لازلنا نتدارس شناعة البدعة في الإسلام وأنها توجب للإنسان سوء الختام نسأل الله أن يحسن ختامنا وأن يتوفانا وهو راض عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وقد تقدم معنا إخوتي الكرام أن هذا المبحث سنتدارسه ضمن ثلاثة أمور:
أولها: في تعريف البدعة.
وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.
وثالثها: في أقسام البدعة.
وقد انتهينا من المبحث الأول مع التعليق عليه بما فتح الله عز وجل وقد تقدم معنا أن البدعة هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن وذلك الحدث المحدث لا تشهد له نصوص الشرع الحسان ولم يقل به أحد من أئمتنا الكرام. وننتقل في هذه الموعظة المباركة إخوتي الكرام إلى مدارسة الأمر الثاني ألا وهو:
"النصوص التي تحذر من البدعة" تحذر من الهوى والابتداع وتأمرنا بالإقتداء بخاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.(93/2)
إخوتي الكرام: إن ديننا يقوم على دعامتين اثنتين وعلى ركنين ركينين أحدهما: إخلاص لربنا وثانيهما: اقتداء بنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهذان الركنان الركينان والدعامتان المتينتان هما مدلول كلمة التوحيد في الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا إله إلا الله إخلاصنا لربنا وعبادتنا له وحده لا شريك له محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام إقتداؤنا بنبينا وإتباعنا له فمعبودنا هو الرحمن وإمامنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ودين الله من أوله لآخره يقوم على هاتين الدعامتين كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فقال دين الله منحصر في هاتين الجملتين إياك أريد بما تريد إياك أريد فمن لمن يرد الله المجيد سبحانه وتعالى بأفعاله وبحركاته وسكناته فهو من أهل الشرك والرياء ومن لم يتبع خاتم الأنبياء على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه فهو من أهل الزيغ والابتداع والأهواء فلابد من إخلاصٍ لله عز وجل ومتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: فكل من انحرف عن اتباع نبينا عليه الصلاة والسلام فهو مبتدع فهو صاحب زيغ وهوى سواء فرّط أو أفرط كما تقدم معنا في تعريف البدعة.
إخوتي الكرام: وقد جاءت نصوص القرآن تأمرنا باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام وتحذرنا من مخالفته وتتابعت الأحاديث التي تقرر هذا الأمر كما تتابع أئمتنا الكرام على وصية هذه الأمة بهذا الأمر.
أما آيات القرآن التي تأمرنا بطاعة نبينا عليه الصلاة والسلام لئلا نكون من المبتدعين اللئام فهي كثيرة كثيرة وقد كنت ذكرت بعضها فيما تقدم في أول موعظة عند ذكر البدعة وأحاول في هذه الموعظة أن أذكر شيئا لم يتقد ذكره بعون الله جل وعلا.(93/3)
إخوتي الكرام: أمرنا الله جل وعلا باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام لئلا نكون من الزائفين والمبتدعين فقال ذو العزة والجلال في سورة الأنفال "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون. ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" (الأنفال/20-24) .
"استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" قيد لبيان الواقع ولا يمكن أن تصدر الدعوة من الله جل وعلا ونبيه عليه الصلاة والسلام على خلاف ذلك "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم" فدعوة الله ودعوة نبيه خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه فيما هذا الأمر وهي حياتنا في هذه الحياة حياة حقيقية آمنة مطمئنة توصلنا إلى السعادة والحياة الحقيقية أيضا بعد الممات "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" (الأنفال/24) .
والآيات في ذلك كثيرة إخوتي الكرام منها قول ذي الجلال والإكرام في سورة الحشر: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب" (الحشر/7) .
ما أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام ينبغي أن نأخذه وأن نتبعه وأن نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه وقد ربط الله جل وعلا محبته باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام كما علق رحمته باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام والإقتداء به على الدوام فقال جل وعلا: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" (آل عمران/31) .(93/4)
وهكذا رحمة الله تكون لمن اقتدى بخير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقد أشار الله إلى هذا الأمر في سورة الأعراف عندما حكى ما جرى من كليمه ونجيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من مناجاة بينه وبين ربنا الرحمن مع وفده الذين اختارهم مع قومه كانوا سبعين رجلاً يقول الله جل علا مخبراً عما جرى في تلك المناجاة من ذلك قول الله جل وعلا حكاية كما قلت عن كليمه ونجيه ونبيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول نبي الله موسى كما حكاه الله جل وعلا عنه: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، (تبنا إليك ورجعنا إليك) قال: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون".
ثم بين من يتصفون بهذه الصفات فقال جل وعلا: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/157) .
رحمة الله تكون لهؤلاء والفلاح يكون لهؤلاء الذين يتبعون الرسول النبي الأمي على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه "الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" (الأعراف/157) .
وعليه خرج النصارى من هذا الوصف وخرج اليهود من هذا الوصف وخرجت كل أمة ضالة ملعونة من هذا الوصف لا ينال وصف الفلاح ولا يحصل رحمة الله إلا من اقتدى بنبينا خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.(93/5)
إخوتي الكرام: وقد أمرنا الله جل وعلا باتباع صراطه المستقيم الذي أتى به نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام وحذرنا من الخروج عنه فقال جل وعلا في سورة الأنعام: "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" (الأنعام/153) .
وهكذا اخبرنا العزيز الغفور في آخر سورة النور عند وصف المؤمنين وأنهم يتبعون النبي الأمين عليه الصلاة والسلام ويقتدون به في كل حين وحذرهم الله جل وعلا غاية التحذير من مخالفة هذا النبي البشير النذير عليه الصلاة والسلام فمن خالفه فقد عرض نفسه لفتنة الحياة والعذاب بعد الممات قال الله جل وعلا: "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستئذنوه إن الذين يستئذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استئذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم إن الله غفور رحيم. لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم لدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" (النور/62-63) .
قوله تعالى: "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" المصدر هنا "دُعاء" "لا تجعلوا دعاء الرسول" إما أن يكون مضافا إلى الفاعل فلا تجعلوا دعاء الرسول لكم إذا دعاكم للاجتماع لا تجعلوا هذا الدعاء منه كما هو الحال في دعاء بعضكم لبعض وإن شئتم حضرتم وإن شئتم تخلفتم وإن شئتم بعد الحضور فارقتم هذا المجلس هذا يكون فيما بينكم أما هذا النبي عليه الصلاة والسلام إن دعى فالإجابة واجبة وإذا حضرت فما ينبغي أن تتخلف وأن تخرج وأن تفارق إلا بإذن منه عليه الصلاة والسلام.(93/6)
"لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً" والآية تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول لا تجعلوا دعاءكم للرسول علية الصلاة والسلام ومناداتكم له عندما تنادونه لا تجعلوا هذه المناداة وهذا الدعاء كما ينادي بعضكم بعضا فإياك ثم إياك أن تقول يا محمد يا ابن عبد الله لا يصح هذا، هذا رسول الله خير خلق الله عليه الصلاة والسلام قل يا نبي الله يا رسول الله يا أفضل خلق الله فلا تنادوا رسول الله عليه الصلاة والسلام كما ينادي بعضكم بعضا "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ".
وقد نص الإمام ابن حجر الهيثمي على أن من ذكر النبي عليه الصلاة والسلام وأضافه إلى أبيه ولم ينعته بنعت النبوة والرسالة فينبغي أن يعزّر وأن يؤدب التأديب البليغ عندما يقول قال محمد بن عبد الله، يا عبد الله ألا تنعته بما نعته رب العالمين "محمد رسول الله " عليه الصلاة والسلام "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين" (الأحزاب/40) .
فإذا ذكرته قل: " قال حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام " قال رسول الله " " قال خاتم أنبياء الله " على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه. ولا يضاف إلى أبيه إلا عند بيان نسبه عليه صلوات الله وسلامه وما عدا هذا "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا" فإذا دعاكم لدعوته شأن وإذا دعوتموه فتأدبوا غاية التأديب مع هذا النبي الحبيب عليه الصلاة والسلام "لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً" – يختفون ويلوذ الواحد بالآخر ليخرج من الاجتماع الذي دعاهم إليه خاتم الأنبياء – عليه صلوات الله وسلامه – وهذا يحصل من المنافقين.(93/7)
"قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" – أن تصيبهم فتنة في هذه الحياة بلية ومصيبة عظيمة فاقرة تهلكهم، أن تصيبهم فتنة في دينهم فيخرجوا عن دين ربهم عز وجل وأي فتنة أعظم من مخالفتهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
إخوتي الكرام: هذه بعض نصوص القرآن تأمرنا بالاقتداء واتباع نبينا عليه الصلاة السلام وتحذرنا من مخالفته عليه الصلاة والسلام وقد جاءت الأحاديث الكثيرة تقرر هذا الأمر وتبينه وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يغرسه في الأمة على الدوام فكان إذا خطب عليه الصلاة والسلام في كل جمعة يوصي عباد الله بهذا الأمر ألا وهو: أن سنته هو الهدى فمن تبعها فقد اهتدى ومن انحرف عنها فهو على ضلال وردى.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام النسائي في سننه وابن ماجه في سسنه أيضا والبغوي في شرح السنة والإمام الآجري في كتاب الشريعة وهو حديث صحيح صحيح فهو في صحيح مسلم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب إذا قام خطيباً يخطب فيهم الجمعة احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ثم يقول أما بعد إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد عليه الصلاة والسلام وشر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة في ضلالة.
زاد الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح: وكل ضلالة في النار. إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد خير خلق الله عليه الصلاة والسلام وشر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. كان هذا الكلام حق يقول نبينا المختار عليه الصلاة والسلام في كل جمعة إذا خطب المسلمين يغرس هذا المعنى في قلوبهم.(93/8)
"أصدق الحديث كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم وهو الذي يهدي للتي هي أقوم وخير الهدى وخير الهدى هدي نبينا عليه الصلاة والسلام. وشر الأمور المحدثات المبتدعات وكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
نعم إخوتي الكرام كل من اخترع شيئا في دين الله ولم يأذن به الله فهو مردود عليه ولا يقبله الله جل وعلا.
ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه وأبو داود في سننه والبغوي في شرح السنة أيضاً ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة وهو في أعلى درجة الصحة فهو في الصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" مردود عليه لا يقبل الله عز وجل.
وفي رواية في صحيح مسلم وقد علقها البخاري في صحيحه بصيغة الجزم وهي أيضا في كتاب السنة لابن أبي عاصم: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" وفي رواية في سنن أبي داود "من صنع أمراً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ " "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" "من صنع أمراً ليس عليه أمرنا فهو ردّ " مردود عليه لا يقبل عند الله جل وعلا.
إخوتي الكرام: كما قلت كان نبينا عليه الصلاة والسلام يغرس هذا المعنى ويؤكد عليه في كثير من المناسبات لتكون الأمة على وعي تام ولتريد بعبادتها وجه الرحمن كما جاء بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام فلا يقبل العمل عند الله إلا إذا أخلصت فيه لله واتبعت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إخوتي الكرام: كما قلت هذا الأمر كان يوصي به نبينا عليه الصلاة والسلام الصحابة الكرام وأمته على الدوام.(93/9)
ثبت في المسند والحديث رواه أهل السنن الأربعة إلا النسائي ورواه الإمام البغوي في شرح السنة ورواه الإمام الدارمي في سنته وهو في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ورواه الإمام أو نعيم في حلية الأولياء ورواه الإمام البيهقي عليه وعلى أئمتنا جميعا رحمة الله في كثير من كتبه رواه في السنن الكبرى وفي المدخل لى السنن ورواه فغي دلائل النبوة ورواه في شعب الإيمان ورواه في كتاب الاعتقاد ورواه الإمام ابن أبي عاصم في كتاب السنة والإمام الآجري في الشريعة والإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وهو مروي في غير ذلك من دواوين السنة والحديث صحيح صحيح إسناده كالشمس في رابعة النهار من رواية أبي نجيح العرباص بن سارية رضي الله عنه قال: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع فأوصنا (كأنها موعظة مودع فأوصنا شعر الصحابة من حرقة نبينا عليه الصلاة والسلام واشتداده في الموعظة في آخر حياته شعروا أنه يوصيهم لأنه أجله قد اقترب عليه الصلاة والسلام حتى اجتهد هذا الاجتهاد في وصية هذه الأمة لتكون على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك كأنها موعظة مودع فأوصانا) قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة.(93/10)
نعم ديننا يقوم على كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام كما فهم ذلك سادتنا وأئمتنا وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين فمن جرد القرآن عن السنة فهو ضال ومن جرد القرآن والسنة عن فهم سلفنا فهو ضال فلا بد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة: كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حسبما فهم سلفنا الكرام الخلفاء الراشدون المهديون ومن سار على نهجهم الميمون فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة.
وتقدم معنا في رواية النسائي في حدي جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وكل ضلالة في النار إخوتي الكرام كان نبينا عليه الصلاة والسلام يوصينا بهذا الأمر على الدوام ويحذرنا من مخالفته عليه الصلاة والسلام والخروج عن سنته في أي أمر من الأمور فذلك ضلال وثبور.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه الإمام الآجري في الشريعة والبزار في مسنده وابن أبي عاصم في السنة ورواه الإمام اللالكائي في شرح السنة من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقد روى الحديث هؤلاء أيضا باستثناء ابن حبان والحاكم وزيادة ابن ماجه فهو في المسند وسنن ابن ماجه وأخرجه من تقدم ذكرهم من رواية جابر بن عبد الله فهو من رواية عبد الله بن مسعود ومن رواية جابر بن عبد الله وكما قلت هذه المصادر الحديث مروي فيها عن هذين الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.(93/11)
وأما حديث عبد الله بن مسعود فقد روى أيضا في غير المصادر التي تقدمت من دواوين السنة رواه الإمام الطبري في تفسيره والإمام الطيالسي في مسنده ورواه البغوي في شرح السنة وفي معالم التنزيل ورواه الخطيب في تاريخ بغداد والحديث صحيح وقد بحث الإمام ابن كثير في إسناد هذا الحديث وحقق درجته ومكانته وقد جرى كلام حول إسناد حديث جابر فيشهد له حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
أنظروا كلامه إن شئتم إخوتي الكرام في تفسيره 2/190 عند الآيةالتي سيقرؤها نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذكر هذا الحديث الشريف ولفظ الحديث كما قلت من روايةابن مسعود وحديث جابر بمعناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا مستقيما ثم قال هذا صراط الله مستقيما ثم خط النبي عليه الصلاة والسلام خطوطا متعددة عن يمينه وعن شماله (عن يمين هذا الخط عن شماله) وقال: هذه هي السبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليها ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون" (الأنعام /153) وأن هذا صراطي مستقيما.
ولذلك إخوتي الكرام: لابد للإخلاص من التباع وإخلاص من غير اتباع لا يقبل عند خالق الأشياء رب الأرض والسموات سبحانه وتعالى وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يعالج وقائع كثيرة جرت في زمنه المباركة من قبل بعض الصحابة الكرام دفعهم إلى تلك الوقائع والحوادث إخلاصهم لربهم جل وعلا وطلبهم التقرب لديه.(93/12)
ولكن في بعض تلك الحوادث والوقائع انحراف عما أتى به نبينا صلى الله عليه وسلم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه تلك الحوادث ويضع المنهج الصحيح للأمة والذي ينبغي أن تسير عليه وإليكم بعض هذه الحوادث التي هي ثابتة في دواوين السنة منها ما ثبت في المسند والصحيحين والحديث رواه الإمام النسائي في السنن ورواه ابن سعد في الطبقات ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها ثم قال بعضهم لبعض (معتذرا لنبينا عليه الصلاة والسلام من عدم اجتهاده صلى الله عليه وسلم في عبادة الرحمن على حسب توهمهم) قال بعضهم لبعض أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ونحن ليس لنا هذه المنقبة والمكانة فينبغي أن نبذل جهداً لا يبذله صلى الله عليه وسلم ثم قال بعضهم أما أنا فأصلى الليل ولا أنام قال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر: أما أنا فأعتزل النساء فلا أتزوج. فلما أخبر النبي عيه الصلاة والسلام بمقالتهم جمعهم وقام في الصحابة خطيبا فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم وقال: "ما بال أناس يقولون كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له".
وثبت في الصحيحين من رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية".(93/13)
ومرد الكمال إلى قوتين اثنتين لا ثالث لهما قوة علمية نظرية وقوة علمية طلبية وقد اجتمعتا في نبينا خير البرية صلى الله عليه وسلم على وجه التمام فهو أعرف الخلق بالحق جل وعلا وهو أعبد الخلق للحق جل وعلا أنا أعلمكم بالله وأشد منكم خشية..أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ... انتبه لختام الحديث فمن رغب عن سنتي فليس مني..من رغب عن سنتي فليس مني هذا ممن يعبد هواه ولا يعبد مولاه وينبغي أن نعبد الله بما يريد لا بما نريد نحن أعبد الله كما بين على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وثبت في سنن الترمذي والحديث رواه الحاكم في المستدرك ورواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه البزار في مسنده وإسناده صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر حتى مررنا بشعب فرأى بعض الصحابة عُيينة من ماء..عين صغيرة تنبع ماء عذباً..فأعجبه حالها وفكر في نفسه أن يمكث عندها ليتعبد الله عز وجل لكن من صلاح قلبه وحبه لنبيه عليه الصلاة والسلام قال: لن أنفذ ما عزمت عليه حتى أعرض الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم فعرض حاله على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعب المنعزل فيه عيينه من ماء أقيم عنده أعبد رب الأرض والسماء واعتزل الدنيا وما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل..فإن مقام أحدكم في الصف خير له من عبادته لربه في بيته سبعين عاماً إذا قمت ساعة في الصف في صف المؤمنين لمقاتلة أعداء الله المجرمين إذا قمت ساعة فقط هذا خير من أن تعبد الله سبعين عاما ثم قال: ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويرحمكم ويدخلكم الجنة قال بلى يا رسول الله قال: قاتلوا في سبيل الله فوالذي نفسي بيده على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه "من قاتل في سبيل الله فُواق ناقةٍ وجبت له الجنة".(93/14)
والفواق والفواق بفتح الفاء وضمها وبها قرئ قول الله جل وعلا في سورة ص: "وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من فواق" قرأ حمزة والكسائي وخلف " مالها من فواق" " والفُواق والفَواق " قال الإمام الفرَّاء: هما بمعنى واحد فهو بمعنى الاستراحة والراحة وهو بمعنى التردد والرجوع وحقيقة في لغة العرب الفُواق والفَواق هو الوقت الذي يكون بين الحلبتين إذا حلب الإنسان الشاة..حلب الناقة عندما يضغط على ثديها فيخرج اللبن ثم بعد ذلك يرخي يده ليضغط مرة أخرى هذه الفترة التي هي بين الحلبتين يقال لها: فَواق يقال لها فُواق. إخوتي الكرام وتفسير الفُواق /الفَواق بما ذكرت هو أحد التفسيرين باللفظ المذكور كما ذكر علماء اللغة وعلماء الشريعة المطهرة في كتب التفسير والحديث الشريف.
ففي القاموس وشرحه تاج العروس وفي لسان العرب يقول علماء اللغة الفُواق بالضم كبُراق ويفتح الفَواق يطلق على أمرين
الأمر الأول: ما بين الحلبتين من الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب يقال ما أقام عنده إلا فُواقاً إلا فُواقاً أي إلا وقتا يسيراً.
الأمر الثاني: الذي يطبق عليه لفظ الفواق الفَواق يطبق أيضا على ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع فهذا الوقت الذي يكون ما بين قبض الحالب على الضرع ثم إرساله عند الحلب يسمى فَواقاً وفُواقاً أيضاً.
إخوتي الكرام: وقد ورد هذا المعنى عن نبينا عليه الصلاة والسلام أحاديث كثيرة وفيها بيان عظيم ثواب المجاهدين عند رب العالمين.(93/15)
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة والحديث رواه الإمام الدارمي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن الكبرى ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في جمع الجوامع والحديث قد صححه الإمام الترمذي والحاكم وأقره عليه الإمام الذهبي رحمة الله عليهم جميعاً والحديث من رواية معاذ بن جبل أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قاتل في سبيل الله فُواق ناقة وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل في سبيل الله صادقا من نفسه ثم مات أو قتل كان له أجر شهيد ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نُكِب نكبة فلأنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك ومن خرج به خرّاج في سبيل الله فعليه طابع الشهداء".
والأحاديث كما قلت في ذلك كثيرة منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده وابن زنجوية كما في جمع الجوامع من رواية عمرو بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل في سبيل الله فُواق ناقة حرم الله على وجهه النار" ومن قاتل في سبيل الله وقتا قصيراً بمقدار ما بين الحلبتين من وقت دقائق /ثوانٍ وجبت له الجنة، فهذا خير لك يا عبد الله من أن تعبد الله في هذا المكان ولذلك قال له نبينا عليه الصلاة والسلام: "لا تفعل ".
إخوتي الكرام: إن شأن الجهاد عظيم وحقيقة ينبغي أن نتدارس أمره ومنزلته في هذا الحين فقد عطل الجهاد في البلاد في هذه الأوقات وسيأتينا منزلة هذه الشعيرة التي عطلها أعداء الله جل وعلا. وركنوا إلى الحياة الدنيا وطاب لهم العيش في هذه الدنيا مع الكافرين من اليهود الملعونين والنصارى الضالين وبقية أصناف الكفرة المجرمين نسأل الله تعالى أن يفرج عن المسلمين وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدا وإنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام هذا الصحابي الجليل أراد أن ينعزل في ذلك المكان لعبادة الرحمن فنهاه نبينا عليه الصلاة والسلام وأمره بلزوم الجماعة وإتباع السنة.(93/16)
نعم إخوتي الكرام من أراد أن يزكي نفسه أراد أن يهذبها أراد أن يصلحها بشرع الله لا برأيه ولا بهواه فإذا أراد الإنسان أن يسيح ما عندنا ما عندنا سياحة كسياحة الرهبان الذين اعتزلوا في الأديرة والصوامع والكهوف والمغارات فلعب بهم الشيطان كما يلعب الصبيان بالكرة فلعب بهم الشيطان كما يلعب الصبيان بالكرة عندنا سياحة عظيمة يسيح الإنسان فيها ألا وهي "الجهاد في سبيل الله".
وقد أخبرنا عن ذلك نبينا خير خلق الله عليهم الصلاة والسلام. ففي سنن أبي داود ورواه الحاكم في المستدرك ورواه البيهقي في السنن الكبرى وفي شعب الإيمان ورواه سموّيه في فوائده ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ورواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الجهاد وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي أمامة رضي الله عنه إن رجلا جاء إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله: إيذن لي في السياحة فقال له عليه الصلاة والسلام " سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " وهكذا عندما كان يشكوا إليه بعض الشباب أحوالهم وأنهم يجدون ضغطاً من العزوبة فكان نبينا عليه الصلاة والسلام يرشدهم إلى ما يزكون به نفوسهم ولا داعي بعد ذلك إلى معالجات رديئة شيطانية.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة وإسناد الحديث رجاله ثقات من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الخصاء أن يختصي لأنه شاب يشتكي من العزوبة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "خصاء أمتي الصيام والقيام".(93/17)
والأحاديث وردت في هذا المعنى كثيرة منها ما ثبت في مسند الإمام أحمد وفي الإسناد رجل لم يسمّ ويشهد له ما تقدم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلا جاء يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام في الخصاء فقال له النبي عليه الصلاة والسلام "صُم واسأل الله من فضله" فهذا الصيام وهذا القيام يستأصلان ما في النفس من شهوات وأوهام "صم واسأل الله من فضله".
وفي معجم الطبراني الكبير وفي الإسناد عبد الملك بن قدامة الجمحي وثقه ابن معين وغيره والجمهور على تضعيفه وقد حكم الحافظ عليه في التقريب بأنه ضعيف وهو من رجال سنن ابن ماجه ولفظ الحديث من رواية عثمان بن مضعون رضي الله عنه أنه جاء يستأذن النبي عليه الصلاة والسلام في الإختصاء أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا" عليك بالصوم فإنه مخفرة "أي حصن " حصن باعث على الحياء والخشية من رب الأرض والسماء وهو حصن منيع عليك بالصوم فإنه مخفرة " فهؤلاء الصحابة الكرام رضي الله عنهم عندما وقع في أنفسهم ما وقع وأرادوا أن يعالجوا ذلك /تلك الوقائع بحسب اجتهاداتهم طلبا لرضوان ربهم نهاهم نبينا عليه الصلاة والسلام وأمرهم بالاقتداء بسنته.
ويشهد للأحاديث المتقدمة في أرشاد النبي صلى الله عليه وسلم من يشتكي العزوبة ويريد أن يتخلص منها يشهد لها الحديث الصحيح الثابت في مسند أحمد والصحيحين والسنن الأربعة وهو في صحيح ابن حبان والسنن الكبرى للبيهقي وهو في أعلى درجات الصحة من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".(93/18)
هذه آيات القرآن تأمرنا باتباع نبينا عليه الصلاة والسلام وتحذرنا من مخالفته ومن الابتداع في دين الرحمن وهذه أيضا أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تأمرنا بالاقتداء به وتحذرنا من الابتداع ومن مخالفة نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى هذا الأمر تتابع سلفنا الكرام فكانوا يوصون بالتزام السنة ويحذرون من مخالفتها من البدعة ويبينون أن من اقتصد وكان على سنة فهو خير وأفضل ممن اجتهد وكان على هوى وبدعة.
ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي وفي معجم الطبراني الكبير وسنن الدارمي والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي ورواه الإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة الكرام عن سيدنا أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة " فإذا كنت على السنة فمهما قل جهدك في النوافل والتطوع ومهما قل نشاطك واجتهادك فأنت على هدى ما دمت تتبع سنة المصطفى عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فإذا ابتدعت وعبدت ربك على حسب رأيك فكلما ازددت اجتهادا ازددت من الله ابتعاداً الاقتصاد في السنة من الاجتهاد في البدعة وهذا الكلام مروي عن سيد القراء أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه وأثر أبي رواه الأئمة الكرام أبو نعيم في حلية الأولياء وابن الجوزي في تلبيس إبليس واللالكائي في شرح أصول أهل السنة الكرام أنه قال أيضا "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة".
وثبت في كتاب "ذم البدعة والنهي عنها" لإبن وضاح والأثر نقله الإمام أبو شامة في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" ونقله الإمام الشاطبي في الاعتصام عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".(93/19)
وثبت عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما في سنن الدارمي وذم البدعة لابن وضاح والحديث رواه الإمام الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه " أن رجلا قال له أوصني قال نعم "عليك بتقوى الله والاستقامة اتبع ولا تبتدع".
وثبت عن أمين سر هذه الأمة حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال "يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيداً فإن أخذتم يميناً وشمالا فقد ضللتم ضلالا بعيداً " وأثره رواه الإمام البخاري في صحيحه وأبو نعيم في الحلية ورواه ابن وضاح في ذم البدعة ورواه الإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة ورواه عبد الله ولد الإمام أحمد عليهم جميعا رحمة الله.
يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم (بصيغة المبني للمعلوم) أي إن استقمتم فقد سبقتم سبقاً بعيداً ونلتم عند الله منزلة عالية وبصيغة المبني للمجهول استقيموا فقد سُبِقتم سبقاً بعيداً أي ممن قبلكم وكانوا على الهدى التام فلا داعي لتغيير ما كان عليه السلف الكرام اقتدوا بآثارهم فهم أسبق إلى كل خير ممن جاء بعدهم استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً فقد سُبقتم سبقاً بعيداً فإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً.(93/20)
إخوتي الكرام: والآثار في ذلك كثيرة عن سلفنا الكرام فها أيضاً ما ثبت عن سيد المسلمين في زمانه سفيان الثوري أنه كان يقول: "البدعة احب إلى إبليس من المعصية " وسفيان الثوري هو سيد المسلمين في زمانه توفي سنة 161هـ حديثه مخرج في الكتب الستة وهذا الأثر عنه يرويه الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس واللالكائي في شرح أصول أهل السنة والجماعة البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. ثم علل ذلك فقال: المعصية يُتاب منها والبدعة لا يتاب منها لأن المبتدع يزعم أنه على هدى وأنه يعبد مولاه وهو في واقع الأمر يعبد هواه ولذلك يؤثر الشيطان إيقاع الناس في البدعة على إيقاعهم في المعصية فالبدعة معصية لكن المبتدع يزعم أنه طائع لربه وهو يعبد الشيطان البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن البدعة لايتاب منها والمعصية يتاب منها.
