات أمريكا ودباباتها، وهاهم أبطال الفلوجة يسومون أمريكا وجنودها سوء العذاب، وهاهم أبطال الحجارة يلقنون يهود الدروس يوماً بعد يوم.(20/8)
الكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى
ومن صفاتهم: الكفر والاستهزاء بآيات الله كما قال الله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
ومن عباراتهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أكبر بطوناً، وأجبن عند اللقاء، ثم يعتذرون قائلين: حديث ركب، ونقطع الطريق بالضحك والاستهزاء بالمؤمنين! قال الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فالعذر غير مقبول، {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
وفي كل يوم تطالعنا الصحف والجرائد والمجلات بأصحاب تلك الأقلام التي تهزأ بالدين وأهله، فإن لم يكن فعلهم وكتاباتهم ردة عن الإسلام فماذا تكون؟ وها هو مسلسلهم طاش الذي يفسد صيام الصائمين يتعرض للمجتمع كله بالسخرية والاستهزاء.
ومن العجب أن هيئة كبار العلماء أفتت بحرمة هذا المسلسل، وحرمة مشاهدته، ولا يزال يعرض علينا في كل رمضان، فالله المستعان! فالاستماع والجلوس في مجالس السخرية والاستهزاء ضعف وهزيمة، فأين الحب لله ولآياته، وأين الدفاع عن الدين وأهل الدين؟(20/9)
الشماتة بالإسلام وأهله
ومن صفاتهم: تحيُّن الفرص للشماتة بالإسلام وأهله، قال الله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141].
ولما رجعوا من أحد قال كبيرهم ابن سلول: نصحته -يعني: نصحت النبي صلى الله عليه وسلم -فلم يسمعني وسمع كلام الأطفال.
واليوم يقول قائلهم: ليس للعرب ولا للمسلمين خيار إلا التوسل بأمريكا، قلت: توسَّل بها أنت ومن هم على شاكلتك، وأما أهل التوحيد فلا يدعون إلا الله، ولا يتوسلون إلا بأسمائه وصفاته، وبأعمالهم الصالحة، وبدعاء الصالحين الأحياء.
فعجيب أمر المنافقين! إذا انتصر الإسلام جاءوا يقولون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، وإذا انتصر الباطل جاءوا إلى أهله قائلين: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15].
وقد يخرجون للقتال، ولكن الهدف من الخروج إدخال الضعف والفرقة لا النصر والتمكين، كما قال الله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] والمصيبة: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
لكن الله يطمئن المؤمنين بأن أولئك لن ينتصروا، وأن الغلبة للمؤمنين، قال الله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].(20/10)
المكر والخداع
ومن صفاتهم: ظنهم أنهم سيخدعون الله، كما قال الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142]، إنها والله غفلة عظيمة حين يظنون أنهم سيخدعون الله، وهو يعلم السر وأخفى، والله خادعهم، أي: مستدرجهم وتاركهم في غيِّهم حتى يسقطوا دون أن يُنزل عليهم قارعة؛ استدراجاً منه تبارك وتعالى، فالقوارع والمحن رحمةٌ حين تصيب العباد فتردهم عن الخطأ، والنعمة والعافية استدراج حتى ينتهوا إلى شر مصير، قال سبحانه: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].(20/11)
الكسل والتراخي عن العبادات
ومن صفاتهم التي ابتلينا بها اليوم: الكسل والنوم عن الطاعات، كما قال الله: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة وشوق إلى لقاء الله، والوقوف بين يديه، والاتصال به والاستمداد منه.
وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال!)، وقوله: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، وكان صلى الله عليه وسلم (إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وأخبرنا بأبي هو وأمي أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل قلبه معلق في المساجد).
وقال عدي بن حاتم: ما جاء وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق، وما دخل وقت صلاة إلا وأنا لها مستعد.
فهذا حال المؤمنين الصادقين.
وأما حال المنافقين فلا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، يؤذن المؤذن فلا يتحرك، ويسمع الإقامة فلا يتحرك، وفي آخر الركعات قد ينطلق مرآةً للناس وسمعة! وتراهم نشيطين في طلب دنياهم، كسالى في فعل الطاعات، وكم مرة يسمعون الصلاة: (خير من النوم) وهم في غيهم يعمهون، ثم إذا نادى منادي الدنيا قاموا إليها مسارعين.(20/12)
عدم ذكر الله إلا قليلاً
ومن صفاتهم: أنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً، فهم لا يذكرون الله ولكن يذكرون الناس، وهم لا يتوجهون إلى الله وإنما يتوجهون إلى الناس.(20/13)
التذبذب
ومن صفاتهم قول الله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143]، فشخصياتهم ضعيفة مهتزة غير ثابتة، فإن مالت الريح يميناً مالوا معها، والعكس بالعكس، وبسبب هذه المواقف المهتزة حقت عليهم كلمة الله، واستحقوا ألا يعينهم الله على الهداية، ولن يستطيع أحد أن يهديهم سبيلاً، قال سبحانه: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:88].
ثم يحذرنا الله من سلوك طريقهم والاتصاف بصفاتهم، ويحذرنا من موالاتهم ومحبتهم، ومن يفعل ذلك فقد عرَّض نفسه لعذاب الله وانتقامه، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء:144].(20/14)
مصير المنافقين في الآخرة
بيَّن الله مآل المنافقين ومصيرهم فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145] فهم في الدرك الأسفل من النار بلا أعوان ولا أنصار؛ لأنهم كانوا مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فهذه بعض صفاتهم وأخبارهم، وفي القرآن والسنة من أخبارهم الكثير الكثير، ومن أخطرها أنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويسعون في الأرض فساداً، ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فقاتلهم الله أنى يؤفكون! اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(20/15)
ظهور الحق وفضح النفاق
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، اتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! سينتصر الحق، وسيهزم الباطل، وسيظهر المنافقون على حقيقتهم، لقد فضحهم الله سابقاً وسيفضحهم لاحقاً.
لقد جلس أحد المنافقين في مجلس يضم أشباهه من المنافقين وهو جلاس بن سويد بن حبيب، فقال لجلسائه: لئن كان هذا الرجل صادقاً -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- لنحن شر من الحمير -يعني الحمر الوحشية-، فسمع هذه المقولة ربيبه الغلام المؤمن الصغير عمير بن سعد فقال: والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي، وأحسنهم عندي يداً، وأعزهم علي أن يصيبه شيء يكرهه، ولكنك قلت مقالة لئن قلتها وأخبرت عنك فضحتك، ولئن سكتُّ ليهلكنَّ ديني، والأولى أيسر عندي، فديني أغلى من روحي، ثم مشى الغلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قاله جلاس؛ إذ لابد من فضح المنافقين وبيان حقيقتهم، فحلف المنافق بالله كاذباً بأن عميراً قد كذب عليه وأنه لم يقل ما قال! فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم يمينه اتقاء للفتنة، فاحتار الغلام في أمره، فجاءه العون من السماء، نزل القرآن يؤيّد عميراً ويثبّته ويفضح المنافق ويكفِّره، قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:73 - 74].
ومع عظم جرمهم وقبيح فعلهم، فقد فتح الله لهم الباب ليعودوا، فقال سبحانه: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة:74].
ولقد روي أن جلاساً هذا قد تاب وحسنت توبته، حتى عرف منه الخير والإسلام، فهذه دعوة للمنافقين أن يتوبوا ويرجعوا.(20/16)
العاقبة للمتقين
عباد الله! رغم الأحداث الدامية، والمآسي المبكية هنا وهناك، إلا أننا على ثقة ويقين أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، فمن هديه صلى الله عليه وسلم التفاؤل في أشد الأوقات وأحلك الظروف، ونحن على دربه سائرون.
متفائل واليأس بالمرصاد متفائل بالسبق دون جياد متفائل رغم القيود يذيقنا جمر السياط وزجرة الجلاد متفائل بالغيث يسقي روضنا وسماؤنا شمس وصحو بادي متفائل بالزرع يخرج شطأه رغم الجراد كمنجل الحصاد متفائل يا قوم رغم دموعكم إن السما تبكي فيحيا الوادي والبحر يبقى خيره أتضرُّه ياقومنا سنَّارة الصياد قسماً بمن أسرى بخير عباده وقضى بدائرة الفناء لعاد لتدورُ دائرة الزمان عليهمُ ويكون حقاً ما حكاه الهادي هذا يقيني وهو لي بلُّ الصدىوالكأس غامرة لغلة صادي فاجعل يقينك بالإله حقيقةً واصنع بكفِّك صارماً لسداد وإذا قطعت الرأس من حياتهم لا تنس أذناباً بكل بلاد اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصرهم في العراق والشيشان وكشمير وأفغانستان، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وكن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً، وسدد رأيهم ورميهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم طهر بلادنا وبلاد المسلمين من الفواحش والمنكرات، اللهم ادفع عنا الغلاء والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين! اللهم قيِّظ لأمتنا قادةً مصلحين، وعلماء ربانيين، ودعاة مخلصين يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم افضح المنافقين وفعلهم، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم يا عليم يا خبير! اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب اهزم أمريكا وأعوانها، اللهم اهزم أمريكا وأعوانها، اللهم اهزم أمريكا وأعوانها، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم سلِّط عليهم جندك يا رب العالمين! اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين.
اللهم عليك باليهود ومن هاودهم، والشيوعيين ومن شايعهم.
اللهم عليك بأعداء الملة والدين إنهم لا يخفون عليك ولا يعجزونك يا عليم يا خبير يا قوي يا عزيز! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(20/17)
امتحان في القبر
اختبار العقيدة الصادقة هو الاختبار الذي سنمر عليه جميعاً دون أي استثناء، وذلك في القبر.
وهو اختبار يختلف تمام الاختلاف عن اختبارات الدنيا، فأسئلة هذا الاختبار معروفة ومعلومة عند الجميع، ولكن لن يتجاوز هذا الامتحان إلا من وفقه الله إلى العمل الصالح في الدنيا.(21/1)
اهتمام الناس باختبارات الدنيا وغفلتهم عن اختبار القبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين! غداً يدخل البنون والبنات قاعات الامتحانات، وإننا لنرى من الاستعدادات في البيوت الشيء الكثير، فقد تغيرت مواعيد الطعام والشراب، وتغيرت مواعيد الاستيقاظ ومواعيد المنام، والآباء في قلق والأمهات على حذر، والبنون والبنات أعصابهم متوترة، والبنون يكثرون من المكوث في المساجد والدعاء بعد الصلوات، وطلب الدعاء من فلان ومن فلان، لماذا؟ غداً الامتحانات غداً الامتحانات غداً الامتحانات.
أقول: أربعوا على أنفسكم، فما من امتحان إلا وهناك امتحان أصعب وأشد منه، وهذه القضية هينة، فمن استعد منذ بداية العام فلن يحمل هماً؛ لأنه على مدى العام على أتم الاستعداد، وعلى ثقة برب العالمين أنه سيكون معه وسيثبته ويؤيده، فهو متثبت من نفسه، وأما من فرط وسوّف وأخر حتى قبيل الامتحانات بأيام فهذا حاله لا يعلم به إلا الله، ومن جدَّ وجد ليس كمن نام ورقد، ومن طلب العلا سهر الليالي، وقضية الاستعداد للامتحان لا تأتي قبل الامتحان بيوم أو بيومين، فالقضية فضية استعداد منذ بداية العام.
فأقول: أربعوا على أنفسكم، فمن وفق فبتوفيق من الله تبارك وتعالى، ومن لم يوفق فليرض بقضاء الله وقدره، وإمكانية التعويض موجودة، فهناك دور أول ودور ثان، وإن لم يوفق في الدور الثاني فهناك فرصة أن يعيد العام مرة ثانية.
وماذا سيتقرر على النجاح في هذه الامتحانات؟ انتقال من مرحلة إلى مرحلة، ثم ماذا؟ إن أنهى السنوات الدراسية سيتقدم إلى الوظيفة التي سوف تدر عليه في كل شهر آلاف معدودة من الريالات، ثم على فرض أنه وفق ونال الشهادة ونال الوظيفة ماذا بعد هذا كله؟ غداً سيدخل البنون والبنات قاعات امتحانات مجهزة ومكيفة، فالإضاءة فيها على أكملها وأوجها، وتقرأ عليهم الأسئلة، ويهون عليهم من أمرها، ويمر عليهم من يخدمهم ويسقيهم الماء البارد، ويذكرونهم أن الوقت كذا وكذا، فالأمر هيّن، لكن كيف بي وبك وقد انتقلنا إلى لجنة اختبارات أخرى، وإلى قاعة امتحانات أخرى، وإلى لجان غير اللجان التي نعرفها، إنه مكان امتحان سيدخله القاصي والداني، ولا فرق هناك بين غني وفقير، ولا ذكر وأنثى، ولا عزيز وذليل.
فاللجنة هناك تختلف تمام الاختلاف، ومكان الاختبار أيضاً يختلف تمام الاختلاف.
كيف بك إذا عالجت سكرات الموت وبدأت ساعات الامتحان الرهيبة؟ ساعات لا بد أن تنزل بكل واحد منا، فأنت الآن تفعل كل شيء باختيارك، فتغدو إلى السوق باختيارك، وتذهب إلى الوظيفة باختيارك، بل وتأتي إلى المسجد باختيارك، لكنك لن تموت باختيارك، ولن تدخل القبر باختيارك، بل ستموت رغماً عنك، وستدخل القبر بغير رضاك، فهذا هو الامتحان الذي لا بد أن نستعد له في كل لحظة، فإن كانوا قد حددوا لامتحان الدنيا موعداً فامتحان القبر ليس له موعدٌ معين، بل يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون، فاللجنة هناك تختلف تمام الاختلاف، والمكان أيضاً يختلف تمام الاختلاف.
فمكان الاختبار: (القبر) طوله أذرع قليلة، وعرضه أذرع قليلة، ولا تستطيع الحركة فيه كما تشاء، وهذا الامتحان أنت لا تدري كيف ستكون النتيجة فيه، لكنك على مدى عمر كامل وأنت تستعد لذلك الامتحان.
وأسئلة الامتحان معروفة أعطيتها وتعطاها في كل يوم، وهي أسئلة ثلاثة ستقدم لك في ذلك المكان، والنور والإضاءة غير موجودة، وليس هناك خدمة ولا مكيفات، بل سينقطع عنك الهواء وينقطع كل شيء، وستنقطع عن العالم تماماً، فأنت الآن في عالم آخر وهو عالم القبور، وأنت في عالم الظلمة والتراب الذي يحيط بك من كل الجهات، وأنت لا تدري ماذا سيحدث لك في تلك اللحظات، لكنك أعطيت أسئلة ثلاثة حتى تستعد للإجابة عليها في ذلك الوقت، فمن أفلح في الإجابة عنها فقد فاز، ويرى مقعده من الجنة، ومن لم يفلح وتردد وتلعثم في الإجابة أري مقعده من النار.
وهناك لا مجال للتعويض، فلا يوجد هناك دور ثانٍ تعطاه، فقد أعطيت الفرصة عمراً كامل قدر الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو الستين سنة؛ حتى تستعد للإجابة.
واللجنة هناك ليست كلجان القاعات فيها بشر أمثالنا نتكلم معهم ويتكلمون معنا، ويهونون علينا الأمر، بل هناك ستوسد التراب، وسيحيط بك الظلام من كل ناحية، وسيذهب عنك الأهل والأحباب يا مسكين! وستسمع قرع نعالهم وسينادى عليك: ذهبوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللسؤال عرضوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولن ينفعك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، فالحق أنك ستموت، والحق أن الملائكة ستأتيك: إما ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق أنك ستعرض للسؤال، والحق أنك سترى جنة أو ناراً، فكيف سيكون الحال؟! وكيف سيكون السؤال؟! بل ليت شعري كيف سيكون الجواب؟! وأين سيكون المصير؟! وهل سترى مقعدك من الجنة أم سترى مقعدك من النار؟! إن ساكن الدنيا لا بد أن يعلم أنه سينتقل من هذه الدار إلى دار أخرى، يا ساكن الدنيا! إن مثواك القبر غداً، فماذا أعددت للقبر؟ إن القبر كل يوم يناديك: يا ابن آدم! تمشي في جماعة على الأرض وسوف تقع وحيداً في بطني، وتسرح وتمرح وتضحك على الأرض وسوف تبكي وحيداً في بطني.
يا ابن آدم! تأكل الحرام، وتأكل أموال اليتامى، وتأكل أموال الربا وسوف يأكلك الدود وحيداً في بطني.
يا ابن آدم! تنظر إلى الحرام، وتسمع إلى الحرام وسوف ترى الأهوال في بطني.
والقبر فاذكره وما وراءه فما لأحد عنه براءة وإنه للفيصل الذي به يعرف ما للعبد عند ربه والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران فالأسئلة معروفة يعرفها الصغير والكبير: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ إنه اختبار للتوحيد، واختبار للصدق، واختبار لصدق الاتباع، إنها رحلة سيمر بها كل إنسان منا شاء أم أبى، رحلة تبدأ منذ الاحتضار، بل منذ أن تخرج من هذه الحياة، فقد خرجت من بطن أمك وأنت تبكي على فراق بطن أمك، فلما رأيت النور فرحت أنك قد خرجت من بطن أمك، ثم بعد سنوات وسنوات تأتيك ساعات الاحتضار فتنقل من تلك الدار إلى دار أخرى، فإن كنت قد أعددت لها فستفرح أنك فارقت الحياة، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] ثم ستنتقل أيضاً من تلك الدار إلى الدار الأبدية: إما جنة وإما نار، فهذه مراحل وأطوار يمر بها كل إنسان منا.
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً(21/2)
حديث البراء الطويل في اختبار القبر
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (بينما كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ولما يلحد بعد، جلسنا عند شفير القبر، وكان بيده صلى الله عليه وسلم عصا نكت فيها على التراب ثلاثاً، ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذاب القبر، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة، -يعني في ساعات الاحتضار- جاءته ملائكة بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، وجلسوا منه مد البصر، ثم جاء ملك الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى رب راض عنك غير غضبان، أيتها النفس الطيبة! أبشري بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فتسل روحه كما يسل القطر من السقاء، حتى إذا قبضها ملك الموت لم تدعها الملائكة في يده طرفة عين حتى يلبسوه الكفن الذي من الجنة، ويحنطوه بالحنوط الذي من الجنة، فتخرج منه رائحة كأطيب رائحة مسك وجدت على وجه الأرض، فما يمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا: من صاحب هذه الروح الطيبة؟! فيقال: هذا فلان بن فلان، ينادى عليه بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، ثم يعرج به إلى السماء، حتى إذا جاءوا إلى السماء الأولى واستفتحوا له فتح له، وشيعه مقربو تلك السماء إلى السماء التي تليها، حتى إذا بلغوا السماء السابعة نادى منادي الله: أن اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأرجعوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في قبره، فيأتيه ملكان) وهنا يبدأ الامتحان يأتيه ملكان أصواتهما كالرعد القاصف، وأنفاسهما كاللهب، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فمن منا يستطيع أن يجيب وهذا هو منظر الملكين؟! قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] (فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ فأما العبد المؤمن -العبد الصادق المحافظ على الصلوات التارك للفواحش والمنكرات- فيقول: ربي الله حقاً، ونبيي محمد صدقاً، وديني الإسلام، فينادي منادي الله: أن صدق عبدي، -تظهر النتيجة- فافرشوا له فراشاً من الجنة، وألبسوه لباساً من الجنة، وحنطوه بحنوط من الجنة، ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه رجل أبيض الوجه طيب الشمائل فيقول: من أنت؟! فوجهك -والله- الذي لا يأتي إلا بالخير، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح، فتفتح له نافذة من الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها، ويرى مقعده من الجنة، فيقول: رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة، رب! أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيقال: نم كما تنام العروس) فهذا حال الذي صلى الفجر في جماعة، وهذا حال الذي طهر السمع والبصر فليس عنده أغانٍ ولا شاشات ولا قنوات.
إنه اختبار للتوحيد: من ربك؟ فلن يستطيع أن يقول: ربي الله إلا من أطاع الله، وتعرّف على الله، ولم يخش إلا الله، ولم يستعن إلا بالله، ولم يعط إلا لله، ولم يمنع إلا لله، ولم يغضب إلا من أجل الله، حياته كلها لله؛ فيثبته الله، فهو لم يشرك بالله، ولم يذهب إلى سحرة ولا مشعوذين، ولا كهنة ولا عرافين، ولم يقسم إلا بالله، وما قدم النذور إلا لله، وما ذبح إلا لله، ولم يستغث إلا بالله، فسينجح من كان هذا حاله في اختبار التوحيد والصدق.
(وما دينك؟ قال: ديني الإسلام) أي: الإسلام المبني على خمسة أركان: على شهادة التوحيد، على إقامة الصلوات، فأين المصلون؟ فصلاة الفجر تئن وتشتكي، وباقي الصلوات تئن وتبكي، والمسلمون يمرون على المساجد كأن الأمر لا يعنيهم، ستسأل يا مسكين! فإذا وسد العبد في قبره جاءته الأعمال الصالحة، وجاءته صلاته، وجاءه قرآنه، وجاءه ذكره وتسبيحه وتهليله يدرءون عنه العذاب، فيرسل الله عليه طائفة من العذاب تأتي من رأسه فيردها القرآن، فيقول: والله! إنه كان في الليل والنهار يقرأ القرآن، والله! إنه أتعب ليله ونهاره وهو يقرأ القرآن، فلا مدخل لك عليه، فيأتيه العذاب من بين يديه فترده الصدقات والصلوات وتقول: عنك والله! ما ارتاح إلا الآن في قبره، حتى وضوءه يدافع عنه في قبره، فماذا أعددنا للامتحان؟! وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
يا عجباً للناس لو فكروا أوحاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبرُ لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقى والبر كانا خير ما يدخر نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(21/3)
تابع حديث البراء الطويل في اختبار القبر
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [فاطر:1] لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومن تقوى الله الاستعداد للامتحان، قال جل في علاه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]، فخسارة الآخرة ليست كالخسارة في الدنيا، ولكن الخسارة أن تنادي بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب لك، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
وأما العبد الكافر فقال صلى الله عليه وسلم فيه: (أما العبد الكافر إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال على الآخرة جاءته ملائكة سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار، وحنوط من حنوط النار، وجلسوا منه مد البصر، فيأتيه ملك الموت فيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتسل روحه كما ينزع السفود من القطن، فإذا قبضها ملك الموت لم تدعها الملائكة في يده طرفة عين حتى يلبسوه الكفن الذي من النار، ويحنطوه بالحنوط الذي من النار، فتخرج منه رائحة كأنتن رائحة وجدت على وجه الأرض، ثم يعرج به إلى السماء، فما يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: من صاحب هذه الروح الخبيثة؟! فيقال: هذا فلان بن فلان، ينادى بأقبح أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، حتى إذا وصلوا إلى أبواب السماء واستفتحوا له لم يفتح له، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]) إنها رحلة سأمر بها أنا وأنت شئت أم أبيت، (فيستفتحون له فلا يفتح له، ثم ينادي منادي الله: أن اكتبوا كتابه في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في قبره، فيأتيه الملكان فيقعدانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري) ما صلى الفجر في جماعة، ولا حفظ الجوارح والأركان، وما قدر الله حق قدره، (فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيضربانه بمطرقة على رأسه فيخر في الأرض سبعين خريفاً، حتى إذا أفاق قالا له: وما دينك؟ قال: هاه هاه لا أدري، فيضربانه حتى يخر في الأرض سبعين خريفاً، فإذا أفاق أقعداه وسألاه: ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون كذا وكذا -فتظهر النتيجة- ويقال له: لا دريت ولا تليت، وينادي منادي الله: أن كذب عبدي، فافرشوا له فراشاً من النار، وألبسوه لباساً من النار، وحنطوه بحنوط من النار، ويضيق عليه في قبره حتى تختلف أعضاؤه، فيأتيه رجل قبيح المنظر نتن الرائحة فيقول: من أنت فوجهك -والله! - الذي لا يأتي إلا بالشر؟ فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك السيئ) أنا تركك للصلوات، أنا نومك عن الفجر والعصر، وأنا الأغاني، وأنا الربا، وأنا الغيبة والنميمة، وأنا السب واللعان، وأنا الشاشات والقنوات، فيقول: (من أنت؟ فوجهك -والله- الذي لا يأتي إلا بالشر) {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى:45] فكيف سيكون الحال إذا سئلت وتلعثمت؟ فتطلب الرجوع إلى الله فلا يستجاب لك، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37]، فينادون بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب لهم، (فيفتح له نافذة من النار، فيأتيه من حرها وسمومها، فيقال له: هذا مقعدك من النار، فيصيح بأعلى الصوت: رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة، رب! لا تقم الساعة).(21/4)
الاستعداد لاختبار القبر بالتوبة والعمل الصالح
أنت الآن في فترة الإعداد للاختبار والامتحان، فأسألك بالله العظيم لو جاءك ملك الموت اليوم من الذي يحول بينك وبينه؟ فهل أنت على أتم الاستعداد؟ وهل أعددت للسؤال جواباً وللجواب صواباً؟ هذه أسئلة ثلاثة سأقرؤها عليك، فاكتبها عندك، واستعن بمن تشاء حتى تحل هذه الأسئلة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ فهذه هي الأسئلة، وهذا هو الامتحان.
فوصيتي لك هي وصية جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وإن عزه استغناؤه عن الناس)، فالعز ليس في الشاشات ولا في القنوات، ولكنه في الدعاء والتضرع في الظُلَم.
فكم طلبنا الدشوش -الأطباق- من المصلين مرات ومرات استعداداً للاختبار؟! فما الذي ألهى الناس عن الاستعداد للاختبار؟ أليست هي الشاشات والقنوات التي دمرت أخلاق البنين والبنات!! حتى أصبحت الأعراض والمحارم تنتهك في البيوت، فمن وجد خيراً في قبره فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].
وها نحن نكرر النداء: استجيبوا لله وللرسول، {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47]، فاستجيبوا لله، واستعدوا للاختبار، ولا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، واستعدوا للامتحان قبل أن تنادوا بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب لكم.
اللهم وفق البنين والبنات في امتحانات الدنيا والآخرة، اللهم ثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم ارحمنا إذا وسدونا، وفي التراب وضعونا، وفي ظلمة القبر تركونا، اللهم ثبتنا بالقول الثابت يا رب العالمين! اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنان، ولا تجعلها حفرة من حفر النيران، اللهم ثبتنا بالقول الثابت يا رب الأنام! اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين! اللهم أرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت، وبشهادة عند الموت، وبرحمة بعد الموت يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالد والدينا، ولكل من له حق علينا.
اللهم نور على أهل القبور قبورهم، واغفر لهم وارحمهم ويسر أمورهم، اللهم اغفر لموتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين! واجمعنا وإياهم في جناتك جنات النعيم.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.(21/5)
انتصف رمضان يا دمعة المتهجد
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة إلى العبادة، وإلى تقوية الصلة بالله عز وجل؛ لأن العزة والنصر والتمكين دنيا وأخرى مرتبط بذلك، فما انتصرت الأمة إلا بالعباد والزهاد وبأولياء الله تعالى، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة وقدوة، فهو سيد العابدين وسيد الزاهدين عليه الصلاة والسلام وكذا أصحابه من بعده.(22/1)
حاجة الأمة إلى العباد والزهاد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! انتصف رمضان وبدأ العد التنازلي لأيام رمضان ومن المفترض أنه كلما تقدمت أيام رمضان ولياليه زدنا في النشاط والعبادة، فإن الأجير يوفى أجره إذا انتهى من عمله.
عجيب ما نراه من قسوة في القلوب وهجر للقرآن، فلا يعرف ختم القرآن إلا من رمضان إلى رمضان، يقول تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30]! عجيب ما نراه من تفريط بالنوافل بل بالفرائض، فالصلاة أصبحت مجرد حركات من قيام وقعود! وعجيب ما نراه من تخلف عن تكبيرات الإحرام ورضاً بالصفوف الأخيرة، اعلم أنه: من أراد إدراك المفاخر لم يرض بالصف الآخر! عجيب ما نراه من تكاسل عن الجمعة والجماعة وشح في البذل والصدقات، ما كأن اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.
إن حاجتنا للعبادة كحاجة الأرض للمطر فلا تحيا القلوب إلا بذكر علام الغيوب، نحن في أمس الحاجة إلى تقوية الصلة بالله؛ حتى نكون من أوليائه الذين قال عنهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، وهل تنتصر الأمة إلا بأوليائها، بالعباد والزهاد الصادقين، قال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] أي: تنتصر الأمة بالصادقين والمخلصين وبالذين يدعون ويتضرعون، عن علي رضي الله عنه قال: (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح يناجي ربه ويتضرع: اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة لا تعبد بعد اليوم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، حتى سقط رداءه عن ظهره، فقال له: أبو بكر رضي الله عنه: هون عليك يا رسول الله! إن الله منجزك وعده، ثم غفا إغفاءة، ثم قال: أبشر يا أبا بكر هذا أخي جبريل آخذ بعنان فرسه، فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:9 - 13]) بالعباد والأولياء تنتصر الأمة، برهبان الليل وفرسان النهار.
فأهل العصور الماضية كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، أما اليوم فغفلة وقسوة في القلوب، وانشغال بتوافه الأمور، نحتاج إلى أولئك الذين يثبت الناس برؤياهم وكلامهم.
حكى ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نظرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت منا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، قال الله عنهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
اسمع شيئاً عنهم: عن جعفر بن سليمان قال: بكى ثابت البناني حتى كادت تذهب عيناه، فجاءه رجل يعالجها فقال الطبيب: أعالجك على أن تعطيني شرطاً أشرطه عليك، قال ثابت: على أي شيء أطيعك؟ قال: على ألا تبكي، قال ثابت: فما خيرهما إن لم تبكيا، أما قال الله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم:58]، أما قال الله عن أوليائه: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]، سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع عن سلام بن أبي مطيع قال: جيء للحسن بكوز من ماء ليفطر عليه وكان صائماً، فلما أدناه إلى فيه بكى، فقيل ما أبكاك؟ قال: ذكرت أمنية أهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف:50]، قال وذكرت
الجواب
{ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، أجل إن الله حرمهما على الكافرين: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].
دخلت امرأة على أهل الأوزاعي فنظرت في مصلاه فوجدت بلللاً في موضع سجوده، فقالت لزوجته: ثكلتك أمك أراك غفلت عن الصبيان حتى بالوا في مسجده وفي مصلاه، فقالت زوجة الأوزاعي للمرأة: ويحك هذا أثر دموعه في مسجده وليس من بول الصبيان، لله درهم أما قال الله عنهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، لسان حالهم: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي كان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، فكان من أوصافهم: لا ينامون بالليل ولا يأكلون بالنهار، شعث رءوسهم، بالية ثيابهم، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشاً أوله في منابت الزيتون -يعني: في الشام- وآخره في الصين، لكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول، فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم، وتأمن في عدلهم، يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه(22/2)
صفات أولياء الله تعالى
قال الحافظ ابن حجر: المراد بولي الله: المواظب على طاعته المخلص في عبادته، ومن أعظم ما يتبين به الولي: أن يكون مجاب الدعوة راضياً عن الله في كل حال، قائماً بالفرائض، مجتهداً بالنوافل، تاركاً للنواهي، له هدف غير أهداف الناس الدنيوية، وغير حريص على الدنيا، إذا وصل إليه القليل صبر، وإذا وصل إليه الكثير شكر، يستوي عنده المدح والذم والفقر والغنى، غير معجب بما منَّ الله عليه من خصال الولاية، كلما زاده الله رفعة زاد تواضعاً وخضوعاً، من صفاته: حسن الأخلاق، كريم الصحبة، عظيم الحلم، كثير الصبر والاحتمال، فمن اتصف بهذه الصفات فغير بعيد أن تظهر على يديه الكرامات؛ لأن الله تعالى قال عنه: (إذا سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).(22/3)
عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم
عباد الله! من كان بالله أعرف كان من الله أخوف، فاسمع بارك الله فيك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأوابين وسيد العابدين المتبتلين، لم تتخلف نفسه عن أغراض حياته العظمى قيد أنملة أو قيد شعرة، ولم يخلف موعده مع الله في عبادة ولا جهاد لا في ليل ولا في نهار، ولله در أمهات المؤمنين حين يصفن علو همته صلى الله عليه وسلم للصحابة، فتقول إحداهن: (وأيكم يطيق ما كان يطيق)، وتقول الأخرى: (ما لكم وصلاته صلى الله عليه وسلم)، همة عالية في كل مقامات الدين، فلقد كان صلى الله عليه وسلم سيد المجاهدين والعابدين والصابرين والصائمين والقائمين، كان أعلى الناس توكلاً، وأوفر الناس نصيباً من الرضا والحمد والدعاء والشكر والتبتل، وأعلى الناس يقيناً، وكان أشجع الناس، وأرحم الناس، وأشد الناس حياء، وكان أحسن الناس خلقاً ومروءة وتواضعاً، ومن أكثر الناس مراقبة لربه تبارك وتعالى، ومن أعلى الناس خشوعاً، ومن أشد الناس عبادة لربه، وكان من أطول الناس صلاة، فعن حذيفة: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول: الله أكبر -ثلاثاً- سبحان ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه فكان قيامه نحواً من ركوعه، ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه من السجود فكان يقعد فيما بين السجدتين نحواً من سجوده، ففي أربع ركعات قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة أو الأنعام)، شك الراوي في ذلك.
يقول أبو هالة في وصفه صلى الله عليه وسلم: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة).
تقول عائشة رضي الله عنها: (قام ليلة بآية يرددها حتى الفجر وهو يبكي، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]).
يقول عبد الله بن الشخير: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل).
قال له ربه: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، فانطلق يبلغ دعوة الله، وقال له ربه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2]، فقام حتى تفطرت قدماه، قال لـ عائشة ليلة: (دعيني أتعبد لربي، تقول: فقام يصلي وجعل يبكي حتى بل لحيته، ولا زال يبكي حتى بل الثراء تحته، فجاءه بلال ليعلمه بدخول وقت الصلاة فوجده يبكي، فقال له: تبكي بأبي أنت وأمي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: كيف لا أبكي يا بلال وقد تنزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتدبرها، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:190 - 194]).
كم مرت على مسامعنا مثل هذه الآيات؟ فهل وجدنا لها في قلوبنا أثراً، أو في أنفسنا مكاناً؟ إنها آيات تصور العابدين في ليلهم ونهارهم وفي جميع أحوالهم، تصور خوفهم ورجاءهم وتفكرهم ودعاءهم.
لما علمت بأن قلبي فارغ ممن سواك ملأته بهواك وملأت كلي منك حتى لم أدع مني مكاناً خالياً لسواك فالقلب فيك هيامه وغرامه والروح لا تنفك عن ذكراك والسمع لا يصغي إلى متكلم إلا إذ ما حدثوا بحلاك والطرف حيث أجيله متلفتاً في كل شيء يجتلي معناك(22/4)
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الجماعة
كان سيد العابدين صلوات ربي وسلامه عليه حريصاً على صلاة الجماعة في أشد الأحوال، وفي أصعب الظروف، روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: ألا تحدثيني عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: بلى، قالت: ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك، قال: فضعوا لي ماء في المخضب، قالت: ففعلنا فاغتسل فقام لينوء -يعني: ليقوم- فأغمي عليه -بأبي هو وأمي- ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه فسقط، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: ضعوا لي ماء في المخضب فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه الثالثة، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس)، الله أكبر! كم كان حريصاً عليه الصلاة والسلام على صلاة الجماعة، يشتد مرضه فيغتسل ثم يغمى عليه فيفيق فيغتسل ثم ثانية وثالثة، كل ذلك لعله يجد خفة ونشاطاً يمكنه بفضل الله تعالى من حضور صلاة الجماعة، فكيف كانت تلك الخفة؟ وكيف كان خروجه صلى الله عليه وسلم، اسمع ما رواه البخاري قال: (فوجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة فخرج يهادى بين رجلين، كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع)، سبحان الله! لم يكن صلى الله عليه وسلم يتمكن من المشي إلا اعتماداً على رجلين، ولم يكن يقدر على تمكين رجليه على الأرض لشدة ضعفه، ومع هذا ما تخلف عن صلاة الجماعة مع شدة مرضه وشدة تعبه، فلماذا يتخلف الأقوياء؟! ولماذا ينام الأصحاء؟! أين نحن من هؤلاء؟! أما آن أن نفيق ونستيقظ؟! خرج المصطفى عليه الصلاة والسلام ليبين للناس أن العابدين لا يتخلفون عن الصلوات في المساجد، خرج ليبين أن العابدين لا يصنعون إلا في المساجد والمحاريب، فأي استقامة لا تنطلق من المسجد والمحراب لا خير فيها.
إن سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة من أهم صفات الصادقين والعابدين، ولئن ظن أهل الدنيا أن جنتهم في الدينار والنساء والقصور، فإن جنة العابدين في محرابهم في خلواتهم بربهم، أما سمعت قول الله لزكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39]، إن خلوات العباد في المحاريب تربية لهم، وتيجان على رءوسهم أحلى من التيجان التي على رءوس الملوك.(22/5)
نصر الأمة وعزتها بالعباد والزهاد
أعيد وأكرر: لا تنتصر الأمة إلا بالعباد والزهاد عباد الله! العباد الزهاد في الناس كالعملة النادرة، يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كإبل مائة لا يكاد يجد الرجل فيها راحلة)، ومعنى الحديث: أن المرضي الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف؛ الحسن المنظر، القوي على الأحمال والأثقال، قليل جداً، كقلة الراحلة في الإبل، وكذا الصادقون المنتسبون للدين كثير، لكنهم ما بلغوا مرتبة الولاية، تلك المرتبة التي ينصر الله أصحابها، ولذا عمت المصيبة بفقدهم.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاه تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد حر يموت بموته بشر كثير فالرجل من أولئك بألف منهم، وبمائة ألف منا اليوم، قال أبو بكر رضي الله عنه: صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل.
ولما طلب عمرو بن العاص رضي الله عنه المدد من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في فتح مصر، كتب إليه عمر: أما بعد: فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم مقام الألف، أرسلت إليك الزبير والمقداد وعبادة بن الصامت ومسلمة بن خالد.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع.
أسمعتم ما حدث في تايلاند؟ وما صنعوا بالمسلمين هناك؟ خرجوا في مظاهرة سلمية يطالبون بأبسط الحقوق، ينادون بحقوق الحيوانات ولا ينادون بحقوق المسلمين.
هنَّا على الله، فهنَّا على البشر، قال الأصمعي: لما صاف قتيبة بن مسلم الترك وهاله أمرهم، سأل عن محمد بن واسع فقيل: هو ذاك في الميمنة جانح على قوسه، رافع إصبعه نحو السماء، قال: تلك الإصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير، وشاب طرير.
بمثل أولئك تنتصر الأمة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(22/6)
أهم صفات العباد
الحمد لله على إحسانه والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله حق تقاته، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! من أهم صفات العابدين: أنهم أهل صلاة وقيام ومحافظة على الفرائض، وتقرب لله بالنوافل، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
فلما سمع القوم منادي المحب يناديهم، انطلقوا سباقاً إليه، وعلموا أن أفضل القربات هي الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، كيف لا وهي عماد الدين وعصام اليقين، ورأس القربات، هي المعين الذي لا ينضب، والزاد الذي يزود القلوب، إنها العبادة التي تفتح القلب، وتوثق الصلة، وتيسر الأمر، وتبارك في الأرزاق، بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة؛ لعظيم مكانها في بناء الإيمان، وهي أكمل صورة من صور العباد، أما قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، ثم ختم صفاتهم بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9]، فأين نحن من صلواتنا؟ كم بلغت من العمر اليوم؟ بلغت الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين أو الستين أو دون ذلك، تعال لنرى مقدار الربح والخسارة، لن أسألك عن الستين ولا عن السبعين ولا عن العشرين والثلاثين، سأسألك عن العام الذي مضى، فمنذ بداية العام حتى يومنا هذا: كم مرة فاتتك صلاة الجماعة؟ اجرد الحسابات مرة أو مرتين أو ثلاثاً، كم مرة ناداك مناد الله: الصلاة خير من النوم؟ وواقع الحال يقول: النوم خير من الصلاة، مرة أو مرتين؟ نعرف أقواماً تفوتهم كل يوم وهم لا يتوبون ولا يتذكرون، {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
فأسألك بالله يا من تظن أنك من المحافظين والمداومين، كم مرة فاتتك تكبيرة الإحرام؟ مرة مرتين أو ثلاثاً؟ يقول وكيع إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام فاغسل يديك منه.
قلت: إلى الله المشتكى، كيف لو نظر في حالنا وفي صفوفنا، وفي مساجدنا؟! بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر) حسنه الألباني.
وقال سيد العابدين صلوات ربي وسلامه عليه: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكار، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين) حسنه الألباني.
أما يكفيك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه)؟ هل استشعرنا هذا؟ اعلم أن للعبد بين يدي ربه موقفين: موقفاً في الدنيا، وموقفاً في الآخرة، أما الموقف الذي في الدنيا: فوقوفنا بين يديه سبحانه في الصلاة، أسألكم بالله: هل خشعنا؟ هل خضعنا؟ هل استحضرنا عظمة من نقف أمامه؟ صلاة بلا إيمان، وركوع بلا خضوع، وسجود بلا خشوع، كيف يظهر أثر الإيمان وأثر الصلوات؟! (إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه).
وأما الموقف الثاني: فيوم القيامة، فأول ما تسأل فيه عن هذه الصلاة، إن صلحت أفلحت العبد فزت، وإن ضاعت خبت وخسرت، لقد علم العباد قدر الصلاة، وأنها ميدان سباق، فانطلقوا يتسابقون ولسان حالهم: من فاته منك وقت حظه الندم ومن تكن همه تسمو به الهمم روى مسلم عن ابن مسعود قال: (لقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) يعني: مع شدة مرضه! لله درهم من مرضى، لا والله بل نحن والله المرضى، مرضى القلوب الغافلة القاسية البعيدة عن الله جل في علاه.(22/7)
نماذج من اجتهاد السلف في العبادة
عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي وهو يقضي -يعني: ينازع- في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى دارك وفراشك فإنه أوفر، فقال لهم: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)، فأنا أريد أن أموت في مسجدي وأنا في انتظار الصلاة، أليس من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل قلبه معلق بالمساجد؟ فبماذا تعلقت قلوبنا؟ (بطاش ما طاش) (وأكاديم استار) والشاشات والقنوات، وأعراضنا تنتهك، ونساؤنا تغتصب، أليس هذا هو الواقع؟! الضاحكون في كل مكان، بل قل المقهقهون وحالنا لا يعلم بها إلا الله! قيل لـ نافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما.
فماذا نصنع في بيوتنا؟! وعن محمد بن زيد أن ابن عمر كان له مهراس فيه ماء فيصلي ما قدر له، ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاءة كالطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي، يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمساً، كلما استيقظ وقف أمام ربه.
وروى نافع أن ابن عمر كان يحيي بين الظهر والعصر.
فمن منا فعل ذلك؟! عن الربيع بن خثيم قال: أتيت أويساً القرني، فوجدته قد صلى الصبح وقعد، فقلت: لا أشغله عن التسبيح، فلما كان وقت الصلاة -يعني: بعد شروق الشمس- قام فصلى حتى الظهر، فلما صلى الظهر قام فصلى حتى العصر، فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب، فلما صلى المغرب قام يصلي حتى العشاء، فلما صلى العشاء اتكأ على سارية في المسجد ثم أغفى إغفاءة ثم أفاق وهو يقول: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة، وبطن لا تشبع، أعوذ بك اللهم من غفلة الغافلين.
أرأيت كيف كان جلدهم في العبادة وصبرهم على الطاعات؟ بدأ رمضان فلم نستطع أن نواصل خمسة عشر يوماً قياماً، وهو أعظم مواسم الطاعات، وفي كل يوم صفوف المصلين تقل في جميع الصلوات، ليس في التراويح فقط، أول ما بدأنا الشهر كان يصلي الفجر معنا أربعة إلى خمسة صفوف، ومع انتصاف الشهر عادت الصفوف إلى ما كانت عليه قبل رمضان! رحم الله أويساً ما أعلى همته، يعاتب نفسه على إغفاءة خاطفة، ولهذا يعده الشاطبي ممن يأخذ بما هو شاق على الدوام، ومع هذا لا يعتبر مخالفاً للسنة، بل إنه من السابقين الأولين، ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه؟ عن أصبغ بن زيد قال: كان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع فيركع حتى يصبح، وأحياناً يقول: هذه ليلة السجود فيسجد حتى يصبح، وكان رحمه الله يقول: والله لأعبدن الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء.
هذا حالهم وهذه عبادتهم، ووالله لولا الأسانيد الصحاح والرجال الثقات لقلنا: إن هذه الأخبار ضرباً من الخيال، ولكن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن لج ولج، ومن طرق الباب يوشك أن يفتح له.
سعد الذين تجنبوا سبل الردى وتيمموا لمنازل الرضوان فهم الذين أخلصوا في مشيهم متشرعين بشرعة الإيمان وهم الذين بنوا منازل سيرهم بين الرجا والخوف للديان وهم الذين ملأ الإله قلوبهم بوداده ومحبة الرحمن وهم الذين أكثروا من ذكره في السر والإعلان والأحيان يتقربون إلى المليك بفعلهم طاعاته والترك للعصيان فعل الفرائض والنوافل دأبهم مع رؤية التقصير والنقصان صبروا النفوس على المكاره كلها شوقاً إلى ما فيه من إحسان صحبوا الخلائق بالجسوم وإنما أرواحهم في منزل فوقان عزفوا القلوب عن الشواغل كلها قد فرغوها من سوى الرحمن حركاتهم وهمومهم وعزومهم لله لا للخلق والشيطان فمن أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سار على الدرب وصل، واعلم -رعاك الله- أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة.
قيل للربيع بن خثيم: لو أرحت نفسك قال: راحتها أريد.
وقيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم في الجنة.
أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول عوتب أحدهم في شدة اجتهاده فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولن أكون فيها، ولا أحب أن أغبن أيامي، والصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية: فكن رجلاً رجله في الثراء وهامة همته في الثريا فإن إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا قال عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:18 - 19] ويقول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
قال الفضيل: الزم طريق الهدى ولا يغرنك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وفقنا لإتمام الشهر صياماً وقياماً يا رب العالمين، واجعلنا فيه من المقبولين، ومن عتقائك من النار يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لوالدينا ووالد والدينا، ولكل من له حق علينا يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اهدِ شباب المسلمين، اللهم اهدِ شباب المسلمين، الله اهدِ شباب المسلمين، ووفقهم للعمل الصالح يا رب العالمين.
اللهم بارك لنا في جيلنا ونسائنا وأطفالنا يا أرحم الراحمين.
اللهم رحماك بالمستضعفين في تايلاند والفلبين، اللهم رحماك بهم في العراق وفلسطين، وأفغانستان وكشمير والشيشان وفي كل مكان يا رب العالمين، كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً يوم أن قل الناصر والمعين.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وآثرهم ولا تؤثر عليهم، وزدهم ولا تنقصهم، وأكرمهم ولا تهنهم، اللهم مكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم مكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم مكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم بدلهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونك لا يشركون بك شيئاً يا رب العالمين.
اللهم قوِّ عزائم المجاهدين في الفلوجة، اللهم قوِّ عزائم المجاهدين في الفلوجة، اللهم قوِّ عزائم المجاهدين في الفلوجة، اللهم قد ضرب عليهم الحصار من كل مكان، ولم يبق باب إلا باب السماء يا رب الأرض والسماء، اللهم أنزل عليهم مدداً من عندك، اللهم أنزل عليهم مدداً من عندك، اللهم أنزل عليهم مدداً من عندك، واقلب أرض الفلوجة على الكفار ناراً، وسماءها شهباً وإعصاراً، اللهم شتتهم في الأرض شذر مذر، اللهم لا تبق لهم في الأرض أثراً، اللهم مكن المجاهدين من رقابهم، زلزل الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.
اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم لا ترفع لهم راية، اللهم لا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، هم والمنافقين يا جبار السماوات والأرضين، ليس لنا رب سواك فندعوه، وليس لنا إله سواك فنرجوه، يا أول الأولين ويا آخر الآخرين، يا ناصر الضعفاء والفقراء والمساكين، يا ذا القوة المتين، لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، لا يرد بأسك عن القوم المجرمين، بك نصول وبك نجول، عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا حي يا قيوم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(22/8)
إنهم فتية آمنوا بربهم
ما ارتقت الأمة الإسلامية إلى ذروة المجد والعظمة إلا بفتية آمنوا بربهم فزادهم هدى، كان الإيمان يملأ صدورهم، والإسلام هو الذي يسير حياتهم، فرفعوا راية الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، فلما تخلى هؤلاء الفتية عن رسالتهم وتنازلوا عن قيمهم ومبادئهم هوت أمة الإسلام من ذروة المجد والعظمة إلى حضيض الذل والهوان، ولكنها ما زالت خير أمةٍ أخرجت للناس، وما زال هناك فتية يعتزون بالإسلام ويدافعون عنه، وعلى أيديهم يكون النصر إن شاء الله.(23/1)
صنيع الإيمان في قلوب الشبان
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13].
من هؤلاء الفتية؟ وما شأنهم؟ ولماذا اعتزلوا قومهم، وهجروا ديارهم، وفارقوا أهلهم؟ لماذا تجردوا من زينة الأرض ومتاع الحياة؟ ما هي القضية التي تشغلهم.
إنهم أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما كان عليه القوم، كانوا بين خيارين: إما أن يرضوا بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها، أو يفروا بدينهم وعقيدتهم، فاختاروا ما جعل لهم قيمة وشأناً، إنه الإيمان، قال عنهم سبحانه: ((إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ)).
إن الإيمان يصنع حياة بعد موت، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، ويصنع عزاً بعد ذل، قال الله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، ويصنع شجاعة وإقداماً بعد خوف وإحجام، قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
إن الإيمان يجعل للحياة طعماً، وللدنيا لوناً وللقلب ثباتاً، وللصدر انشراحاً، وللطاعة حلاوة، وللمعصية نكارة، والإيمان اطمئنان وإيثار، ولجوء إلى الله، واعتماد عليه، وأنس وسعادة به، وخلوة معه، ورحمة منه.
تأمل وانظر كيف انقلب الكهف إلى مأوى؟ قال الله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16].
إن من آثار الإيمان وثمراته، تثبيت الله لأهله، قال الله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14].
إن الاعتراف بالعبودية عزة يعتز بها أصحاب الكهف كما قال الله عنهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، وأي عزة أعظم من أن تكون عبداً لله؟ ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي! وأن صيرت أحمد لي نبياً لقد أنكر أهل الإيمان هؤلاء الباطل، فقال الله تعالى على لسانهم: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:15] أي باطل أعظم من الشرك بالله؟ إن القلوب المؤمنة تعلم أن ما على الأرض إنما جعل للابتلاء والامتحان، وأن نهاية هذا الكون إلى الفناء والزوال، قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:7 - 8].
ذكر أكثر من واحد من السلف والخلف: أن فتية الكهف كانوا أبناء ملوك، لكن الإيمان الراسخ أمام الفتن والشهوات يجعل أهل الإيمان في حرص على دينهم وعقيدتهم؛ لأن الدين غالٍ، ولا مجال لتعريضه للخطر، فأعز ما يملك المؤمن هو دينه وإيمانه، تأمل في دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم احفظني في ديني ودنياي)، وفي قوله: (اللهم أصلح لي ديني)، وقوله: (ولا تجعل مصيبتي في ديني)، وليس التشريف في الآية لفتية الكهف فقط، بل لكل من سار على دربهم وطريقهم.
إن فتية اليوم في أمس الحاجة لسماع أخبار فتية الأمس، ونحن نستمد من الماضي قوة؛ لأن الماضي متصل بالحاضر، وإن كان فتية الأمس قد استطاعوا فإن فتية اليوم أيضاً عندهم القدرة والاستطاعة على أن يفعلوا كما فعل فتيان الأمس، كيف لا والمصدر واحد، والمنبع واحد، قال الله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
والشباب أقبل للحق، وأهدى للسبيل، ولقد كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الشباب، فكتاب الوحي هم الشباب، وحفظة السنة هم الشباب، وسفراء الرسول صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وشعراؤه صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وقادة الجيوش يمنة ويسرة هم الشباب، فعلى أكتافهم تقوم الحضارات، وتنهض الأمم, وفي ورقات ست سوف نسوق أخبارهم: الورقة الأولى: الفتية وطلب العلم.
الورقة الثانية: الفتية وظلام الليل.
الورقة الثالثة: الفتية وعزة المؤمنين.
الورقة الرابعة: في ساحات الوغى اشتاقت لهم الجنة واشتاقوا لها.
الورقة الخامسة: ما الذي حدث؟ وكيف تبدل الحال؟ ثم الورقة الأخيرة: همسة لها لحواء.(23/2)
الفتية وطلب العلم
الورقة الأولى: من صفات الفتية: أنهم طلاب علم، فبالعلم يعبد الله ويوحد، وبالعلم يقدس الله ويمجد، وقد رفع الله أهل الإيمان والعلم على غيرهم درجة، كيف لا والعلم طريق من طرق الجنة، وطلاب العلم أخشى الناس لله من غيرهم، فهم ورثة الأنبياء، والله يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].
جاء في فضل العلم وأهله: عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، والأحاديث في فضل العلم وأهله كثيرة.
وروى الوليد بن مسلم قال: شيعنا الأوزاعي وقت انصرافنا من عنده، فأبعد في تشييعنا، فمشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ! يصعب عليك المشي على كبر السن قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله قوماً يباهي بهم أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس.
وسئل ابن المبارك: لو أن الله أوحى إليك أنك سوف تموت العشية، فماذا تصنع اليوم؟ قال: أقوم وأطلب العلم.
وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).(23/3)
صفات طالب العلم
حتى تكون من طلاب العلم وفتيانه لابد من صفات وخصائص ومميزات لابد أن تتحلى بها: أولها: فتية العلم أصحاب همم عالية! كان أسد بن الفرات قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة مائة واثنين وسبعين؛ فسمع الموطأ من مالك في المدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وقد حضر مجلس محمد بن الحسن الشيباني وقال له: إني غريب، قليل النفقة، والسماع منك شرف، ولكن الطلبة من حولك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن: استمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وتقرأ علي وأسمعك، قال أسد: فكنت أبيت عنده، وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة؛ فإن أطال الليل ونعستُ ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه طوال الليل، ودأبي معه حتى أتيت على ما أريد من السماع منه.
صدقوا حين قالوا: من طلب العلا سهر الليالي.
قال ابن القيم رحمه الله: فإذا نام المسافر واستطال الطريق، فمتى يصل إلى المقصود؟! وقال ابن أبي حاتم: كنا بمصر سبعة أشهر في طلب العلم لم نحصل فيه على مرقد.
نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تنتن، فأكلناها نيئة ولم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
ثانيها: إن أردن أن تكون من طلاب العلم وفتيته فلابد أن تحرص على الوقت، ولا تنشغل بتوافه الأمور، قال الله عنهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، هذا نهارهم.
أما ليلهم: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:64 - 65]، وقال عنهم: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] وكل باطل زور، {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72]، فلا ترى فتى العلم إلا في فرض يؤديه، أو خير يعمله.
روي أنه أحضر فيل في المدينة المنورة، وكان مالك بن أنس يدرس في المسجد، فقال قائل: حضر الفيل، فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوا الشيخ، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندونيسي، فقال له مالك: لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك مثله؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك، ولم آت لأنظر إلى الفيل.
ففتى العلم حريص على وقته، مترفع عن توافه الأمور، والعمر لا يقاس بالسنين ولكن بالإنجازات التي تنجز فيه.
ثالثها: العمل بالعلم، فمن أراد أن يكون من فتية العلم وطلابه فلا بد من أن يعمل بالعلم الذي تعلمه.
كتب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أحد تلامذته حين طلب منه أن يقدم له نصيحة، فقال: يا ولدي! النصيحة سهلة، ولكن الصعب قبولها؛ لأنها في فم من لم يتعودها مرة المذاق، وإن من يحصل العلم ولا يعمل به تكون الحجة عليه أعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه)، وقالوا: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب حل، وإلا ارتحل، ولابد مع العمل من صدق وإخلاص.(23/4)
الفتية وظلام الليل
الورقة الثانية: الفتية وظلام الليل.
إن أردت أن تكون خالصاً لله بالنهار فلابد أن تكون خالصاً له بالليل، والظلام سر من الأسرار، وفي جوف الظلام يتربى الفتية الذين آمنوا بربهم، قال الله جل في علاه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6]، وقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
إن الصلاة في ظلام الليل من أفضل الطاعات وأجل القربات بعد الصلوات المفروضات، ولقد كان سيد القائمين صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!).
وكان يربى الفتيان على القيام في ظلام الليل -لأنه لا تربية أعظم من التربية السرية بين العبد وبين ربه- فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل)، فلما أخبر عبد الله بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل.
روى مسلم عن أبي هريرة: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة؟ فقال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل).
وفي حديث عذب جميل أخرجه النسائي وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ثلاثة يحبهم الله عز وجل، فذكر منهم: وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رءوسهم، فقام عبدي يتملقني ويتلو آياتي) قام الذي بينه وبين الله أسرار يتملق ربه ويتلو آياته، وأي شيء أعظم من الانكسار بين يديه سبحانه في ظلام الليل؟! وفضل الصلاة في ظلام الليل معلوم، ولا يقدر عليها إلا متجرد عظيم الإخلاص، ولذلك قالوا: لا يقوم الليل منافق.
قلت لليل: هل بجوفك سرٌ عامر بالحديث والأسرار؟ قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار وللفتية في نبيهم أسوة، فعن علي رضي الله عنه قال: (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح) رواه أحمد بإسناد صحيح.