هكذا كما قلت إخوتي الكرام تتابعت النصوص عن سلفنا الكرام في التحذير من البدعة وهذا العبد الصالح أيوب السختياني توفي سنة 131هـ وحديثه مخرج في الكتب الستة وهو من شيوخ أهل السنة الكبار يقول: "ما ازداد عبد في البدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله ابتعاداً " وهذا الأثر يرويه الإمام ابن الجوزي عنه وهكذا ابن وضاح في كتاب ذم البدعة "ما ازداد عبد في البدعة اجتهاداً يعبد الله على رأيه على هواه إلا ازداد من الله ابتعاداً" ولذلك من حفظ من البدعة فليحمد الله وكان سيد المسلمين في زمانه الإمام في التفسير وفي الفقه وفي الزهد وفي الورع والعبادة أبو الحجاج مجاهد بن جبر (ت102هـ/103هـ/104هـ) وحديثه في الكتب الستة وكان يقول "ما أدري أي النعمتين عليّ اعظم، أن هداني الله للإسلام أو حفظني من الأهواء والأوهام.(93/21)
نعم إخوتي الكرام: إن نعمة الإسلام عظيمة وإن نعمة إتباع نبينا عليه الصلاة والسلام عظيمة عظيمة فإذا دخل الإنسان في دائرة الإسلام ثم اتبع هواه وعبد الله كما يريد هو لا كما يريد ربه لا يزداد من الله إلا بعداً ولذا روى الإمام ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس في مقدمة كتابه بسنده إلى سيد المسلمين في زمانه الإمام أبي عمر الأوزاعي وحديثه مخرج في الكتب الستة أيضا (ت157هـ) أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقال لي يا أبا عمرو أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قلت بفضلك يا رب ثم قلت: ربي أمتني على الإسلام قال: يا أبا عمرو قل وعلى السنة ربي أمتني على الإسلام قل وعلى السنة.
إخوتي الكرام: ورؤية الله ذي الجلال الإكرام في المنام واقعة مشروعة جائزة باتفاق أهل السنة الكرام كما قرر ذلك الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي 3/390 وأن كل واحد إن رأى ربه في منامه يراه على حسب إيمانه ونقل الحافظ في الفتح 12/387 إجماع أهل السنة على جواز رؤية الله في المنام وهذا العبد الصالح شيخ الإسلام عندما رأى رب العزة في المنام وقال له: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال: بفضلك يارب ثم قال: رب أمتني على الإسلام قال قل وعلى السنة نسأل الله أن يشرح صدورنا للإسلام وأن يوفقنا لإتباع نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يمن علينا برؤية نور وجهه الكريم في غرف الجنان إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(93/22)
إخوتي الكرام: إن الملك الذي كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام سار عليه سلفنا الكرام تغير فيما جاء بعد ذلك الوقت من أزمان ولما آل إليه الأمر إلى زمن الإمام المبجل أحمد بن حنبل وكثرت البدع والحوادث كان يقول كما نقل عنه تلميذه الخلال في كتابه "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" ص113 يقول إمام أهل السنة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا "إذا رأيتم شيئاً مستقيماً فتعجبوا" تكدرت الأحوال بعد ذلك وانحرف الناس عن سنة الهدى وتبعوا البدع والردى وصار ما عليه الناس أهواء وبدعة والسنة قليلة غريبة بين الناس فإذا رأيتم شيئاً مستقيماً فتعجبوا إذا رأيتم شيئاً مستوياً فتعجبوا.
وكان أئمتنا الكرام رحمهم الله يوصون بالعطف على أهل السنة في كل وقت فهم حقيقة غرباء بين الناس. يقول سفيان الثوري رحمه الله كما في تلبيس إبليس وكتاب شرح أصول أهل السنة للإمام اللالكائي يقول: "استوصوا بأهل السنة خيراً ساعدوهم وأعينوهم فإنهم غرباء" نعم إنهم غرباء.(93/23)
والذي يتبع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام في العصور المتأخرة غريب لأن الناس أحدثوا ما أحدثوا من البدع والضلالات وكان العبد الصلاح يونس بن عبيد (ت139هـ) وحديثه في الكتب الستة وكان الناس في زمانه إذا توسلوا إلى الله تعالى جل وعلا يتوسلون بربوبيته ليونس بن عبيد فيقولون يارب يونس فرج عنا، يارب يونس أغثنا، يارب يونس انصرنا هذا العبد الصلاح قال لأصحابه مرة أتدرون من الغريب؟ قالوا ومن أيها الإمام: قال: الغريب من إذا عُرِّف السنة فعرفها ثم قال أتدرون من الأعزب؟ (الغريب إذا عرفته السنة يعرفها لا ينكرها ولا يردها ولا يجحدها لا يجادل في ردها) نعم وهذا الوصف لعلك لا تجده في هذه الأيام واحد من ألف إن لم يكن من مائة ألف إذا ذكرت له السنة ينكس رأسه ويقول سمعاً وطاعة فهذا غريب وأكثر الناس يشتطون ويكثرون اللغط عندما تعرض سن نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الغريب فمن الأغرب؟ قال: الأغرب هو معرف السنة والداعي إليه الغريب والأغرب تعرفون من الغريب.(93/24)
الغريب من إذا عرّف السنة عرفها هذا غريب نادر إنسان ينصف وإذا عرضت عليه ما ثبت بشرع الله المطهر وقرره أئمتنا البررة يسلّمُ له ولا يعترض هذا غريب والأغرب منه هو الذي يدعوا إلى إتباع السنة ولذلك قال العبد الصالح إبراهيم إسحاق أبو إسحاق الحربي (ت285هـ) انظروا ترجمته الطيبة في طبقات الحنابلة لأبي يعلى 1/89 فما بعدها وهذه القصة في هذا المكان وترجمة الإمام الذهبي في السير 13/360 فما بعدها وهذه في هذا المكان ص360 من ترجمته قال مرة لأصحابه من الغريب؟ فقال بعضهم الغريب هو من نآى عن وطنه، فقال: ما قلتم شيئاً ثم قال من الغريب؟ قالوا: الغريب من فارق أصحابه وأحبابه وابتعد عنهم قال: ما قلتم شيئاً قالوا فمن الغريب؟ أبا إسحاق، قال: الغريب إنسان صالح كان بين قوم صالح إن أمر بالمعروف أعانوه وإن نهى عن المنكر آزروه وإذا احتاج إلى سبب ساعدوه ومانوه ثم ماتوا وتركوه بقي بمفرده هذا هو الغريب.
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقي الذين حياتهم لا تنفع
هذا هو الغريب.(93/25)
وأبو إسحاق الحربي رحمه الله صاحب كتاب الغريب في الحدث الإمام المتواضع العابد القانت لما قال له بعض تلاميذه بلغه عن بعض تلاميذه أنهم يفضلونه على الإمام أحمد دعاهم وقال: "تفضلونني على من لا أُشبهه والله لا أحدّثكم بعد ذلك فلا تعودوا إليّ "انظروا لهذا الإنصاف وهذه الديانة تفضلونني على الإمام أحمد ولا أشبهه ليس بين وبينه شبه، وهو النجم العالي ونحن في السافل ثم أنتم تفضلونني عليه. والله لا أحدثكم أبداً، ولما دخل على القاضي الصالح إسماعيل قال محمد بن يوسف أحد القضاة فأخذ حذاء أبي إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي ومسحه وهو القاضي في زمانه فقال له أعزّك الله في الدنيا والآخرة فلما مات محمد بن يوسف القاضي رحمه الله وهو غير أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين رئى في النوم بعد موته وهو في خالة حسنة فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أعزني الله تعالى في الدنيا والآخرة بدعوة الشيخ الصالح أبي إسحاق " أعزّك الله في الدنيا والآخرة " هذا هو الغريب الذي كان بين قوم صالحين يساعده على الأمر بالمعروف ويؤازره على النهي عن المنكر ويساعده في أمور الحياة ثم فارقوه وبقي بمفرده حقيقة هذا هو الغريب.
إخوتي الكرام: أئمتنا تتابعوا على هذا القول الذي يبينون فيه إن المتمسك بالسنة غريب غريب يقول أبو بكر بن عياش وأثره مروي في تلبس إبليس للإمام ابن الجوزي وفي شرح أصول أهل السنة للإمام اللالكائي أبو بكر بن أبي عياش (ت194هـ) وحديثه في الكتب الستة من الأئمة الصالحين الربانيين كان يقول: "أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام بين سائر أهل الأديان " أي هؤلاء غرباء كما أن المسلم غريب عند اليهود والنصارى السني غريب عند أهل الإسلام أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام عند سائر أهل الأديان".(93/26)
إخوتي الكرام: هذه البدعة ينبغي أن نحذرها وغربة الدنيا أيسر من عذاب الآخرة وقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقع في الشبهات وهي البدع والأهواء الرديات كما خشي علينا أن نرتع في الشهوات والشيطان يصول ويجول ويقبل ويدبر ويكر على القلوب في كل وقت ليوقعها في شهوة أو في شبهة وهما منبع كل آفة.
ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار والحديث رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة –الصغير والأوسط والكبير – وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى " وهي الشبهة والبدع، شهوة وشبهة.
إخوتي الكرام: وهذا التغير الذي طرأ كما قلت على هذه الأمة والبدعة التي انتشرت فيها سأفصل الكلام في إشارة نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ما سيقع في هذه الأمة من تغير وأبين أقوال الصحابة الكرام وأقوال السلف رضي الله عنهم أجمعين في الموعظة الآتية إن شاء الله تعالى قبل أن ننتقل إلى المبحث الثالث في أقسام البدعة بعون الله.
إخوتي الكرام: لكنني أريد أن أقول مهما انتشرت البدعة وعمت المخترعات والحوادث والأهاء فلن تخلو الأرض من طائفة على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله. نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه وفضله وجوده وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(93/27)
وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الوفيرة منها: حديث أذكره وأختم به هذه الموعظة رواه الإمام الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وجميع رجال الإسناد ثقات أثبات وليس فيهم إلا أبا بشر الراوي عن أبي وائل وهو الراوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو وائل هو صاحب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وروى عنه أبو بشر ولا يعرف لأنه لم يروه عنه إلا راوٍ واحد.
والحديث معناه صحيح ثابت ولفظه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل طيباً وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة " يأكل الحلال ويعبد الله علىحسب شريعة نبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام ويأمن الناس بوائقه وشروره وغوائله وفتنه دخل الجنة. قالوا يا رسول الله هذا كثير فينا كل الصحابة على هذا الوصف يأكلون الحلال يبتعدون عن الحرام ويعملون بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ويعبدون الله على حسب شريعته ولا يؤذون عباد الله من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقه دخل الجنة هذا كثير فينا فقال عليه الصلاة والسلام وسيكون في قرون بعد هذا الوصف أناس يأكلون الحلال يعملون بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام يحسنون إلى عباد الله ولا يؤذونهم.(93/28)
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من هذا الصنف إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضها إليك غير مفتونين اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عملٍ بقربنا إلى حبك اللهم اجعلنا من المحبوبين عندك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلنا من المحبوبين عندك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين إليك اللهم اجعل حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا وأحب غلينا من الماء البارد في اليوم القائظ اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم فرّج عن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.(93/29)
اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا الهم ارحمهم كما ربّونا صغارا اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم أغفر لمن عبد الله فيه اللهم أغفر لجيرانه من المسلمين اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعاء واحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
"والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".(93/30)
خمس خصال في شهر رمضان
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
خمس خصال في شهر رمضان
20
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(94/1)
تقدم معنا أن شهر رمضان هو سيد شهور العام وأفضلها عند ذي الجلال والإكرام وقد فرض الله فيه الصيام على هذه الأمة المرحومة المباركة وعلى الأمم التي سبقتها كما انزل الله في هذا القرآن العظيم وكذلك أنزل سائر كتبه على جميع النبيين المتقدمين على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام: وقد اختص الله القرآن الذي نزل في شهر رمضان بخصائص حسان لا توجد في الكتب السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً الصلاة والسلام فمن تلك الخصائص ما تقدمت الإشارة إليه مجملاً من أن القرآن العظيم نزل في شهر رمضان مرة واحدة ودفعة كاملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ونزل جبريل -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بخمس آيات أيضاً من سورة العلق في شهر رمضان على نبينا – عليه الصلاة والسلام ثم نزل القرآن بعد ذلك مفرقاً يساير الحوادث والوقائع في ثلاث وعشرين سنة وهذه الخِصّيصة خص الله به قرآنه الذي أنزله على افضل أنبياءه ورسله (على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه) .
فالكتب السابقة كانت تزل جملة واحدة على أنبياء الله ورسله (على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه) أما القرآن فحصل فيه هذا المعنى عندما نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم فُرّق في ثلاث وعشرين سنة وهذه خِصّيصة لنزول القرآن لم يشاركه في ذلك أي كتاب سماوي نزل قبل القرآن وقد أشار ربنا الرحمن إلى هذا فلما ذكر اعتراض المشركين على نزول القرآن مفرقاً على نبينا عليه الصلاة والسلام وأرادوا أن ينزل جملة واحدة (وقال الذين كفروا لولا نُزّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .(94/2)
هذا الكتاب يمتاز على الكتب السابقة فلا بد أن يختلف في كيفية نزوله عن نزول الكتب السابقة وما قال الله جل وعلا هذه سنتي في الكتب التي أنزلتها على الأنبياء وقبل محمد على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ولذلك عندما اعترض المشركون على بشرية نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وأنه بشر مثلهم وينبغي أن ينزل عليهم تلك قال الله جل وعلا: "وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا".
فنبيا عليه الصلاة والسلام من البشر وهكذا سائر أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه من البشر، أما القرآن فنزل في كيفية وبكيفية وطريقة تختلف عن نزول الكتب السابقة (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) .
وهكذا اختص الله القرآن أيضاً بحفظه ولم يتعهد الله بحفظ الكتب السابقة "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ومن حفظ الله لكتابه أن يسّر حفظه على الأمة التي نزل عليها هذا القرآن، فقال ربنا الرحمن أربع مرات في سورة القمر: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" فأناجيل هذه الأمة صُدُورهم وهذا القرآن موجود في قلوبهم (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) .
إخوتي الكرام: وكما خص الله القرآن الذي نزل في شهر رمضان بخصائص كثيرة فقد خص الله هذه الأمة المباركة في شهر رمضان بخصائص لا توجد للأمم السابقة أيضاً نعم فرض الله علينا الصيام وفرضه على الأمم السابقة وصومنا وصومهم واحد كما تقدم معنا وهو صوم هذا الشهر الكريم لكن ما أغدق الله علينا من النعم في هذا الشهر ما حصل في الأمم السابقة لكرامة هذه الأمة على الله جل وعلا ولِعُتُوِّ الأمم السابقة وجحودهم وعنادهم وجدالهم لأنبيائهم على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وسأشير إلى ما يقرر هذا مجملاً ثم أتتكلم بعد ذلك بشيء من التفصيل على هذا الموضوع.(94/3)
إخوتي الكرام: ثبت في كتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي والحديث رواه الحسن بن سفيان في مسنده وإسناد الحديث كما قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب مُقارب –بصيغة المبني للفاعل – ويقال بصيغة المبني للفاعل ويقال لصيغة المبني للمفعول مُقاربٌ مُقارَب. وقد اقر الإمام ابن حجر في الفتح قول الإمام المنذري بأن إسناد الحديث مُقَارِبٌ أو مُقَارَبٌ وإذا كان بصيغة اسم المفعول مقارِبٌ أي رجال إسناد هذا الحديث يقاربون غيرهم في الحفظ والإتقان والضبط والأمانة. وإذا كان بصيغة المفعول مُقارَبٌ فرجال الأحاديث الأخرى يقاربون إسناد هذا الحديث ضبطاً وحفظاً وإتقاناً وهذا من ألفاظ التعديل كما قرر أئمتنا في كتب علوم الحديث.. إسناد الحديث مقارِب ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أُعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم يعطها – لم يؤتها- نبي قبلي –أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم يؤتها نبي قبلي:
أما الخصلة الأولى: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم جميعاً ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً.
الخصلة الثانية: فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك.
الخصلة الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة.
الخصلة الرابعة: فإن الله يقول لجنته تزيني واستعدي لعبادي أوشك أن يستريحوا إلى داري وكرامتي.
الخصلة الخامسة: إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان غفر الله لهم جميعاً.(94/4)
فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام: أهي ليلة القدر؟ (قال لا..ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفّوا أجورهم!!) فإذا فرغوا من أعمالهم وفّوا أجورهم هذه خصال أكرم الله بها هذه الأمة المرحومة في شهر الصيام ما أعطاها الله لأمة من الأمم السابقة قبل أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولفظ النظر الوارد في أول خصلة (نظر الله إليهم جميعاً) صفة النظر التي يتصف بها ربنا جل وعلا من الصفات المفيدة بمشيئة الله وقدرته يفعلها متى شاء لمن شاء – سبحان الله – فينظر إلى من شاء ولا ينظر إلى من شاء كما وردت بذلك آيات القرآن وتواترت بذلك الأحاديث الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
ففي سورة آل عمران يقول ذو الجلال الإكرام: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاف لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا تزكيهم ولهم عذاب أليم) فصفة النظر تختلف عن صفة العلم فصفة العلم تتعلق بكل شيء وصفة النظر لا تكون إلا لمن رضي الله عنه وأحبه وأكرمه ينظر إلى هذه الأمة وإذا نظر الله إلى إنسان سيرحمه ولابد.(94/5)
كما ثبت ذلك عن أبي عمران الجَوْني وهو من أئمة التابعين الكبار توفي سنة 123هـ وقيل سنة 128هـ وهو عبد الملك بن حبيب أدرك أنس بن مالك وجندب بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين فهو من التابعين وهو ثقة إمام عدل رضا حديثه مخرج في الكتب الستة نقل أبو نعيم عنه في حلية الأولياء في ترجمته، والأثر ثابت عنه في تفسير ابن أبي حاتم كما ذكر ذلك الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي في الجزء 13 ص 133 عن هذا العبد الصالح أبي عمران الجوني أنه قال: (ما نظر الله إلى عبد إلا رحمه ولو نظر الله إلى أهل النار لرحمهم وأخرجهم منها ولكن قضى عليهم ألا ينظر إليهم) "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لاخلاق لهم في الآخرة ولا يكلهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم".
والأحاديث كما قلت إخوتي الكرام بذلك متواترة أن الله ينظر إلى من رضي عنه ولا ينظر إلى من غضب عليه.
ففي صحيح مسلم والحديث رواه الإمام النسائي أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " شيخ زان وعائل متكبر وملك كذاب " لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. وثبت في المسند والسنن الأربعة وصحيح مسلم، من رواية أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمنان بما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " لا ينظر الله إليهم. فصفة النظر تعيده بمشيئة الله وقدرته ينظر إلى من رضي عنه ولا ينظر إلى من غضب عليه، فتختلف عن صفة العلم، ولذلك أكرم الله هذه الأمة المرحومة بأن نظر الله إليهم في أول ليلة من شهر رمضان ومن نظر الله إليه فلن يعذبه أبداً.(94/6)
إخوتي الكرام: إن الصيام الذي فرضه علينا ذو الجلال والإكرام في شهر رمضان أغدق الله علينا في هذا الشهر من الخيرات والإنعام مال يحصل للأمم السابقة..
إن الصيام يكفر الذنوب ويستر العيوب إن الصيام يحول بينك وبين النيران، إن الصيام سبب لتحصيل الخيرات في العاجل إن الصيام سبب لتحصيل الخيرات في الآجل.. نعم كثيرة أغدقها الله على هذه الأمة سأتكلم على هذه الأمور الأربعة في هذه الموعظة إن شاء الله..
إخوتي الكرام: هذا الصيام يكفر الذنوب ويستر العيوب وهذا من رحمة علام الغيوب بهذه الأمة أن جعل الصيام لهم مكفراً لذنوبهم وساتراً لعيوبهم ثبت في المسند وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام الترمذي في سننه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) مكفرات لما بينهن-في رواية – إذا لم تُفش الكبائر..أي أن هذه الطاعات من الصلاة، والجمعة والصيام تكفر ذنوب الإنسان إذا اجتنب الكبائر المهلكة (وهي كل ذنب أوعد الله عليه بعقوبة شديدة في الآخرة أو عليه حد مقدر في الدنيا) .
وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ذلك في أحاديث كثيرة ففي المسند والكتب الستة (في الصحيحين والسنن الأربعة) من حديث أبي هريرة أيضاً رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ..من صام رمضان مؤمناً بأن الله فرض الصيام وله على عباده حق الطاعة على الدوام واحتسب –أي طلب الأجر من صيامه من ربه جل وعلا له عهد عند الله بأن الله يغفر ما تقدم من ذنبه.(94/7)
زاد الإمام أحمد في المسند في روايته والإمام النسائي في السنن في روايتهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: (غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) وهذه الزيادة رُويت في "تاريخ بغداد" بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
وانظروا الحديث إخوتي الكرام في تاريخ بغداد في الجزء 6/128 وإسناد الحديث صحيح. وقد صحح الإمام المنذري في الترغيب والترهيب هذه الزيادة وصححها الحافظ ابن حجر في كتابين من كتبه في فتح الباري، وفي الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة وقد نص على تصحيحها شيخ الإسلام أيضاً الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد وعليه ما قاله بعض الناس في هذه الأيام من أن هذه الزيادة شاذة قول شاذ لا يعول عليه فالشذوذ يكون عندما تتخالف الروايتان ولا يمكن الجمع بينهما وأما إذا حفظ الثقة ما لم يحفظ غيره وضبط مالم يضبط غيره فهذه زيادة ثقة وهي مقبولة معتبرة عند أئمتنا الكرام فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ولا يشكلن عليك هذه الزيادة: وما تأخر كيف ستغفر للإنسان الذنوب المتأخرة؟! لا إشكال، وقد وضح أمير المؤمنين في هذا الحديث لحافظ ابن حجر عليه رحمة الله معنى هذه الزيادة بأمرين معتبرين:
أولهما: أن من قُبل صومه في هذا الشهر الكريم يحفظ من معصية رب العالمين بعد ذلك "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" غفرت له الذنوب المتقدمة وصار في حفظ من الله ورعايته في الأيام المستقبلة فلا يقع في ذنب ولا يصدر منه عيب.
والمعنى الثاني: وهو أيضاً ثابت صحيح لو قدر أنه وقع في شيء من الزلل مما لاتنفك عند طبيعة البشر فإن ذلك يقع مكفراً مغفوراً بفضل الله ورحمة الله عز وجل (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) .(94/8)
نعم.. فرض الصيام على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة لكن خصنا الله في الصيام بخصائص لم يعطها للأمم السابقة كما خصنا في كتابنا بخصائص لم يعطها للأمم السابقة.
هذه الخصلة الأولى إخوتي الكرام: الصيام يكفر الذنوب الصيام يستر العيوب.
الخصلة الثانية: الصيام يبعدك عن نار الجحيم يبعدك عن دار العاصين فمن صام لله رب العالمين باعد الله وجهه عن نار الجحيم.
ثبت في المسند والحديث في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام يوماً في سبيل الله، بعّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" يعني سبعين عاماً كما ورد ذلك في روايات أخر.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أنه من صام يوما في سبيل الله بعّد الله وجهه عن النار سبعين عاماً بذلك اليوم الذي صامه لله جل وعلا نعم هذا أجر صيام اليوم إذا تقبل عند الله جل علا نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يقبل صيامنا وأن يجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم كما تفضل علينا بفريضة الصيام بغير اختيار منا نسأله أن يقبل صيامنا بفضله دون جدنا واجتهادنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام وهذا أقل ما يحصل للإنسان إذا صام صوماً رضية الرحمن وإذا أخلص الإنسان في نيته لربه على التمام وجد واجتهد في الصيام له أجر يزيد على ذلك فيباعد وجهه عن النار مسافة أكثر من ذلك.(94/9)
ثبت الحديث بذلك في سنن النسائي بسند صحيح كالشمس من رواية عقبة ابن عامر رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام " مسيرة مائة عام والحديث رواه الإمام الطبراني في الكبير وفي معجمه الأوسط من رواية عمر ابن عبسة وروي عن عرة من الصحابة الكرام روي عن معاذ بن انس وعن أبي أمامة وعن سفيان ابن عبد الله الأزدي رضي الله عنهم أجمعين "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مسيرة مائة عام " مسيرة مائة عام.
وروى الإمام الترمذي في سننه وحسن إسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه والحديث رواه الإمام الطبراني في الأوسط والصغير من رواية ابي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض"، "جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض".
وحديث أبي أمامة حسن وحديث أبي الدرداء حسن نص على ذلك الإمام الهيثمي والإمام المنذري عليهم جميعاً رحمة الله إذا هذه أجور عظيمة يحصلها الصائم تغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة ويباعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً مائة عام يجعل بينه وبين النار خندقاً أعظم ما بين السماء والأرض بحيث لا يرى منظر النار ولا يعتريه هول ولا فزع ولا يشم ريحها ولا يرى لهيبها هذا أجر صيام يوم واحد إذا تُقبّل عند الله جل وعلا.(94/10)
إخوتي الكرام ولفظه (في سبيل الله) الواردة في الحديث "من صام يوماً في سبيل الله " قصرها الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله على الصيام في الغزو في الجهاد إذا لم يشق الصيام على الإنسان، فله هذا الأجر الكبير عند ذي الجلال والإكرام من صام وهو مجاهد غازٍ يوماً في سبيل الله جل وعلا له هذا الأجر الكبير وهذا الذي مال إليه الإمام ابن دقيق العيد عليهم جميعاً رحمة الله وقد خالفهما فيما قالا الإمام أبو العباس القرطبي في الفُهْم في شرح صحيح مسلم فقال: المراد من قوله " في سبيل الله " أي طلباً للأجر عند الله وابتغاء وجه الله سواءٌ كان مجاهداً أو لا وهذا الذي قرره الإمام ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري فقال: إن الأمر أعم من ذلك. فمن صام في سبيل الله – يعني في القتال والغزو له ذلك الأجر- ومن صام من حال الإقامة طلباً للأجر عند الله فله ذلك الأجر وكلمة في سبيل الله أعم من الغزو ومن غيره فلا داعي لقصرها على نوع من أنواع معانيها. (من صام يوما في سبيل الله) أي يوماً طالباً للأجر في صيام من الله جل وعلا، من صام لله إيماناً واحتساباً فله بذلك اليوم أن يبعد الله وجهه عن النار سبعين عام مائة عام أن يجعل بينه وبين النار خندقاً كالمسافة التي بين السماء والأرض.
إخوتي الكرام: هذه فضائل جعلها الله للصيام لهذه الأمة المباركة والفضيلة الثالثة أنك بالصوم تحصّل خيرات عاجلة والخيرات العاجلة كثيرةٌ كثيرة سأتكلم على ثلاث منها فقط.(94/11)
أولها: الملائكة تستغفرك والله وملائكته يصلون عليك في هذا الشهر الكريم –الله وملائكته يصلون عليك يستجيب الله دعاءك في شهر رمضان وخاصة عندما تكون على مائدة الإفطار، خُلوف فمك أطيب عنده من ريح المسك فوائد جليلة يحصلها الإنسان في هذه الحياة أما الأولى فقد ثبت ما يدل عليها عن نبينا عليه الصلاة والسلام روى ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية والطبراني في معجمه الأوسط وإسناد الحديث حسن من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " سبحانك ربي –سبحانك ربي أنت أخبرتنا في كتابك مع ملائكتك تصلون على النبي الأمين عليه الصلاة والسلام فأشركتنا في تلك الفضيلة في هذا الشهر الكريم أشركتنا مع نبيك فأنت وملائكتك تصلون علينا. (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .
وتقدم معنا في أول الموعظة حديث جابر أن الملائكة تستغفر لهم في يومهم وعليهم الملائكة تستغفر لك ليل نهار في شهر الصيام الله وملائكته- عندما تجلس على طعام السحور من أجل أن تتقوى على الصيام طاعة للعزيز الغفور تنال هذه الجائزة من الله – الله يصلي عليك – وملائكته تصلي عليك، أي فضيلة بعد هذه الفضيلة (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .(94/12)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند قوي رجاله محتج بهم وإسناده كالشمس حديث صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "السحور بركة فلا تدعوه " السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم بجرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين.. السحور هو الطعام الذي يؤكل عند السّحر والسُّحُور بالضم هو أكلك وفعلك.. السُحور بركة أي طعام السحور عندما تتناولونه، هذا الطعام بركة، بركة دينية كيف لا!! وهذا سبب لصلاة الله وملائكته عليك، بركة دنيوية تتقوى به على الصيام، بركة دينية تخالف به أهل الكتاب الذين غضب عليهم وما كانوا يتسحرون. (السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم بجرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) .
الله وملائكته يصلون على المتسحرين الحديث ثابت بذلك في المسند من رواية أبي سعيد – ومن رواية ابن عمر في الكتب المتقدمة رضي الله عنهم أجمعين. وكون السُحور بركة ثابت هذا في أصح الكتب في الصحيحين وغيرهما ففي المسند والصحيحين والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود من رواية أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تسحروا فإن في السحور بركة) تسحروا فإن في السحور بركة..بركة دينية ودنيوية..
هذه أول فضيلة في العاجل في هذه الحياة تنال شرف صلاة الله عليك وشرف صلاة الملائكة عليك وشرف استغفار الملائكة لك، في هذا الشهر الكريم.
فأي شهر أكرم من هذا الشهر وأي نعمة أعظم من هذه النعم التي أغدقها الله على هذه الأمة المرحومة على نبينا صلوات الله وسلامه في هذا الشهر الكريم.(94/13)
أما الفائدة الثانية العاجلة: أنت في شهر الصيام يُستجابُ دعاؤك عند ذي الجلال والإكرام ولذلك وسط الله آية الدعاء آية الأمر بدعائه في وسط آيات الصيام فقال جل وعلا بعد أن أمرنا بالصيام (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ثم أكمل أحكام الصيام (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم..) وما الحكمة من ذكر آية الدعاء في وسط آيات الصيام!! لأمرين معتبرين: لتكثر أيها الصائم من الدعاء لئلا يفتر لسانك من دعاء ربك في هذا الشهر فاغتنمه.
الأمر الثاني: للإشارة إلى أنك الآن مرضيّ عنك، مُنعم عليك، دعاؤك يستجاب ويقبل فالله وملائكته صلوا عليك، فاغتنم دعاء الله جل وعلا. والإلحاح عليه في هذا الشهر الكريم وقد قرر نبينا صلى الله عليه وسلم أن الصائم يستجاب دعاؤه حتى يفطر وحين يفطر له دعوة خاصة مقبولة.
ثبت في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه أيضاً والحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وقد حسنه الإمام الترمذي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين) الصائم حتى يفطر، وورد في بعض الروايات: (الصائم حين يفطر) والجمع بينهما أن دعاؤك ما دمت صائماً يستجاب، ولك فيه قبول وإجابة عند الفطر فأنت على مائدة الكريم فاغتنم سؤاله بما تريد.(94/14)
ولذلك ثبت في مسند ابن ماجه ومستدرك الحاكم وقال صحيح وأقره عليه الإمام الذهبي والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان وابن السني في عمل اليوم والليلة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للصائم دعوةً عند فطره ما تُرد) إن للصائم دعوة لا ترد فكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين إذا صار وقت الإفطار دعا بنيه وقال: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لنا..
(إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد) إذاً هذه كرامة ثانية أكرم الله بها الصائمين من أمة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر الكريم أكرمهم بأن استجاب دعائهم في هذا الشهر وأعطاهم كرامة خاصة وإجابة خاصة عند الفطر.
الفائدة الثالثة: والكرامة الثالثة العاجلة خلوف فمك وتغير الرائحة التي تصبح فيه من خلاء المدة من الطعام هذا الخلوف أطيب عند ذي الجلال والإكرام من ريح المسك أطيب عند الله من ريح المسك وقد ثبت ذلك في المسند ورواه أهل الكتب الستة إلا سنن أبي داود فهو في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والحديث رواه ابن مالك في الموطأ والدارمي في سننه والحديث صحيحٌ صحيح في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى في الحديث القدسي ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.(94/15)
وكلمة الخلوف -بضم الخاء- على الراجح وحُكي الفتح الخلوف وقد بالغ الإمام النووي فخطأ رواية الفتح لكنها منقولة عن أئمتنا..نعم إن الضم هو الأشهر وهو الأكثر لخُلوف فم الصائم أي تغير رائحة فمه أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه الأطيبية والأفضلية ثابتة في الدنيا والآخرة ثبت في المسند وسنن النسائي وصحيح مسلم في بعض روايات الحديث المتقدمة ولخلوف فم الصائم عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك وهذا ثابت أيضاً في الدنيا ففي المسند وصحيح ابن حبان ولخلوف فم الصائم حين يخلُف أطيب عند الله من ريح المسك.
ومعنى هذه الجملة: ذكر أئمتنا معاني كثيرة تحتملها أوصلها ائمتنا إلى ستة معانٍ سأقتصر على ثلاثة منا هي أظهرها وأوجهها.
أولها: ما ذهب إليه الإمام المازري وشيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر عليهم جميعاً رحمة الله أي: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم. فإذا كانت ريح المسك عندكم طيبة مقبولة فريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك عندكم هذا ما ذهب إليه هذان الإمامان وقال بقولهماجم غفير من أئمة الإسلام.
وذهب شيخ الإسلام الإمام النووي عليهم جميعاً رحمة الله إلى أن معنى الحديث: لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك أي أكثر أجراً، وأعظم عند الله وقعاً من الطيب الذي أمرنا أن نتطيب به للمواسم في الجُمع والأعياد، فذاك الطيب مندوب ونثاب عليه عند علام الغيوب لكن هذه الرائحة لها أجر أكثر من أجر الطيب الذي تتطيب به للجمع والأعياد في المواسم العامة. والمعنى الثالث ذهب إليه الإمام المعز بن عبد السلام وهو فيما يظهر لي أرجح المعاني مع اشتمال الحديث للمعنيين المتقدمين.(94/16)
قال الإمام العز بن عبد السلام إن هذه الرائحة هي جزاء الصيام يوم القيامة فمن صام وقبل صومه في هذه الحياة يبعث بعد الممات له رائحة يتميز بها بين الخلق بريح المسك، رائحته تكون يوم القيامة أطيب عند الله من ريح المسك، أي يجازي بذلك في عرصات الموقف وساحة الحساب لأن هذا من الصائمين المقبولين عند رب العالمين.
وإذا كان المعنى كذلك وهو كذلك، فانتبه لهذه الدلالة العظيمة التي فرق بها نبينا عليه الصلاة ة والسلام بين تغير فم رائحة الصائم وبين دم المجاهد يُهدر دمه في سبيل الله جل وعلا وكيف فضل رائحة فم الصائم على رائحة دم المجاهد عندما يبعث يوم القيامة.
ثبت في الصحيحين والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله –والكَلْم هو الجرح –والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثقب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه "اللون لون الزعفران والريح ريح المسك" فانتبه لهذا الفارق جعل نبينا عليه الصلاة والسلام ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وجعل دم المجاهد كريح المسك وشتان بين الأمرين، هنا يفوق رائحة المسك وهو أطيب منها وهناك كالمسك دم المجاهد مع عظم قدرته عند الله جل وعلا يأتي برائحة المسك أما هذه الرائحة التي يتأفف منها البشر فهي عند الله جل وعلا أطيب من ريح المسك، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
والحديث كما تقدم معنا في الصحيحين وغيرهما وفي ذلك تفضيل لخلوف فم الصائم على رائحة دم المجاهد عندما يبعثنا من يوم القيامة..أما ذاك فريحه كريح المسك وأما أنت إذا قل صومك فريحك أطيب عند الله من ريح المسك.(94/17)
هذه فائدة ثالثة: يحصلها الصائم في هذه الحياة ريحه في هذه الحياة وعند الله أطيب من ريح المسك.
هذه فوائد عاجلة يحصلها الصائم في صومه في هذه الحياة يصلي الله وملائكته عليه يستجيب الله دعاءه مادام صائماً وعند فطره، خلوف فمه أطيب عند الله من ريح المسك. وأما الفوائد الآجلة التي تكون في الآخرة ففي ذلك ما لا يخطر بالبال ولا يقع في الحسبان سأقتصر أيضاً على ثلاث منها حسان.
أولها: الصوم يشفع لك.
وثانيها: تدخل من باب الريان في يوم العطش والظمأ فلا تظمأ أبداً.
وثالثها: توفي أجرك بغير حساب وتعطي مالا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
أما أن الصوم يشفع فقد اخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذا ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه الحاكم وقال على شرك مسلم وأقره عليه الإمام الذهبي والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان ورواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب فضل الجوع وإسناد الحديث صحيح من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال "الصيام والقرآن يشفعان للعبد عند الرحمن".
أما الصيام فيقول: أي رب..أي ربي منعته الطعام والشهوة في نهار رمضان في نهار صومه.
أما القرآن فيقول: أي ربي منعته النوم في ليله – عندما يقوم به ويناجي به ربه – فشفعني فيه –قال نبينا عليه الصلاة والسلام - فيُشفّعَان-هنيئاً هنيئا لمن كان شفيعه شفيعاً له وتباً تبا لمن كان شفيعه خصماً له.
أخي الكريم: هذا الصوم إما أن يشفع لك عند الله العظيم وإما أن يخاصمك أمام أحكم الحاكمين والويل لمن كان شفعاؤه خصماء له شفيعك يخاصمك،،اللهم شفّع فينا الصيام والقرآن وشفع فينا نبيك عليه الصلاة والسلام إذن تنال هذه الجائزة عند الله – الصوم يأتي ويشفع لك ويقول ربي منعته الطعام والشهوة في نهار الصيام فشفعني فيه فيشفع الله الصيام في هذا الموحّد – في هذا الإنسان- في ذلك اليوم في يوم الحساب.(94/18)
وأما الفائدة الثانية والكرام الثانية: الصائمون يدخلون الجنة من باب الريان، والجزاء من جنس العمل فإذا جاعوا وعطشوا والعطش أشق عليهم من الجوع وإذن لهم كرامة عند الله أن يُسْقُوْا وأن يَرْتَوُوا في يوم العطش والظمأ.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر ففي المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه من رواية سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون يقال يوم القيامة أين الصائمون!! فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق ذلك الباب فلم يدخل منه أحد".
والحديث كما قلت إخوتي الكرام في الصحيحين وقد ذهب شرَّاح الحديث إلى أن المراد بالصيام هنا، صيام النافلة والإكثار منه ومع إجلالي لهم واعتبار قولهم فيما يظهر ويبدوا أن الأمر بخلاف ذلك إن الأمر متعلق بصيام الفريضة إذا قبلت وكان على الوجه المرضي وكم من صائم يصوم وحظه من صيامه الجوع والعطش وهو عند الله كالكلب الجائع.
وكم من قائم يقوم وحظه من قيامه التعب والسهر فليس المراد من الصيام هنا صيام النافلة، ولا يوجد من الحديث دلالة على ذلك وأجر صيام الفرض أعظم من صيام النافلة بكثير، إنما هذا الأمر أعني باب الريان هذا أجر لصوم رمضان إذا قبِل عند الرحمن وأما إذا كان الشفيع خصماً فالويل للإنسان – فالويل للإنسان إن هذا في حال قبول الصيام..إذا قبل تدخل الجنة من باب الريان.
والحديث كما قلت مروي في الصحيحين وغيرهما وفي رواية الترمذي زيادة: "فمن دخل منه لم يظمأ " زاد ابن خزيمة في روايته: "من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً " وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بالتنويه بهذا الباب من أبواب الجنة وأنه لا يدخل منه إلا الصائمون..(94/19)
ففي المسند أيضاً والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله –أي صنفين من أي الأصناف كانت فانفق مثلا لباساً ودراهم، أنفق مثلاً لباساً وكتاباً في سبيل الله أنفق زوجين أي صنفين –من أنفق زوجين في سبيل الله – تقرباً لله وطلباً لرضاه – نودي من أبواب الجنة – أي نادته خزنة الجنة كم ورد هذا في بعض الروايات – نودي من أبواب الجنة – يا عبد الله هذا خير وأفعل التفضيل هنا ليست على بابها أي هذا هو الخير فقط إنفاقك وما يؤدي إليه إنفاقك إلى دخول الجنة هذا خير أي هذا هو الخير لا الإقتتار والإمساك والابتعاد عن أبواب الجنة هذا خير.
قال نبينا عليه الصلاة والسلام فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان. وكما قلت: كلها للأمور الواجبة لكن إذا وقعت موقع القبول عند الله جل وعلا. فقال أبو بكر صديق هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما على أحد دعى من أحد تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم. نعم وأرجو أن تكون منهم والرجاء إذا أسند إلى الله وإلى رسوله عليه الصلاة والسلام فهو محقق الوقوع ولا شك أرجو أن تكون منهم أي أنت منهم قسطاً وجزماً.
وهذه الأبواب ذهب كثير من شراع الحديث إلى أنها أبواب داخل أبواب الجنة الثمانية فإذا دخل الناس من أبواب الجنة الثمانية يكون هناك أبواب بعد ذلك للطاعات يدخلون منها إلى نعيم الجنات والعلم عند الله جل وعلا.(94/20)
إذن باب الريان خاص هذا بالصائمين إذا قبل منهم الصيام لا يدخل ممن هذا الباب أحد معهم، نعم إخوتي الكرام الجزاء من جنس العمل، ومن عطّش نفسه لله عز وجل كان حقاً على الله أن يسقيه يوم العطش.
روى الإمام البزار في مسنده بسند حسن كما قال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب عن ابن عباس رضي الله عنهما والأثر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب فضل الجوع قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما " أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سَرِيةً –أي فرقة تقاتل في سبيل الله – وأقر عليهم أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين فركبوا البحر فلما كانوا في السفينة ورفعوا الشراع من أجل أن تقود الرياح هذه السفينة وكانوا في ليل مظلم ليس في السماء قمر وإذا بصوت ينادي يا أهل السفينة قِفُوا أخبركم بما قضى الله على نفسه بأنه من أعطش نفسه في يوم صائف كان على الله أن يسقيه يوم العطش. وهذا مَلَكٌ من ملائكة السماء، يخبر هؤلاء الصحابة الكرام بأجر الصيام فكان أبو موسى الأشعري يتحرى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد الإنسان أن ينسلخ فيه من العطش إذا صام فيصومه تقرباً لذي الجلال والإكرام.
إذن أيها الصائم لك هذه التحفة عند الله جل وعلا أنك تدخل الجنة من باب الريان بسلام، إذا قُبل منك الصيام..وأما الجائزة الثالثة: التي تحصلها عند الله بعد شفاعة الصيام لك، بعد دخولك الجنة من باب الريان بسلام: تعطى أجراً بغير حساب ما أطلع الله عليه ملكاً ولا نبياً مرسلاً جزاء الصائم لا يعلمه إلا من صمت له، وهو الله جل وعلا، وسيجزيك بما لا يخطر على بالك إذا كان الصيام مرضياً وقبل عند الله المالك –سبحانه وتعالى-.(94/21)
ثبت في المسند وسنن الترمذي والحديث رواه الإمام الدارمي عن رجل من بني سليم صحب النبي عليه الصلاة والسلام ورواه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه ويقرر لنا هذا الحديث أن الصائم يُوِفّى أجره بغير حساب لأن الصوم صبر والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الصوم نصف الصبر..الصوم نصف الصبر".
هذا شهر الصبر، والله أخبر أنه يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب وورد في كتاب تاريخ بغداد للخطيب البغدادي وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بسند حسن (والصبر نصف الإيمان) ..الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب ولذلك سيوفيك أجرك بما لا يخطر على بالك ولا يدخل في حسابك نعم إن هذا الشهر شهر الصبر وقد قرر ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.(94/22)
ففي مسند البزار بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير ورواه البيهقي في شعب الإيمان وإسناد الحديث صحيح عن بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ورواية البزار عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "صوم شهر الصبر ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وَقَرَ الصدر " يعني غله حقده وحسده ووساوسه والشبه التي فيه والشهوات التي غُرست فيه، صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر يذهبن وحر الصدر..نعم هذا شهر الصبر والله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب يُضاف إلى هذا ما قرره أئمتنا الكرام قالوا بين الصيام وبين ذي الجلال والإكرام شَبَهٌ تام ووجه ذلك أن الإيمان سر بينك وبين ربك فأبرز أركان الإيمان: اعتقاد بالجنان وهذا لا يطلع عليه إلا الرحمن وهكذا الصيام فالصوم أخو الإيمان وإذا كان الأجر على الإيمان لا يمكن أن يقدره إنسان ولا يدخل في الحسبان فأجر الصيام كذلك وهذا يحقق قول الله جل وعلا في الحديث القدسي (الصوم لي وأنا أجزي به) وسيأتينا إيضاح هذا وتفصيله في المواعظ الآتية إن شاء الله نسأل الله أن يتقبل منا صيامنا وأن يدخلنا الجنة من باب الريان بسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: للاعتبارات المتقدمة كان الصوم لا عدل له ولا مثل له من بين العبادات التي أمرنا الله بها كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد ... ... .(94/23)
بدعة الرقص والإنشاد في المساجد
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
بدعة الرقص والإنشاد في المساجد
(في بيوت رب العباد)
(48) ... ... ... ... ... ... ... ... 28/10/94
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم "ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(95/1)
تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء خاتمة الإنسان وقلنا سنتدارس هذا من ثلاثة أمور أولها في تعريف البدعة وثانيها في النصوص المحذرة من البدعة والإبتداع وثالثها في أقسام البدعة ولا زلنا نتدارس الأمر الأول تعريف البدعة ألا وهو الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن وذلك الحدث لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.
وتقدم معنا أن نحو هذا التعريف ضل فرقتان: فرقة استطت وغلت وبغت واعتدت فوسعت مفهوم البدعة وأدخلت فيها ما ليس منها وقد نسب كثير من أهل الشطط هذه الأيام أنفسهم إلى السلفية وإلى الدعوة المحمدية ثم شغلوا أنفسهم بتضليل المسلمين ولعنهم في كل حين.
وفرقة أخرى فرطت وقصرت في تعريف البدعة فألغتها كلها أو بعضها فخرفت ما شئت أن تخرف ثم جعلت تخريفها ديناً تزعم أنها تتقرب بذلك إلى رب العالمين وقد وجد في هذا الزمن ممن ينتسب إلى الصوفية فابتدعوا في الشريعة الإسلامية بدعاً ردية ثم نسبوها بعد ذلك إلى شريعة رب البرية.
والفرقتان على ضلال ودين الله الغالي والجافي.
إخوتي الكرام:
وقد تقدم معنا مناقشة الفرقة الأولى وبينا ضلالها وزيفها بالأدلة القيمة القديمة وشرعنا في الموعظة الماضية في دراسة تخريف الفرقة الثانية في ثلاث مواعظ بينت منزلة الدعاء في الإسلام وأنها عبادة عظيمة ينبغي أن تصرف لذي الجلال والإكرام ثم بينت موقف المخرفين في هذا الحين نحو هذه العبادة العظيمة كيف صرفوها إلى المخلوقين من أحياء وميتين ومن بشر وحجر.(95/2)
وفي هذه الموعظة سنتدارس عبادة جليلة أخرى تدخل فيما تقدم وقد خرف المخرفون نحوها وابتدعوها إبتداعاً فيها وهذه العبادة هي ذكر الله جل وعلا. إخوتي كما أن دعاء العبد ربه من أعظم الطاعات فذكر العبد لله من أعظم القربات إن عبادة الذكر عبادة جليلة قيمة كريمة وقد كنت ذكرت منزلة الذكر وفضائله في المواعظ الماضية إنما أريد أن أذكر شيء مما لم يتقدم ذكره ليتبع الموضوع بعضه بعضا إن عبادة الذكر على الخصوص من سائر العبادات أمرنا الله أن نكثر منها في جميع الأوقات فالله عندما يذكر عبادة الذكر يطالبنا بالكثرة فيها قال الله جل وعلا في أواخر سورة الأحزاب "يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا ... وأعد لهم أجراً كريما" اذكروا الله عندما ترد هذه العبادة يطالبنا الله بالإكثار منها.
وقد أخبرنا الله جل وعلا أن الذين يذكرون الله هم أحق الناس بالاقتداء بخير خلق الله سيدنا محمد رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً فمن اتصف بهذه الصفة فهو أحق الناس بالاقتداء بإمام الأكياس وأفضل الناس نبينا عليه الصلاة والسلام.
وكذلك أخبرنا الله أيضاً في وسط السورة بأن من أكثر من ذكر الله من الذكور والأناث يعد لهم يوم القيامة أجراً عظيما فقال جل وعلا: "إن المسلمين والمسلمات..والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما".
فعندما جاء إلى هذه العبادة طالبنا بالكثرة منها نعم هذه العبادة ينبغي أن نكثر منها في جميع شؤون حياتنا في بيوت ربنا وفي شوارعنا وفي أسواقنا وفي سياراتنا وعلى فرشنا وفي مزارعنا وأينما كنا.(95/3)
وقد أشار الله إلى هذا في سورة الجمعة فقال جل وعلا: "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون". ونظير هذه الآية قول الله في سورة النساء بعد أن شرع لهذه الأمة صلاة الخوف في الحر قال جل وعلا فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم.
نعم ينبغي للإنسان أن يذكر الله على جميع أحيانه ليعتبر بمخلوقات الله وليتفكر في ملك الله وليحيي قلبه بنور الله قال الله جل وعلا في أواخر سورة آل عمران: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم".
نعم لابد من الإكثار من هذه العبادة عبادة الذكر في جميع الأحوال والأوقات في حل السلم وفي حال الحرب كما قال ذو العزة الجلال في سورة الأنفال: "يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون".
والآيات كثيرة وفيرة التي تتحدث عن شأن الذكر ومكانته وفضله ومنزلته وتطالبنا بالكثرة منه والسبب في ذلك أن الذكر عبادة جليلة القدر والمقدار ولها أثر طيب في البشر ولا يستغني عنها الإنسان في حال من الأحوال وكلما صح قلب الإنسان كلما كثر ذكره لذي الجلال والإكرام.
نعم إن ذكرنا لربنا كالماء للسمك، إن ذكر الله لحياتنا كالماء للسمك، فذكر الله ضروري للبشر في هذه الدار وكما قلت كلما صح القلب وقوى وصفاء ونقيا كلما كثر ذكر الله جل وعلا ولذلك لما كانت قلوب أهل الجنة أطهر القلوب يكثرون من ذكر علام الغيوب ومع كل نفس يتنفسونه تحميد وتسبيح لله جل وعلا.(95/4)
كما ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفَس نعم إن حياة القلب يقابلها كثرة ذكر الرب فكلما حيا قلب الإنسان في هذه الدار وفي دار القرآن كلما أكثر من ذكر العزيز الغفار وقد وضح لنا هذا نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه فبين لنا أن الفارق بين الذاكر والغافل كفارق بين الحي والميت.
وفي رواية صحيح مسلم مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت نعم إن ذكر الله ضروري لقلوبنا فهو ضروري لبيوتنا فلا تتنور القلوب والبيوت إلا بذكر علام الغيوب سبحانه وتعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب ولذلك إن المتمسك القوي الذي يتمسك به الإنسان في هذه الحياة ويستعين به على سائر الطاعات وعلى ترك المخالفات كثرة ذكر رب الأرض والسماوات.
كما أشار إلى ذلك نبينا خير البريات ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح كالشمس من رواية عبد الله بن بشر رضي الله عنه أنه قال للنبي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فمرني بشيء أتشبث به يكون ذلك دافع لي ومعين لي على الالتزام بجميع شرائع الإسلام فمرني بشيء أتشبث به فقال النبي عليه الصلاة والسلام لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله. نعم مازلت تذكر الله فأنت حي وإذا غفلت عن ذكره فأنت ميت، حالك كحال السمك إذا أخرج من الماء عطب وهلك وما دام في الماء فهو في حياة وفي سعادة.(95/5)
وقد وصى نبينا معاذ بن جبل رضي الله عنه كما ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير ومسند البزار وفي صحيح ابن حبان والحديث رواه ابن أبي الدنيا وإسناده صحي أيضاً عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ويروي الأثر عن مالك بن اليخامرد وهو مخضرم من التابعين الكرام وقيل أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه وله صحبة معه وحديثه في صحيح البخاري والسنن الأربعة وتوفي سنة70 هـ يقول مالك بن يخامر حدثنا معاذ بن جبل فقال إن آخر كلام فارقت عليه النبي أن قلت يا رسول أخبرني بأحب الأعمال إلى الله عز وجل قال رسول الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله وفي رواية البزار عن معاذ قال للنبي يا رسول الله أخبرني بأفضل الأعمال وأقربها إلى الله عز وجل فقال النبي أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله نعم إن الذكر له هذه المنزلة ولذلك أخبرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أحب عمل يقوم به الآدمي يتقرب به إلى الله القوي ذكر الله في هذه الحياة ثبت ذلك في معجم الطبراني الأوسط والصغير بسند رجاله رجال الصحيح كما نص على ذلك الإمام المنذري والإمام الهيثمي.(95/6)
ولفظ الحديث من رواية جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما عمل آدمي عمل أنجى له من عذاب من ذكر الله قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ولا الجهاد إلا أن يضرب بسيفه في الكفار حتى ينقطع وهذا الحديث روى أيضاً من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وموطأ الإمام مالك ورواه الإمام الحاكم في مستدركه موقوف على معاذ ويشهد له ما تقدم من رواية جابر بن عبد الله نعم إخوتي الكرام إن عبادة الذكر لها هذه المنزلة فوالله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن للذكر من فائدة إلا أن الله يذكر من ذكره لكفى ذلك فائدة تطيش لها القلوب وتطير بها العقول إذا ذكرت الله يذكرك فأي فضيلة بعد هذه الفضيلة والله معك بنصره وحفظه وتأييده ورعايته وكلائته وتوفيقه، ما ذكرت ربك وتحركت بذكره شفتاك.
ثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد وهو في الكتب الستة إلا سنن أبي داود ورواه ابن حبان وهو في غير ذلك في دواوين الإسلام تجمع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الصحة وهو في الصحيحين وغيره من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني سبحانك ربنا ما أعظمك ليس العجب من ذكرنا لك وعن الفقراء إليك إنما العجب من ذكرك لنا وأنت الغني عنا، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم وإن تقرب إليّ شبراً تقربت له ذراعاً وإن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة.
إذا ذكرنا الله يذكرنا وإذا مجدناه وعظمناه بين خلقه يتحدث بفضلنا يثني علينا ويخبر عن رضاه أين؟! بين ملائكة الله الأطهار بين حملة العرش والملائكة العظام في الملأ الأعلى.(95/7)
ثبت في مسند البزار بسند صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل ياابن آدم إذا ذكرتني خالياً ذكرتك وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الملأ الذي تذكرتني فيهم فضل عظيم لهذه العبادة الجليلة أن الله يذكرك وينوه بشأنك وهو معك حينما تذكره الله يقرر ذلك في محكم كتابه فيقول فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون هذه العبادة العظيمة الجليلة عبادة الذكر أفضل الأذكار وسيدهم وأعلاها وأجلها كلام الله جل وعلا ففضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر المخلوقات كلام الله ذكر وعندما تتلوا القرآن أنت تذكر الرحمن، وقد نص الله أن كتابه ذكر في كثير من الآيات فقال جل وعلا في سورة الأنبياء ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياءا وذكر للمتقين ... وهذا ذكر مبارك أنزلناه أنه ذكر عظيم لا يتطرق إليه خطأ ولا وهم ولا نقص من أي جهة من جهاته، إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يانية الباطل من بين يديه ومن خلفه.