إن من دأب الصالحين قيام الليل، واللجوء إلى الله عند الشدائد والفتن، وأي شدائد أعظم مما نمر به في مثل هذه الأيام؟! يقول ابن مسعود: ما سمعنا مناشداً ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم لربه يوم بدر، كان يقول في مناشدته لربه: (اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، اللهم لا تودع مني، اللهم لا تحذلني، اللهم لا تترني، اللهم أنشدك ما وعدتني، اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به) يدعو ويردد ويلح على ربه في الدعاء حتى يسقط رداءه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] هذا هو الزاد عند الشدائد، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
لقد تعلم الفتية من نبيهم فن التضرع والبكاء في ظلام الليل، قال الذهبي: وممن كان يصلي صلاة طويلة من العشاء إلى الفجر علي بن الحسين زين العابدين، كان إذا أطل عليه الليل وأقبل عليه النهار توضأ وأتى فراشه وقال: ما أحسنك وما أدفأك، ولكن في الجنة أحسن منك وأروح منك وأدفأ منك، والله لا أنام حتى الصباح، فكان يصلي حتى الفجر، فإذا طلع الفجر رؤي على وجهه قبس من نور وشعاع من بياض.
قيل للحسن البصري: إن الذين يقومون الليل على وجوههم نور؟ قال: خلوا به في الظلام فكساهم من نوره.
ومن فتية الظلام أيضاً: الربيع بن خثيم، كان يقول: أكثروا من ذكر الموت فهو غائبكم المرتقب، وإن الغائب إذا طالت غيبته أوشكت أوبته، وترقبه ذووه، ثم استعبر وقال: ماذا نصنع غداً إذا دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربك والملك صفاً صفاً، وجيء يومئذ بجهنم؟ كان الربيع لا ينام، فتصحو أمه فتجده صافاً في محرابه، كادحاً في مناجاة ربه، مستغرقاً في صلاته، فتناديه وتقول: ألا تنام يا ربيع؟! فيقول: يا أماه! كيف ينام من جن عليه الليل وهو يخشى البيات، يعني: هجوم الخصوم، لقد أرق أمه كثرة تضرعه وبكائه وشدة نحيبه في عتمات الليل والناس نيام حتى ظنت به الظنون، فصاحت تناديه: ما الذي أصابك يا بني؟! لعلك أتيت جرماً، لعلك قتلت نفساً؟ قال: نعم يا أماه! لقد قتلت نفساً، فقالت في لهفة: ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسعون إلى أهله لعلهم يعفون عنك؟ والله لو علم أهل القتيل ما تعاني من البكاء، وما تكابد من السهر لرحموك، فقال: لا تكلمي أحداً يا أماه! إنما قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي.
إنه تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، كان ابن مسعود يقول للربيع: ما رأيتك مرة إلا ذكرت المخبتين، وكان يقول له: يا أبا يزيد! لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك.(23/5)
الفتية وعزة المؤمنين
الورقة الثالثة: الفتية وعزة المؤمنين.
قال الله جل في علاه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
في موقف عصيب، وفي أيام شديدة، تجمع فيها الكفر وأحزابه في يوم الأحزاب -وما أشبه اليوم بالأمس- لاستئصال شوكة الإسلام، وجاءوا ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، يصور القرآن هول ذلك اليوم وشدته، فيقول سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، يظن المنافقون وليس المؤمنون، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:11].
في مثل هذه المواقف العصيبة تظهر عزة الفتية الذين آمنوا بربهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الجموع قد تجمعت حول المدينة، وقد تآمر اليهود والمشركون وألبوا قبائلهم واستجمعوا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف من ضغط الحصار الخانق الذي تتعرض له المدينة وأهلها، فاتصل بقائدي غطفان سراً عيينة بن حصن والحارث بن عوف، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بحنكته السياسية، وخبرته بنفسيات الرجال أن غطفان وقادتها ليس لهم هدف سياسي أو باعث عقدي، وليس لهم هم سوى الحصول على المال والغنائم، فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم سراً وعرض عليهم عقد صلحٍ منفرد بين المسلمين وغطفان، وهو: أن تتوقف غطفان عن القيام بأي عمل حربي، وتكف الحصار عن المدينة، وتنسحب برجالها، على أن يدفع المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلث ثمار المدينة، فقبلت غطفان هذا العقد؛ لأنهم ما خرجوا إلا للمكسب المادي، واشترط النبي صلى الله عليه وسلم موافقة فتية الأوس والخزرج على هذا الاتفاق قبل توقيعه، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم السعدين: سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعرض عليهما الأمر بحضور قادة غطفان، واستمع السعدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالا: يا رسول الله! أمراً تحبه فتصنعه لنا؟ أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به؟ إن كان أمراً من السماء فامض لما أمرك الله، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه رغبة فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فاسمع يا رسول الله منا: نحن وهؤلاء القوم كنا على كفر وشرك وعبادة للأصنام، وما كانوا يأكلون ثمارنا إلا قرىً -أي: ضيوفاً عندنا- أو بيعاً، واليوم بعد أن أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله ما بيننا وبينهم إلا السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان أمراً أمرني الله به ما شاورتكما، ووالله ما أصنع ذلك إلا لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمر ما).
وهكذا فإن العزة لا تظهر إلا في أوقات الشدائد، قال الله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، إنها العزة المستمدة من كتاب الله، ويواسي الله المؤمنين في قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:139 - 142].
لقد انقلبت الموازين يوم ثبت الفتية على دينهم، وأظهروا عزتهم بالإسلام، قال الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، ونصرهم الله وهم قلة، قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]، لما كانوا رهباناً بالليل استطاعوا أن يكونوا فرساناً بالنهار.(23/6)
الفتية في ساحات الوغى اشتاقوا للجنة واشتاقت لهم
الورقة الرابعة: الفتية في ساحات الوغى اشتاقوا للجنة واشتاقت الجنة لهم.
إن صفقة غالية تمت بين الله جل في علاه وبين الفتية المؤمنين، هم باعوا والله اشترى، على أن يكون الثمن الجنة، فالمشتري هو الله، والبائعون هم فتية الإسلام، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10]، وعند الأزمات تظهر معادن الرجال.
من أعظم صفات الفتية: أنهم شجعان، وأنهم لله جند، همهم: أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، شعارهم: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً وشعارهم أيضاً: كنا جبالاً فوق الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً لقد اشتاقوا إلى الجنة واشتاقت لهم.
منذ الساعات الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى، وقفت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجاً كما دخلت فيه أفواجاً، حتى لم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وجماعات متفرقة هنا وهناك، فثبت الله قلوب أهل الإيمان لما نصروا دينهم، وصمد الصديق رضي الله عنه لهذه الفتنة المدمرة صمود الجبال الراسيات، وجهز من المهاجرين والأنصار أحد عشر جيشاً، وعقد لقادة هذه الجيوش أحد عشر لواء، ودفع بهم في أرجاء الجزيرة؛ ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والحق، فإن عادوا سلماً وإلا فالسيف بيننا وبينهم.
كان أقوى المرتدين بأساً وأكثرهم عدداً بني حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذاب، فلقد اجتمع له أربعون ألفاً من أشداء المحاربين، فأرسل لهم الصديق جيشاً بقيادة عكرمة بن أبي جهل فرده مسيلمة على أعقابه، فقال أبو بكر: ليس لها إلا خالد، فأرسل خالداً ومعه فتية آمنوا بربهم من المهاجرين والأنصار، والتقى الجيشان على أرض اليمامة في نجد، فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة وأصحابه، وزلزلت الأرض تحت أقدام الفتية المؤمنين، وأخذوا يتراجعون عن مواقفهم حتى اقتحم أصحاب مسيلمة خيمة خالد واقتلعوها من أصولها، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الساخن، وانطلقت الآيات والتكبيرات، الآيات كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، أدرك الفتيان أن الدين في خطر، وأنهم إن يهزموا أمام مسيلمة لن تقوم للإسلام قائمة، ولن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب، فنظم خالد الصفوف، وميز المهاجرين عن الأنصار، وارتفعت رايات لا إله إلا الله، وهب نسيم الجنان، وعلت التكبيرات، وتنادى القوم: إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وليرين الله ما نصنع، ثم كر القوم على القوم، فدارت رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً من قبل، ثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى، ولم يأبهوا لكثرة ما أصابهم من القتل، وأظهر الفتية خوارق البطولات وسجلوا ملحمة من الملحمات.
صفحات مجد في الخلود سطروها ذات الرجال لها بغير جدال فهذا فتى الأنصار ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط ويتكفن، ويحفر لنفسه حفرة في الأرض، وينزل فيها إلى نصف ساقيه، ويبقى ثابتاً في موقفه يساند ويقاتل عن راية التوحيد، حتى خر صريعاً شهيداً، ولسان حاله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها وهذا فتى آخر وهو زيد بن الخطاب، أخو عمر رضي الله عنهم أجمعين، ينادي في المسلمين: أيها الناس! عضوا على أضراسكم، واضربوا في رقاب عدوكم، وامضوا قدماً، أيها الناس! والله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبداً حتى يهزم مسيلمة أو ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، الله أكبر، الله أكبر، ثم كر على القوم فما زال يقاتل حتى قتل، وآيات الله تناديه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
وهذا مولى أبي حذيفة يحمل راية المهاجرين فيخشى عليه قومه أن يضعف أو يستكين أو يتزعزع فقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أتيتم من قبلي فبئس حامل القرآن أكون أنا، ثم كر على الأعداء كر الأسود حتى أصيب.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي ولما رأى خالد وطيس المعركة قد حمي واشتد التفت إلى البراء بن مالك وقال: إليهم يا فتى الأنصار! فالتفت البراء إلى قومه وقال: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! لا يفكرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله وحده ثم الجنة، قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:4 - 7]، ثم حمل على المشركين وحملوا معه، وأعملوا السيوف في رقاب الأعداء حتى تقهقر مسيلمة وأصحابه، فلجئوا إلى الحديقة التي عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت.
دخل مسيلمة وجنده الحديقة وأغلقوا الأبواب وتحصنوا بالجدران العالية، وأخذوا يمطرون المسلمين بنبالهم، فتقدم فتى الأنصار المغوار البراء بن مالك فقال: يا قوم! ضعوني على جحف وارفعوه على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابهم، فإما أن أنال الشهادة وإما أن أفتح لكم الباب.
لقد كان في عملية استشهادية لا يقوم بها إلا {فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، فوضعوه على جحف وكان نحيل الجسم لكنه قوي الإيمان، ورفعته عشرات الرماح فألقته في حديقة الموت بين آلاف مؤلفة من جنود الكفار فنزل عليهم نزول الصاعقة، فأخذ يقاتلهم وحيداً فريداً والله معه، ويعمل في رقابهم أمام باب الحديقة، فقتل منهم عشرة وفتح الباب، وبه بضع وثمانون جرحاً ما بين رمية بسهم وضربة بسيف، فتدفق المسلمون على باب الحديقة، وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين حتى قتلوا منهم أكثر من عشرين ألفاً، ووصلوا إلى مسيلمة الكذاب فتناوشته السيوف والرماح حتى أردوه قتيلاً، وحمل الفتى المغوار إلى رحله، وأقام عليه خالد شهراً يعالجه من جراحه حتى شفاه الله، وكتب لجند المسلمين على يديه النصر.
بمثل هؤلاء تنتصر الأمة.
ملكنا هذه الدنيا القرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا بنينا حقبة في الأرض ملكاً يدعمه شباب طامحونا شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام ديناً تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طابت الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لن تحطمه الليالي ولن يسلم إلى الخصم العرينا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا ولم تشهدهمُ الأقداح يوماً وقد ملئوا نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني ماجنات ولكن العلا صيغت لحونا هذه أخبارهم، فما أخبارنا؟ وأفعالهم، فما أفعالنا؟ وتضحياتهم، فما تضحياتنا؟ ومواقف فتيانهم، فأين فتياننا؟ أما الديار فكأنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجالهم(23/7)
سبب تبدل الحال
الورقة الخامسة: ما الذي حدث؟ وكيف تبدل الحال؟ قال الله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
خلف من بعدهم خلف استبدلوا التسبيح والتهليل والتكبير بالقيل والقال، وكثرة السؤال، واستبدلوا السواك بالسيجارة، والقرآن بالمجلة، ومجالس العلم بمجالس الأفلام والمسلسلات، وتلاوة القرآن بسماع الأغاني والألحان، ورايات الجهاد برايات الضياع والعناد، {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50].
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد؟ هذه بساتين الجنان تزينت للخاطبين فأين من يرتاد يا ليل أمتنا الطويل متى نرى فجراً تغرد فوقه الأمجاد دعنا نسافر في دروب آبائنا ولنا من الهمم العظيمة زاد ولكن مهما طال الليل لابد للنهار أن ينجلي، وها نحن نرى كل يوم أفواج الشباب تعود وترجع، وتنضم إلى أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم، ها هي تباشير الصباح قد ظهرت وأنتم ثمارها، فيا شباب الإسلام! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يا من دك أجدادكم دولة الأصنام، أنتم الأمل بعد الله لقيادة البشرية، وإنقاذ الإنسانية، من سيقود الناس إلا أنتم، ومن سيهديهم إلى سبل الرشاد إلا أنتم؟ رويداً بني روما فللحرب فتية تهيج الظبى أطرافهم واللهاذم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].(23/8)
وقفة مع الأخت المسلمة
همسة قبل النهاية: أخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي: أن امرأة دفعت إلى ابنها يوم أحد سيفاً، فلم يطق حمله فشدته على ساعده بنسعة -يعني: قطعة قماش- ثم أتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! هذا ابني يقاتل عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للغلام: (أي بني احمل ههنا احمل ههنا وأخذ يقاتل دون النبي صلى الله عليه وسلم، فأصابته جراحة فصرع، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي بني لعلك جزعت؟ قال: والذي بعثك بالحق لم أجزع، وانطلق يقاتل القوم على شدة جراحه وآلامه).
فأنجبي لنا مثل هؤلاء، وربي لنا مثل هؤلاء، فأنت صانعة الأبطال، ومربية الأجيال.
إن الشباب هم القوة، وهم حملة الرسالات، وإن مسئولية الشباب اليوم أكبر مما مضى، فالمطلوب من أبناء الإسلام شباباً وشيوخاً أن يفهموا دينهم فهماً صحيحاً، بتعلم العلم الشرعي والعمل بذلك العلم، ثم الدعوة إلى الله والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، قال الله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونترك ونهجر من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجوا رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم طمئن قلوبهم، وثبت أقدامهم، وأفرغ عليهم صبراً يا رب العالمين! اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وعجل بنصرهم يا رب السموات والأرضين.
اللهم من أرادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، اللهم لا تدع لهم ناراً للحرب إلا أطفأتها، اللهم اجعل تدبيرهم تدميرهم، واجعل دائرة السوء عليهم، اللهم ردهم خائبين خاسرين فإنهم لا يعجزونك يا جبار السموات والأرضين، اللهم رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(23/9)
أنين المذنبين
لقد خلق الله العباد وجعلهم عرضة للخطأ والتقصير، فما من عبد إلا ويتعرض للخطأ، إلا من عصمه الله عز وجل.
ومن رحمة الله سبحانه أن فتح باب التوبة والإنابة لكل من أسرف على نفسه، واقترف الذنوب والمعاصي، وسمى سبحانه نفسه التواب الرحيم، ودعا المذنبين إلى التوبة والإنابة، فلا يعودون إلى ربهم، ويندمون على تفريطهم في حقه، ويتضرعون بين يديه إلا وتقبلهم برحمته، وعفا عن زلاتهم، بل إنه يفرح بتوبتهم وانطراحهم بين يديه.(24/1)
دعوة للتوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
وأسأله سبحانه أن يغفر ذنب المذنبين، ويقبل توبة التائبين، وأن يدل الحيارى، ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.
أمر الله عز وجل بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، ووعد جل في علاه بالقبول، فقال: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25]، ثم فتح الرحمن باب الرجاء، فقال: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
أخرج مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة.
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقاً إلي، ولتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود! هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟).
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قوله كن امنن فإن الخير عندك أجمع مالي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أرفع مالي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لفضلك أن تقنط عاصياً فالفضل أجزل والمواهب أوسع عنوان اللقاء: قوافل العائدين.
وسيتكون اللقاء من: مقدمة، وبداية، وختام، وبينهما أخبار خمسة: الخبر الأول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111].
الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.
الخبر الثالث: أترضى أن تكون مثل هذا؟ الخبر الرابع: طريق المخدرات.
الخبر الخامس: هدايتي على يديه، ثم الختام.(24/2)
سعة عفو الله ومغفرته
روى البخاري رضي الله عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم جل في علاه وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويمجدونك ويحمدونك، فيقول جل في علاه: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر تسبيحاً).
اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
(قال: فيقول جل في علاه: فما يسألونني؟ قال: فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها لكانوا أشد عليها حرصاً، وأشد لها طلباً، وأعظم فيها رغبة)، فأين المشمرون؟ (قال فيقول: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة)، اللهم أجرنا من النار.
(فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة، فيقول جل في علاه: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فأبشروا يا أهل مجالس الذكر فربكم ذو رحمة واسعة.
هذا منادي الله ينادي: ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني أشد شوقاً لهم، ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، من ذا الذي أقبل علي وما قبلته، وطرق بابي فما فتحته؟ من ذا الذي توكل علي وما كفيته، ودعاني فما أجرته، وسألني فما أعطيته؟ أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المظالم.
من أقبل علي تقبلته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لي أجري أعطيته المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما يريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، من صفا معي صافيته، من أوى إلي آويته، من فوض أمره إلي كفيته، ومن باع نفسه مني اشتريته، وجعلت الثمن جنتي ورضاي، وعد صادق، وعبد سابق، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
فيا فرحة التائبين بمحبة الله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
الهج بحمده، واهتف بشكره، وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
قل: أنا الميت الذي أحييته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الضال الذي هديته فلك الحمد، وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد، وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد كله، ولك الشكر كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، لا إله إلا أنت.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمد أبواب غيرك ربنا قد أوصدت رأيت بابك واسعاً لا يوصد(24/3)
قصة تائب
روي عن منصور بن عمار قال: خرجت ليلة وظننت أني أصبحت، وإذا علي ليل، فقعدت عند باب صغير، فإذا بصوت شاب يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك حين عصيتك وما أنا بنكالك جاهلاً، ولا لعقوبتك متعرضاً، ولا بنظرك مستخفاً، ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فالآن مِن عذابك مَن يستنقذني؟ وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه على ما مضى من أيامي في معصية ربي؟ ويا ويلي كم أتوب وكم أعود، وقد حان لي أن أستحي من ربي.
قال منصور: فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
قال: فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً, ومضيت لحاجتي، فلما أصبحنا، رجعت وإذا أنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء، فقلت لها: من الميت؟ فقالت: لا تجدد علي أحزاني، قلت: إني رجل غريب، فقالت: هذا ولدي، مر بنا البارحة رجل، لا جزاه الله خيراً، فقرأ آية فيها ذكر النار، فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! هكذا والله صفة الخائفين يا ابن عمار! سبحان من وفق للتوبة أقواماً، وثبت عليها أقداماً أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن ترحم فأنت به جدير(24/4)
الفرار إلى الله دواء لأصحاب الهموم
إن علاج مشاكل الشباب والشيب وأصحاب الهموم والغموم هو الفرار إلى الله، بالانضمام إلى قوافل العائدين إلى الله بعد طول غياب، الذين أحرقتهم الذنوب والمعاصي، والذين جربوا الحياة في الظلام، ثم اكتشفوا النور، والذين بدلوا ذل المعصية بعز الطاعة، وانتصروا على النفس والهوى والشيطان وحزبه، والذين آثروا الجنة على النار، وندموا على ما فرطوا في جنب الله.
قال صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب، فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة، فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.
وقال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
فليس عيب أن تخطئ، ولكن كل العيب أن تصر على الخطأ، وتتمادى فيه، وتنسى فضل الله عليك ورقابة الله لك.(24/5)
سؤال العاصي وجواب الحكيم
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! لقد أسرفت على نفسي بالذنوب والمعاصي، فقل لي في نفسي قولاً بليغاً، قال: أعظك بخمس، قال: هات الأولى، قال: لا تأكل من رزق الله إذا أردت أن تعصيه، قال: كيف يا إبراهيم! وهو الذي يطعم ولا يطعم؟ قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتعصيه؟ قال: هات الثانية! قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم! والأرض أرضه والسماء سماؤه؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وتعصيه؟ قال: هات الثالثة! قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله واعص الله، قال: أين يا إبراهيم! وهو الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك ثم تعصيه؟ قال: هات الرابعة! قال: الرابعة: إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح، فقل له: إني لا أموت الآن.
قال: من يستطيع يا إبراهيم! والله يقول: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49]؟ قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك وتعصيه؟ قال: هات الخامسة، قال: الخامسة: إذا جاءتك ملائكة العذاب تأخذك إلى النار فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم؟! قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً ثم تعصيه؟ قال: اسمع يا إبراهيم! أنا أستغفر الله وأتوب إليه.
فأعلنها توبة وإنابة وفراراً إلى الله، ورجعة وانضماماً إلى قوافل العائدين.
وأنت يا من تأكل رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً، أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟ أما آن لك أن تنضم إلى قوافل العائدين؟ أما آن لما أنت فيه متاب وهل لك من بعد الغياب غياب تقضت بك الأعمار في غير طاعة سوى عمل ترجوه وهو سراب وليس للمرء من سلامة دينه سوى عزلة فيها الجليس كتاب أي: القرآن.
كتاب حوى كل العلوم وكل ما حواه من العلم الشريف صواب وفيه الدواء من كل داء فثق به فوالله ما عنه ينوب كتاب(24/6)
من أخبار التائبين
هذه هي أخبار قوافل التائبين ماضياً وحاضراً، فلنأخذ من قصصهم العبرة الممزوجة بالندم والدموع، والمليئة بالصور والعبر، يشكو أصحابها قبل الانضمام إلى قوافل العائدين من الهموم والغموم والمآسي والآهات، حيث غرقوا في لجج المعاصي والمنكرات، من خمور ومخدرات، وفواحش ومنكرات، وكانت النجاة بالفرار إلى الله، والانضمام إلى قوافل العائدين.(24/7)
لقد كان في قصصهم عبرة
الخبر الأول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111].
عن أبي هشام الصوفي رحمه الله قال: أردت البصرة فجئت إلى سفينة أركبها وفيها رجل معه جارية، فقال لي الرجل: ليس ههنا موضع، فسألته الجارية أن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقالت الجارية: ادع ذاك المسكين ليتغدى معنا، فجئت على أنني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية! هاتي شرابك، فشرب وأمرها أن تسقيني، فقالت: يرحمك الله، إن للضيف حقاً، فتركني، فلما دب فيه الشراب قال: يا جارية! هاتي عودك وهاتي ما عندك، فأخذت العود وغنت، ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: عندي ما هو أحسن منه وخير منه، فقال: قل؟ قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9]، حتى انتهيت إلى قوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10] وجعل الرجل يبكي ثم قال: يا جارية! اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.
ثم ألقى ما معه من الشراب، وكسر العود، ثم دعاني فاعتنقني وجعل يبكي، ويقول: يا أخي! أترى الله يقبل توبتي؟ فقلت: نعم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، فتاب واستقام، وثبت على حاله، وصاحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلام صرت؟ فقال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقراءتك علي: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10].
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالنا إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَت، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ.
فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان وقالتا: أنا للحرام نظرت، ونطقت الأذنان وقالتا: أنا للأغاني والحرام استمعت، ولا إله إلا الله إذا نطقت اليدان وقالتا: أنا للربا والحرام أخذت، ونطقت الرجلان وقالتا: أنا للحرام مشيت: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رأس العباد تمور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور حتى ننجو ونفوز بذلك اليوم ونفرح لابد من الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].(24/8)
سبحان مغير الأحوال
الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.
قال الراوي: لقد تغير صاحبي، فضحكاته الوقورة تصافح أذني كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته خجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكان من قبل يبعثرها هنا وهناك، تصيب هذا وتجرح ذاك، لا يعبأ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة، وتحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام.
نظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل: ماذا غيرك؟ قلت: نعم، هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة قبل سنوات تختلف عن صورتك الآن! فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال! قلت: لابد أن وراء ذلك قصة؟ قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء فوجئت بصبي صغير أمامي يقطع الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي، ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً، ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع النواحي، مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، فتأكدت حينها أني هالك لا محالة، وفي لحظات -لعلها ثوان- مرت أمام ذهني صور سريعة متلاحقة، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً وأحاطت بي الظلمات الكثيفة، وأحسست بأني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزع شديد، فصرخت في صوت مكتوم: يا رب {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
ودرت حول نفسي ماداً ذراعي أطلب النجاة، لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق، وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كلما حولي يضغط علي، كأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور، فقد شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة.
ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، غير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء، كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيلها وهي تموت، وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي.
لقد تخلصت منها وخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً والهرب من هذا المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنيء، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي، ولأول مرة أبكي، وأحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة، فلعلكم تقرءون كلماتي هذه وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد، وصعدت إلى باريها، فاسألوا الله لي الرحمة.
اللهم يا من وسعت رحمته كل شيء! ارحم عبدك الضعيف المسكين.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم لو رأيت تائباً لرأيت جسماً مطروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، سمع قول الإله يوحي فيما يُوحَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
التائب مطعمه يسير، وحزنه كثير، ومزعجه مثير، وكأنه أسير، قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام، وأتعب قدمه القيام، وحلف بالعزم على هجر المنام، فبدل بدناً وروحاً وهو يردد: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
الذل قد علاه، والحزن قد وهاه، يذم نفسه على هواه، وبهذا صار ممدوحاً، يردد ويعيد: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
اللهم إننا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.(24/9)
هدايتي على يديه
الخبر الثالث: هدايتي على يديه.
يقول الشاب: لم أكن قد بلغت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي، ما زلت أذكر تلك الليلة، كنت سهران مع الأصحاب في إحدى الشاليهات، وكانت سهرة حمراء بمعنى الكلمة كما يقولون! أذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيراً، فقد كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد، وبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه، فكنت أسخر من هذا وذاك، ولم يسلم أحد مني حتى أصحابي، وصار بعض أصحابي يتجنبني؛ كي يسلم من لساني وتعليقاتي اللاذعة، وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت قدمي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي حتى دوت في السوق، وعدت إلى بيتي متأخراً, ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها، فقالت: أين كنت يا راشد؟ قلت ساخراً: في المريخ، عند أصحابي بالطبع، فقالت والعبرة تخنقها: راشد إني مريضة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة صامتة على جبينها، فأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها، وأقلل من سهراتي، خاصة أنها في شهرها التاسع.
ثم قاست زوجتي الآلام يوماً وليلة في المستشفى، حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، بل تركت رقم هاتف المنزل وخرجت، فاتصلوا بي حتى يعلموني بالخبر، ويزفوا لي نبأ قدوم سالم.
وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، فقلت: أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالماً، فقالوا لي: لابد من مراجعة الطبيبة، وأجابتني موظفة الاستقبال بحزن، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه، ومعاق في بصره، وتذكرت المتسول، فقلت: سبحان الله، كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة راضية بقضاء الله، وطالما نصحتني وطلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين! كلا.
هي لا تسميه تقليداً، بل غيبة، ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بـ سالم كثيراً، واعتبرته غير موجود في المنزل، فحين يشتد بكاؤه أهرب إلى الصالة؛ لأنام فيها، ولكن زوجتي كانت تهتم به كثيراً وتحبه، أما أنا فإني لا أكرهه، لكني لم أستطع أن أحبه.
وأقامت زوجتي احتفالاً حين خطى خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً بـ سالم، حتى بعد أن أنجبت عمر وخالداً.
ومرت السنوات وكنت غافلاً لاهياً، غرتني الدنيا وما فيها، وكنت كاللعبة في يد رفقة السوء، مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم.
ولم تيئس زوجتي من إصلاحي، فقد كانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة، أو إهمالي لـ سالم، واهتمامي بباقي إخوته، وكبر سالم، ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين.
ولم أكن أحس بمرور السنوات، فأيامي سواء، ليل ونهار، عمل ونوم، طعام وسهر، حتى ذلك اليوم -وكان يوم جمعة- فاستيقظت الساعة الحادية عشرة ظهراً، وما يزال الوقت عندي مبكراً، فقلت: لا يهم، وأخذت دشاً سريعاً، ولبست وتعطرت وهممت بالخروج، واستوقفني منظر سالم فقد كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي منذ كان طفلاً، فقلت لنفسي: أأخرج أم أرى ممَ يشكو سالم؟ ثم قلت: لا، كيف أتركه وهو في هذه الحالة، ولم أدر أهو الفضول أم الشفقة؟ لا يهم، سألته: لماذا تبكي يا سالم؟! حين سمع صوتي توقف وبدأ يتحسس ما حوله، فقلت: ما به يا ترى؟! ثم اكتشفت أن ابني يهرب مني، وفي تلك اللحظة أحسست أين كنت منذ عشر سنوات، فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب: لقد تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد في يوم الجمعة، وخاف سالم ألا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب، حينها رفعت يدي على فمه، كأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، وأكملت حديثه قائلاً: حينها بكيت يا سالم! ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم! لا تحزن، هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟ فأجاب سالم: لا شك أنه عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب.
فقلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك إلى المسجد.
فاستغرب سالم ولم يصدق، وظن أني أسخر منه، وعاد إلى بكائه، فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده وأردت أن أوصله بالسيارة، فرفض قائلاً: أبي! المسجد قريب وأريد أن أخطو إلى المسجد، فإني أحتسب كل خطوة أخطوها.
يقول: لا أذكر متى دخلت المسجد آخر مرة، ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله، ولكنها المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية.
يقول: ومع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين، إلا أني وجدت لـ سالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً، وصليت بجانبه، وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى، ولكن ذلك لم يتردد في نفسي، ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، وطلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، فنفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه، وبدأ في قراءة السورة.
يا ألله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة، وعن ظهر قلب.
خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً آخر، وأحسست برعشة في أوصالي، فقرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني.
وفي هذه المرة أنا الذي بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي، ويهدئ من خاطري، وعدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.
ومنذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، وهجرت رفقاء السوء، وأصبحت إلى رفقة خيرة عرفتها في المسجد، وذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو صلاة قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجره سنوات، وقصرت لساني على الذكر؛ لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، واختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم، ومن يراه يظنه ملك الدنيا وما فيها، وصليت كثيراً وحمدت الله كثيراً على نعمه.
وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى إحدى المناطق البعيدة في برامج دعوية مع مؤسسة خيرية، وترددت في الذهاب، واستخرت الله، واستشرت زوجتي، وتوقعت أن ترفض، لكنه حدث العكس، فقد فرحت كثيراً، بل شجعتني حين أخبرت سالماً بعزمي على الذهاب فأحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.
بعدها توكلت على الله وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة، وتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، وكنت قد اشتقت لهم كثيراً، ولكني اشتقت أكثر لـ سالم، وتمنيت سماع صوته، فهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت؛ لأنه إما أن يكون في المدرسة أو المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما حدثت زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حين تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها فلم أسمع ضحكتها المتوقعة، فقد تغير صوتها، وقالت لي: إن شاء الله.
وأخيراً عدت إلى المنزل وطرقت الباب، فتمنيت أن يفتح لي الباب سالم، ولكني فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح: بابا بابا، وانقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، فسعدت زوجتي بقدومي، ولكن هناك شيء قد تغير فيها، فتأملتها جيداً ورأيت نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، قد عادت مرة ثانية إلى عينيها، فسألتها: ما بك؟ قالت: لا شيء، وفجأة تذكرت من نسيته للحظات، وقلت لها: أين سالم؟ فخفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما زال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي! إن سالماً راح عند الله في الجنة، فلم تتمالك زوجتي الموقف، وأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى، ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، فأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار؟ وصبرت على مصابي، وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيط بي.
كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، الذي لم يكن أعمى، بل أنا من كنت أعمى حين انقدت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج؛ لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، ولا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة.
إن سالماً الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، وكيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه؟ اللهم تقبل سالماً في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.(24/10)
أبشر أيها التائب
أبشر أيها التائب أبشر أيها العائد إلى قوافل العائدين، فإن الله سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، يقول جل في علاه فاتحاً أبواب الرحمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول جل في علاه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
ويقول عز من قائل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
ويقول أرحم الراحمين: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
ويقول: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
أبشر أيها التائب! أبشر أيها العائد! أبشر أيها المنضم إلى قوافل العائدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أبشر أيها التائب! فإن الله يفرح بتوبة التائبين، وإن أنين المذنبين أحب إليه من سجع المسبحين.
يروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به: هل له من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود، ثم التفت إليه فرأى عينيه تذرفان، فقال له: إن للجنة ثمانية أبواب، كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة فإن عليه ملكاً موكلاً به لا يغلق، فاعمل ولا تنقط من رحمة الله.
قال عبد الرحمن بن أبي قاسم: تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر، وقول الله تعالى: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فقال: إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً من الكافر، ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام.
يروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال: اللهم أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فناداه منادي أرحم الراحمين: أحببتنا فأحببناك، تركتنا فتركناك، عصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].(24/11)
طول الأمل حائل بين العبد وبين التوبة
اعلم أن الذي حال بين الناس وبين التوبة والصدق فيها هو طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:205 - 206].
وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
اعلم أن مما يعينك على التوبة والإسراع فيها والمبادرة إليها هو ذكر الموت وساعاته.
إن الموت قريب، والعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، فاختر لنفسك النهاية التي تتمناها.
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالي وحالك عندما يقال: فلان بن فلان لقد دنا منه الأجل، وحانت منه ساعة الرحيل، فصائح بأعلى صوت: رباه ارجعون، رباه ارجعون رباه ارجعون، وصائح بأعلى صوت: واطرباه واطرباه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه! فاختر الحال التي تريدها يا رعاك الله.
لما حضرت حسان بن أبي سنان الوفاة قيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار، قيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة طويلة أصليها كلها.
ودخل المزني على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟! فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي سبحانه وتعالى وارداً، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أو إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشد: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ج علت الرجاء مني لعفوك سلماً تعاظمني ذنبي فلما قرنته ب عفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ودوداً وتعفو منة وتكرماً فاعلم يا رعاك الله! أن الآمال تطوى، والأموال تفنى، والأبدان تحت التراب تموت، وأن الأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد، فانتبه يا رعاك الله من رقدة الهجوع، وارجع إلى الله بالتضرع والخشوع، وقل: آن الأوان للانضمام إلى قوافل العائدين.
قالوا: من رزق أربعاً لم يحرم أربعاً: من رزق الدعاء لم يحرم الإجابة، والله يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة، والله يقول: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، ومن رزق الشكر لم يحرم المزيد، والله يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، ومن رزق التوبة لم يحرم القبول، والله يقول: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) [الشورى:25].(24/12)
الحياة بدون العبادة ضنك
وختاماً: اعلم أن الحياة بدون الله سراب، وأن القلب لا يصلح إلا بالله جل وعلا، فإذا أقبل على الله تعالى اجتمع وانضم بعضه إلى بعض، ووجد نفسه وسلمت فطرته.
يا أيها الإنسان! ما غرك بربك الكريم؟ إلى كم تعصي وتتمرد؟ وأقبح من قبيحك أنك تتعفف.
يا ناصع الثوب والقلب أسود؛ ما هذا الأمل ولست بمخلد، أما تخاف من أوعد وتهدد؟ يا من شاب وما تاب، أين البكاء، أين الحذر من أليم العقاب؟ قل: ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكير والحزن دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني اكتب قصة الرجوع بقلم الندم والدموع، واسر بها على قدم الخضوع إلى باب الخشوع، وأتبعها بالعطش والجوع، وسل الرحمة فرب سؤال مسموع.
قم وناد في الأسحار والناس نيام: يا رجاء الخائفين! يا أمل المذنبين! إن طردتني فإلى من أذهب؟ يا رحيماً بمن عصاك، يا حليماً على من تناساك، يا من شيمته الصبر: عصيتك جاهلاً يا ذا المعالي ففرج ما ترى من سوء حالي إلى من يهرب المخلوق إلا إلى مولاه يا مولى الموالي.
فلله در أقوام تركوا فأصابوا، وسمعوا منادي الله يدعو فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا عن تحقيق ثم تابوا، ثم قصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
اللهم سر بنا في درب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا الإجابة، يا من إذا سأله المضطر أجابه.
اللهم تب علينا توبة نصوحاً، لا ننقض عهدها أبداً، واحفظنا في ذلك لنكون بها من جملة السعداء.
اللهم اقبل توبة التائبين، واغفر ذنب المذنبين، واقبل الشباب والشيب في قوافل العائدين.
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات! يا رافع الدرجات! يا مجيب الدعوات! يا رب الأرض والعرش والسماوات! سألناك فحقق رجاءنا فيما تمنيناه.
يا من يملك حوائج السائلين نسألك عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه الأخيار، عدد ما غرد طير وطار، وعدد ما استغفر المستغفرون في الأسحار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(24/13)
بشرى في الحصار
لقد خلق الله عز وجل الخلق وقدر سنناً كونية لا تتغير ولا تتبدل لحكمة منه سبحانه وتعالى، ومن هذه السنن سنة الابتلاء لعباده وأوليائه ليزدادوا إيماناً، ويرتفعوا درجات، ولتمييز من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
والصراع بين الحق والباطل صراع دائم ومستمر قدره الله كوناً بين أهل الإيمان وأهل الكفر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(25/1)
الابتلاء سنة ماضية إلى يوم القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وانقسم الناس إلى قسمين: مؤمن وكافر، فريق حق وفريق باطل.
ومن سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل سنة الابتلاء وسنة الصراع، ابتلاء للمؤمنين في كل مكان؛ حتى يرفع الله من درجاتهم، وليبتلي ما في صدروهم، وليمحص ما في قلوبهم، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
ولقد مضت سنة الابتلاء على الأولين، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] فلا بد من الابتلاء، ولن تتمكن أمة الإسلام حتى تبتلى، كما جاء في الحديث عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أمرني أن أعلمكم مما علمني إياه، إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين- ثم قال في سياق الحديث- ثم بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) فسنة الابتلاء ماضية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(25/2)
سنة الصراع بين الحق والباطل
منذ أن انقسم الناس إلى قسمين: فريق حق وفريق باطل، بدأ الصراع بين الحق والباطل، وبدأت المواجهات بين حزب الله وحزب الشيطان، بين حزب الحق وحزب الباطل، وهاهي الفلوجة اليوم تسطر صوراً من صور المواجهة بين الحق والباطل، كما سطر التاريخ من مثل تلك الصور الشيء الكثير، وهاهو الكفر يتزعمه الصليب ومن خلفه من أبناء القردة والخنازير، ومن أبناء الكفر بكل أنواعها ومللها ونحلها قد جمعت أحزابها، وحاصرت الفلوجة من كل الجهات براً وبحراً وجواً، يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
فما المطلوب منا في مثل هذه الظروف، وفي مثل هذه الأحوال؟ أقول: اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر وحتى ننتصر في مثل هذه الظروف لا بد من إظهار عدة المؤمنين المستمدة من قوله جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:139 - 141]، فمنذ قرون مضت، وحين ظهر نور الإسلام بدأت المؤامرات، وبدأت الدسائس تحاك على الإسلام يوماً بعد يوم، ولم يتعرض دين لمثل تلك الدسائس التي تعرض لها الإسلام، فسنوات بل قرون طوال وهم يمكرون بالإسلام وأهله، ولو لم يكن الإسلام دين حق لما استطاع أن يقاوم تلك الدسائس ومكر الليل والنهار.
إن أمتنا قوية بدليل أنهم يهاجمونها من كل الجهات، ولو لم تكن قوية لما ألبوا أحزابهم وجمعوا جموعهم، فهم تغيظهم صحوة الشباب في كل مكان، والتي قد بدأت ظاهرة جلية تعلن عن عودة الشباب إلى دينهم وتمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
منذ قرون مضت عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبدأت شوكة الإسلام تقوى، وبدأ الإسلام يضرب أطنابه يمنة ويسرة، وبدأ الأتباع يزيدون كما الصحوة اليوم في ازدياد، وأبشركم بأن المصلين في صلاة الفجر في ازدياد، وقد اكتمل صفنا الثاني بعد أن كنا لا نصلي إلا صفاً واحداً، والصف الثالث أيضاً في ازدياد يوماً بعد يوم، وعدد الذين يصلون معنا الفجر من الأطفال خمسون، ومن خلفهم آباء وأمهات، فأمتنا بخير، وأمتنا معطاءة تحييها مثل هذه الظروف، وتمحص قيسها من تميمها في مثل هذه الظروف، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:179].(25/3)
جموع الأحزاب تتألب لإبادة خضراء المدينة
بدأ الإسلام يخرج من المدينة بقوة، وبدأت المؤامرات على الإسلام من المنافقين والمشركين وأحفاد القردة والخنازير الذين يتزعمون موائد المفاوضات والاستسلام، فخرج اليهود من خيبر إلى مكة يحرضون مكة على حصار المدينة، ووعدوهم على أن يكون الأمر بينهم سواء، وعلى أن تقسم بينهم غنائم المسلمين، وأن تسبى نساؤهم، وأن تصادر أموالهم، فجاءت مكة بوثنيتها التي تحمل الحقد على الإسلام والمسلمين، وخرجت اليهود التي تحمل الحسد والمكر على الإسلام والمسلمين، وبدأ منافق الداخل يؤلب هذا ويضعف ذاك، والتأم والتف حول المدينة عشرة آلاف لم تلتف من قبلها على مدينة من المدن، وصور الله ذلك الموقف تصويراً عجيباً، فقال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] ظنُّ المنافقين وليس بظنِّ المؤمنين، وإنما ظن المؤمنين حين رأوا ذلك، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22] إنها سنة الصراع التي لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] والتفت قريش واليهود والوثنية بكل أنواعها حول المدينة، وطوقوها من كل الجهات، فأشار سلمان الفارسي رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه بحفر الخندق أمام تلك الجموع التي لم تر العرب مثلها قط، وبدأ الخوف يدب من كل مكان، ولك أن تتصور الحال: خوف وجوع وأحوال لا يعلمها إلا الله! فكيف كان حال فريق المؤمنين؟! وكيف كانت المؤامرات تحاك من الداخل ومن الخارج؟! وما أشبه الأمس باليوم، فماذا صنع الرجال في تلك المواقف؟ التفوا حول نبيهم يداً واحدة، قياماً بالليل، وصياماً بالنهار، وانضباطاً على الأوامر، وتركاً للمعاصي والمخالفات؛ لأن النصر لا يستمد إلا من السماء، وأظهروا من العزة ما سطره التاريخ وعجزت الصفحات عن تسطيره.
ربعي يدخل في إيوان كسرى وهو مليء بالأثاث الوثير، ووزراؤه من حوله، وقادة جيشه يلتفون من حوله، فيسألونه وقد دخل ببغلته ورمحه المثلوم، وثيابه المقطعة، لكن تكلم بعزة المؤمن، يقول له كسرى: لماذا أتيتم؟ وماذا تريدون؟ أليس الفقر والجوع هو الذي أخرجكم؟ قال: لا الجوع ولا الفقر أخرجنا، وإنما الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فقال كسراهم: ما المطلوب منا، وماذا تريدون؟ قال: أسلم تسلم، لك ما لنا وعليك ما علينا.
قال: فالثانية؟ قال: الثانية تدفعون لنا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.
قال: وإن لم ندفع؟ قال: السيف بيننا وبينكم.
فهل تدري أين يتكلم؟ ومن أين ينطق بمثل هذا الكلام؟ إنه يتكلم من إيوان كسرى الذي سيكون غنيمة لهم كما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم.(25/4)
مبشرات في ساعة اليأس
جاء في السير أن المسلمين عندما بدءوا بحفر الخندق استعصت عليهم صخرة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فجاء -بأبي هو وأمي- وأخذ الفأس أو المعول من بين أيديهم، وضرب الصخرة مرة واحدة، فخرج منها مثل الشرر والنور، فقال: (الله أكبر! رأيت أقوام اليمن، فتحت لي قصور اليمن) ثم ضرب الضربة الثانية، فقال: (الله أكبر! أُريت قصور الشام البيضاء، ثم ضرب الثالثة، فقال: الله أكبر فتحت لي قصور العراق وما فيها) يتكلم بهذا وهو محاصر في المدينة، والعدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ولكنها الثقة بوعد الله، والثقة بنصر الله جل في علاه، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51] فتعلمت الأمة معنى العزة في كل الظروف وفي كل الأحوال، أمماً وآحاداً.
وهاهو خباب يؤتى به إلى مكة وهو الذي صنع بهم العجب يوم بدر، بل في كثير من المواجهات، فخرج قريش وقد جمعوا نساءهم وأطفالهم، وألبوا عليه من كل مكان، ونصبوه على جذع شجرة، فقالوا له: أتتمنى أن محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ واسمع هذا الحب الصادق لله ولرسوله مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال- قال: والله ما وددت أن محمداً يشاك بشوكة وأنا آمن مطمئن بين أهلي.
قيل له: قل في الإسلام، أو قل في محمد وأصحابه؛ لكنه والله ما نطق بكلمة كفر، وإنما طلب منهم الصلاة، فصلى وأسرع في صلاته، وقال لهم: حتى لا تظنوا أني أخاف من الموت فكان سلاحه الثقة واليقين والصبر والدعاء، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنك ترى ما يصنع بنا، اللهم فبلغ رسولك أنا بلغنا الرسالة، وأدينا الأمانة، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم قال: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هطلت عيناي في غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جحم نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي ففي كل الظروف والأحوال عزة وثبات؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقد تعلم هؤلاء الرجال من نبيهم الذي قرأ عليهم القرآن وعلمهم كيف تكون العزة، وكيف يكون الثبات.
ولما اجتمع الأحزاب حول المدينة، وكان المسلمون قد عاهدوا اليهود على حماية النواحي الخلفية من المدينة، ذهبت قريش إلى اليهود وساوموهم، فنقضوا العهود ولا عجب، فهم نقاضوا العقود ونكاثوا العهود، أما قال الله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]؟! بلى والله، حالهم لا يتغير ولا يتبدل، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة اليهود من الداخل، قال لأصحابه: (أبشروا فلقد اقترب النصر) انقطعت الحبال الأرضية، ولم يبق إلا حبل السماء، انقطعت الأسباب ولم يبق إلا الارتباط برب الأرض والسماء مسبب الأسباب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، أبشروا فلقد اقترب النصر، وأنا أقول: عباد الله! أبشروا، فلقد اقترب النصر.
يا أمة الإسلام بشرى لن يطول بك الهوان قد لاح فجرك باسماً فلتذكري ذاك الزمان أبطالنا بجهادهم ومضائهم قصموا الجبان وبنوا لمجدك سلماً بدمائهم بلغ العنان فلتهنئي يا أمتي ولى زمان الغافلين كم من سنين قد مضت والليث يهتف لن أعود لن أنثني لن أشتكي لن أرتضي ذل القعود ولسوف أمضي شامخاً رغم المشقة والقيود(25/5)
مصالحة النبي لغطفان في غزوة الأحزاب
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحصار والمؤامرات أراد أن يخفف على أهل المدينة، فإنهم جياع لا يجدون ما يأكلون، وحفاة لا يجدون ما ينتعلونه، ومحاصرون من كل الجهات -وهاهي الفلوجة اليوم تشهد نفس الموقف، ونفس المؤامرات- فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأحوال دعا قادة غطفان، وقال لهم: (تعالوا إلى أمر بيننا وبينكم سواء)، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غطفان خرجت للغنيمة لا للثأر من المسلمين، قال لهم وقد خرجوا في أربعة آلاف من العشرة آلاف: نعطيكم نصف ثمار المدينة على أن تفكوا الحصار عن المدينة وترجعوا، فوافقوا، فكتبت الوثيقة ولم يشهد عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أستشير أهل المدينة أولاً) فأتى بالسعدين: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهم وعرض عليهم الأمر وقال لهم: إني قد عرضت على غطفان كذا وكذا على أن يفكوا الحصار عن المدينة ويرجعوا، فماذا تقولون؟ فقال سعد بن معاذ -الذي اهتز لموته عرش الرحمن-: يا رسول الله! أمر تحبه أم أمر أمرك الله به، أم أمر تصنعه من أجلنا؟ فإن كان الأمر من الله فليس لنا إلا السمع والطاعة، وإن كان الأمر منك: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وإن كان أمر تصنعه من أجلنا فلنا في الأمر مقال، قال: بل أصنعه من أجلكم، قالوا: يا رسول الله! كنا وهؤلاء القوم على كفر وشرك لا يعلمه إلا الله -حين كنا وإياهم على الكفر والشرك- كانوا لا يأكلون طعامنا إلا قرىً، ولا يأخذون أموالنا إلا بحقها، واليوم بعد أن أعزنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا؟! واليوم بعد أن أظهرنا الله بالقرآن وزيننا بالإيمان نعطيهم أموالنا؟! والله ليس بيننا وبينهم إلا السيف، في مثل هذه الظروف تخرج عزة المؤمنين، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] سحابة صيف وستنقشع: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
فالمطلوب: صدق التوكل، والتفاؤل في كل حال من الأحوال، والثقة والتبشير بنصر الله جل في علاه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض، فأريت مشرقها ومغربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)، إنها ثقة ويقين بنصر الله ووعده: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(25/6)
صمود الفلوجة أمام أحزاب الصليبيين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
عباد الله! اتقوا الله، ومن تقواه أن نستشعر قضية الجسد الواحد، نستشعر أن المؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وما يصيب الفلوجة اليوم إنما هو بسبب ذنوبنا؛ وبسبب تقصيرنا فالفلوجة اليوم تذيق الصليب وتلقنه الدروس في العزة والثبات، رغم المحاصرة من كل الجهات.
يسأل مذيع الأخبار أحد رجالات الفلوجة الأبطال: ما هي استعداداتكم وأنتم ترون هذا الحصار يضرب عليكم من كل الجهات؟ فقال: لقد استعدينا لهم بلا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يملكون طائرات ولا دبابات، بل حتى حاصروا المستشفيات، فالمطلوب: ثقة ويقين، وهاهي الأمة تعلن ترابطها مع العراق، وتعلن الوحدة في البأساء والضراء، وهاهي المنابر، وهاهي المساجد، وهاهي أكف الضراعة ترفع من أجل إخواننا في العراق، وهاهي البطولات تخرج والأثر يخرج من هناك، لقد أسقطوا الطائرات ودمروا الدبابات، وأسروا أحفاد القردة والخنازير والصليبيين، وقتلوا في جيش الصليب، بل لقد قتلوا قائد القوات، فإلى النار وبئس المصير، وصحيح أنه قتل منا أبرياء، وقتل منا أطفال ونساء، لكن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار.
يدعون أنهم يريدون أن يحرروا الشعوب، فلماذا تقتلون الشيوخ؟!! ولماذا تقتلون الأطفال؟!! وما ذنب الأبرياء؟!! ولماذا تهدم المساجد؟!! لكن صدق الله إذ يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
اللهم اقلب عليهم أرض الفلوجة ناراً، وسماءها شهباً وإعصاراً.
اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض، وما نزل من السماء.
اللهم ثبت أهل الفلوجة، اللهم ثبت المسلمين في كل مكان، في فلسطين والشيشان وكشمير وأفغانستان وفي السودان والفلبين.
اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم اربط على قلوبهم، أفرغ عليهم صبراً، وثبت الأقدام، اللهم أنزل عليهم رحمة من عندك، سدد رأيهم ورميهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! اللهم إنهم قلة فكثرهم، جياع فأطعمهم، حفاة فاحملهم، خائفون فأمنهم، مظلومون فانتصر لهم، اللهم انصر من نصرهم، اللهم اخذل من خذلهم.
اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، اللهم اهزم الصليبيين وزلزلهم، واهزم اليهود الغاصبين وزلزلهم، اهزم المنافقين والوثنيين وأعداء الملة والدين، اللهم لا تدع لهم قوة في الأرض إلا دمرتها، ولا قوة في السماء إلا أسقطتها، ولا قوة في البحر إلا أغرقتها، اللهم اجعل جنودهم غنيمة للمسلمين، اللهم مكن المجاهدين من رقابهم، اللهم مكن المجاهدين من رقابهم، اللهم مكن المجاهدين من رقابهم.
اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، وأخرجهم منها أذلة صاغرين، اللهم ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، فإنهم لا يخفون عليك ولا يعجزونك.
يا قوي يا عزيز! بك نصول وبك نجول، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وطهر بيوتنا من الفواحش والشهوات، ورد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذا القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(25/7)
بل الرفيق الأعلى
إن ما يحدث اليوم من مصائب عظام في عالمنا الإسلامي، وما يحل بنا من كوارث رغم أنها تترك الآثار البالغة في النفوس والقلوب، لكنها والله! تتضاءل ضخامتها أمام مصيبة موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها ليست كأي مصيبة، فهي تصيب كل مسلم وتؤثر فيه، وتبث الأحزان في قلبه على فقد نبي الأمة.(26/1)
طرف من آلام أمتنا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! منذ سنوات طوال وأمة الإسلام تعاني ما تعاني من الأهوال.
قتل وتشريدٌ وهتك محارم فينا وكأس النائبات دهاقُ الأقصى منذ عقود وهو يئن ويشتكي، والآهات تأتي من الشيشان، وكشمير بكت، وقبلها مندناو وأفغانستان، ومن البوسنة وكوسوفا كانت تأتينا الأخبار، أخبار الاغتصابات والانتهاكات والمعتقلات، واليوم عراقنا جريح محاصر، والعراقيات يرسلن الرسائل والاستغاثات، أرسلت إحداهن رسالة من المعتقل تقول فيها: أدركونا فبطوننا وأرحامنا تحمل أبناء الصليبيين.
وتتتابع المصائب والابتلاءات! بالأمس القريب قتلوا أحمد ياسين غدراً، ثم ما كادت دموعنا تجف حتى أتبعوه بـ عبد العزيز الرنتيسي، ثم فجعنا بـ أبي الوليد المجاهد الصنديد والمقاتل العنيد.
يا رب! يا رب! يا فارج الأزمات والكرب! وكاشف الغم والويلات والنوب! إليك وحدك نشكو ما ألم بنا فقد غدونا نعاني شر منقلب في كل صقع من الأصقاع نازلة بالمسلمين وحال العرض في تعب يا رب! هذي شعوب الأرض قد وثبت وأمتي بعد لم ترق أو تثب يا عالم الغيب يا سؤلي ومؤتملي متى تعود إلينا وحدة العرب تعود في قوة والدين يعصمها من المهاوي التي تودي إلى العطب(26/2)
بمصيبة موت النبي تهون المصائب
أحبتي! مصائب وآلام أردت اليوم أن أخففها، فأذكر نفسي وإياكم أنه ما من مصيبة إلا وهناك أعظم منها، وما من بلية إلا وهناك أطم منها، وإذا تذكرنا المصائب العظام هان علينا ما دون ذلك، فلن يضر الأمة موت فلان أو فلان، فقد فقدت الأمة قبل هؤلاء محمد بن عبد الله عليه صلوات الله، نعم كل المصائب تهون عند هذه المصيبة، قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، وقال: يا عبد الله! اتق الله، فإن لك في رسول الله أسوة حسنة.
تذكرت لما فرق الدهر بيننا فعزيت نفسي بالنبي محمد وقلت لها إن المنايا سبيلنا فمن لم يمت في يومه مات في غد عباد الله! كانت الجمادات تتصدع من ألم مفارقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟! كان في مسجده صلى الله عليه وسلم جذع نخل يتكئ عليه عندما كان يخطب، فأقاموا له منبراً ليقوم عليه، فلما خطب على منبره الجديد حن الجذع وبكى، وصاح كما يصيح الطفل، فنزل إليه صلى الله عليه وسلم فاعتنقه، فجعل يهدأ كما يهدأ الطفل الصغير الذي يسكن عند بكائه، فقال بأبي هو وأمي: (لو لم أعتنقه لحن وبكى إلى يوم القيامة)، وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
روي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن صلى الله عليه وسلم ترك بلال الأذان، ما أمر عيش من فارق الأحباب، خصوصاً من كانت رؤيته حياة للألباب، لقد أدرك المسلمون عظم المصيبة التي أصابتهم بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا أن أبواب الشر قد انفتحت عليهم، وأن الفتن آتية لا محالة، وأن اللحظة التي طالما انتظرها أهل النفاق قد حان زمانها.
أخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: (ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل).
صححه الألباني رحمه الله، ولقد أشار محمد بن إسحاق بكلمات صادقة وتصوير رائع إلى الآثار التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والحالة التي أصبح عليها المسلمون بعد فراقه صلوات ربي وسلامه عليه فقال: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، قلت أنا: يا لله! كيف لو رأى حالنا؟! وماذا صنعت بنا اليهودية والنصرانية بتعاونهم مع المنافقين والخائنين؟! قال القرطبي مبيناً عظم هذه المصيبة وما ترتب عليها من أمور: من أعظم المصائب المصيبة في الدين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصابه بي، فإنها أعظم المصائب).