إننا عندما نقرأ القرآن نذكر الله ويحصل لنا بذلك موعظة وتذكير ويحصل لنا ذكر وقدر في هذه الحياة كما قال الله تعالى في سورة الأنبياء "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون".
وقد بين لنا نبينا منزلة ذكر الله في هذه العبادة تلاوة القرآن وأخبرنا أن من قرأ القرآن فقد استدركت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن النبي تلقى هذا بواسطة جبريل عن ربنا الجليل وأنت أخذته بواسطة العلماء الثقات عن خير البريات.(95/8)
ثبت الحديث بذلك في مستدرك الحاكم وفي شعب الإيمان للبيهقي والحديث رواه الإمام الطبري في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قرأ القرآن فقد استدرجت النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه وما ينبغي لقارئ القرآن أن يجهل مع من يجهل وفي جوفه كلام الله وهذا الأثر رواه عنه الإمام ابن الضريس في كتاب فضائل القرآن عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوف عليه من قوله كما قلت مرفوع في الكتب المتقدمة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وإذا قرأت القرآن يستمع الله إليك ويفرح بتلاوتك ويصغي سبحانه وتعالى ويستمع إصغاءاً واستماعاً عجيباً فاستمع إلى حال استماع الله إلى عبده عندما يتلوا كلامه.(95/9)
ثبت في مسند الإمام أحمد وسن ابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه الإمام الآجري في كتاب آداب حملة القرآن وأخلاق حملة القرآن والحديث إسناده حسن وقد صححه الحاكم وابن حبان وأورده الحافظ في الفتح مستشهد به فهو حديث حسن من رواية فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لله اشد أذناً إلى الرجل حسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته أذناً أي إصغاء واستماع إلى الرجل حسن الصوت أي عندما يقرأ بترتيل وتجويد ويحسن صوته بكلام الله الجليل يستمع الله إليه ويصغي إليه أشد من اصغاء واستماع صاحب القينة إلى قينته والقينة هي الجارية المعنية صاحبة الصوت الشذي العذب ولا يراد من ذلك ما كان هنا من غناء فيما حرم الله ولا يراد أيضاً استماع إلى ما حرم الله إنما لو قدر أنه عند الإنسان جارية شابة جميلة الصوت فعنته بما هو مباح كيف يطرب من سماعها عندما يحبها ويصغي إليها ويستمع إن الله جل وعلا أشد إصغاءاً واستماعاً لقارئ القرآن عندما يتلذذ هذا الإنسان بكلام الرحمن، والأذن بمعنى الاستماع ومنها قوله تعالى في سورة الانشقاق وأذنت لربحا وحقت أي استمعت وحق لها أن تستمع وتطيع أمر ربها.(95/10)
نعم إن الإنسان عندما يتلو كلام الرحمن يصغي الله إليه فقارئ القرآن من أهل الله وأحبابه وخاصته وقد أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند والنسائي في السنن الكبرى وابن ماجه في سننه والحديث رواه الدارمي في سننه وأبو داود في مسنده ورواه الحاكم في مستدركه وأبو نعيم في الحلية كما رواه الخطيب في تاريخ بغداد الطيالسي ورواه الإمام أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن وهكذا ابن الفريس في فضائل القرآن والآجري في كتاب آداب حملة القرآن وإسناد الحديث صحيح من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن لله أهلين من الناس له أهل من خلقه ومن أهل الله منا قال أهل القرآن خم أهل الله وخاصته وفي بعض روايات أبي نعيم في الحلية إن لله أحبه من خلقه قالوا من هم يا رسول الله قال أهل القرآن خم أهل الله وخاصته. إخوتي الكرام الذكر له شأن وسيد الأذكار وأعلاها كلام الله جل وعلا.(95/11)
وقد ثبت في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل وهذا الأثر يرويه عنه ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد في ص434 وذكره الإمام الغزالي في الأحياء ولفظ الأثر أن هذا الإمام المبارك رأى رب العزة في المنام فرؤية الله جائزة عند أهل السنة الكرام لكيفية يعلمها الله ولا نعلمها ويشاهد الإنسان نورا ويقع في قلبه أنه رأى ربه أم رؤيتنا لربنا في غرف الجنات فهذه متواترة من القطيعات وردت بها آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ومنكرها كافر ونسأل الله أن يكرمنا بالنظر إلى نور وجهه في جنات النعيم إنه أرحم الراحمين فهذا الإمام رأى ربه في المنام فقال ربي ما أحب وما أفضل ما يتقرب به المتقربون إليك أي قربة أي طاعة أحبها إليك قال يا أحمد بكلامي أفضل عبادة أحب عبادة يتقرب المتقربون بها إليك كلامي تلاوة ذكري هذا القرآن الذي أنزله الله علينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور فقلت ربي فهم أو بغير فهم قال بفهم أو بغير فهم تلاوة كلام تؤجر عليها على كل حال وهذه أفضل الأذكار التي نذكر بها رب العزة والجلال أفضل ما يتقرب المتقربون هذا القرآن الميمون.
إخوتي الكرام..
وهذا الأمر وأعني عبادة الذكر وراسه كما قلت تلاوة القرآن هذه العبادة هي التي كانت عند سلفنا ويعكف عليه سلفنا فيذكرون الله بحمده وتسبيحه وتمجيده ويتلون كلامه آناء الليل وأطراف النهار ما الذي حصل؟
إن الأمر تغير، تغير إلى الصوفية وأئمة الصوفية الصادقون المخلصون منهم براء، نبت منهم نابته فاخترعوا الأشعار والقصائد وعكفوا على استماعها وإنشاؤها في بيوت الله آناء الليل وأطراف النهار ثم قاموا يتواجدون يرقصون فيزعمون أنهم يعبدون الحي القيوم كما أنهم ابتدعوا من الأذكار ما لم يرد عن نبينا المختار وقالوا هذه الأذكار هي أفضل مما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم بدعتان نحو عبادة الذكر.(95/12)
البدعة الأولى أشعار ورقص وتواجد والبدعة الثانية أذكار ما أنزل بها من سلطان قالوا إن ذكر الله بها أعظم ذكر يقوم به الإنسان في هذه الحياة ورتبوا عليها من الأجور ما لم يرد به شرع العزيز الغفور وسنتدارس البدعة الأولى وأما البدعة الثانية وهي الأذكار المبتدعة التي خلعوا عليها أجور كثيرة وجعلوها من أذكار الخاصة وخاصة الخاصة ويأتي الكلام عليها مع مقدمة للذكر في المواعظ الآتية إن شاء الله.
إخوتي الكرام..
أما عبادة التواجد والرقص وعبادة القصائد والأشعار التي حدثت من هذه الفرقة الضالة وعكفوا عليها في بيوت الله جل وعلا فهي عبادة مبتدعة مخترعة أعرضوا عن ذكر الله كما شرع نبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام وأعرضوا عن تلاوة كلام الله ثم بعد ذلك اخترعوا أشعار وقصائد على زعمهم يثنون بها على الله جل وعلا وأن هذا يحرك قلوبهم للطرب ويفرحون بالله وهذه الأشعار والقصائد والرقص والتواجد انتشر في بلاد المسلمين وحولت بيوت رب العالمين إلى منزلة كمنزلة الكنائس عند النصارى والبيع عند اليهود إلى ربنا المعبود نشكو أحوالنا وغربتنا في هذه الأيام.
إخوتي الكرام: وهؤلاء يقولون إننا نحن نريد تعظيم الله، وإننا عندما ننشد القصائد والأشعار ونتوجد ونرقص نفرح بالله وإذا سلمنا لهم نيتهم والله أعلم بما في القلوب فلا نقرهم على هذا بحال من الأحوال فالعمل لا يقبل عند الله عز وجل إلا بوجود شرطين بعد إيمان صاحبه إولهما إخلاص لله وثانيهما متابعة لخير خلق الله فهل هذا الأمر يعني الأشعار والقصائد والتواجد والرقص هل هذا مأخوذ من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام هل هذا مأخوذ وهل كان الصحابة يتوجدون ويرقصون في بيوت الله. إن كان ما تقولوه ثابتاً عنهم فحقيقة إن الأمر مشروع لكن الأمر ليس كذلك فسواء كانت النية صالحة أم فاسدة فالعمل باطل مردود وأما ما قاله بعضهم من تحسين هذا الضلال بعبارات معسولة فهذا من هذيان الشعراء:(95/13)
ما في التواجد إن حققت من حرج ... ولا التمايل إن أخلصت من بأس
فقمت تسعى على رجلين وحق لمن ... دعاه مولاه أن يسعى على الراس
هل هذه آية من كلام الله أو حديث من كلام نبينا رسول الله خير خلق الله لنحتكم إليها وهكذا الهذيان الآخر:
أنكروا رقصاً وقالوا حراماً ... معيلهم من أجل ذلك سلامُ
أعبد الله يا فقيه وصلي والزم الشرع فالسماع حرام بل حرام عليك ثم حلالٌ عند قومٍ أحوالهم تلامُ.
هذا كلام باطل وهذيان ثم قال:
مثل قومٍ صفو وبان لهم ... من جانب الطور جذوة وكلام
فإذا قوبل السماع بلهوٍ ... فحرام على الجميع حرام
يعني حالهم كحال نبي الله موسى عليه السلام عندما أناس من جانب الطور نارا ثم كلمه الله جل وعلا، يقول ونحن نسمع كلام الله جل وعلا فلا يعترض علينا وحالكم ليس كحالنا وليس عندنا في هذه الأمة من يُسلم له حاله ويقتدي به إلا نبينا عليه الصلاة والسلام وكل من عداه يعرض على ميزان شرع رسول الله من صديق وولي وسابق وتقي وشهيد وغير ذلك فإن احسن فهو على هدى وإلا فكل واحد يرد عليه خطؤه.
وقد سأل الإمام ابن تيمية شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص فأنكر عليه بعض المسلمين، فقال هذا المنكر عليه الذي يحب السماع والرقص قال هذه الأبيات وأنشدها كما في مجموع الفتاوي 11/605 قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله معلق على السفيه في إنشاده ما تقدم من الشعر قال هذا الشعر يتضمن منكراً من القول وزورا، بل أوله يتضمن مخالفة الشريعة المطهرة وآخره يفتح باب الإلحاد والزندقة والمخالفة للحقيقة الإلهية الدينية النبوية وذلك بأن قول القائل مثل قوم صفو وبان من جانب الطور جذوتاً وكلامٌ يتضمن تمثيل هؤلاء بنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام الذي نودي من جانب الطور لما رأى النار قال لأهله أمكثوا..إلى آخر ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله.(95/14)
مثل هذا ما رأيته في بلدة القاهرة عندما كنت بها في بلاد مصر وهذا موجود في سائر البلدان ومررت بشارع يسمى شارع السيدة زينب ووقع مروري في ذلك باحتفال الناس بمولد السيدة زينب على تعبيرهم والناس مختلطون رجالاً ونساء يدخنون ويحششون يغنون ويرقصون قلت ما هذا قالوا يذكرون الحي القيوم سبحان الله آلات العزف والطرب ونساء تختلط بالرجال ودخان يصرع رأس الإنسان وحشيش ومنكر مع ذلك ذكر لله كيف هذا فقال يا مولانا كل واحد يذكر الله على مزاجه واحد يذكره بتلاوة القرآن وواحد يذكره بالصلاة وواحد يذكره بالعود وواحد يذكره بالمزيكة وواحد يرقص كل واحد يذكر الله على مزاجه هذا في أي شريعة يذكر الله على مزاجه هذا ليس من شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.
قد حضرت بعض الصالحين الكبار ممن له شأن يدرس في المسجد الجامع في جامع الأزهر فقال في تفسير قول الله عز وجل "وافعلوا الخير لعلكم تفلحون" يقول وهو يتحدث بلهجته العامية هناك يقول لا يوجد في الإسلام شيء اسمه بدعة، لا يوجد في الإسلام بدعة على الإطلاق فيقول فكل ما تفعله وترى أنه خير وتريد التقرب إلى الله فأنت تثاب عنه لأن الله يقول وافعلوا الخير.
وأين إذاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما كما سيأتينا في القصد من المنفرة المحذرة من البدعة من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية لمسلم من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد.
الله لا يقبل العمل إلا إذا كان صالحاً لوجهه خالصاً وهؤلاء ترجمان كلمة التوحيد فلا يعبد إلا الله حسب ما شرع وبين رسول الله.
هذا التواجد هذا الرقص الذي حدث في بيوت الله ضلال وبدعة، والزعم أنه أيضاً ذكر لله أشنع ضلال وأشنع بدعة وإذا استحل الإنسان هذا وعلم ما فيه من تحريم فقد خرج من دين الله العظيم.
ومن يستحل الرقص قالوا بكفره ... لاسيما بالدف يلهو ويزمرُ(95/15)
حضرت مرة بعض المجالس في بلاد الشام أيام المولد النبوي ولا يخفى عليكم أن هذه الموالد التي حدثت في هذه الأمة وكلها من ابتداع الضالين وما أنزل بها من سلطان لكن ما يتعلق بالمولد حضرت في ذلك المجلس وهم يحتفلون بمولد النبي عليه الصلاة والسلام وكان هذا بعد صلاة الجمعة وكنت أخطب في تلك الأيام وكنت دون العشرين بكثير فلما انتهيت من الخطبة قالوا يا شيخ تشارك في المولد قلت لعله موعظة ونعيمة ولا يوجد شيء من البلاء وإذا أحضروا جميع آلات الطرب من الدفوف من..من وأحضروا بعد ذلك عدد من الشباب اللذين منا نبت لواحد منهم شعرة في وجهه من المردان، ولبسوهم الملابس الفضفاضة الواسعة بحيث إذا أراد أن يرقص يستضل عشرة تحت ثيابه وفخذاه مكشوفتان ويوجد أيضاً في أطراف الثياب ما بين كل شبر قطعة من حديد إذا انتفش الثياب تكون هذه كأنها مظلة ثم بدءوا يضربون بهذه الآلات ويذكرون الله ذكراً مخرفاً وواحد في الوسط كالشيطان ينشدهم وهؤلاء يرقصون والنساء في الجهة الثانية تخرج الأصوات وتخرج الزغاريد على زعمهم فلما انتهى الفصل الأول خرجت فتبعني مؤذن المسجد قال ماذا رأيت قلت إذا كان هناك في الحياة أشرار سيدخلون النار فهؤلاء أول من هم من الأشرار وهم من سيدخلون النار قال الله أكبر تتكلم على أولياء الله قلت الله أكبر ولله الحمد من الذي جعلهم أولياء الله وهم أولياء الشيطان وبيني وبينكم الموعظة الآتية لنتكلم عن هذا الضلال. وكان ما كان مما ستر الله علي بعد ذلك.(95/16)
الخاتمة والنتيجة بيوت الله تتحول إلى مراقص آلات عزف ولهو وغناء واحد في وسط المجلس مثل الشيطان ينشد وأولئك بعد ذلك ويهمهمون ويتواجدون وهؤلاء المردان يرقصون وأفخاذهم مكشوفة في بيوت الله جل وعلا أقال الله صفق لي وغني وسم الرقص والتصفيق ذكرا فلو كانت السيادة في إخضرار لكان السلف أشرف منك قدرا. طائفة ينتمون إلى الشيخ الرفاعي ويدعون أنتم من أهل البيت ويجعلون علامة لهم اللباس الأخضر ثم يبتدعون ويخرفون:
الرقص نقص والسماع رقاعة ... وكذلك التواجد خفة بالراس
والله ما رقصوا لطاعة ربهم ... ولكن للذي طحنوه بالأضراس
بيوت الله حولت إلى مراقص هذه الأيام بسم ذكر الرحمن وتعظيم ذي الجلال والإكرام إخوتي عبادة ضالة مبتدعة فتابع الأئمة على إنكارها وصاحوا في أهل الباطل من كل جهة وبينوا أن هذه العبادة من إحداث الزنادقة لضلال الناس عن ذكر رب العالمين وعن القرآن الكريم فهذا سلطان العلماء المعز بن عبد السلام الذي توفي سنة660هـ يقول في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2/86 الرقص والتصفيق خفة ورعونة مشابهة لرعونة الأناث ولا يفعل ذلك إلا رعنٌ جاهل أو متصنع قال عليه رحمة الله ومن كان في قلبه تعظيم الله جل وعلا لا يمكن أن يرقص ولا يصدر من عاقل فاضل إنما يصدر من جاهل غافل ثم قال عليه رحمة الله والدليل على جهالة فاعل الرقص أن الشريعة لم ترد به في كتاب ولا سنة وما فعل هذا أحد من الأنبياء ولا من المعتبرين من العلماء، إنما يفعله الجهلة السفهاء الذين اختلط عليهم الحقائق بالأهواء.(95/17)
وهكذا الإمام الطرطوشي أبو بكر الذي توفي سنة 520هـ وله كتاب سماه كتاب في تحريم السماع وما وقفت عليه وسأنقل عنه بواسطة الإمام القرطبي في تفسيره في 11/237 عند قول الله في تفسيره سورة طه "فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار".. عند هذا ينقل الإمام القرطبي كلام الإمام الطرطوشي يقول قال الإمام الطرطوشي " التصفيق من إحداث الزنادقة وهو أول من فعله عباد العجل وعباد البقر أتباع السامري عندما أخرج لهم عجل جسداً له خوار قاموا حوله يتواجدون ويرقصون فهو دين الكفار وعباد العجل ثم قال وأما آلات اللهو التي يعزف فيها عند الرقص وأما القضيب فهو أول من أحدثه الزنادقة.
وهذا كما قال الإمام الشافعي خرجت من بغداد وتركت ورائي شيء اسمه التغدير شيء يغدرون به وينغمون ويطربون أحدثها الزنادقة ليصدوا الناس عن كلام الله جل وعلا وأما القضيب أول من احدثه الزنادقة ثم قال ويجب على ولاة الأمر أن يمنعهم ولا يجوز للمسلم أن يحضر معهم ولا أن يأكل من طعامهم هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وكما قلت هذا موجود في تفسير الإمام القرطبي وقد ألف بعض الفقهاء الحنفية الكبار علماء القرن العاشر للهجرة توفي سنة 956هـ وهو الإمام الحلبي واسمه إبراهيم ابن محمد ابن إبراهيم انظروا ترجمته في شذرات الذهب 8/309 صاحب كتاب ملتقى الأبحر في فقه أبي حنيفة ألف رسالة سماها "الرهسُ والوقص لمستحل الرقص " والرهس هو العصر الشديد والوقص هو دق العود وبين أن الرقص حرام ومن استحله فهو كافر بالرحمن لا سيما إذا جعل ذلك عبادة وقربة يتقرب بها إلى ذي الجلال والإكرام.(95/18)
وكذلك الشيخ الشنقيطي كما في أضواء البيان في تفسير سورة الإسراء عند قول الله تعالى: "ولا تمشي في الأرض مرحاً" 3/593 يقول وقد استدل العلماء لهذه الآية على تحريم الرقص لأن فاعله أي الذي يرقص هو ممن يعمل المرح وهو الخيلاء وهو الأشر والرقص هو التمايل وتحريك الرأس بحركات موزونه وهو أعظم أنواع الأشر والبطر وهو المرح فالرقص مما حرمه ذو الجلال والإكرام وما فعله ممن ينتسب إلى الصوفية فهذا ضلال وهذيان وأما سماع الأشعار والقصائد وهي التي جعلوا بدل ذكر الله وبدل تلاوة القرآن عندها تسكب العبرات وعندها تتقطع النفوس حسرات.
سمعت بأذني من ينشد في بيوت الله جل وعلا: فرشت لها خدي وطائاً على الثرى فقالت لك البشرى بلثم لساني وأولئك ينهقون كالحمير ثم يدعي أنه يناجي الله بهذا الكلام القبيح المرذول الذي يستحي الإنسان من ذكره فرش لها خده على الثرى فقالت لك البشرى بلثم لسانها ثم قول أننا نخاطب الذات الإلهية وما وجدت أحسن من هذا التعبير حتى تخاطب ربنا الجليل إلا ناجيته بكلامه جل وعلا "الله نزل أحسن الحديث كتاباً ... الآية " وأشعارا تقال في الغزل والطرب وقلة الحياء لو قبلت في غير بيوت الله لكانت منقصة فكيف تقال في بيوت الله بإسم تعبد الله وذكر الله.
إخوتي الكرام..(95/19)
وقد وصل الأمر ببعض العلماء أن التمس هؤلاء الأعذار ويعلم الله إنني لا أقصد بذلك شينة ولا تهوين أمره لكن الحق أدق بالاتباع وما في الدين محاباة وإذا هو خرف في هذه المسألة فيرد كلامه بكلامه الذي قرره في فقه الإمام الغزالي حجة الإسلام لما سلك مسلك التصوف ثم تركه بعد أن ترك الفلسفة والتصوف وعاد إلى مسلك المحدثين المهتدين لما سلك مسلك التصوف والف كتابه في الأحياء وجرى على قانون من خرق من الصوفية في كثير من الأمور منها ما يتعلق بأمر الذكر فقال في الإحياء 2/ 293-298 قال كلام والله لا يقره هو في وسيطه ولا بسيطة ولا وجيزة في فقه الشافعي الذي ألفه مترد كلامه بكلامه ونرد كلام كل أحد بكلام الله الصمد وبكلام نبينا عليه الصلاة والسلام وعندنا شريعة كما قلت يحاكم إليها الكبير والصغير ونحتكم إلى شرع الله الجليل يقول في كتابه السماع ولو حذف هذا الكتاب من الأحياء لكان حسناً هذا الكتاب كتاب السماع يقول عليه رحمة الله يقول إذا قلت إن للقرآن تأثير على النفس فعلى ما يجتمع الصوفية على المغنين والقولين وعلى سماع الغناء والقصائد ولا يجتمعون على المقرئين الذين يتلون كلام رب العالمين لما الصوفية في العصور المتأخرة بل بدأوا يحضرون أقوالا يغني بدلاً من أن يحضروا قارئاً ليقرأ كلام الله لما وأنت تقرر أن القرآن له تأثير على النفس قال وهذا القول حقيقة ترك به الإنسان عقله ليس فقيه عنده تقديره لكن الجواد يكبو والصارم ينبو والحق أحق بالاتباع يقول فاعلم أن العناء أشد تهيجاً للنفس من القرآن من سبعة أوجه أولها:
1. قارئ القرآن لا يوافق أغراض المسمعين فمن غلب عليه القبض يريد اشعار البسط فإذا قرأ تبت يدا أبي لهب وتب هذا لا يناسب حاله لذلك يحضرون أقوالاً ليغني ما يناسب حاله.(95/20)
2. الأمر الثاني يقول القرآن محفوظ ومكرر سماعه على الآذان فيصل وقعه على القلوب وأما الأقوال فيأتيهم بالشيء الجديد الذي ما سمعوا به ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة فعندما يأتيهم هذا الجديد يتفاعلون ويتواجدون ويصيحون أن أزيد والذي لا يؤثر فيه كلام الله فلا خير فيه "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل..الآية" والله الذي لا إله إلا هو إن الجماد يخشع ويصنت عند سماع كلام الله فصارت هذه القلوب أقسى من الحجارة ولا تتأثر بالقرآن الذي لا يخلق عن كثرة الرد نريد أقوالا وشاعراً ليحرك كوامن نفوسنا.
3. يقول القرآن ليس بموزون بالأوزان الشعرية أما الأقوال فيقول كلام موزون وللشعر تأثير في النفس البشرية.
4. يقول القرآن لا يجوز التلحين فيه ولا التطريب فيه ولا التمطيط ولا القصر أن تتلاعب كما تريد ولا يجوز أن يمد المقصور ولا أن تقصر الممدود ولا أن تطرب يقول وفي الغناء يلحن وينبع اللحن والنغم ولا يتقيد بقواعد اللغة العربية.
5. يقول العناء بصحبة آلات العزف والطرب ولا يجوز هذا في كلام الله لا يجوز أن تقرأ القرآن على دف أو على صحبة أو عود أو مزيكا أما في الغناء فهذا يفعل مع الغناء فتضاعف الآثار التي تؤثر في النفس ومن الذي أباح هذه المعازف والمزامير.
6. يقول إذا كان الإنسان يسمع الغناء وما أعجبه الغناء بإمكانه أن يقول للقوال اسكت ولا يجوز أن تقول للقارئ اسكت على كلامه لقراءة كلام الله.
7. يقول الغناء من باب الحظوظ والقرآن من باب الحقوق والنفس تتعلق من باب الحقوق وتريد الحظوظ وهذا أشهى لها. هل هذه حجج معتبرة أو ظلالات منكرة سبحان ربي العظيم من الذي أباح لنا أن تستخدم آلات العزف وإذا كان القرآن من الحقوق يعني ينبغي أن ++منع إلى الحظوظ والشهوات هذا كلام باطل لا يليق مع عقل هذا الإمام ولا يليق مع فقهه رحمة الله ورضوانه عليه وقال الإمام المقدسي في رد هذا الهذيان:
جعلوا السماع مطية لهواهمُ ... وغلوا فقالوا فيه كل محالُ(95/21)
هو قربة هو سنة هو طاعة ... صدقوا لذاك الشيخ ذي الأضلال (يعني ابليس)
شيخ قديم صادهم بتبجيل ... حتى أجابوا دعوة المحتال
هجروا له القرآن والأخبار والأثار ... إذ شهدت لهم بضلال
ودوا سماع الشعر أنفع للفتى ... من أوجه سبع لهم بتوال
تالله ما ظفر العدو بمثلها ... من مثلهم واخيبه الامال
إخوتي الكرام..
الغناء والأشعار والقصائد والتواجد والرقص الذي حدث في بيوت الله باسم ذكر الله ضلال ومستحله كافر بذي العزة والجلال بدعة وخيمة خبيثة ما أنزل الله بها من سلطان كيف أعرض الناس عن تلاوة كلام الرحمن وأقبلوا على هذا الهذيان إن قلوبنا لو ظهرت لما شبعت من كلام ربنا نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ... الخ أقول هذا القول واستغفر الله الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد رسول الله خير خلق الله أجمعين اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كبيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إن الصوفية المهتدين براء من ذلك الفعل الدنيء فقد كان المتقدمون من الصوفية الذين كانوا على هدى يعكفون على قراءة كلام الله عز وجل ويذكرون الله بما شرع رسوله فهذا العبد الصالح زكريا يحيى بن معاذ الرازي الذي توفي سنة258 هـ يقول دواء القلوب خمسة أشياء:
1. قراءة القرآن بالتدبر.
2. وخلاء البطن.
3. قيام الليل.
4. التضرع إلى الله عز وجل عند السحر.
5. مجالسة الصالحين.
وهذا الإمام سيد الجنيد سيد الطائفة توفي سنة 297هـ يقول مذهبنا هذا مشيد بالكتاب والسنة من لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث فلا يؤبه به..إي والله لا يؤبه بالإنسان ولا يقول عليه إذا لم يلتزم بالشريعة ولو طار في الهواء ولو مشى على الماء ولو حصل له ما حصل من خوارق الأشياء إذا رأيت رجل يطير وفوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي.(95/22)
إن الغناء الذي عم في هذه الأيام أن القصائد والأشعار إن الرقص والتواجد كلها هذه من دين الكفار ومن عباد العجل ومن اختراع الزنادقة فما أنزل الله به من سلطان متى علم الناس بأن الغناء سنة تتبع وأن يأكل المرء أكل الحمار فيرقص في الجمع حتى يقع وقالوا سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع كذلك البهائم إن أشبعت يرقصها ربها والشبع ويسكرها الناي وحب الغناء ويسن لو تليت ما أنصدع فيا للعقول ويا للنهي ألا منكر فيكم للبدع تهان مساجدنا بالسماع وتكرم عن مثل ذلك البيع.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم اغفر لميتنا ولمن علمنا ولمن تعلم منا.