صدق بأبي هو وأمي؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم من بعده إلى يوم القيامة، فبموته انقطع الوحي وماتت النبوة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب، وكان أول انقطاع الخير ونقصانه.(26/3)
تأكيد حقيقة بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
عباد الله! لقد أكد القرآن العظيم حقيقة بشرية النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كغيره من البشر سوف يذوق الموت ويعاني من سكراته كما ذاقه قبل إخوانه من الأنبياء والمرسلين، قال الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فلما قرأها صلى الله عليه وسلم قال: (نعيت إلي نفسي) قال الله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:36 - 35]، وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
قال القرطبي: فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبداً، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل، وقد أخبرنا القرآن بموته وببشريته وكذا أخبرنا هو صلوات ربي وسلامه عليه بأنه سيموت، فعن جابر رضي الله عنه قال: (يوم كان حجة الوداع، وقد التفت الجموع والأفئدة من حوله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه، وقال: بل لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
قال النووي: وفيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته، وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين؛ ولهذا سميت حجة الوداع، وأخذ يودع الناس، قال معاذ: (إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج راكباً والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته)، تأمل في تواضعه صلوات ربي وسلامه عليه، وهو يودع أحد شباب الإسلام سفيراً إلى اليمن، فقال: (يا معاذ! إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، فتمر بقبري ومسجدي) فبكى معاذ لفراقه صلى الله عليه وسلم، كيف لا يبكي وهو الذي أنقذه الله به من الظلمات إلى النور! نسينا في ودادكم كل غالي فأنتم اليوم أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(26/4)
علامات وإشارات على قرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
عباد الله! إن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة وأعظم حدث مر على أمة الإسلام، وكل حدث مهم تسبقه علامات وإشارات تشير إلى وقوعه، فمن تلك الإشارات الدالة على موته عليه الصلاة والسلام فتح مكة، وإقبال الناس على دين الله أفواجاً، وأنزل الله عليه في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلما سمعها عمر رضي الله عنه قال: ما بعد التمام إلا النقصان.
ونزلت عليه في أواسط أيام التشريق: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، فهذه الآيات والأحداث مؤشرات تدل على أن مهمته صلى الله عليه وسلم قد انتهت، وأن عليه الإكثار من الدعاء والاستغفار، والاستعداد للقاء الرفيق الأعلى، نعم لقد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فأخذ بعد عودته من حجة الوداع يرغب أصحابه بكثرة ملازمته والجلوس معه قبل أن يحرموا ذلك حتى قال لهم يوماً: (والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لئن يراني أحب إليه من أهله وماله)، فبكى أصحابه رضوان الله عليهم، وبدءوا يستشعرون أن حبيبهم بدأ يودعهم، وفي أواخر الأيام خرج إلى أحد وصلى على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، فلما رجع انصرف إلى المنبر فقال: (يا أيها الناس! إني فرطكم، وإني شهيد عليكم، وإني لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم من الدنيا أن تنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
كل هذه العبارات دلائل ومؤشرات تدل على قرب الأجل، والنهاية التي لا بد منها لكل كائن كان، فالكل سيموت إلا ذا العزة والجبروت.(26/5)
مرض موته صلى الله عليه وسلم
وفي جو ليلة من الليالي الأخيرة في حياته أيقظ مولاه أبا مويهبة وقال له: (إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع، فانطلق معي، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل القبور! ليهنكم ما أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل على أبي مويهبة فقال: يا أبا مويهبة! إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة، فقال أبو موهيبة: بأبي أنت وأمي خذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها والجنة، فقال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي، لقد اخترت لقاء الله والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف بعد أن قال لهم: إنا بكم لاحقون).
وبعد رجوعه من البقيع بدأ وجعه الذي قبض فيه، ودخل على عائشة ووجدها تشكو صداعاً في رأسها وتقول: (ورأساه! ورأساه! فقال: بل أنا والله! يا عائشة ورأساه!) ثم قال لها مهدئاً من روعها ومداعباً لها على ما به من شدة الألم: (وما ضرك يا عائش لو مت قبلي، فقمت إليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك، فقالت له وهي تداعبه -ولم تعلم أن هذا المرض هو الذي سينقله إلى ربه-: والله لكأني ولو قد فعلت- يعني: مت- لرجعت إلى بيتي فأعرست ببعض نسائك، قالت: فتبسم صلى الله عليه وسلم) ثم ازداد به الوجع، وبدأ يطوف على نسائه وهو يقول لهن: (أين أنا غداً؟! أين أنا غداً؟!) فاستأذنهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فأذن له، تأمل إلى مراعاته خواطر نسائه مع شدة مرضه، واستمر معه المرض ثلاثة عشر يوماً، وقيل أربعة عشر، والمرض يزداد عليه يوماً بعد يوم، زيادة في التشريف والتكريم، تقول عائشة رضي الله عنها: كنت كثيراً ما أسمعه في أيام مرضه يقول: (إن الله لم يقبض نبياً حتى يخيره، فسمعته وهو يحتضر يقول: بل الرفيق الأعلى من الجنة)، فعلمت أنه يخير فقلت: إذاً لا يختارنا، لقد اشتاق إلى لقاء ربه كما اشتاق ربه إلى لقائه، وفي أيام مرضه مر أبو بكر والعباس على مجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال لهم أبو بكر: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بيننا، فدخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فخرج إليهم معصوب الرأس يهادى بين علي والفضل تخط قدماه في الأرض، ثم صعد المنبر لآخر مرة في حياته، صعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فارتقى في سلم العبودية حتى وصل إلى سدرة المنتهى، يوم أن أسرى به ربه ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم جُبت السماوات أو ما فوقهن بهم على منورة درية اللجم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم صعد المنبر بأبي هو وأمي ليرد الحقوق، ويعلن للبشرية جمعاء: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، صعد المنبر أمام الناس فنظروا إليه ونظر إليهم، واشتد البكاء في المسجد، قام متوكئاً على خشبة المنبر -حتى المنبر يبكيه- وقال: (يا أيها الناس! من ضربته، من أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، من ضربت له جسداً هذا جسدي فليقتص منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، فقام عكاشة بن محصن الأسدي أمام الناس قائلاً: يا رسول الله! أما إنك قد طلبت القصاص منك، فأنا أريد أن أقتص منك، وذلك أنك يوم كنت تسوي الصفوف يوم بدر طعنتني بعصاً في يدك في خاصرتي، وقد آلمتني، وأنت عرضت نفسك الآن للقصاص، فقام علي رضي الله عنه فقال: أنا في القصاص فداء له)، كيف لا يكون له فداء وهو الذي قال بأبي هو وأمي: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)؟ فدىً لك من يقصر عن فداك فما شهم إذاً إلا فداك أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواك إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يا علي! بل يقتص مني، فأمر بالعصا التي كانت معه يوم بدر فأتي بها، ورفعها عكاشة في يده، واتجه نحو المنبر، وارتفع صوت البكاء في المسجد)، إنه موقف من أشد المواقف وأصعبها على أصحاب محمد، حبيبهم في مرض شديد، وصحابي سيقتص منه أمام الناس على منبره (فلما وصل عكاشة إلى المنبر ألقى العصا من يده، ثم ضم الجسم الشريف، ومرغ وجهه في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى بكاءً شديداً وهو يقول: جسمي لجسمك فداء) فضج المسجد بالبكاء.(26/6)
الوصايا التي أوصى بها الرسول وهو في مرض موته
أوصى على منبره في آخر أيامه بعده وصايا، منها: (أوصيكم بالأنصار، فهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم).
ثم حذر الأمة من اليهود والنصارى فقال: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري وثناً يعبد من دون الله).
ثم أمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا يختلط على الناس دينهم.
ثم أوصى الأمة بالصلاة، فهي صلتها بربها وقرة عينها فقال من منبره: (الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ وما ملكت أيمانكم) فكيف هي صلاتنا اليوم؟ وهل عملنا بالوصية أم ضيعناها؟ ثم نزل عن المنبر ولم يصعد عليه مرة أخرى.
بكتك المنابر كلها بأبي أنت وأمي! رد الحقوق ورد المظالم وبدأ يستعد للقاء ربه، فدنت ساعة الرحيل، واشتد عليه الوجع، وزاد عليه الألم مضاعفة للأجر ورفعة للدرجات، وفي فجر يوم الإثنين الذي قبض فيه وبينما المسلمون يصلون صلاة الفجر إذ انكشف الستار الذي على بيت عائشة، ورأى الصحابة حبيبهم، رأوه متبسماً وجهه كأنه قطعة قمر، كيف لا يتبسم وصفوف المسلمين متراصة متكاملة في صلاة الفجر؟! قلت: آه! ثم آه! ثم آه! كيف لو رأى النبي صفوفنا في صلاة الفجر اليوم، نظر إلى أصحابه نظرة وداع أخيرة وما كشف ذلك الستار بعد ذلك اليوم، كاد الصحابة يفتنون في صلاتهم، ظنوا أن حبيبهم قد برأ من المرض وهو على وشك الخروج للصلاة معهم، فأشار إليهم متبسماً أن أكملوا صلاتكم، وأسدل الستار، وكانت آخر نظرة وآخر ابتسامة، وطفق الألم والوجع يزداد عليه صلوات ربي وسلامه عليه، وبدأ يتغشاه من الألم والكرب ما الله به عليم، ودخلت عليه فاطمة رضي الله عنها، فلما رأت ما حل بأبيها من الشدة صاحت وقالت: واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! فقال لها: (لا كرب على أبيك بعد اليوم، فسارها فبكت، ثم سارها فضحكت، فسألتها عائشة عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنها أخبرت بذلك بعد وفاته، سارها في الأولى فقال لها: إنه يقبض في مرضه هذا؛ فبكت، ثم سارها الثانية فقال: وإنك أول أهل بيتي لحاقاً بي ففرحت) ففرحت رضي الله عنها وأرضاها، ستلحق بأبيها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فكيف لا تفرح وقد بشرها بأنها سيدة نساء العالمين؟! ثم دعا بـ الحسن والحسين فقبلهما وذكرهما ووعظهما، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، ثم دنت لحظات الاحتضار، وأخذ الوجع يشتد ويزيد، كان يقول لـ عائشة: (لم أزل أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر).
قلت: قاتل الله اليهود، فلقد سمموا نبينا، ومسلسل غدرهم ومكرهم لم ينته إلى اليوم، ثم أسندته عائشة إلى صدرها، وكانت تقول: من أعظم نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وقد جمع الله بين ريقي وريقه عند موته.(26/7)
وفاته صلى الله عليه وسلم
وفي آخر لحظاته دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، فأخذته عائشة منه لعلمها أن حبيبها يحب السواك، تقول: فلينت له بريقي، ثم أعطيته إياه، فأخذ يستاك، ويضع يده في ركوة فيها ماء، ويمسح على وجهه ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات) تقول عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي صلى الله عليه وسلم، وما إن فرغ من السواك حتى رفع يده مشيراً بسبابته، وشخص بصره نحو السقف، فلقد التفت حوله ملائكة الرحمن، لتشييعه إلى الملأ الأعلى للقاء ربه، فتحركت شفتاه، فلقد كان يخير في تلك اللحظة بين البقاء في الدنيا أو لقاء ربه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى! اللهم الرفيق الأعلى! اللهم الرفيق الأعلى! اللهم الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً ثم مالت يده، وهدأت أنفاسه، وسكت قلبه، وخرجت الروح إلى بارئها، مالت أفضل يد، وهدأت أزكى نفس، وسكت أعظم قلب، وخرجت أطهر وأزكى روح، فإنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، فعظم الله أجري وأجركم.
اللهم أجرنا بمصيبتنا خيراً يا رب العالمين!(26/8)
مشاعر تتدفق بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
أظلمت المدينة على ساكنيها، عبر أنس عن هذه المصيبة بقوله: والله ما رأيت أجمل ولا أحلى من ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد أضاء فيها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا، وما إن تسرب النبأ الخادع والمصاب العظيم، وعلم الناس بالخبر، حتى طاشت عقولهم، وعمتهم الحيرة، وأقعدتهم الدهشة، وأظلمت الحياة في وجوههم.
أما فاطمة فلما سمعت بالخبر بكت وقالت: واأبتاه! واأبتاه! أجاب رباً دعاه، واأبتاه! جنة الفردوس مأواه، واأبتاه! إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت رضي الله عنها لـ أنس: يا أنس! كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟! قلت: والله ما طابت، ولكنا أرغمناها إرغاماً.
أما عمر فقد استل سيفه، وقام يحلف للناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران وأخذ يقول للناس: والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجالٍ ونساء زعموا أنه قد مات، في تلك الساعات، وفي تلك اللحظات ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، فمنهم من خر مغشياً عليه، ومنهم من لم يستطع القيام، ومنهم من حبس لسانه فلم يستطع الكلام، ومنهم من أنكر موته من شدة هول الصدمة والمصيبة، إنها مصيبة عظمى، وخطب جلل، إنه فقدٌ وغياب سيد ولد آدم، خير من صلى وصام، وخير من عبد رب الأنام، لكن الله ثبت الأمة في شخص أبي بكر رضي الله عنه خليفته وصاحبه في الغار.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(26/9)
موقف أبي بكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ماتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! ولئن أظهر الصديق رضي الله عنه رباطة جأش وثباتاً وقوة أمام المسلمين، وذلك خرج عليهم ليؤكد نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم، ولئن صرخ فيهم قائلاً: من كان يعبد محمداً -هكذا باسمه مجرداً- فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، إن كان قد ثبت أمام الناس فإنه لم يستطع أن يثبت أو يتمالك نفسه أمام ذلك الجسد الطاهر، وقد تمدد أمامه لا يستطيع حراكاً، فأكب عليه باكياً، وقبل ما بين عينيه مودعاً، قالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنج، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فيمم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة الأولى التي كتبت عليك فقد متها، -وفي رواية لـ أحمد: أنه رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل رأسه، فأخذه بين يديه، فمس فاه وقبل جبهته، ثم قال: وانبياه! ثم رفع رأسه، ثم حدر فاه، وقبل جبهته ثم قال: واصفياه! ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته ثم قال: واخليلاه! مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كفكف دموعه وربط الله على قلبه، وخرج على الناس وهو على حال لا يعلمها إلا الله، فقال: يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ثم قرأ عليهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، قال ابن عباس: كأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية إلا لما تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس، فما أسمع نفراً من الناس إلا يتلوها، أما عمر فيقول: ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها حتى أهويت على الأرض، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فرجعت السكينة إلى الناس، وهدأت أحوالهم، تذكروا رباً فوق سبع سماوات، وأنه حي قيوم لا يموت، والإنس والجن يموتون، نعم لقد مات محمد، لكنه معنا في كل اللحظات، معنا في صلاتنا، أليس هو الذي قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؟ هو معنا في حجنا، في طوافنا وسعينا، أليس الذي هو قال: (خذوا عني مناسككم)؟ معنا بسنته وبهديه، معنا بسيرته، معنا بأخلاقه وأخباره، ولقد أمرنا الله بالسير على خطاه، واتباع سنته فقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، بل لن نحب الله حتى نصدق في حبنا لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].(26/10)
المطلوب منا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
المطلوب منا: الإكثار من الصلاة عليه، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
والمطلوب منا: العمل بسنته وعدم التهاون بها، قال الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
المطلوب منا: أن ننشر دعوته للناس في كل مجلس ومنتدى.
المطلوب منا: أن نحبه حباً صادقاً، فلن نؤمن حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وأموالنا والناس أجمعين.
باختصار المطلوب منا: طاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، مصداق ذلك قول الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، مات محمد صلى الله عليه وسلم، وواصلت الأمة مسيرتها في نصرة دينها، ونشر دعوتها، مات من مات وما تعطلت المسيرة ولن تتعطل، ولن تقف بموت أحد أو حياته.
لئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج وإن كنوز الغيب تخفي طلائعاً صابرة رغم المكائد تخرج مات ابن ياسين والرنتيسي وأبو الوليد وغيرهم من الأبطال أدوا الأمانة، ونالوا الشهادة، وساروا على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى طريق أصحابه وطريق الأبطال، سبقونا إلى الجنة بإذن الله، وأنا وأنت ماذا قدمنا؟! ما هي اهتماماتنا؟! ما هي طموحاتنا؟ ما هي أهدافنا؟ هذا هو السؤال وعليكم الجواب، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:58].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل على محمد في الأولين، اللهم صل على محمد في الآخرين، اللهم صل على محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، اللهم اجز عنا محمداً خير ما جزيت نبياً عن أمته.
اللهم لا تحرمنا رؤيته، واتباع سنته، ونصرة دعوته، أوردنا حوضه، واسقنا من يده، ولا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله يا رب العالمين! اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فخذنا إليك غير مفتونين.
نسألك اللهم حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك يا رب العالمين! اللهم ارض عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم رد حكام المسلمين إلى الحق يا رب العالمين! قيض لهم بطانة صالحة تعينهم على الخير يا رب العالمين! اللهم وفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، ول على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم يا رب العالمين! اللهم ارحم المستضعفين في العراق وفي فلسطين، وفي الشيشان، وفي نيجيريا وفي تايلاند وفي كل مكان، اللهم ارحم المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، فلقد قل الناصر وقل المعين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم أنزل على أسرانا في العراق وفي جونتانامو رحمة وتأييداً من عندك يا رب العالمين! اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويعذبون عبادك، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم.
اللهم أنزل عليهم بأسك ومقتك إله الحق، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(26/11)
توبة صادقة
الإنسان كثير الخطأ معرض للذنوب والهفوات والمعاصي والزلات، ولو آخذه الله بذلك لأهلكه، لكن من رحمته سبحانه أنه فتح باب التوبة على مصراعيه ودعا الناس إليه، ولا تنفع التوبة ما لم تكن توبة صادقة نصوحاً.(27/1)
التوبة بداية حياة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة بالنار.
{قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [طه:82].
أنا وإياكم في مكان مبارك في ساعة مباركة في حضور مبارك في ليلة عنوان: توبة صادقة.
التوبة بداية حياة ونهاية حياة، بداية مع الهداية ونهاية مع الغواية، التوبة منة وفضل من الله يمن بها على من يشاء من عباده فهو التواب الرحيم.
التوبة امتحان للتائبين ليعرف الصادقون والكاذبون، التوبة ميلاد جديد وانطلاقة إلى عهد مديد، إنها حياة شعارها الحياة مع الله.
المطلوب: هو الصدق مع الله، لذا أسميت المحاضرة: توبة صادقة.
أحبتي! كثير هم الذين يتوبون، لكن قليل هم الذين يصدقون في توبتهم ويثبتون.
كتبت المحاضرة على مدى أيام وليال طوال، تنقلت فيها من كتاب إلى كتاب، وسمعت أخباراً وأخباراً فاخترت من أخبار الماضي والحاضر طرزتها بالآيات والأحاديث والآثار، ضمنتها أبياتاً من الأشعار وأقوالاً للصالحين الأخيار.
أردت من طرح الموضوع تثبيت التائبين وتذكير الغافلين.
أردت أن أذكر الجميع أنه ما نزل ذنب إلا ببلاء، وما رفع إلا بتوبة، جعلت الحديث موجهاً للجميع ذكراناً وإناثا نساءً ورجالاً، فالتوبة وظيفة الجميع.
فهيا معاً نركب قطار المستغفرين إلى ديار التائبين، وننضم إلى قوافل العائدات والعائدين، ونبدل الحال من حال إلى حال قبل نزول مفرق الجماعات وهاذم اللذات، فلا ندري أين تكون الدار غداً، إلى روضة من رياض الجنة أم إلى حفرة من حفر النار، ومن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، ومن كان مع الله كان الله معه، إن من صدق مع الله في توبته صدق الله معه ووفقه لحسن خاتمته.
إن التوبة والنجاة بالاستغفار لا بالتمادي والاستهتار، وإنه من بذل الأسباب وصل إلى الأبواب.
عناصر اللقاء: العنصر الأول: توبة كاذبة.
العنصر الثاني: باختصار مع الذين خلفوا.
العنصر الثالث: من ترك شيئاً لله.
العنصر الذي يليه: لست فاتنة بل ظالمة.
ثم أخيراً: اعتبروا يا أولي الأبصار!(27/2)
توبة كاذبة
قال منصور بن عمار: كان لي صديق مسرف على نفسه ثم تاب، وكنت أراه من العباد والقوام والصوام، أراه كثير العبادة والتهجد ففقدته أياماً، فقيل لي: هو مريض، فأتيت إلى داره فخرجت إلي ابنته فقالت: من تريد؟ قلت: قولي لأبيك فلان، فاستأذنت لي ثم دخلت فوجدته في وسط الدار وهو مضطجع على فراشه وقد اسود وجهه، وذرفت عيناه، وغلظت شفتاه، فقلت له وأنا خائف منه: يا أخي! أكثر من قول لا إله إلا الله، ففتح عينيه فنظر إلي بشدة ثم غشي عليه، فقلت له ثانياً: يا أخي! أكثر من قول لا إله إلا الله، ثم كررتها عليه ثالثاً, ففتح عينيه فقال: يا أخي منصور! هذه كلمة قد حيل بيني وبينها! فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قلت له: يا أخي! أين تلك الصلاة والصيام والتهجد والقيام، فقال: كان ذلك لغير الله، وكانت توبتي كاذبة، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني وأذكر به، وكنت أفعل ذلك رياءً للناس، فإذا خلوت إلى نفسي أغلقت الأبواب وأرخيت الستور وشربت الخمور وبارزت ربي بالمعاصي، ودمت على ذلك مدة، فأصابني المرض وأشرفت على الهلاك، فقلت لابنتي هذه: ناوليني المصحف، فقلت بعد أن أخذت المصحف: اللهم بحق كلامك في هذا المصحف العظيم إلا ما شفيتني ورفعت عني البلاء، وأنا أعاهدك ألا أعود إلى ذنب أبداً.
ففرج الله عني، فلما شفيت عدت إلى ما كنت عليه من اللهو واللذات وأنساني الشيطان العهد الذي بيني وبين ربي، فبقيت على ذلك مدة من الزمن، فمرضت مرة ثانية أشرفت حينها على الهلاك والموت، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كعادتي ثم دعوت بالمصحف وقرأت فيه ثم رفعته وقلت: اللهم بحرمة ما في هذا المصحف الكريم من كلامك إلا ما فرجت عني ورفعت عني البلاء، فاستجاب الله مني وفرج عني، ثم عدت إلى ما كنت عليه من اللهو والضياع ما كأني عاهدت الله ألا أعود، فوقعت في هذا المرض الذي تراني فيه الآن، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كما تراني، ثم دعوت بالمصحف لأقرأ فيه فلم يتبين لي حرف واحد منه، فعلمت أن الله سبحانه قد غضب علي فرفعت رأسي إلى السماء وقلت: اللهم فرج عني يا جبار السماء والأرض، فسمعت كأن هاتفاً يقول: تتوب عن الذنوب إذا مرضت وترجع للذنوب إذا برأت فكم من كربة نجاك منها وكم كشف البلاء إذا بليت أما تخشى بأن تأتي المنايا وأنت على الخطايا قد لهوت قال منصور بن عمار: فوالله ما خرجت من عنده إلا وعيني تسكب العبرات، فما وصلت الباب إلا وقيل لي إنه قد مات.
وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
نعم أحبتي! التوبة ليست نطقاً باللسان، إنما هي ندم بالقلب وعزم على عدم العودة إلى الماضي المرير، ومن شروط صحة التوبة أن تكون قبل معاينة أمور الآخرة، فمن باشره العذاب أو عاين الموت فقد فاته موسم القبول.
والله ما صدق صادق فرد عن الأبواب، ولا أتى الباب مخلص فصد عن الباب، ورب الأرباب، إنما الشأن في صدق التوبة، لذلك قال الله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا واغفر لنا ربنا ذنباً جنيناه كم نطلب الله في ضر يحل بنا لما تولت بلايانا نسيناه ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا لما وصلنا الشاطي عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعة وما سقطنا لأن الحافظ الله فأين الشباب اليوم؟ أين الصادقون؟ أين الذين يتوبون ثم يستقيمون ويصدقون؟ إن الأمة اليوم في أمس الحاجة لشبابها وفتياتها الذين يعتزون بدينهم ويتمسكون بعقيدتهم ويفخرون بماضيهم، فوالله الذي لا إله إلا هو لا زال في أمتنا خير وفي شبابها خير، وفي فتياتها خير، بل حتى في أطفالها خير.(27/3)
بيت يبنى على التقوى
مع البداية أهمس لك همسة: كان هناك فتاة عابدة صوامة قوامة في عمر الورود والأزهار، من بنات هذا الجيل لا من بنات الأجيال الماضية، تقدم لها شاب فترددت فقيل لها: لماذا التردد ولماذا لا توافقين؟ قالت: أحب الصيام والقيام! فقيل لها: إن خدمة الزوج عبادة وقربة إلى الله، فأنت في خير وعبادة، فاستخارت ثم قطعت التردد بالموافقة، قالت: لكن بشرط واحد ليس لي شرط سواه، قالوا: وما هو؟ قالت: أن يأذن لي بصيام ثلاثة أيام من كل أسبوع، فهي تعلم أن صيام النافلة لا بد أن يكون بإذن زوجها، فأخبروه ففرح بالشرط ووافق, وفرحت هي بموافقته وزفت إليه، وبني بيت على تقوى من الله ورضوان.
الله أكبر! نريد بيوتاً تبنى على صيام بالنهار وقيام بالليل، من مثل هذه البيوت يتخرج الرجال والأبطال.
وإليك أنت أيضاً همسة أهمسها مع البداية.
اعلم بارك الله فيك! أن كل الأبطال تخرجوا من مدرسة الليل، ففي الظلام تعلموا الإخلاص والإقدام، اعلم أنك لن تكون فارساً مغواراً بالنهار حتى تتعلم الرهبانية بالليل.
أخبرت عن شاب نحيل الجسم، كثير الحياء، قليل الكلام، همه الإسلام والعمل للدين، لم يتجاوز السابعة والعشرين لكنه ذو رأي وقول سديد موفق -والتوفيق بيد الله- يقول أحد الشباب: رافقته مراراً في رحلات دعوية كم أصابنا فيها من التعب والإرهاق والمشقة والعناء, ومع هذا رأيت منه العجب العجاب؛ كان صاحب قيام ليل، وليس بأي قيام، بل قيام طويل تتعب منه الأقدام.
أحبتي! كثير هم الذين يقومون لكن أين قيام من قيام، من وقف دقيقة ليس كمن وقف ساعة، يقول الشاب عن صاحب ذلك الجسم النحيل: كان يقوم في الليلة الواحدة بخمسة أجزاء من القرآن، وما تخلف عن ذلك ليلة واحدة مهما كانت الظروف ومهما كانت الأحوال.
قلت: هكذا هم الصادقون: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، هكذا هم الصادقون، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17]، إن أمة تمتلك أمثال هؤلاء الفتيات والفتيان أمة لا تقهر ولا تغلب بإذن الله، ولكنها تمتحن وتبتلى حتى يأتي أمر الله، وحينها يفرح المؤمنون، وحينها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.(27/4)
باختصار مع الذين خلفوا
إنه خبر توبة زكاها الله في القرآن، ثم أمرنا الله أن نكون منهم ومعهم، قال سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] ثم اسمع إلى هذا النداء العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
جاء خبرهم عند البخاري مفصلاً وأنا أسوقه لكم باختصار: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ليتأهبوا للغزو، وكان ذلك في غزوة تبوك، كان الحر شديداً والسفر بعيداً والعدو كثيراً وعنيداً.
يقول كعب بن مالك راوي الحديث وأحد الثلاثة الذين خلفوا: والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت في تلك الغزوة، ولما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه قلت: غداً ألحقهم، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد هممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، ولكن لم يقدر لي ذلك، ولقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عني وهو في القوم بتبوك فقال رجل: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئسما قلت، والله يا رسول الله ما علمت عنه إلا خيراً! فأين هم الذين يدافعون عن أعراض إخوانهم اليوم، يقول كعب: فلما بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه قافلاً -أي راجعاً- حضرني همي وطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غداً؟ فلما قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل بالمدينة قادماً زاح عني الباطل، وعلمت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت على أن أصدقه في الحديث.
جاء المخلفون وكانوا بضعة وثمانين فطفقوا يعتذرون ويحلفون، فقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله.
أحبتي! الله لا ينظر إلى المظاهر ولكن الله سيبتلي السرائر! قال: فلما جئته تبسم تبسم المغضب، فلما جلست بين يديه قال لي: ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قلت: بلى! والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله.
أحبتي! قد تأخذ ما عند فلان أو فلان بالكذب أو الافتراء، ولكن والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تأخذ ما عند الله إلا إذا صدقت مع الله، قد تنصب على فلان وتضحك على فلان وتأخذ ما تشاء، ولكن لن ينجيك من الله إلا أن تصدق مع الله.
قال كعب: والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك! يقول كعب: فقمت فلامني من لامني، وقالوا لي: يسعك ما وسع غيرك ويكفيك استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لك، فقلت: هل قال مثل قولي أحد؟ فذكروا لي رجلين هما: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا نحن الثلاثة، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لنا الأرض فلا هي الأرض التي نعرفها، بل حتى تنكرت لنا أنفسنا التي بين جنوبنا فلا هي بالأنفس التي نعرفها، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحباي فقعدا في بيوتهما يبكيان، أما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج لأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد، كنت آتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه فأسلم عليه بعد صلاته وأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه أسارقه النظر، فلما طال الأمر واشتد ذلك علي، تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، قلت: أنشدك بالله يا أبا قتادة هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت.
فناشدته فسكت.
فناشدته في الثالثة فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وخرجت أمشي في سوق المدينة، فإذا بنبطي من أهل الشام يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فأشار الناس إلي.
فجاءني فدفع لي كتاباً من ملك غسان يقول فيه: لقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولن يجعلك الله بدار مضيعة أو هوان، إلحق بنا نواسك! فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه.
يمتحن العبد على قدر إيمانه؛ إن كان في إيمانه شدة شدد عليه في البلاء وإن كان في إيمانه رقة خفف عنه في البلاء! يقول كعب: فعلمت أن هذا من زيادة البلاء فتيممت به التنور ورميته فيه، فلما مضت أربعون من الخمسين ليلة، جاءنا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن نعتزل نساءنا، قلت: أأطلقها أم ماذا؟ قال: بل اعتزلها، فقلت لها: إلحقي بأهلك حتى يقضي الله في هذا الأمر، ولقد قيل لصاحبي مثل ما قيل لي، أما امرأة هلال بن أمية فجاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه، فقال: لا.
ولكن لا يقربنك، فقالت: والله الذي لا إله إلا هو ما به حركة إلى شيء ولا زال يبكي من أمره إلى يومه هذا.
هكذا حال الصادقين! دموعهم حارة مدرارة بالليل والنهار! يقول كعب رضي الله عنه: فلبثت بعد عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وأنا على تلك الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت؛ إذا بصارخ يصرخ على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! يا كعب بن مالك أبشر! فخررت ساجداً وعرفت أنه قد جاء الفرج، وأنه قد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروني ويبشرون صاحبي هلالاً ومرارة، فلما جاء من يبشرني نزعت ثوبي فكسوته إياهما ببشارته، ووالله ما أملك غيرهما ,ثم استعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون لي: لتهنك توبة الله عليك! لتهنك توبة الله عليك! فلما دخلت المسجد قام لي طلحة بن عبيد الله مهرولاً فصحافحني وهنأني، ووالله ما أنساها لـ طلحة.
يقول كعب: فلما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم قال لي ووجهه يبرق من السرور وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر؛ قال: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك! قلت: أمن عندك يا رسول الله أم عند الله؟ قال: بل من عند الله! فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله! إنما نجاني الله بالصدق، وإن من صدق توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت، ووالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني.
تأمل أيها التائب، وتأملي أيتها التائبة في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ كعب: (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك).
يا الله! ما أجمل التوبة! وما أجمل الرجوع إلى الله! التوبة ابتلاء وامتحان، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42].
أحبتي! صدق أقوام في توبتهم فصدق الله معهم فعفا عنهم وزكاهم.
واسمع واسمعي معي بعضاً من آثار توبة الصادقين والصادقات: فمنهم من يحزن على اقتراف المعصية حزناً لا يفارقه حتى الموت، ومنهم من يهجر الناس ويعتزلهم ويضج بيته بالبكاء، ومنهم من يتمنى أن يكون تراباً حتى لا يحاسبه الله على ذنبه ومعاصيه، ومنهم من يمرغ خده بالتراب حتى يذوق طعم الذلة عل الله أن يرحمه على تلك الحال، ومنهم من يتعلق بأستار الكعبة مطرقاً خاشعاً يطلب العفو من الله، ومنهم من يجوب الصحراء هائماً على وجهه يعاهد الله عز وجل ألا يرجع إلى بيته إلا وقد تاب وتاب عليه الله، ومنهم من يعتكف في بيت من بيوت الله يذكر الله ويتلو القرآن ويركع ويسجد والدموع تتزاحم في عينيه ندماً على ما فرط في جنب الله، ومنهم من يحس بآلام ورعشة وببكاء واضطراب كالحية يتغشاها الألم ويخر مغشياً عليه حياء من الله، ومنهم من يشهق شهقة يموت بعدها خوفاً ووجلاً من الله، ومنهم من بلغ من عبادة ربه أنه يوم مات كأنه جذع محترق من عبادة الله.
أخي! أخية! لا غرابة فيما ذكرت وقلت، فالخوف من الله أرجف قلوب العصاة وكاد يخلعها من مكانها، فكم رعدت بروق الخوف في القلوب القاسية فذهبت عنها سحب الغفلة وأمطرت دموع الخشية، فصفا سماء القلب واستنار وطلعت عليه شمس النهار، وسبحان الذي قال عن التائبين: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
بذكرك يا مولى الورى نتنعم وقد خاب قوم عن سبيلك قد عموا إلهي تحملنا ذنوباً عظيمة أسأنا وقصرنا وجودك أعظم ألست الذي قربت قوماً فوفقوا ووفقتهم حتى أنابوا وأسلموا لك الحمد عاملنا بما أنت أهله فسامح وسلمنا فأنت المسلم(27/5)
من ترك شيئاً لله
هذا مبتلىً بالذنوب والمعاصي تركها من أجل الله فجاءه العوض من الله جل في علاه، كان مولعاً بالغناء محباً للطرب، ومما زاد حبه لهذه المعصية ذلك الصوت الجميل الذي وهبه الله له، صوت شجي خلاب يحرك المشاعر والأحاسيس، لم يكن يفكر في حرمة الغناء وعواقبه، كان تفكيره كيف يكون مشهوراً ويظهر أمام الناس، فسعى إلى شهرة الباطل وأخرج شريطاً غنائياً وأخذ يوزعه بين أهله وأصحابه وأقاربه.
زاره يوما أحد أقاربه من مدينة بعيدة ومعه شاب صالح، وباتا عنده، فلما سمع ذلك الشاب الصالح عنه وعن أغانيه وعن صوته الجميل قال له: ليت هذا الصوت الجميل كان يرتفع ويصدح بالقرآن بدلاً من مزامير الشيطان، أما سمعت قول الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} [الإسراء:61 - 65].
فأثرت تلك الكلمات والآيات فيه ووجدت قبولاً في قلبه، فلما جن الليل ونام النائمون استيقظ التائبون، يقول قريبه الذي كان يزوره: بينما نحن نائمون يغطينا ظلام الليل الدامس والسكون يملأ المكان استيقظت على صوت بكاء، فإذا بقريبي المغني ساجد لله في صلاته يشهق من البكاء ألماً وندماً على ما فرط في جنب الله.
ففرحت لبكائه وندمه وأنه ترك الماضي بكل ما فيه، وأقبل على الله يرجو ما عنده فكان العوض من الله، عوضه الله خيراً مما ترك، أصبح يحب القرآن يغدو ويروح مع آياته، يترنم بالآيات بالليل والنهار، أخذ يتعلم علم القرآن وفن التلاوة حتى صار إماماً وقارئاً يشار إليه بالبنان لجمال صوته وخشوعه في صلاته.
فسبحان مغير الأحوال! صدق في توبته فصدق الله معه، وترك من أجل الله فعوضه الله خيراً مما ترك، وأي عوض أجمل من القرآن؟! يا الله! ما أجمل التوبة! وما أجمل العودة إلى الله! {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
قل للذي ألف الذنوب وأجرما وغدا على زلاته متندما لا تيأسن من الجليل فعندنا فضل ينيل التائبين تكرما يا معشر العاصين جودي واسع توبوا ودونكم المنى والمغنما لا تقنطوا فالذنب مغفور لكم إني الجدير بأن أجود وأرحما {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].(27/6)
متى يعظم الذنب ويكبر
اعلم واعلمي: أن الذنوب الصغيرة تكبر وتعظم بأسباب، منها: الإصرار والمواظبة، لذلك قيل: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، قال محمد بن سيرين رحمه الله: والله لا أبكي على ذنب أذنبته ولكني أبكي على ذنب كنت أحسبه هيناً وهو عند الله عظيم.
وتعظم الذنوب أيضاً باستصغارها، فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله تعالى، وكلما استصغره العبد كبر عند الله تعالى.
جاء في الخبر: (إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب مر إلى أنفه فأطاره بيديه).
أوحى الله إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبريائي وعظمة من عصيت.
وتعظم الذنوب إذا فرح بها أصحابها وتبجحوا بها وبذكرها يظنون أن التمكن من الذنب نعمة، ما دروا أنه غفلة وشقاوة.
يا حي يا قيوم برحمة نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
تعظم الذنوب إذا تهاون أصحابها بستر الله عليهم وحلمه عنهم وإمهاله إياهم، ما درى أولئك أن الله يمهل ولا يهمل، وأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
تعظم الذنوب إذا جاهر بها أصحابها، فإن في ذلك كشفاً لستر الله الذي أسدله وتحريكاً لرغبة الشر في من أسمعه.
والأعظم من ذلك: قلة الحياء مع الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، يبيت أحدهم على ذنب قد ستره الله عليه فيصبح فيكشف ستر الله ويتحدث بذنبه).
قال بعضهم: لا تذنب فإن فعلت فلا ترغب غيرك بالذنب، فتكون كالمنافقين الذين قال الله فيهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67]، الحمد لله الذي عافنا مما ابتلاهم به، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.(27/7)
لست فاتنة بل ظالمة
أسوق إليك هذه القصة التي هي بعنوان: (لست فاتنة بل ظالمة): اختصرتها مع طولها ففيها من العبرة الشيء الكثير، اسمها فاتنة وهي كاسمها جريئة متحررة مثقفة في كل شيء إلا في الدين، الدين عندها أن تكون ذات قلب طيب، ولا عليها بعد ذلك أن تخالط من تشاء، تلبس ما تشاء، تفعل ما تشاء.
جمعت ليلة صويحباتها في الكلية للاحتفال بعيد ميلادها، عيد ما أنزل الله به من سلطان ورثناه عن الكفار تشبهاً وتقليداً (ومن تشبه بقوم) سأترك البقية لكم! كانت في أجمل هيئة وأحسن مظهر، بدأت تدور بين صويحباتها تطلق الضحكات هنا وهناك تسألهن: أتدرين يا بنات ماذا ينقص حفلتنا هذه؟ فأجبنها إجابات وهي تقول: لا، ثم لا، وهي مصرة على سؤالها، ثم قالت مجيبة على سؤالها وهي تضحك: تنقصنا الشيخة علياء، فانطلقت موجات الضحك من كل مكان، ثم قالت أحداهن مدافعة: لماذا كل هذا الضحك؟ لماذا كل هذا الضحك والاستهزاء بـ علياء؟! أليست زميلتنا في الصف! أليست صديقتنا في الكلية! ألم تكن إلى عهد قريب رفيقة لنا في سهراتنا وحفلاتنا وهي الآن في محرابها مع صلواتها وقرآنها، إنها تبحث عن الآخرة ونحن عن ماذا نبحث؟! فتجاهلن سؤالها.
قالت أخرى: لقد ذهبنا إليها -أي إلى علياء - لندعوها لعيد الميلاد ولكنها اعتذرت وأعطتنا محاضرة طويلة عريضة في الأخلاق والدين والعادات والاجتماعات.
قالت فاتنة: مسكينة علياء! لقد كانت عاقلة متحررة قبل أن يصيبها هذا الهوس الديني الذي اختطفها من بيننا -قلت أنا: سبحان الله أصبح الدين هوساً وجنوناً- ثم تابعت فاتنة حديثها وهي تقول: فعلاً مسكينة علياء! لقد انقلبت بسرعة وتسممت أفكارها وتغيرت هيئتها، لقد أطالت ثيابها فأصبح منظرها ككبيرات السن لم تعد تؤمن بأن خير اللباس ما قل ودل، والأدهى من ذلك شعرها أصبح بضاعة محرمة مغطاة تحت ذلك السواد، مسكينة علياء! نسيت أن الله يهمه منا القلب وكل ما عدا ذلك شكليات.
الله أكبر! أصبح الحجاب والتمسك بالدين شكليات، قاتل الله الشاشات والقنوات.
ثم تابعت فاتنة حديثها عن علياء: إنها تخوفنا من النار وأن الله سيحرق به أجسادنا المكشوفة، إنها تنذرنا من شيء اسمه الموت، وآخر تسميه الحساب، بل اسمعوا يا بنات! إنها تحملنا مسئولية إغواء الشباب وإغراء الرجال، فقالت أحداهن: لقد قتلتها الهواجس والوساوس ونسيت أن النساء للرجال خلقن ولهن خلق الرجال، مسكينة علياء! أين ستجد فتى أحلامها، أين ستجد السعادة والأنس، لقد قتلت نفسها وهي في ريعان الشباب، ولا بد أن نصنع شيئاً لإنقاذها.
مساكين! ما درين أنهن هن بحاجة إلى إنقاذ.
فارتفعت الأصوات: لا بد من إنقاذها! إنها تقتل نفسها بطول العبادة وكثرة الصيام وقراءة القرآن ولزوم البيت، فلا أسواق ولا حفلات، ما هذا الفهم الخاطئ للدين، إن الحياة متعة وحرية، أما الموت فمالنا وله الآن، نعم سنموت عندما نشيخ ونهرم.
إنه الأمل الطويل! ووالله ما حال بين الناس وبين الصدق في التوبة إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله تعالى عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
انتهى الاحتفال ودارت سنوات تخرجت فيها فاتنة وتخرجت علياء وثبتت على طريق الاستقامة والالتزام، فماذا حدث لـ فاتنة، وماذا حدث لـ علياء؟ تعالوا أحبتي أعطوني المسامع نتابع القصة من مكان آخر: في إحدى المستشفيات في الدور الرابع في غرفة من الغرف صوت أنين مريضة يملأ الغرفة، إنها في تلك الغرفة منذ عدة أشهر، ولقد أيس الأطباء من حالتها وأصبح صوت أنينها معتاداً مألوفاً في المستشفى ولا أحد يستطيع أن يفعل لها شيئاً، لقد تعودت الممرضات على سماع أنينها، أما الطبيبة المناوبة الجديدة في المستشفى فلم تستطع أن تتجاهل ذلك الصوت وذلك الأنين، فقلبها مليء بالرحمة، وهكذا الإيمان يملأ القلب رحمة وعطفاً على الآخرين.
فأخذت بعض العقاقير والمهدئات ودخلت لتلك الغرفة، فتحت الباب فإذا بامرأة على السرير في شبه غيبوبة، جست نبضها فإذا هو ضعيف على وشك التوقف، أصغت إلى تنفسها فكان التنفس مضطرباً خافتاً، جلست بجانبها وأعطتها بعض المنعشات فأفاقت بعد قليل واستوت على سريرها، أدارت عينيها فيما حولها -المريضة- ثم ثبتت نظرها على وجه الطبيبة، ثم أخذت تفرك عينيها بيديها الضعيفتين، ثم زاد اضطرابها ثم قالت للطبيبة: أسألك بالله من أنت؟! فقالت: أنا الطبيبة يا أمي! فقالت المريضة: أنا لا أسألك عن مهنتك، أنا أسألك عن اسمك، أسألك بالله ألست أنت علياء؟ فقالت الطبيبة باستغراب: بلى أنا علياء، وفي لحظات إذا بالمريضة تأخذ برأس علياء تطوقه بذراعيها وتضمه إلى صدرها وتقبله وتجهش بالبكاء.
زاد استغراب علياء وصعقت: من عساها تكون هذه المرأة؟ وهل بها مس من جنون؟! كيف عرفتني وأنا لم أقابلها من قبل ولم يسبق لي علاجها، بل هذه أول ليلة لي في هذا المستشفى كطبيبة مناوبة.
فرجعت علياء برأسها إلى الوراء وأخذت تنظر إلى المريضة مشدوهة لا تدري ماذا تفعل، ثم قالت للمريضة: من أنت يا خالة؟ وكيف عرفت اسمي؟ وهل التقينا من قبل؟! فردت المريضة بصوت تخنقه العبرات: نعم يا علياء لقد التقينا مرات ومرات، إن اسمك وصورتك لم يفارقا خاطري خاصة عندما أصابني المرض قبل ثلاث سنوات، آه يا علياء، أنا التي أكلت لحمك واستهزأت بك أنا فاتنة يا علياء، أنا فاتنة يا علياء، ثم انفجرت بالبكاء والنحيب.
صدمت علياء ولم تستطع الكلام ثم قالت وهي لا تصدق ما سمعت: أقسمت عليك بالله أأنت فاتنة؟! مستحيل فاتنة كانت كاسمها أصغر وأجمل وأنضر.
فقالت فاتنة بصوت خافت متقطع: نعم، أنا التي كان يقال لها ذات يوم فاتنة، فأكبت عليها علياء تضمها إلى صدرها وتجهش بالبكاء المرير الأليم عليها.
فلما هدأ البكاء أخذت فاتنة تروي قصة سبع سنين منذ أن افترقتا، قالت: تخرجت من البكالوريا وحاولت إكمال الدراسة، فلم أستطع، كنت لاهية متمردة على كل شيء، لم أكن أشك بالله، ولكني كنت أعتقد بأن كل ما له علي أن أكون طيبة القلب وكفى، تعرفت على شبان وفتيات وفتيان ثم ارتبطت برجل تعرفت عليه في الوظيفة أحبني وأحببته، لكننا كنا نعيش حياة غافلة بعيدة عن الله، ثم بعد زواجنا بسنوات رزقنا الله بطفلة صغيرة جميلة رائعة سميتها سوسن على اسم صاحبتي التي تعرفينها، ثم بدأت أشكو من آلام في بطني فقال الأطباء: إنها قرحة، فأخذت أتعالج ولكن دون فائدة، أخذت آلامي تزيد وهمومي تزيد، وبدلاً من أن أهرب إلى الله فررت إلى مزيد من الغفلة والضياع، ثم تدهورت صحتي وجاء التشخيص الجديد ليقول: بداية تورم خبيث في المعدة، وهكذا استحالت القرحة إلى سرطان، ثم أخذ السرطان يستفحل ويزيد إلى أن أقعدني هنا أصارع الألم وأنتظر الموت في أية لحظة، لم أر ابنتي منذ أربعة أشهر، عمرها الآن أربع سنوات وزوجي لم يأت لزيارتي منذ أسبوعين، لقد تعب من التردد علي كل يوم لعله ملني أو كرهني.
فلما سمعت علياء قصتها لم تتمالك نفسها وانخرطت في بكاء شديد، ثم تمالكت نفسها وقامت إلى فاتنة تضمها إلى صدرها تواسيها وتخفف عنها: لا تجزعي يا فاتنة، لا تجزعي يا فاتنة لقد عرفتك شجاعة قوية، لا تقنطي من رحمة الله، لا تستسلمي لليأس، قد يكتب الله لك الشفاء وقد يكون هذا ابتلاء، فاستسلمي إلى قضاء الله وقدره واصبري فالصبر جميل والله مع الصابرين.
هدأت فاتنة وغطت وجهها بكفيها وأخذت تقول: عفوك يا الله! عفوك يا الله، لم يبق لي سواك فهل تقبلني، رحماك يا الله! ليته الابتلاء ولكنه الانتقام، لكم تجاهلت تلك الآيات تقرأ على مسامعي، لكم تجاهلت كلام أمي الصالحة الحنون، إنه الانتقام للضحايا الذين فتنتهم وأغويتهم، يا الله! كم أغويت من شاب وكم أفسدت من فتاة، ثم أخذت تردد وتقول: اقترب مني يا موت فلطالما خدعتني أوهامي، لقد ظننت أنك لا تأخذ إلا الكبار والشيوخ وتترك الشباب، لقد خدعتني نفسي وغرني أملي.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل ثم أخذت تسأل علياء: أصحيح يا علياء أن القبر مظلم! أصحيح أن القبر ضيق! فتجيب نفسها: نعم صحيح وعما قريب سأحمل إليه جسداً بارداً هامداً، هناك لن يكون معي أهل ولا أحباب، ولن يكون معي مال ولا ثياب، لن يكون هناك زوج ولا أصحاب.
يا الله! كيف سأفارق صغيرتي سوسن أنا لا زلت صغيرة ولم أشبع من الحياة، ثم تلمست عينيها، وقالت: بكما أرى النور وكم أسقطت بنظراتي من شاب، أحقاً سيأكلكما الدود؟! وينهشكما التراب؟! أخذتها علياء بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها وأخذت تقرأ عليها القرآن وتدعو لها بالشفاء، وأخذت تقول لها: كفى يا فاتنة لا تيأسي من رحمة الله ولا من شفاء الله.
قالت فاتنة: أسألك بالله يا علياء: أيغفر الله لي وقد فعلت ما فعلت وأجرمت ما أجرمت؟ فقالت علياء بصوت واثق: وكيف لا يا فاتنة أليس الله واسع المغفرة؟ أليس الله تواباً رحيماً؟ ألم تسمعي قول الله وهو يخاطب العصاة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَف(27/8)
اعتبروا يا أولي الأبصار
كتب لي أحد التائبين قصة توبته ورجوعه إلى الله بعد ضياع ومعاناة استمرت سنوات، قال في سطوره وفي رسالته: لا أدري كيف أبدأ وكيف أعبر لك عن قصة الرجوع، أنا شاب أبلغ اليوم من العمر ستة وعشرين عاماً، أنا أكبر إخوتي وأسرتي فقيرة جداً، أما أصحابي فلا يصلون ولا يصومون، حياتنا بكل صراحة سهر وخمر ومخدرات، سبع سنوات على هذه الحال حتى مللنا من هذا الضياع، فبدأنا بطريق آخر من طرق الضياع وبدأنا رحلة جديدة من رحلات الغفلة، اقترح أحدنا أن نسافر لبلاد الكفار بحثاً عن المتعة والتغيير، ففعلنا وليتنا لم نفعل، هناك تعلمنا فنون الزنا والخنا والنصب والاحتيال، كنا نمكث في سفراتنا أشهراً طوالاً فإذا نفذت أموالنا اتصلنا على أهلنا ونحن في سكر شديد نطلب منهم أن يمدونا بالمال حتى نستطيع الرجوع، فإذا وصل المال مددنا فترة البقاء، وهكذا في كل مرة كان أحدنا يتصل على أهله للكذب والاحتيال.
في مرة من المرات استأجرنا سيارة وذهبنا إلى أحد نوادي الضياع حيث الخمر والموسيقى والرقص كالأنعام، بل حياة الأنعام أفضل من هذه الحياة، وبينما نحن جلوس نتبادل الحديث ونتبادل كئوس الخمر إذ قال أحد أصحابنا: سوف أذهب إلى مكان قريب وأرجع إليكم بسرعة.
فذهب وكان في حالة سكر شديد، مضت الساعات ولم يرجع، فخرجنا نبحث عنه وبعد بحث وجدناه وقد سقط وهوى بسيارته من مكان مرتفع ومات على أشنع حال! بكينا وحزنا على موته ورجعنا إلى ديارنا محملين بالأحزان، فما مضى شهران حتى عدنا إلى ما كنا عليه، يا ألله! كم هي قاسية قلوبنا، لم أكن أملك مالاً ولا دخلاً شهرياً، بل كنت أحتال وتحمل أهلي بسبب ذلك ديوناً كثيرة، بل كنت أقترض وأتحمل مصاريف السفر مع الأصحاب وأتحملها عنهم مع أنهم كانوا أكثر مني مالاً وأحسن حالاً، وكنت أظن أن هذا من الكرم والجود على الأصحاب والخلان.
تراكمت الديون علي وساءت الأحوال وبدأ يتخلى عني الأصحاب، أي أصحاب هؤلاء، أصبحوا يسافرون ولا يخبروني بسفرهم وأنا الذي تحملت الديون من أجلهم، اكتشفت حينها أنهم أصحاب مصلحة وضياع -قلت أنا: اكتشاف متأخر! - فصاحبت غيرهم ولم يكونوا بأحسن حال منهم، جمعت أموالاً وسافرت أنا وإياهم مع ابن عم لي مع مجموعة من الأصحاب إلى بلد آسيوي مشهور بالمجون وفساد الأخلاق، بعد يومين من وصولنا قال ابن عمي إنه سوف يرجع، فلما سألته عن السبب قال: لقد رأيت في المنام أن الناس في هذه البلاد يحترقون وقد اشتعلت بهم النيران، وأتاني رجل شديد البياض فقال: ارجع قبل أن تحترق معهم، فرجع ابن عمي ورجعت معه، فمكثت في البيت بلا مال وبلا أصحاب، وأصابني من الهم والحزن والضيق ما الله به عليم.
في يوم من الأيام حانت ساعة الانتقال فجاءتني أمي باكية وقالت: لماذا لا تصلي؟! لماذا لا ترجع إلى الله؟! وأعطتني شريطاً وأقسمت علي أن أسمعه، ثم ذهبت وتركتني.
فبدأت أسمع الشريط فأحسست أني أنا المخاطب، كان الشريط يتكلم عن اللذين يغرقون في الذنوب والمعاصي، كان الشريط يتكلم عن أثر الصحبة في الاستقامة وأثرهم في الضياع، أخذت أبكي وأبكي وأبكي فقررت التوبة ومراجعة الحسابات.
يقول صاحب الرسالة: أتعرف يا شيخ من هو صاحب الشريط؟ إنه أنت, وأنا أحبك حباً شديداً، وكان اسم الشريط: أحوال الغارقين، ثم أعطتني أمي شريطاً آخر اسمه: قوافل العائدين -قلت أنا: اللهم اجعلنا خيراً مما يقولون- وأحسن مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون -يقول: ها أنذا أكتب لك الرسالة وأنا أبكي بكاءً شديداً وأمي جالسة عندي تبكي معي وتدعو لك بالثبات حتى الممات وهي فرحة جداً بتوبتي، يا شيخ! إن قصتي أكبر وأعظم من هذا، ولكني ذكرتها لك باختصار.
أما من أخباري الجديدة منذ أن بدأت الحياة الجديدة حياة التوبة والاستقامة، فأنا أنتقل من خير إلى خير، ومن نور إلى نور، لقد حصلت على وظيفة وأنا الذي كنت عاطلاً لسنوات، بل لست أملك شهادة كما يملك الغير، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
وأزيدك خبراً من الأخبار ستفرح لي عندما أخبرك به: فزيادة على وظيفتي أنا الآن مؤذن في بيت من بيوت الله، أصدح بالأذان وأردد في اليوم مرات ومرات: الله أكبر ولا إله إلا الله، فادع لي بالثبات وإني والله لأدعو لأصحاب الماضي بالهداية والصلاح وأتمنى أن يعتبر بقصتي أولو الأبصار.(27/9)
إن الله يغفر الذنوب جميعاً
أحبتي! إن الذنوب والمعاصي باب كلنا ولجناه وبحر كلنا سبحنا فيه، ولا ينجو من ذلك إلا المعصومون ممن اصطفاهم الله واجتباهم من الأنبياء والرسل، أما أنا وأنت وأنت فكلنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، وقال بأبي هو وأمي: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)، رواه مسلم.
فالوبال والهلاك هو الاستمرار على المعصية التي زينتها النفوس الضعيفة والشياطين الخبيثة، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا أيها الناس! من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك في الإصرار عليها.
أخي! أخية! لا بد من الندم والبكاء بسبب المعصية والإقلاع عنها في الحال، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولن تطيب الحياة إلا بالعودة إلى الله والتمسك بالدين! كثير هم المترددون، كثير هم الذين يقولون: ذنوبنا كثيرة، معاصينا غزيرة، فهل يغفر الله لنا؟ أقول: نعم -وبأعلى الصوت- يغفر الله لكم إن تبتم وندمتم ورجعتم، بل ويفرح سبحانه بتوبتكم وعودتكم، بل يحب التوابين ويحب المتطهرين.
تأمل وتأملي معي في هذه الآيات وهذه الكلمات النبويات: قال الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، فالرحمة واسعة ونحن لا شيء، وهو أرحم الراحمين.
تدبر وتدبري وتأمل وتأملي في قول الرحمن الرحيم: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، نعم يغفر الذنوب جميعاً، بل من كرمه ومنه وجوده يبدل السيئات إلى حسنات.
قال سعيد بن المسيب في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25] قال: هو الرجل يذنب الذنب ثم يتوب، ثم يذنب الذنب ثم يتوب، فالباب مفتوح ويداه سبحانه مبسوطتان بالليل والنهار ليتوب مسيء الليل ويتوب مسيء النهار.
قال الفضيل: قال الله: (بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم، وحذر الصديقين أني إن وضعت عليهم عدلي عذبتهم).
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: (إن الله قال: من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له على ما كان منه ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئاً).
واعلم رعاك الله واعلمي بارك الله فيك! أن نبي الهدى والرحمة قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
فلنسارع بارك الله في الجميع إلى التوبة والندم والرجوع إلى الله، سارعوا بارك الله فيكم قبل أن نصيح بأعلى الصوت: رباه ارجعون؛ رباه ارجعون؛ فلا يستجاب لنا، لكن الباب مفتوح ورحمة الرحمن واسعة.
بل أبشر أيها التائب! وأبشري أيتها التائبة! بهذه الآيات العظيمة التي تستغفر الملائكة فيها للتائبين قال الله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].
فالبدار البدار! والمسارعة المسارعة! فإن حياة النفوس في السمو ونجاتها في العلو.
الله الله في التوبة والإنابة.
الله الله في الثبات حتى الممات.
الله الله في الصدق في التوبة مع الله.
الله الله في الصدق في التوبة مع الاستقامة.
واعلم أن باب الاستقامة هو المحراب فالخير كل الخير في ارتياد المساجد، وزاد المساجد هو خير زاد للانطلاق {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37] فما جزاء خوفهم؟ {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:38].
عمارة المساجد من الإيمان كما قال الله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، وقال صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد أو راح، بنى الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح وأحب البقاع إلى الله المساجد وأبغضها إلى الله الأسواق).
قال الحسن بن علي رضي الله عنها: (من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آيةً محكمة، وأخاً مستفاداً، وعلماً مستظرفاً، ورحمةً منتظرةً، وكلمةً تدله على هدى أو تردعه عن ردى، وترك الذنوب حياءً أو خشيةً).