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم
"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".
والحمد لله رب العالمين..(95/23)
باب شهادة أهل العصبية
(أحاديث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
باب شهادة أهل العصبية
البيهقي
قالَ الشَّافِعِيُّ رحمهُ الله: مَنْ أَظْهَرَ العصبيةَ بالكلامِ وَتَأَلَّفَ عَلَيْهَا ودَعَا إِلَيْهَا، فهو مردودُ الشهادةِ، لأَنَّهُ أَتَى مُحَرَّماً لا اختلافَ فيهِ بينَ علماءِ المسلمينَ عَلِمْتُهُ، واحْتَجَّ بقولِ الله تَعَالَى {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} وبقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «وكُونُوا عبادَ الله إِخْوَاناً» .
أبي داوود
باب في العصبية
ابن ماجة
باب العصبية
المصباح الزجاج
باب العصبية
السنن الكبرى
(21539) ــ أخبرنا أبو الحسينِ بنُ بِشْرَانَ ببغدادَ أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار ثنا الحسن بنُ مُكْرَمٍ وأحمدُ بنُ مَلاَعِبٍ قالا ثنا هَوْذَةُ بنُ خَلِيفَةَ ثنا سليمانُ التيميُّ عن أبي عثمانَ النَّهْدِيِّ عن أُسامةَ بنِ زيدٍ قالَ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُنِي والحسنَ بنَ عليَ فيقولُ: «اللهمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا» . أخرجه البخاري في الصحيح من حديثِ مُعْتَمِرِ بنِ سليمانَ عن أبيهِ.
قالَ الشَّافِعِيُّ رحمهُ الله: فالمكروهُ في محبةِ الرجلِ مَنْ هوَ منهُ أَنْ يَحْمِلَ على غيرِهِ مَا حَرَّمَ الله عليهِ من البَغْيِ، والطَّعْنِ في النَّسَبِ، والعَصَبِيَّةِ، والبُغْضَةِ على النَّسَبِ لا على معصيةِ الله، ولا على جِنَايَةٍ من المُبْغِضِ على المُبْغَضِ، وَلَكِنْ يقولُ: أُبْغِضُهُ لأَنَّهُ من بَنِي فلانٍ، فَهَذِهِ العصبيةُ المَحْضَةُ الَّتِي تُرَدُّ بِهَا الشهادةُ.(96/1)
(21542) ــ أخبرنا أبو زكريا بنُ أبي إسحاقَ أنبأ أبو بكر أحمدُ بنُ إسحاقَ بنِ أيوبَ الفقيهُ أنبأ محمد بنُ سليمانَ بنِ الحارثِ ثنا محمد بن عبد الله ثنا حُمَيْدٌ الطويلُ عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله أَمِنَ العصبيةِ أَنْ يُعِينَ الرجلُ قَوْمَهُ على الحَقِّ، قالَ: «لا» .
احمد:
(8018) ــ حدّثنا عبد الله، حدَّثني أبي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن غيلان بن جرير، عن زياد بن رباح، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من فارق الجماعة وخرج من الطاعة فمات فميتته جاهلية، ومن خرج على أمتي بسيفه يضرب برها وفاجرها، لا يحاشي مؤمناً لإِيمانه ولا يفي لذي عهد بعهده فليس من أمتي، ومن قتل تحت راية عمية يغضب للعصبية، أو يقاتل للعصبية، أو يدعو إلى العصبية فقتلة جاهلية» .
(16664) ــ حدّثنا عبد الله حدَّثني أبي حدثنا زياد بن الربيع قال: حدثنا عباد بن كثير الشامي من أهل فلسطين عن امرأة منهم يقال لها فسيلة أنها قالت: سمعت أبي يقول: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا، ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم» .
(17141) ــ حدّثنا عبد الله حدَّثني أبي حدثنا زياد بن الربيع حدثنا عباد بن كثير الشامي من أهل فلسطين عن امرأة منهم ـ يقال لها فسيلة ـ قالت: سمعت أبي يقول: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أمن العصبية أن يحب الرجل قومه، قال: لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم» .
المصباح:(96/2)
(1394) ــ حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة. ثنا زياد بن الربيع اليحمدي عن عباد بن كثير الشامي، عن امرأة منهم يقال لها: فسيلة. قالت: سمعت أبي يقول: سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: «لا. ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم» . (6831) قلت: رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده هكذا رواه أبو داود في سننه عن محمود بن خالد عن الفريابي عن سلمة بن بشر الدمشقي عن ابنه واثلة بن الأسقع أنها سمعت أباها يقول: قلت: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: أن تعين قومك على الظلم، هكذا رواه مختصراً وسكت عليه.
أبي يعلى:
(7493) ــ حدثنا أبو الأسقع أحمد ابن المقدام العجلي حدثنا عبيد ابن القاسم حدثنا العلاء ابن ثعلبة عن أبي المليح الهذلي عن واثلة ابن الأسقع قال: «تدانيت النبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف فقال لي أصحابه إليك يا واثلة أي تنح عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إنما جاء يسأل قال فدنوت فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله لتفتنا عن أمر نأخذه عنك من بعدك قال لتفتك نفسك قال قلت وكيف لي بذلك قال دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون قلت وكيف لي بعلم ذلك قال تضع يدك على فؤادك فإن القلب يسكن للحلال ولا يسكن للحرام وإن الورع المسلم يدع الصغير مخافة أن يقع في الكبير قلت بأبي أنت وأمي ما العصبية قال الذي يعين قومه على الظلم قلت فمن الحريص قال الذي يطلب المكسبة من غير حلها قلت فمن الورع قال الذي يقف عند الشبهة قلت فمن المؤمن قال من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم قلت فمن المسلم قال من سلم المسلمون من لسانه ويده قلت فأي الجهاد أفضل قال كلمة حكم عند إمام جائر» .
الكبرى:(96/3)
(21541) ــ أخبرنا أبو عليَ الرُّوْذَبَارِيُّ أنبأ محمد بن بكر ثنا أبو داودَ ثنا محمود بن خالد الدمشقيُّ ثنا الفِرْيَابِيُّ ثنا سَلَمَةُ بن بشر الدمشقيُّ عن ابنةِ وَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ أَنَّهَا سمعتْ أَبَاهَا يقولُ: قلتُ: يا رسولَ الله مَا العَصَبِيَّةُ، قالَ: «أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ على الظُّلْمِ» .
أبي داوود:
(5114) ــ حدثنا مَحمُودُ بنُ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيُّ قالَ أخبرنا الْفِرْيَابِيُّ قالَ أخبرنا سَلَمةُ بنُ بِشْرٍ الدِّمَشْقِيُّ عن بِنْتِ وَائِلَةَ بنِ الأسْقَعِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ الله ما الْعَصَبِيَّةُ؟ قال: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» .
ابن ماجة:
(4035) ــ حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ الْيُحْمِدِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الشَّامِيِّ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا: فَسِيلَةُ. قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قَوْمَهُ؟ قَالَ: «لاَ. وَلكِنْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يُعِينَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» .
الكبرى:(96/4)
(16946) ــ أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئ ُ أنبأ الحسن بن محمد بنِ إسحاق ثنا يوسف بنُ يعقوبَ القاضي ثنا شَيْبَانُ بنُ فَرُّوخٍ ثنا جَرِيرُ بنُ حَازمٍ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن أبي قيس بنِ رِيَاحٍ عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطاعةِ وفارَقَ الجماعةَ فماتَ، ماتَ مِيتَةً جاهليةً، ومن قاتَلَ تحتَ رَايَةٍ عَمِيَّةٍ يغضبُ للعصبيةِ أو يَدْعُو إلى عصبيةٍ أو يَنْصُرُ عصبيةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جاهليةٌ، ومن خَرَجَ على أُمَّتِي يضربُ بَرَّهَا وفاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَى من مُؤْمِنِهَا ولا يَفِي لذِي عَهْدِهَا، فليسَ مِنِّي ولستُ منهُ» . رواه مسلم في الصحيح عن شَيْبَانَ بنِ فَرُّوخٍ.
(16946) ــ أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد المقرئُ أنبأ الحسن بن محمد بنِ إسحاق ثنا يوسف بنُ يعقوبَ القاضي ثنا شَيْبَانُ بنُ فَرُّوخٍ ثنا جَرِيرُ بنُ حَازمٍ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن أبي قيس بنِ رِيَاحٍ عن أبي هريرةَ عن النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ الطاعةِ وفارَقَ الجماعةَ فماتَ، ماتَ مِيتَةً جاهليةً، ومن قاتَلَ تحتَ رَايَةٍ عَمِيَّةٍ يغضبُ للعصبيةِ أو يَدْعُو إلى عصبيةٍ أو يَنْصُرُ عصبيةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جاهليةٌ، ومن خَرَجَ على أُمَّتِي يضربُ بَرَّهَا وفاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَى من مُؤْمِنِهَا ولا يَفِي لذِي عَهْدِهَا، فليسَ مِنِّي ولستُ منهُ» . رواه مسلم في الصحيح عن شَيْبَانَ بنِ فَرُّوخٍ.(96/5)
(21540) ــ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ثنا عبيد الله بنُ عُمَرَ القَوَارِيْرِيُّ ثنا حماد بن زيد عن أيوبَ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن زياد بن رِيَاحٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ خَرَجَ من الطاعةِ وفارقَ الجماعةَ فماتَ (ماتَ) مِيْتةً جَاهِلَيَّةً، ومَنْ قُتِلَ تحتَ رَايَةِ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ ويَنْصُرُ عَصَبِيَّةً ويَدْعُو إِلَى عصبيةٍ، فَقُتِلَ فَقِتْلَتُهُ جاهليةٌ، ومَنْ خَرَجَ على أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وفَاجِرَهَا لا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ولا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» . رواه مسلم في الصحيح عن القَوَارِيْرِيِّ.
(21540) ــ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد ثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار ثنا عبيد الله بنُ عُمَرَ القَوَارِيْرِيُّ ثنا حماد بن زيد عن أيوبَ عن غَيْلاَنَ بنِ جَرِيرٍ عن زياد بن رِيَاحٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ خَرَجَ من الطاعةِ وفارقَ الجماعةَ فماتَ (ماتَ) مِيْتةً جَاهِلَيَّةً، ومَنْ قُتِلَ تحتَ رَايَةِ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ ويَنْصُرُ عَصَبِيَّةً ويَدْعُو إِلَى عصبيةٍ، فَقُتِلَ فَقِتْلَتُهُ جاهليةٌ، ومَنْ خَرَجَ على أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وفَاجِرَهَا لا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا ولا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» . رواه مسلم في الصحيح عن القَوَارِيْرِيِّ.
مسلم:(96/6)
(4748) ــ حدّثنا هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى. حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» .
النسائي:
(4099) ــ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةِ عُمِّيَّةٍ يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً وَيَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ: عِمْرَانُ الْقَطَّانُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
(3546) ــ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمِّيَّةٍ يُقَاتِلُ عَصَبِيَّةً وَيَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ: عِمْرَانُ الْقَطَّانُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
ابي داوود:
(5116) ــ حدثنا ابنُ السَّرْحِ أخبرنا ابنُ وَهْبٍ عن سَعِيدِ بنِ أَبِي أَيُّوبَ عن مُحمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ المَكِّيِّ ـ يَعني ابنَ أَبِي لَبِيبَةَ ـ عن عَبْدِ الله بنِ أَبِي سُلَيْمانَ عن جُبَيْرِ بنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» .
النسائي:(96/7)
(4098) ــ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلاَلٍ الصَّوَّافُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مَيْتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايةٍ عُمَيَّةٍ يَدْعُو إلَى عَصَبِيَّةٍ أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» .
ابن ماجة:
(2705) ــ حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،، رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَتَلَ فِي عِمِّيَّةٍ أَوْ عَصَبِيَّةٍ بِحَجَرٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ عَصاً، فَعَلَيْهِ عَقْلُ الْخَطَإِ. وَمَنْ قَتَلَ عَمْداً فَهُوَ قَوَدٌ. وَمَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ» .
(4034) ــ حدّثنا بِشْرُ بْنُ هِلاَلٍ الصَّوَّافُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ. حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عَمِّيَّةٍ، يَدْعُو إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ، فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» .
النسائي:(96/8)
(3545) ــ أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ هِلالٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ غَيْلانَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلا يَفِي لِذَي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عَمِيه يَدْعُو إلَى عَصَبِيَّةٍ أَوْ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِليَّةٌ» .
التهذيب:(96/9)
ضاً، عن يحيى بن شِبْل: كنتُ جالساً عند مقاتل بن سُلَيمان فجاء شابٌ فسأله: ما تقول في قول الله تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} ، فقال مقاتل: هذا جَهْمِيٌّ. قال: ما أدري ما جَهْمِي، إن كان عندك علم فيما أقول، وإلا فقل لا أدري، فقال: ويحك إن جَهْماً والله ما حج هذا البيت، ولا جالسَ العُلماءَ إنما كان رجلاً أُعطِيَ لساناً، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} إنما كل شيء فيه الرُّوح كما قال لملكة سبأ {وأُوتِيتْ مِنْ كُلِّ شَيءٍ} لم تؤت إلا ملك بلادها، وكما قال: {وآتَيْناهُ مِنُ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبَا} لم يؤت إلا ما في يدهِ من المُلْكِ. ولم يدع في القرآن كل شيء وكل شيء إلا سرد علينا. وقال القاسم بن أحمد الصَّفار: كان إبراهيم الحَرْبيُّ يأخذُ مني كُتُب مقاتل فينظر فيها، فقلتُ له ذات يوم: أخبرني يا أبا إسحاق ما للناس يطعنون على مُقاتل؟ قال: حَسَداً منهم لمقاتل. وقال أبو الفَضْل مَيْمون بن هارون الكاتب: حدثني ابن أخي سُلَيمان بن يحيى بن مُعاذ أن أبا جعفر المنصور كان جالساً فألحَّ عليه ذُبابٌ يقعُ على وجهه، وألحَّ في الوُقوع مراراً حتى أضجَرَهُ، فقال: أنظروا مَن بالباب؟ فقيل: مقاتل بن سليمان. فقال: عليَّ به. فلما دخلَ عليه قال له: هل تعلم لماذا خلقَ الله الذُّبابَ؟ قال: نعم. ليُذِلَّ به الجَبَّارين. فسكتَ المنصور. وقال الفَضْل بن عبد الجَبَّار المَرْوَزي: سمعتُ عليَّ بن الحَسن بن شقيق يقول: سمعتُ عبد الله بن المُبارك يقول: سمعتُ مقاتل بن سُليمان يقول: الأم أحقُ بالصِّلة والأبُ أحق بالطاعة. قال الفَضْل: وأظنني سمعتُ علياً يقول: ابن المُبارك لم يرو لمقاتل إلا هذين الحَرْفين، قال: وسمعت أصحاب عبد الله في طول ما رأيتهم لم أرهم يروون لمقاتل شيئاً غير هذا.(96/10)
وقال عليّ بن يونُس البَلْخي: سمعت أبا نُصَيْر، وعليّ بن الحسين بن واقد يقولان: إن الخليفةَ سألَ مقاتل بن سُلَيْمان، فقال: بلغني أنك تُشَبِّه. فقال: إنما أقول: {قُلْ هُوَ الله أحَدٌ. الله الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ} ، فمن قال غير ذلك فقد كذب. وقال العَبَّاس بن مُصْعَب المَرْوَزي: مقاتل بن سُلَيْمان الأزْديُّ أصلُهُ من بَلْخ قَدِمَ مَرو فنزلَ على الرَّزِيق وتزوج بأمِّ أبي عِصْمة نوح بن أبي مريم، وكان حافظاً للتفسير، وكان لا يضبط الإسنادَ، وكان يَقصُّ في الجامع بمرو، فقَدِمَ عليه جَهْم، فجلس إلى مُقاتلٍ فوقعت العصبية بينهما، فوضع كلُّ واحدٍ منهما على الآخر كتاباً ينقضُ على صاحبه. وقال عليّ بن يونُس البَلْخي، عن عليّ بن الحُسَين بن واقد، عن أبي عِصْمة: إنَّ مقاتلاً قال لأبي عِصْمة: إني أخافُ أن أنسَى عِلْمي، وأكره أن يكتبَهُ غيرك، وكان يُملي عليه بالليل عند السِّراج ورقةً أو ورقتين حتى تم التَّفسير على ذلك. ورواه عنه أبو نُصَيْر ودَسَّ إلى جاريةِ مقاتل حتى حملت كتبه إليه فكتَبها. وقال عليّ بن يونُس أيضاً، عن خالد بن صَبيح: قيل لحَمَّاد بن أبي حنيفة: إن مقاتلاً أخذَ التَّفسير عن الكَلْبِيِّ. قال: كيف يكون هذا، وهو أعلم بالتَّفسير من الكلبيِّ؟. وقال العَبَّاس بن مُصْعب المَرْوَزي أيضاً: حدثني بعضُ أصحابنا عن أبي معاذ الفَضْل بن خالد، عن عبَيد بن سَلمان أن تفسير مُقاتل عُرِضَ على الضَّحاك بن مُزاحم فلم يُعجبه، قال: فَسَّرَ كُلَّ حرف. قال: فذكرت ذلك لعَليّ بن الحُسَين بن واقد، فقال: كُنا في شكٍ أنَّ مقاتلاً لقي الضَّحاك، فإذا كان مقاتل له من القَدْر ما ألَّف تفسير القرآن في عهد الضَّحاك، فقد كان رَجُلاً جليلاً. وقال عبد الله بن محمد الزُّهْري، عن سُفيان بن عُيَيْنَة: قلت لمقاتل بن سُلَيْمان: إنَّ ناساً يزعمون أنَّك لم تُدرك الضَّحاك.(96/11)
قال: سبحان الله، لقد كنتُ آتيه مع أبي ولقد كان يغلق عليَّ وعليه باب واحد. وقال يحيى بن موسى، عن عبد الرَّزاق: سمعت ابن عُيَيْنة يقول: قلت لمُقاتل: تُحدِّث عن الضَّحاك، وزعموا أنك لم تسمع منه؟ قال: كان يغلق عليَّ وعليه الباب. قال ابن عُيَيْنة: قلت في نفسي: أجل باب المدينة. وقال أبو مَعْمَر القَطِيعي، عن سُفيان بن عُيَيْنة: كُنا عند مقاتل بن سُلَيْمان، فقيل له: سمعتَ من الضَّحاك؟ قال: ربما أُغلق عليَّ وعليه باب. قال سُفيان: ينبغي أن يكون أُغْلِقَ عليهما باب المدينة. وفي رواية، قال سُفيان: قلتُ في نفسي: كان يغلق عليه وعلى الضَّحاك باب المقابر وهو على ظهر الأرض في تلك المدينة. وقال أبو خالد الأحمر، عن جُوَيْبر بن سعيد: لقد والله مات الضَّحَّاك، وأنَّ مُقاتلاً له قِرْطان وهو في الكُتَّاب.
منه. وقال القاسم بن أحمد الصفار: قلت لإبراهيم الحربي: ما بال الناس يطعنون على مقاتل؟ قال: حسداً منهم له. وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت مقاتل بن سليمان يقول: الأم أحق بالصلة، والأب أحق بالطاعة، لم يرو ابن المبارك عن مقاتل إلا هذين الحرفين. وقال العباس بن مصعب المروزي: مقاتل بن سليمان أصله من بلخ، قدم مرو فتزوج بأم أبي عصمة نوح بن أبي مريم، وكان حافظاً للتفسير، لا يضبط الإسناد، وكان يقصّ في الجامع فوقعت العصبية بينه وبين جهم فوضع كل واحد منهما كتاباً على الآخر ينقص عليه. وقال خالد بن صبح: قيل لحماد بن أبي حنيفة: إن مقاتلاً أخذ التفسير عن الكلبي، قال: كيف يكون هذا وهو أعلم من الكلبي، ويروي أن مقاتل بن سليمان ألّف تفسيره في عهد الضحاك بن مزاحم.
عون المعبود:(96/12)
أي مواليهم (ردهم) : أي عبيدهم (إليهم) : أي إلى مواليهم (فغضب) : قال التوربشتي: وإنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادعوه أنهم خرجوا هرباً من الرق لا رغبة في الإسلام وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من ديار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحراراً لا يجوز ردهم إليهم، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاوناً على العدوان (ما أراكم) : بضم الهمزة أي ما أظنكم، وبفتح الهمزة أي ماأعلمكم (تنتهون) : أي عن العصبية أو عن مثل هذا الحكم وهو الرد (على هذا) : أي على ما ذكر من التعصب أو الحكم بالرد (وقال هم عتقاء الله) : قال الطيبي: هذا عطف على قوله وقال ما أراكم وما بينهما قول الراوي معترض على سبيل التأكيد. قال المنذري: وأخرجه الترمذي أتم منه وقال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي. وقال أبو بكر البزاز: لا نعلمه يروى عن علي إلا من حديث ربعي عنه.(96/13)
النكير على المفتون بالغناء والمزامير
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
النكير على المفتون بالغناء والمزامير
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(97/1)
لازلنا نتدارس منزلة ذكر الرحمن في الإسلام وتقدم معنا أن الذكر ضروري للإنسان فهو لقلبه كالماء للسمك ومن أجل ذلك أمرنا الله أن نكثر من ذكره في جميع الأوقات، وتقدم معنا أن فوائد الذكر تزيد على مائة فائدة، وهذه العبادة الجليلة التي لها هذه المنزلة الفاضلة الكريمة قد غيرها المتأخرون وابتدعوا فيها وانحرفوا عنها.
إخوتي الكرام: ولنتتابع فقرات موعظتنا وليكون الحديث موصولاً بما سبق سأتكلم عن فائدة من فوائد الذكر ثم أتابع خطوات البحث.
إن الإنسان عندما يذكر ربه يحصل فائدة عظيمة جليلة يتخلى عن الرذائل، ويتحلى بالفضائل، ففي الذكر تخلية وتحلية، نعم إن من يذكر الله جل وعلا يبتعد عن الرذائل ويحصن نفسه من اللهو واللغو والباطل فالذكر جُنَّة خصينة للإنسان من وساوس الشيطان ومن هزيان اللسان، ثم هو بعد ذلك يتصف بالصفات الكريمات ويقوم عندما يذكر ربه بأفضل الطاعات ولذلك قرر أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أن أفضل العبادات في حق المخلوقات بعد أداء الفرائض ذكر رب الأرض والسماوات، نص على هذا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) الجزء العاشر وصفحة ستين وستمائة 10/610 قال شيخ الإسلام (والدلائل القرآنية والإيمانية بحراً وخيراً ونظراً على ذلك كثيرة) وهذا الأمر الذي اتفق عليه أئمتنا أن أفضل العبادات بعد أداء الواجبات ذكر رب الأرض والسماوات، أن يشغل الإنسان نفسه بذكر مولاه، هذا الأمر دلت عليه سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مواطن كثيرة فاخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الذاكرين هم السابقون، وأخبرنا أن عبادة الذكر هي أجل العبادات عند الحي القيوم.(97/2)
فاستمع إلى تقرير هذين الأمرين من كلام نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن الترمذي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، فهو صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال [كنا نسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى وصلنا إلى جبل يقال له جعدان، وقال سيروا هذا جعدان سبق المفردون، قالوا ومن المفردون يا رسول الله؟ قال الذاكرون الله كثيراً والذاكرات] ، وفي رواية المسند ومستدرك الحاكم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[المفردون هم الذين يهذون بذكر الله] أي يولعون ويتعلقون بذكر الحي القيوم في جميع أوقاتهم وأحوالهم.(97/3)
وفي رواية الترمذي [هم الذين المستهذون بذكر الله يضع الذكر عنهم أوزارهم فإذا وافوا ربهم يوم القيامة وأوفوه خفافا] ، وهذا الحديث كما روي في صحيح مسلم وغيره من رواية أبي هريرة، رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي الدرداء ومعاذ بن جبل أيضاً رضي الله عنهم أجمعين، نعم هؤلاء هم السبقاون لأنهم عبدوا الحي القيوم بأفضل العبادات ألا وهو ذكر الله، وقد نص على هذا نبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح كالشمس من رواية أبى الدرداء رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله] ، ولذلك من قام به صار من المفردين، وهذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ موقوفاً على أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، وقد رفعه من تقدم ذكرهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح ثابت ورواه الإمام أحمد في المسند بسندٍ صحيح، إلا أنه منقطع من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه.
إذاً الذاكر سابق ويعبد الله بأجل العبادات، ذكر رب الأرض والسماوات.
إخوتي الكرام..(97/4)
إذا كان للذكر هذه المنزلة كما ذكرت في هذه الموعظة وكما تقدم في المواعظ السابقة، فإن أعلى الأذكار وأفضلها كما تقدم معنا كلام الله جل وعلا، الذي به تحصل اللذة للإنسان عندما يقرأه في هذه الحياة ويتنور قلبه وينشرح صدره وتبتهج نفسه وبه يحصل عظيم الأجر في الآخرة بعد الممات عند رب الأرض والسماوات، ذكر الله عن طريق قراءة كلامه، عبادة جليلة كما أننا ينبغي أن نذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وغير ذلك، ينبغي أن نذكره بتلاوة كلامه ووحيه الذي أنزله على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكما قلت من تلا هذا الكلام حصل فوائد في العاجل والآجل، وما أعلم ما أصابنا في هذه الأيام عندما أعرضنا عن كلام ذي الجلال والإكرام والمشركون مع شركهم كانوا يستمعون إلى كلام الله جل وعلا ويتلذذون به فاستمع إلى هذه الحوادث التي وقعت في الصدر الأول عند نزول القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم -.(97/5)
ثبت في مستدرك الحاكم بسندٍ صحيح على شرط البخاري وأقره عليه الذهبي والحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ورواه الإمام ابن جرير وابن مردويه في تفسيره، والحديث صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال [جاء الوليد بن المغيرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع منه القرآن فلما عاد إلى قومه قال أبو جهل إن الوليد قد جاءكم بوجهٍ غير الوجه الذي ذهب به فسألوه عما سمع فقال لهم والله لقد سمعت كلاماً ما هو بالشعر ولا هو بالسحر ولا هو بالكهانة فأنا من أخبركم بذلك، والله إن له لحلاوة، وعليه لطلاوة] : وهي البهجة والنور والسرور [وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه يحطم ما تحته، ويعلو ولا يعلى عليه، وما هو من كلام البشر، فقال أبو جهل إنك أتيت محمداً لتصيب من طعامه قال لقد علمت قريش أنني من أغناهم قال له أبو جهل لن يقنع قومك منك حتى تقول في هذا القرآن شيئاً يرضون به عنك، ثم فكر فقال هذا سحر يأثره محمد عن من سبقه فأنزل الله فيه صدر سورة المدثر {إنه فكر وقدر* فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحةٌ للبشر * عليها تسعة عشر *} سمع هذا القرآن وهذه شهادة كافر بالرحمن ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة، وليس من كلام البشر يحطم ما تحته، يعلو ولا يعلى عليه، له حلاوة، عليه طلاوة، أسفله مغدق، أعلاه مثمر.
نعم اخوتي الكرام: كان القرآن يؤثر حتى في نفوس المشركين في الصدر الأول فما الذي أصاب المؤمنين في هذا الحين عندما أعرضوا عن كلام رب العالمين؟(97/6)
ثبت في مصنف ابن أبي شيبة ومستدرك الحاكم، والحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة وأبو نعيم في (دلائل النبوة) أيضاً ورواه أبو يعلى في مسنده وعبد بن حميد في مسنده وابن مردوية في تفسيره وإسناد الأثر حسن من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والأثر روي مرسلاً من رواية محمد بن كعب القرظي في مغازي محمد بن إسحاق ورواه الإمام ابن المنذر وابن عساكر، كما رواه البيهقي في (دلائل النبوة) أيضاً، فهو من رواية جابر بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي رضي الله عنهم أجمعين.(97/7)
وخلاصة الأثر وهو صحيح كما قلت [أن المشركين اجتمعوا في دار الندوة في مكة المكرمة فبعثوا في أمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم استقر رأيهم على أن يرسلوا إليه من يفاوضه لعله يترك دعوته، فذهب عتبة بن ربيعة فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وسلم عليه وقال له يا محمد عبت آلهتنا وسفهت أحلامنا وكفرت من مضى من آباءنا، فرقت جماعتنا فسأعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها قال قل ما عندك قال إن كنت تريد بهذا الأمر مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أغنانا، وإذا كنت تريد زواجاً زوجناك أجمل بناتنا، وإذا كنت تريد ملكاً وشرفاً ملكناك وسودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كان هذا يأتيك رئياً من الجن جمعنا لك الأطباء وبذلنا له الأموال حتى نعالجك منه لتبرأ، فقال له النبي انتهى ما عندك، فتلا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه صدر سورة (حم فصلت) {حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتابٌ فصلت آياته قرءاناً عربياً لقومٍ يعملون * بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} إلى قوله تعالى {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود} فقام عتبة بن ربيعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده على يده وقال يا محمد الله والرحم، والله ما عندنا شك في صدقك ولو دعوت علينا لاستأصلنا الله وأهلكنا فاتق الله فينا فبيننا وبينك قرابة، قال قد سمعت؟ قال نعم: قال أنت وذاك، فذهب إلى قومه فقالوا ما دراءك فقال لهم ما قاله الوليد بن المغيرة، ثم قال لهم أرى أن تتركوا محمداً وشأنه فإن أصابه العرب كفيتموه بغيركم وإن ظهر فملكه ملككم وعزه عزكم وشرفه شرفكم، فقال أبو جهل لقد سحرك محمد، قال هذا رأي فاصنعوا ما بدا لكم] .(97/8)
انظر كيف يؤثر كلام الله جل وعلا في قلوب العتاة المشركين في الزمن الأول، وقد كان المشركون يتوافدون على النبي عليه الصلاة والسلام في ظلام الليل عندما كان في مكة المكرمة في أول دعوته ويأتي إلى فناء الكعبة في وسط الليل ويتلو كلام الله، ليسمعوا حلاوة هذا الكلام، وكان ذلك التوافد سراً، ثبت في مغازي محمد ابن إسحاق أنه اجتمع ثلاثة من المشركين في وسط الليل أبو جهل وأبو سفيان وأبي بن شريق وهو الأخنس بن شريق ولقب بالأخنس بعد موقعة بدر عندما قال لقومه إن الله ينجي غيركم في أول الأمر فلا داعي للقاء محمد فانخنس معه من انخنس فلقب بالأخنس بن شريق واسمه أبي بن شريق، وقد آمن منهم اثنان أبو سفيان، وأبي بن شريق، وبقى أبو جهل على كفره، كان يجتمعون سراً ولا يعلم أحد باجتماع صاحبه، حتى يطلع الفجر فإذا كادوا جمعهم الطريق فسأل كل واحد صاحبه أين كنت؟ فأخبروا بالحقيقة وقال كل واحد كنت استمع إلى محمد، فقال بعضهم لبعض ويحكم إذا سمع المشركون بكم وأنت وجهاء قومكم سيفتنون بمحمد فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يأتي أحد منهم في الليلة الثانية، وكل واحد ظن أن صاحبه سيفي بالوعد ولن يحضر، فاجتمع الثلاثة في الليلة الثانية مرة أخرى، فلما أسفر الفجر جمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض أين كنتم؟ فقالوا كنا نستمع إلى محمد فذكر بعضهم بعضاً بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم في الليلة الماضية، وتعاهدوا على أن لا يأتي أحد منهم في الليلة التالية ولا ما بعدها فعادوا أيضاً واجتمعوا في الليلة الثالثة، ثم بعد أن تفرقوا وتعاهدوا على ألا يعودوا ذهب أبي بن شريق وهو الأخنس إلى أبي سفيان قال أخبرني ماذا سمعت من محمد قال سمعت كلاماً عرفته وعرفت ما يراد به وسمعت كلاماً لا أعرف ما يراد به، ثم ذهب إلى أبي جهل قال أخبرني ماذا سمعت من محمد فأخبره، ثم قال له أنشدك الله هل تعلم أن محمد صادق أو كذوب؟ قال والله إنه لصادق وهو رسول الله حقاً، لكننا(97/9)
تسابقنا نحن وبنو هاشم حتى كنا كفرس رهانٍ، أطعموا أطعمنا، سقوا سقينا، حملوا حملنا، ثم قالوا منا نبي يأتيه خبر السماء والله لا نتبعه أبداً، فأنزل الله عز وجل آية تشير بها إلى ما حصل من هؤلاء ويسلي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عز وجل {قد نعم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وحال أبي جهل وغيره من العتاة كحال عتاة نجد في العصر الأول، كما كانوا يقولون كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، وهو مسيلمة الكذاب أحب إلينا من محمد.
إخوتي الكرام..
هذا أثر القرآن، وهذا عذوبته في هذه الحياة، وأما بعد الممات فتحصل أجراً عظيماً عند رب الأرض والسماوات، كنت قد بينت أن درجة قارئ القرآن إذا حفظه وفهمه وعمل بما فيه في أعلى الدرجات لأن عدد درج الجنة كعدد آي القرآن كما تقدم معنا من إيضاح أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وفي هذه الموعظة أقول إن قارئ القرآن كما أنه في أعلى غرف الجنان، لأنه القرآن يشفع له هو أيضاً يشفعه الله جل وعلا في أسرته في أصحابه وفي أحبابه فهو له هذه المنزلة، شفع له القرآن ثم هو يتقدم ويشفع لعباد الرحمن كما وضح لنا ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، وليس بعد ذلك المقام من مقام.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ورواه الطبري في تفسيره والطبراني في معجمه الكبير، والحديث في صحيح مسلم، فهو صحيح من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين، البقرة، وآل عمران، فإنهما يأتينان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما] تدافعان عن صاحبهما، هذا الإنسان حفظ البقرة وآل عمران فكيف يدخل النيران وفي قلبه كلام الرحمن.(97/10)
[اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة] قال معاوية بن سلام وهو من رجال الكتب الستة توفي سنة سبعين ومائة للهجرة 170هـ ثقة عدل رضا ـ البطلة: هم السحرة، قال الإمام ابن كثير في تفسيره الجزء الأول صفحة أربعة وثلاثين 1/34 في أوائل تفسير سورة البقرة، وقوله لا تستطيعها البطلة يعني لا تستطيع السحرة حفظ سورة البقرة، وأيضاً لا تستطيع السحرة التقوذ والوصول إلى قلب فيه سورة البقرة، من حفظها صار في حصن حصين، ولا يصل إليه هذا الساحر المهين، لذلك القرآن يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه وإذا شفع القرآن لقارئه فتأهل هذا القارئ بعد ذلك للشفاعة إلى غيره، فانظر لفضل القرآن على غيره يوم القيامة كما أخبرنا عن ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم -.(97/11)
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، ورواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه الإمام ابن عساكر وابن الأنباري في المصاحف، وابن نصر في كتاب قيام الليل، والآجري في أخلاق حملة القرآن، ولفظ الحديث من رواية معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه يوم القيامة حلة ضوءها أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم فما ظنكم بالذي عمل ذلك] هذا جزاء وفضل والدي قارئ القرآن يكسيان حلة ضوءها أجمل من أجمل من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، لو كانت الشمس في بيوتنا، فكم سينال هو عند الله، والحديث فيه زبان بن فائت المصري، وهو من رجال البخاري في الأدب المفرد وأخرج حديثه أهل السنن الأربعة إلا سنن النسائي، وهو صالح بعد قانت آداب لكن في حفظ ضعف، وهذا الحديث الذي روى من طريق يصل إلى درجة الحسن لوجود شواهد له، فمن ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح على شرط مسلم من رواية بريدة بن الحصين رضي الله عنه بمعنى الحديث المتقدم وهو يشهد لحديث معاذ بن أنس، وروى له شاهد من رواية معاذ بن جبل في مسند إسحاق بن راهوية ومعجم الطبراني الكبير، ووجد له شاهد ثالث من رواية أبي أمامة الباهلي في معجم الطبراني الكبير، ووجد له شاهد رابع من رواية أبي هريرة في معجم الطبراني الأوسط، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن لشواهده إن شاء الله، وأخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن قارئ القرآن يشفع لأهل بيته كما ثبت هذا في سنن الترمذي، ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة ومسند الدارمي، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان أيضاً وهو بتفسير ابن مردويه، ورواه الإمام أبو نصر في الإباحة، وقال إسناده حسن غريب، وقد أشار الإمام الشاطبي وهو الإمام التقي الرباني الذي توفي سنة تسعين وخمسمائة للهجرة 590هـ أشار إلى فضل القرآن على تاليه وعلى والديه(97/12)
في منظومته حرز الأماني فقال عليه رحمة الله:
وإن كتاب الله أوثق شافعٍ ... وأغنى غناء واهباً متفضلا
وخير جليس لا يمل حديثه ... وترداده يزداد فيه تجملا
وحيث الفتى يرتع في ظلماته ... ومن القبر يلقاه سنا متهللا
هنالك يهنيه مقبلا وروضة ... ومن أجله في ذروة العز يجتلا
يناشد في أرضائه كجيبه ... واجدر به سؤلا إليه موصلا
فيا أيها القارئ به متمسكا ... مجلا له في كل حال مبجلا
هنيئاً مريئاً والدك عليهما ... ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه ... أولئك أهل الله والصفوة الملا
أولو البر والإحسان والصبر والتقى ... حلاهم بها جاء القرآن مفصلا
عليك بها ما عشت فيها منافساً ... وبع نفسك الدنيا بأنفاسها البلا
ورواه عدد من أئمتنا من رواية سيدنا عليّ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قرأ القرآن فاستظهره] أي حفظه عن ظهر قلب [فأحل حلاله وحرم حرامه شفعه الله في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار] .
ورواه الترمذي وحكم عليه بأنه غريب، وإسناد ضعيف، وله شواهد في معجم الطبراني الأوسط من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفي الإسناد جعفر بن الحارث وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق ولكنه كثير الخطأ ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، نعم حكم عليه الإمام الهيثمي في المجمع والذهبي في المغني بأنه ضعيف، ووجد له شاهد من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها، رواه الخطيب البغدادي كما نص عليه السوطي في الجامع الكبير.(97/13)
إذن هذه منزلة قارئ القرآن في الآخرة، والإنسان يحصل الفائدة الأولى في الدنيا بتلذذ بمناجاة الله، وينال عظيم الأجر عند الله، ما الذي حصل بعد ذلك، واقع الأمر أن الأمر تغير وتكدر عما كان عليه وكان سلفنا يذكرون الرحمن ويتلوان القرآن ثم حصل في هذه الأمة ما حصل، وكما تقدم معنا أن المتأخرين من الصوفية عكفوا على الغناء والرقص وزعموا أنهم يتقربون بذلك إلى الله جل وعلا، وحقيقة أمرهم عجيب عجيب، متى كان العباد مغنيين راقصين وحصل في هذه الأمة كما في هذه الأيام أناس يدعون الجهاد وأنهم لا يريدون التشدق ولا الصياح إنما يريدون الكفاح، ثم بعد ذلك تخنثوا وتكسروا وقالوا الأشعار بمنتهى الميوعة مع آلات اللهو والطرب وقالوا إننا نجاهد بذلك، أمرهم عجيب، متى كان المجاهدون مطربين مخنثين، أمرهم عظيم فظيع، والله إن هذا اللهو الضلال المبين، إعراض عن ذكر الله، إعراض عن تلاوة كلام الله، أما بقصائد وأناشيد عن المخرفين من الصوفية، وأما بأناشيد الجهاد مع تكسر وخنوثة وميوعة عند من يدعون أنهم الجهاد، وهؤلاء وأولئك كما تقدم معنا علا ضلالة.(97/14)
وهناك نوع ثالث، من أنواع الأشعار التي تقال وهي في الحقيقة خارجة عن موضوع البحث لأننا نحن نبحث أصالة في شناعة البدعة ووضاعتها وشنيع حال صاحبها لكن من باب استكمال جوانب البحث، كما قلت سأتلكم بصورة موجزة عن نوع ثالث من الأشعار، وجد في هذه الأيام، وعكف عليه الناس لا باسم العبادة، وإنما باسم المجون، باسم الفسق، باسم الشهوة، وهو الأغاني الماجنة الفاسدة،، نعم لا تفعل على أنها عبادة، إنما هناك أشعار زعم الصوفية أنعم يعبدون بها ربهم، وهناك أشعار زعم المجاهدون البطالون في هذه الأيام أنهم يجاهدون ويعبدون بها ربهم، وهناك أشعار بعد ذلك أشعار لهو، أشعار فسق، أشعار مجون يقولها المنحرفون في هذه الأيام ويعكفون عليها أيضاً وحال ذلك بينهم وبين ذكر الرحمن، وبين تلاوة القرآن، هذه الأشعار المجونية التي هي الأغاني الخليفة لا يرتاب أحد في تحريمها وضابط الغناء كما ذكرت سابقاص كلام موزون حقيقي يقال يتكسر وتخنث يشتمل على فحش وغنى وبذاء ذلك إخوتي الكرام ما يقوله المجاهدون في هذه الأيام قلت أنهم وافقوا الغناء في الصيغة وإن خالفوه في الموضوع والمحتوى، إن نقول الفحش والبذئ والحرام، نعم إن الغناء والمجوني جمع بين قبح الموضوع وفساد الصيغة ولإلقاء، هذه الصورة لا خلاف في تحريمها، وإذا صاحبتها آلات اللهو فالأمة محجة على تحريمها كما تقدم معنا وخلاف من خالف في العصور المتأخرة من القرن الخامس إلى هذه الإيام من شذاذ الناس فلا عبرة بخلافهم ومن كان منهم من أهل الصلاح يلتمس له العذر ونستغفر الله لنا وله، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام..
هذا الغناء كما قلت بهذا الوصف لا خلاف في تحريمه، ووجد حوله شبهٌ من قبل بعض الناس، هذه الشبه تريد أن تبرر هذا الغناء المجوني، هذا الغناء الذي هو حرام فانتبهوا إخوتي الكرام لهذا الأمر، وكونوا على بينة من ذلك.(97/15)
هذا الغناء الذي فيه هذان الضابطان رداءة في الموضوع، وردائه في الصيغة، إن صاحبه شيء من آلات اللهو فلا خلاف في تحريمه، وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه سيطرأ حالاً على الأمة تستحل هذا النوع من الغناء بنوع تأويل وشبهة وإذا استحلته سيعاقبون بأشنع عقوبة ونسأل الله أن يلطف بنا، فاستمع إلى تقرير هذا من كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ثبت في صحيح البخاري ومعجم الطبراني الكبير، والسنن الكبرى للإمام البيهقي، والحديث رواه ابن عساكر، ورواه الإمام أبو داود في السنن من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [ليكوننَّ من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة يأتيهم الغفير، لحاجة ومساعدة، فيقولون ارجع إلينا غداً فيبتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة] ، الحر: جمع حر، وهي الفروج والزنى، والحرير معروف وضبط بالخاء، الخز: وهو نوع من الحرير، والعلم: أي الجبل، والسارحة: هي الماشية، أي يأتيهم الراعي الراعي بماشيتهم ليأخذوا حظهم من اللبن، فيبتهم الله، أي يدخل عليه الليل، ويضع العلم: أي يدكه ويقلبه عليهم المعازف فسرت بأمرين كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في فتح الباري عن شرح هذا الحديث وهو في كتاب الأشربة من صحيح البخاري باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، في الجزء العاشر صفحة خمسة وخمسين 10/55 يقول (المعازف هي: جميع آلات اللهو بلا خلاف بين أهل اللغة، ونقل عن الجوهري أن المعازف تشمل الغناء أيضاً وعليه المعازف يدخل تحتها نوعان، غناء: وهو كلام يشمل على فحش وحتى يقال بتكسر وتخنث، ومعازف: وهي آلات اللهو التي فشت في هذه الأيام.(97/16)
وقال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر صفحة ستة وسبعين وخمسمائة 11/576 المعازف هي آلات اللهو بلا خلاف بتعين العلماء، وهذا ما قرره الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه إغاثة اللهفان الجزء الأول صفحة ستين ومائتين 1/260 والإمام الذهبي تعرض إلى تفسير المعازف في عدد من كتبه، انظروا مثلاً سير أعلام النبلاء الجزء الواحد والعشرين صفحة ثمانية وخمسون ومائة، وتذكرة الحفاظ في أواخر الجزء الرابع صفحة سبعة وثلاثين وثلاثمائة 4/337 بعد الألف، يقول هذا الإمام المبارك، المعازف هي جميع آلات اللهو من الدف والصنوج والشبابة والراعي، وغير ذلك، هذه كلها آلات لهو وهي المعازف، والحديث كما ترون إخوتي الكرام.
أولاً: صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ودلالته واضحة صريحة في تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، وهتان الدلالتان نازع فيهما كثيراً من بني الإنسان في هذه الأيام يقرون لكتبها من عجيب، فنازعوا في الدلالة الأولى وقالوا الحديث لا يصح، كما نازعوا في الدلالة الثانية وقالوا لا يدل علماً تحريم الغناء ولا آلات اللهو، من العازف والمزامير، ولا بد من مناقشة في هاتين الشبهتين، فكونوا على بينة من ذلك اخوتي الكرام.(97/17)
أما أولاً: فالحديث صحيح وغاية من تكلم فيه من ابن حزم والذي توفي سنة ستة وخمسين وأربعمائة للهجرة 456هـ فمن بعده قالوا إن الحديث منقطع لأنه معلق والإمام البخاري يقول في صحيحه وقال هشام بن عمار وهو من شيوخ الإمام البخاري وقد روى عنه أهل الكتب الستة إلا مسلماً وقد توفي هشام بن عمار سنة خمسة وأربعين ومائتين للهجرة 245هـ، وهو من الأئمة القراء المحدثين الكبار كان أحمد بن أبي المواري، وهو أحمد بن عبد الله بن ميمون الذي توفي بعده بستة وهو ريحانة الشام، وهو ثقة عابد صالح زاهد حديثه في سنن أبي داود وابن ماجة يقول إذا حدثت في بلد فيها هشام بن عمار فينبغي للحيثي أن يتخلف، ويكفيه جلالة أن البخاري من تلاميذه، وهكذا كما قلت أهل السنن الأربعة، وقال هشام بن عمار، فقال هنا لم يشرح البخاري بالتحديث والسماع، وهذا كلام مردود لا وزن له ولا اعتبار، فهشام بن عمار من شيوخ البخاري، والتلميذ إذا روى عن شيخه بصيغة السماع أو التحديث أو الأخبار أو العنعنة أو القول فقال قال أو عن أو سمعت أو حدثني أو أخبرني كلها حكمها واحد، إذا لم يكن التلميذ من، وما وصف أحد من خلق الله إمام المحدثين وشيخ المسلمين، أعني الإمام البخاري بالتدليس فروايته عن هشام بن عمار بأي طريق كان عن أو قال أو أخبرني أو حدثني، محولة على الأثقال قطعاً وجزماً، وهذا ما أشار إليه أئمتنا الكرام في كتب المصلح فاستمع لقول شيخ الإسلام الشيخ زين الدين عبد الرحمن الأثري عليه رحمة الله عندما يقول:
وإن يكن أول الإسناد حذف ... مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف
أي هو حديث معلق، إذا حذف من مبدأ إسناده رادٍ فاكثر، أما الذي ولو إلى آخره.
أما الذي عزا لشيخه يقال ... فكذا عنعنة كجز المعازف
لا تصغ لأبن حزم المخالف.
نعم أئمتنا كان يوردون هذا في كتب المصطلح وفي كتب الفقه ويبينون أن شذوذ ابن حزم لا ينبغي أن يؤخذ به، ولذلك قال أئمتنا في تحريم الغناء والمعازف والمزامير.(97/18)
واحزم على التحريم أي حزم ... والحزم إلا تتميع ابن حزم
الأمر الثاني: هشام بن عمار كما قلت من شيوخ البخاري، وقد أورد الإمام البخاري هذا الأثر في صحيحه، وقد أشترط ألا يورد فيه حديثاً صحيحاً فهو حديث صحيح على حسب شرطه.
الأمر الثالث: لو سلمنا لكم أن الحديث معلقٌ وحذف من مبدأ إسناده راد فاكثر وبين البخاري وبين هشام بن عمار واسطة، لو سلمنا فالبخاري قد رواه عن شيخه بصيغة الجزم علقه عنه بصيغة الجزم، وقد اتفق أئمتنا على أن معلقات الصحيحين بصيغة الجزم محكوم بصحتها إلى من أضيفت إليه، وعيه فهذا الأثر ثابت، ومن هشام بن عمار السند متصل إلى نبينا المختار عليه الصلاة والسلام، فإذاً القول بأن هذا الإسناد صحيح وأنه حوله كلام هذا لغو ينبغي أن يطرح.
الأمر الثاني: تقول إن هذه الرواية التي رواها البخاري من طريق شيخه هشام بن عمار قد وصلت، وصلت إذا كنتم ترون أنها معلقة فساقها الإمام البيهقي، وابن عساكر والطبراني بأسانيد متصلة إلى هشام بن عمار إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، ووجد متابع في سنن أبي داود بإسناد صحيح لهشام بن عمار، فإذا زال ما نخشى منه أنه يحتمل انقطاعاً في السنة.(97/19)
الأمر الثالث: هذه الرواية لها شواهد كثيرة زادت على العشرة من رواية أكثر من عشرة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فيها المعنى، انظروا هذه الروايات في (إغاثة اللهفان) في الجزء الأول صفحة ستين ومائتين 1/260 فروى ما يشهد لهذه الرواية، من رواية أمنا عائشة، وعليّ رضي الله عنه، وعمران بن حصين، ومن رواية عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو، وعبد الرحمن سابط، وأنس بن مالك، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، فوجد ما يشهد لهذه الرواية لو كانت ضعيفة لتقوت، فكيف وهي في صحيح البخاري وقد ثبت في سنن ابن ماجة بسندٍ صحيح في كتاب الفتن في باب العقوبات، وفي صحيح بن حبان من رواية أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والغنيات يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير] والحديث كما قلت بإسناد صحيح، فهذا له شواهد كثيرة، فالقول بعد ذلك بأن الحديث فيه ضعف دندنة مردودة باطلة، نعم كما قلت أول من فتح الباب ابن حزم، والكلام مردود عليه، وتبعه الغزالي وهذا مردود عليه وقد توفي سنة خمسة وخمسمائة للهجرة 505هـ وتبعه محمد بن طاهر أبو الفضل المقدسي المتوفى سنة سبعة وخمسمائة للهجرة 507هـ، ويقارب هؤلاء الإمام أبو بكر بن العربي الذي توفي سنة ثلاثة وأربعين وخمسمائة هـ وكلهم أئمة أعلام لكن لا يجوز للإنسان أن يأخذ بزلل العلماء الكرام، وتقدم معنا مراراً أن من أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، ومن تبع زلل العلماء تزندق أو كاد إخوتي الكرام، وعليه ما يثار في هذه الأيام من أن الأحاديث التي تحرم الغناء المجوني الذي ذكرته، والأحاديث التي تحرم المعازف والمزامير كلها مثخنة بالجراح، هذا كلام باطل، لا وزن له، ولا اعتبار، حديث في صحيح البخاري وقالوا عنه أنه مثخن بالجراح سبحان ربي(97/20)
العظيم، وإذا شذ من شذ من بعض العلماء ورد عليهم شذوذهم وأخطأ من أخطأ من بعض العلماء ورد عليهم خطأهم، نأتي ونجعل ذلك القول حجة لنا في ترك كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والله إن هذا هو الباطل بعينه، إنها مثخنة بالجراح، لا ثم لا، إنها ثابتة في أصح الكتب بعد كتاب الله.
إخوتي الكرام..(97/21)
نشهد في هذه الأيام حملات منكرة على سنة نبينا أمام البررة عليه الصلاة والسلام، الأحاديث التي ثبتت في تحريم الغناء والمزامير والمعازف مثخنة بالجراح، وواحد آخر يوصف في هذه الأيام بأنه إمام الوسطية يقول في كتابه قذائف الحق صفحة ثلاثة ومائة صـ103، انظر إلى معاملة إلى سنن النبي عليه الصلاة والسلام، في هذه الأيام يقول وأنا شخصياً متوقف في هذا الحديث لم أنته فيه إلى حل حاسم، والحديث ما ذكره عما قريب غمس الذباب إذا وقع في الشراب ثم طرحه بعد ذلك، وهب الله شخصاً قال أنا لا أصدق حديث الذباب، هل يكون من الكافرين كلا، فما قال أن من أركان الإيمان أن نؤمن بالله واليوم الآخر وأن نغمس الذباب في الشراب كلام في ظاهره معسول لكنه في الحقيقة مستهجد مرذول، وأنا أقول لهذا ولأمثاله أليس من أركان الإيمان أن نؤمن بأن نبينا محمداً رسول الله حقاً وصدقاً، وإذا آمنا بأنه رسول الله ينبغي أن نعلم بأنه صادق فيما أخبر، ينبغي أن يطاع فيما أمر، ينبغي أن ننتهي عما عنه زجر وحذر عليه الصلاة والسلام، وعندما أخبرنا بأن في أحد جناحي الذباب داءً وفي الآخر شفاءً إذا كنا نؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أن نصدقه فيما أخبر وألا يترد كلامه بأوهامنا وعقولنا، وهذا الحديث ثابت من رواية ثلاثة من الصحابة ثبوت الشمس في رابعة النهار، ثابت من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، وسنن ابن ماجة، وسنن أبي داود، وصحيح ابن حبان، والحديث في مسند الدارمي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينقله فإن في أحد جناحه داءً وفي الآخر شفاءً] والحديث في صحيح البخاري، ويقول هذا العبد أنه متوقف فيه لم ينته فيه إلى حد حاسم، يا عبد الله أنت وأمثالك ضعوا عقولكم تحت أرجلكم، فوالله ثم والله لا يتحقق الآيات فيكم وفي غيركم إلا إذا جعلتم هواكم تبعاً لشرع نبيكم عليه الصلاة(97/22)
والسلام.