ولله در القائل: لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح اللهم ارحم عباداً غرهم طول إمهالك، وأطمعهم دوام إفضالك، ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك، وتيقنوا أن لا غنىً لهم عن سؤالك.
قولي وقل ولنردد: اللهم إن يكن الندم توبة إليك فإنا إليك من النادمين، وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة إليك فإنا لك يا رب من المنيبين، وإن يكن الاستغفار حطة للذنوب فإنا لك من المستغفرين، اللهم فتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخيمة صدورنا، ولا ترجعنا مرجع الخيبة من رحمتك فإنك أنت التواب الرحيم الجواد الكريم، يا غافر الذنب يا قابل التوب يا أرحم الراحمين.
يا من له وجب الكمال بذاته بل كل غاية فوزهم لقياه سبحان من أحيا قلوب عباده بلوائح من فيض نور هداه من كان يعرف أنك الحق الذي بهر العقول فحسبه وكفاه مولاي جودك لم يدع لي مطلباً إلا وتممه إلى أقصاه اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
اللهم اقبل توبة التائبين واغفر ذنوب المذنبين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لتوبة نصوح قبل الموت وشهادة عند الموت ورحمة بعد الموت يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم ثبت إخواننا في العراق وفي فلسطين وأفغانستان وكل مكان، كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً.
واعلموا أنهم ينصرون بدعوة التائبين، فلنجدد التوبة وندعو لهم منيبين إلى الله راجعين.
تقبل منا إنك أنت السميع العليم، آمنا في أوطاننا اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
أستغفر الله العظيم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(27/10)
حتى لا يلقى الطفل عند القمامة
تمكنت العنصرية والجهل والفخر بالأحساب بين الناس، فغلت المهور، وعسر الزواج على الشباب؛ فكان ذلك سبباً في انتشار الزنا وارتفاع معدلاته، وإلقاء أطفال لا ذنب لهم في القمامات والطرقات، وعلى أبواب المساجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(28/1)
بشاعة جريمة الزنا وسد الطرق الموصلة إليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! جريمة الزنا من أعظم الجرائم وأبشعها وأفظعها، ضررها معلوم، تنتهك بالزنا الأعراض، وتضيع به الأنساب، وبه تنتشر الأمراض التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين، والقاعدة الشرعية تقول: إن الله إذا حرم شيئاً حرم كل ما يوصل إليه، فسد الله أبواب الزنا، فحرم الاختلاط، وحرم الخلوة بالمرأة، وحرم التبرج والسفور، بل حرم النظر إلى ما لا يرضي الله جل في علاه، وزيادة على هذا كله شرع أشد العقوبات لمن يرتكب هذه الجريمة العظيمة -أي: الزنا-: الرجم حتى الموت إن كان محصناً؛ لأن الجريمة بشعة، فكان الحد مناسباً لبشاعتها، الرجم حتى الموت.
ومما لا يختلف فيه: أن الرجل بحاجة إلى المرأة، وأن المرأة بحاجة إلى الرجل، فطرة الرجل تسدها المرأة، وفطرة المرأة يسدها الرجل، غريزة موجودة في الذكور والإناث، إن لم تسد هذه الغريزة بما شرع الله، فسيلجأ الناس أو ضعاف الإيمان إلى سدها بالحرام.(28/2)
الحكمة من تشريع الزواج
فمن أجل ذلك شرع الله الزواج حين حرم الزنا، ثم سد الأبواب الموصلة إلى الفاحشة.
شرع الله الزواج وهو سنة الأنبياء وسبيل المؤمنين، قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، وقال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)، فشرع الله الزواج لتلبية الحاجة في نفوس الرجال والنساء، فلا خلاف في مشروعية الزواج وفضله، بل نهى الله عن العضل، الذي هو: منع المرأة وحبسها عن الزواج فقال الله سبحانه: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232] وعظم الله ذلك العقد بين الرجل والمرأة وسماه ميثاقاً غليظاً؛ لعظم شأنه وحرمته عند الله جل في علاه، فقال سبحانه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] ولأهمية الزواج قدمه كثير من المحدثين والفقهاء على الجهاد؛ لأن الجهاد يحتاج إلى الرجال، ولا سبيل لإيجاد الرجال إلا عن طريق الزواج.
ومن فوائد الزواج محاسنه: أنه من أسباب الغنى، وصد الفقر، كما قال الله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
فبالزواج يحفظ النسل، وتصان الفروج، وتحفظ الأعراض، ويحصل الإحصان، ويأمن المجتمع من جريمة الزنا.
عباد الله! معدلات الزنا في المجتمع في ارتفاع يوماً بعد يوم، ولقد اطلعت على تقارير الهيئات في ضبط المشاكل والخلوات فوجدت أكثرها لفتيات وشبان في شقق وفي سيارات، اذهب إلى المجمعات فسترى آلافاً مؤلفة من الفتيان والفتيات في أبهى حلة، وأحسن زينة، ماذا يريد هؤلاء؟! ولماذا خرجوا؟ بحثاً عن إشباع الغرائز، ولماذا ارتفع الزنا؟ وزادت معدلاته؟ اسمع رعاك الله! قبل أن أذكر لك الأسباب سأذكر نسبة أولاد السفاح، ففي المنطقة الشرقية في العام الماضي فقط، عام 1424هـ عدد أولاد السفاح الذين وجدوا على أبواب المساجد وفي المزابل والقمامات ثمانية وأربعون طفلاً، فما ذنب هؤلاء؟ يقول أحدهم: خرج أبي لصلاة الفجر وفي طريقه إذا به يسمع صياح طفل صغير يصدر من مكان ما، ارتفع صياحه، وبحث أبي عن مصدر الصوت، فإذا به في القمامة قد لف بقطعة قماش، ورمي هناك، ما ذنب هذا الصغير؟ ومن أين أتى؟ أقول: إنها جريمة الزنا، الجريمة الشنيعة التي شرع الله أشد العقوبات لمرتكبيها من الرجال والنساء.(28/3)
أسباب انتشار الزنا
أسباب انتشار الزنا في زماننا عديدة من أهمها ما يلي: أولاً: القنوات والتبرج والسفور: إن إثارة الغرائز في كل مكان هو من أعظم أسباب انتشار الرذيلة، ففي البيوت شاشات وقنوات، ومجلات وأغان ماجنات، وفي دراسة أجريت على أكثر من خمسمائة فيلم يعرض على هذه الشاشات والقنوات، تبين أن (70%) من موادها إثارة جنسية، ودعوة إلى الجريمة والسرقة ومفاسد الأخلاق، كيف لا يتأثر البنون والبنات بمثل هذا؟!! إن خرجنا إلى الشارع وجدنا نساء كاسيات عاريات في كل الطرقات! أين نذهب إذاً؟! وأين يفر الشباب من الفتن؟! شاشات وقنوات ملئت بها البيوت يشاهدها الصغير والكبير بلا حياء، وبلا رقيب ولا حسيب، وأغان صباحاً ومساءً تدعو إلى مثل هذه الأمور، والأطم والأعظم تأخير الزواج بأعذار واهية، فتارة يقول الأب: ابنتي صغيرة، والله الذي لا إله إلا هو إن اللائي ضبطن في الخلوات، أعمارهن في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة، فأعمارهن لم تتجاوز العشرينات، أي صغيرة هذه؟!! والله لو تكلمت الصغيرة- وما ردها إلا الحياء- لقالت لأبيها: إن أمنيتي رجل صالح وبيت صغير، تأوي إلى ذلك الرجل، ويأوي إليها.
اتصلت إحدى فتياتنا على أحد مشايخنا قائلة: انصحوا أبي، إنه يرد الخطاب عني، وأنا والله على خطر عظيم.
تعتذر البيوت بصغر الفتيات، وتناسى هؤلاء أن أم المؤمنين عائشة تزوجت وهي ابنة تسع سنوات.
ومن الأعذار الواهية قولهم: نريدها أن تكمل تعليمها، أقول: وهل التعليم أهم من الزواج؟! ولسنا ضد التعليم أصلاً، وما المانع من أن تتزوج وتكمل تعليمها؟! أمهات الجيل الماضي لا يقرأن ولا يكتبن وخرجن أجيالاً من أحسن الأجيال، ما ضرهن والله أنهن لا يقرأن ولا يكتبن.
تقول إحداهن: كنت صغيرة في السن حين تقدم لي الخطاب، فردهم أبي بقوله: أريدها أن تكمل تعليمها، فلما تخرجت قال: أريدها أن تحصل على الوظيفة، ولا زال الخطاب يتقدمون وهو يردهم عني، حتى بلغت الثلاثين وبدأ الخطاب يقلون عني، وهو يردهم بأوهى الأعذار، بل ربما يتقدمون وأنا لا أعلم عنهم حتى بلغت الأربعين من العمر، فجاءته الساعة التي لا بد أن تأتي لكل واحد منا، في ساعات الاحتضار يتذكر الإنسان ما قدم وما أخر، وفي تلك اللحظة تذكر الأب ذلك الظلم الذي أوقعه على تلك الفتاة، فأخذ يعتذر إليها في آخر اللحظات، قالت: والله لن أسامحك! والله لن أسامحك! صويحباتي أمهات وجدات وأنا بين الجدران الأربعة، والله لن أسامحك! مت غير مغفور لك، والله لن أدعو لك، ولن أستغفر لك، وإذا وقفت أنا وأنت أمام الله فسأخاطبك أمام الله: حرمتني حقاً من حقوقي.
والله الذي لا إله إلا هو إني لأعرف بيتاً من بيوت المسلمين فيه سبع فتيات تجاوزت أعمارهن الثلاثين، ولا يزال الأب يرد الخطاب طمعاً وجشعاً وظلماً وعدواناً، تارة صغيرة، وتارة أريد منها أن تكمل التعليم، أي تعليم هذا؟! ثانياً: العصبية الجاهلية للأنساب: ومن أعظم الأسباب التي تفشت بين الناس اليوم بين حضر وبدو أن هذا لا يزوج فلاناً! وهذا لا يقبل فلاناً، إنها الجاهلية بأم عينها؛ لأن الميزان في الإسلام: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فالناس عند الله سواسية كأسنان المشط، لا تقدمهم أحسابهم ولا أنسابهم، وفي الحديث: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
اسمع الطامة العظمى! اتصلت بي إحداهن وهي طالبة في الكلية في السنوات الأولى، فقالت: نحن في خطر، تكلموا عن الخطر الذي يهددنا، الإباحية في كل مكان، نريد أن نعف أنفسنا بالزواج، ادع لي يا شيخ، قلت: عسى الله أن ييسر الأمور.
ثم اتصلت بي أخرى بعد حين باكية قائلة: تقدم لي حافظ للقرآن، حافظ لآيات الله وكلامه، ذو خلق وأدب عظيم، يشهد له القاصي والداني، فرده أبي قائلاً: أنا من قبيلة كذا وكذا فلا أزوج هذا، بل قال لي: اقطعي الأحلام، والله لأزوجنك من قاطع طريق وشارب خمر، ولا أزوجك هذا، وهو حافظ للقرآن! قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50].
إن الله وضع ميزاناً هو ميزان التقوى، وهو ميزان التفاضل بين الناس، الناس عند الله سواسية، فلماذا نرد فلاناً وفلاناً؟ ما الضابط للرجل حين يتقدم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، يتقدم الشاب اليوم فلا يسأل عن خلقه ولا يسأل عن دينه، وإنما يقال له: ابن من؟ وممن؟ وما هي وظيفتك؟ ووضعنا الدين آخر الدرجات ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) والفساد واقع في كل مكان.
ثالثاً: غلاء المهور: من الأسباب التي عطلت الزواج وجعلته عقبة في وجوه الشباب: غلاء المهور، تفرض آلاف مؤلفة ما أنزل الله بها من سلطان، من أين للشباب بثلاثين وأربعين وخمسين ألفاً ورواتبهم لا تتجاوز الألف والألفين؟! والفتن في كل مكان تطارد الفتيات والفتيان، ثم توضع هذه العقبات والعراقيل.
ثم ما المقصد من الزواج أصلاً؟ أليس المقصد حفظ الفتاة والشاب، وإنشاء أسرة مسلمة؟! اليوم لا تنشأ الأسرة المسلمة إلا بملايين الريالات؛ لأن الرجال لا يديرون الأمور، فتخلوا عن المسئولية وأعطوها للنساء.
في زواج مضى كانت حفلة الزواج فيه قد كلفت أكثر من عشرة ملايين ريال! ثم باء هذا الزواج بالفشل بعد شهر واحد، فمن أين للشباب مئات الآلاف من الريالات؟ يريد خمسين ألفاً للمهر، وخمسين لإعداد عشة الزواج، من أين لهم بمثل هذا؟! كثير من الشباب لا يبني حياته إلا على ديون لسنوات طوال، أما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد وغيره: (أبركهن أيسرهن مئونة).
وهل فتياتنا وبناتنا أحسن من أمهات المؤمنين؟! حين سئلت عائشة رضي الله عنها عن صداقه صلى الله عليه وسلم لنسائه -كما عند مسلم وغيره- فقالت: (ما زوج النبي صلى الله عليه وسلم بناته ولا أصدق نساءه بأكثر من ثنتي عشرة أوقية ونشاً، قالت: أتدري ما النش؟ نصف أوقية، فذلك خمسمائة درهم) خمسمائة درهم لأمهات المؤمنين، وهن أطهر النساء وأعفهن، وأكرمهن عند الله جل في علاه، ولبناتنا نطالب بثلاثين وأربعين وخمسين ألفاً، من أين يأتي الشباب بمثل هذا؟ أيسرقون أم يلجئون إلى الزنا؟ نحن الذين دفعناهم إلى هذا، كم من شاب التزم وأراد تحصين فرجه فإذا بالأبواب مغلقة أمامه! وكان ذلك سبباً في انتكاسته، الكل يتحمل المسئولية؛ لأن الحلال في المجتمع بمئات الآلاف من الريالات، والحرام بأيسر الأموال! وجدت حالة إيدز اكتشفت في المنطقة الغربية لطالب في المرحلة المتوسطة، وبعد التتبع عثر على وكر من أوكار المتخلفين من الحج يقدم الزنا بعشرة ريالات، الحرام بعشرة ريالات في حين أن الحلال بمئات الآلاف من الريالات.
اتقوا الله عباد الله! فما أنزل الله بهذا من سلطان.
أحد الشباب يروي قصة زواجه، فيقول: حين عزمت على الزواج اخترت بيتاً صالحاً أعرفه -وهذا هو الأصل؛ لحديث: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دساس)، أي: ابحثوا عن الصلاح لا الحسب والنسب، فالضابط هو صلاح الرجل والمرأة- قال: فذهبت إلى أبيها في المسجد، وصليت بجانبه، فلما انتهى من صلاته فاتحته بالموضوع على تردد، هو يعرفني، قال: أنت ممن نرضى دينه وخلقه، جئنا بأهلك حتى نتعرف عليهم، جئته بعد أيام بأهلي، تعارف الأهل، وحصلت بينهم مودة وألفة، قال لي الأب: الأسبوع القادم إن شاء الله تأتي ومعك الشهود نعقد لك على فلانة، أردت أن يبين لي كم المهر؟ وما هي الشروط والضوابط؟ فلم يتكلم قال: الموعد الأسبوع القادم.
يقول الشاب: كنت على الوظيفة منذ عشر سنوات، جمعت مبلغ عشرين ألف ريال -وهذا إنجاز في ظل هذه الظروف التي نمر بها الآن، أي: أن يجمع إنسان مبلغ عشرين ألف ريال- قلت: عشرين ألف أستحي أن أعطيه إياها؛ لأن السائد تنافس الناس على المظاهر والإسراف والتبذير، حتى أصبحنا إخواناً للشياطين الذين من أصلهم الإسراف والتبذير، كما قال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:26 - 27] فاقترضت عشريناً أخرى حتى أصبح المبلغ أربعين ألف ريال.
وقلت: الأربعون لا تكفي اليوم! فذهبت في اليوم المحدد وجاء الشيخ بعقد النكاح، وبدأت الدقائق تمر علي وأنا في حرج شديد، حتى حانت تلك الساعة التي قال فيها الشيخ: كم المهر؟ فسكت، فرددها علي، قلت: أربعين ألفاً، قال الأب: لا، فسقط قلبي بين يدي، قال الأب: خمسة آلاف تكفيها، واستعن بالباقي أنت وإياها على قضاء حوائجكما، فقمت فقبلت رأسه، وحق لمثل هذا أن يقبل رأسه، ومثله قليل.
أعينوا الشباب وساعدوهم واحفظوا الفتيات والمجتمع، فالزنا في كل مكان، أولاد السفاح في كل مكان، على أبواب المساجد في المزابل والقمامات! اتقوا الله عباد الله! يسروا ولا تعسروا، اللهم من يسر على الشباب فيسر عليه، ومن عسر عليهم فرده إلى الحق يا رب العالمين! اللهم احفظ بيوتنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(28/4)
من قصص السلف في تيسير المهور
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، ومن تقوى الله تيسير المهور، وتيسير أمر الشباب والفتيات، المقصد من الزواج بناء أسرة مسلمة نحفظ بها هذه المجتمعات من الوقوع في الفاحشة والرذيلة، ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً فقيراً بما عنده من القرآن، فمن يسن هذه السنة الحسنة اليوم فينا الآن؟! أين من يزوج الصالح؟ أين من يبحث لابنته عن ذلك الشاب التقي النقي، فيعطيها ويسلمها إليه؟ ذكر في السير: أن مجلس سعيد بن المسيب يحضره عشرات، بل مئات من الشباب الصالحين، فانقطع شاب من الشباب عن الحضور يوماً، فلما حضر بعد أيام سأله سعيد: أين كنت يا أبا وداعة؟ قال: ماتت زوجتي، وانشغلت بدفنها وعزائها، فقال سعيد رحمه الله: هلا أخبرتنا حتى نعزيك ونواسيك؟! ثم قال له: هل نويت بأمر بعدها؟ أي: هل عزمت على زواج بعدها؟ قلت: ومن يزوجني، وأنا لا أملك إلا ثلاثة دراهم؟ قال سعيد: سبحان الله! ثلاثة دراهم لا تعف مسلماً، قلت: ومن يزوجني؟ قال: أنا، قلت: ابنة سعيد بن المسيب التي يخطبها الأمراء والوزراء ويردهم عنها، تدري لماذا؟ لأنه يريد لها صاحب الدين والخلق، ما نظر إلى الجاه ولا للحسب والنسب، يريد أن يعطي تلك الأمانة التي استرعاه الله إياها إلى يد أمينة، قال: أنا أزوجك، قلت: ابنة سعيد بن المسيب التي يخطبها الأمراء والوزراء فيردهم، قال: أنا أزوجك، فدعا من كان في ناحية المسجد، ثم قال: الحمد لله، وأثنى على الله، ثم قال: زوجنا فلاناً على فلانة بدرهمين، تم العقد، يقول: طرت من الفرح، ابنة سعيد! ذهبت إلى داري وأنا أطير من شدة الفرح، دخلت وكان الوقت ساعة مغيب الشمس، كنت صائماً، أخرجت خلاً وخبزاً أريد الإفطار، فإذا بطارق يطرق الباب، قلت: من؟ قال: سعيد، فجاء على بالي كل سعيد إلا سعيد بن المسيب -فما رئي منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، ما فاتته تكبيرة الإحرام أربعين سنة- فتحت الباب فإذا بـ سعيد بن المسيب قلت: لقد رجع في كلامه، قلت: لماذا أتيت كان حري بك أن تستدعيني وأنا آتيك؟! قال: مثلك يؤتى إليه، أنت إنسان زوجناك وخفت أن تبيت الليلة عزباً، ويحاسبني الله على عزوبيتك، فإذا بسواد من خلفه دفعها داخل الباب سقطت من حيائها، ثم قال: بارك الله لك وبارك عليك، هذه زوجك، أسأل الله أن يوفق ويصلح بينكما، ثم ذهب في طريقه، يقول: فنظرت إليها فإذا هي من أجمل النساء، والله ما رأت عيني أجمل منها، فصعدت إلى سطح المنزل، ناديت جيراني، قلت لهم: سعيد بن المسيب زوجني من ابنته، وقد أتى بها هذه الليلة، انزلوا عندها، وقال: سأذهب لأخبر أمي بالخبر، فذهبت إليها فقالت لي: وجهي من وجهك حرام، والله لا تقربنها إلا بعد ثلاثة أيام، حتى أزينها كما تزين العروس، وبعد ثلاثة أيام أدخلت عليها، والله ما رأت عيني أجمل منها، إن تكلمت أحسنت الكلام، وإن سكتت على أجمل مقام، مكثت معها شهراً كاملاً لم أر منها إلا صياماً وقياماً، وبعد شهر أردت الذهاب إلى مجلس سعيد، فقالت: إلى أين تذهب؟ قلت: إلى مجلس سعيد لطلب العلم، قالت: اجلس فإن علم سعيد كله عندي، ذهبت إلى مجلس سعيد بعد شهر، فلما رآني تبسم ولم يكلمني حتى انفض الجمع من المجلس، فلما انفض جئته وجلست بين يديه، فقال: كيف ضيفكم؟ قلت: على أحسن حال، قال: إن رأيت ما لا يعجبك فالعصا، ثم أعطاني عشرين ألف دينار، وقال: استعن أنت وإياها على قضاء حوائجكما.
أين لنا بمثل سعيد اليوم؟! أين لنا بمثل هؤلاء؟! الزنا في كل مكان، والشاشات والقنوات عاثت فساداً في الأخلاق والأعراض، أعراضنا تنتهك، شبابنا لا يجدون ما يسد حاجتهم، وفتياتنا في الأسواق كاسيات عاريات، ونحن نقول: عشرات الآلاف من الريالات! اتقوا الله عباد الله! يسروا أمور الزواج، احفظوا المجتمع من الفواحش والمنكرات، ولن يكون هذا إلا إذا سرنا على المنهج الرباني والنبوي الصحيح، فما زوج بناته ولا تزوج أمهات المؤمنين بأكثر من خمسمائة درهم عليه الصلاة والسلام، فلماذا مثل هذا عباد الله؟! اللهم يسر للشباب وحصن فروجهم، واحفظ الفتيات وحصن فروجهن يا رب العالمين! اللهم من يسر على معسر فيسر عليه، ومن عسر عليه فرده إلى الحق يا رب العالمين! اللهم احفظ مجتمعاتنا من الفتن والفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن يا رب الأرض والسماوات! اللهم طهر بيوتنا من الشاشات والقنوات، اللهم احفظ نساءنا وأطفالنا! اللهم وسع على شباب المسلمين يا رب العالمين! اللهم حصن فروجهم، وغض أبصارهم، وثبتهم على الطاعة يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ول علينا خيارنا، واكفنا شرارنا، اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمتك، اللهم فك أسرهم، وارفع الحصار عنهم يا رب العالمين! اللهم أمدهم بمدد من عندك، وجند من جندك يا حي يا قيوم! انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، قو عزائمهم، واربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم.
اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، وكيده في نحره يا رب العالمين! اللهم عليك باليهود والنصارى المعتدين الظالمين، وعلى أعداء الملة ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.(28/5)
حوادث على الطريق
لقد استعمل بعض الناس السيارة في أغراضه السيئة، والوصول إلى مآربه السافلة، فصار يفر بها إلى البراري ليقترف ما تهواه نفسه بعيداً عن أعين الناس، وبعيداً عن أيدي الإصلاح، والأدهى والأطم هو أن تجد أولئك الذين يستعملون هذه المركبة هذا الاستعمال السيء في أوساط المدن والشوارع العامة.
إن السيارة نعمة من الله، ومن يقوم بمثل هذه الأعمال السيئة فإنه لا يشكر النعمة، وإنما يستهزئ بها، ويستغلها في غير موضعها، وقد تكون نهايته في سيارته! فهل سأل هذا المتهور نفسه على أي حال سيموت؟ وماذا عمل للقاء هذا اليوم؟(29/1)
قبل البداية هذه تحية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم صغاراً وكباراً، وأهلاً بكم رجالاً ونساءً، وأهلاً بكم في محاضرة عنوانها: حوادث على الطريق.
عناصر اللقاء ستكون كما يلي: بعد الحمد وقبل البداية تحية، ثم السيارة نعمة أم نقمة؟ ثم أرقام وإحصائيات، ثم ما هي الأسباب؟ ثم حوادث على الطريق.
الحادث الأول: حادث قبل العيد.
الحادث الثاني: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث.
الحادث الثالث: في ذمة الله.
الحادث الرابع: الملتقى الجنة.
فقبل البداية هذه تحية: إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليكم فسلموا سلام من الرحمن في كل ساعة وروح وريحان وفضل وأنعم على الصحب والإخوان والولد والألى رعاهم بإحسان فجادوا وأنعموا وسائر من للسنة المحضة اقتفى وما زاغ عنها فهو حق مقوم ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكنهم فيها بدور وأنجم أولئك أحبابي فحيا هلاً بهم وحيا هلاً بالطيبين وأنعموا أحبتي! إن نعم الله لا تعد ولا تحصى، فقد أسبغ علينا النعم ظاهرة وباطنة، فله الحمد كله، وله الشكر كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.(29/2)
السيارة نعمة أم نقمة؟
إن هذه السيارات التي تنتقل بها من مكان إلى مكان في يسر وسهولة، نعمة من نعم الله علينا، قال سبحانه وتعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:5 - 8]، قالوا: أي يخلق من الوسائل التي يركبها الناس في الجو والبر والبحر ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم.
ومن هذه الوسائل السيارة، فمنافعها كثيرة، ومصالحها وفيرة، حتى صارت في هذا العصر من الضروريات بحيث لا يستغنى عنها في قضاء الحوائج وتحقيق المصالح، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، ومن شكرنا له سبحانه ألا نستخدم هذه النعمة في أغراض سيئة أو نسيء استعمالها، أو نستعين بها على فعل المعاصي والذنوب.
قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لقد استعمل بعض الناس هذه السيارة في أغراضه السيئة، والوصول إلى مآربه السافلة، فصار يفر بها إلى البراري ليقترف ما تهواه نفسه بعيداً عن الناس، وعن أيدي الإصلاح، ويخرج بها عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها، فهل يصح أن يقال لمثل هذا: إنه شاكر لنعمة الله؟ وهل يصح أن نقول: إنه سالم من عقوبة الله؟ كلا، فهو لم يشكر نعمة الله، ولم يسلم من عقوبته.
وتفكر وتأمل وقل لي بالله: السيارة نعمة أم نقمة؟ أحبتي! كم سمعنا عن أولئك الذين ماتوا في حوادث السيارات وهم سكارى، فبعضهم يسمع الغناء، وبعضهم كان سائراً إلى أماكن الخنا واللهو وما يكرهه الله تعالى.
أحبتي! كم تسببت الحوادث في وفيات وإصابات وإعاقات؟! وكم خسرنا من شباب؟! وكم ترملت من نساء؟! وكم تيتم من أطفال؟! وكم تسبب متهور بسرعته وعدم مبالاته في فقد كثير من الأبرياء؟! وكم تسببت الحوادث في إعاقات مستديمة لكثير من الشباب والشيب؟! وكل ذلك بسبب الاستخدام الخاطئ للسيارة، ومخالفة الأنظمة التي وضعت لحماية المجتمع.
يقول أحدهم: أصبت في حادث مرور منذ عشرين عاماً -بسبب السرعة الزائدة- بإصابة في ظهري أدت إلى شلل كامل، وهكذا انقلبت حياتي رأساً على عقب، وتاهت أحلامي، وضاعت طموحاتي، أقول: ومثله كثير، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].(29/3)
أرقام وإحصائيات
واسمع بعضاً من الأرقام والإحصائيات حتى تعلم أن الأمر خطير: توجد إحصائيات لأعوام ماضية عن عدد الحوادث والمصابين والمتوفين في جميع أنحاء المملكة، وإليك بعض هذه الأرقام: في عام 1417هـ عدد الحوادث: (135763).
عدد الإصابات: (25870).
عدد الوفيات: (3131).
ولاحظ أن النسبة في ازدياد.
في عام 1418هـ عدد الحوادث: (153727).
عدد الإصابات: (28144).
عدد الوفيات: (3470).
وتأمل الزيادة عاماً بعد عام.
في عام 1419هـ عدد الحوادث: (264326).
عدد الإصابات: (31059).
عدد الوفيات: (4290).
وتأمل في عام 1420هـ عدد الحوادث: (267772).
عدد الإصابات: (32361).
عدد الوفيات: (4848).
والعدد في ازدياد، ولم نستطع أن نحصل على إحصائيات أكثر من هذا العام، لكن كم نفقد من الشباب والشيب، والأطفال والنساء، والصغار والكبار؟!(29/4)
أسباب حوادث السيارات
السرعة الجنونية وعدم المبالاة.
مخالفة الأنظمة من قطع إشارات وغيرها.
تسليم السيارة لصغار السن الذين هم دون سن الرشد، أولئك الذين لا يدركون قيمة السيارة ولا عظم المسئولية، وكم نرى صغاراً يجوبون الشوارع يمنة ويسرة مع أصحاب لهم، يملئون الشوارع بالتفاحيط والمخالفات، فأين هو الذي استرعاه الله رعية؟! ومن آفات العصر: التفحيط والتطعيس، وما أدراك ما التفحيط والتطعيس؟ فمن الأشياء التي ابتلي بها كثير من الشباب اليوم: التفحيط في الشوارع العامة أو التطعيس على الكثبان الرملية وفي البراري، ولا شك أن فيهما إتلافاً للمال الذي بين أيديهم -وهو السيارة- وإتلافاً للأبدان؛ لأنه كثيراً ما تقع الحوادث بسبب هذا التفحيط أو التطعيس، ويذهب الضحية السائق أو أحد الذين يركبون معه أو أحد المارة.
وكم قتل من أبرياء بسبب هذه التصرفات التي تدل على عدم المسئولية وعدم المبالاة! وقد بين علماؤنا حفظهم الله حكم التفحيط والتطعيس، ومفاسدهما وأضرارهما على الفرد والمجتمع.
فقد سئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن حكم الصعود على الكثبان الرملية المرتفعة وهو ما يعرف بالتطعيس، وهل يعد آثماً من يشاهد ذلك؟ فأجاب حفظه الله ورعاه: أولاً: المشاهدة تنبني على الفعل، هل هو جائز أم لا؟ فنقول: خروج الشباب إلى البر على هذا الوجه ربما يفضي إلى المفاسد منها: تركهم للجماعات في المساجد، وبعدهم عن أهاليهم.
ومنها: أن فيه إتلافاً للمال؛ لأن السيارات تتلف بهذا الاستعمال، وهو إجبار السيارات على أن تصعد على كثبان الرمل، وإذا تضررت كان في هذا إتلاف للمال، وإتلاف المال لغير مصلحة شرعية دينية أو دنيوية محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال.
إذاً فأين العقول السليمة من هذا؟ ثم يقول الشيخ رحمه الله: ثم إني أسمع كثيراً من الناس يشكون من هذه السيارات، حيث إنها تفسد الأرض والنبات، ومعلوم أنه إذا كثر تردد السيارات على أرض بعينها فإنها ستتلف، ويحصل في هذا ضرر على أهل المواشي.
وإذا تبين أن مثل هذا العمل مضيعة للمال، وقد يكون سبباً لأمور محظورة، فإن تشجيعه والخروج للتفرج عليه محرم؛ لأنه إقرار للمحرم ومساعدة عليه، وقد قال سبحانه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
ويدلك أيضاً على أن هذا العمل سفه، أن مثل هؤلاء لا يمكن أن يقوموا بهذا العمل أمام شرفاء الناس ووجهائهم، لأنهم يستحون منهم، وفي الحكمة القديمة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، (والحياء شعبة من الإيمان).
أخي الشاب! يا من خلقك ربك فسواك، ورزقك وكفاك، وأطعمك وسقاك، ومن كل خير سألته أعطاك، ومع ذلك عصيت وما شكرت، وأذنبت وما استغفرت، وتنتقل من معصية إلى معصية، ومن ذنب إلى ذنب كأنك ستخلد في هذه الدنيا ولن تموت، وتبارز الله بالمعاصي والذنوب غافلاً ساهياً عن علام الغيوب، فياليت شعري متى تنتهي وتتوب؟ واسمع إلى هذا الخبر! يقول أحد ضحايا التفحيط: أنا شاب أبلغ من العمر ثلاثين سنة، وقد أمضيت منها تسع سنوات على كرسي الإعاقة بسبب التفحيط، حيث كنت أتباهى بمقدرتي وبراعتي في قيادة السيارة، وبينما كنت أفحط في يوم من الأيام أمام أحد المدارس سقطت سجارتي من مدخنة السيارة، فوقعت على قدمي وعندها اختل توازني، فاصطدمت سيارتي وحصل لي ما حصل.
ولذلك أحذر الشباب من خطورة التفحيط الذي جنيتُ عاقبته إعاقة دائمة لي، وأحرقت زهرة شبابي ولم يبق لي إلا رحمة الله جل في علاه! ومثله كثير، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].(29/5)
حوادث على الطريق
نذكر حوادثاً على الطريق، والهدف من ذكرها: العبرة والموعظة، وإلا فالحوادث كثيرة، وقد سمعنا بالأمس القريب عن حادث شنيع، ذهب ضحيته مجموعة من الشباب، والسبب: عدم المبالاة، والسرعة الجنونية.(29/6)
حادث قبل العيد
إن نعمة العقل نعمة عظيمة يملكها كثير من الناس، ولا يستخدمها إلا القليل، وتعالوا بنا نسمع إلى هذه الحوادث! حادث قبل العيد، يقول صاحبنا: بدأت تنقضي أيام العشر الأواخر من رمضان، والعيد قاب قوسين أو أدنى، ولا أعرف أين سنذهب، وأنا أنتظر صديق الطفولة ولكن كالعادة، فالجزء الأكبر من وقتنا نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني: هل جهزت ثوباً جديداً لقد أقبل العيد؟ قلت له: لا، قال: ما رأيك أن نذهب إلى الخياط الآن، فسألته متعجباً وأنا أهز رأسي: بقيت ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، فأين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام؟ فلم يجبني، وانطلق بالسيارة بسرعة جنونية وكأنه يسابق الزمن، حتى توقف أمام محل للخياطة الرجالية، وسلم صاحبي على الخياط بحرارة؛ لأنه يعرفه منذ زمن طويل، ثم قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، فضحك الرجل وأجاب: كم بقي على العيد يا عبد الرحمن؟ لماذا لم تأت مبكراً؟ فأجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيدك في الأجرة، لكن المهم أن تنتهي بعد غد، وأعاد الموعد مرة أخرى: بعد غد، وأنا أرقب المفاوضات الشاقة، وإذا بصاحبي يدفع جزءاً من الثمن وهو يردد ويؤكد: الموعد بعد غد، لا تنس الموعد.
ثم انطلقنا بسيارتنا نجوب الشوارع بلا هدف -وهذا حال كثير من الشباب- حتى قبيل الفجر، وكأنه ليس رمضان، وكأنها ليست العشر الأواخر من ليالي رمضان! ونحن لاهون ساهون غافلون، ومضت الليلة كاملة ولم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة، وربما إنها ليلة القدر.
حياة لا طعم لها، وسعادة لا مذاق لها، ولجنا من المعاصي كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، وحسبنا الأمر دون حساب، إظهاراً للسرور والسعادة، وضحكات تملأ المكان، ولكن في القلب هم وغم، والنفس تحلق بها حسرات، ويحيط بها نكد، دليل البعد عن الله.
افترقنا قبيل الفجر يجمعنا الليل والسهر والعبث، ونلتقي على المعاصي، وتجمعنا الذنوب، ونوم طويل يمتد من الفجر حتى العصر، وصيام بلا صلاة، وصلاة بلا قلب، وساعة الصيام التي أستيقظ فيها قبل المغرب كأنها أيام أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة، وبقراءة الصحف والمجلات، وغيري يختم القرآن مرات ومرات، وأنا أنتظر موعد أذان المغرب! حادثني بالهاتف أحد الأصدقاء وصوته متغير وقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض، قلت له: لا، مساء البارحة كان بصحة وعافية، وكنت أنا معه، فقال: إنه مريض، فأدرك صاحبك.
انتهت المكالمة والأمر لا يعني لي شيئاً سوى معلومة غير صحيحة، والمؤذن يرفع أذان العشاء وإذا بالهاتف يناديني، رفعت السماعة وإذا هو الشقيق الأكبر لعبد الرحمن، قلت في نفسي: ماذا يريد؟ هل سيؤنبني على ما أفعله أنا وعبد الرحمن، أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا، أو سقطة من سقطاتنا، ولكن أتى صوته منهكاً مجهداً وعبراته تقطع الحديث.
أخبرني بالخبر، وقال: عبد الرحمن مات! قال لي: عبد الرحمن مات! بهت ولم أصدق! لا زال أمامي أراه، وصوته يرن في أذني، كيف مات؟! قال لي: وهو منطلق إلى المنزل ليلة البارحة بسرعته الجنونية ارتطم بسيارة أخرى عند أحد التقاطعات، ثم حمل إلى المستشفى، ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم.
أذني لا تصدق ما تسمع، لا أزال أراه أمامي، نعم أمامي، بل اليوم موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني، بل غداً موعد ثياب العيد، موعد ثياب العيد غداً.
أيقظني أخو عبد الرحمن من غفوتي، وهز جوانحي، وأزال غشاوة كانت على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً أخبر زملاءك.
انتهت المكالمة! تأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن أيام عبد الرحمن قد انقضت، وآمنت بأن الأمر حق، وأن الموت حق، وأن موعدنا غداً هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد ألبس الكفن وترك ثوب العيد! تسمرت في مكاني، وأصبت بتشتت في ذهني، وبدوار في رأسي، وقررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الخبر وأستوضح الفاجعة، وعندما ركبت سيارتي فإذا شريط غناء في جهاز التسجيل، هذا الغناء الذي أفسد قلوبنا، وجعلها أقسى من الحجارة، أخرجت الشريط ورميته من السيارة، فانبعث صوت إمام الحرم من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته، أنصتُّ بكل جوارحي، وأرهفت سمعي وكأن الدنيا انقلبت والقيامة قد قامت والناس تغيرت، أوقفت سيارتي على جانب الطريق، أستمع إلى القرآن وكأني أستمع إليه لأول مرة في حياتي.
وعندما بدأ دعاء القنوت، كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام، رفعت يدي أستقبل تلك الدموع، يا ألله ما أجمل الدعاء! ما أجمل الخضوع والخشوع واللجوء إلى الله! يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النحلِ اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه بالزمان الأولِ أخذ قلبي يردد صدى تلك العبارات، وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع، فأعلنت توبة صادقة، بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة.
ودعنا عبد الرحمن في اليوم التالي، وانطلقت أنا في طريق الهداية مع رفقتي الصالحة، من كرهتهم بالأمس هم أحب الناس إلي اليوم، ومن تطاولت عليهم بالأمس هم أرفع الناس في عيني اليوم، ومن استهزأت بهم في الأمس هم أكرم الناس عندي اليوم! كنت على شفا جرف هار ولكن الله رحمني، وهدأت نفس مع الرفقة الصالحة، وأطلت سعادة لا أعرفها وانشراح في الصدر، وعلى وجهي سكينة ووقار، زينتها تلك اللحية التي بدأت تنمو وتكبر على وجهي.
يا ألله! ما أجمل السنة! وما أجمل الاتباع! فاجأت الخياط بعد أسبوعين، وسألته عن ثوبي، سأل عن عبد الرحمن؟ قلت له: مات، أعاد الاسم مرة أخرى؟ قلت له: مات، بدأ يصف لي عبد الرحمن وسيارته وكلامه، قلت: نعم، هو، لقد مات، وعندما أراني ثوبه، بدأت أسترجع الذكريات، هل حقاً مات؟ ثوبي بجوار ثوبه، ومقعدي في السيارة بجوار مقعده، ولكن بقي لي أجل وعمر، لعلي أستدرك ما فات! حمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة، ولكن بقي لنا إخوة كثير مثل عبد الرحمن يعيشون في غفلة، لا يزال على أعينهم غشاوة، ويعلو قلوبهم ران المعصية، فهل نتركهم يموتون كما مات عبد الرحمن؟! عبد الرحمن الذي كان يؤمل أن يلبس ثياب العيد ذهب ولبس الأكفان بدل الثوب الجديد! لا، لن نتركهم، لن نتركهم، كيف نتركهم وأمامهم قبر ونار وعذاب؟! كيف نتركهم وأمامهم أمور وأهوال صعاب؟! لن نتركهم وقد هدانا الله، فهناك كتاب وشريط، وبيننا وبينهم نصيحة صادقة.(29/7)
من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث
يقول صاحبنا: كنت شاباً غافلاً عن الله، بعيداً عنه، غارقاً في لجج المعاصي والآثام، فلما أراد الله لي الهداية قدر لي حادثاً أعادني إلى رشدي وإلى صوابي، قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11]، وإليكم القصة: في يوم من الأيام وبعد أن قضينا أياماً جميلة في نزهة عائلية في مدينة الدمام، انطلقت بسيارتي عبر الطريق السريع بين الدمام والرياض، ومعي أخواتي الثلاث، وبدلاً من أن أدعو بدعاء السفر المأثور استفزني الشيطان بصوته، وأجلب علينا بخيله ورجله، وزين لنا سماع لهو الحديث المحرم، لأظل ساهياً غافلاً عن الله.
لم أكن حينئذٍ أحرص على سماع إذاعة القرآن الكريم، أو الأشرطة الإسلامية النافعة للمشائخ والعلماء، لأن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان أبداً، وكما قيل: حب القرآن وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان وكانت إحدى أخواتي كانت صالحة مؤمنة -نحسبها والله حسيبها- ذاكرة لله، وحافظة لحدوده، طلبت مني أن أسكت صوت الباطل، وأستمع إلى صوت الحق، ولكن أنى لي أن أستجيب؟! فقد استحوذ علي الشيطان، وملك علي جوارحي وفؤادي، فأخذتني العزة بالإثم، ورفضت طلبها، وقد شاركني في ذلك أختاي الأخريتان، وكررت أختي المؤمنة طلبها، فازددنا عناداً، وإصراراً وأخذنا نسخر منها.
فقلت لها: إن أعجبك الحال، وإلا أنزلتك على قارعة الطريق، فسكتت على مضض، وكرهت هذا العمل بقلبها بعد أن أنكرته بلسانها، وأدت ما عليها، والله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وفجأة وبقدر من الله سبق انفجرت إحدى عجلات السيارة، ونحن نسير بسرعة شديدة، فانحرفت السيارة عن الطريق، وهوت في منحدر جانبي، فأصبحت رأساً على عقب، بعد أن انقلبت فينا عدة مرات، وأصبحنا في حال لا يعلمها إلا الله العلي العظيم.
فاجتمع الناس حول سيارتنا المنكوبة، وقام أهل الخير بإخراجنا من بين الحطام والزجاج المتناثر، ولكن ما الذي حدث؟! لقد خرجنا جميعاً سالمين إلا من بعض الإصابات البسيطة، ما عدا أختي الصالحة! أختي الصابرة! أختي الطيبة! لقد أصيبت إصابات بالغة، وماتت من حينها.
لقد ماتت أختي الحبيبة التي كنا نستهزئ بها، واختارها الله إلى جواره، وإني لأرجو أن تكون في عداد الشهداء الأبرار، وأسأل الله عز وجل أن يرفع منزلتها ويعلي مكانتها في جنات النعيم.
وأما أنا فقد بكيت على نفسي قبل أن أبكي على أختي، وانكشف عني الغطاء فأبصرت حقيقة نفسي، وما كنت فيه من الغفلة والضياع، وعلمت أن الله قد أراد بي خيراً، فكتب لي عمراً جديداً لأبدأ حياة جديدة ملؤها الإيمان والعمل الصالح.
أما أختي الحبيبة فلا تكاد تغيب عن مخيلتي، ودائماً أراها وأتخيلها وأدرك دموع الحزن والندم، وكم وجهت لي من النصائح! وكم دعت لي من الدعوات! لقد كان موتها سبباً لاستيقاظي وانتباهي من غفلتي.
أتذكر تلك الذنوب والمعاصي، وأتساءل في نفسي هل سيغفر الله لي؟ فأجد الجواب في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فهذه نصيحتي للغافلين وللمدبرين والمعرضين عن الصراط المستقيم.
أقول: من لم تعلمه المواعظ، أدبته الحوادث، وأفيقوا من غفلتكم، وخذوا العبرة من غيركم، قبل أن تكونوا لغيركم عبرة، قال سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:17 - 18]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].(29/8)
في ذمة الله
يقول عبد الله: في ضحى أحد الأيام ودرجة الحرارة عالية انطلقت أنا وزميل عمل لي إلى منطقة بعيدة في مهمة عمل، وكان صاحبي يتولى القيادة، وكنت بجانبه بين نائم ويقظان، وكنت أنبهه بالسرعة المحددة كلما تجاوز ذلك، وكنا نستمع إلى شريط لأحد المشايخ، وكان يتكلم فيه عن الجنة ونعيمها، وقبل وصولنا إلى تلك المنطقة حدث ما لم يكن على البال والحسبان، فانفجر الإطار الخلفي لسيارتنا من شدة الحرارة، وسبّب انفجاره صوتاً عالياً مما أربك صاحبي وأفقده السيطرة تماماً على السيارة، وأخذت السيارة تسير بنا كسفينة بلا ربان تتقاذفها الأمواج، وازداد الموقف شدة وسوءاً حين اتجهت سيارتنا إلى الطريق المعاكس، وأخذت تتجه نحو شاحنة أقبلت علينا، ولم يبق على الموت إلا لحظات، وحينها مرت بخاطري أمور وذكريات، فتذكرت أمي التي ودعتها في الصباح على أن أرجع إليها في المساء، وقلت في نفسي: كيف سيكون حالها وهي تتلقى الخبر؟ ومر بي شريط حياتي الماضية في لحظات، وأخذت أردد: بسم الله! لا إله إلا الله! الله أكبر! لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين! وأغمضت عيني بانتظار الاصطدام، ثم فتحت عيني فإذا بسيارتنا قد مرت من أمام الشاحنة التي لم يكن بيننا وبينها إلا خطوات، وسقطت سيارتنا في حفرة على جانب الطريق، وساد السيارة صمت قطعه أصوات الذين اجتمعوا حول سيارتنا، ثم نزلت من السيارة وأنا أردد: الحمد لله! الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات! الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء! والله ما كان بيننا وبين الموت إلا لحظات، وأما صاحبي فلم يستطع النزول من السيارة، وانكب على وجهه باكياً من شدة الموقف، وأنا أهدئ من روعه، وبينما نحن على هذه الحال أقبل علينا شيخان كبيران، تزينهما لحىً بيضاء وثياب قصيرة، وأخذوا يقبلوننا ويهنئوننا ويحمدون الله لنا بالسلامة، ثم قال أحدهم لنا كلمات، سأظل أذكرها ما حييت أبداً، قال: كنا خلفكم، ورأينا ما حدث لكم، ورأينا كيف مالت بكم السيارة يميناً ويساراً، ثم مرروركم أمام الشاحنة ونجاتكم من الموت بأعجوبة، لا أقول إلا أنكم كنتم في حفظ الله ورعايته، ولا بد أنكم صليتم الفجر في جماعة، فأنتم في ذمة الله! يقول عبد الله: فقلت في نفسي: الحمد لله، فأنا منذ سنوات طوال وأنا أحافظ على جميع الصلوات في المسجد، وفي صلاة الفجر، وكم أشعر بالأمن والأمان والراحة والاطمئنان، وكيف لا وهي حفظ من الله وضمان؟! وقد سألت صاحبي: أين صليت الفجر اليوم؟ فلم يستطع الإجابة، ثم توجه إلى خلف السيارة، فتوضأ ثم صلى، سبحان الله! سبحان الله! لم يبق على صلاة الظهر إلا القليل، وصاحبي لم يصل الصبح إلى الآن، فأي حياة هذه؟ وكيف سيكون حاله لو مات على هذه الحال؟! وفي ذمة من سيكون؟! إن صلاة الفجر تشتكو هجراً ومقاطعة من شباب المسلمين وشيبهم ونسائهم وأطفالهم.
وإنك لتحزن أشد الحزن على حال الأمة وهي تمر بأحلك الظروف وأشد المواقف، وإلى الآن لم ترجع إلى ربها، وإلى الآن لم تراجع حساباتها! لي فيك يا ليل آهات أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه أنى التفت إلى الإسلام في بلد وجدته كالطير مقصوص جناحاه قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم يا رب ذنباً قد جنيناه كم نطلب الله في ضر يحل بنا لما تولت بلايانا نسيناه ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا لما وصلنا إلى الشاطئ عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعة وما سقطنا لأن الحافظ الله أبشر يا من حافظت على صلاة الفجر وباقي الصلوات في الجماعة فأنت في ذمة الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح) قال أهل العلم: في ذمة الله، أي: في حفظ الله ورعايته، وقالوا: إذا مات من يومه أو ليلته دخل الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة) والبردان: الصبح والعصر.
أبشر يا من صلى الفجر وباقي الصلوات في المسجد بالنور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) وما أدراك ما يوم القيامة؟ قال سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ} [الحديد:12 - 13]-الذين من أعظم صفاتهم النوم والتخلف عن الصلوات- {لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:13 - 17] أبشر يا من صلى الفجر بهذه البشارة العظيمة، جاء في الحديث المتفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) اسمع الثمن؟ (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] واسمع من أخبارهم في جنات ربهم: فبينما هم في عيشهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم إذا هم بنور ساطع أشرقت له بأقطارها الجنات لا يتوهم تجلى لهم رب السماوات جهرة فيضحك فوق العرش ثم يكلم سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يسلم يقول: سلوني ما اشتهيتم فكل ما تريدون عندي إنني أنا أرحم فقالوا جميعاً: نحن نسألك الرضا فأنت الذي تولي الجميل وترحم فيعطيهم هذا ويشهد جمعهم عليه تعالى الله فالله أكرم فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.(29/9)
رسالة إلى من آثر نومه على طاعة ربه
وإليك رسالة يا من آثرت نومك على طاعة ربك أترضى أن تتصف بصفات المنافقين؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) رواه أحمد.
وقال الله عن المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142 - 143] أترضى أن تكون مثلهم؟ أترضى أن تتصف بصفاتهم؟ أترضى أن تكون معهم؟ {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]؟! أترضى أن تنضم إليهم؟ أترضى أيها المتخلف عن الصلوات أن تكون مثل هذا؟ سئل صلى الله عليه وسلم عن رجل نام عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس، قال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، أترضى أن يكون هذا حالك كل يوم؟ واسمع رعاك الله إلى هذا الوعيد الشديد لمن ينام عن الصلاة، فجراً كانت أو عصراً أو أي صلاة، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من القول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قال: فيقص عليهم ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع -وفي رواية- ملقىً على قفاه، وإذا آخر قائم عليه بصخرة يهوي بها على رأسه، فيثلغ بها رأسه، فيتدهده الحجر ههنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به في المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟! قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا حتى على مثل التنور، - قال أحسب أنه كان يقول - فإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: علت أصواتهم من شدة الألم- قال: قلت: سبحان الله ما هذا؟ فقالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول - أحمر مثل الدم، وإذا في النهر سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا بذلك السابح يسبح ما شاء، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه -أي: يفتح فمه- فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق) وفي آخر الحديث قال: (قلت لهما: فإني قد رأيت الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر فإنه آكل الربا).
فاتق الله يا من تنام عن الصلوات، واتق الله يا من تعاقر الزانيات والمومسات، واتق الله يا من تأكل أموال الربا.
يا أيها اللاهي على أعلى وجل اتق الله الذي عز وجل واستمع قولاً به ضرب المثل ودع الهزل وجانب من هزل قال سبحانه: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]، وقال عز من قائل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام:30 - 32].
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم وبالسنة الغراء كن متمسكاً هي العروة الوثقى التي ليس تفصم وهيئ جواباً عندما تسمع الندا من الله يوم العرض ماذا أجبتم؟ ماذا أجبتم به رسلي لما أتوكم؟ فمن أجاب سواهم سوف يخزى ويندم وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدو عياناً جهنم وينصب ذاك الجسر من فوق متنها فهاوٍ ومخدوش وناج مسلّم ويأتي إله العالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكم فيا ليت شعري كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم فبادر إذا ما دام في العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم(29/10)
اللقاء في الجنة
اسمعي بارك الله فيك! خرج رجل من الصالحين ومعه زوجته، وكانت صائمة قائمة ولية من أولياء الله -نحسبها والله حسيبها- خرجوا يريدون العمرة وهكذا الأسفار، إما سفر لطاعة وإما سفر لمعصية.
خرجوا شوقاً إلى الله، وشوقاً لبيت الله، واستجابة لأوامر الله.
والغريب: كأنه ألقي في روعها أنها تموت، وأنها لن ترجع فودعت أطفالها، وقبلتهم وهي تبكي، وكتبت وصيتها، وودعت أقاربها، وعندما وصلوا إلى مكة طافوا وسعوا وقصروا، ودعوا وتضرعوا وسألوا الله خير الدنيا والآخرة.
وفي طريق العودة كانت على موعد مع ملك الموت، فانفجر إطار السيارة، وخرجت السيارة عن مسارها، وانقلبت بهم مرات ومرات، وأصيبت المرأة في رأسها، وخرج زوجها من بين الحطام ولم يصب بأذى، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة).
فلما رأته قالت له بعد أن تبسمت في وجهه: عفا الله عنك، وبلغ أهلي السلام، وقل لهم: الملتقى الجنة، ثم فاضت روحها رحمها الله.
إن الكل سيموت، ولكن على أي حال؟ قدر الله ماض على الصغير والكبير، لكن على أي حال؟! الأعمال بالخواتيم والمرء يختم له على ما عاش عليه، والتقينا هنا وسنفترق، وكل منا ينتظر منيته، منا من سيموت في أرض، ومنا من سيموت في بحر، ومنا من سيموت في سماء، ولكن على أي حال؟! وأين سيكون الملتقى؟! فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى إلى أوطاننا نعود ونسلم وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي أضحت لها الأعداء فينا تحكم(29/11)
نداء أخير
يقول صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) هذا نداء إلى كل من تولى قيادة السيارة، نقول له: عليك بالتؤدة والهدوء، والتأني وعدم التهور، ففي التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.
فلا تسرع أخي ولا تتهور حتى لا تندم حينما لا ينفع الندم، وتذكر أن وراءك صبية صغار، وزوجة ضعيفة، وأم عجوز، وأب شيخ كبير، وكلهم ينتظرونك، فعليك أيها العاقل بالصبر والتفكر في العواقب، وتحمل الزحام، وتحمل التأخير عند الإشارات وغيرها، فلعل في تأخيرك ما يكون خيراً لك، وتذكر عندما تسرع أو تقطع إشارة أو غير ذلك وصار معك حادث ما سوف يترتب على ذلك من أضرار مادية وروحية.(29/12)
حكم مخالفة أوامر المرور
السؤال
ما حكم مخالفة أنظمة المرور؟
الجواب
لقد وضعت هذه الأنظمة لضبط أعمال الناس وتحركاتهم ومنع الفوضى، وحتى يكون المجتمع آمناً ومستقراً فيعرف كل واحد من أفراده ما له وما عليه، وخاصة في هذا الزمن الذي ضعف فيه الوازع الديني عند كثير من الناس، ولا يردعهم إلا النظام، وهذا ما أفتى به علماؤنا الكرام.
يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: لا يجوز لأي مسلم أن يخالف أنظمة الدولة في شأن المرور لما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى غيره، والدولة -وفقها الله- إنما وضعت ذلك حرصاً منها على مصلحة الجميع، ورفع الضرر عن المسلمين، فلا يجوز لأي أحد أن يخالف ذلك.
وللمسئولين الحق في عقوبة من يفعل ذلك وردعه هو وأمثاله؛ لأن الله سبحانه يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وأكثر الخلق لا يردعهم وازع القرآن والسنة، وإنما يردعهم وازع السلطان بأنواع العقوبات، وما ذاك إلا لضعف الإيمان بالله واليوم الآخر، أو عدم ذلك بالنسبة إلى أكثر الخلق، كما قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].(29/13)
وصية أخرى
التزم بحزام الأمان؛ فهو سبب بعد الله في تقليل وتخفيف الإصابة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن اعقلها وتوكل، ولا تغفل عن ذكر الله، فلقد قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وما أحوجنا على الطرقات -طويلة أو قصيرة- أن نكون على اتصال مع الله حتى يحفظنا الله في الروحة والغدوة.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، ومن الذين هم على صلاتهم يحافظون.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وولاة أمورنا، ووفقهم لما فيه مصلحة البلاد والعباد.
قيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.
اجمع شملنا، أصلح ذات بيننا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
نستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/14)
رجال الفلوجة
مهما تكاثر الأعداء وتجبروا فإن الله ناصر عباده ومعز جنده ومذل أعداءه، ولقد ذاق الصليب أمرّ الدروس في الفلوجة وسامه المجاهدون سوء العذاب.(30/1)
دروس من الفلوجة(30/2)
حرب صليبية
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة بالنار.
عباد الله! لا زالت الفلوجة المدينة الصغيرة تقاوم أقوى دولة بصورة أسطورية عظيمة رغم الأكاذيب الإعلامية الأمريكية، لا زالت الفلوجة تقاوم رغم أشنع الكوارث والجرائم الإنسانية وسط صمت العالم المخزي.
ألا فاحمل إلى الأنذال أبياتي وحي بها من الفلوجة الآتي أتيتكم حجيج أم به عجب من الإله تنزلت السماوات ورمحكم سلاح أم هو الصعق يزلزل جيش المجرم الآتي عباد الله! من بين آلاف الصور للإبادة الجماعية في الفلوجة والعراق سمح الجيش الأمريكي بنشر تلك الصور التي تصور ذلك الجندي الصليبي وهو يقتل المسلم في المسجد، سمحوا بذلك ليقولوا لنا: إنها حرب صليبية ولكنكم لا تفهمون! سمحوا بنشر تلك الصور ليقولوا لنا بكل وقاحة: إنها حرب صليبية ولكنكم لا تفهمون! قال سبحانه: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقال سبحانه: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال سبحانه: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].
والله إننا لفي حيرة مع بني جلدتنا أنصدقهم أم نصدق كلام الله؟! أنصدقهم وهم يقولون لنا: هؤلاء دعاة للحرية وللسلام، وهدفهم نشر العدل والاحترام لحقوق الإنسان، أي إنسان يقصدون؟ هل رأيتم صورة ذلك الشيخ الكبير الأعزل من السلاح وهو متكئ على حائط المسجد يقطر الدم من أنفه وقد فارق الحياة؟ هل رأيتم صور الأطفال تحت الأنقاض وتحت الدبابات؟ أرأيتم صور النساء وهن جرحى وثكلى وينادين: واإسلاماه واإسلاماه؟ دماء السم بالأنذال تجري يئن لها قلبي أنينا تئن ولا مجيب لها يلبي ولا حر بأرض الخائنينا عذارى تستباح إلى المنايا فيذبحها اليهود المعتدينا وطفل يستغيث فلا قلوب ترق ولا تحن له الحنينا وشيخ قد علاه من الخطوب وجوم أين قومي الأولينا فأين الدين يا أتباع قومي أما فيكم رجال صادقونا ألسنا إخوة في دين طه ألسنا المحسنين المؤمنينا أما لمحمد فيكم ذمام فآثرتم ولاء المشركينا ألا غوث وقد نزل الصليب بأرضكم ونزول الحاقدينا أليست هذه بغداد تحكي حكاية مجدكم مجد القرونا صروحكم هنا تاريخ عز تعيث به العلوج المفسدينا(30/3)
إيقاظ روح التحدي في الأمة
عباد الله! لقد أيقظت الفلوجة الأمة وأشعلت فيها روح التحدي، وضربت مثلاً للصبر والاستبسال مهما كانت قوة العدو، والأهم أنها كشفت حقيقة الشعارات الزائفة عن الحرية وحقوق الإنسان، وفضحت المنافقين والخونة والعملاء، لقد علمتنا الفلوجة دروساً وأظهرت لنا حقائق وعبراً منها: إن الأمة لا زالت بخير ولا زالت كالجسد الواحد مهما حاولوا تفريقها بتقسيمها إلى ممالك ودويلات وإقامة الحدود بين شعوبها، فها هي شعوب العالم الإسلامي تنادي بالفلوجة وتردد اسمها، وتقنت لها مساجدها ويدعو لها شيبها وشبابها ونسائها وأطفالها، ها هي الأمة تردد: فلوجة يا درة الأحرار صبراً سيسحق صبرك النذل اللعينا رجالك لن يقوم لهم جبال رجال الحرب طاحنة طحونا إذا لاحت لهم سود المنايا تلقوها أسوداً ناصحينا وإن نهضوا فصوتهم يدوي فتحسب أن صوتهم المنونا وإن قاموا إلى الأعداء ولوا علوجاً صائحين مولولينا قال ربنا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، وقال نبينا صلوات ربي وسلامه عليه: (مثل المسلمين في توادهم وترابطهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فلا تحزني يا فلوجة! فقلوبنا تبكي دماً، وإن أصوات الرجال وبكاء الأطفال واستغاثات النساء قد وصلت إلى مسامع الرجال والأبطال: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
ومن الدروس والعبر التي علمتنا إياها فلوجة العز: أن الصليب قد تورط ورطة كبيرة ومعقدة جداً، ظنوا أن الخروج مثل الدخول، لقد أدخل المجاهدون الصليب في نفق لا عودة منه، وإن قبورهم قد حفرت لهم، بل ستترك جثثهم لتأكلها الكلاب، ظنوا أنهم إن دمروا الفلوجة دامت لهم العراق.
يا لهم من أغبياء حين ظنوا أن الفلوجة كالنجف وكربلاء، لقد انطلقت المقاومة من بعقوبة والرمادي والموصل وبيجن وكركوك وبغداد وسائر الأنحاء أقوى مما كانت عليه من قبل، ولئن احتاج عباد الصليب عشرين ألفاً من أعتى جنودهم لاقتحام مدينة فارغة فكم سيحتاجون من أتباع الباطل وجنود العهر واللواط كي يقفوا في وجه هذه الأمة، إذا ما قرر النائم منهم أن يستيقظ والغافل منهم أن ينتبه والعاصي منهم أن يتوب.(30/4)
قناص الفلوجة
ولقد شهد شاهد منهم أنهم ما كانوا يظنون أنهم سيواجهون بمثل تلك القوة والشراسة -والحق ما شهدت به الأعداء- اسمع معي هذا الخبر والذي نشرته مجلة (النيويورك تايمز) في عددها الأخير بعنوان: (واحد من أصعب دروس المعركة): مائة وخمسون من المارينز من جنود البحرية في مواجهة قناص واحد، يقول الخبر: في يوم الأربعاء من الساعة الثامنة صباحاً قامت الطائرات مرتين بقصف ذلك المبنى الصغير المكون من ثلاثة طوابق الواقع على الطريق السريع بطلب من جنود المارينز، فألقت الطائرات قنبلتين زنة الواحدة خمسمائة رطل مع إطلاق المدفعية حوالي خمسة وثلاثين قذيفة، كما قامت الدبابات بإطلاق عشر قذائف بالإضافة إلى ثلاثين ألف طلقة من رشاشاتهم بواسطة جنودهم حتى لم يبق من المبنى سوى حطام ودخان، ومع ذلك بقي القناص يطلق عليهم النار بل أوقع فيهم مقتلة وعدد من الجنود قد سقطوا تحت رشاشه.
قناص واحد أبقى كتيبة كاملة دون حراك وليوم كامل، يقول قائد تلك الكتيبة: بينما نحن نحاول بجنون أن نجد مكانه، يجلس أحدهم في مكانه يأكل طعامه يتربص بنا برصاصاته، وقد جن جنوننا حتى نعرف من أين تأتي تلك الطلقات.
نسى القائد الجاهل أن الأرض تقاتل مع أهلها، ثم استعانوا بالطائرات لقصف المبنى الآخر المجاور ولمدة ساعتين، قنابل من الأرض وقنابل من السماء، وبعد أن هدأت قنابلهم فاجأهم القناص مرة أخرى وأوقع فيهم مقتلة، فقال قائدهم: لا أعرف أين هو ولكنه مدرب بشكل جيد.
قلت: هو يرمى بأمر الله القائل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، لكم أن تتخيلوا معركة بين واحد وبين ومائة وخمسين من الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساءً، ثم انسحب القناص المسلم المجاهد بعد أن لقنهم درساً من دروس القرآن، قال الله: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19].
شكراً لكم يا أبطال الفلوجة، شكراً لكم يا أبطال العراق والشيشان وفلسطين، فلقد رفعتم رءوسنا في زمن الذل والعار.(30/5)
المنافقون وخطرهم على الأمة الإسلامية
ومن الدروس والعبر التي اتضحت وظهرت: أن الإعلام العربي إعلام خائن جبان، وأنه لا يستطيع أن يقول الحق، فليته اتقى الله وسكت ولكنه نطق بالباطل بل بالكفر والعياذ بالله! لقد تواطأ الإعلام العربي لدرجة غير مسبوقة، فانطلق كلاب الإعلام المرئي والمقروء والمسموع يفخمون ويضخمون ويعظمون الهالة الأمريكية، وتسارعت وسائل الإعلام لتبث تهديد الحكومة العميلة لشعبها وأنها ستسحقه كما تسحق الشعوب المسلمة في كل مكان، وما رأينا في وسائل الإعلام إلا تهديدات بوش ورامسفيلد وباقي قتلة الأطفال من الجنرالات الأمريكية والمسئولين الخونة من العراقيين، وفي المقابل لم نسمع من إعلامنا أنه نقل لنا أنات الأطفال وصيحات النساء وبكاء الشيوخ وهم يقصفون بعشرات الآلاف من القنابل المحرمة، لكنها محرمة علينا وحلال عليهم، بل بلغ الجبن إلى درجة أنه لم يتجاسر إعلامنا الجبان على إعلان أية خسائر للقوات الأمريكية إلا ما سمح له بذلك سيدهم الأمريكي، وهدفهم والله من هذا: إحباط معنويات الشارع المسلم، فلا يسمع إلا عن انتصارات الصليب حتى لا يتفاعل مع شعب العراق المسلم ومع المجاهدين.
عجيب أمرهم قتلوا بالفلوجة بزعمهم أكثر من ألف وخمسمائة من المجاهدين، أين صورهم؟ أين وثائقهم؟ أين أخبارهم الصحيحة؟ أين أخبارهم الموثقة؟ فليأتوا ببرهانهم إن كانوا صادقين.
على مدى عام ونصف لم يستطيعوا دخول الفلوجة، بل أذاقتهم الويل، فجمعوا لها أكثر من عشرين ألفاً وحاصروها براً وبحراً وسماءً، جاءوا ومعهم أذنابهم من القوات العراقية المرتدة التي سجلت أعظم خيانة لله ولرسوله، فأي خيانة أعظم من أن تقاتل مع المحتل لتدمير بلاد المسلمين وقتل الضعفاء والفقراء والمساكين؟ أما قال الله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] وقال قبل هذا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]؟ عباد الله! لا تنطلين عليكم الحيلة؛ فإن المعركة تنقل لنا بالعدسة الأمريكية وبأيدي إعلامنا الكذاب الخائن الجبان، وسيتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وسيرون العذاب الأليم.
بالأمس القريب نشرت جريدة الشرق الأوسط الخبيثة مقالات وتحليلات عن الأحداث هناك فقالت: لقد تسبب المتمردون -أي المجاهدون- بحرمان أهل الفلوجة من بيع الخمور وسماع الأغاني ومشاهدة الأفلام.
قبح الله أقلامهم {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة:56 - 57]، والله الذي لا إله إلا هو سيتبرأ منهم بوش وشارون وسيعلم أهل الإعلام الكاذب أي منقلب ينقلبون.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(30/6)
كشف أهداف الحرب الأمريكية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد أحبتي! أوصيكم ثم نفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
عباد الله! لقد كشفت لنا الأيام الماضية أن الصليب لا يحمل مشروع حرية ولا ديمقراطية مزعومة، ولا جاء من أجل ذلك أصلاً، إنما جاء بطراً ورئاء الناس كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:47 - 48].
أما قال كبيرهم: إنها حرب صليبية! فدافع عنه إعلامنا وقال: إنها زلة لسان.
عجيب أن نجد من يدافع عنهم ولا نجد من يدافع عن حقوقنا، وما أخبار سجن أبو غريب عنا ببعيد، قال الله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:8 - 10].(30/7)
سهولة الإيقاع بالعدو وهزيمته
أحبتي وما أعظم الدروس والعبر المستفادة من عراقنا وفلوجتنا الصامدة، ومن أعظمها: أن الوحش الكاسر مهما بلغت قوته ومهما بلغ تسلطه فليس من الصعب هزيمته وكسر أنفه وتمريغ وجهه في التراب، وها هي الفلوجة تلقنهم الدرس يوماً بعد يوم، قال الله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:249 - 251].
نعم.
إن مصدر عزنا وقوتنا هو قرآننا الذي يحاولون أن يحولوا بيننا وبينه، وشغلونا عن تلاوته والعمل بآياته بالغناء والخنا والزنا والربا، إنه الكتاب الذي أفحم الخطباء وأخرس العظماء وأسكت الشعراء وأدهش الأذكياء وتحدى العرب العرباء، تلاوته تذهب الأحزان، وتثير الأشجان، وترفع الشان، وتثقل الميزان، وتخسئ الشيطان، وتثبت الإيمان.
تباً لمن يقول بأننا سنهزم والقرآن بين أيدينا، وتباً لمن يدعونا للتشاؤم والقرآن بين ظهرانينا، هم يقاتلوننا بتوراتهم وأناجيلهم المحرفة، فلماذا يريدها بنو جلدتنا قومية وعلمانية.
بالقرآن سنهزمهم، ولقد أخبرنا الله بطرق هزيمتهم وشرح لنا نصوصهم ورسم لنا خططهم وحذرنا منهم, القرآن هو الذي فضح المنافقين وعراهم وأظهر مكنونهم وحذرنا أشد التحذير منهم، كيف لا وهم السبب في تراجعنا وذلنا ومن أسباب تسلط أعدائنا علينا! بالقرآن انتصرنا على التتار الجيش الذي لا يقهر والوحوش الذين لا ينتسبون إلى البشرية، انتصرنا عليهم بعد أن خاضوا بخيولهم في دماء المسلمين في المساجد كما يفعلون اليوم، وليس العجب أننا هزمناهم في عين جالوت وغيرها، ولكن العجب أننا أدخلناهم في الإسلام طواعية، ولبست نساؤهم اللباس الساتر، صنعنا هذا بالقرآن وسنصنعه مرة ثانية وثالثة، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].(30/8)
وما النصر إلا من عند الله
المطلوب منا عباد الله! أن نرجع إلى الله وأن نعلم أن النصرة ليس بكثرة عددنا ولا بعظيم عدتنا ولا بمناصرة الملائكة لنا، ولكن النصر من عند الله كما قال الله: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، فلذلك أراد الله أن يبين لنا الأمر في غزوة بدر لما اشتدت الاستغاثة بالله فأنزل الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فمدهم بهذا العدد، ولكن عقب عليه ليخبرهم بأمر في غاية الأهمية، وهو أن هؤلاء الملائكة أمددناكم بها بشرى ولتطمئن قلوبكم بها فحسب، أما النصر فهو من عند الله، فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
بل أكد الله لنا هذا الأمر في درس جلي في غزوة حنين فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة:25]، فبين لنا ربنا أن النصر ليس بالكثرة، وزاد الأمر تأكيداً في سورة الأنفال فقال: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19].
تأمل معي كيف أطلق الله الكثرة ولم يقيدها بعدد، وتأمل جيداً وافتح قلبك وسمعك معاً لما ذكره الله في آخر الآية: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، فهل تظن أنه يهزم من كان الله معه وناصره؟! لا وألف لا، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، قد تسقط الفلوجة وينحاز المجاهدون ولكن أبداً أبداً لن تسقط لا إله إلا الله، قالها أعرابي ورددها في الصحراء فدخل بها الجنة فكيف بمن قاتل دونها وتحت لوائها ورايتها، وهذه كلمات إلى أمريكا ومن حالفها: الله معنا وناصرنا، الله مولانا، والله أكبر، فإن متنا أخذنا الله إلى جنته وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، يا أمريكا! نحن نقتل؟ نعم، نحن نكلم؟ نعم، نحن نبتلى؟ نعم، ولكننا لا نغلب والذي فطرنا ولا نغلب لا لشيء لأن الله معنا.(30/9)
كلمة إلى عشاق الجنان
وهذه أيضا كلمات عرفان إلى من رفعوا في الفلوجة رءوسنا وفي العراق وفلسطين وكشمير والفلبين والشيشان وأفغانستان، إلى المجاهدين وصانعي المجد وراكبي صهوة العز، إلى عشاق الجنان ومخيم الرحمن: إذا اشتد بكم البلاء فتذكروا {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وإذا جمع العدو عباد الدرهم والفروج فتذكروا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وإذا رأيتم خيانة الخونة والعملاء فتذكروا: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:49].
وإذا خذلكم أهل الفتوى وأشباه العلماء وهم قاعدون عن واجبهم خفافاً وثقالاً فتذكروا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم).
وإذا رأيتم جنود الشيطان قد أقبلوا بطائراتهم ودباباتهم فتذكروا قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
واملئوا أرض المعركة بالتكبير فإن كانت أمريكا كبيرة فالله أكبر.
الله أكبر كبري يا أمتي واستبشري بالعز والسلطان الله أكبر أبشري يا أمتي واستبشري يا أمة الإحسان الله أكبر جلجلت يا أمتي فتكبكب الأعداء بالصلبان الله أكبر والجهاد طريقنا هذا سبيل العز في الفرقان لن نحن فجباهنا لا تنحني إلا لرب الخلق والأكوان كلا ولا أمريكا في طغيانها وجيوشها من أرذل الرومان سندق قوتها بعزة ربنا ونزلزل الطغيان بالإيمان وندمر البهتان بقوة بأسنا بالنار والتبشير كل أوان حتى تعود أمريكا لدارها والذل يصحبها بكل مكان هذا وربي وعدنا وجهادنا حتم علينا يطرد الوحيان أن نلحق الصلبان في أوطانهم فرض علينا ذاك فرض ثاني فلتعلم أمريكا أننا لا نسالم ولا ننهزم ولا نهادن حتى ونحن راقدون، بل سنكافح ونحن حفاة جائعون ونقاوم أعتى الطغاة، وأننا نستمتع بالموت في الجهاد استمتاعهم بالحياة، لقد أثبتت لهم فلوجتنا أن حياتنا شرف وموتنا فخر وخيارنا: إما النصر أو الشهادة، قال الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
اللهم يا رب المسلمين الذين أورثتهم الكتاب واصطفيتهم على العالمين، اللهم يا رب المسلمين الذين اخترت لهم نبياً هو خير الخلق أجمعين، اللهم يا رب المسلمين الذين سماهم خليلك إبراهيم من قبل، اللهم يا رب المسلمين الذين يصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى أنبيائك وعلى الذين يعظمون كتبك ويقاتلون أعدائك.
اللهم يا رب المسلمين الذين يوحدونك في الأرض كما يوحدك ملائكتك في السماء، ويعبدونك في الأرض كما تعبدك ملائكتك في السماء، اللهم يا رب المسلمين الذين يصلون إلى بيتك المعظم ويطوفون ببيتك الحرام، اللهم يا رب المسلمين الذين سالت دماؤهم دفاعاً عن دينك الذي ارتضيت لهم يا رب العالمين، اللهم يا رب المسلمين الذين تمزقت أشلاؤهم فداء لدين نبيك الذي ارتضيت على العالمين، اللهم يا رب المسلمين الذين يحمون المسجد الأقصى بيتك الذي هاجر إليه أنبيائك وأسريت إليه بخاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم يا رب المسلمين الذين يحبونك أعظم مما يحبون أنفسهم وأموالهم وأولادهم، اللهم يا رب المسلمين الذين يتضرعون إليك بأكف العبيد ويتوسلون إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى بأنك أنت الله لا اله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم يا رب المسلمين يا من أنت مولانا والكافرين لا مولى لهم، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم أيدهم في الفلوجة وفي كل مكان، اللهم أفرغ علينا وعليهم صبراً وثبت أقدامنا وأقدامهم وانصرنا وإياهم على القوم الكافرين، اللهم افتح لنا فتحاً مبيناً، اللهم امنح إخواننا أكتاف أعدائهم، اللهم مكنهم من رقابهم، اللهم ردهم عن بلادنا وبلاد المسلمين خائبين، اللهم اجعل تدبيرهم تدميراً عليهم ورد كيدهم في نحورهم، اللهم عجل بنصرك واجعلنا في جنبك وارزقنا الشهادة في سبيلك يا رب العالمين، اللهم عجل بنصرك واجعلنا في جنبك وارزقنا الشهادة في سبيلك مقبلين غير مدبرين، اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى يا رب العالمين.
نسألك يا منزل الكتاب ويا مجري السحاب ويا هازم الأحزاب، يا من لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك، اللهم انصر إخواننا في العراق نصراً معجلاً، وارفع الذل عن أمة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنك معنا ترى مكاننا وتعرف منقلبنا ومثوانا وتعرف أننا قلة مستضعفون في الأرض يتخطفنا الناس ويتآمر علينا البعيد والقريب.
اللهم إن تهلك عصابة الفلوجة فلا تعبد في الأرض أبداً، اللهم هذه أمة الكفر والإلحاد قد انقضوا علينا بأسلحتهم وخيلهم ورجلهم وليس لنا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا وتول أمرنا وردنا إليك رداً جميلاً وانصرنا نصراً عزيزاً، واشف صدور قوم مؤمنين يا رب المستضعفين والمساكين، ارحمنا رحمة من عندك تعز بها ذليلنا وتشفي بها مريضنا وتفك بها أسيرنا وتنصر بها المجاهدين.
اللهم أرنا في أعداء المسلمين عجائب قدرتك، اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا ولقد طال يا رب ظلمهم وأنت لا تحب الظالمين، اللهم لقد زاد مكرهم وأنت خير الماكرين، اللهم كثر كيدهم وأنت ذو الكيد المتين، اللهم طال صبرنا، اللهم بأسك مرادنا اللهم فلا ترده عن القوم المجرمين، إلى من تكلنا؟ إلى عدو ملكته أمرنا أم إلى قريب يتجهمنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي غير أن عافيتك أوسع لنا، نعوذ بنور وجهك من أن يحل علينا غضبك أو سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك.
اللهم أخرج اليهود والنصارى من بلاد المسلمين أذلة صاغرين مزقهم كل ممزق وشردهم في الأرض يتيهون فيها كما شردتهم من قبل، اللهم لا ترفع لهم راية ولا تحقق لهم غاية واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، فرقهم دويلات صغيرة ومزقهم شذر مذر.
اللهم أنزل عليهم حجارة من السماء وائتهم بعذاب أليم وأخرج أبناءنا من بينهم سالمين، اللهم ارحم المسلمين الذين شهدوا بأن لا اله إلا الله، وارحم الرجال الذين انتهكت محارمهم والنساء اللاتي انتهكت أعراضهن والأطفال الذين اغتيل أهلوهم.
اللهم ليس لنا رب سواك فنرجوه، وليس لنا إله سواك فندعوه، لقد ضاقت علينا أنفسنا، اللهم لقد ضاقت علينا أنفسنا ونحن نعيش في ذل وهوان واشتقنا لنصرك ووعدك وتلهفنا لرفعة دينك وانقطعت أسباب النجاة وما انقطعت أسباب الرجاء فيك يا رب العالمين.
اللهم أذقنا رحمتك وخصنا بعفوك وواصلنا برحمة من عندك، وآتنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم رحمة من عندك تهدي بها ضالنا وتعيننا بها على أنفسنا وتوحد بها صفوفنا وتقوي بها عزائمنا.
اللهم أصابتنا فتن كثيرة جعلت الحليم منا حيراناً، وها هي تمر علينا سنين خداعات وما عدنا نعرف الحق من الباطل.
اللهم أرنا الحق حقاً وثبتنا عليه، وأرنا الباطل باطلاً وجنبنا طريقه، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، واسلك بنا سبيل النجاة حتى نلقاك ونحن لا نشرك بك شيئاً.
اللهم قد دعتك نملة صغيرة فاستجبت لها وأنت الذي كرمت بني آدم وحملتهم في البر والبحر فلا تردنا خائبين.
اللهم لا تردنا خائبين ارحم ذلنا وتقبل دعاءنا ولا تردنا محرومين يا رب العالمين، آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وول علينا خيارنا واكفنا أشرارنا، اجمع كلمتنا على الحق يا رب العالمين، قيض لأمتنا ولاة أمر صالحين مصلحين وعلماء ربانيين ودعاة مخلصين، رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا حي يا قيوم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].(30/10)
سلاح المؤمنة
إن الدعاء سلاح المؤمنة التي من طبعها الضعف، فتجبر ضعفها بهذا السلاح الذي لا يقوم له شيء.
لكن من المعلوم أن السلاح قوته بقوة ضاربه وضعفه بضعفه، فلابد للمسلم والمسلمة من البحث عن أسباب إجابة الدعاء والانتفاع به، وآدابه، حتى يتحقق النفع به، وإلا فلا يلومن المفرط إلا نفسه.
ومن يستغني عن الله طرفة عين؟! فلا ملجأ ولا منجى للعبيد منه إلا إليه سبحانه.(31/1)
الدعاء وأثره
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد: أخواتي المسلمات! السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
فهذا أول لقاء من لقاءات الدراسات النسائية، وموضوع درس هذه الليلة: هو الدعاء وأثره.
وسيتكون الموضوع من عدة نقاط: النقطة الأولى: البداية.
ثم: قبل الموضوع.
ثم: مقدمة للموضوع.
ثم: من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم: من أقوال السلف.
ثم: من شروط الدعاء.
ثم: فن الثناء.
ثم: مسألة في الإبطاء في إجابة الدعاء.
ثم: من أدب الدعاء.
ثم: الافتقار إلى الله.
ثم: لا تيأسي من روح الله.
ثم: وقفة أخيرة.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد: أخواتي المسلمات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذا أول لقاء في لقاءات الدراسات النسائية، وموضوع الدرس هذه الليلة: عن الدعاء وأثره.
وسيتكون الموضوع من عدة نقاط: النقطة الأولى: البداية.
ثم: قبل الموضوع.
ثم: مقدمة للموضوع.
ثم: من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم: من أقوال السلف.
ثم: من شروط الدعاء.
ثم: فن الثناء.
ثم: مسألة في الإبطاء في إجابة الدعاء.
ثم: من أدب الدعاء.
ثم: الافتقار إلى الله.
ثم: لا تيأسي من روح الله.
ثم: وقفة أخيرة.(31/2)
البداية
الحمد لله على جزيل إنعامه وإفضاله، والشكر له على جليل إحسانه ونواله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى في إلهيته وربوبيته، وتقدس في أحديته وصمديته، وتنزه في صفات كماله عن الكفء والنظير، وعز في سلطان قهره وكمال قدرته عن المنازع والمغالب والمعين والمشير، وجل في بقائه وديموميته وغناه وقيوميته عن المطعم والمجير، وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمد أبواب غيرك ربنا قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد هو القائل جل جلاله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
اسمعي كيف سماهم ((عِبَادِي)) بأشرف الأسماء، فأضاف العباد إليه، ورد عليه مباشرة، أي: لم يقل: فقل لهم، وإنما تولى الجواب بنفسه، ليبين لهم أنه لا واسطة بينهم وبينه، وأن بابه مفتوح، وهو قريب ممن دعاه، حليم على من عصاه، غني عمن تناساه.
قال صاحب الظلال: إنها آية عجيبة، آية تسكب في قلب المؤمن النداوة الحلوة، والود المؤنس، والرضا المطمئن، والثقة واليقين، لم يقل: أسمع الدعاء، إنما عجل بإجابة الدعاء: ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)).(31/3)
قبل الموضوع
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]).
وقال سبحانه عن إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48 - 49]، فسمى الدعاء: عبادة.
السؤال
ما هي العبادة؟ قال ابن القيم: هي غاية الحب مع غاية الذل والخضوع.
والعرب تقول طريق معبد: أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محباً خاضعاً.
وقال رحمه الله: وسر الخلق، والأمر، والكتب، والشرائع، والثواب، والعقاب، في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]: وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين؛ فقوله تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)): هي لله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) هي للعبد، فهذا معنى العبادة.
أما معنى الاستعانة: فهي الثقة بالله، والاعتماد عليه، فقد تثقين بالواحد من الناس لكنك لا تعتمدين عليه، وقد تعتمدين على أحد من الناس ولكنك لا تثقين به، وإنما اعتمدت عليه للحاجة إليه، قال سبحانه في هذا المعنى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:123].
وفي قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]: دليل على أننا نستعين بالله على عبادته.
فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا والناس أختي الحبيبة! في هذين الأصلين أي: العبادة والاستعانة على أقسام: أولها -وهو أجلها وأفضلها-: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه سبحانه أن يعينهم عليها ويوفقهم لها، وهذا أجل وأفضل ما يسأل فيه الرب تبارك وتعالى أي: الإعانة على مرضاته.
وهذا الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: (يا معاذ! والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، والحديث صحيح.
فأنفع الدعاء أختي الحبيبة: طلب العون على مرضاة الله، وأفضل المواهب والعطايا: إسعاف الطالب بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضادها، فتأملي ذلك في كل الأدعية التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
تأملي قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أصلح لي ديني)، وقوله: (ولا تجعل مصيبتي في ديني)، تأملي هذا الدعاء، استشعريه يا رعاك الله.
ثانيها: أهل الإعراض عن عبادة الله وعن الاستعانة به سبحانه، فلا عباده، ولا استعانة، وإن سأل أحدهم ربه أو استعان به فإنما ذلك لحظوظ وشهوات الدنيا، لا لمرضاة ربه وحقوقه عليه.
تأملي: أن الله يسأله أولياؤه وأعداؤه، ويمد هؤلاء وهؤلاء، فإبليس وهو أبغض أعدائه سأل حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها، ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادة له في شقوته، وبعده عن الله، وطرده عنه، وهكذا من استعانت بالله على أمر وسألته إياه، ولم يكن عوناً على طاعة الله كان مبعداً لها عن مرضاته قاطعاً لها عنه ولا بد.
تأملي واعلمي أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه، بل يسأله العبد حاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه أو سقوطها من عينه، وتسأل الأمة حاجة فيمنعها الله ولا يجيبها لكرامتها ومحبته لها فيمنعها حماية وصيانة وحفظاً لا بخلاً، وهذا إنما يفعله بعبده وأمته لكرامتهما ومحبتهما، فيظنان بجهلهما أن الله لا يحبهما ويكرمهما، سيما عند قضائه حوائج غيرهما من الناس، فيساء الظن بالله والمعصوم من عصمه سبحانه.
فاحذري كل الحذر أن تسألي شيئاً معيناً خيريته وعاقبته مغيبة عنك، فإن كان لا بد من سؤاله فعلقي ذلك على شرط علمه تعالى فيه الخيرية، وقدمي بين يدي سؤالك: الاستخارة، ولكن لا تكن استخارة باللسان بلا معرفة، بل استخارة من لا علم له بمصالحه، ولا قدرة لها عليها، استخارة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفاً، بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك.
وتأملي قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، وقوله: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين).(31/4)
مفهوم الدعاء وأقسامه
ما هو الدعاء؟ الدعاء لغة: مأخوذ من مادة: دعوا، والتي تدل في الأصل على إمالة الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك، ومن هذا الأصل: فالدعاء فيه معنى الرغبة إلى الله عز وجل، وهو واحد الأدعية، والفعل من ذلك: دعا يدعو، والمصدر: الدعاء والدعوة.
والدعاء اصطلاحاً: قال فيه الطيبي: هو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى الله والاستكانة له، وهذا تعريف يتناول دعاء العبادة كما جاء في فتح الباري.
وقال المناوي: هو لسان الافتقار لشرح الاضطرار، وهذا التعريف يتناول دعاء المسألة المتضمن لدعاء الثناء والعبادة.
أقسام الدعاء في القرآن: جاء لفظ الدعاء في القرآن متناولاً معنيين: الأول: دعاء العبادة، والثاني: دعاء المسألة.
فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي، كطلب كشف ما يضره ودفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود بحق كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية.
أما دعاء العبادة: فهو الذي يتضمن الثناء على الله بما هو أهله، ويكون مصحوباً بالخوف والرجاء.
والدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا أخرى، ويراد به مجموعهما، وهما متلازمان؛ فالعبد يدعو للنفع أو لدفع الضر دعاء مسألة، وهو كذلك يدعو خوفاً ورجاءً فيكون دعاء عبادة، وقد ورد المعنيان في قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56].
وقيل في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة:186]: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخل بالسلام)، وإسناده حسن، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه بدعوة أن يردهما صفراً ليس فيهما شيء)، صححه الألباني رحمه الله، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه)، ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.(31/5)
من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
عن شهر بن حوشب قال: قلت لـ أم سلمة رضي الله عنها: (يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت كان أكثر دعاءه: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر هداي إلي، وانصرني على من بغى علي، اللهم اجعلني لك شاكراً لك ذاكراً لك راهباً لك مطواعاً، إليك مخبتاً أو منيباً، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهدي قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي)، رواه أبو داود والترمذي والحديث صحيح.
من علامات إجابة الدعاء أختي الحبيبة: ما يحصل لنفس الداعية من انشراح في صدرها، وبهجة في فؤادها؛ لامتثالها أمر ربها تبارك وتعالى، ولاشتغالها بذكره ودعائه، قال عمر: (والله إني لا أحمل هم الإجابة، ولكني أحمل هم الدعاء).
قال الطحاوي في شرح الطحاوية: والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات، ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر، وصار من أهل الحيم أ.
هـ، والحيم: الهلاك.
فالداعية الصادقة تقصد بدعائها تعظيم ربها تبارك وتعالى، وتمجيده، ورجاء الأجر والمثوبة منه، مع الطمع بتحقيق ما وعد الله به من الاستجابة كلها، ودعوة الأمة المؤمنة لا ترد، والخير فيما يختاره الله، من تعجيل الإجابة، أو تعويضها بما هو أولى، أو ادخارها لها في الآخرة خيراً مما سألت.
والدعاء أختي الحبيبة! هو أقوى الأسباب لدفع المكروه، ودفع البلايا والمصائب.
وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات كما ذكر ابن القيم في الفوائد: أولاً: أن يكون الدعاء أقوى من البلاء، فيدفعه.
ثانياً: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكنه يخففه وإن كان ضعيفاً.
ثالثاً: أن يتقاوما؛ فيمنع كل واحد منهما صاحبه، قال صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، حسنه الألباني.(31/6)
من فوائد الدعاء
فوائد الدعاء كثيرة أختي الحبيبة منها: أولاً: سرعة الفرج، وتفريج الكرب.
ثانياً: إلقاء الهم على الرب؛ لحسن الظن بالقرب.
ثالثاً: الدعاء سلاح يتقى به العدو وسوء القضاء.
رابعاً: يجلب المصالح، ويدفع المفاسد.
خامساً: يشغل الأمة بذنبها وعيبها عن عيب غيرها.
سادساً: مداومة الشعور بالضعف والحاجة، فلا تزال الأمة تدعو حتى تنال حاجتها.
سابعاً: أنه من أجل أنواع العبادة فيقصد لذاته، كما يقصد لقضاء الحاجة، أو لدفع المضرة.
ثامناً: يشعر العبد والأمة بأن الله معهما دائماً أينما كانا.
يقول الناظم: أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاء سهام لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاء قال سهل التستري: شروط الدعاء سبعه: أولها: التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.(31/7)
من أقوال السلف رحمهم الله
هذه طائفة من أقوال السلف رحمهم الله.
قال ابن عطاء: إن للدعاء أركاناً، وأجنحة، وأسباباً، وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح.
فأركانه: حضور القلب، والرأفة، والاستكانة، والخشوع بين يدي علام الغيوب.
وأجنحة الدعاء: الصدق مع الله، ومواقيته: الأسحار، وأسبابه: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل لـ إبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، أما قال الله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، أما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، أما قال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدوا شكرها، أما قال جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83]، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، أما قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72]، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، أما قال جل من قائل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، أما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، أما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، أما قال سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس قال سبحانه: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].(31/8)
فن الدعاء
الثناء على الله: فن من الفنون، ولا يثنى على الله إلا بما أثنى به على نفسه في كتابه، أو في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ندعوا الله ونثني عليه تبارك وتعالى بأسمائه وصفاته وآياته، فإذا حل الأمر الصعب، وادلهم الخطب، وعم الجدب، وأظلمت الأفق، وضاقت الطرق، وانشق بالمصائب الأفق، فالله المستعان، وإذا جاعت البطون، وأخطأت الظنون، وحلت المنون فالله المستعان، وإذا قست القلوب، وظهرت العيوب، وكثرت الذنوب فالله المستعان، وإذا فقد الولد، وقحط البلد، وضعف السند، فالله المستعان.
سبحان من انتشل ذا النون من الظلمات، ونجا نوحاً من الكربات، سبحان من أطفأ النار لإبراهيم، وجمد الماء للكليم، سبحان من على العرش استوى، سبحان من يسمع ويرى، سبحان الله العظيم، سبحان من لا يموت، سبحان من تكفل بالقوت، سبحان من وهب النور في الأبصار، وقصر بالموت الأعمار.
لا إله إلا الله ولا نعبد سواه، غالب فلا يقهر، أغنى وأقنى أضحك وأبكى، لا إله إلا الله عدد ما خطت الأقلام، وسجع الحمام، وهطل الغمام، وقوضت من منى الخيام.
لا إله إلا الله كلما برق الصباح، وهبت الرياح، وتعاقبت الأحزان والأفراح، عز فارتفع، خضع له كل شيء وركع، أعطى ومنع خفض ورفع، أعز وأذل سبحانه: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
يهدي ضالاً، ويغني فقيراً، ويغفر ذنباً، ويستر عيباً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن أمنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أرفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع ومن ذا الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشاك لمجدك أن تقنظ عاصياً الفضل أجزل والمواهب أوسع(31/9)
الإبطاء في إجابة الدعاء
أختي الحبيبة! قد يبتلي الله العبد فيبطئ عليه في الإجابة، وكذا الأمة المؤمنة قد تدعو فلا يستجاب لها، فتكرر الدعاء وتطول المدة ولا ترى أثراً للإجابة، فينبغي لها أن تعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى صبر، ولا بد من معرفة أمور حتى ينقطع عنك وسوسة الشيطان: أولاً: ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه، إن أعطى فبرحمته وإن منع فبعدله تبارك وتعالى.
ثانياً: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحق أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة.
رجل ماتت زوجته وهي في حالة ولادة، فأنجبت له بنية صغيرة، فأشار إليه أحد المشائخ أن يتزوج في الحال، حتى يجد من يرعى بنيته الصغيرة، وكان يأمل بالزواج زيادة النسل والذرية، تزوج وقامت المؤمنة برعاية ابنته كما ينبغي، لكنها مرت عليها السنة والسنتين ولم تنجب، فاشتكى إلى شيخه، فقال له الشيخ: اصبر فإن لله حكمة، ومرت أربع وخمس وهو يشتكي إلى شيخه، وهو يقول له: اصبر فإن لله حكمة، حتى مرت سبع سنوات، فإذا بها قد حملت ثم ذهب إلى شيخه يبشره بذلك، فقال: إن لله حكمة إذا أعطى، وله حكمة إذا منع، منع منك الولد حتى تربي بنيتك الصغيرة؛ لأنها لو أنجبت لتشاغلت عن تربية تلك الصغيرة.
ولكنها حكمة أختي الحبيبة! لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
من الأمور التي يجب أن تعرف: أنه قد يكون التأخير مصلحة والاستعجال مضرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي).
ثالثاً: قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فابحثي عن هذه الأسباب لعلك تدركين بالمقصود.
ذكر إبراهيم الخواص رحمة الله عليه أنه خرج لإنكار المنكر فنبحه كلب له فمنعه أن يمضي، فعاد ودخل المسجد وصلى ثم خرج فبصبص الكلب له، فمضى وأنكر المنكر، فسئل عن تلك الحال؟ فقال: كان هناك منكر وكان عندي ذنب فمنعني الكلب، فلما عدت وتبت واستغفرت فكان ما رأيتم.
رابعاً: ينبغي أن تبحثي عن مقصودك بهذا الطلب! أي: ماذا تريدين عندما تسألين ربك؟ وما مقصودك؟ فإن سألت مالاً، أو جاهاً، أو سلطاناً، أو أي سؤال سألتيه، فما هي نيتك ومقصدك من هذا السؤال؟ أسألت المال للازدياد في طاعة الله؟ وهل أردت الجاه حتى تتقربي به إلى الله؟ أم ماذا المراد من السؤال؟ أما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ ويقول: أعوذ بك من صحة تلهيني، أو غنى يطغيني، أما قال نوح عليه السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:47].
خامساً: ربما كان فقد ما فقدته سبباً للوقوف على باب الرحيم، واللجوء إليه، وربما كان حصول المراد سبباً للاشتغال به عن المسئول، فقد تكون هذه الحاجة التي أردتها سبباً لوقوفك بين يدي الله متضرعة، خاشعة، منيبة.
وكثير من الناس إذا قضى الله حوائجهم أعرضوا ونكصوا على أعقابهم، كما قال الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء:83 - 84].
فالحق عز وجل علم اشتغال كثير من الخلق عنه فأنزل عليهم عوارض تدفعهم إلى بابه ليستغيثوا به، فهذي من النعم في طي البلاء، أما البلاء المحض فهو اشتغالك عن الله تبارك وتعالى، فأما ما يقيمك بين يديه ففيه عزك وجمالك.
حكي عن يحيى البكاء: أنه رأى ربه عز وجل في المنام فقال: يا رب! كم أدعوك ولا تجيبني، فقال: يا يحيى! إني أحب أن أسمع صوتك.
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه: فإما أن يعجلها وإما أن يؤخرها، وإما أن يدخرها له في الآخرة)، صححه الحاكم وإسناده جيد.
فإذا رأت الأمة يوم القيامة أن ما أجيبت فيه قد ذهب، وما لم تجب فيه قد بقي ثوابه، قالت: ليتك لم تجب لي دعوة قط!.
فافهمي هذه الأشياء، وسلمي قلبك من أن يختلج فيه ريب، أو استعجال، فالمنع لأمرين: إما لمصلحة وإما لذنب، وكل أدرى بحاله.(31/10)
من آداب الدعاء
من آداب الدعاء: إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدمي التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب ارتفع السبب، فإذا تبت ودعوت ولم تري للإجابة أثراً فتفقدي أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت لماذا؟ لأن شروط التوبة أختي الحبيبة! بعض الناس قد يقوم بأحدها، ولا يأتي بالأركان الباقية.
وأعظم شروط التوبة: الندم، والإقلاع، والعزم، فقد تعزمين أو تقلعين ولكنك لا تندمين، فالتوبة حينئذٍ ناقصة، وقد تندمين وتعزمين ولا تقلعين فالتوبة ناقصة أيضاً.
إذاً: فلا بد من اكتمال شروط التوبة، صححي التوبة ثم ادعي ولا تملي، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، لا في إجابتها، فإذا جاء إبليس وقال: كم تدعين ولا ترين إجابة؟! فقولي: أنا أتعبد الله بالدعاء، وأنا موقنة أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان في تأخيره بعض المصالح، فهو يجيء في الوقت المناسب كما قال الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، ولو لم تحصل الإجابة حصل التعبد، والذل، والخضوع لله.
فإياك ثم إياك أن تسألي شيئاً إلا وتقرنيه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سبباً للهلاك، فإن كنا أمرنا بالمشاورة في أمور الدنيا، فكيف لا نسأل الله الخير في جميع أمورنا، وهو أعلم بما ينفعنا ويضرنا.
توسلي إلى الله به فقولي: يا محسناً! إلي قبل أن أطلبه، لا تخيب أملي فيك وأنا أطلبك، فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.
ومن آداب الدعاء: الافتقار إلى الله، بإعلان الحاجة، وبيان الذل والخضوع له سبحانه، قولي: يا رب! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، أمتك، وسائلتك، ومؤملتك لا ملجأ لها ولا منجى لها منك إلا إليك، أنت معاذها، وملاذها.
يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره يا من هو أرحم من الوالد بولده، والوالدة بولدها، من ذا الذي دعاك فرددته، وأتاك فطردته، يا قريباً ممن دعاه، يا حليماً على من عصاه، يا غنياً عمن تناساه، أنت القائل في الحديث القدسي على لسان نبيك صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ولا رجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في مخها والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول اسمعي افتقار محمد صلى الله عليه وسلم إلى مولاه في قوله: (إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي لا أبالي، ولكن رحمتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل بي سخطك أو ينزل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
اسمعي نبي الله موسى عليه السلام وهو يقول: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، اسمعي نبي الله يعقوب عليه السلام وهو يقول: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، اسمعي نبي الله يوسف عليه السلام وهو يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
أما دعاه زكريا نداء خفياً فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:4 - 6] فيأتيه
الجواب
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم:7].
اسمعي يا رعاك الله! عندما دعاه أيوب وناداه بقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] فقال سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84].
ناداه ذا النون في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، فسمع نداءه من فوق سبع سماوات قال سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
رمي الخليل في النار فجاءه جبريل فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما لك فلا، أما لله فنعم، فحسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70].
دخل موسى وهارون عليهما السلام على فرعون فقالا: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:45 - 46].
فليس أحب إلى الله من الدعاء والانكسار والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له، فلله ما أحلى أن يقول العبد وكذا الأمة: أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي وغناك وفقري، إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي -أو- وإماؤك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، لا ملجأ ولا منجى منك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك دمعه وعينه، وذل لك قلبه.
تأملي ولا تيأسي من روح الله، وإنما يظهر الإيمان عند الابتلاء، فهو يبالغ والأمة تبالغ في الدعاء، ولا ترى أثراً للإجابة ولا يتغير أملها ولا رجاؤها ولو قويت أسباب اليأس؛ لعلمها أن الحق أعلم بالمصالح، أو لأن المراد منها الصبر والإيمان، فإنه لم يحكم عليها بذلك إلا وهو يريد من قلبها التسليم؛ لينظر كيف تصبرين، أو يريد كثرة اللجوء والدعاء والإلحاح عليه.
فأما من تريد تعجيل الإجابة وتتذمر إن لم يستجب لها فتلك ضعيفة الإيمان، ترى أن لها حقاً في الإجابة، وكأنها تتقاضى أجرة العمل، أما سمعتي قصة يعقوب عليه السلام بقي ثمانين سنة في البلاء ورجاؤه لم يتغير، فلما زيد في بلائه وضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين لم يتغير أمله، وقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف:83]، وقد كشف الله هذا المعنى في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110]، ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسل والمؤمنين إلا بعد طول البلاء، وقرب اليأس من الفرج، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، قيل له: وما يستعجل؟ قال: يقول دعوت فلم يستجب لي).
فإياك إياك! أن تستطيلي زمن البلاء، وتضجري من كثرة الدعاء، فإنك مبتلاة بالبلاء متعبدة بالصبر والدعاء، ولا تيأسي من روح الله وإن طال البلاء.(31/11)
الرغبة والرهبة في الدعاء
تأملي في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، لما ذكر الله تفريج هموم الأنبياء وإجابة الدعوات وقضاء الحاجات، ذكر عنهم هذه الآية العظيمة وبين حالهم أنهم: ((كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)).
والرغبة: هي ثمرة الرجاء.
والفرق بين الرجاء والرغبة: أن الرجاء طمع والرغبة طلب، فإن العبد إذا رجا الشيء طلبه، فالرجاء طمع يحتاج إلى تحقيق، والراغبة سريعة في فعل الخيرات، مجدة مجتهدة بلا وهن ولا كسل، مثال ذلك: الكل يرجوا ويطمع أن يدخل الجنة، لكن ما نيل المطالب بالتمني، هذا يرجو ولا يعمل فهو غير راغب، وهذا يرجو ويعمل فهو راغب، وكما قيل: الرغبة مفتاح الطلب.
والرهبة: هي الخوف والوجل والخشية، وكلها ألفاظ متقاربة، لكن الرهبة فيها معنى الإمعان في الهرب من المكروه، ولما كانت الرغبة هي العمل للحصول على ما يطمع به كانت الرهبة هي الهرب من المكروه الذي يخاف منه، قال سبحانه: ((وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))، والخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل وجمع القلب بين يديه.
قال الجنيد: الخشوع: تذلل القلوب لعلام الغيوب، فالخشوع غاية الافتقار والتذلل لله تبارك وتعالى.
تأملي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الأبيات الجميلة وهو يقول: أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسيكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتي من عنده يأتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ولا عن النفس لي دفع المضرات والفقر لي وصف ذات لازم أبداً كما الغنى أبداً وصف له ذاتي وهذي الحال حال الخلق أجمعهم وكلهم عنده عبد له آتي قال سهل: من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان.
وجماع الخشوع: التذلل للأمر والاستسلام لله تبارك وتعالى.
فلا بد أن تحضري القلب وأنت بين يدي الله، فالله لا يستجيب من القلب اللاهي.
قيل: إن الحجاج رأى رجلاً أعمى عند الكعبة يدعو ربه ويقول: اللهم رد لي بصري، فجاء الحجاج من اليوم الثاني، فوجده في نفس المكان يدعو بنفس الدعاء، فقال له الحجاج: إن لم يرد لك بصرك غداً فسأقطع رقبتك، فجاءه في اليوم الثالث مبصراً، فقيل للحجاج: لم فعلت هذا؟! قال: وجدته يدعو بقلب لاهي، لكن لما كانت القضية حاجة واضطرار توجه إلى الله قلباً وقالباً.
الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه بشرط {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
إن الدعاء هو السلاح الذي تملكينه، وهو السلاح الذي لا يرد، بشرط أن تحسني استعماله، فتدربي على استعماله، واختاري الأوقات المناسبة، تجردي من كل شيء، وقفي خاضعة ذليلة مخبتة إلى الله تبارك وتعالى، أظهري الحاجة والافتقار، وتأدبي بالأدب الذي علمه لنا نبي الهدى والرحمة صلوات ربي وسلامه عليه، فإن المفلسة هي التي لا تعرف كيف تستخدم سلاح الدعاء.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى، وأن يجعل نساءنا مؤمنات تقيات نقيات خفيات.
اللهم استر عوراتهن وآمن روعاتهن واحفظهن من بين أيديهن ومن خلفهن وعن أيمانهن وشمائلهن.
اللهم من أرادهن بسوء فاجعل تدبيره تدميره، وكيده في نحره.
اللهم احفظهن من كل سوء ومكروه، ووفقهن لما تحب وترضى، واجعلهن هاديات مهديات برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(31/12)
طول الأمل ضيع فلسطين
طول الأمل مرض قلبي خبيث وداء نفسي عضال، ينشأ عن حب الدنيا، وعن الجهل بحقيقة الدنيا والآخرة، ونسيان الموت والغفلة عنه، وحب الدنيا قد يودي بالمرء حتى يسلك به مسالك الشر فيجمع ويمنع، ويطمع ولا يقنع، ويأتي المعاصي من كل أبوابها، ويهتك لكل حرمة حجابها، ولا يفكر في حال المسلمين، ولا يدمي قلبه صراخ المستغيثين، وكم ضيعت اليوم للمسلمين من أرض! وكم هتكت لهم من حرمة، والآمنون منهم في سكرتهم يعمهون.(32/1)
أمراض الأبدان وأمراض القلوب
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخي المسلم! إن الأمراض التي تصيب الإنسان على نوعين: النوع الأول: أمراض تصيب الأبدان، ومنها نفر إلى الطبيب، فينظر الطبيب في الحال، وينظر في الأعراض، ويصف الدواء، وعلى المريض الأخذ بالأسباب، ومداومة أخذ العلاج حتى يبرأ بإذن الله.
النوع الثاني: أمراض تصيب القلوب وهي أشد فتكاً وأشد خطراً من الأمراض التي تصيب الأبدان؛ لأنها تؤدي إلى خسارة الدنيا وخسارة الآخرة؛ ولأنها لا تكتشف إلا عند ساعات الرحيل، وساعات الاحتضار، فأمراض القلوب من أشد الأمراض فتكاً بهذه الأمة.
ومرض الأمة اليوم قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم منذ مئات السنين حين قال: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعدائكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن -وهذا هو المرض- قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).(32/2)
طول الأمل مرض أصيبت به الأمة(32/3)
من طال أمله ساء عمله
ومن الأمراض التي ابتليت بها الأمة في أقصى الأرض وفي أدناها اليوم مرض طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، والله يقول: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
فطول الأمل من أشد الأمراض فتكاً بالأمة اليوم، وقد كانت وصية السلف (احرص على الموت توهب لك الحياة) واليوم لا يبالي الناس أي حياة يحيونها، فالمهم عندهم أن يحيوا بأي حال من الأحوال، فيصبح المسلم ويمسي وهمه الدنيا وحطامها، ويغدو ويروح من أجل دنياه، وهذا واضح في صلاة الفجر عند المسلمين؛ فإنه إذا أذن المؤذن ونادى المنادي خرجت فئة قليلة تبتغي ما عند الله، وآلاف مؤلفة تغط في سبات عميق.
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل(32/4)
حب الدنيا باعث على طول الأمل
لكل مرض أعراض تظهر على المريض، ولطول الأمل أعراض، منها: حب الدنيا، فإن المسكين إذا تعلق بالدنيا، وتعلق بشهواتها أصبح من الصعب عليه أن يفارقها، وإذا ذكر الموت عنده كره ذلك؛ لأنه يقطع عليه شهواته، ويقطع عليه لذاته، ويقطع عليه الاتصال بدنياه.
وقد علمنا ربنا عز وجل حقيقة الدنيا فقال مشبهاً لها ومصححاً مفاهيم الناس حولها: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45] فهذه الحياة شبهت بالماء؛ لأن الماء لا يستقر على حالة واحدة، ولا يستقر في مكان واحد، ومن خاض في الماء أصابه البلل، ولذلك تقرأ سورة الكهف من الجمعة إلى الجمعة لأنها تصحح المفاهيم، وتصحح المعتقدات، وتربط الناس برب الأرض والسماوات؛ فقد قال الله في أوائل هذه السورة: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:7 - 8].
والحياة الحقيقية التي لابد من أن نحياها هي في الآخرة، ولذا قال عز وجل في هذه السورة: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46].
يا عجباً للناس لو فكروا وحاسبوا أنفسهم أبصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها إنما الدنيا لكم معبر لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمهم المحشر ليعلمن الناس أن التقى والبر كان خير ما يدخر قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6].
فالتعلق بالدنيا هو من أسباب طول الأمل، فإذا أنس الإنسان إلى الدنيا تعلق بها وبما فيها، وإذا ذكر الموت كان ذكر الموت من أصعب الأشياء عليه؛ لأنه يقطع عليه لذاته وشهواته.(32/5)
كيفية التعامل مع الدنيا
قد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون التعامل مع الدنيا، فقال-بأبي هو وأمي-: (ما لي وللدنيا؟ ما أنا والدنيا إلا كمثل راكب استظل في ظل شجرة ساعة ثم راح وتركها).
وقال لـ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
والغريب هو الذي لا مال له، ولا وطن له، ولا أهل له، فهو يشتاق دائماً إلى لقاء أهله، والعودة إلى دياره ووطنه، هكذا حال الغريب، قال ابن القيم رحمه الله: وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم وأي اغتراب فوق غربتنا التي أضحت لها الأعداء فينا تحكم فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وإن من صفات الغريب أنه لا يتطاول في البنيان، ومتاعه قليل، وزاده قليل، وأخذه من الدنيا قليل؛ لأنه على سفر، ولكن انظر في حالنا! وانظر إلى تطاول الناس في البنيان وقد قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: والمقصد من البنيان جدران أربعة تضم الصغير والكبير، تحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء، ومن أعين الناس.
واليوم تنفق الأموال في تزيين الجدران والسقوف.
قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6].
فالتعلق بالدنيا هو من أسباب طول الأمل، فإذا أنس الإنسان إلى الدنيا تعلق بها وبما فيها، وإذا ذكر الموت كان ذكر الموت من أصعب الأشياء عليه؛ لأنه يقطع عليه لذاته وشهواته.(32/6)
حال النبي صلى الله عليه وسلم مع الدنيا
قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
إن نبينا الكريم قد عرضت عليه الدنيا بما فيها، ولكنه زهد فيها ورغب عنها.
يقول الحسن البصري: دخلت بيوت النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحين، دخلتها وهي على ما هي عليه لم تتغير، فرفعت يدي فلمست سقف المكان، ونظرت في جدرانها، ونظرت في أساسها، فإذا بجدرانها من الطين والجريد.
وقد دخل عليه عمر رضي الله عنه وأرضاه وقد أثر الحصير في جنبه، فبكى عمر متأثراً وقال: بأبي أنت وأمي، أنت أحب البشر إلى الله وملوك فارس والروم تنعم بالديباج والحرير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مصححاً لـ عمر مفهومه: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!).
تقول عائشة رضي الله عنها: (كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد في بيتنا نار، قال عروة: قلت: يا خالة! ما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء).
وما شبع آل محمد من خبز الشعير ثلاثة أيام متتالية، وخبزت فاطمة خبزاً في مرة من المرات فأتت إلى أبيها بكسرة خبز فأكلها وقال: (أما إنها أول طعام دخل بطن أبيك منذ ثلاثة أيام).
هكذا عاش من يريد ما عند الله تبارك وتعالى، وقد خيره الله بين الملك والرسالة وبين العبودية والرسالة، فقد ورد: (أنه جاءه جبريل فقال: معي ملك الجبال، إن شئت أن يحول لك جبال مكة ذهباً وفضة فعل، وإن شئت جعلك الله ملكاً رسولاً، وإن شئت جعلك عبداً رسولاً) فاختار العبودية مع حمل الرسالة، وقال: (بل عبداً رسولاً، أشبع يوماً فأشكر الله، وأجوع يوماً فأحمد الله) فماذا غيرت الأمة وبدلت من بعده؟! يقول سعيد بن المسيب رحمه الله: لما هدمت بيوت النبوة ما رأيت باكياً في المسجد كما رأيت في ذلك اليوم، ليتهم أبقوها حتى تأتي الأمة من مشارق الأرض ومغاربها وترى كيف كانت حياة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وهو الذي علمنا وأمرنا بالاغتراب في هذه الحياة.(32/7)
أسباب طول الأمل
من أعظم أسباب طول الأمل حب الدنيا، وهو المرض العضال الذي أعيا الأولين وأعيا الآخرين.
ومن أسباب طول الأمل: الجهل بحقيقة هذه الحياة، والحقيقة التي لابد من أن يعيها كل واحد منا: هي أننا في هذه الدنيا ضيوف، وأننا على وشك الرحيل طال الزمان أو قصر، فكم هي مدة هذه الضيافة؟ لا يعلم ذلك إلا الله جل في علاه قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2].
فالجهل من أعظم أسباب طول الأمل، فإن الشاب بجهله يعول على شبابه وعلى قوته، وتناسى المسكين أن أكثر من يموت هم الشباب.
وقد أرسلت إلي رسالة قال فيها كاتبها: خرجت في عصر هذا اليوم أهنئ جيراناً لي بمولود جديد وأعزي الآخرين في وفاة ابن من أبنائهم.
فقلت: هكذا سنة الحياة، أناس يحيون وأناس يموتون، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تغييراً.
ويا للعجب! ندفن الموتى ونودعهم ولا نعتبر، ونظن أن الموت قد كتب على الآخرين ولم يكتب علينا، يقول ثابت البناني: كنا إذا سرنا في جنازة لا نرى إلا باكياً متقنعاً، وكنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين.
وانظر إلى جنائزنا اليوم، فسترى الضاحكين والمبتسمين يمنة ويسرة، فإن لم يغير الموت طباعنا وسلوكنا ويجعلنا نستعد للقاء الله تبارك وتعالى فأي واعظ بعده يعظنا؟! فالشاب يعول على شبابه، وتناسى المسكين أن أكثر من يموت هم الشباب، وحين يموت شيخ واحد فانظر كم مات في زمن حياته من الشباب؟ وكم يموت من الشباب والأطفال والصغار والكبار، وهذا المسكين يعول على قوته، ويعول على صحته، ويسوف بقوله: غداً أستقيم، غداً أرتبط بالمساجد، إذا انتهيت من هذه السفرة، إذا انتهيت من بناء هذا البيت! ولا يزال المسكين يمني نفسه ويسوف ويؤخر حتى يأتيه الموت على حين غرة.
وقد اتفق أهل العلم قاطبة على أن الموت ليس له مكان معين ولا زمن معين ولا عمر معين ولا سبب معين، وإنما يأتي بغتة ونحن لا نشعر: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب نشاهد ذا عين اليقين حقيقة وكأننا بما علمنا يقيناً نكذب إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرتجيه أقرب(32/8)
قصر الأمل عند السلف
جلس ثلاثة يتحدثون عن طول الأمل، فقال أولهم: أما أنا فأملي قصير، فقال له صاحباه: وما قصره؟ فقال: والله ما رأيت الهلال إلا قلت: لا أدرك الهلال الذي بعده.
فقال صاحباه: تؤمل أن تعيش شهراً! والله إنه لأمل طويل.
فقيل للثاني: كيف أملك؟ قال: والله ما أدركت جمعة إلا قلت: لا أدرك الجمعة التي بعدها.
فقال صاحبه: تؤمل أن تعيش أسبوعاً كاملاً! والله إنه لأمل طويل.
فلما قال الثالث: إن أملكما طويل قالا له: وكيف أملك؟ فقال: والله ما أخذت نفساً إلا ظننت أني لا أرده.
لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكان ابن عمر يحقق هذا واقعاً ملموساً في حياته فيقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لمرضك).
وقال علي رضي الله عنه: أخوف ما أخاف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، أما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا.
وكان حبيب الفارسي يقول لأهله: إذا مت اليوم فاذهبوا إلى فلان يغسلني، واذهبوا إلى فلان يكفنني، واصنعوا كذا اصنعوا كذا، فقيل لزوجته: رؤيا رآها؟ قالت: لا، في كل يوم يقول مثل هذا الكلام.
وكان صفوان بن سليم رحمه الله لا يكاد يفارق المسجد أبداً، وإذا أراد الخروج من المسجد بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: أخاف أن لا أرجع إليه مرة ثانية.
وكان آخر يقول: والله ما نمت نومة إلا ظننت أني لا أستيقظ بعدها أبداً.
قال سلمان الفارسي: عجبت من ثلاثة: مؤمل دنيا والموت يطلبه، وضاحك بملء فيه لا يدري أربه راض عنه أم ساخط عليه، وغافل ليس بمغفول عنه.
ومر شيخ الإسلام على مجموعة من الرجال والصبيان يضحكون ويغنون ومعهم معازف وآلات طرب فقال لهم: إن كان هذا طريق الجنة فأين هو طريق النار؟ إن علامات قصر الأمل تظهر في المبادرة إلى الأعمال، وفي المسارعة إلى الخيرات، وكم من مدع أنه قصير الأمل لكن الأفعال لا تصدق الأقوال.
فإن كنت صادقاً أنك قصير الأمل وأنك على استعداد وأنك تريد النجاة، فأين صليت الفجر اليوم؟! أفي صفوف النائمين، أم كنت في ذمة رب العالمين؟! بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(32/9)
لا تغفل عن الموت
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! اتصل أحد أقاربي بأهله ظهراً في الساعة الواحدة تماماً وقال لهم: إني قد استأذنت من العمل مبكراً فما هي مطالبكم؟ وما هي حاجاتكم؟ فأملوا عليه المطالب وقالوا: نريد كذا ونريد كذا ونريد كذا، فقال: ساعة واحدة وسأكون عندكم.
فمرت الساعة الأولى والساعة الثانية والثالثة، ثلاث ساعات متتاليات، ثم مرت الرابعة ولم يظهر له أثر، وقبيل المغرب بقليل اتصل متصل من المستشفى يقول لأهله: عظم الله أجركم في فلان.
حيث إنه في ساعة خروجه من مكان عمله ارتطمت سيارته بسيارة أخرى وفارق الحياة.
والسؤال الذي أسألك إياه: هل كان يظن حين رفع سماعة الهاتف أنها آخر مكالمة بينه وبينهم؟! وهل كانوا يظنون وهم يملون عليه المطالب أنها لن تصل؟! بل الذي يحملها هل كانوا يظنون أنه لن يصل؟! وهل خاطبت نفسك يوماً وأنت تخرج في الصباح وقلت: لعلي لا أرجع إلى البيت مرة ثانية؟ وهل خاطبت نفسك ليلاً فقلت: لعلها تكون آخر ليلة في الحياة؟ فكيف تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلص وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي وانتهجي سبل الهدى وادكري وشك الردى وأن مثواك غدا في قعر لحد بلقع من منا إذا أصبح حدث نفسه أنه لن يمسي، ومن منا إذا أمسى حدث نفسه أنه لن يصبح.
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى مما نرتجيه أقرب جلس زيد بن عبد الرحمن مع نفر من أصحابه بينهم غافل لا يعلم بغفلته إلا الله، فقال -وكأنه يخاطبنا-: يا أبا فلان! الحال التي أنت عليها ترضاها للموت؟ قال: لا، قال: هل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟ قال: ما اشتاقت نفسي بعد، قال: وهل تضمن أن لا يأتيك ملك الموت على هذه الحال؟ قال: لا، قال: وهل بعد هذه الدار دار فيها معتمل؟ قال: لا، قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال! أليس هذا هو حال الكثير اليوم؟! تخلف عن الصلوات، واقتراف للمناهي والمحرمات، أعمارهم تنقضي أمام شاشات وقنوات، فمتى نعرف قيمة الأعمار وقيمة الأوقات؟ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].(32/10)
قيمة الوقت
إننا لن نعرف قيمة الأعمار إلا إذا انتهت الآجال وانقضت الأعمار، فينادي المنادون يومها بأعلى الصوت: ربنا ارجعنا نعمل صالحاً.
فلا يستجاب لهم، فقد حيل بينهم وبينما يشتهون.
وأنت يا ابن آدم ابن لحظات ثلاث: لحظة مضت بكل ما فيها، كتب فيها ما كتب إما لك وإما عليك، ولحظة قادمة لا تدري أتدركها أو لا تدركها، فأنت لست من أهلها، ولحظة تحياها فأنت ابن هذه اللحظة، فمتى ستتوب؟! ومتى ستنتظم في صفوف المصلين؟! ومتى ستكون من أهل القرآن؟! متى ستتعود على الصيام والقيام؟! يقول الحسن البصري: إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا رصيد من الحسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله.
قال: كذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل، لكن ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون.(32/11)
دفع الجهل بالآخرة بالعلم بها
فإذا علمنا أن السبب هو الجهل فإننا ندفعه بالعلم، أي: العلم بالآخرة قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
فالجهل يدفع بالعلم، وفي مجالس الصالحين ومجالس الذكر يدفع الجهل والغفلة التي يحياها كثير من الناس.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ودخل أهل النار النار، جيء بالموت على صورة كبش أقرن أملح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعرفه، هذا هو الموت، ثم ينادى بأهل النار: يا أهل النار! تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون فيقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح بين الجنة والنار) حتى الموت سوف يموت.
قال: (فيؤمر به فيذبح، ثم ينادى بأهل الجنة: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، وينادى بأهل النار: يا أهل النار! خلود فلا موت، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40])، فالجهل يدفع بالعلم، والشيء يدفع بضده.
أما حب الدنيا فهو المرض العضال الذي أعيا الأولين وأعيا الآخرين ولا علاج له إلا بالإيمان بالله وباليوم الآخر وتذكره، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
يقول الناظم عن الدنيا: وإن هدمت فزدها أنت هدماً وحصن أمر دينك ما استطعتا ولا تحزن على ما فات منها إذا ما أنت في أخراك فزتا أراك تحب دنيا ذات غدر أبت طلاقها العقلاء بتا وتطعمك الطعام وعن قليل ستطعم منك ما منها طعمتا تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا فإنك لا تطيق أهونها عذاباً ولو كنت الحديد بها لذبتا(32/12)
موقف المسلمين اليوم تجاه قضايا أمتهم
فاتقوا الله عباد الله، فإن الذي يحدث في بلاد المسلمين يمنة ويسرة لابد له من وقفة ومراجعة حسابات، فهل يرضيك الذي يحدث لإخواننا في فلسطين؟! هل يرضيك ما يحدث هناك؟! تهدم بيوتهم، وأنا وأنت نصبح على طعام وشراب بين أهلينا وصغارنا، وهم يصبحون ويمسون على أصوات المدافع والدبابات.
وليس العجب -والله- ما يحدث هناك، فما يحدث هناك هو من فعل اليهود ولا عجب، لكن العجب هو الصمت المطبق على العالم بلا استنكار وبلا شجب وتنديد، والعجب غفلتنا عما يحدث لهم هناك، والعجب تفكك البنيان الذي كان في يوم من الأيام جسداً واحداً.
القدس بصوت الحزن تنادي: أيا عرب! أأنتم قول والعمل صعب المنال؟! أين عمر؟ أين صلاح الدين؟ أين هؤلاء الأبطال؟! أين من يحمي أغصان شجرة الزيتون من أفعال نجستها أسوأ الأفعال؟! أين من يحمي أطفالاً في حضون أمهاتهم ربما كانوا في الغد من سادة الأجيال؟! أين أنتم يا عرب القول؟! أين أنتم أم أنتم شعوب تخاف القتال؟! هل تفكك بنيان يشد بعضه بعضاً، أم سقط النسر من أعالي الجبال؟! إنه لا عجب مما يحدث هناك، لكن العجب من أحوال المسلمين التي لم تتغير ولم تتبدل.
أفيقوا يا رقود قبل أن ننادي بأعلى الصوت فلا يستجاب لنا، فإن السكوت عن مآسيهم إثم آخر تتحمله الأمة من أدناها إلى أقصاها، وإن السكوت وعدم الانفعال مع ما يحدث هناك إثم يتحمله الجميع بدون استثناء.
أليس ما يحدث هناك بسبب تقصيرنا نحن إن كنا نظن أننا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟! لكنها الغفلة وطول الأمل، وقد قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء:60].
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يردنا إليه رداً جميلاً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في العراق وفي فلسطين وفي الشيشان وكشمير وفي الفلبين وأفغانستان.
اللهم رحماك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً.
اللهم قل الناصر وقل المعين، اللهم آثرهم ولا تؤثر عليهم، اللهم زدهم ولا تنقصهم، وأكرمهم ولا تهنهم يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، والنصارى الحاقدين، والوثنيين وأعداء الملة والدين، ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم اشدد وطأتك عليهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز، اللهم رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم رد الشباب والشيب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم طهر بيوتنا من الشاشات والقنوات، وأسواقنا من الفواحش والمنكرات، واملأ مساجدنا وبيوتك -يا رب العالمين- بالمصلين والمصليات.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(32/13)
غربة صائم
يعتبر شهر رمضان من أعظم الشهور منزلة عند الله تعالى، لما فيه من الخير والبركات والنفحات الإيمانية، فعلى المسلم أن يتعرض لهذه النفحات الإيمانية في هذا الشهر الكريم، والرابح من استغل هذا الشهر في طاعة الله عز وجل، والخاسر من ضيع وفرط في هذا الشهر الكريم.(33/1)
غربة صائم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: معاشر الأحبة رجالاً ونساءً! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، وأن يغفر للأحياء وللميتين.
أحبتي.
! أيام معدودة ونستقبل شهر رمضان، وعنوان لقاء هذه الليلة الطيبة المباركة: غربة صائم.
وسيتكون موضوع هذه الليلة من العناصر الآتية: وقفة قبل البداية.
شهر رمضان.
كتب عليكم الصيام.
المطلوب منك ومنك ومني.
بدأ غريباً وسيعود غريباً.
الغرباء مع الصيام.
ولك من أخبار النساء.
أنواع الصائمين.
هذا حالهم فما هو حالنا؟ نداء أخير.(33/2)
وقفة قبل البداية
كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام نرقب شهر الصوم ونتحراه، ثم ماذا؟! عام كامل بأيامه ولياليه قد قوض خيامه، وطوى بساطه، وشد رحاله بما قدمنا فيه من خير أو شر، وصدق الله - ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)) ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)) -: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].
قال ابن كثير رحمه الله: تمر بنا الأيام تترا، وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر.
إن الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود، ولو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضة.
واعلم أن الأنفاس معدودة والآجال محدودة، واعلم أن من أعظم نعم الله عليك أن مد في عمرك وجعلك تدرك هذا الشهر العظيم، فكم غيب الموت من صاحب، ووارى الثرى من حبيب، فتذكر من صام معنا العام الماضي وصلى العيد، ثم أين هو الآن بعد أن غيبه الموت؟!.
اجعل واجعلي لك من هذا الحديث نصيباً، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)، رواه الحاكم.
احرص رعاك الله! أن تكون من خيار الناس كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر حين سئل: أي الناس خير؟ أي الناس خير؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله).
إلهي ثكلت خواطر أنست بغيرك عدمت قلباً يحب سواك(33/3)
شهر رمضان
قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، جاء عند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، فكان يقول لهم: قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خير تلك الليلة فقد حرم الخير).
قال ابن رجب: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، فكيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟! قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.
قال يحيى بن كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلم مني رمضان متقبلاً فمرحباً بشهر طيب مبارك كريم.
في رمضان أنزل القرآن والكتب السماوية، في رمضان الشفاعة بالصيام والقرآن، في رمضان التراويح والتهجد، في رمضان التوبة وتكفير الذنوب، في رمضان تصفد الشياطين، في رمضان تغلق أبواب الجحيم وتفتح أبواب الجنان، في رمضان الجود والإحسان والعتق من النيران، في رمضان الصبر والشكر والدعاء، في رمضان مضاعفة الحسنات وليلة القدر، في رمضان الجهاد والانتصار فكيف لا يفرح المؤمن بشهر هذا بعض ما فيه؟! بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنت ومن في الناس ينساه وكيف أنت حبيباً كنت في صغري أسير حسن له جلت مزاياه ولم أزل في هواه ما نقضت له عهداً ولا محت الأيام ذكراه قد شاخ جسمي ولكن في محبته وما زال قلبي فتى في عشق معناه وفي كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين والقلب والآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت ساعاتها أحيالها وأحلاه فنوره يجعل الليل البهيم ضحى فما أجل وما أجلى محياه ألقاه شهراً ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه في موكب الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه من كل ذي خشية لله ذي ولع بالخير تعرفه دوماً بسيماه قد قدروا مواسم الخيرات فاستبقوا والاستباق هنا المحمود عقباه صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه وكلهم بآيات القرآن مندمجاً كأنه الدم يسري في خلاياه فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب أواه(33/4)
كتب عليكم الصيام
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
قال ابن عثيمين رحمه الله: الحكمة من الصيام: ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح، ولكن كما قال الله: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، وما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور): هو كل قول محرم، أو العمل به أي بالزور، أي: كل فعل محرم، وقوله: (والجهل): أي العدوان على الناس وعدم الحلم.(33/5)
المطلوب منك ومنكِ ومني
فالمطلوب منك ومنك ومني: تحقيق تقوى الله جل في علاه، فهي الغاية المنشودة والصفة المفقودة، قال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت)، والتقوى في أبسط معانيها: فعل المأمور وترك المحذور.
فهل ترانا حققنا هذا بصيامنا؟! أم نحن ممن بالنهار يتقيه وبالليل يعصيه؟! كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير والمتكلمين بها كثير والعاملين بها قليل جعلني الله وإياكم من المتقين.
تقوى الله أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
وإليك موجزاً وبعضاً من أخبار المتقين: قال البخاري: ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.
وقال الشافعي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً، ولو أعلم أن الماء يفسد علي مروءتي ما شربته.
قيل لـ محمد بن الواسع: لم لا تتكئ؟! قال: إنما يتكئ الآمن وأنا لا زلت خائفاً.
وقرئ على عبد الله بن وهب: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47]، فسقط مغشياً عليه.
وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
وقال أحدهم: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال أبو سليمان الداراني: كل يوم وأنا أنظر في المرآة هل اسود وجهي من الذنوب؟ هذا حالهم فكيف هو حالي وحالك؟! لبسنا الجديد، وأكلنا الثريد، ونسينا الوعيد، وأملنا الأمل البعيد! رحماك يا رب! لماذا تريد الحياة؟! لماذا تعشق العيش إذا لم تدمع عيناك من خشية الله جل في علاه؟! إذا لم تمدحه في السحر! إذا لم تزاحم بالركب في حلق الذكر! إذا لم تصم الهواجر، وتخفي الصدقات! هل العيش إلا هذا؟! هل العيش والسعادة إلا هذا؟! قالوا: إذا لم تستطع قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
فهذه أخبارهم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].(33/6)
بدأ غريباً وسيعود غريبا
قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء)، إن الذي يقرأ ويسمع عن أخبار السلف وثلة من الخلف يعلم أن الدين يعيش غربة بين أهله، فمن سمع عن صيامهم وقيامهم وجهادهم أيقن أن الواقع اليوم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح.
فتعالوا أحبتي! ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان.(33/7)
الغرباء مع الصيام
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما مات عمر حتى فرغ الصيام.
أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان، قال أبو نعيم عنه: حظه من النهار الجوع والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبتل بالبلوى منعم بالنجوى.
وعن الزبير بن عبد الله عن جدته قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله رضي الله عنه.
قتلوه وقد كان صائماً والمصحف بين يديه والدموع على لحيته وخديه، حبيب محمد ووزير صدق ورابع خير من وطئ التراب.
أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
أما حكيم الأمة وسيد القراء أبا الدرداء فقد قال: لقد كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا، فأخذت بالعبادة وتركت التجارة.
تقول عنه زوجه: لم تكن له حاجة في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر.
لله درهم!.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصابي أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (نعم العبد عبد الله)، قال عنه نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر.
وعن سعيد بن جابر قال: لما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء - يعني ما أحزن على شيء - من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت هنا، يعني الحجاج.
وإليك المزيد: عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فأتيته فقلت: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة، فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، فغزونا فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال ثم أتيته فقلت: يا رسول الله! إني أتيتك تترا - ثلاث مرات - أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت: اللهم سلمهم وغنمهم، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله! فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، قال فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرف أنه قد اعتراهم ضيف).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى إنه ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم وابن رواحة).
أما مسروق بن عبد الرحمن الذي كان في العلم معروق، وبالثناء موصوفٌ، ولعبادة الله معشوق، قال عنه الشعبي: غشيته يوماً - يعني زرته يوماً - غشيت مسروقاً في يوم صائم، وكانت عائشة قد تبنته فسمى ابنته عائشة، وكان لا يعصى ابنته شيئاً (لا يخالف ابنته من محبته إياها) قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه! أفطر واشرب، قال: ما أردتي يا بنية! قالت: الرفق، قال: يا بنية! إني طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
قال الله عنهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إن هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [الإنسان:11 - 22].
سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على طاعتي، سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على الأذى في سبيلي.
وهذا خبر أخير عن المبشر المحزون، والمستتر المخزون، تجرد من التلاد وشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد: العلاء بن زياد كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكاءً من خشية الله، عن هشام بن حسان أنه قال: كان قوت العلاء بن زياد رغيفاً كل يوم، وكان يصوم حتى يخضر، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته.
قال له رجل: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك.
قال سلمة بن سعيد: رؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة، فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يذوق طعاماً، فأتاه الحسن فقال: أي أخي! أتقتل نفسك أن بشرت بالجنة؟ فازداد بكاءً، فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئاً من الطعام، قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:101 - 107].
دعوه لا تلوموه دعوه فقد علم الذي لم تعلموه رأى علم الهدى فمشى إليه وطلب مطلباً لم تطلبوه أجاب دعاءه لما دعاه وقام بأمره وأضعتموه لنفسي ذاك من فطن لبيب تذوق مطعماً لم تطعموه قال سبحانه: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:63 - 65].
لله درهم! فكم علت بهم الهمم، وأي كلام يترجم فعلهم.
ولك من أخبار النساء الغرباء.
عن عبد الرحمن بن قاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر، وعن عروة أن عائشة كانت تسرد الصيام، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر فلا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وقد بعث لها معاوية مرة بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلت.
إنها الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها.
أما القوامة الصوامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن إخوتها وآل عمر وارثة الصحيفة، والجامعة للكتاب، فعن قيس بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شبع، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فتجلببت، قال: قال لي جبريل عليه السلام: راجع حفصة فإنها صوامة قوامه، وإنها زوجتك في الجنة).
فأي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لـ حفصة رضي الله عنها وأرضاها، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة.
قال نافع: ماتت حفصة حتى ما تفطر.
وإليك المزيد.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية، دخل عليها نفر من القراء فكلموها لترفق بنفسها، فقالت: ما لي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة وأيام معدودة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي،(33/8)
أنواع الصائمين
أخي أخية! من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة، ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عادة وعبادة، ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فإنه صائم رضا، ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقى، ومن صام عن الغيبة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد، ومن صام عن المنكر وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد، ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو صائم سالم، ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم، ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مجاهد، ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد.
قال ابن القيم: الصوم لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين لرب العالمين، يكفيك قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به).
يا قادماً للتقى في عينك الحب طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلب صبرت عاماً أمني قرب عودتكم نفسي فهل يدنو لكم سرب قل هل طيفكم فاخضر عامرنا والله أكرمنا إذ جاءنا الخصب ففيكم يرتقي الأبرار منزلةً والخاملون كسالى زرعهم جدب قالوا في الصيام: الصوم: لذة الحرمان.
وقالوا: الصوم رجولة مستعلنة، وإرادة مستعلية.
وقالوا: رمضان شهر الحرية عما سوى الله، وفي الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية.
قالوا: رمضان شهر القوة، (فليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
قالوا: الصوم صبر وطاعة ونظام، أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه الصفات ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟! صبر وطاعة ونظام، أترون جيشاً يتحلى بهذه الأخلاق القوية ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟! فلا تنسى وأنت تصوم رمضان أن الله يريد أن يجعلنا بالصيام مثال القوي الأمين.
فحذار حذار! أن ينسلخ عنك رمضان وأنت الضعيف الخائن.
أحبتي! لن يتسع المقام حتى نذكر حال الغرباء مع القيام ومع تلاوة القرآن، لن يتسع المقام لذكر أخبار الغرباء مع التضرع والدعاء والبذل والعطاء، ولن يتسع المقام لذكر بطولات الغرباء وصولاتهم وجولاتهم في ساحات الجهاد في رمضان، ولكن حسبنا ما سمعنا وذكرنا من أخبارهم، واللبيب بالإشارة يفهم.(33/9)
عذراً رمضان
لقد كان رمضان شهر عبادة واجتهاد، وكذا كان حالهم قبل وبعد رمضان، فما هو حالنا؟! اسمع شيئاً من أخبارنا في بحث واستفسار وأسئلة طرحت على مئات من المجتمع رجالاً ونساءً موظفين وطلاباً عن حالهم وعن أوقاتهم في رمضان، فجاءت الاعترافات التي تؤكد لنا قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى الغرباء).
فقائل يقول: أقضي الليل أمام شاشات التلفاز، أتابع القنوات الفضائية حتى طلوع الفجر مع بعض زملائي، وقائل: تحت أضواء الملاعب ضمن سلسلة المباريات المقامة في ليالي رمضان.
وقائل: على موائد البلوت والورقة في المجالس وعلى الأرصفة.
وقائل: أقضي الأوقات في التنزه في الحدائق تارة وفي الأسواق تارة.
أما أهل الوظائف فسهر بالليل ثم كسل وخمول طوال النهار، والنتيجة لوم وتوبيخ وخطابات إنذار، وآخر يقول: أنا أحسن من غيري حيث يتسنى لي النوم في المكتب، وآخر يقول: في رمضان يكثر غيابي وتكثر الخصميات.
وفي لقاءات مع بعض أئمة المساجد تحدث بعضهم مستبشرين بزيادة المصلين في رمضان، وإقبال الناس على الطاعة، وعبر آخرون عن حزنهم لحال المتخاذلين حتى في رمضان، وقال آخر: إنهم يزدادون في صلاة الفجر حتى يمتلئ المسجد، ولكنا لا نكاد نراهم في صلاة الظهر والعصر، فقد قلبوا ليلهم نهاراً، ونهارهم ليلاً.
وفي الأسواق اسمع الأخبار من رجال الهيئات.
أما في المقاهي فسئل أحد العاملين في أحد المقاهي عن الفرق بالنسبة لهم عن العمل في رمضان وفي غيره من سائر الشهور، فأجاب: إن العمل في رمضان يكون أكثر تعباً وإرهاقاً، حيث يكثر الزبائن ويزدحمون بمعدل الضعف عن غيره من الشهور، ويمضون ليلهم كله في المقاهي.
أما الأبناء فعلى الأرصفة والطرقات، صخب ولهو فتسأل نفسك أين الراعي عن الرعية؟! أما النساء فسهرات نسائية وانشغال في إعداد أصناف الحلويات والمشروبات والمأكولات، وأمهات يسهرن حتى الفجر في انتظار الأولاد الذين لا يعودون إلا في هذه الأوقات المتأخرة.
أما الأسواق والمجمعات فحدث ولا حرج فأين العبادة؟! أين الجد والاجتهاد؟ يقول أحدهم: أنام بعد الفجر ولا أستيقظ إلا بعد صلاة العصر، فالنوم عبادة! وآخر يقول: يوقظني والدي عند الإفطار وفي بعض الأحيان لا أفطر إلا قبيل صلاة العشاء.
ومع أحد الزبائن في إحدى المقاهي كانت هذه الأسئلة السريعة: منذ متى وأنت هنا؟ قال: من الساعة الثانية عشرة، إلى متى تجلس؟ قال: إلى وقت السحور، هل أنت موظف؟ قال: نعم أنا موظف حكومي، ألا تتأخر عن دوامك؟ قال: أتأخر قليلاً ثم أكمل النوم في المكتب.
هذا هو رمضان اليوم عند كثير من الفئات.
فيا خيبة الصائمين! ويا حسرة المفرطين!(33/10)
نداء أخير
ويحنا ما غرنا! ويحنا ما أغفلنا! ويحنا ما أجهلنا! ويحنا لأي شيء خلقنا! أللجنة أم للنار؟! يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي! يا شموس التقوى والإيمان اطلعي وأشرقي! يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي وأبشري! يا قلوب الصائمين اخشعي وتضرعي! يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي! ويا عيون الساهرين لا تهجعي! ويا ذنوب التائبين اذهبي لا ترجعي! يا أرض الهوى ابلعي ماءك! ويا سماء النفوس أقلعي! يا خواطر العارفين ارتعي! يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي! قدمت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي، ورمضان يناديكم ويقول: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32]، فطوبي لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب.
ألا يكفيك قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)؟!.
رباه عفوك إني للنور مدت يدايا وأبكي ويبكي دمعي ويبكي بكايا وحفنة من وعاء غرسه من دمايا ولا لغيرك دوى يا رب يوماً ندايا إليك أنت صباحي مصفداً في مسايا فاذكر إلهي ضياءك إني ظمآن ضل صدايا لم أدر من أي نبع أسقي حنين الركايا والشط لا ماء فيه يطفي اللظى في حشايا رحماك يا رب هذا إثمي وصادي تقايا وذاك دربي وهذا على الطريق عصايا رحماك يا رب إني وزورقي والخطايا في لجة ليس فيها من الضياء بقايا جفت وغاضت ولكن ما زلت أزجي رجايا غفرت أم لم فإني ما زلت أدعوك يا رب! فعجباً لمن عرفك ثم أحب غيرك! وعجباً لمن سمع مناديك ثم تأخر عنك! اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفقنا فيه لفعل الطاعات، ووفقنا فيه لترك المعاصي والمنكرات، واجمع فيه شملنا ووحد فيه صفنا وأصلح فيه ولاة أمورنا وانصر فيه المجاهدين وسدد فيه الدعاة والعلماء الربانيين، ووفق فيه الشباب والشيب والنساء والإماء لتوبة نصوح واستقامة وثبات حتى الممات يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
أستغفر الله العظيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(33/11)
قصة بطل
لقد كان خالد قبل الإسلام لا يذكر، فلما أسلم أعز الله به الإسلام، ورفع قدره وأعلى شأنه، فالإنسان يكون بالإسلام عزيزاً وبغيره حقيراً ذليلاً.
والإسلام بحاجة إلى النصرة من أبنائه، وذلك بالتمسك بتعاليمه وتطبيقه، فإذا نصرنا الله نصرنا الله على أعدائنا.(34/1)
حاجة الأمة إلى الأبطال
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته كما قال: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، وأن يقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.
نحن وإياكم في محاضرة بعنوان: قصة بطل، لأن حاجتنا للأبطال في هذه الأيام ماسة، فقد كثر الأبطال بالأقوال، وقل الأبطال بالأفعال.
فنحن بحاجة إلى {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، نحن بحاجة إلى أولئك الذين يعيشون لهدف وغاية هي: أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن تكون كلمة الذين كفروا السفلى، أولئك الأبطال الذين ضحوا بكل غال ونفيس، أولئك الذين على أيديهم تتحقق البطولات، وعلى أيديهم يتغير الواقع، وعلى أيديهم تنهض الأمة من الحال التي تمر بنا في هذه الأيام إلى حال العز والمجد والتمكين.
إن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، أمة معطاءة، أمة متجددة، مهما تكالب عليها الأعداء، واشتدت عليها الظروف، فقد قال صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل هذه الأمة: (أمتي كالمطر).
وقال عن هذه الأمة: (من أمتي سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، واستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً).
إنه والله لفضل عظيم، فأمة بهذه الفضائل، وبهذه المميزات لابد أن يكون فيها أبطال، أبطال أفعال لا أبطال أقوال.(34/2)
خالد يصنعه الإسلام
تعالوا معاشر الأحبة! نقف وقفات، ونسطر سطوراً وآيات عن قصة رجل، إذا ذكر في المعارك فهو رجلها الأول، وإذا ذكر في التضحيات فهو أول المضحين، وإذا ذكر البذل والعطاء فهو سيد المواقف كلها.
إن كل مسلم في أدنى الأرض وأقصاها لا يخفى عليه هذا البطل، فلقد ارتبطت انتصارات الأمة ماضياً بهذا الاسم العظيم، إنه خالد وما أدراك ما خالد، مضى خالد ولكن اسمه بقي خالداً في حياة المسلمين، إنه خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، من خالد قبل الإسلام؟ لا شيء يذكر، فالذي صنع خالداًً هو الإسلام، والإسلام الذي صنع خالداً قادر على أن يصنع أمثاله، فالإسلام الذي أخرج مثل خالد قادر على أن يخرج أمثال خالد.
ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان وما نسينا بنينا حقبة في الأرض ملكاً يدعمه شباب طامحونا شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا حماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا ولم تشهدهم الأقداح يوماً وقد ملئوا نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلى طابت لحونا فعلى أمثال أكتاف هؤلاء الشباب تنهض الأمة من الحال الذي تعيشه في هذه الأيام، حتى يتربى الأبطال فلابد أن يقرءوا سير الأبطال، حتى يتأثر الرجال، وأي سيرة أعظم من سيرة هذا البطل الذي صنعه الإسلام، إنه خالد؟ وما أدراك ما خالد، خالد الذي صال وجال ضد الإسلام يوماً، توقف مع نفسه وفكر، وقال في نفسه: والله لقد ظهر الحق واستقام النسب، وإن هذا الرجل لرسول.
لقد رأى أطناب الإسلام بدأت تضرب بقوة في شرق الجزيرة وفي غربها، وهكذا الحق يبدأ ضعيفاً، ثم يقوى شيئاً فشيئاً حتى يهلك الباطل.
سبحان الله! فكر خالد ونعمة العقل نعمة عظيمة يملكها الكثير، ولا يستعملها إلا القليل، فلو أن كل إنسان صالح أو طالح فكر في مصيره ومآله؛ لازداد الصالح في صلاحه، ولكان الطالح على غير الحال التي هو عليها.
ففكر خالد ودبر وقدر؛ فتبين له أن الحق واضح، فقال في نفسه: أما من رجل يصاحبني إلى المدينة حتى أظهر إسلامي، فالتقى رجلاً آخر فذاً من الأفذاذ، وبطلاً من الأبطال، إنه عثمان بن طلحة، فأخبره خالد بالخبر الذي يريده، فقال: وأنا معك يا خالد، فخرجا سوياً حتى إذا استويا خارج وادي مكة إذا بثالث من دواهي العرب يسير في طريقه أيضاً، فإذا هو داهية العرب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فقال لهما: إلى أين تذهبا؟ فبينا له الوجهة التي سينطلقا إليها، فقال: والله! هذا ما أردت.(34/3)
خروج الثلاثة الدهاة إلى المدينة وإعلان إسلامهم
فهذه مكة قذفت بفلذات أكبادها ودواهي العرب: خالد وعثمان وعمرو بن العاص، فلما وصلوا المدينة دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فحيوه بتحية الإسلام والنبوة، فسر وجهه صلى الله عليه وسلم، فمد خالد يده قائلاً: أبايع على الإسلام بشرط أن تستغفر لي يا رسول الله! كل صدة صديتها عن سبيل الله، وتأمل هذه الكلمة، فإن خالداً سيعوض ما فات، سيعوض الماضي الذي جال وصال فيه ضد الإسلام، وهو الآن على أتم الاستعداد في أن يعطي كل غال ونفيس من أجل الإسلام.
قال: (استغفر لي يا رسول الله كل صدة صديتها عن سبيل الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا خالد فإن الإسلام يجب ما قبله).
فالإسلام حياة جديدة شعارها الاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا خالد! لقد رأيت لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير).
أيها الناس! إن نعمة العقل نعمة عظيمة، فلو أن كل إنسان فكر في نفسه، وفكر في حاله لتبين له أن بعد هذه الحياة موت، وبعد الموت قبراً، وبعد القبر نشوراً وحساباً، وبعد الحساب جنة أو ناراً، فصاحب العقل السليم يعمل حتى يفوز بجنة الله، وينجو من عذابه، وهكذا فعل خالد ومن معه.(34/4)
خروج خالد إلى غزو الروم
ثم يبدأ خالد دوره بين صفوف المسلمين جندياً من الجند، ولم يستصغر الأدوار التي كان يقوم بها، فالأمة اليوم في أمس الحاجة إلى جهد كل واحد منا رجالاً ونساءً وأطفالاً، فجراحات المسلمين في الشرق والغرب وفي كل مكان.
لقد خرج خالد في جيش أرسله النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاة الروم الذين خانوا العهود والمواثيق، فهم الذين أرسل إليهم رسولاً فخانوا مواثيق الأرض كلها، وخانوا الأعراف كلها، فقتلوا ذلك الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم أن شوكة الإسلام ليست بالشوكة الهينة، وأن جند الإسلام على استعداد للتضحية من أجل دينهم، فأرسل قلة قليلة لا تتجاوز الثلاثة آلاف لكنها أرعبت الروم حين خروجها، فخرجت الروم في جحافل كثيرة تعدادها أكثر من مائة وعشرين ألفاً، فبالله عليك! ثلاثة آلاف ماذا سيصنعون أمام مائة وعشرين ألفاً؟ لكن أمة الإسلام أبداً لا تقاتل بالعدة والعتاد، مع أنها مطالبة بإعداد ذلك، ولكنها تستجلب النصر من السماء وليس من الأرض: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160]، {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13]، ومثلها قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].(34/5)
ترتيب النبي صلى الله عليه وسلم للجيش والإمارة، ثم حكايته تفاصيل المعركة لأهل المدينة
جهز النبي صلى الله عليه وسلم أمر ذلك الجيش ورتب الإمارة فيه فقال: (يحمل الراية أولاً زيد بن حارثة، فإن قتل فيحملها جعفر رضي الله عنه وأرضاه، فإن قتل يحملها عبد الله بن رواحة)، رضي الله عن الجميع، (فكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ينقل وقائع المعركة حية على الهواء وحياً، فقال وهو يصور لأصحابه)؛ لأن الأمة كلها متعلقة بذلك الجيش، فالأمة كلها تتبع أخبار الانتصارات هنا وهناك، أعني: الانتصارات في أرض المعارك لا في ميادين الملاعب.
دارت رحى معركة من أشد المعارك، فهناك قلة قليلة ثابتة أمام جحافل كثيرة؛ لكن الإيمان يصنع جبالاً رواسي أمام تيارات الكفر.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينقل لأصحابه وقائع المعركة: (حمل الراية زيد ثم قتل، ثم حمل الراية جعفر ثم قتل، ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة ثم قتل، ثم صمت النبي صلى الله عليه وسلم ثم ظهرت على وجهه إشراقة فقال: ولقد رُفعوا إلي في الجنة، ثم صمت قليلاً، ثم قال: أما الآن فقد حمل الراية سيف من سيوف الله ولقد حمي الوطيس) وبعد أن سقط ثالث القادة عبد الله بن رواحة شهيداً -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- أخذ الراية ثابت بن أقرم رضي الله عنه وأرضاه ونادى بـ خالداً وقال: يا خالد! احمل الراية، لكن خالد يعرف قدر الرجال وينزل الناس منازلهم فقال: أنت أقدم مني هجرة، وأكبر مني سناً، وأنا لا أتقدم عليك، فقال ثابت: أما والله! إني ما حملتها إلا لك فأنت أدرى بفنون القتال.
فما عرفت الأرض فارساً كر وفر مثل خالد، ولم يعرف التاريخ منذ أول سطوره إلى آخره فارساً مغواراً كاراً فاراً كـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.(34/6)
خالد يلي إمارة الجيش
ثم نادى ثابت في المسلمين قائلاً: أترضون بـ خالد بن الوليد أميراً عليكم؟ قالوا: رضينا، فحمل الراية رضي الله عنه وأرضاه وامتطى صهوة الجواد، ثم ذهب إلى أعلى مكان في أرض المعركة يتفقد أرض المعركة وينظرها يمنة ويسرة بعين ثاقبة، وبعقل وعبقرية عسكرية لم تعرف الحياة مثلها، ففكر خالد أن هذا الجيش القليل قد أبلى بلاء حسناً لكنه لا يستطيع أن يقاوم أكثر، ثم فكر وغير الميمنة والميسرة، وقلب مواضع القتال يمنة ويسرة، وغير وجوه الرجال في وجوه أولئك القوم، فظنوا أن مدداً قد جاءهم من المدينة، فرفع معنويات الرجال، وألقى الخوف والرعب في الفريق الآخر، ثم صمدوا وقاوموا وقاتلوا واستبسلوا، ثم بدهاء عسكري استطاع خالد أن يفتح فجوة في صفوف الكفار فأخذت فلول المسلمين مجموعة تلو مجموعة تخرج من أرض المعركة بأقل الخسائر، وكان خالد يظن أن الخروج من أرض المعركة بأقل الخسائر هو انتصار بحد ذاته، وهو كذلك بعد أن أبلى أولئك القوم بلاءً حسناً.
ومن شدة المعركة قال خالد: تكسر في يدي في تلك المعركة تسعة سيوف، ولم تصمد في يدي إلا صفيحة يمانية.
وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ولقد حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمى الوطيس).
ثم خرج خالد ومن معه من أرض المعركة بخطة عبقرية فذة تدرب إلى الآن في ميادين القتال، ولم يستطع الروم أن يتتبعوا ذلك الجيش الصغير.
وانتظرت المدينة قدوم ذلك الجيش، فالصغار والكبار ينتظرون رجوع ذلك الجيش، لكن بأي وجه استقبل الأطفال ذلك الجيش؟ لقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة وهم يقولون لهم: تفرون من الموت في سبيل الله؟ فيرمونهم بالحجارة ويقولون لهم: يا فرار يا فرار! فالصغار يعيرون الكبار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله).
ولو تأملنا الصورة بالأمس والصورة باليوم لرأينا عجباً، فبالأمس كان صغارنا يستقبلون الجيش ومن معه في أزقة المدينة، وكانوا يقولون لـ خالد ومن معه: إلى أين يا فرار؟! واليوم صغارنا، يستقبلون غانية ومطرباً بيده قيثار ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار متار متار هذا زمان العار من طنجة إلى قندهار معتقل يعيش حالة احتضار أمتنا ليس لها قرار أمتنا ألعوبة باليمين واليسار نرجو صلاح الدين ندور في مأساتنا حتى أصابنا الدوار لكن لا خيار من موتنا فوق شغار السيف حتى يصير الشوك جل نار موقنون يا متار بحرقة المشوار فإن النصر مع الصبر والصراط فوق النار هذه باختصار قصيدة اعتذار عن أمة تعدادها مليار ليس لها قرار ثم يرجع خالد ظافراً من مؤتة، ومنتصراً انتصاراً عظيماً يوم أن خرج بجيشه من تلك المهلكة.(34/7)
مشاركة خالد في فتح مكة
ثم بعد ذلك توجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحاً، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة من الجهات فاتحاً بجناح من المؤمنين، فدخل خالد ولم تستطع مكة أن تقاوم أهل الإيمان؛ لأنه إذا جاء الحق زهق الباطل، وكما قال الله جل في علاه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
فمهما علا الباطل وظهر فسيأتي يوم ويظهر الحق بشرط أن ينتصر أهل الحق للحق، بشرط أن نأخذ الكتاب بقوة كما أمر يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
فدخل خالد فاتحاً فتذكر الأيام الماضية وهو يرى تلك الأصنام التي تعبد وتقدس وتمجد من دون الله سبحانه وتعالى، أين نعمة العقل؟ آلهة لا تنفع ولا تضر ولا تملك لنفسها حياة ولا نشوراً، فتذكر خالد ذلك واسترجع وقال: كيف كنا نقول: يا عزى سبحانك؟! بل يا عزى كفرانك، لقد رأيت الله قد أهانك، فحمد الله أنه دخل مكة فاتحاً ولم يدخل الإسلام بعد فتح مكة، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد:10].(34/8)
النبي صلى الله عليه وسلم يودع الدنيا بعد فتح مكة
ثم مرت بالإسلام فاجعة لم تمر عليه من قبل ولم تمر عليه من بعد، فاجعة فقد النبي صلى الله عليه وسلم، فهي مصيبة عظيمة ابتلي بها المؤمنون وهم في طور إنشاء الدولة المسلمة، فجعت تلك الدولة المسلمة الفتية بفقد نبيها صلى الله عليه وسلم، فمن حكمة الله جل في علاه أن هذا الدين لا يقوم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك اختاره الله لما بلغ الرسالة، وعلم الرجال كيف يحملون الأمانة، فحمل الرجال تلك الأمانة التي أشفقت منها السموات والأرض والجبال.(34/9)
ردة العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم
وبعد ذلك ارتدت العرب قاطبة عن دين الله ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف، ومرت بالمسلمين أزمة لا يعلمها إلا الله، وهي مصيبة فقد النبي ثم المصيبة الأخرى تجمع أولئك المرتدين على تلك الدولة الفتية، فتصدى لها أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولكل زمن رجال.
فمن فضائل هذه الأمة: أن الله يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.
فشاور أبو بكر الصحابة في أمر تلك الأزمة، فمنهم من رأى أن من الحكمة البقاء في المدينة حتى تنجلي الأزمة؛ لأن هناك جيشاً صغيراً أعده النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة شاب من الشباب في السابعة عشرة من عمره، وسبحان الله! قواد الجيوش شباب، وكتاب الوحي من الشباب، وكتاب السنة وحفاظها هم الشباب، وأهل المشورة هم الشباب، فأين الشباب اليوم عن هذا الدور العظيم؟! إن أمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى شبابها الذي تربى على تقوى من الله ورضوان.
لقد كان لـ أبي بكر نظرة في تلك الأزمة وهي: أنه لابد من الانتصار لهذا الدين مهما كان الثمن؛ لأن سنة الله لا تتغير ولا تتبدل، والله لا يحابي أحداً في سننه، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فأشاروا على أبي بكر بالبقاء فقال: لا والله! لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله! لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، أينقص الدين وأنا حي؟! فنصر الله الدين بشخص أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.(34/10)
أبو بكر يجهز الجيوش
فبدأ يعد العدة، فقال: جيش أسامة يخرج، والبقية الباقية تستعد في المسجد للخروج لملاقاة المرتدين.
فخرج أبو بكر قائداً عليهم؛ حتى يعطي للأمر أهمية، وحتى يعلم المسلمون أن القضية قضية خطيرة ومهمة، فانتصر في أول اللقاءات، ثم رجع إلى المدينة وأعد العدة وأراد الخروج، فقال له علي وكبار الصحابة: نقول لك يا أبا بكر! كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا تفجعنا في نفسك يا أبا بكر! فلبث وجلس في المدينة مضطراً، لكنه عقد الألوية، وأرسل الرجال في أطناب كثيرة يمنة ويسرة، وكلم خالداً قبل أن يمضي قائلاً له: لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (نعم العبد خالد بن الوليد، نعم أخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله سله الله على الكفار)، فخرج خالد وقد دوى في أذنه صدى هذه الكلمات العظيمة.
ولقد اجتمعت فلول المرتدين وقوي شأنها وردت من ردت من فلول المسلمين، وكان أكبر تجمع للمرتدين في أرض اليمامة وهم قوم مسيلمة الذي ادعى النبوة كاذباً عليه من الله ما يستحق، وكان قد جمع أكثر من أربعين ألف رجل، فتصدت له بعض جيوش المسلمين فردهم على أعقابهم، فقال أبو بكر: ليس لها إلا البطل خالد رضي الله عنه وأرضاه، فالرجال يعرفون في الأزمات، قال الله جل في علاه: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].(34/11)
خالد يقود الجيش إلى اليمامة
وجه أبو بكر خالداً إلى أرض المعركة، فجمع خالد الجيوش، ووحد صفوفهم، وحثهم على التضحية والبذل والعطاء من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فما خرج القوم إلا من أجل هذا الهدف، {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:8 - 9].
وهل هم فقط؟ لا، ولكن لكل من سار على طريقهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
فدارت رحى معركة ضروس لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فإن العرب إذا التقوا مع العرب كان اللقاء أخطر مما تتصور، فبدأت الأشلاء تتقطع، والرءوس تتطاير، والبطون تبقر، والدماء تسيل، فرأى خالد في هذه الحالة أن علامات الهزيمة بدأت تظهر على المسلمين فبحث عن السبب، فوجد السبب أن روح المسئولية بدأت تضعف في حياة الرجال، واليوم هذه الروح فقدت في حياة المسلمين، فمن يتصدى لآهات المسلمين هنا وهناك ويقول: أنا لها؟ ومن يتصدى لقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)؟ ومن يقول: أنا لهذه الأزمات التي تمر على أمة الإسلام؟ لا يقوم بذلك إلا {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].
فميز خالد الصفوف: فميز المهاجرين عن الأنصار، وميز أبناء كل أب وجعلهم تحت راية أبيهم، ثم قال لهم: اليوم نعرف من أين تأتي الهزيمة، فارتفعت معنويات الرجال، وصالوا وجالوا، وقتلوا وارتفعت الآيات والتكبيرات والتهليلات، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:4 - 7].
فتمايز الرجال، وارتفعت التهليلات والتكبيرات وأقبلت ريح الجنة، فصال الرجال وجالوا، وكروا وفروا، وأثخنوا في العدو الجراح، وقطعوا الأشلاء، وبقروا البطون، وأسالوا الدماء، كل ذلك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فلجأ مسيلمة ومن معه إلى حديقة الموت، فارتفعت همم الشباب في التضحية والبذل والعطاء من أجل نصرة هذا الدين، فالناس في سباق إلى الله جل في علاه، فإن استطعت ألا يسبقك أحد إلى الله فافعل.
فقد قيل لأحدهم في ميدان المعركة: إنا نخاف أن نؤتى من قبلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي.
وآخر يحفر حفرة حتى رجليه ويقول لقومه: والله لا أتكلم بكلمة حتى ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، فلما دخل القوم إلى حديقة الموت وأغلقوا الأبواب ظنوا أنهم في معزل عن أولئك الرجال الأبطال، فقال خالد بن الوليد: أين أنت يا فتى الأنصار؟ يعني: البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه، وكان نحيل الجسم لكنه قوي الإيمان، وقد كانت أول عملية استشهادية حدثت في الأرض كانت في تلك المعركة، فقال لهم البراء: احملوني على الترس، وارفعوني بالرماح ثم القوني في حديقة القوم، فإما الشهادة، وإما النصر.
فرفعوه ورموه في الحديقة، فقاتل القوم وحيداً منفرداً حتى فتح الله على يديه وبجسده النحيف أكثر من ثمانين ضربة بسيف، وطعنة برمح.
وانطلقت فلول المسلمين تقتل في فلول المرتدين حتى أثخنوا فيهم الجراح، وعلم أولئك القوم أن خلف هذا الدين {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23]، فانفضت وانقشعت تلك الأزمة التي كادت أن تفني الدولة المسلمة.(34/12)
الصديق يوجه الجيوش إلى فارس والروم
وبعد أن انتهى خالد من تلك المعركة انتقل إلى أرض معركة أخرى، فقد رأى أبو بكر أن فارس والروم بدأوا ينفشون ريشهم ويتعرضون لوفود المسلمين هنا وهناك، فكان لابد أن يعلموا أن لهذا الدين رجالاً، فأرسل الجيوش إلى العراق وإلى الشام، فأرسل أبا عبيدة وكبار الصحابة على رءوس كثير من الجيوش.
ولما وصل خالد إلى العراق بدأ يرسل الرسل، ويكتب الكتب إلى ملوكها وسلاطينها، وكان مما كتب لهم: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فله ما لنا، وعليه ما علينا، وإلا فإني أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون أنتم في الدنيا.
وهذا هو الفرق بيننا وبينهم، وصدق نبي الهدى والرحمة حين قال: (تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: يا رسول الله! أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعداءكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
فهذا هو المرض الذي تعاني منه الأمة في هذه الأيام، فكان أبو بكر يرسل الرسل، ويرسل الجيوش ويقول لهم: احرصوا على الموت توهب لكم الحياة.
سبحان الله! لقد حرصوا على الموت فسادوا على مشارق الأرض ومغاربها، فبدأ خالد انتصاراته في العراق بدءاً بذات السلاسل، وانتهاء بالفرات في أعلى العراق.
وبدأت الروم تجمع فلولها فسمع أبو بكر بالخبر، فقال: ليس لها إلا خالد، والله! لأنسين الروم وساوس الشيطان بـ خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، فأرسل إليه يأمره بالتوجه من العراق إلى الشام، فقطع المسافة في مدة قصيرة على أرض لم يقطعها قبله إنس ولا جان، فالرجل على أتم الاستعداد للبذل والعطاء مهما كان الثمن، فما أحوجنا لمثل هؤلاء الأبطال.
فلما وصل خالد إلى الشام جمع الجيوش، ووحد الصفوف، وتلا عليهم القرآن، وذكرهم بالله وبالدار الآخرة، وذكرهم بفضل الشهداء عند الله جل في علاه، وما أعده الله لهم في جنات النعيم، وبين لهم أن الله اشترى وهم باعوا الأنفس والأموال على أن يكون الثمن الجنة، وما أعظمها من صفقة، وعد سابق وعهد صادق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].
فذكرهم خالد بالله وقال لهم: هذا يوم من أيام الله أخلصوا فيه الجهاد لله، واطلبوا الله والدار الآخرة في جهادكم هذا، ثم نزع حب الإمارة من قلوب الرجال فقال: الإمارة بيننا وبينكم يتولاها كل رجل منا يوماً، فلقد ظنوا أن المعركة ستطول؛ لأن تعداد فلول الكفار أكثر من مائتين وأربعين ألفاً، وفي المقابل فئة قليلة لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين ألفاً لكن قلوبهم مليئة بالإيمان، ففي ليلة المعركة كانوا قياماً يقرأون سورة الأنفال، في ثبات واستعداد للبذل والتضحية، فهناك وعد من الله إذا تضرعوا واستغاثوا: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9].
فإذا كان الأعداء الآن عندهم قنابل ومدافع ودبابات فإن الله تعالى قد أيدنا بإسرافيل وميكائيل وجبرائيل، وأيدنا بملائكته تقاتل مع المؤمنين، فماذا تصنع أسلحتهم مع جنود الرحمن؟(34/13)
ماهان يفاوض خالداً في شأن الحرب
لقد كان ماهان قائداً من قادة الكفار فلما رأى في وجوه أولئك الرجال البسالة والشراسة أراد أن يحقن الدماء فقال: هل من كلمة بيني وبين خالد حتى نحقن الدماء؟ فالتقى خالد مع ماهان، ودار بينهم هذا الحديث: قال ماهان: أخبرنا أنه ما أخرجكم من دياركم إلا الفقر والجوع والحاجة، فإن شئتم أعطيت كل واحد منكم طعاماً وشراباً وعشرة دنانير ذهب ودابة، ثم ترجعون إلى أرضكم وتعودون من السنة القابلة أعطيكم مثلها، فهو يريد أن يكسر عزة المؤمن، وأنى له أن يكسر العزة المستمدة من القرآن ومن النور النبوي؟! فقال له خالد: أما والله! ما أخرجنا الجوع ولا العطش ولا الفقر، ولكننا قوم نحب أن نشرب الدماء، ولقد أخبرنا أن دماء بني الأصفر من أطيب الدماء فمن أجل ذلك خرجنا، ثم كبر خالد رضي الله عنه وكبر الرجال وبدأت السيوف تعمل في رقاب الكفار: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12].
وبدأت التضحيات والمآثر تظهر بين الرجال، فهذا رجل يقول لـ أبي عبيدة: يا أبا عبيدة! إني عزمت على الشهادة فهل من وصية أبلغها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو عبيدة: أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
قال الله جل في علاه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5].
فأي قوة تستطيع أن تذل تلك الفئة المؤمنة التي تستمد العزة من القرآن؟! والله تعالى يواسي الأمة في كل حين وفي كل مكان إذا اشتدت بها الأزمات فيقول: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:139 - 141]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وقال: {ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].
وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
وقال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
فالرجال يعرفون عند الشدائد والمدلهمات، وهنا لك تظهر معادن الرجال، فما أحوج الأمة اليوم إلى ذلك.
ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويلنا ماذا أصاب رجالنا أو مالنا سعد ولا مقداد فانتصر الرجال في معركة من أعظم المعارك، وأبلوا بلاء حسناً، فانتهت المعركة وحسمت في يوم واحد، فمن كان يظن أن هذه الفئة القليلة تستطيع أن تحسم المعركة في يوم واحد؟! فلقد بدأت المعركة من طلوع الشمس وما غابت الشمس إلا والمعركة قد حسمت، وصلى خالد في خيمة ماهان.(34/14)
الحكمة من عزل عمر لخالد عن إمارة الجيش
إن النصر من عند الله، وليس من عند خالد، والأمة تمتلك أمثال خالد الكثير، وتخيل خالداً وهو في قمة انتصاراته فيرسل عمر بعد أن مات أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه برسالة إلى الشام يعزل فيها خالداً في أوج انتصاراته، فقال عمر فيما قال: ما عزلت خالداً عن سخطة ولا عن خيانة، ولكني رأيت الناس قد فتنوا بـ خالد، فأردت أن يعلم الناس أن النصر من عند الله الصانع وليس من عند خالد ولم يتوقف خالد يوم أن عزل عن خدمة الإسلام، فهو يخدم الإسلام أميراً وجندياً وفي أي مكان يوضع فيه، وهكذا رجال الإسلام فليس همهم المناصب ولا العطايا، وإنما همهم الله والدار الآخرة.
لقد خاض خالد سنوات طوالاً في أرض المعارك، فلو كشف عن جسده لرأيت كل موضع فيه ضربة بسيف أو طعنة برمح فلله در ذلك البطل، وقد طلب خالد الشهادة في مضانها هنا وهناك، وخاض أكثر من مائة معركة ولكن الله قضى على خالد أن يموت على فراشه، فلا نامت أعين الجبناء.
فمن أخبار خالد أنه كان يقول: والله ما ليلة بتها والسماء تظلني والأرض تقلني في سرية من المهاجرين في ليلة دافئة أحب إلي من ليلة أدخل فيها على عروس أو أبشر بغلام.
فانظر إلى الهمم، وقل لي: أين نحن من هؤلاء؟ كان إذا اشتدت المعركة وحمى الوطيس طأطأ برأسه إلى الأرض ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم ناجى الله ثم قال: والله! ما هو إلا الموت والجنة وما إلى المدينة من سبيل.
وقال فيما قال: شغلني الجهاد عن تعلم كثير من القرآن، فماذا شغل الشباب اليوم عن الآيات وتدبر القرآن؟ هل شغلهم الجهاد والإعداد والاستعداد أم شغلتهم القنوات والمباريات عن تدبر آيات الله؟ إن الأمة لن تنهض إلا على أكتاف الشباب، ولن تقوم للأمة قائمة ويتبدل الحال إلا على أكتاف الشباب.
والشباب المسلم هم الذين جعلوا خالداً ومن معه قدوة لهم وساروا على طريقهم فتشبهوا بهم، فإن التشبه بالصالحين فلاح.
فاليوم والظروف كما يعلم القاصي والداني من تآمر الكفار يمنة ويسرة على أن يطفئوا نور الله ولكن: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
إن الإسلام يصنع الرجال كأمثال خالد وكـ خطاب وغيرهما من الرجال، وسبحان الله يموت كل يوم العشرات بل المئات بل الألوف ولكن لا يعني موتهم شيئاً، ويموت واحد فتفجع الأمة في أدنى الأرض وأقصاها لفقده.
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعيرُ ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير(34/15)
خالد يودع الدنيا
ثم مات خالد، والله تعالى قد كتب الموت والفنا على كل مخلوقاته، كما قال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
فاليوم والأزمة تشتد لابد من التفاؤل، ولابد من بث روح الانتصار، ورفع المعنويات بين أفراد الأمة، إنها سحابة صيف وستنقشع بإذن الله، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9].
نعم أيها الناس! إن هذا الدين سينتصر بعز عزيز أو بذل ذليل، لكن أين دوري ودورك؟ وأين دورك أنت أيتها الصالحة المؤمنة؟ فالإسلام اليوم في أمس الحاجة لجهد كل واحد منا، وإن أعظم ما نقدمه للإسلام اليوم أن ننتمي للإسلام حقيقة الانتماء، وأن نطبق الإسلام واقعاً ملموساً في حياتنا، وأن نحافظ على الصلوات، ونعمر المساجد، وننتهي عن المحرمات.
فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل في الأزمات، فما ضاقت إلا فُرجت، وبعد الليل فجر سواء طال الليل أو قصر.
متفائل واليأس بالمرصاد متفائل بالسبق دون جيادِ متفائل رغم القنوط يذيقنا جمر السياط وكثرة الجلاد متفائل بالغيث يسقي روضنا وسماؤنا شمس وصحو باد متفائل بالزرع يخرج شطأه رغم الجراد كمنجل الحصاد متفائل يا قوم رغم دموعكم إن السما تبكي فيحيا الوادي والبحر يبقى خيره أتضره يا قومنا سنارة الصياد فدعوا اليهود بمكرهم وذيولهم نمل يدب بغابة الآساد متفائل بشرى النبي قريبة فغداً سنسمع منطقاً لجماد حجر وأشجار هناك بقدسنا قسماً ستدعو مسلماً بجلاد يا مسلماً لله يا عبداً له خلفي يهوديُّ أخو الأحقاد فطهر تربنا من رجسه لا تبق دياراً من الإلحاد قسماً بمن أسرى بخير عباده وقضى بدائرة الفناء لعاد لتدور دائرة الزمان عليهم ويكون حقاً ما حكاه الهاد هذا يقيني وهو لي بل للصدى والكأس غامرة لغلة صاد فاجعل يقينك بالإله حقيقة واطمع بكفك صارماً لسداد وإذا قطعت الرأس من حياتهم لا تنس أذناباً بكل بلاد إن هذا الدين سينتصر بـ خالد وبغير خالد، فالأمة التي أخرجت خالداً قادرة على أن تخرج أمثال خالد، واليوم نرى تباشير الصباح قد ظهرت وأشرقت، فهاهم الشباب يعمرون المساجد، وهاهي الفتيات يتزين بزينة الإيمان، وهاهم الآباء في وسط هذه الأحداث يحثون الصغير والكبير على التمسك بهذا الدين.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميمِ إن هذا الدين سيظهر بعز عزيز أو بذل ذليل، لكن ما هو الدور الذي ينبغي أن أقوم به أنا وأنت وأنت؟ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ * وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:7 - 8].
وقال جل في علاه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!(34/16)
قوافل العائدين
إن الله قد أمرنا بالتوبة إليه؛ لأنها طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، وهي ليست خاصة بالمذنب بل هي عامة في حق جميع المؤمنين الذين يريدون الفوز في الدنيا والآخرة.
وإن أخبار التائبين منذ عهد آدم إلى وقتنا المعاصر يجب أن نأخذ العبرة منها، وأن نرغب في مثل أحوالهم، وأن نحرص على الاقتداء بهم في التوبة وصدق الرجوع إلى الله تعالى.(35/1)
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواننا على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يغفر ذنب المذنبين، وأن يقبل توبة التائبين، وأن يدل الحيارى، ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين، أمر الله عز وجل بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]، ووعد جلّ في علاه بالقبول فقال: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) [الشورى:25]، ثم فتح الرحمن باب الرجاء فقال: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
وقد أخرج مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأيها الناس! توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة).
وأوحى الله إلى داود عليه السلام: (يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إليّ، ولتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود! هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟!) يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعد لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن والخير كله عندك أجمع ما لي سواء فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري إليك أرفع ما لي سواء قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأي باب أقرع ومن ذا الذي أدعوه وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشاك أن تقنط من فضلك عاصياً الفضل أجزل والمواهب أوسع عنوان اللقاء: (قوافل العائدين) نعم قوافل العائدين، وسيتكون اللقاء من مقدمة وبداية وختام، وبينهما أخبار خمسة: الخبر الأول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
الخبر الثاني: سبحان مغير الأحوال.
الخبر الثالث: أترضى أن تكون مثل هذا.
الخبر الرابع: طريق المخدرات.
الخبر الخامس: هدايتي على يديك، ثم الختام.
فإلى أول الكلام.(35/2)
دعوة إلى حضور مجالس العلم والحث على التوبة
روى البخاري رضي الله عنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يطوفون في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم ربهم جل في علاه وهو أعلم بهم: ما يقولون عبادي؟ قال: فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويمجدونك ويحمدونك، فيقول جلّ في علاه: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر تسبيحاً).
اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
قال: فيقول جلّ في علاه: (وما يسألوني؟ قال: فيقولون: يسألونك الجنة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصاً، وأشد طلباً، وأعظم فيها رغبة -فأين المشمرون؟ أين المشمرون؟ - قال: فيقول: فمما يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة -اللهم أجرنا من النار- قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم -فأبشروا يا أهل هذه المجالس! - قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول جلّ في علاه: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
نعم أبشروا يا أهل هذه المجالس! فربكم ذو رحمة واسعة، وأسمع منادي الله ينادي: (ألا قد طال شوق الأبرار إلى لقائي، وإني أشد شوقاً لهم، ألا من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، من ذا الذي أقبل عليّ وما قبلته، من ذا الذي طرق بابي وما فتحته، من ذا الذي توكل علي وما كفيته، من ذا الذي دعاني وما أجبته، من ذا الذي سألني وما أعطيته، أهل ذكري أهل مجالستي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم أبداً من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب، من أقبل عليّ قبلته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته المزيد، ومن أراد رضاي أردت ما أريد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، من صفا معي صافيته، من أوى إلي آويته، من فوض أمره إليّ كفيته، ومن باع نفسه مني اشتريته وجعلت الثمن جنتي ورضاي)، وعد صادق وعهد سابق ومن أوفى بعهده من الله فيا فرحة التائبين بمحبة الله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
فالهج بحمده واهتف بشكره، وقل: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوا لك بنعمتك عليّ، وأبو بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
قل: أنا الميت الذي أحييته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الضال الذي هديته فلك الحمد، وأنا الجاهل الذي علمته فلك الحمد، وأنا الجائع الذي أطعمته فلك الحمد، لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، لا إله إلا أنت.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمد أبواب غيرك ربنا قد أوصدت ورأيت بابك واسع لا يوصد(35/3)
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله
روي عن منصور بن عمار قال: خرجت ليلة وظننت أني قد أصبحت، وإذا عليّ ليل، فقعدت عند بابٍ صغير، فإذا بصوت شابٍ يبكي ويقول: وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك وقد عصيتك حين عصيتك، وما أنا بنكالك جاهلاً، ولا لعقوبتك متعرضاً، ولا بنظرك مستخفاً، ولكن سولت لي نفسي، وغلبتني شقوتي، وغرني سترك المرخي عليّ، فالآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من أعتصم إن قطعت حبالك عني، واسوأتاه من أيام في معصية ربي، ويا ويلي كم أتوب وكم أعود، وقد حان لي أن أستحي من ربي.
قال منصور: فلما سمعت كلامه قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
قال: فسمعت صوتاً واضطراباً شديداً، ثم مضيت لحاجتي، فلما أصبحنا رجعت وإذا أنا بجنازة على الباب، وعجوز تذهب وتجيء، فقلت لها: من الميت؟ فقالت: لا تجدد عليّ أحزاني، قلت: إني رجل غريب، فقالت: هذا ولدي مر بنا البارحة رجلاً لا جزاه الله خيراً قرأ آية فيها ذكر النار فلم يزل ولدي يضطرب ويبكي حتى مات، قلت: إن لله وإنا إليه راجعون، هكذا والله صفة الخائفين يا ابن عمار! سبحان من وفق للتوبة أقواماً، وثبت على صراطها أقوماً.
يا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير إن تعذبني فبعدلك وإن ترحمني فأنت به جدير إن علاج مشاكل الشباب والشيب، وأصحاب الهموم والغموم هو الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، نعم الانضمام إلى قوافل العائدين، العائدين إلى الله بعد طول غياب الذين أحرقتهم الذنوب والمعاصي الذين جربوا الحياة في الظلام ثم اكتشفوا النور الذين بدلوا ذل المعصية بعز الطاعة الذين انتصروا على النفس والهوى والشيطان وحزبه الذين آثروا الجنة على النار الذين ندموا على ما فرطوا في جنب الله، قال صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة).
وقال بعضهم: إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادماً حتى يدخل الجنة، فيقول إبليس: ليتني لم أوقعه في الذنب.
وقال طلق بن حبيب: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، ولكن أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين.
فليس عيباً أن تخطئ، ولكن كل العيب أن تصر على الخطأ، وأن تتمادى في الخطأ، وأن تنسى فضل الله عليك وأن تنسى رقابة الله لك.(35/4)
قصة وعبرة
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم فقال: يا إبراهيم! لقد أسرفت على نفسي بالذنوب والمعاصي، فقل لي في نفسي قولا بليغاً، قال: أعظك بخمس قال: هات الأولى، قال: الأولى: لا تأكل من رزق الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم! وهو الذي يطعم ولا يُطعم؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتعصيه! قال: هات الثانية: قال: الثانية: لا تسكن في أرض الله واعص الله، قال: كيف يا إبراهيم الأرض أرضه والسماء سماؤه؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وتعصيه! قال: هات الثالثة، قال: الثالثة: اذهب في مكان لا يراك فيه الله واعص الله، قال: أين يا إبراهيم! وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؟! قال: عجباً لك تأكل من رزقه وتسكن في أرضه وفي كل مكان يراك ثم تعصيه! قال: هات الرابعة، قال: الرابعة: إذا أتاك ملك الموت ليقبض الروح فقل له: إني لا أموت الآن، قال: من يستطيع يا إبراهيم؟! والله يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك وتعصيه! قال: هات الخامسة، قال: الخامسة: إذا جاءك زبانية العذاب تأخذك إلى النار فخذ نفسك إلى الجنة، قال: من يستطيع هذا يا إبراهيم؟! قال: عجباً لك، تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا نار ثم تعصيه؟! قال: اسمع يا إبراهيم! أنا أستغفر الله وأتوب إليه، فأعلنها توبة وإنابة وفراراً إلى الله، وأعلنها رجعة وانضماماً إلى قوافل العائدين.
وأنت نعم أنت إياك أعني! يا من تأكل من رزقه، وتسكن في أرضه، وفي كل مكان يراك، ولا تستطيع رد الموت إذا أتاك، ولا تملك لنفسك جنة ولا ناراً! أما آن لك أن تتوب وتستغفر علام الغيوب؟! أما آن لك أن تنظم إلى قوافل العائدين؟! أما آن لما أنت فيه متأب وهل لك من بعد الغياب إياب تقضت بك الأعمار في غير طاعة سوى عمل ترجوه وهو سراب وليس للمرء سلامة دينه سوى عزلة فيها الجليس كتاب يعني: القرآن.
كتاب حوى العلوم بكلها وكل ما حوى من العلوم صواب ففيه الدواء لكل داء فاظفر به فوا الله ما عنه ينوب كتاب كتاب: أي: القرآن.(35/5)
أخبار العائدين
تعال بنا نسمع إلى أخبار أصحاب تلك القوافل ماضياً وحاضراً، تعال بنا نأخذ العبرة من قصصهم قصص ممزوجة بالندم والدموع قصص مليئة بالصور والعبر يشكو أصحابها قبل الانضمام إلى قوافل العائدين من الهموم والغموم مآسي وآهات غرقوا في لجج المعاصي والمنكرات، فمن خمور ومخدرات وفواحش ومنكرات، وكانت النجاة بالفرار إلى الله، والانضمام إلى قوافل العائدين.(35/6)
لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب
عن أبي هشام الصوفي رحمة الله قال: أردت البصرة فجاءت إلى سفينة أركبها، وفيها رجل معه جارية، فقال لي الرجل: ليس ههنا موضع، فسألته الجارية إن يحملني ففعل، فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوضع، فقالت الجارية: أدع ذلك المسكين ليتغدى معنا، فجئت على أنني مسكين، فلما تغدينا قال: يا جارية! هات شرابك فشرب، وأمرها أن تسقيني فقالت: يرحمك الله إن للضيف حقاً، فتركني، فلما دب فيه الشراب، قال: يا جارية! هات عودك، وهات ما عندك، فأخذت العود وغنت، ثم التفت إليّ وقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: عندي ما هو أحسن منه وخير منه، فقال: قل، قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:1 - 9] وجعل الرجل يبكي حتى انتهيت إلى قوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10].
فقال: يا جارية! اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى، ثم ألقى ما معه من الشراب، وكسر العود، ثم دعاني فاعتنقني، وجعل يبكي ويقول: يا أخي! أترى أن الله يقبل توبتي، فقلت: نعم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، قلت: نعم، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25].
فتاب واستقام وتبدل حاله، وصحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات، فرأيته في المنام فقلت له: إلى ما صرت؟ فقال: إلى الجنة، قلت: بماذا؟ قال: بقراءتك عليّ {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير:10].
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالي وحالك إذا الصحف نشرت؟ و {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:11 - 14] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
فلا إله إلا الله إذا نطقت العينان وقالت: أنا للحرام نظرت، ولا إله إلا الله إذا نطقت الأذنان وقالت: أنا للأغاني وللحرام سمعت، ولا إله إلا الله إذا نطقت اليدان وقالت: أنا للربا والحرام أخذت، ولا إله إلا الله إذا نطقت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24].
مثل لقلبك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رؤوس العباد تمور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير؟ فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور حتى ننجو ونفوز ونفلح في ذلك اليوم لابد من الفرار إلى الله بالانضمام إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].(35/7)
سبحان مغير الأحوال
قال الراوي: لقد تغير صاحبي، نعم تغيير ضحكاته الوقورة التي تصافح أذنيك كنسمات الفجر الندية، وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر، ونظراته الخجولة تنم عن طهر وصفاء، وكانت من قبل جريئة وقحة، وكلماته تخرج من فمه بحساب، وكانت من قبل يبعثرها هنا وهناك، فتصيب هذا وتجرح ذاك، ولا يعبئ بذلك ولا يهتم، ووجهه هادئ القسمات تزينه لحية وقورة تحيط به هالة من نور، وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة والاهتمام، فنظرت إليه وأطلت النظر في وجهه ففهم ما يدور في خاطري، فقال: لعلك تريد أن تسأل ماذا غيرك؟ قلت: نعم هو ذاك، فصورتك التي أذكرها منذ سنوات تختلف عن صورتك الآن، فتنهد قائلاً: سبحان مغير الأحوال، قلت: لابد أن وراء ذلك قصة، قال: نعم، وسأقصها عليك، ثم التفت إلي قائلاً: كنت في سيارتي على طريق ساحلي، وعند أحد الجسور الموصلة إلى أحد الأحياء، فوجئت بصبي صغير يقطع من أمامي الطريق، فارتبكت واختلت عجلة القيادة من يدي ولم أشعر إلا وأنا في أعماق المياه، فرفعت رأسي إلى أعلى لأجد متنفساً ولكن الماء بدأ يغمر السيارة من جميع نواحيها، فمددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح، وهنا تأكدت أني هالك لا محالة، وفي لحظات لعلها ثواني مرت أمامي وفي ذهني صور سريعة متلاحقة، صور من حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون، وتمثل لي الماء شبحاً مخيفاً، وأحاطت بي الظلامات كثيفة، وأحسست أني أهوي إلى أغوار سحيقة مظلمة، فانتابني فزعاً شديداً، فصرخت بصوت مكتوم يا رب! يا رب! {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، ودرت حول نفسي، ماداً ذراعي أطلب النجاة لا من الموت الذي أصبح محققاً، بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق.
وأحسست بقلبي يخفق بشدة، فانتفضت وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة، وأستغفر ربي قبل أن ألقاه، وأحسست أن كل ما حولي يضغط عليّ، وكأنما استحالت المياه إلى جدران من الحديد، فقلت: إنها النهاية لا محالة، فنطقت بالشهادتين، وبدأت أستعد للموت، وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ، فراغ يمتد إلى خارج السيارة، وكالحال تذكرت إن زجاج السيارة الأمامي مكسور، شاء الله أن ينكسر في حادث منذ ثلاثة أيام، فقفزت منه دون تفكير، ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ، وخرجت من أعماق الماء، فإذا الأضواء تغمرني، وإذا بي خارج السيارة، فنظرت فإذا بجمع من الناس يقفون على الشاطئ، وكانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها، ولما رأوني نزل اثنان منهم، وأخرجاني من الماء، فوقفت على الشاطئ ذاهلاً عما حولي، وغير مصدق أني نجوت من الموت، وأني الآن بين الأحياء.
كنت أتخيل السيارة وهي غارقة في الماء، فأتخيلها تختنق وتموت وقد ماتت فعلاً، وهي الآن راقدة في نعشها أمامي، لقد تخلصت منها وخرجت، فخرجت مولوداً جديداً لا يمت إلى الماضي بسبب من الأسباب، وأحسست برغبة في الركض بعيداً عن هذا المكان، المكان الذي دفنت فيه الماضي الدنس، ومضيت إلى البيت إنساناً آخر غير الذي خرج قبل ساعات، فدخلت البيت، وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة على الحائط لممثلات وراقصات ومغنيات، فاندفعت إلى الصور أمزقها، ثم ارتميت على سريري أبكي ولأول مرة أبكي.
أحسست بالندم على ما فرطت في جنب الله، فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني، وأخذ جسمي يهتز، وبينما أنا كذلك إذا بصوت لطالما سمعته وتجاهلته، إنه صوت الأذان يجلجل في الفضاء، وكأني أسمعه لأول مرة.
وجلجلت الأذان في كل حي ولكن أين صوت من بلال؟ منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خالي يقول: فانتفضت واقفاً وتوضأت، وبعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي في المسجد، وجلست أبكي وأدعو الله أن يغفر لي خطيئتي، ومنذ ذلك الحين وأنا كما ترى، قلت: هنيئاً لك الدموع الحارة، وهنيئا لك الانضمام إلى قوافل العائدين.
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
وقال عمر رضي الله عنه: التوبة النصوح أن يذنب العبد ثم يتوب فلا يعود فيه.
وقال الحسن البصري: التوبة النصوح ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وترك بالجوارح، وإضمار بأن لا يعود.
وقال يحيى بن معاذ: علامة التائب إسبال الدمعة، وحب الخلوة، والمحاسبة للنفس في كل همه.
اللهم اجعلنا من التوابين واجعلنا من المتطهرين الذين لا خوفاً عليهم ولا هم يحزنون.(35/8)
أترضى أن تكون مثل هذا
شاب صالح يقول: كان لي قريب بعيد، قربة النسب وأبعده الدين، وبحكم اطلاعي على دقائق حياته وتفاصيل أيامه تأكد لي أنه لا يصلي مطلقاً ومثله كثير، فنصحته مرات ومرات لعله يتعجل في إصلاح أمره، ويستقيم في صفوف المصلين، ولكنه كان يقدم ويؤخر، ويظن أن العمر طويل والحياة دائمة، هلك المسوفون، والمسوف الذي يقول: سأتوب وهو مصر على الذنب، وكم قلت له: كم ستعيش عشرين ثلاثين بل ثمانين ثم ماذا؟! لابد من الرحيل من دار الغرور، طالت بك الأيام أم قصرت عنك الليالي.
وفي ليلة لم يتوقعها في ليل مظلم، استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله، فأطلق لقدميه تركض في أوحال المعصية، وأوزار الجريمة، فألهته الأماني، وغرته نسمة الحياة وبهجة الدنيا، ومثله كثير، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة:19] وفجأة على غير موعد نزل به نازل، وطرق بابه طارق، ولم يكن هذا الضيف ليزوره إلا هذه المرة فحسب، ولكنها زيارة ثقيلة مؤلمة، إنه الزائر الذي لا يرد، حاول أن يؤخره أن يؤجله فلم يستطع، أراد أن يتفاهم معه فلم يستطع، أراد أن يدفعه بالدواء والطبيب، بالمال والأولاد فلم يستطع حاول بكل الوسائل الدفاعية فلم يستطع {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
انتهى كل شي، هوت آمال عظام وأحلام كالجبال، حشرج الصدر، وضاقت الأنفاس، وغادرت الروح وأمامه أسئلة صعاب، وجنة ونار، هلك المسوفون.
يقول الشاب: لم يكن هو أول من غادر الحياة بهذه السرعة من أسرتي، ولم يكن هو الشاب الوحيد الذي فقدناه، ولكن كان لحياته فجيعة ولموته عبرة، وكان يوم موته وتغسيله والصلاة عليه ثم دفنه يوماً مشهوداً غاب عن كثير وكنت أولهم، فكيف أصلي على من حرم الله عز وجل ورسوله الصلاة عليه؟ لم أصل عليه طاعة وعبادة لله حتى تم كل شي.
يقول الشاب: ثم اجتمعت وأقاربي في مجلس ضم الكثير منهم، وأكثرهم عالم بأمور الدنيا جاهل بأمور الدين، كما قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فقام أحدهم شاهراً سيفه، ومصوب سهمه، ورافعاً صوته باستغراب يملؤه الاستهزاء، وهو يسمع الجميع: أين أنت عن صلة الرحم والقيام بالواجب؟ فهاهو فلان قد مات ولم نر لك أثراً، ولم نعلم لك مكاناً! اتجهت نحوي العيون بالعتاب، وتحركت الأيدي تلوم والألسنة تقول: أين أنت عن واجب الصلاة والعزاء؟ وأضاف أحدهم مستهزأً تصلي وتصوم ولا تعرف حقوق القريب وواجبات الأسرة، وأخذ المجلس يتحدث ويقول وأنا لا أرد عليه.
حتى إذا أفرغوا سهامهم وانتهوا، قلت للمتحدث الأول بصوت يسمعه الجميع: ما رأيك لو صليت صلاة المغرب أربع ركعات هل يجوز ذلك؟ سكت ولم يجب، وهو يحرك حاجبيه ويهز يده باستغباء عجيب، كررت وأعدت السؤال وطلبت الإجابة منه بصوت مسموع حتى يسمع المجلس، قال لي بعد تكرار السؤال عليه ثلاث مرات: لا يجوز، قلت له: أحسنت هذا أمر الله ورسوله، فنحن نطيع الله في هذا ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم، إن الكتاب والسنة يأمرانا أن لا نصلي على من مات وهو لا يصلي، وسماه كافراً، رفعت صوتي -والحق يعلو ولا يعلى عليه- وأنا أفرغ سهماً من كنانتي، هل أسمع كلام الله ورسوله وأطيع أمرهما؟ أم أسمع كلامك أنت وهراك.
استدرت نحو المجلس وأنا أقول: أمرنا أن لا نصلي على من مات وهو تارك للصلاة، ولا نغسله، ولا ندفنه في مقابر المسلمين، ولهذا لم أصل عليه سمعاً وطاعة لله ورسوله، خيم الصمت على المجلس وأغمدت السيوف، فقد ظهر الأمر واضحاً جلياً، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
يقول الشاب: مرت شهور فإذا كثير من شباب أسرتنا وقد سمع ورأى هذا الموقف يعيد حساباته، ويراجع أفعاله، ويخشى أن يمر عليه يوم لا يجد فيه من يصلي عليه، لقد كان هلاك هذا القريب رحمة لمن بعده، وعبرة لمن خلفه، ولا يزال يتردد في جنبات المسلمين قول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر).
فقل لي بالله: كيف حال الشباب اليوم مع صلاتهم؟! حال عجيبة: قسم لا يصلي ولا يركع لا بليل ولا بنهار، وقسم يقدم ويؤخر، وقسم يصلي متى ما شاء وكيف ما شاء {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]، أما آن لهؤلاء أن ينتظموا في صفوف المصلين، وينضموا إلى قوافل العائدين.
خل إدكار الأربع والمعهد المرتبع والضاعن المودع وخل عنه ودع واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحف ولم تزل معتكفاً على القبيح الشنع كم ليلة أودعتها مآثماً أبدعتها لشهوة أطعتها في مرتع ومضجع وكم خطىً حثثتها لخزية أحدثتها وتوبة نكثتها لملعب ومرتع وكم تجرأت على رب السموات العلى ولم تراقبه ولا صدقت فيما تدعي وكم غمطت بره وكم أمنت مكره وكم نبذت أمره نبذ الحذاء المرقع وكم ركضت باللعب وفهت عمداً بالكذب ولم تراقب ما يجب في عهده المتبع فالبس شعار الندم واسكب شآبيب الدم قبل زوال القدم وقبل سوء المصرع واخضع خضوع المعترف ولذ ملاذ المقترف واعص هواك وانحرف عنه انحراف المقلع إلى متى تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع قال بعض الحكماء: تعرف توبة الرجل بأربعة أشياء: أولها: أن يمنع لسانه من فضول الكلام، من غيبة ونميمة وكذب.
ثانيها: أن لا يحمل في قلبه حسداً ولا عداوة لأحد من المسلمين.
ثالثها: أن يترك أصحاب السوء ولا يصاحب أحداً منهم.
الرابع: أن يكون مستعدا للموت، نادماً على الذنب، مستغفراً لما سبق من ذنوبه، مجتهداً في طاعات ربه.
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العروق النحل فاغفر لعبد تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول(35/9)
طريق المخدرات
طريق غرق فيه كثير من الشباب إلا من رحم الله، يقول الشاب وهو يروي مأساته: بعد أن أنهيت دراستي الثانوية، عملت موظفاً في أحد الشركات التجارية، وقد فصلت من العمل لكثرة تغيبي وعدم انضباطي، ثم عملت بعدها أعمالاً مختلفة من بناء وتجارة وغيرها حتى استطعت أن أكون نفسي، وأجمع مبلغاً من المال، وفي أحد الأيام عرض علي أحد الشباب فكرة السفر إلى أحد الدول الآسيوية، وكان يروي لي مغامراته ومشاهداته، وكان يجاهر بالمعصية والعياذ بالله.
يقول الشاب: كان صاحبي يحدثني عن المتع المحرمة، وكأنه يغريني بالسفر حتى عزمت عليه واستحوذني الشيطان، فكان صاحبي أول المرحبين، وتكفل بشراء تذكرة السفر على أن أتكفل أنا هناك ببقية المصاريف، وسافرنا هناك ورأينا جموعاً من الشباب ليس لهم هم إلا المتعة المحرمة، اليوم الأقصى يشتكي والشباب يغرق في أوحال المعاصي والمنكرات.
هاهو الأقصى يلوك جراحة والمسلمون جموعهم أحاد يا ويلنا ماذا أصاب رجالنا؟ أو ما لنا سعد ولا مقداد يقول الشاب: رأينا هناك جموعاً من الشباب ليس لهم هم إلا المتعة المحرمة، فتعلمت من الشباب التدخين، وشرب الخمر، ثم الزنا، ثم تعاطي المخدرات، وخضنا في كل الوحول القذرة حتى بلغنا الحضيض، ثم عدنا وبعد فترة جمعنا مبلغاً آخر من المال ثم سافرنا إلى بلد آخر أشد فساداً وجربنا كل شيء.
وفي إحدى الليالي رفض أحد الشباب إعطائي حقنة المخدرات المعهودة، فخرجت من الفندق، وقابلت مجموعة من المروجين فدعوني إلى مقرهم فذهبت معهم، وعرضوا عليّ أنواعاً كثيرة من المخدرات، وكنت أجهل بعضها ومدى تأثيرها على الجسم، وبعد تعاطي المخدرات والمسكرات، دعاني أحدهم إلى الغرفة المجاورة لممارسة الزنا، بعد أن أمرني بدفع الثمن مقدماً، وكنت في سكر شديد لا أدري ما أصنع، فقبلت العرض ولم أكن أدري أني أمشي برجلي إلى الهاوية.
ثم بعد أيام عدنا من السفر ومارست حياتي الطبيعية، لكن شبح المخدرات كان يطاردني في كل مكان، وقد نصحني بعض المخلصين بالتوجه إلى المستشفى لتلقي العلاج، فوعدتهم بالذهاب ولم أذهب، وتوالت السفريات لممارسة تلك الأعمال المشينة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي البائسة المتدهورة، حتى نفذت النقود فاحترفت السرقة من هنا وهناك، وتعلمت فنون النصب والاحتيال حتى أجمع لمتعتي المحرمة.
وفجأة شعرت بوعكة صحية، فذهبت إلى المركز الصحي بحثاً عن العلاج، وبعد تحليل عينة من دمي أخبروني أني حامل لفيروس الإيدز، فضاقت الدنيا في وجهي، يا للهول! يا للمصيبة! لقد ذهبت تلك اللذات وانقضت تلك المسرات، فلم يبق إلا الآلام والحسرات، وا حسرتاه! على أصحاب لم ينفعوا، وا حسرتاه! على أحباب لم يشفعوا، يا حسرتاه! يوم طال السهر ولم أعد زاداً للحفر، يا حسرتاه! على عمر مضى وزمان ولى وانقضى ولم أتق فيه حر لظى، يا حسرتاه! إذا كشف الديوان بخطايا اللسان، وزلات الجنان، وقبيح العصيان، يا حسرتاه! إذا وضع الكتاب ونشر ما فيه من خطأ وصواب وعرض الشباب، يا حسرتاه! على صلاة أضعتها، وزكاة منعتها، وأيام أفطرتها، يا حسرتاه! على أوقات أهدرتها، يا حسرتاه! على ذنوب ارتكبتها، وفواحش اقترفتها، يا حسرتاه! يوم لم يلهج لساني بذكره، ولم تقم جوارحي بشكره، يا حسرتاه! يوم يفوز الصالحون بالدرجات، يا حسرتاه! يوم يهوي الظالمون في الدركات، قال سبحانه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
يقول الشاب: لقد ذهبت تلك اللذات وانقضت تلك المسرات، فلم يبق إلا الآلام والحسرات، ولم يبق إلا الآثام والأوزار والتبعات.
تفنى اللذات ممن ذاق صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار فهذه حكايتي باختصار، وكل ما أعرفه أني مصاب بمرض الإيدز، وأنا أنتظر الموت، وعلى الرغم من أني أسير إلى الموت سيراً سريعاً فلا بأس فقد أفقت من غفوتي وأفقت من غفلتي، وأنصح كل شاب عاقل بالالتزام بتعاليم الدين الحنيف، تلك التعاليم التي لطالما سمعناها ولم نتبعها، إنما أتبعنا النفس والهوى والشيطان، وقد خاب من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أقول لإخواني الشباب: احذروا المخدرات والفواحش والمنكرات فإنها الهلاك الماحق، واحذروا من رفقة السوء فإنهم جنود إبليس اللعين.
يقول: أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، فلعلكم تقرءون هذه الكلمات وأنا تحت التراب، فاسألوا الله لي الرحمة، لعلكم تقرءون كلماتي وأنا تحت التراب، قد فارقت الروح الجسد وصعدت الروح إلى بارئها، فاللهم يا من وسعت رحمته كل شي ارحم عبدك الضعيف المسكين.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم لو رأيت التائب رأيت جفناً مقروحاً تراه في الأسحار على باب الاعتذار مطروحاً، واسمع قول الإله يوحي فيما يوحي: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فالتائب مطعمه يسير وحزنه كثير ومزعجة مثير، وكأنه أسير قد رمي مجروحاً، ولسان حاله يردد توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب أنحل بدنه الصيام وأتعب قدمه القيام وحلف بالعزم على هجر المنام، فبذل بدناً وروحاً وهو يردد توبوا إلى الله توبة نصوحاً، التائب الذل قد علاه والحزن قد وهاه، يذم نفسه وهواه، وبهذا صار ممدوحاً يردد ويعيد توبوا إلى الله توبة نصوحا، التائب يبكي جنايات الشباب التي بها قد اسود الكتاب، فإن من يأتي إلى الباب يجد الباب مفتوحاً، يردد ويقول قول الله: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها ونعوذ بك من المعصية وأسبابها.(35/10)
هدايتي على يديه
يقول الشاب: لم أكن قد بلغت الثلاثين حين أنجبت زوجتي أول أبنائي، فما زلت أذكر تلك الليلة، وكنت سهراناً مع الشلة في إحدى الشاليهات، وكانت سهرة حمراء بمعنى الكلمة كما يقولون، وأذكر ليلتها أني أضحكتهم كثيراً، فقد كنت أمتلك موهبة عجيبة في التقليد، وبإمكاني تغيير نبرة صوتي حتى تصبح قريبة من الشخص الذي أسخر منه، وكنت أسخر من هذا وذاك، ولم يسلم أحد مني حتى أصحابي صار بعضهم يتجنبني كي يسلم من لساني وتعليقاتي اللاذعة.
وفي تلك الليلة سخرت من رجل أعمى رأيته يتسول في السوق، والأدهى أني وضعت رجلي أمامه ليتعثر، فتعثر وانطلقت ضحكتي التي دوت في السوق، ثم عدت إلى بيتي متأخراً، ووجدت زوجتي في انتظاري، وكانت في حالة يرثى لها.
أين كنت يا راشد؟ قلت: في المريخ ساخراً عند أصحابي طبعاً، وكانت في حالة يرثى لها، قالت والعبرة تخنقها: راشد أنا متعبة جداً، والظاهر أن موعد ولادتي صار وشيكاً، وسقطت دمعة على جبينها، وأحسست أني أهملت زوجتي، وكان المفروض أن أهتم بها وأقلل من سهراتي، وخاصة وأنها في شهرها التاسع.
قاست زوجتي ألام يوم وليلة في المستشفى حتى رأى طفلي النور، ولم أكن في المستشفى ساعتها، فتركت رقم هاتف المنزل وخرجت، ثم اتصلوا بي حتى تعلموني الخبر، ففعلوا فاتصلوا بي ليزفوا لي نبأ قدوم سالم.
وحين وصلت المستشفى طلب مني أن أراجع الطبيبة، أي طبيبة؟ المهم الآن أن أرى ابني سالم، لابد من مراجعة الطبيبة فأجابتني موظفة الاستقبال بحزم، فصدمت حين عرفت أن ابني به تشوه شديد في عينيه وفي بصره، تذكرت المتسول قلت: سبحان الله! كما تدين تدان، ولم تحزن زوجتي فقد كانت مؤمنة بقضاء الله راضية، وطالما نصحتني، وطالما طلبت مني أن أكف عن تقليد الآخرين، كلا هي لا تسميه تقليداً بل غيبة ومعها كل الحق، ولم أكن أهتم بسالم كثيراً، فاعتبرته غير موجود في المنزل، وحين يشتد بكاه أهرب إلى الصالة لأنام فيها.
وكانت زوجتي تهتم به كثيراً وتحبه، -لا تظنوا أني أكرهه، فأنا لا أكرهه لكني لم أستطع أن أحبه- أقامت زوجتي احتفالاً حين خطأ خطواته الأولى، وحين أكمل الثانية اكتشفنا أنه أعرج، وكان كلما زدت ابتعاداً عنه زادت زوجتي حباً وتعلقاً به، حتى بعد أن أنجبت عمراً وخالداً.
ومرت السنوات وكنت لاه غافل، فقد غرتني الدنيا وما فيها، فكنت كاللعبة في يد رفقة السوء مع أني كنت أظن أني من يلعب عليهم، ولم تيأس زوجتي من إصلاحي، وكانت دائماً تدعو لي بالهداية، ولم تغضب من تصرفاتي الطائشة أو إهمالي لسالم واهتمامي بباقي إخوته، ثم كبر سالم ولم أمانع حين طلبت زوجتي تسجيله في أحد المدارس الخاصة بالمعاقين، ولم أكن أحس بمرور السنوات أمامي سواء ليل ونهار عمل ونوم طعام وسهر، حتى ذلك اليوم كان يوم الجمعة، استيقظت الساعة الحادي عشرة ظهراً، ما يزال الوقت مبكراً -أقول- لكن لا يهم، اغتسلت ولبست وتعطرت وهممت بالخروج.
استوقفني منظر سالم، كان يبكي بحرقة، إنها المرة الأولى التي أرى فيها سالماً يبكي مذ كان طفلاً، أأخرج أم أرى مما يشكو سالم؟ قلت: لا كيف أتركه وهو في هذه الحالة، أهو الفضول أم الشفقة لا يهم، سألته لماذا تبكي يا سالم! حين سمع صوتي توقف، وبدأ يتحسس ما حوله، ما به يا ترى! اكتشفت أن ابني يهرب مني، الآن أحسست به، أين كنت منذ عشر سنوات؟ فتبعته وكان قد دخل غرفته ورفض أن يخبرني في البداية عن سبب بكائه، وتحت إصراري عرفت السبب؟! تأخر عليه شقيقه عمر الذي اعتاد أن يوصله إلى المسجد، اليوم الجمعة خاف سالم أن لا يجد مكاناً في الصف الأول، فنادى والدته لكن لا مجيب حينها.
حينها وضعت يدي على فمه وكأني أطلب منه أن يكف عن حديثه، حينها بكيت، ولا أعلم ما الذي دفعني لأقول له: سالم! لا تحزن هل تعلم من سيرافقك اليوم إلى المسجد؟ أجاب سالم أكيد عمر، ليتني أعلم إلى أين ذهب؟ قلت: لا يا سالم! أنا من سيرافقك، استغرب سالم ولم يصدق، فظن أني أسخر منه، ثم عاد إلى بكائه فمسحت دموعه بيدي وأمسكت بيده، وأردت أن أوصله بالسيارة فرفض قائلاً: أبي المسجد قريب أريد أن أخطو إلى المسجد فإني احتسب كل خطوة أخطوها.
يقول: لا أذكر متى آخر مرة دخلت فيها المسجد؟ ولا أذكر آخر مرة سجدت فيها لله سجدة، هي المرة الأولى التي أشعر فيها بالخوف والندم، الندم على ما فرطت طوال السنوات الماضية، مع أن المسجد كان مليئاً بالمصلين إلا أني وجدت لسالم مكاناً في الصف الأول، استمعنا لخطبة الجمعة معاً وصليت بجانبه.
وبعد انتهاء الصلاة طلب مني سالم مصحفاً، فاستغربت كيف سيقرأ وهو أعمى؟ هذا ما تردد في نفسي ولم أصرح به خوفاً من جرح مشاعره، طلب مني أن أفتح له المصحف على سورة الكهف، نفذت ما طلب، ووضع المصحف أمامه وبدأ في قراءة السورة، يا الله! إنه يحفظ سورة الكهف كاملة وعن ظهر قلب.
خجلت من نفسي، فأمسكت مصحفاً وأحسست برعشة في أوصالي، قرأت وقرأت ودعوت الله أن يغفر لي ويهديني، هذه المرة أنا الذي أبكى، بكيت حزناً وندماً على ما فرطت، ولم أشعر إلا بيد حنونة تمسح عني دموعي، لقد كان سالم يمسح دموعي ويهدئ من خاطري.
عدنا إلى المنزل، وكانت زوجتي قلقة كثيراً على سالم، لكن قلقها تحول إلى دموع فرح حين علمت أني صليت الجمعة مع سالم.
منذ ذلك اليوم لم تفتني صلاة الجماعة في المسجد، فقد هجرت رفقاء السوء وأصبحت في رفقة خيرة عرفتها في المسجد، ذقت طعم الإيمان، وعرفت منهم أشياء ألهتني عن الدنيا، ولم أفوت حلقة ذكر أو قيام، وختمت القرآن عدة مرات في شهر، وأنا نفس الشخص الذي هجرة لسنوات، ورطبت لساني بالذكر لعل الله يغفر لي غيبتي وسخريتي من الناس، وأحسست أني أكثر قرباً من أسرتي، فاختفت نظرات الخوف والشفقة التي كانت تطل من عيون زوجتي، والابتسامة ما عادت تفارق وجه ابني سالم، من يرى سالم يظنه ملك الدنيا وما فيها.
حمدت الله كثيراً، وصليت له كثيراً على نعمه، وذات يوم قررت أنا وأصحابي أن نتجه إلى أحد المناطق البعيدة في برامج دعوية مع موسسة خيرية، فترددت في الذهاب واستخرت الله واستشرت زوجتي، فتوقعت أن ترفض لكن حدث العكس، ففرحت كثيراً بل شجعتني، وحين أخبرت سالماً عزمي على الذهاب أحاط جسمي بذراعيه الصغيرين فرحاً، ووالله لو كان طويل القامة مثلي لما توانى عن تقبيل رأسي.
بعدها توكلت على الله، وقدمت طلب إجازة مفتوحة بدون مرتب، والحمد لله جاءت الموافقة بسرعة أسرع مما تصورت، فتغيبت عن البيت ثلاثة أشهر، وكنت خلال تلك الفترة أتصل كلما سنحت لي الفرصة بزوجتي، وأحدث أبنائي، لقد اشتقت لهم كثيراً، لكني اشتقت لسالم أكثر، وتمنيت سماع صوته، وهو الوحيد الذي لم يحدثني منذ سافرت، إما أن يكون في المدرسة أو في المسجد ساعة اتصالي بهم، وكلما أحدث زوجتي أطلب منها أن تبلغه سلامي وتقبله، وكانت تضحك حينما تسمعني أقول هذا الكلام، إلا آخر مرة هاتفتها فيها لم أسمع ضحكتها المتوقعة، وتغير صوتها وقالت لي: إن شاء الله.
أخيراً عدت إلى المنزل، فطرقت الباب وتمنيت أن يفتح لي سالم الباب، لكن فوجئت بابني خالد الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره، فحملته بين ذراعي وهو يصيح بابا بابا، انقبض صدري حين دخلت البيت، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وسعدت زوجتي بقدومي لكن هناك شي قد تغير فيها، فتأملتها جيداً إنها نظرات الحزن التي ما كانت تفارقها، عادت مرة ثانية إلى عينيها، سألتها ما بك؟ قالت: لا شيء، هكذا ردت، فجأة تذكرة من نسيته للحظات، قلت لها: أين سالم؟ خفضت رأسها ولم تجب، ولم أسمع حينها سوى صوت ابني خالد الذي ما يزال يرن في أذني حتى هذه اللحظة، قال: أبي إن سالم راح عند الله في الجنة.
لم تتمالك زوجتي الموقف، فأجهشت بالبكاء وخرجت من الغرفة، فعرفت بعدها أن سالماً أصابته حمى قبل موعد مجيئي بأسبوعين، فأخذته زوجتي إلى المستشفى ولازمته يومين، وبعد ذلك فارقته الحمى حين فارقت روحه الجسد، وأحسست أن ما حدث ابتلاء واختبار من الله سبحانه وتعالى، أجل إنه اختبار وأي اختبار، فصبرت على مصابي وحمدت الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، وما زلت أحس بيده تمسح دموعي، وذراعه تحيطني.
كم حزنت على سالم الأعمى الأعرج، لم يكن أعمى أنا من كنت أعمى حين انسقت وراء رفقة السوء، ولم يكن سالم أعرج لأنه استطاع أن يسلك طريق الإيمان رغم كل شيء، لا زلت أتذكر كلماته وهو يقول: إن الله ذو رحمة واسعة، سالم الذي امتنعت يوماً عن حبه اكتشفت أني أحبه أكثر من إخوانه، بكيت كثيراً وما زلت حزيناً، كيف لا أحزن وقد كانت هدايتي على يديه! اللهم تقبل سالم في رحمتك، اللهم إنا نسألك الثبات حتى الممات.(35/11)
باب التوبة مفتوح
أبشر أيها التائب! أبشر أيها العائد! أبشر أيها المنضم! إلى قوافل العائدين، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، وقال جلّ في علاه فاتحاً أبواب الرحمة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، وقال جلّ في علاه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70]، وقال أعز من قائل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال أرحم الراحمين: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] وقال: (يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي).
أبشر أيها التائب! أبشر أيها العائد! أبشر أيها المنضم! إلى قوافل العائدين، قال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
أبشر أيها التائب! فإن الله يفرح بتوبة التائبين، أنين المذنبين أحب إليه من سجع المسبحين.
يروى أن رجلاً سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به، هل من توبة؟ فأعرض عنه ابن مسعود ثم التفت إليه، فرأى عينيه تذرفان، فقال له: إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا باب التوبة، فإن عليه ملكاً موكل به لا يغلق، فاعمل ولا تيأس ولا تقنط من رحمة الله.
قال عبد الرحمن بن أبي قاسم: تذاكرنا مع عبد الرحمن توبة الكافر، وقول الله تعالى: {إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] فقال: إني لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالاً من الكافر، ولقد بلغني أن توبة المسلم كإسلام بعد إسلام.
يروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة، ثم عصى الله عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك، فقال: اللهم أطعتك عشرين سنة، ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فناداه منادي أرحم الراحمين أحببتنا فأحببناك، تركتنا فتركناك، عصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25].
اعلم أن الذي حال بين الناس وبين التوبة، والصدق في التوبة هو: طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3]، وقال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء:205 - 206] وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55 - 56].
اعلم أن مما يعينك على تعجيل التوبة والإسراع فيها والمبادرة إليها هو: ذكر الموت وساعاته، نعم إن الموت قريب، إن العمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة، فاختر لنفسك النهاية التي تتمناها.
فلا إله إلا الله كيف سيكون حالي وحالك عندما يقال فلان ابن فلان قد دنا أجله وحانت ساعة الرحيل، فصاح بأعلى الصوت رباه ارجعون! رباه ارجعون! رباه ارجعون! وآخر: صاح بأعلى صوته: وا طرباه وا طرباه! غداً نلقى الأحبة، محمد وصحبه فاختر الحال التي تريدها رعاك الله! لما حضرت حسان بن أبي سنان الوفاة قيل له: كيف تجدك؟ قال: بخير إن نجوت من النار، قيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة طويلة أصليها كلها.
ودخل المزني على الشافعي رحمه الله في مرضه الذي مات فيه، فقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى ربي سبحانه وتعالى وارداً، ولا أدري روحي صارة إلى الحنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم أنشد: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما فاعلم رعاك الله! أن الآمال تطوى، والأموال تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، واعلم رعاك الله! أن الأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد، فانتبه رعاك الله! وانتبه من رفقة الهجوع، وافزع إلى الله بالتضرع والخشوع، وقل: آن الأوان للانضمام إلى قوافل العائدين.
قالوا: من رزق أربعاً لم يحرم أربعاً: من رزق الدعاء لم يحرم الإجابة، وربكم يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
ومن رزق الاستغفار لم يحرم المغفرة، وربكم يقول: {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] ومن رزق الشكر لم يحرم المزيد، وربكم يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ومن رزق التوبة لم يحرم القبول، وربكم يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى:25].
وختاماً: اعلم أن الحياة بدون الله سراب، وأن القلب لا يصلح إلا بالله جلا وعلا، فإذا أقبل على الله تعالى اجتمع وانضم بعضه إلى بعض، ووجد نفسه وسلمت فطرته {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
إلى كم تعصي وتتمرد وأقبح من قبيح كأنك تتعبد يا ناصع الثوب والقلب أسود ما هذا الأمل ولست بمخلد أما تخاف من أوعد وتهدد يا من شاب وما تاب أين البكا؟! أين الحذر من أليم العقاب، قل: ما أحلم الله ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكير والحزن دع عنك عذلي يا من كنت تعذلني لو كنت تدري ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهلا عسى عبرة منها تخلصني اكتب قصة الرجوع بقلم الندم والدموع، واسع بها على قدم الخضوع إلى باب الخشوع، وأتبعها بالعطش والجوع، واسئل الرحمة فرب سؤال مسموع، وقل ونادي في الأسحار والناس نيام يا أكرم من أمله المؤملون! يا رجاء الخائفين! يا أمل المذنبين! إن طردتني فإلى من أذهب؟ يا رحيم بمن عصاه! يا حليم على من تناساه! يا من شيمته الصفح! عصيتك جاهلاً يا ذا المعالي ففرج ما ترى من سوء حالي إلى من يهرب المخلوق إلا إلى مولاه يا مولى الموالي فالله در أقوام تركوا فأصابوا، وسمعوا منادي الله يدعوا فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا، ثم قصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.
اللهم سر بنا في سرب النجاة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا الإجابة.
يا من إذا سأله المضطر أجابه، اللهم تب علينا توبة نصوحة لا ننقض عهدها أبداً، واحفظنا بذلك لنكون بها من جملة السعداء.
اللهم اقبل توبة التائبين، واغفر ذنب المذنبين، واقبل الشباب والشيب في قوافل العائدين.
اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع! وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات! يا رفيع الدرجات! يا مجيب الدعوات! يا رب الأرض والعرش والسماوات! هب لنا ما سألنك، وحقق رجاءنا في ما تمنيناه، يا من يملك حوائج السائلين! ويعلم ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين! اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه الأخيار، عدد ما طار طير وطار، وعدد ما استغفر المستغفرون في الأسحار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(35/12)
لبيك اللهم لبيك
حج بيت الله عز وجل ركن من أركان الإسلام الخمسة، أوجبه الله عز وجل على من استطاع إليه سبيلاً، وجعل بيته الحرام مهوى أفئدة المؤمنين أينما كانوا، لا يمل منه زائر، ولا يترك الشوق إليه مؤمن.(36/1)
فضل بيت الله الحرام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمناً! يترددون إليه ويرجعون عنه ثم لا يرون أنهم قضوا منه وطراً، أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه، ونسبه إليه بقوله عز وجل لخليله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] فتعلقت قلوب المحبين ببيت محبوبهم، فكلما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنوا إليه، وكلما تذكروا بعدهم عنه أنوا، قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96 - 97].
بيت بنته يد التقوى وشيده أبو النبيين للأجيال يرفعه أمجاده في كتاب الدهر حافلة ثوب الجلال عليه الرب يخلعه تدرعت بسياج الدين حرمته والله من عبث الباغين يمنعه أولاه بالحج تشريفاً وتكرمةً حتى غدت موئل التقديس أربعه وكعبة الروح للتوحيد شاهدة كالشمس تسطع نوراً وهي منبعه بيت خلق من الحجر، وأضيف إلى الله فأصبح محط أفئدة البشر، بيت من ذكره نسي مزاره، وهجر دياره، بيت من صبر عنه فقلبه أقسى من الحجارة.
حج قوم من العباد، فجعلت عابدة منهم تقول: أين بيت ربي؟ أين بيت ربي؟ فكانوا يصبرونها قائلين: الآن ترينه، فلما لاح البيت قالوا: هذا بيت ربك، فأسرعت مهرولة إلى البيت وهي تقول: بيت ربي! بيت ربي! حتى وضعت جبهتها على البيت باكية فما رفعت إلا وهي ميتة! قتلها شوقها إلى بيت ربها: الطائفون الراكعون لربهم خفقت قلوبهم وضج لسان تتزاحم الأقدام في ساحاته وترق بين ظلاله الأبدان وكيف لا يحبونه وهو بيت ربهم؟ وقد أخبر الله أن فيه آيات: كالحجر الأسود وما أدراك ما الحجر؟ إنه من الجنة، فكيف يكون في الأرض شيء من الجنة ثم لا نشتاق إليه؟! وكيف يكون في الأرض شيء من الجنة ثم لا نذرف الدموع عنده وحواليه.
! قال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة).
وقال أيضاً بأبي هو وأمي: (إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطاً) وهو حديث صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر واستلمه، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، فالتفت فإذا عمر يبكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر! ههنا تسكب العبرات)، وأقول أنا: هنيئاً للحجر تلك القبلات من أطهر فم وأغلى بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والله! ليبعثنه الله يوم القيامة - يعني: الحجر - له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استقبله بحق).
فكم سكبت عند الحجر من عبرات؟! وكم رفعت عنده ومن حوله من طلبات ودعوات؟! وكم سمعت هناك من آهات وزفرات؟! وتتجلى صور التوحيد: يوم أن يقف الحاج خلف المقام بعد الطواف ليصلي ركعتين، فيقرأ في الركعة الأولى بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] فيعلن الموحد رفضه لأي عبودية سوى الله، ثم يجدد الولاء في الركعة الثانية فيقرأ بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والتي تتضمن التوحيد الخالص لله عز وجل.
إنه التوحيد: يوم أن يلقى الصفا قائلاً: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ثم يردد في دعائه: الحمد لله وحده، أنجز وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده.
إنه التوحيد: يوم أن يردد الحاج في يوم عرفة خير الدعاء.
فمن مكة انطلق محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، ويضحي هو وأصحابه من أجل التوحيد، ومن هناك ومن تلك المشاعر والبقاع ودع محمد صلى الله عليه وسلم أمته وهو يردد معهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك).(36/2)
بيان بعض ما يتعلق بحجة الوداع
وقد كانت حجة الوداع أول حجة حجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته وآخر حجة في حياته؛ ولذا سميت بحجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع فيها المسلمين وهو يقول لهم: (خذوا عني مناسككم) فهو سيد المرسلين ومعلم التوحيد الذي ورثه من الأنبياء قبله، ثم بين لهم الحقيقة التي لا بد منها وهي: أن مصير كل إنسان كائن من كان هو الموت، فقال لتلك الجموع التي التفت من حوله: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) أي: لعلي لا أحج معكم بعد عامي هذا.
ثم ينزل عليه صلى الله عليه وسلم في عشية عرفة قوله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فيبكي عمر رضي الله عنه عند نزولها ويقول: وهل بعد التمام إلا النقصان؟! ثم في أواسط أيام التشريق ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه قوله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، وعندها يعلم العارفون من الصحابة أن منيته صلى الله عليه وسلم قد اقتربت، وأن نفسه قد نعيت إليه، وأنه يودع أمته.(36/3)
بعض الدروس المستفادة من حجة الوداع
ولذلك أطلق النبي صلى الله عليه وسلم للأمة في تلك الأيام وصايا وثوابت ومسلمات ليتنا تدارسناها من حين إلى حين، ومن تلك العبارات والكلمات: قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
فأين الأمة اليوم من هذا الدرس العظيم، وقد تفرقت واختلفت بين قومية ووطنية؟! فقتلتها العصبية القبلية، والعادات الجاهلية؛ لأن التفاخر بالأنساب والألوان والأجناس باطل؛ فكلنا لآدم، وآدم من تراب، ألا تراهم في الحج بلباس واحد ونداء واحد؟! وقال: (أيها الناس! لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده أبداً: كتاب الله وسنتي، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
يا أيها الناس! إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً، إنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد).
فأين دعاة التحرر والمطالبون بحقوق المرأة من هذه الكلمات والعبارات؟ أين أنت -يا أمة الله- حتى تعرفي قدرك وقيمتك في هذا الدين؟ فأنت عزيزة مكرمة.
ودع نبي الأمة أمته في تلك المواقف والمشاعر بعد أن أوصى الحاضر بتبليغ الغائب، ودع الأمة وقد أتم الله به الدين وأقام به الملة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
نسينا في ودادكم كل غال فأنتم اليوم أغلى ما لدينا تسلى الناس في الدنيا وإنا لعمر الله بعدكم ما سلينا ولما نلقكم ولكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا(36/4)
بعض الأحاديث المشوقة إلى حج بيت الله الحرام
وسأسوق بعضاً من الأحاديث التي شوقنا بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج إلى بيت الله الحرام فقال: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
ولما سألته عائشة قائلة: (نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لها: لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل - أي: في حفظه ورعايته -: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله - فأبشروا يا عمار المساجد -، ورجل خرج غازياً في سبيل الله - فأبشروا أيها المجاهدون -، ورجل خرج حاجاً) فأبشروا يا حجاج بيت الله! فلما سمع الصادقون هذه الأخبار والآثار انطلقوا ملبين مجيبين: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.(36/5)
من أخبار المشتاقين إلى بيت الله الحرام
وإليك بعضاً من أخبار الملبين والمشتاقين: قال الجريري: (أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل، فقيل له، فقال: يا ابن أخي! هذا هو الإحرام) فكيف لو رأى اشتغال الحجيج اليوم بالقيل والقال وكثرة السؤال، بل بالتدخين والغناء في أحب البقاع إلى الله؟! وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
فلله درهم! عرفوا قيمة الزمان وحرمة المكان.
ووقف مطرف بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني في عرفات فقال أحدهما: ما أحلى هذا الجمع، لولا أني فيهم! وقال الآخر: اللهم لا تردهم من أجلي.
رحم الله العابدين، فعلى كثرة علمهم وخوفهم وجهادهم كانوا لا يرون أنفسهم شيئاً.
وفي زحام منى اصطدم رجل بـ سالم بن عبد الله بن عمر، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء، فقال سالم: (والله! ما عرفني إلا أنت) فأين الذين يزكون أنفسهم؟! وهذا الأوزاعي الذي كان بعلم الله واعياً يقول عنه ضمرة بن ربيعة: حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار؛ بل كان يصلي فإذا غلبه النوم استند إلى القتب.
وروى سليمان بن أيوب فقال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: شهدت ثمانين موقفاً في عرفة، وكان في كل موقف يقول: اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي بك وببيتك، فوقف مرة ولم يقل ذلك، فقيل له: لمَ لم تقل؟ قال: استحييت من ربي، فمات من سنته.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي قال مالك: أحرم علي بن الحسين، فلما أراد أن يلبي قالها فأغمي عليه وسقط من ناقته وهشم رأسه.
فلله درهم! كم امتلأت قلوبهم خشية ورهبة من ربهم، فلسان حالهم: إليك إلهي قد أتيت ملبياً فبارك إلهي حجتي ودعائيا قصدتك مضطراً وجئتك باكياً وحاشاك ربي أن ترد بكائيا كفاني فخراً أنني لك عابد فيا فرحي إن صرت عبداً مواليا أتيت بلا زاد وجودك مطعمي وما خاب من يهفو لجودك ساعيا إليك إلهي قد حضرت مؤملاً خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا ونقلت الأخبار عن الحافظ البرزالي صاحب التاريخ والمعجم الكبير: أنه كان إذا قرأ الحديث فمر به حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغطوا رأسه، وكفنوه بإحرامه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)، أنه كان إذا قرأ هذا الحديث بكى بكاءً شديداً ورق قلبه، فمات رحمه الله محرماً في مكة.
روح دعاها للوصال حبيبها فسعت إليه تطيعه وتجيبه يا مدعي صدق المحبة هكذا فعل الحبيب إذا دعاه حبيبه وأقول: قولوا لمن لم يكن صادقاً: لا يتعنى ولا يتعب نفسه.
ألف ابن القيم رحمه الله كتابه: (مفتاح دار السعادة) بمكة، يقول في مقدمة الكتاب: وكان هذا من بعض النزول والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقائي نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته وحوله بكرة وأصيلاً، فما خاب من أنزل به حوائجه، وعلق به آماله.
إن الله تفضل عليكم في جمعكم هذا؛ فوهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله مغفوراً لكم، فسبحان الله كم ترفع في ذلك اليوم من الدعوات! وكم ترفع فيه من الطلبات! وكم تغفر فيه من الذنوب والزلات، اللهم نحن عبيدك فأعتقنا من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار وأنت يا رب أولى بذا كرماً فقد شبنا في الرق فأعتقنا من النار قال ابن المبارك: جئت إلى سفيان عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع؟ فقال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم.
فما أعظم حسن ظنهم بربهم! وهو أرحم الراحمين.
ووقف أحد الخائفين بعرفه فمنعه الحياء من الدعاء، فقيل له: لم لا تدعو؟ فسكت، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتاً.
وكان أبو عبيدة الخواص إذا غلب عليه الشوق في ذلك الموقف قال: واشوقاه! إلى من يراني ولا أراه.
فهنيئاً لمن رزقه الله الوقوف بعرفة بجوار قوم يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ودموع منسكبة، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه! وكم فيهم من محب ألهبه الشوق وأحرقه! وكم فيهم من تائب نصح لله في التوبة وصدقه! وكم فيهم من هارب لجأ إلى باب الله وطرقه! وكم فيهم من مستوجب للنار أنقذه الله فأعتقه! وكم فيهم من أسير للأوزار فكه الله وأطلقه! وكم فيهم من راجٍ أحسن الظن بالله فوفقه! سبحان من لو سجدنا بالعيون له على حمى الشوك والمحمى من الإبر لم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشراً من العشر هو الرفيع فلا الأبصار تدركه سبحانه من مليك نافذ القدر سبحان من هو أنسي إذ خلوت به في جوف ليلي وفي الظلماء والسحر فكم من ليلة باتوا فيها على الجوع حتى كادوا يهلكون! وكم من ليلة طاردتهم السباع في الغابات وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة أحاط بهم الخوف من كل مكان؛ فقطاع الطرق يعترضون المسافرين في كل وادٍ وفي كل مكان: رب ليل بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه يقول الحاج عثمان: توقفنا للمبيت ليلة قريباً من إحدى الغابات، فلدغتني حية فبدأ سمها يسري في جسمي، وأصابتني حمى شديدة وألم عظيم وحتى شممت رائحة الموت تسري في عروقي، فكان أصحابي يذهبون للعمل وكنت أمكث تحت ظل الشجرة إلى أن يأتوا آخر النهار، وكان الشيطان يوسوس لي: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك بدل أن تكلف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع فقط؟! قال: فأثرت هذه الوساوس في نفسي وبدأت أثقل وأضعف وكدت أرجع إلى أرضي وداري، فلما جاء أصحابي نظر أحدهم إلى وجهي وسألني عن حالي، فالتفت عنه ومسحت دمعة غلبتني، فكأنه أحس بما فيني فقال: قم فتوضأ وصل ولن تجد إلا خيراً بإذن الله؛ أما قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46]، قال: فقمت فتوضأت وصليت، فانشرح صدري وأذهب الله عني الحزن، يقول: كان الشوق للوصول إلى بيت الله الحرام قد ملأ قلوبنا، وخفف عنا آلام السفر ومشاق الطريق ومخاطره، وقد مات ثلاثة منا في الطريق وكان آخرهم لما ركبنا السفينة إلى جدة، قال لنا في وصيته: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى أني مشتاق للقائه، واسألاه أن يجمعنا ووالدتي في الجنة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الحاج عثمان: لما مات صاحبنا الثالث نزلني هم شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشد ما لاقيت في رحلتي فقد كان أكثرنا صبراً وقوة، فخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى المسجد الحرام، فكنت أحسب الأيام والساعات على أحر من الجمر.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتيامن فلما وصلنا إلى جدة مرضت مرضاً شديداً، وخشيت أن أموت قبل أصل إلى بيت الله الحرام، فأوصيت صاحبي إذا أنا مت أن يكفنني في إحرامي، وأن يقربني قدر المستطاع إلى مكة، عل الله أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بيني وبين جوار بيتك والطواف فكم من سائل لك ربي رغباً ورهباً بين منتعل وحافي أتاك الراغبون إليك شعثاً يسوقون المقلدة الصواف قال: فمكثنا في جدة أياماً حتى خف عني المرض، ثم واصلنا المسير على الأقدام، فكانت أنفاسي تتسارع والفرح يملأ وجهي، والشوق يهزني ويشدني إلى أن وصلنا إلى المسجد الحرام، فسكت الحاج عثمان وهو يكفف عبراته وهو يتذكر تلك الذكريات، ثم واصل الحديث قائلاً: أقسم بالله العظيم أني لم أر ولم أشعر بلذة في حياتي كتلك التي ملأت علي قلبي لما رأيت الكعبة المشرفة! يقول: فلما رأيت الكعبة سجدت لله شكراً، وأخذت أبكي من شدة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فما أشرفه من بيت! وأعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين ماتوا في الطريق ولم يصلوا فأخذت أدعو لهم، وحمدت الله أن بلغني الوصول، وسألت الله ألا يحرمني ولا يحرمهم الأجر، وأن يجمعنا بهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
يقول: فمكثنا في مكة إلى موسم الحج، فحججنا ثم رجعنا إلى بلادنا بعد أن استمرت رحلتنا أكثر من سنتين، يقول: وها أنا الآن أقص لكم خبر تلك الرحلة التي مضى عليها أكثر من خمسين سنة، الله أكبر! فقد سمعوا منادي الله إذ يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27]، وسمعوا منادي الله يناديهم: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] فخرجوا مسرعين وهم يرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ناداهم مناد الله قائلاً: يا غافلاً عني! أنا الداعي، يا متخلفاً عن زيارتي! أنا ألقى الطائف والساعي، يا مشغولاً عن قصدي لو عرفت اطلاعي، أنا أقمت خليلي يدعو إلى سبيلي: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنوا الوجوه وتسلم يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم دعاهم فلبوه رضاً ومحبةً فلما دعوه كان أقرب منهم تراهم على الرمضاء شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم وقد فارقوا الأوطان والأهل رغبة ولم يثنهم لذاتهم والتنعم يسيرون من أقطارها وفجاجها رجالاً وركباناً ولله أسلموا(36/6)
أهمية المسارعة إلى حج بيت الله الحرام
نقرأ ونسمع عن أولئك الذين بذلوا كل غالٍ ونفيس للوصول إلى بيت الحرام، ثم نرى من حال كثير من المسلمين اليوم ممن تحققت فيهم الشروط الشرعية الموجبة لحج بيت الله الحرام، ومع ذلك فهم يسوفون ويتباطئون، أفلا يتذكرون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة).
أتدرون من المحروم؟ إن المحروم هو من جاء وصفه في حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يقول: إن عبداً صححت له جسمه، وأوسعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) وتأمل في قوله: (لا يفد إلي) فلم يقل: إلى بيتي؛ لأن الحج هو الرحلة إلى الله، فكيف لا يكون محروماً من لا يرحل إلى الله: لبيك قد لبيت لك لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك ما خاب عبد سألك لبيك إن الحمد لك لولاك يا رب هلك لبيك إن الحمد لك اللهم! هاهم ضيوفك بين يديك وفدوا إليك شعثاً غبراً، وقفوا وقوف الراجين، ونفروا نفور المؤملين، وباتوا مبيت الخاشعين، وضحوا تضحية الشاكرين، ورموا رمي المعاهدين، وتحللوا تحلل المبتهجين، وطافوا طواف المودعين، فتقبل منهم ربنا، فأنت وحدك الغفور البر الرحيم.
اللهم اجعل حجنا وحجهم مبروراً، وسعينا وسعيهم مشكوراً، وذنبنا وذنبهم مغفوراً.
اللهم من أرادوا الحج فيسر لهم السبل يا رب العالمين! ومن حرم ذلك فاكتب له الأجر يا بر! يا رحيم! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا بر! يا رحيم! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم، وثبت حجتهم يا رب العالمين! اللهم اكبت عدوك وعدوهم؛ فإنهم لا يعجزونك يا قوي! يا عزيز! ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/7)
لم يتجاوز عددهم العشرين
الصلاة هي الركن الأعظم من أركان الإسلام، أمر الله بها النبيين والمرسلين وأتباعهم، فمن حافظ عليها فقد فاز بنعمة من الله ورضوان وهدي إلى سبيل الرشاد، ومن ضيعها خسر الدنيا والآخرة ومأواه جهنم ولبئس المهاد.
ولكن المؤسف اليوم أن كثيراً من أبناء الأمة ضيعوا الصلاة وتهاونوا فيها، فكيف ترجو أمة النصر وهذا حالها؟ فالنصر لا يأتي إلا لمن تمسك بدين الله عز وجل وأقام شرائعه وأدى فرائضه.(37/1)
العلاج الحقيقي لمشاكلنا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! جاءني أحد الشباب منذ فترة وبدأ يعرض عليّ مشاكله وهي من أكثر مشاكل الشباب، فقال: أشكو من كثرة الهموم والغموم، ومن قلة التوفيق في كل شأن من شئون حياتي، فما طرقت باباً إلا وجدته مؤصداً مغلقاً، وما أقدمت على مشروع إلا باء بالفشل، وزيادة على هذا هناك وجع يلازمني في بطني، وقد عرضت نفسي على الأطباء، وتنقلت من مكان إلى مكان طلباً للعلاج فلم أجده، فقلت له مستعيناً بالله: إن المريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب، والطبيب ينظر في أعراض المرض، ثم يبدأ بتشخيص المرض، فإذا اكتشف المرض نصح بالدواء، والمطلوب من المريض حين يُعطى الدواء أن يحافظ عليه بكميته المحددة وفي وقته المحدد.
وقلت له أيضاً: إن المطلوب منك أن تحافظ على الدواء، فقال: لا توص حريصاً، فلقد تعبت وأنا أبحث عن العلاج والدواء، فهمومي كثيرة، ومشاكلي كثيرة، وآلامي التي أقضت مضجعي -فلا أهنأ بطعام ولا بشراب ولا بمنام- كثيرة، فقلت له: إن العلاج موجود، ولكن المطلوب منك أن تحافظ على العلاج وتداوم عليه، قال: وما هو؟ فقلت: خمس صلوات في اليوم والليلة، من أداهن حيث ينادى بهن - أي: في المساجد - كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن ضيعه الله يوم القيامة، قال عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وأي هدىً أعظم من المحافظة على الصلوات! {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
فهذا هو العلاج الحقيقي لذلك الشاب، وعلاج مشاكل كل واحد منا: أن يطرق باب الطبيب خمس مرات، وأن يرتمي بين يديه فيرفع إليه الحاجات والمسائل، وأن يبتهل إليه بالدعاء والتضرع، فوالله! لن تحل مشاكلنا ولن تكشف همومنا ولن تتبدل أحوالنا إلا إذا استقمنا في الصلوات؛ فإن حالنا للأسف مع الصلوات يبكي العين، ويدمي القلب، ويقطع الجبين.(37/2)
أقسام المسلمين مع الصلاة
إنقسم المسلمون مع صلاتهم إلى ثلاثة أقسام: قسم لا يصلي ولا يركع ولا يسجد لا بليل ولا نهار، وأسماؤهم: عبد الله وعبد الرحمن، وكذبوا والله! إذ لو كانوا عبيداً لله لما خالفوا أوامر الله، قال عز وجل: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6]، ووالله! إنا لنعرف كثيراً ممن منَّ الله عليهم بالاستقامة والهداية، فسألناهم عن أحوالهم في الصلوات، فكثير منهم يقول: مرت علي سنوات لم أسجد فيها ولم أركع، سنوات لم يسجدوا لله فيها ولم يركعوا! فأي حياة هذه؟! والله! لن يستقيم حال الإنسان إلا إذا استقام على صلاته، ووالله! إنك يا عبد الله! لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: (سددوا وقاربوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة) فوالله! لن ينفعك صوم ولا حج ولا زكاة ولا أي نوع من الأعمال إلا إذا صلح أمر الصلاة، فإن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن صلاته: إن استقامت وصلحت نظر الله في باقي الأعمال، وإلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وهناك قسم: لا يركع ولا يسجد وهم كثير، وقد امتلأت بهم البيوت وانتشروا في الطرقات، وتراهم في المجمعات -في أوقات الصلوات- يغدون ويروحون وكأن الأمر لا يعنيهم! وقسم آخر: وهم أيضاً كثير، يقدمون ويؤخرون، وينامون ويتكاسلون، ويلعبون ويلهون، إن استيقظ أحدهم من نومه صلى، إن انتهى من لعبه صلى، وإن انتهى من أكله وشربه صلى، وتناسوا أن الله قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وتناسوا أيضاً قول الله تعالى: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، وتناسوا قوله أيضاً: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
ولو أنك يا عبد الله، موظف في شركة من الشركات أو مؤسسة من المؤسسات، ودوامها يبدأ من الساعة السابعة صباحاً، فأتيت اليوم الأول بعد عشرين دقيقة من مرور الوقت واستقبلك الرئيس، فإنه سيغض الطرف عنك، فإن جئتهم في اليوم الثاني كذلك فسيخاطبك ويقول لك: إن نظام المؤسسة ودوامها يبدأ من الساعة السابعة لا من السابعة والنصف، ثم إن تكرر منك التأخر ستعطى إنذاراً شفهياً أو خطياً، فإذا تكرر منك التخلف والتأخر فلا مكان لك في تلك المؤسسة، فهذه مؤسسة وشركة من الشركات، فكيف بالذين يتأخرون عن طاعة رب الأرض والسماوات مرات ومرات! قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله).
إذاً فالناس في الصلاة على أقسام: قسم لا يركع ولا يسجد، وقسم يقدم ويؤخر، ويتهاون ويتكاسل وهم كثير، ولا ينطلقون إلى المساجد إلا إذا سمعوا الإقامة أو مضى من الصلاة ركعة أو ركعتين، وتناسوا أن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
وقسم ثالث: وهم قلة قليلة -وأنا أعني ما أقول- مقارنة بتعداد هذه الأمة، أمة المليار أو يزيد، فإن أردت أن تشهد هذه القلة فاشهدها في صلاة الفجر، فإنك سترى العجب العجاب، وستعرف أن آلافاً مؤلفة بل ملايين تغط في سبات عميق، وقلة قليلة هي التي انتصرت على فرشها وشهواتها وانطلقت تجيب منادي الله، وحين ينطلق أذان الفجر فاخرج إلى الشارع، حتى تعرف مقدار المأساة؛ فإنك لا تكاد ترى سيارة تتحرك، ولا تكاد ترى إنساناً يسير، ولا تكاد تسمع أصواتاً في البيوت، ثم ادخل إلى المسجد فسترى آباءً وكباراً في السن، وقلة قليلة من الشباب الذين هداهم الله، والبقية الباقية تغط في سبات عميق! ثم اخرج بعد صلاة الفجر بساعة، وانظر إلى الناس وقد ملئوا الطرقات والتقاطعات، وانتشروا في مناكب الأرض يطلبون الدنيا، ولا كأن الله قبلها بساعة ناداهم مناديه: الصلاة خير من النوم! وواقع حال كثير من الناس يقول: النوم خير من الصلاة! فأسألك بالله العظيم هل صليت الفجر اليوم في صفوف المصلين أم اتصفت بصفات المنافقين؟ وأليس أثقل الصلوات عليهم صلاة الفجر وصلاة العشاء؟ وأليست طائفة من هذه الأمة قد اتصفت بالنفاق في مشارق الأرض ومغاربها؟ فهل تريد أن تعرف مقدار المأساة؟ اسمع بارك الله فيك!(37/3)
الصلاة نور وعلاج للهموم والغموم
إن الصلاة نور، وأنت لن تستطيع أن تسير في الظلمات، وكثير يتخبطون ويشكون من الهموم والغموم، ومآسي الشباب في كل مكان كثيرة، وعلاجهم: ادخلوا بيوت الرحمن، وانضبطوا في صفوف المصلين.
وقد التقيت بثلاثة من الشباب على إحدى الطرق الشمالية في ساعة متأخرة من الليل، فتوقفت وركب الثلاثة، وقلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد الدمام، ودار بيني وبينهم هذا الحديث: قلت: ماذا تريدون من هناك؟ قالوا: نبحث عن وظائف.
ولا عيب أن الإنسان يسعى في طلب الرزق، لكن العيب كل العيب أن تخرجنا الدنيا ولا نخرج لأوامر الله جل في علاه، نخرج لقضاء حوائجنا ولأكلنا وشربنا ومنادي الله ينادينا: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم نتهاون في الاستجابة لنداء الله!! فقلت لهم: ما هي الشهادات والمؤهلات التي تحملونها؟ فقال الذي بجواري: أنا عندي شهادة ثاني متوسط، وقال الذي خلفه: أنا عندي أول متوسط، وقال الثالث: أنا لم أكمل السنة الخامسة الابتدائية.
فقلت: ما شاء الله على هذه المؤهلات، لكن ليست هي المؤهلات للحصول على الرزق، فإن الأمر لله من قبل ومن بعد، قال عز وجل: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2] فنحن نعرف أصحاب شهادات عالية لم يجدوا وظائف ولا مرتبات، ونعرف من لا يقرأ ولا يكتب أنعم الله عليه وصب عليه من البركات، والسر: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه:132].
وقد جاء أحدهم إلى أحد الصالحين يشكو ارتفاع الأسعار ويقول: غلت الأسعار، وارتفعت الأثمان للمطاعم والمشارب، وهكذا هو حالنا: نتأثر بارتفاع الأسعار يمنة ويسرة، ولا نتأثر بأحوال المسلمين! ونخاف على ما يسد جوعنا ويملأ بطوننا، ولا نخاف من تقرير مصيرنا إما إلى جنة وإما إلى نار! فقال الصالح: والله! ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار؛ علي أن أعبده كما أمرني وعليه أن يرزقني كما وعدني: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
ثم قلت لهم: هذه هي الشهادات والمؤهلات! اصدقوني كيف أنتم مع صلواتكم؟ فقال الذي بجواري: أقول لك الصدق أم أكذب عليك؟ فقلت: إن كذبت أنت تكذب على نفسك، ولا يضرني كذبك: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28].
فقال: أنا لا أصلي! قلت: كافر.
قال: لا.
قلت: بلى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) فكم هناك من الكفار من أبناء المسلمين الذين لا يركعون ولا يسجدون؟! وحدث ولا حرج.
ثم قلت للثاني: وأنت؟! فقال: أنا خير منه.
قلت: وكيف؟ قال: أنا أصلي من الجمعة إلى الجمعة! قلت: وأنت مثله.
ثم قلت للثالث: وأنت؟! قال: أنا أفضل منهما.
قلت: كيف؟ قال: أنا أصلي في اليوم صلاتين! فقلت: هذا دين جديد: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وهذا هو الواقع، شئنا أم أبينا، فطلابنا لا يصلون، بل جاءني سؤال من الطلاب يقول فيه: ما حكم الذي يصلي بدون وضوء؟! قلت: هذا كفر ومن نواقض الإسلام؛ لأنه استهزاء بالدين، فهل يخفى عليه أو على كثير من أمثاله أنه لا صلاة لمن لا طهور له؟! وهل يخفى عليه أن عمود الدين هي الصلاة؟!(37/4)
واقع كثير من بناتنا اليوم مع الصلاة
سبق أن ذكرنا واقع الأولاد مع الصلاة، واسمع إلى واقع البنات بارك الله فيك: تقول إحدى قريباتي التي تعمل مدرسة في إحدى المدارس: خرجت من غرفة المدرسات فإذا بطالبتين بجانب الغرفة تتبادلان الحديث، فإذا إحداهما تقول للأخرى: لماذا لا تصلين معنا في المصلى؟ قالت: أنا حتى في البيت لا أصلي! وأهلي كذلك لا يصلون! {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4].
والله! لو أن القلوب سليمة لتقطعت ألماً من الحرمان ولكنها سكرى بحب حياتها الدنيا وسوف تفيق بعد زمان فقل لي بربك متى ستنضم إلى صفوف المصلين؟ ومتى ستكون من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ ومتى ستكون من الذين هم على صلاتهم يحافظون؟ ومتى ستستقيم وتعلم أن أعظم أمور الدين بعد توحيد الله المحافظة على الصلوات والمسارعة إلى المساجد والمحافظة على تكبيرات الإحرام؟ نفعنا الله بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(37/5)
المحافظة على الصلاة من صفات المتقين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] واعلموا أن من صفات المتقين: أنهم على صلاتهم يحافظون، واعلم أنك لن تستطيع أن تواجه متقلبات الحياة إلا إذا انضممت واستقمت في صفوف المصلين، قال الله جل في علاه: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، أي المصلين؟ هل هم الذين يصلون من الجمعة إلى الجمعة، أو هم الذين يصلون في اليوم صلاتين، أو هم الذين يقدمون ويؤخرون؟
الجواب
كلا، بل هم: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23].
ثم أثمرت صلواتهم خشية وأخلاقاً في حياتهم: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28] فمن أين أتت الخشية؟ أتت من المحافظة على الصلوات: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] فكيف أدوا الأمانات وحفظوا الحقوق؟ أدوها عندما حافظوا على الصلوات، وكانوا ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29 - 30]، وحصنوا الفروج وغضوا الأبصار لأنهم من: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23] فإذا حصلت المداومة والمحافظة فإن النتيجة هي: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35].(37/6)
الصلاة من أعظم القربات
فوالله! لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، يقول أنس رضي الله عنه: (بينما كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل لا نعرفه، قال: أين هو ابن عبد المطلب؟ قلنا: ذلك الأبيض الأمهق) -أي: أنه صلى الله عليه وسلم أبيض مشرب بحمرة، إذا تبسم كأن وجهه فلقة القمر- قال: (فجاءه وقال: يا ابن عبد المطلب! إني سائلك ومشدد عليك السؤال، وكان متكئاً فجلس، قال: يا محمد! من الذي رفع السماء؟ قال: الله، قال: يا محمد! ومن الذي بسط الأرض؟ قال: الله، قال: ومن الذي نصب الجبال يا محمد؟ قال: الله، قال: أسألك بالذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم نعم، قال: أسألك بالذي رفع وبسط ونصب وأرسلك إلينا رسولاً، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بالصيام؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بأداء الزكاة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بحج بيت الله الحرام؟ قال: اللهم نعم، قال: والذي بعثك بالحق! والذي رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، وأرسلك إلينا رسولاً! لأحافظن على الصلاة، ولأصومن رمضان، وأعطي الزكاة، وأحج البيت، ولا أزيد على ذلك، فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة).
أي: إن صدق فيما قال، وحافظ على الصلوات، وصام رمضان، وأدى الزكاة، وحج بيت الله الحرام دخل الجنة.
فتأمل بارك الله فيك، وتأمل رعاك الله! أن الزكاة قد تسقط في بعض الأحوال؛ وذلك في حالة عدم ما يستوجب الزكاة، ويسقط الصيام بالأعذار، كما قال عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، والحج يكون على من استطاع إليه سبيلاً، لكن قل لي بالله العظيم: هل تسقط الصلاة في أي حال من الأحوال؟!
الجواب
لا، وعلى هذا فمن حافظ على صلاته دخل الجنة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان حقاً على الله لمن لقيه وهو يحافظ على هذه الصلوات أن يدخله الجنة) أي: حق على الله لمن لقيه وهو محافظ على هذه الصلوات أن يدخله الجنة، قال أبو ذر: (وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، فأعادها في الثالثة، فقال صلى الله عليه وسلم: على رغم أنف أبي ذر).
فهذه خمس صلوات، من أداهن حيث ينادى بهن كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن فلا يلومن إلا نفسه.(37/7)
خطر ترك الصلاة والتهاون بها
إن هذا الحديث خطير، والقضية مهمة؛ فأبناؤنا يموتون على غير صلوات، بل حتى الشيب تهاونوا في أدائها، بل لقد مات رجل في السبعين من عمره منذ فترة ماضية فسألوني: هل نصلي عليه أم لا؟ فقلت: ولماذا لا تصلون عليه؟ قالوا: ما سجد لله سجدة من قبل!! ومات أحد الشباب في مقتبل العمر فلما بدءوا بتغسيله انقلبت بشرته من البياض الشديد إلى السواد الشديد، فخاف المغسلون وخرجوا من مكان التغسيل، فإذا بالأب في خارج المغتسل يدخن، فقالوا: هل الميت ميتكم؟! قال: نعم، قالوا: ما خبر هذا؟ قال الأب: لم يكن من المصلين, فقالوا: خذوه أنتم وغسلوه وكفنوه، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
والعكس بالعكس: فقد مات أحد الأخيار في مقتبل العمر، وهو من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومن المسابقين إلى الصفوف الأولى، وما تخلف عن الفجر يوماً، وهو ممن يدعو ويعظ بالموعظة والذكرى الحسنة.
يقول أحد مشايخنا: أنا كنت ممن غسله وكفنه، فلما بدأنا بتغسيله وبدأنا بإعداد المسك والكافور، قال: والله الذي لا إله إلا هو! لقد فاحت رائحة المسك منه قبل أن نضع المسك عليه، فقلت لصاحبي: هل تشم؟ قال: هذا فضل الله يؤتيه من يشاء: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا} [فصلت:30]، ويقول شيخنا: فلما كفناه وذهبنا به إلى المقبرة، وكنت ممن أنزله في قبره، يقول: والله الذي لا إله إلا هو! إننا عندما أنزلناه إنه لما أنزلوه أخذ من بين أيدينا، وحمل من بين أيدينا والله! ما حملناه، ثم وسد في التراب والله! ما وسدناه، ثم وجه إلى القبلة والله! ما وجهناه، ثم كشفت عن وجهه فإذا هو يضحك، يقول الشيخ: والله! لولا أني أنا الذي غسلته وكفنته ما كنت أظن أنه قد مات.
فاتقوا الله عباد الله! وحافظوا على أوامره، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات، واعلموا أن المحافظة على الصلوات ضمان بخاتمة حسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) أي: في حفظ الله ورعايته.
وقال بعض أهل العلم: معناه: أنه إذا مات من يومه دخل الجنة، ثم ليعلم المسلم أنه مسئول عن أهل بيته، قال صلى الله عليه وسلم: (مرو أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر).
فاصنعوا لنا أبطالاً، واصنعوا لنا رجالاً، واصنعوا لنا أمهات عابدات.
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم علمه أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، ومن الذين هم على صلاتهم يحافظون، ومن الذين هم في صلاتهم خاشعون، اللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اصلح لنا الشباب والشيب، واحفظ نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يخافون فيك لومة لائم يا رب العالمين.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(37/8)
لنا في غزوة مؤتة عبر
غزوة مؤتة من أعظم الغزوات التي هدد بها المسلمون كيان الدولة الرومانية وحلفاءها من العرب المتنصرة.
أظهر المسلمون فيها قوة ورباطة جأش، رغم قلتهم مقابل أعداد العدو الهائلة والكبيرة جداً، وقد أظهر قادة الجيش الثلاثة الذين عينهم رسول الله شجاعة عظيمة حتى استشهدوا رضي الله عنهم.
ثم تمكن خالد بن الوليد بعد أن حمل اللواء من زرع الخوف في قلوب الأعداء، ثم انسحب بالجيش انسحاباً حكيماً بعد أن ألحق بالعدو خسائر كبيرة في الأرواح والأموال، وعادوا إلى المدينة كراراً لا فراراً.(38/1)
سبب غزوة مؤتة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! انبثق نور الإسلام من مكة ليحطم الجاهلية بكل ما فيها إلا ما وافق الإسلام، وقام محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه بحمل راية الدعوة والجهاد، والتف حوله الرجال يفدون دينهم بكل غال ونفيس، وما هي إلا سنوات قليلة مليئة بالصبر والتضحيات إلا والإسلام قد ضرب أطنابه هنا وهناك، وانتشر أبطال الإسلام يبلغون دعوة الله رافعين شعار لا إله إلا الله، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ فدانت لهم الأرض، ونشروا العدل والمساواة، وقدموا من أجل ذلك التضحيات، وسطروا البطولات، كانوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم تبدل الحال وتفكك البنيان، وركنت الأمة للدعة والشهوات، وضيعت أوقاتها بل أعمارها أمام الشاشات والقنوات، ومع نهاية هذا العام وبداية آخر أردت أن أرفع الهمم، وأذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، أردت أن أذكر مع بداية العام الجديد بماضينا المجيد، فهيا معاً نفتح صفحات التاريخ؛ لنرى ماذا صنع الرجال؟ روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال له أين تريد؟ فقال له: إنه يريد الشام، فقال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثقه، ثم قدمه فضرب عنقه، مخالفاً بذلك كل الأعراف والقوانين؛ لأن الرسل لا تقتل، فلما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليه، وزاد الأمر عندما قامت مجموعة من العرب المتنصرة بقتل بعثة سنية دخلت أرض الشام تدعو العرب إلى الإسلام، فقتلوا جميع أفراد البعثة غدراً وعدواناً، وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تأديب هؤلاء الغادرين ليعلموا أن لهذا الدين رجالاً يذودون عنه وعن أعراضهم، فاستنفر القائد الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه ثلاثة آلاف من خيرة أصحابه، وعين ثلاثة يتولون قيادة الجيش بالترتيب، وهم: زيد بن حارثة ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة، فخرج الجيش لتأديب أعداء الله، وليعلم أولئك المعتدون أن للإسلام رجالاً يدافعون عن دينهم وأعراضهم.(38/2)
ثلاثة آلاف في مواجهة مائتي ألف
ودع المسلمون جيشهم وهم يدعون لهم قائلين: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين، خرج الجيش بسرية وكتمان، ولكن الطابور الخامس من اليهود والمنافقين أرسلوا الأخبار إلى إخوانهم في الكفر والنفاق بخروج جيش المسلمين، فحشدوا مائة ألف من مرتزقة العرب المتنصرة، ومائة ألف من الرومان.
لك أن تتخيل ثلاثة آلاف من الرجال يواجهون مائتي ألف من الكفار.
إن اشتباك ثلاثة آلاف في معركة حاسمة مع مائتي ألف يمثل أعظم مخاطرة ومغامرة في تاريخ الحروب.
فتشاور الرجال قبل لقاء العدو، وكان القرار هو مواجهة الأعداء مهما كانت النتائج، فكلا الأمرين: النصر أو الشهادة يمثل فوزاً للمسلم المجاهد في سبيل الله، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، أو الرجال، ولا مجال للتراجع عند طلاب الجنان، ولسان حالهم: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا قال عبد الله بن رواحة مشجعاً الناس وداعياً إلى عدم التردد في القتال: يا قوم! إن الذي تكرهون هو الذي من أجله خرجتم، إما النصر وإما الشهادة، ونحن لا نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، لا نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أعزنا وأكرمنا الله به، والله! لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرس واحد، فانطلقوا بنا فإنما هي إحدى الحسنين، إما ظفر عليهم فذلك الذي وعدنا نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.
فأثرت تلك الكلمات البليغة في نفوس الجيش، واشتاقت القلوب والأرواح لجنة الرحمن، وانطلقوا وهم يرددون: أرواحنا يارب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا وعلى أرض مؤتة في بلاد الشام التقى الجيشان، فريق مسلم لا يتجاوز الثلاثة آلاف وفريق كافر تعداده أكثر من مائتي ألف من الكفار.
وضع قادة الجيش في حسابهم أن الجيش الروماني قد يلجأ إلى أسلوب التطويق فعددهم يسمح بذلك، فحينها إما أن يباد الجيش عن بكرة أبيه وإما أن يجبروا على الاستسلام.
في حساب المقاييس الحربية العادية ليس من الصعب على مائتي ألف مقاتل مجهزين أحسن تجهيز، ومسلحين بأحسن سلاح أن يقوموا بتطويق ثلاثة آلاف وإبادتهم عن آخرهم، ولن يستغرق ذلك إلا ساعات معدودات.(38/3)
إقدام الجيش الإسلامي على أكبر مغامرة حربية عرفها التاريخ
تأمل -رعاك الله- عدد وعدة الجيش الكافر فمعهم خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة، يتسربلون بأحسن الدروع، ويلبسون أحسن الخوذات، فمن أجل ذلك ومراعاة لكل الاعتبارات انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة، وعسكر فيها ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق والإبادة، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة، وقام زيد بتعبئة الجيش وتقسيمه.
وأخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق، وكانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار.
ومن أبو هريرة رضي الله عنه ممن حضر معركة مؤتة، فعبر عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وقد شهدت ذلك فبرق بصري، وخشع سمعي، فقال ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة! مالك كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم، ما رأيت مثل هذه الجموع من قبل، قال ثابت: لم تشهدنا يوم بدر، إننا لم ننصر من كثرة.
ولا لوم على أبي هريرة لأنه بشر، ولقد كان على كل جندي مسلم أن يقاتل في مؤتة سبعين من جنود الجيش الروماني، فما بالكم برجل مقابل سبعين؟ أسألك بالله العظيم! أما كان بوسعهم الرجوع دونما قتال بعدما علموا بجموع الرومان؟ نعم، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون فإما نصر وإما شهادة، لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية عرفها التاريخ دونما جدال.
ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى يعتبر ما أقدم عليه قادة جيش المسلمين في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار، وتعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، فقد اشترى الله منهم الأنفس والأموال، وقد باعوها على أن يكون الثمن الجنة، فبهذه الروح ومن هذا المنطلق ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، إنها مغامرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها! لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان، وهي: النصر الساحق بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية العادية، لكن الإيمان صنع عجباً عجاباً! فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر، فصمد أمامها المسلمون وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم بلا دروع!(38/4)
الإيمان يحول دون الهزائم المتوقعة
إن الإيمان وصحة العقيدة والاستبسال في سبيل الله يعكس المفاهيم، ويقلب المقاييس، ويكسر القيود والأغلال، وكثرة العدد، ووفرة السلاح، والتكنولوجيا العسكرية ليست هي التي تصنع النصر المؤزر والساحق، وإن عدم توافر كل ذلك ليس هو الذي يصنع الهزائم.
اسمع رعاك الله! إن الذي يصنع النصر حقيقة ويصنع الصمود الذي يحول دون الهزائم الماحقة هو الإيمان والثقة بالله جل في علاه، والاعتماد على الله، وتشرب القلوب عقيدة القرآن المشرقة لا عقيدة ماركس ولينين المظلمة.
استمرت المعركة سبعة أيام وكانوا يتوقعون أنها ستستمر ساعات، ولم يتوقع الرومان أن المعركة ستكون على هذا المستوى من الصمود والثبات والشراسة والضراوة! ثبت المسلمون على مشارف مؤتة، بل قاموا بهجوم معاكس أتوا فيه بالعجائب، وصرعوا عدة مئات من أفراد الجيش الروماني وأتباعه، بعد أن صعقوهم بالهجمات، وأثخنوا فيهم الجراح، بل بدأت جموع الرومان مع كثرتها تركن إلى الفرار والهروب من أرض المعركة لهول ما رأوا من القلة المسلمة، وحاولوا اقتحام مواقع المسلمين لتطويقهم فما استطاعوا! إن أي عاقل وأي منصف سيدرك ذلك المستوى الرفيع من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء والإيمان العميق الذي كان عليه المسلمون، خاصة عندما يعلم أنهم ثلاثة آلاف محارب، وقد استمروا يخوضون المعركة بصبر وشجاعة وضراوة خلال سبعة أيام ضد جيش قوامه مائتا ألف مقاتل، دون أن يتمكن ذلك الجيش من تسجيل أي نصر يذكر على المسلمين في أرض المعركة!(38/5)
استشهاد زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة
ثبت زيد القائد العام، ثم استشهد بعد ستة أيام من القتال، بعد أن مزقته رماح الرومان وهو مقبل كالأسد الهصور، ثم استلم جعفر الراية فصار يقاتل وهو على فرس له شقراء، والمسلمون خلفه يقاتلون بضراوة واستماتة لا مثيل لها! ممتثلين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]، وكانوا يقاتلون وهم يرددون قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4].
اقتحم جعفر صفوف الرومان، ولكثرة الزحام وشدة الالتحام نزل عن فرسه ثم عقرها استعداداً للموت في سبيل الله، وقطعاً لباب الهروب من أرض المعركة، فكان أول من عقر خيله في الإسلام أثناء القتال، وبعد أن ترجل على أرض المعركة، أحاطت به الرومان من كل جهة وهو يقاتلهم قتالاً شديداً، وراية الرسول صلى الله عليه وسلم في يده، وبينما هو كذلك تمكن أحد فرسان الرومان من قطع يده التي يحمل بها اللواء، فحملها باليد الثانية فقطعت، فأظهر القائد الشاب بطولة فذة لا مثيل لها، فبعد أن فقد كلتا يديه، احتضن اللواء بعضديه حفاظاً عليه ليظل مرفوعاً ولا يقع أرضاً، فتنهار لوقوعه معنويات المسلمين، فبقاء اللواء مرفوعاً ساعة القتال له أثر فعال في نفوس المحاربين من حيث الثبات والصمود.(38/6)
استشهاد جعفر وتولي عبد الله بن رواحة القيادة
وبعد استبسال جعفر وثباته وصموده الرائع، سقط شهيداً بعد أن تناوشته سيوف الرومان وهو يحتضن اللواء في إصرار وتصميم، فصعدت الروح لتأخذ مكانها بين الصديقين والشهداء.
قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين بعد أن فقد ذراعيه، فأثابه الله جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء.
واستمر القتال بضراوة، وسارع عبد الله بن رواحة لقيادة الجيش وحمل اللواء، فوجد في نفسه تردداً لكثرة الحشود الرومانية الهائلة، فعاتب نفسه وخاطبها شعراً: أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنه لطالما قد كنت مطمئنه هل أنت إلا مضغة في شنه ونزل عن فرسه ولواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فقاتل مقبلاً غير مدبر حتى قتل، لاحقاً بزميليه اللذين سبقاه إلى الشهادة، لحقهما وهو يردد: يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد لقيتِ وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة، وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصرة، واسمه مالك بن زافلة، قتله قائد ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه.(38/7)
تولي خالد بن الوليد القيادة
ظل المسلمون صامدون يقارعون ويقاومون، يضربون أعظم الأمثال في التضحية والثبات، غير أن مصرع القادة الثلاثة، وبقاء الجيش دونما قائد رجح كفة الرومان، وأحدث خللاً واضطراباً في صفوف المسلمين، وأخذ بعضهم ينهزم لاسيما مع سقوط الراية، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمة، لكن ثابت بن أرقم أحد فرسان الأنصار أنقذ الموقف ورفع اللواء، وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش، فرشحوه فاعتذر، وقال: ما أنا بفاعل، وبلغ الموقف خطورة لا تحتمل، فقد فقدوا قادة الجيش، وبدت علامات الفوضى والاضطراب تظهر، ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير والبطل المغوار خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، الذي لم يمض على دخوله في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط.
اسمع يا حديث الاستقامة! لم يمض على دخول خالد في الإسلام سوى ثلاثة أشهر فقط، فصاح ثابت بن أرقم بـ خالد: خذ اللواء يا أبا سليمان! خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال خالد: لا آخذه، فصاح ثابت بن أرقم بـ خالد: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال خالد: لا آخذه، أنت أحق به؛ لأنك أقدم إسلاماً وأكبر سناً، والرجال تعرف قدر الرجال، فقال ثابت: خذه يا خالد! فو الله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال، فأيده كبار الجيش، وطلبوا من خالد تولي القيادة، والنظر في الموقف المتدهور الذي سيؤدي إلى إبادة الجيش إن لم يتدارك الأمر، فحمل الراية خالد وأصبح قائداً عاماً للجيش.
هذه الأحداث في أرض المعركة، فكيف كانت حالة أهل المدينة؟ هذا ما سنعرفه في الخطبة الثانية.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعني وإياكم بهدي المصطفى الأمين، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(38/8)
نزول الوحي على رسول الله في شأن جيش المسلمين في مؤتة
الحمد لله العزيز القهار، مكور الليل على النهار، ينصر من يشاء ويعز من يشاء، يخلق ما يشاء ويختار، هو القائل جل في علاه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160].
ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصلة بين المدينة ومكان المعركة، حتى صار ينظر عياناً إلى ما حدث هناك من قتال ضارٍ عنيف.
فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم الخبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان، ثم سكت ثم قال: ولقد رفعوا إلى في الجنة) يعني: القادة الثلاثة، ثم قال: (ولقد حمل الراية الآن سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم).
اجتمعت المدينة حول نبيها تتابع أخبار المعركة حية على الهواء وحياً، واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة المسلسلات والمباريات حية على الهواء، فسبحان الله! فرق شاسع بين الأمس واليوم.
لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجة اختياراً موفقاً، فهو فارس شجاع وبطل مغوار، وداهية في القيادة العسكرية هجوماً ودفاعاً، ولقد أثبت خالد في ذلك اليوم تلك البطولات الفذة، حين قاد أول معركة بعد إسلامه.
لقد حمي الوطيس، وبدأت تتطاير الرءوس، وتتقطع الأعضاء والأشلاء، وتسيل الدماء في كل بقعة كالأنهار.
روى البخاري عن خالد رضي الله عنه أنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.(38/9)
خطة خالد بن الوليد لإخراج الجيش بأقل الخسائر
عباد الله! إن للقوى البشرية حدوداً، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.
فقام خالد أثناء الليل بتبديل كلي للميمنة والميسرة والقلب، فبدل مواقع الرجال؛ وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والخداع والتضليل، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد ما كانوا يعرفونه منذ ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين أثناء الليل؛ فدب الخوف في قلوبهم، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداها الأخرى في ترتيب وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم آذان الرومان بالتهليل والتكبير، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتكبير والتهليل، الله أكبر، لا إله إلا الله، أي قوة تقف أمام التكبير والتهليل؟! وكل ذلك تم بتخطيط محكم من القائد المظفر خالد رضي الله عنه.
أيقن الرومان أن كل ما رأوه من تغيير كامل في الميمنة والميسرة والقلب، وتدفق تلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش، إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة المسلمين؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر؛ فدب الرعب في نفوسهم، وساد فيهم الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا الأفاعيل، وظلوا يقاتلون مائتي ألف منذ ستة أيام، فماذا عسى أن يصنعوا بهم بعد وصول هذا المدد الكبير؟! وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفائهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة، فاغتنمها فرصة فأمر جيشه بالهجوم، فكبر معهم خالد وكبروا واكتسحوا الرومان بهجوم صاعق كاسح، فمالت أسياف المسلمين على الرقاب، ومالت صفوفهم على خطوط الرومان الأمامية، فتملك الرعب الرومان واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة، وصفها المؤرخون بأنها مذبحة بكل المعاني.
قال ابن سعد في طبقاته وهو يروي قصة انتصار خالد على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة ثالث القادة، وطاعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط، حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان في أرض المعركة حتى أثخنوهم جراحاً.
ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الفرق والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، فأخذ الجيش الصغير يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وثقة وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف واضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد البطل على أدق نظام ودونما أي خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول؛ لما لقيه على أيدي المسلمين من هجوم كاسح قام به خالد ومن معه بعد نجاح الحيلة العسكرية وخدعته الحربية الباهرة، وأصدر قادة الرومان أوامرهم إلى كافة الكتائب بألا يتعقبوا أحداً من المسلمين بعد انسحابهم؛ لأنهم ظنوا أن الانسحاب إنما هو مكيدة حربية لإيقاع الجيش الروماني في كمائن العرب إذا ما تتبع الجيش المنسحب، وهم يعرفون أنه لا أحد يجيد الكر والفر والكمائن ويحكمها مثل العرب، فخافوا من تتبع المسلمين.
والمسلمون رغم قلة عددهم أنزلوا بالرومان خسارة كبيرة، وحملوهم ذلاً وعاراً، ولسان حال الرومان: هذا قبل وصول المدد، فكيف وقد وصلهم مدد؟!(38/10)
وصول الجيش الإسلامي إلى المدينة
وصل خالد بجيشه إلى المدينة دون أن يتعرض لأي خطر في الطريق، فكيف استقبلت المدينة الجيش وقد وصلت إليهم الأخبار أن المسلمين قد فروا وانهزموا من أرض المعركة؟ استاء أهل المدينة لذلك، فما كاد خالد يصل بجيشه إلى ضواحي المدينة حتى قابلتهم مظاهرة كبيرة تندد بالجيش، وكان المتظاهرون يصيحون بالجيش: يا فرار! يا فرار! فررتم من الموت في سبيل الله؟! ويحثون في وجوه الجند والقادة التراب.
وأما النساء فلم يفتحن لأزواجهن الأبواب، وأغلقن الأبواب دونهم قائلات لهم: أما كان لكم أن تموتوا مع أصحابكم؟! أما الأطفال فقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة والتراب قائلين لهم: يا فرار! يا فرار! ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بالأخبار الصحيحة مقدار التضحيات والبطولات التي قام بها الجيش المسلم، فقام مدافعاً عن الجيش وأفراده قائلاً: (ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله).
فأنقذ خالد جيشه من فناء محقق بخطة عسكرية بارعة، وألحق بالرومان أبشع هزيمة، وألحق بهم شر مقتلة وهزيمة، وحملهم الخزي والعار.
هذه أخبارهم فما هي أخبارنا؟! هذه تضحياتهم فأين تضحياتنا؟! هذه بطولاتهم فأين بطولاتنا؟! هذه أخبار شيبهم وشبابهم فما هي أخبار شبابنا وشيبنا؟! هذه أخبار نسائهم فما هي أخبار نسائنا؟! هذه أخبار أطفالهم فما هي أخبار أطفالنا؟! ما الفرق بين الأمس واليوم؟ اسمعه بارك الله فيك! بالأمس كان صغارنا يستقبلون خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة، كانوا يقولون لـ خالد ومن معه: إلى أين يا فرار؟ واليوم صغارنا يستقبلون غانية ومطرباً بيده قيتار، ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار! ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا بنينا حقبة في الأرض ملكاً يدعمه شباب طامحونا شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا ولم تشهدهم الأقداح يوماً وقد ملئت نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا ترى هل يرجع الماضي؟ فإني أذوب لذلك الماضي حنينا لقد استطاعوا أن يسطروا تلك البطولات، وأن يصنعوا تلك الانتصارات؛ لما حققوا الإيمان والتقوى والإحسان، فلما ضعف ذلك في حياتنا ذهبت الأمجاد والانتصارات، وإنما ضعف الإيمان بسبب كثرة الذنوب والمعاصي والآثام.
ماذا صنعت بنا وبشبابنا وبفتياتنا الشاشات والقنوات؟ كم أفسدت! كم دمرت! لا حياة لمن تنادي.
أردت في بداية العام أن أذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، أردت أن أذكر الرجال بما صنع الأبطال.
أقول وأردد بأعلى الصوت: إن كانوا قد استطاعوا، فنحن أيضاً نستطيع، فالمنبع واحد والمصدر واحد، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
وهذه دعوتنا نصرخ بها مرة ثانية وثالثة، وقد رفعناها منذ أيام: فلنطهر بيوتنا من الشاشات والقنوات، لماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! فمن الشجاع الذي سينتصر اليوم لربه ولدينه؟ من الذي سيغير المنكر انتصاراً لأمته ولعقيدته؟ من الذي سينطلق الآن ويستجيب لنداء الإيمان الذي حطمته الأطباق والقنوات؟ من الذي سيرقى اليوم على سطح البيت ويزيل ذلك الطبق، ويأتي به في ساحة المسجد، ويكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر؟ لقد استجاب نفر وانتصروا لدينهم، وتلك أطباقهم في صرح المسجد، أسأل الله لهم الثبات، وليبشروا بالخير، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً مما ترك.
هذا عام قد انتهى وهذا عام جديد، فلنطو الماضي بكل ما فيه، ولنفتح صفحة جديدة شعارها: لا إله إلا الله، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ونحن في انتظار الأبطال الذين سيغيرون المنكر في بيوتهم، ويأتون بالأطباق فيكونون قدوة للآخرين، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
اللهم! إنا نسألك مع نهاية عام وبداية عام أن تعيدنا إليك عوداً حميداً جميلاً يارب العالمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم! طهر بلادنا وبلاد المسلمين من الكفر والشرك والبدع والخرافات والضلالات.
اللهم! آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! أصلح ولاة أمورنا وولاة أمور المسلمين، اللهم! هيئ لهم بطانة صالحة تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.
يا حي يا قيوم! يا بديع السموات والأرضين! اللهم! طهر بيوتنا من الفواحش والمنكرات، ومن الأغاني الماجنات، واحفظ شبابنا وشيبنا، وعف نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.
اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا يا حي يا قيوم.
اللهم! انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين، اللهم! من انتصر على نفسه وأزال الدش من بيته فأبدله بذلك خيراً يا حي يا قيوم، اللهم! من انتصر لأجلك ولأجل دينك فانصره في الدنيا والآخرة يا رب العالمين، وأبدله خيراً مما ترك يا حي يا قيوم.
اللهم! أصلح شيبنا وشبابنا، واحفظ نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين.
اللهم! من أقام هذا المسجد فاجزه خير الجزاء يا رب العالمين، اللهم! بارك لهم في أموالهم، وبارك لهم في أزواجهم، وبارك لهم في ذرياتهم، وارحم موتانا وموتاهم يا حي يا قيوم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(38/11)
مفرق الجماعات
الموت أقرب إلى المرء من شراك نعله، وهو هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وقد أدرك ذلك من هم خير منا ممن كانوا يعملون للآخرة في كل أوقاتهم، ولهذا يجب علينا أن نتذكر الموت ونعمل لما بعده.(39/1)
أسباب قسوة القلب
أحبتي! قسوة القلب مرض عظيم ابتلينا به في هذا الزمان، فأصبحنا نسمع القرآن ولا نتأثر، وندفن موتانا ولا نعتبر، ونسمع المواعظ والعبر ولا نتذكر، والسبب قسوة القلب.
وما من داء إلا وقد أنزل الله له دواء، فدواء قسوة القلب -يا رعاك الله- هو مداومة النظر في كتاب الله بتدبر وتفكر، فإن هذا الكتاب لو أُنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] كم فيه من المواعظ والعبر، كم فيه من الآيات والسور؟ لكن كما قال الله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
موعظة بليغة وكلام موجز وعظنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أجمع أهل العلم على أن هذه الموعظة من أبلغ مواعظه صلى الله عليه وسلم.
لقد أبلغ في الموعظة وأوجز في الكلام، كلام يسير ولكنه يحملُ معاني كثيرة، ولا عجب فإنه صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلم، يقول الكلام القليل فيه من المعاني الشيء الكثير.
فمن مواعظه البليغة صلوات ربي وسلامه عليه قوله: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات).
نعم أيها الغالي! يوم أن غفلنا عن الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والسؤال وشدته، ويوم القيامة وكرباته، والصراط وحدته؛ يوم أن غفلنا عن هذه الأشياء قست القلوب -يا رعاك الله- فأصبحت كالحجارة بل هي أشد قسوة.
لذلك قال بأبي هو وأمي: (أكثروا من ذكر هادم اللذات).
ما ذُكر الموت في قوي إلا ضعفه، وما ذُكر في عزيزٍ إلا أذله، وما ذُكر في كثير إلا قلله، الموت: هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حُط ذا عن نعشه ذاك يركبُ نشاهد ذا عين اليقين حقيقة وكأنا بما علمنا يقيناً نكذبُ إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا كل يوم واعظ الموت يندبُ نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلّ الردى مما نرتجيهِ أقربُ الموت كما قال أهل العلم: مفارقة الروح الجسد والحيلولة بينهما، انتقالٌ من حال إلى حال، وانتقالٌ من دار إلى دار.
سمّى الله الموت مصيبة، كما قال جل في علاه: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة:106].
لكن المصيبة الأعظم من الموت -يا رعاك الله- الغفلة عن الموت عدم تذكر الموت عدم الاستعداد للموت، أعظم من مصيبة الموت يا رعاك الله.
لذلك قال أهل التفاسير في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] قالوا: يعني أكثركم للموت ذكراً؛ لأنه من كان للموت ذاكراً كان للموت مستعداً.
قال أبو علي الدقداق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاث: أكرم بتعجيل التوبة، ونشاط في العبادة، وقناعة في القلب، ومن نسي الموت عوقب بثلاث: تسويف التوبة، وكسل في العبادة، وعدم قناعة القلب.
إذاً مما يرقق القلوب التفكير في الموت وفي أحواله وفي القبر وظلماته.
لذلك قال بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه: (ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
يوم غفل الناس عن الآخرة قست القلوب وعُطّلت الصلوات، وارتُكبت المحرمات، وتكاسل الناس في فعل الطاعات.
فيا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل قل لي بالله العظيم قل لي يا رعاك الله هل تفكرت يوماً وأنت تخرج في الصباح أنك لن ترجع إلى بيتك مرة ثانية؟! هل تفكرت أن اليوم قد يكون آخر يوم لك في الحياة؟! إذا أتاك ملك الموت في هذا اليوم فهل أنت راضٍ عن نفسك؟! لا تغفل يا رعاك الله! ممن أعرفهم اتصل على أهله في الواحدة ظهراً قال لهم: لقد استأذنت من العمل مبكراً فما هي طلباتكم؟ قالوا: نريد كذا ونريد كذا ونريد كذا، قال: ساعة واحدة وأكون عندكم.
مرت ساعة مرت ساعتان ومرت ثلاث ولم يظهر له أثر، اتصل متصل قُبيل المغرب بقليل يقول: عظم الله أجركم في فلان، في الساعة التي خرج فيها من مكان عمله ارتطمت سيارته بسيارة أخرى وانتقل من هذه الحياة إلى حياة ثانية.
قل لي بالله العظيم: هل كان يظن يوم اتصل على أهله أنه لن يصل إليهم؟! هل كانوا هم يظنون يوم أملوا عليه الطلبات أن الطلبات لن تصل؟! بل الذي يحمل الطلبات لن يصل؟! كان أحد الصالحين يقوم في هزيعِ الليل الأخير، يرقى أعلى مكان في قريته، ثم ينادي بأعلى الصوت: الرحيل الرحيل الرحيل كل يوم يكرر هذه الكلمات القليلة: الرحيل الرحيل الرحيل حتى جاء يوم وانقطع ذلك الصوت.
فقال أمير القرية: أين فلان؟ قالوا: مات.
قال: لا زال يذكر الناس بالموت حتى مات هو.
نعم.
كان يذكرهم بالموت فأتاه الموت، لكن على أي حال أتاه؟! لا زال يلهج بالرحيل وذكره حتى أناخ ببابه الجمّال فأتاه متيقظاً متشمراً لم تلهه الآمال قال أحدهم لصاحبٍ له وكانت حاله سيئة: أبا فلان! الحال التي أنت عليها أترضاها للموت؟! قال: لا والله.
قال: وهل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟! قال: ما اشتاقت نفسي إلى هذا بعد، قال: وهل بعد هذه الدار دار معتمل؟! قال: لا والله.
قال: وهل تظن أن لا يأتيك ملك الموت وأنت على هذه الحال؟! قال: لا والله.
قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال! ستنقلك المنايا من ديارك ويبدلك الردى داراً بدارك وتترك ما عنيت به زماناً وتُنقل من غناك إلى افتقارك وفي عينيك دود القبر يرعى وترعى عينُ غيرك في ديارك نعم أيها الغالي! لا تغفل عن الموت، فلقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له مكان معين، ولا زمن معين، ولا سبب معين، ولا عمر معين، يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] يعني ذلك ما كنت منه تفر وذلك ما كنت منه تهرب.
طال الزمان أو قصر لابد أن يأتي الموت.
والناس عند الموت على حالين يا رعاك الله.
إما محب للقاء الله فيحب الله لقاءه، وإما كارهٌ للقاء الله فيكره الله لقاءه.
قالت عائشة: (يا رسول الله! كلنا يكره الموت، قال: لا يا عائشة ليس ذاك، لكن هو العبد الصالح تأتيه ملائكة الرحمن تبشره بروح وريحان، ورب راض غير غضبان، فيفرح بلقاء الله، فيفرح الله بلقائه).
أما العبد العاصي أما العبد الغافل أما الذي تناسى الموت وسكراته، فتأتيه ملائكة الرحمن، تبشره بسخط وعذاب من الله، فيكره لقاء الله فيكره الله لقاءه.
قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: أشترط عليكم شروطاً ثلاثة لمن أراد أن يجلس في مجلسي، شروط ليتنا اشترطناها في مجالسنا اليوم، قال: إذا جلستم في مجلسي فأنا أشترط عليكم شروطاً ثلاثة: أولها: لا تتكلموا في الدنيا.
ثانيها: لا تغتابوا أحداً في مجلسي.
ثالثها: لا تمزحوا عندي أبداً.
فكانوا يتذاكرون الموت وسكراته، والقبر وظلماته، حتى إذا انفضوا كانوا كمن قام عن جنازة.
لا عجب! في آخر اللحظات ودع وهو يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، سيأتي اليوم الذي ستُمدد فيه على فراشك تريد أن تودع الصغير فلا تستطيع تريد أن تودع الكبير فلا تستطيع وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
ليت شعري كيف يكون الحال في تلك الساعة، يوم تشخص العينان وتبرد الأطراف واليدان، وتلتف الساقان، تريد أن تتكلم فلا تستطيع، تريد أن تقول فلا تستطيع {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21].(39/2)