والحديث الثاني من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، إسناده كالشمس وضوحاً، وهو في المسند أيضاً وسنن ابن ماجة، ورواه الإمام الطيالسي في مسنده، وهو في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، ومسند أبى يعلى، وإسناد صحيح من رواية أبي سعيد الخدري، وروي أيضاً من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه في مسند البزار، ومعجم الطبراني الأوسط بسند رجاله رجال الصحيح، كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد الجزء الخامس صفحة سبعة وثلاثين 5/37 من كتاب الأطعمة باب الذباب إذا وقع في الإناء، يغمس ثم بعد ذلك يلقى، كلام ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام من رواية ثلاثة من الصحابة الكرام ينقل في دواوين الإسلام، يأتي بعد ذلك إنسان في هذه الأيام ويقول أنا شخصياً متوقف في هذا الحديث.(97/23)
كنت توقفت فلا تضر إلا نفسك، كان ماذا، وهل سنترك سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لتوقفك أو تقدمك، لا ثم لا، لعل ينتظر آراء الغرب ليقولوا هل هذا الكلام مقبول أو مردود ثم قال: هب أن إنساناً، وهذا الحديث، هل يطعن هذا في دين، لا ثم لا، لأن أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام صارت عند الأمة في هذه الأيام كأنها كرة تضرب بالأرجل، وهكذا إخوتي الكرام يشن هذا المسلك مسلك آخر لإنسان يقال عنه في هذه الأيام أنه بخاري هذا العصر، لكن بخاري هذا العصر ما سلم منه البخاري في الأصل، صحيح البخاري ما سلم من هذا الذي يقال عنه إنه بخاري العصر، حديث في صحيح البخاري يتجرأ بكل شدة وغلظة وعنف على رده وتضعيفه مع أنه في أصح الكتب بعد كتاب الله، والحديث هو في المسند وصحيح البخاري وسنن ابن ماجة، والمنتقى للإمام ابن الجارود ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى والطحاوي في مشكل الآثار، وهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه فلم يعطه أجره] يقول في تعليقه على ضعف الجامع هذا أول حديث ضعيف أورده وهو في صحيح البخاري وأنا مضطر لإيراده، من الذي اضطرك ما اضطرك إلى ذلك إلا شذوذك، ما اضطرك إلى إيراد هذا الحديث الذي هو في صحيح البخاري والحكم عيه بالضعف إلا لشذوذك، وأي بعد ذلك آمة فيه، ثم بعد ذلك تأتي بكلام الحافظ ابن حجر لتبرر به كلامك، ألا أخذت بكلام الحافظ ابن حجر في توثيق رواية هذا الإسناد والدفاع عنه وتصحيحه في الفتح، وفي هدى الساري في مقدمة فتح الباري.(97/24)
إخوتي الكرام: إن سنة النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأيام يحصل حولها ما يحصل وليس للسنة إلا ربنا الرحمن لك الله يا سنة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، هذا يقول عنها مثخنة بالجراح، وذاك يقول عنها إنه متوقف فيها، وهذا يقول عنها إنها ضعيفة، رفقاً بأنفسكم واتقوا ربكم، وإذا تركت أيضاً من يتكلم عن الحديث، وذهبت إلى جانب من يفتي لقلت إن كثيراً من المفتين في هذا الحين إنهم أحق بالسجن من السارق كما قال شيخ الإسلام الإمام ربيعة لرأي توفي سنة ستة وثلاثين مائة للهجرة 136هـ وهو إمام ثقة عدل ففيه شيخ الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله، يقول كما ينقل عنه الإمام ابن عبد البر في آخر بيان العلم وفضله الجزء الثاني صفحة واحد ومائتين 2/201 وهو قبل نهاية الكتاب بثلاث صفحات، يقول إن كثيراً ممن يفتي في هذه الأيام (وهذا في القرن الثاني) أحق بالسجن من السارق فماذا تقول أيها الإمام لو أدركت زماننا ورأيت من يفتي يبرر لبث الصليب وأن الصليب إذا لبث لأنه جرت به الأعراف الدولية.
فلا حرج على لابسه ولا ضير، كيف لو أدركت حالنا أيها الإمام؟ إذا كان في العصر الثاني بعض من يفتي أحق بالسجن من السارق فماذا يقول ربيعة لو أدرك الأمة في هذه الأيام.
إخوتي الكرام: ينبغي أن نجعل هو أن لشرع نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهذا الحديث حديث صحيح ودندنة من دندن حوله مردود عيه دندنته، ولا عبرة لكلامه ولا باعتراضه،(97/25)
وأما اللفظ الثاني الذي أثاروا حول الحديث قالوا على التسليم أن المراد بالمعازف الغناء والمعازف هي أيضاً آلات اللهو فهذا الحديث لا يفيد تحريمها. لم؟ قال: لان هذه الدلالة اقتران، المحرم هو مجموع هذه الأمور، هؤلاء يكونون عند العلم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، فالوعيد لمن قرن بين هذه الأمور الأربعة، أما إذا غنَّى أو استعمل آلات اللهو والطرب فلا حرج عيه ولا عار، العار لأن العزف اقترن بخمر واقترن باستحلال الزنا واستحلال الحرير، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة واقترنت هذا حرام.
وأنا أقول إنكم قلتم قولاً يضحك البهائم، فهل إذا استحل الإنسان الزنا بمفرده ليس بحرام؟ وهل إذا استحل الخمر فقط دون معازف فهو حلال؟ وهل إذا استحل الزنا فقط فهو حلال؟ وهل إذا استحل الحرير فقط فهو حلال؟
من قال هذا، إن هذه الأمور الأربعة إذا اجتمعت يزداد التحريم والتأثيم، وإذا وجد واحد منها ففعلها أيضاً حرام. وعندما قال الله في كتابه في سورة الحاقة، في حق فيمن يؤتى كتابه بشماله، ويأخذ كتابه بشماله، يقول الله جل وعلا: في {إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين *} فإذاً فيه صفتان، فما أعظم الرحمن، ولا أشفق على عباد الرحمن، لكنه كان يساعد المساكين، هل هذا سيدخل جنات النعيم؟ تقول دلالة الاقتران، لابد أن توجد فيه الصفتان؟ من قال هذا؟ فإذاً هنا قول النبي عليه الصلاة والسلام [يستحلون الحر] حرام بمفرده أو أن اجتمع مع محرم غيره؟ والحرير والخمر والمعازف.
اخوتي الكرام: إن الغناء محرم بلا خلاف عند أئمة الإسلام، وكما قلت كلامنا في هذه الموعظة مختصر حول هذا الأمر، وسأختمها بالمقاصد التي من أجلها حرم الله علينا الغناء والمعازف والمزامير، وأبرز هذه المقاصد أمران.(97/26)
الأول: منها، إن الغناء يحرك الشهوات ويثير الغرائز إلى فعل المحرمات، فهو كما قال سيد المسلمين الفضيل بن عياض عليه رحمة الله رقبة الزنا، ووالله هو أنجى الرقي في الوصول إلى هذه الجريمة المحرمة، ومن تتمنى زنا وتمني.
والآفة الثانية: التي من أجلها حرم علينا الغناء، أنه يصدنا عن ذكر الله، يصدنا عن تلاوة كلام الله حيث يجعل في قلب الإنسان نفاقاً، فالغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب، ولذلك من عكف على الغناء ينحرم من سماع القرآن وأعرض عن ذكر الرحمن، ورضي الله عن الإمام الضحاك عندما قال (الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب) ولذلك قال الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز لمؤدب أولاده ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بُغْضُ الغناء الذي مبدؤه من الشيطان ونهايته سخط الرحمن.(97/27)
إخوتي الكرام: كما قلت لا يسلم لهؤلاء منازعتهم حول صحة الحديث ولا حول دلالته، فالحديث صحيح ودلالته واضحة صريحة في أن من عكف على الغناء والمعازف والمزامير واستحلها فهو مهدد بعقوبة من الله الجليل بأن يمسخ قرداً وخنزيراً، بأن يخسف الله به الأرض، وأما ما قاله بعض المعاصرين، في توجيه حديث سند ابن ماجة الذي ذكرته وصحيح ابن حبان أنه [أناس يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها، ويعزف على رؤوسهم بالمغنيات والمعازف يخسف الله بهم الأرض، ويمسخ منهم قردة وخنازير] قال إن هذا المسخ ليس بلازم إن يكون في الصورة والحقيقة، إنما تمسخ القلوب والأرواح فيصبح الواحد إنساناً في صورة إنسان ولكنه في الحقيقة في نفسه خنزير، نفسه خنزير وروح قرد، سبحان ربي العظيم، ما هذا التكلف ولم هذا التنطع في تأويل الحديث، هلا أولت إذاً الصفة الأولى، وهي يخسف الله بهم الأرض، هل هذه مؤولة أم على ظاهرها؟ هلا قلت فيها يخسف الله بهم الأرض إلا يجعل لهم مكانة عليها، كما أولت الصفة الثانية، وهلا تلاعبت في شقي الحديث، أم تلاعبت في شقه الآخر يمسخهم الله قردة وخنازير على وجه الحقيقة، ويخسف الله بهم الأرض على وجه الحقيقة، هذه عقوبة مهدد بها من فعل هذا وفعل هذا العقوبة موكول إلى مشيئة الله وقد وقع المسخ في الأمم السابقة وهو واقع في هذه الأمة، نسأل الله أن يلطف بنا وأن يرحمنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم على الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(97/28)
إخوتي الكرام: كما قلت إن تحريم الغناء وآلات اللهو من جميع آلات المعازف لا خلاف في تحريمها عند أئمتنا، والإمام بن القيم له كلام كثير حلو جميل في تقرير هذا سأقتطع منه أمراً ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أبداً، ألا وهو، إن الأمر إذا اشكل علينا هل هو مباح أو حرام فلننظر إلى ثمرته، والأثر الذي يترتب عليه، فإن ترتب عليه ثمرة حسنة وثمار طيب فهو مباح حلال، وإن ترتب عليه آثار ضارة سيئة فهو حرام قطعاً وجزماً.(97/29)
يقول في مدارج السالكين الجزء الأول صفحة ستة وتسعين وأربعمائة 1/496 القاعدة الثالثة، إذا أشكل على الناظر أو على السالك حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي لا سيما إذا كان طريقاً مفضياً إلى ما يغضب الله جل وعلا ورسوله - صلى الله عليه وسلم - موصلاً إليه عن قرب وهو رفعه له ورائد له وبريد له، فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر فكيف بظنه بالحكم الخبير إن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر، التي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقاً للنفوس إلى الحرام بكثير، لا يمكن في حكمة ربنا أن يحرم قليل الخمر لأنه يسوق إلى السكر الذي يترتب عليه فعل المحرمات ثم يبيح الله سماع الغناء والمعازف التي هي أعظم سوقاً للنفس إلى المحرمات من الخمر بكثير، فإن الغناء هو رقية الزنا، وقد شاهد الناس إنه ما عاناه صبي إلا فسد ولا امرأة إلا وبغت، ولا شاب إلا، وإلا، ولا شيخ إلا وإلا، والعيان من ذلك يفتى عن البرهان، ولا سيما إذا جمع ـ أي الغناء ـ هيئة تحدوا النفوس أعظم جدو إلى المعصية والفجور ـ يعني كان المغني بصورة حسنة بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لا من المكان وإلا مكان والعشراء والأخوان، وآلات المعازف من والدف والأوتار والعيدان وكان القوال شادن شجي الصوت لطيف الشمائل من المردان ذو النسوان وكان القول في العشق والوصال والصد والهجران.
وقال في الإغاثة صفحة سبعة وأربعين ومائتين صـ247 كم من حرة صارت بالغناء من البغايا وكم من حر أصبح به عبداً للصبيات وللصبايا، وإذا اجتمع إلى هذه الرقية، وهي الغناء ـ الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء من غير جماع لحبلت من هذا الغناء، لما يؤثر فيها.(97/30)
هذا اخوتي الكرام متفق على تحريمه بين أئمتنا، نعم ما نقل عن بعض أئمتنا الكرام من الترخص في الغناء، فقلت إنه غناء من حيث التسمية لا من حيث الحقيقة فهي أشعار كما تقدم معنا جزلة فصلة ترقق القلوب تذكر بالآخرة، تزهد في الدنيا، هذا ما كان يقوله أئمتنا كما تقدم معنا من تقرير كلام الإمام أحمد وغيره عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً ورزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه، اللهم اجعل هوانا تبعاً لشرعك بفضلك ورحمتك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.
اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم احسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لمن جاوره من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات وصل الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً. والحمد لله رب العالمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(97/31)
ثمرة الخوف في الدنيا
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ثمرة الخوف في الدنيا
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..(98/1)
لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص كما قرر ذلك أئمتنا الأكياس، فخير بقاع الأرض وأحبها إلى الله عز وجل المساجد فهي موطن نوره وفيها هداه وإليها يأوي الموحدون المتهدون وقد أشار الله إلى هذا في آية النور في سورة النور فبعد أن ذكر آية النور ذكر المكان الذي يوجد فيه ذلك النور فقال ربنا العزيز الغفور: {الله نور السموات والأرض} ثم قال جل وعلا: {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال} وفيه نعت الله جل وعلا هؤلاء الرجال بأربع خصال ليدلك على أنهم بلغوا رتبة الكمال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي من أجلها أوجدهم رب الأرض والسموات، يصلون لله ويذكرونه ويعظمونه ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم، يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .(98/2)
اخوتي الكرام: وكنا نتدارس الصفة الرابعة من أوصافهم ألا وهي خوفهم من ربهم جل وعلا، فهم مع إحسانهم في ما بينهم وبين ربهم وفي ما بينهم وبين عباد الله جل وعلا ومع ذلك يخافون الله عز وجل، نعم إن الخوف من رب الأرض والسموات والحزن في هذه الحياة تلقيح للأعمال الصالحات، وكلما كمل علم الإنسان وتمت معرفته على التمام اشتدت خشيته من ذي الجلال والإكرام، بذلك نعت الله عباده العلماء الطيبين المخلصين فأشار الله جل وعلا إلى حال العلماء السابقين على هذه الأمة المرحومة المكرمة فقال في آخر سورة الإسراء: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً * وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزلناه تنزيلاً * قل آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إنَّ كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً *} .
نعم هذا هو نعت العلماء المخلصين المخلَصين، ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام عبد الأعلى اليمني عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين، قال: كما في كتاب الزهد للإمام عبد الله بن المبارك، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية وابن أبي شيبة في المصنف، ورواه أيضاً الإمام الطبري في تفسيره، وهو في تفسير ابن المنذر وابن أبي حاتم رحمة الله عليهم جميعاً، يقول هذا العبد الصالح عبد الأعلى التميمي (من أوتي م العلم مالا يبكيه لم يؤت علماً لأن الله نعت العلماء بالبكاء من خشيته جل وعلا فقال: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إنَّ كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} .(98/3)
وكان هذا العبد الصالح يقول كما في الحلية (شيئان أمران قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل) {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وإذا كان هذا هو نعت العلماء الصالحين السابقين فهذا هو أيضاً نعت العلماء الطيبين المخلصين من هذه الأمة المباركة المرحومة، يقول الله جل وعلا في سورة فاطر: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفاً ألوانها * ومن الجبال جددٌ بيضٌ وحمرٌ مختلفٌ ألوانها وغرابيبُ سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء، إن الله عزيزٌ غفور} فهؤلاء الأكياس أحسنوا صلتهم برب الناس وبالخالق جل وعلا ومع ذلك اتصفوا بالخشية والخوف من جل وعلا فقال: {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
نعم اخوتي الكرام: هذا نعت عباد الله الطيبين المقربين المحسنين الذين أحسنوا العمل وخافوا من الله عز وجل، قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكرُ أولوا الألباب} .
والمراد بالذين يعلمون هم الذين يخافون الحي القيوم ونعتهم كما تقدم في أول الآية الكريمة قائمون لله خاشعون لله مخبتون لله يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله {أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب} .(98/4)
وقد بوَّب الإمام الدارمي عليه رحمة الله في المقدمة من سننه باب يشير به إلى العلم الخشية وتقوى الله عز وجل، ثم نقل عن عدد من أئمتنا الكرام ما يقرر هذا الأمر فمن ذلك ما نقله عن مجاهد بن جبر رحمه الله ورضي عنه أنه قال: (الفقيه من يخاف الله عز وجل) ونقل عن سيد التابعين وإمام المسلمين الحسن البصري عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين أنه قال: (إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بأمر دينه المقبل على عبادة ربه) {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
اخوتي الكرام: هذا هو نعت عباد الله الطيبين المقربين، هذا هو نعت من يعمرون بيوت مالك يوم الدين في هذه الحياة {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: وقد وعدت أن نتكلم على هذه الصفة الرابعة ضمن أمرين اثنين ضمن بيان صفة الخوف وضمن لباب الأمر الثاني المتعلق بيوم القيامة وما يكون فيه، أما صفة الخوف فكما تقدم معنا سنتدارسها ضمن أربعة أمور أيضاً في تعريف الخوف وفي منزلة الخوف في شريعة الله جل وعلا، والأمر الثالث في ثمرة الخوف، والأمر الرابع في أسباب خوف المكلفين من رب العالمين، وقد مضى الكلام على الأمر الأول والثاني، وكنا نتدارس الأمر الثالث المتعلق بمباحث الخوف في ثمرات الخوف، وقد قررت اخوتي الكرام أن الخوف له ثمرات طيبة في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة، فالذين يخافون رب العالمين لهم العز والتمكين في هذه الحياة وسيكون الله معهم في جميع الأوقات وسيتولى أمرهم وسيخذل أعداءهم وهو على كل شيءٍ قدير.
نعم إن من خاف الله خوف الله منه كل شيء، وإن من لم يخف من الله عز وجل خاف من كل شيء، وقد قررت هذا اخوتي الكرام فيما مضى وأزيده شيء من الإيضاح في أول هذه الموعظة لأنتقل إلى ثمرات الخوف بعد ذلك في الآجل والآخرة.(98/5)
اخوتي الكرام: إن من خاف ذا الجلال والإكرام لا يهاب المخلوقين ولا يبالي بكيدهم أجمعين، وكيف يخافهم وهو يأوي إلى القوي المتين.. إلى رب العالمين.. إلى الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، هل يخاف العباد من خاف رب العالمين؟ لا ثم لا، فإذا دخل الخوف في قلب الإنسان من ذي الجلال والإكرام لن يخاف أحداً في هذه الحياة مهما كان شأنه، وكيف يخافه والله سيكفيه أعداءه وسينتقم من أعدائه من حيث لا يحتسب {أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله فما له من هادٍ * ومن يهد الله فما له من مضل، أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام} أليس الله بكافٍ عبده؟ بكافٍ عبده المؤمن الذي أحبه وخافه ورجاه فقامت عبادته على هذه الأمور الثلاثة سيكفيه الله جل وعلا كل شيء ضر ومكر وسيتولى أمره وسينصره في هذه الحياة، وهو على كل شيءٍ قدير، أليس الله بكافٍ عبده؟ وما نسي به هنا العبد بأنه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهذا من باب تفسير العبد بأشهر ألفاظه وبأشرف أنواعه، فأول ما يدخل في المعنى بهذا اللفظ نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي حقق العبادة للرحمن على وجه التمام، أحبه وخاف منه ورجاه، لكن الأمر عام في كل موحد، أليس الله بكافٍ عبده؟ بكافٍ عبده الموحد إذا وحده فأفرده بحبه وخوفه ورجائه {ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام} .(98/6)
وإذا كان الله عزيزاً سبحانه وتعالى ينتقم ممن عصاه وممن عاد أولياءه فسيكفي عبده الموحد ضر العباد وسيدفع عنه كيدهم من حيث لا يحتسب، وقد قرأ الأخوان حمزة والكسائي من السبع وأبو جعفر من العشرة يزيد بن القعقاع وخلف من العشرة أيضاً والقراءتان متواترتان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيغة الجمع وهو يقرر ما ذكرت {أليس الله بكافٍ عباده} عباده الموحدين، ويدخل في هذا دخولاً أولياً أنبياء الله ورسله وكل موحد حقق التوحيد في هذه الحياة، {أليس الله بكافٍ عبده، ويخوفونك بالذين من دونه، ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل، أليس الله بعزيزٍ ذي انتقام *} وقد أشار الله إلى هذا التقرير الذي ذكرته في أول سورة غافر فقال جل وعلا: {حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} {ذي الطول} ذي الغنى والتفضل، فهو الغني سبحانه وتعالى، وهو المتفضل على عباده لا إله غيره لا رب سواه، {إليه المصير * ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد * كذبت قبلهم قوم نوحٍ والأحزاب من بعدهم وهمَّت كل أمةٍ برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم، فكيف كان عقاب *} {أليس الله بكافٍ عباده} {فأخذتهم، فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} كما علموا في هذه الحياة وانتقم منهم رب الأرض والسموات سيلقيهم في الآخرة في أسفل الدركات وهو على كل شيءٍ قدير، {فأخذتهم، فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} .
اخوتي الكرام: إن من حقق توحيد ذو الجلال والإكرام فأفرد ربه بخوفه وبحبه ورجائه لا يخشى أحداً إلا الله جل وعلا، وقد تقدم معنا تقرير هذا موسعاً مفصلاً وسأختمه بقصتين اثنتين ثم انتقل إلى ثمرة الخوف في الآجل والآخرة إن شاء الله.(98/7)
القصة الأولى: رواه أئمتنا الكرام أبو نعيم في الحلية وغيره في ترجمة العبد الصالح شقيق بن إبراهيم أبي على البلخي الذي توفي سنة أربعة وتسعين ومائة للهجرة 194هـ وقد تقدم معنا ذكر كلامه اخوتي الكرام في أول الموعظة الماضية عندما قال: (مثل المؤمن كمثل من يزرع نخلاً ويخشى أن يحمل شوكاً، ومثل المنافق كمثل من يزرع شوكة ويطمع أن يحمل ثمراً) هذا العبد الصالح من العلماء الربانيين ومن الزهاد الصالحين ومن الغزاة المجاهدين حضر مرة في غزوة مع الكفار فلما اشتدت الحال فبدأت الرؤوس تندر (تسقط) والسيوف تكسر والرماح تقصص، أمسك هذا العبد الصالح أبو علي شقيق البلخي بيد تلميذه وصاحبه حاتم بن الأصم رحمة الله عليهم فقال: (كيف تجد نفسك؟ هل تجد نفسك كليلة عرسك، قال: لا ولكني أجد نفسي كأني في ليلة عرسي، رؤوس تقطع وسيوف تكسر، رماح تقصص ومع ذلك هذا العبد مطمئن القلب ربه جل وعلا يعلم أن الله سيتولاه، كيف وقد أفرده بحبه وخوفه ورجائه فقال له لكني أجد نفسي كيوم عرسي، يقول حاتم الأصم: ثم وضع هذا العبد الصالح شقيق البلخي درقته وهي الترس المصنوع من الجلد وضعه بين الصفين ونام حتى إني لأسمع غطيطه، أسمع غطيطه والحال كما ذكر رؤوس تقطع ورماح تقصص وسيوف تكسر ومع ذلك ينام بين الصفين وينزل الله النعاس عليه أمنة منه ورحمة و، نعم هذا حال الموحد الذي أفرد الله جل وعلا بحبه وخوفه ورجائه.(98/8)
اخوتي الكرام: وهذا العبد الصالح يقول عنه الإمام الذهبي في ترجمته في الجزء التاسع صفحة أربعة عشر وثلاثمائة 9/314 من سير أعلام النبلاء (كان من المتألهين والعباد الزاهدين ومع ذلك كان من رؤوس الغزاة والمجاهدين، وهذا العبد الصالح من أئمة الصوفية الصادقين المتقدمين وقد كثر لسبطٍ في هذا الحين حوله الصوفية وأنهم كثير من الناس هذه الفرقة المتقدمين والمتأخرين منهم بالضلال وهذا عين الضلال، فالإنصاف أن توزن أعمال الإنسان على حسب كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فهذا العبد الصالح من العلماء الربانيين وله لسان صدق في هذه الأمة وما ترجمه هو وغيره من أئمة التصوف الصادقين إلا وأثنى عليه أئمتنا الذين نرجع إليهم في التوفيق والتعديل والتجريح، عباد الله وكان هذا العبد الصالح رحمة الله ورضوان الله عليه يقول كلاماً حقيقته يخرج هذا الكلام من مشكاة النبوة ومن توحيد الله الخالق، فكان يقول كما في الحلية وغيره (من شكا مصيبته إلا غير ربه حرمه الله حلاوة العبادة) من عبد الله مأتي سنة ولم يعرف هذه الأربع ولم يقم بها فلم يفلح ولن ينجح وأن يعرف ربه جل وعلا وأن يعرف حق الله عليه وأن يعرف نفسه وأن يعرف عدوه وعدو ربه جل وعلا، ومن كلامه الطيب كان يقول:
(ميز بين من تعطيه وبين من يعطيك، ميز بين ما تعطي وما تعطي، فإذا كان من تعطيه أحب إليك من مَن يعطيك فأنت عامل من عمال الآخرة، وإذا كان من يعطيك أحب إليك من مِن تعطيه فأنت عامل من عمال الدنيا) عبد صالح من العلماء الربانيين.(98/9)
نعم إذا كان عامة من ينتسب في هذا الوقت إلى التصوف دجاجلة إلا من رحم ربك فلا يجوز أن نحمل وزرهم للصالحين والصادقين، لكنني أريد عند هذه القصة فيمن يبحثون في التصوف ويرون أنه جاء من عباد الهنود والبقر ومن المجوسية وغير ذلك وأن الصوفية عطلوا الجهاد في سبيل الله، أريد أن أقول لهؤلاء الذين ملئوا الدنيا جعجعة باسم التوحيد والعقيدة عندما توقعتم وقوع معمعة عليكم لجئتم إلى من لعنه الله من فوق سبع أرقعة حتى إن بعضكم وصل به الأمر أن برر لبس الصلبان إذا وجدت به عادة البلدان، هل التوحيد والعقيدة كلام يقوله الإنسان أم سلوك يترجمه في هذه الحياة يدل على إيمانه برب الأرض والسموات، أي عقيدة وأي توحيد وأي توكل على الله المجيد إذا دخلنا في كنف من لعنه الله وغضب عليه، ثم ندعي بعد ذلك أننا أهل توحيد وأننا أهل عقيدة باسم التوحيد وباسم العقيدة، ترك التوحيد وترك العقيدة، ليست العقيدة ولا التوحيد كلاماً يقال باللسان، وإذا كان الصوفية في هذه الأيام أساؤوا إلى الصوفية السابقين فإن من ينتسبون إلى السلف في هذه الأيام من ينسبون أنفسهم زوراً وبهتاناً حقيقة أساؤوا إلى سلفنا الكرام الطيبين، أي توحيد هذا أن نخاف من المخلوق وأن ندخل في كنف كافر من أجل عرض من الدنيا لا وزن له ولا اعتبار، أي توحيد هذا؟ وانظر لهذا الموحد الصادق رؤوس تقطع سيوف تكسر ورماح تقصص ثم يقول لأصحابه هل تشعرون أم أنكم في ليلة عرسكم، فإذا قال له بعضهم لا يقول أنني أشعر كأنني ليلة عرسي، والله هذا هو التوحيد وهذه هي العقيدة الحقة الصادقة التي علمها نبينا - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة.
اخوتي الكرام: لابد من وعي ولا داعي بعد ذلك لجعجعة في هذه الأيام لا وزن لها ولا اعتبار عند ذي الجلال والإكرام.(98/10)
والقصة الثانية: التي سأذكرها في بيان أمر الخوف في هذه الحياة عندما يتصف الإنسان بالخوف من رب الأرض والسموات، عفان بن مسلم بن عبد الله من أئمتنا الكرام الأبرار توفي سنة عشرين ومائتين للهجرة 220هـ إمام ثقة حديثه في الكتب الستة، هذا العبد الصالح هو أول من امتحن في محنة خلق القرآن، فاستدعاه إسحاق بن إبراهيم الذي كان أميراً على العراق مدة ثلاثين سنة 30سـ متتالية من قبل حكام بني العباس من المامرن فمن بعده، وكان هذا العبد إسحاق بن إبراهيم كما يقول عنه الإمام بن كثير في البداية والنهاية كان على حال أسياده وكبرائه وممن قال الله فيه وفي أمثاله {ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً} هذا العبد إسحاق عندما استدعى هذا الإمام الصالح عفان بن مسلم وهو أول من امتحن في محنة خلق القرآن قبل الإمام أحمد بن حنبل وقبل غيره من الأئمة الكرام فعرض عليه كتاب الخليفة المأمون الذي أرسل به من الجزيرة إلى العراق ليبدأ بمحنة علماء الإسلام وليبدأ بعفان فعرض عليه الكتاب وهل تقر بأن القرآن مخلوق؟ فقال أيها الأمير، أقرأ قول الله الجليل:(98/11)
{قل هو الله أحد الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *} أمخلوق هذا؟ قل هو الله أحد، أمخلوق هذا؟ فقال: دع عنك هذا الكلام فهذا كتاب الخليفة فإن قلت إنه مخلوق كتبت إليه بذلك وقد أمرني إذا قلت بذلك وأن أبقيك على أمرك وأن يجري عطاؤك كما كان، وكان يسرف له في كل شهر خمسمائة درهم، فإن بقيت أجري عليك العطاء، فقد أمرني الخليفة بقطع العطاء عنك، قال: سبحان الله تقطع عطائي، وإذا قطعت عطائي فهل قطعت رزقي والله يقول في كتابه {ورزقكم في السماء وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} هذا هو التوحيد الخالص، تهددني بقطع رزقي والله يقول {ورزقكم في السماء وما توعدون * فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} فقال له الأمير: قم فقد قطعنا عطاؤك، فقام عفان بن أسلم ودخل إلى بيته وفيه أزواجه وأولاده وقد بلغوا أربعين نفساً، فعزلوه ولاموه وقالوا هل لا ينتفي الكلام من أجل هذا الحطام، من أجل عرض الدنيا فقال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب} فلما حان المغرب قرع الباب فجاء رجل في صورة سمان أو زياد قال: أبا عثمان ثبتك الله على الصراط كما ثبت الإسلام، وهذه ألف درهم تصل إليك في كل شهر على الدوام، قطع عنك خمسمائة فهذه ألف درهم ولا يعرفه {ولا يعلم جنود ربك إلا هو} أبا عثمان ثبتك الله على الصراط كما ثبت الإسلام، ولما امتحن بعده أبو نعيم الفضل بن دكين وهو من أكابر الشيوخ البخاري ومن أئمتنا الكرام وحديثه في الكتب الستة هدد أيضاً بقطع الرزق قطع زراً من قميصه ورمى به إلى جهة الأمير وقال: ما دنياكم عندي إلا أقل من هذا الزر، وما قطع رقبتي عندي إلا أقل من هذا الزر. تخوفوننا بشيءٍ لا وزن له ولا اعتبار، هذا هو التوحيد وهذا الذي كان عليه أئمتنا الأبرار، وقد تولاهم الله وأعزهم الله وجعل لهم لسان صدق في هذه الأمة.(98/12)
اخوتي الكرام: هذه هي ثمرة التوحيد في العاجل، إن الإنسان يكتب له العز والتمكين والنصر المبين فيتولى الله أمره في كل حين، وأما في الآجل في الآخرة فحدث ولا حرج عن الثمرات اتي يقطفها من خاف رب الأرض والسموات، إنه سيكون في أمن في ذلك اليوم العصيب الرهيب، وسيكون بعد ذلك {في جنات ونهر * في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر} أشارت آيات القرآن الكريم إلى هذا في كثير من المواضع والأماكن منها قول الله جل وعلا في سورة البينة: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً، رضيَ الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشيَ ربه} لمن خاف الله.
{يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} ويقول ربنا الملك في سورة الملك: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجرٌ كبير} وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة ق بعد أن ذكر عقوبة الكافرين ومن لم يخف منه في هذه الحياة الدنيا فقال جل وعلا: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد * وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظ * من خشيَ الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد*} يزيدهم الله كرامات أعلاها النظر إلى نور وجه رب الأرض والسموات، ثبت هذا في تفسير الطبري وغيره من رواية على وأنس بن مالك رضي الله عنه، {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} هو النظر إلى وجه الله المجيد.
إذاً هذه هي ثمرة الخوف في الآجل في الآخرة، وقال جل وعلا في سور الرحمن {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} وهاتان الجنتان تكونان للسابقين المقربين وجنتان أيضاً بعد ذلك تكونان للتابعين أصحاب اليمين كما قال الله عز وجل {ومن دونهما جنتان} {ولمن خاف مقام ربه جنتان} .(98/13)
روى الإمام بن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة عمر بن جامع والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان كما في تفسير الإمام ابن كثير وتفسير والدر المنثور للإمام السيوطي (أن شاباً في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه علقت به وهو يته امرأة حسناء فعرضت نفسها عليه ولا زالت تراوده وتلح عليه حتى استجاب إليها بعض الشيء، وهم أن يدخل معها البيت فتذكر قول الله جل وعلا: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} والطائف هو الخيال الذين يدور خيال من الشيطان وسوسة تدور حولهم لا ترسخ في أذهانهم ولا في قلوبهم {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} وفي قراءة متواترة أيضاً عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - {إن الذين اتقوا إذا مسهم طيفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} أي لمة وخطرة وتخطر في قلوبهم {إن الذين اتقوا إذا مسهم طيفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} .
والقراءتان متواترتان عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلما استحضر الشاب هذه الآية صعق وخر مغشياً عليه، فلما صحى أخذته الحمى وبدأت به الرعدة الشديدة حتى مات رحمه الله وغفر له، فبعد أن دفن جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين إلى والده وعزاه ثم سيدنا عمر رضي الله عنه مع الصحابة الكرام إلى قبر هذا الفتى ونداه يا فتى: قال الله عز وجل {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} فنادى الفتى من قبره: نعم يا أمير المؤمنين قد أعطانيها رب العالمين {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} .(98/14)
وكما قلت اخوتي الكرام جنتان للسابقين وجنتان للتابعين أصحاب اليمين، كما ثبت هذا عن نبينا الأمين - صلى الله عليه وسلم - ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود، والحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره وابن أبي شيبة في مصنفه ورواه البيهقي في الأسماء والصفات وفي كتاب الأعتقاد وفي كتاب البعث وفي كتاب شعب الإيمان، ورواه أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في تفسيره أيضاً والإمام ابن مندفة رد على الجهمية وهو في أعلى درجات الصحة لإخراج الشيخين له من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول [جنتان من ذهب آنيتها وما فيها وجنتان من فضة آنيتها وما فيها وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن] والحديث رواه الحاكم في المستدرك أيضاً وابن أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في تفسيره وابن مردويه في تفسيره عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه موقوفاً عليه وله حكم الرفع إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [جنتان من فضة آنيتها وما فيها للتابعين] والحديث رواه الإمام بن جرير الطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفسيره بسند صحيح كما قال ذلك الإمام ابن حجر في فتح الباري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [جنتان من ذهب آنيتها وما فيها للسابقين وجنتان من ورق (معنى من فضة) آنيتها لأصحاب اليمين] {ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان} ولا بشيءٍ من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد، ثم قال جل وعلا في وصف هاتين الجنتين ما قال {ذواتا أفنان} ثم انتقل إلى الجنتين الأخريين فقال جل وعلا: {ومن دونهما جنتان * مدهامتان} إلى آخر ما نعت الله به الجنتين اللتين تكونان للسابقين والجنتين اللتين تكونان لأصحاب اليمين.(98/15)
اخوتي الكرام: وتثنية الجنة هنا يراد منه حقيقته وما شذ به النزاع فقال: إن الجنة الواحدة تكون للسابقين وجنة ثانية تكون لأصحاب اليمين وثني هذا اللفظ على عادة العرب في تثنية الجنة ولا يوجد في الحقيقة جنتان، فهذا لبسط وصفصفة كما رد عليه أئمتنا الكرام وكل هذا باطل لا يجوز أن يعول عليه فهو خلاف القرآن وخلاف ما أخبر به نبينا - صلى الله عليه وسلم - لدخول مؤمني الجن الجنة كما يدخل مؤمني الإنس الجنة لأن الله جل وعلا يقول لمعشر الإنس والجن {فبأي آلاء ربكما تكذبان * ولمن خاف مقام ربه جنتان*} .
وهذا هو المعتمد عند أهل السنة الكرام في مؤمن الجن من أقوال أربعة، قيلت في ذلك هذا أرجحها وهو المعتمد فيها وقيل إنهم يكونون في ربط الجنة ولا يتمتعون كما نتمتع به ونراهم ولا يروننا كما أنهم في الدنيا يروننا ولا نراهم ولا دليل يدل على ذلك وقيل أنهم يكونون على الأعراف، وقيل تتوقف في شأنهم ونكل أمرهم إلى ربهم جل وعلا، وقد دل ظاهر القرآن على أمرهم يدخلون غرف الجنان إذا آمنوا بالرحمن كما هو الحال في بني الإنسان {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} ثم قال جل وعلا: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي يا معشر الإنس والجن، ولذلك لما تليت هذه الآيات من سورة الرحمن على الجن كانوا حتى أحسن جواباً فقالوا: ولا بشيءٍ من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} .
وقد قرر هذا الكلام اخوتي الكرام أئمتنا الكرام في كتب التوحيد ومن أراد أن يتوسع في هذه المسألة ينظر كتاب (آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان) للإمام الصالح محمد بن عبد الله أبي عبد الله الشبلي الذي توفي سنة تسعة وستين وسبعمائة للهجرة 769هـ وهو من تلاميذ شيخ الإسلام الإمام بن تيمية وكان من القضاة الصالحين في بلاد الشام، ألف كتاباً كبيراً في ما يتعلق بالجن (آكام المرجان في غرائب الأخبار وأحكام الجان) .(98/16)
اخوتي الكرام: من خاف الله في هذه الحياة له النجاة بعد الممات {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} وكنت أشرت في أول المواعظ السابقة عند مبحث الخوف أن من يخاف من الله جل وعلا له أجر كبير في العاجل والآجل واستشهدت بعد ذلك بما يتعلق ببعض الأمور بقول الله جل وعلا: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنَّة هي المأوى} ومر معنا الكلام هناك في إضافة المصدر إلى الفاعل أو إلى المفعول كما تقدمت معنا آية الطور في قول العزيز الغفور: {إن المتقين في جنَّاتٍ ونعيم * فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم*} .
ثم ذكر الله جل وعلا نعتهم وما يحصلون في جنات النعيم وأخبر عنهم بأي شيءٍ استحقوا ذلك فقال: {وأقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون * قالوا إنا كنا في أهلنا مشفقين * فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنَّا كنَّا من قبل ندعوه، إنَّه هو البر الرحيم} .
اخوتي الكرام: وكما دل على ذلك آيات القرآن فقد تتواترت بذلك الأحاديث عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - سأقتصر على ثلاث أحاديث تقرر أن من يخاف الله في هذه الحياة له النجاة بعد الممات وهو في غرف الجنَّات.
الحديث الأول: رواه الإمام أحمد في المسند والشيخان في الصحيحين، ورواه الإمام النسائي والترمذي في السنن، ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة ربه في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٍ ذات منصبٍ وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه] .(98/17)
تأمل أوصاف هؤلاء السبعة فسترى الصفة البارزة فيهم خوفهم من باريهم، فالإمام العادل ما عدل إلا لأنه يعلم أنه سيؤول إلى الله عز وجل وسيحاسبه على النقير والقطمير، وذاك العبد الصالح عرضت امرأة نفسها عليه وهي على حظ من منصب وجمال فقال إني أخاف الله، وهذا لمراقبته ربه وخوفه منه يكتم أعماله حتى لا تعلم الشمال ما تتصدق به اليمين، وذاك شاب ينشأ في طاعة ربه، وهذا يذكر الله خالياً فتفيض عيناه {إنَّ الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجرٌ كبير} وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن من خاف هنا سيأمن يوم الآخرة، وقد ورد الحديث بذلك في صحيح ابن حبان، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام البزار في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه البزار وشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد، وابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء عن الحسن البصري مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرسل، والأثر الأول كما تقدم معنا من طريق أبي هريرة وقد رواه البزار مرسلاً ومتصلاً، والحديث صحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله عز وجل [وعزتي وجلالي لا أجمع على عبد أمنيين ولا أجمع له خوفين، فإن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة] هذه هي ثمرات الخوف في الآجل عند الله عز وجل، وآخر الأحاديث وهو الحديث الثالث الذي سيذكره في ذلك (أن من خاف الله ودعاه خوفه للبكاء من خشية الله عز وجل ستحرم النار عليه ولن يدخلها بحال من الأحوال كما أخبر بذلك نبينا الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -) .(98/18)
روى الإمام الترمذي في سننه والإمام النسائي في سننه وابن حبان في صحيحه من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه، والحديث رواه الحاكم أيضاً في المستدرك، والإمام أحمد في المسند ورواه البيهقي في السنن الكبرى، ورواه أيضاً في شعب الإيمان ورواه البخاري والإمام هنَّاد في كتاب الزهد، وسند الحديث صحيح كالشمس كما قلت من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع منه الغبار لا يمكن أن يدخل بعد ذلك النار، وهكذا من بكا من خشية العزيز القهار سبحانه وتعالى ستحرم عليه النار ولا يمكن أن يدخلها كما لا يمكن للبن أن يعود إلى الضرع، وهذا الحديث روي ما يشهد له ويدل عليهم أنه صحيح بذاته، لكن ما يدل على معناه أحاديث كثيرة متعددة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
فمن ذلك ما رواه الترمذي في سننه والبيهقي في شعب الإيمان، والحديث حسَّنه الإمام الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله] .(98/19)
والحديث بهذا اللفظ أو قريباً منه رواه الإمام أبو يعلي أيضاً، والإمام الطبراني في معجمه الأوسط ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد لكن عن أنس بن مالك رضي الله عنه وإسناد الحديث جيد، والحديث أيضاً بنحو هذا اللفظ رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك ورواه أيضاً الإمام النسائي في السنن الكبرى، ورواه الدارمي في مسنده، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن أي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء من خشية الله وعليه باتت تحرس في سبيل الله، والحديث أيضاً رواه الإمام الطبراني وابن عساكر عن العباس عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ورواه الإمام الطبراني عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهو معاوية بن حيدة رضي الله عنه، وري أيضاً معناه الإمام الحاكم والبغوي في شرح السنة عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين [عينان لا تمسهما النار، عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله] .
أسأل الله تعالى برحمته وسعت كل شيءٍ أن يرزقنا خشيته في السر والعلن والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الرضى والغضب، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.(98/20)
ثمرة الخوف
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ثمرة الخوف
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..(99/1)
أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، فهي بيوته وفيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدين المهتدين في هذه الحياة، وقد نعت الله الرجال الذين يعمرون بيوته في الأرض بأربع صفات تدل على أنهم بلغوا رتبة الكمال لا تلهيهم التجارات ولا البيوع عن الغاية التي خلقوا من أجلها يسبحون الله ويصلون له ويعظمونه، يحسنون إلى العباد ويشفقون عليهم ويساعدونهم، يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: وهذه الصفات الأربع التي نعت الله بها هؤلاء الرجال قد مضى الكلام على ثلاث منها فيما مضى وشرعنا في مدارسة الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقلت تحت هذه الصفة أمران ينبغي أن نتدارسها.
الأمر الأول:- خوف هؤلاء الرجال من ذي العزة والجلال.
الأمر الثاني:- إثبات يوم الميعاد واستحضاره دائماً في أذهان هؤلاء العباد.
أما الأمر الأول:- ألا وهو خوف هؤلاء الرجال من الكبير المتعال، فقلت سأجمل الكلام عليه في أربعة أمور نتدارس فيها:
1- تعريف الخوف
2- منزلة الخوف
3- وثمرة الخوف
4- والأسباب التي تدعوا المكلفين للخوف من رب العالمين.
وقد تدارسنا ما يتعلق بالأمر الأول، والثاني ونلخص ما تقدم فنقول:
1- الخوف هو تألم القلب واحتراقه لتوقع حدوث مكروه في المستقبل
2- ومنزلة الخوف في شريعة الله عز وجل منزلة عظيمة كيف لا وهو أحد الأركان الثلاثة التي تقوم عليها عبادة اله جل وعلا، حبه، ورجائه، والخوف منه.
اخوتي الكرام..
هؤلاء الرجال بذلوا ما في وسعهم في طاعة ربهم، والإحسان إلى الخلق، وما ألهتهم الدنيا عن الواجب الذي خلقوا من أجله مع ذلك هم خائفون وجلون.(99/2)
نعم هذا هو شكل المؤمن ورحمة الله على العبد الصالح شقيق ابن إبراهيم أبي علي البجلي عندما يقول مثل المؤمن كمثل رجل زرع نخلة وهو يخشى أن يخرج شوكاً، ومثل المنافق كمثل رجل زرع شوكاً وهو يطمع أن يثمر ثمراً، هيهات هيهات زرع النخل وأحسن عبادة الله ومع ذلك يخاف {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وأما ذاك فأساء العمل وما أطاع الله وأساء إلى العباد وبعد ذلك يتمنى على الله الأماني.
اخوتي الكرام: إن الخوف من الله جل وعلا ضروري لعباد الله في هذه الحياة، روى الإمام الحاكم في مستدركه بسندٍ صحيح للشيخين أقره عليه الذهبي، والأثر في الحلية أيضاً وفي كتاب الزهد للإمام همام بن السري وكتاب الزهد أيضاً للإمام وكيع رحمه الله عليهم جميعاً عن عبد الله بن عبيد الله وهو من التابعين الأبرار أكرمه الله بالتبرك برؤية ثلاثين صحابياً من صحابة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام وتوفي هذا العبد الصالح سنة سبعة عشر ومائة للهجرة 117هـ وحديثه مخرج في الكتب الستة وهو ثقة فقيه إمام عدل رضاً، يقول هذا الذي أدرك ثلاثين من الصحابة رضوان الله عليهم يقول (جلسنا في الحجر إلى عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين فقال لنا: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا والذي نفسي بيده لو تعلمون العلم لصلى أحدكم حتى ينكسر ظهره ولبكى حتى يتقطع صوته) .
والجملة الأولى: رويه عن صديق هذه الأمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الزهد للإمام احمد وفي كتاب الزهد لشيخ الإسلام عبد الله بن المضار ورواها بن أبي شيبة في المصنف لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه أنه قال (إبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا) أي استدعوا البكاء وتكلفوه من خشية رب الأرض والسماء.(99/3)
اخوتي الكرام: هذه هي صفات الرجال وهذه هي صفات الأبرار، وهذا الوصف كما يتصف به الرجال في هذه الحياة الذين يعمرون بيوت رب الأرض والسماوات فيتصف بهذا الوصف أيضاً ملائكة الله الكرام، فهم يخافونه ويخشونه سبحانه وتعالى يقول الله مثيراً إلى إثبات هذا الوصف فيهم في سورة النحل: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} الملائكة أيضاً تسجد للحي القيوم ثم قال في نعتهم جل وعلا {يخافون ربهم من فوقهم يفعلون ما يؤمرون} وهم الكرام المطهرون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ومع ذلك يتصفون بالخوف والوجل من الله عز وجل.
كما قال الله جل وعلا في سورة الأنبياء: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً، سبحانه بل عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون} وجلون خائفون.(99/4)
وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن ما لعظام الملائكة وكبراهم ومنزلتهم في هذه الصفة، أعني صفة الخوف نحو ربنا وربهم جل وعلا، ففي معجم الطبراني الأوسط، وإسناد الأثر لجامعة رجال الصحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [رأيت جبريل ليلة أسري بي كالحنس البالي من خشية الله عز وجل، كالحنس البالي وهو الخرقة والكساء التي توضع على ظهر البعير كأنها خرقة بالية متقطعة من خشية الله ومن خوفه من الله جل وعلا، والأثر رواه الإمام الجزار أيضاً، والإمام الطبراني في معجمه السابق عن أنس بن مالك رضي الله عنهم وعن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى فإذا جبريل كأنه من حنس وأطئ من خشية الله جل وعلا، كأنه حنس ذليل ملتصق بالأرض من خشية الرب سبحانه وتعالى] هذا وصف أفضل الملائكة وأعلاهم جبريل عليه السلام، وهكذا حال الملائكة الكرام.(99/5)
ففي مسند الإمام أحمد، والحديث رواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتابه الخائفين وقال شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم الأثري في معجم حمل الأسفار في الأسفار، إسناد الحديث جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه والأثر رواه الإمام بن شاهين في كتاب السنة مرسلاً عن ثابت بن أسلم البولاني تليمذ أنس مرسلاً إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ورواية الحديث المسند المتصل كما تقدم معنا إسنادها جيد ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يا جبريل مالي لا أرى ميكائيل ضاحكاً، مالي لا أرى ميكائيل يضحك، هذا الملك الموتكل بحياة الأبدان والحيوان ما رأيته ضاحكاً قط، فقال جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يا محمد عليه الصلاة والسلام إن ميكائيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار، قال شيخ الإسلام الإمام عبد الرحيم الأثري وقد ورد هذا الوصف في حق جبريل وإسرافيل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام قال الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[إن إسرافيل لم يضحك قط منذ أن خلق الله النار] وهذا الوصف أيضاً ثبت لجبريل، روى ذلك أيضاً الإمام بن أبي الدنيا في كتاب الخائفين، وهؤلاء الملائكة الكرام أفضل الملائكة على الله ومع ذلك يخافون هذا الخوف وما ضحك واحد منهم قط ولهم شأن عظيم وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يتوسل إلى الله جل وعلا بربوبيته لهؤلاء أن يوحيا الله قلبه في ذلك تعليم لنا أن ندعوا بهذا الدعاء، والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يصلي يفتتح صلاته فيقول [اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء(99/6)
إلى صراطٍ مستقيم] ، اللهم رب جبريل المتوكل بحياة القلوب وميكائيل المتوكل بحياة الحيوان والأبدان، وإسرافيل المتوكل بحياة المخلوقات أسئلك أن تحي قلبي فأنت على كل شيءٍ قدير] وتقدم معنا اخوتي الكرام في مباحث النبوة على نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان يتوسل بربوبية الله لهؤلاء الملائكة العظام في أدعية كثيرة ذكرت بعضها في هذا المسجد.
إذن هذا الوصف أعني صفة الخوف من الله عز وجل هو وصف عباد الله المقربين في الدنيا في الأرض، في السماء، هذا وصف المؤمنين من الجن والإنس، وهذا هو وصف ملائكة الله الكرام الطيبين.
اخوتي الكرام: وإذا تدارسنا تعريف الخوف ومنزلته فبقى علينا أن نتدارس ثمرته وأسبابه.
أما ثمرة الخوف فثماره كثيرة وفيرة سأجملها في ثمرتين اثنتين لعل الله ييسر الكلام عليهما في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله.
1- الثمرة الأولى:- ثمرة يحصلها الخائف من الله عز وجل في هذه الحياة.
2- الثمرة الثانية:- ثمرة يحصلها الخائف من الله عز وجل بعد الممات.
الثمرة الأولى:- أما ثمرة الخوف في هذه الحياة فالخائف من الله عز وجل، فالذي أفرد ربه بخوفه فلا يخاف سواء له العزة والتمكين في هذه الحياة وله من الله النصر المبين، والله سيؤيده في كل حين، من خاف الله كفاه الله ما عداه، فقد أشارت آيات القرآن إلى هذا وأوضحته غاية الإيضاح بينه لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلنقف عند ذلك وقفة لنعلم حقيقة الأمر ولنعلم سبب ضياعنا في هذا الوقت.(99/7)
قال الله جل وعلا في سورة إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيد *} {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا} كما هي عادة الطغاة في جميع الأوقات، طرد من البلاد أو سجن أو قتل وظلم {وإذ يمكر بك الذين كفروا لثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم} والوحي إعلام في خفية وسرية والله طمأن رسله وقال أنتم تخافون فلا خوف عليكم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
{فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم} وهذا الجزاء وهذه الثمرة ينالها من خاف من الله عز وجل، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ولفظ المقام هنا إما أنه مصناف الفاعل المصدر مصناف إلى الفاعل ويصبح معنى الكلام ذلك لمن خاف قيام الله عليه ومراقبته له وإحاطته به فلا يخرج شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه عن قبضة الله عز وجل وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ذلك لمن خاف قيام الله عليه وعلم أنه وغيره من عباد الله لا يملك كل واحد من المه لنفسه نفعاً ولا ضراً، ذلك لمن خاف قيام الله عليه المراقبة والإحاطة والاضطلاع كما قال الله عز وجل: {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبؤنه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهرٍ من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل، ومن يضلل الله فما له من هاد} .(99/8)
لا يوجد أحد في هذا لعالم يحفظ المخلوقات ويراقبها وهي في قبضته إلا الحي القيوم سبحانه وتعالى {أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم} أنعتوهم الصفات التي تقتدي أن يكونوا آله مدبرين قيومين {قل سموهم} وهنا ذلك لمن خاف مقام لمن خاف قيام عليه بالمراقبة والإحاطة والاضطلاع، إن الذين يخشون ربهم بالغيب يعلمون الله معهم أينما كانوا فيخافون منه فمن خاف الله لن يتخلى الله عنه، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} ابشروا يا معشر الرسل ويا أتباع الرسل أنه ليس للظالمين عليكم سبيل لأهلكنَّهم ولأسكننَّكم الأرض من بعدهم فلا راد لحكم ولا معقب لقضائي ولا أسئل عما أفعل وهم يسئلون، لكن حققوا هذا الوصف فيكم لتنالوا تلك الثمرة، {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} .(99/9)
والمعنى الثاني: المصدر مضاف للمفعول ذلك لمن خاف مقام: أي لم خاف قيامه بين يدي وعلم أنه عبد ذليل منكسر حقير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فهو خاف قيامه بين يدي لأني سأجمعه ليوم تشخص فيه الأبصار وتتقلب فيه القلوب، من خاف قيامه في هذا اليوم الذي لا ريب فيه وأعد لذلك اليوم عدته لن يتسلط عليه متسلط مهما كان شأن ذلك الجبار وقد رجع الإمام بن القيم عليه رحمة الله المعنى الثاني وقال أنه أليق بالآية ولا داعي للترجيح فالآية تحتمل القولين وهما متلازمان، فمن علم أن الله حي قيوم قائم على جميع أمور العباد ومدبرٌ لها سيخاف قيامه بين يديه عندما يؤول إليه وعليه الأمران متلازمان ولا يخاف الإنسان القيام بين يدي الله إلا بعد معرفته أن الله قيوم مدبر لأمور عباده في الدنيا والآخرة فالمعنيان متلازمان ثابتان لمن خاف قيام الله عليه وخاف قيامه بين يديه، وهذان المعنيان يقالان في نظير هذه الآية من سورة الرحمن: {ولمن خاف مقام ربه جنَّتان} ومن ذلك قول الله عز وجل في سورة النازعات: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنَّة هي المأوى} خاف قيام الله عليه ومراقبته وإحاطته به، وخاف قيامه بين يديه في يوم لا ريب فيه.
{وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنَّكم من أرضنا أو لتعودنَّ في ملتنا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكنَّ الظالمين * ولنسكننَّكم الأرض من بعدهم، ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} وقد ذكر لنا الله نماذج لهؤلاء الرسول بعد أجملهم في هذه السورة فاسمعوا لهذا.(99/10)
1. النموذج في سورة الأنعام:- عندما يخبر ربنا عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد أن حاج قومه في بطلان آلهتهم وعبادتهم الكواكب من دون ربهم فقال في آخر محاجة {فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر، فلمَّا أفلت قال يا قومِ إني بريءٌ مما تشركون * إني وجهت وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين * وحاجَّهُ قومه، قال أتحاجُّونِّي في الله وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء، إن ربك حكيمٌ عليم} انتبه إلى دلالة الآيات لهذا الأمر اخوتي الكرام {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً، وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن} فأي الفريقين أحق بالأمن في الدنيا والآخرة؟ من خاف من الله ولم يخف من سواه؟، أو من خاف من سواه ولم يخف من مولاه؟ {فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون} وقبلها في الآية يقول {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} والاستثناء هنا كما قال أئمتنا الكرام في كتب التفسير استثناء منقطع بمعنى لكن، ولا أخاف ما تشركون به ولكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبة في هذه الحياة فهو الذي يدبر أمور عباده وهو أعلم بهم، {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} لكن إذا شاء ربي أن ينزل بي مصيبة ليطهرني ويرفع من درجاتي، هذا هو مولاي وربي لا يسأل عما يفعل، يروي الإمام أبو نعيم في كتاب الحلية عن إبراهيم بن الوليد أنه دخل على الشيخ الصالح(99/11)
إبراهيم المغربي وقد رفسته بغلة فكسرت رجله فقال ما هذا، قال سبحان الله لولا المصائب لقدمنا على الله مفاريس، فإذا قدر الله على خليله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وعلى موحد من الموحدين مصيبة في هذه الحياة ليس هذا بسبب آلهتهم المزيفة التي تعبدونها من دون رب الأرض والسموات {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً} ولكن إذا شاء ربي شيئاً كأن ينزل بي مصيبة فهو الذي لا يسأل عما يفعل {وسع ربي كل شيءٍ علماً، أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً، فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون * وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء، إن ربك حكيمٌ عليم} كانت النتيجة أن نجَّى الله خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه ونصره من كبير الكافرين الملعونين ومثل ذلك كثير اخوتي الكرام.،
نموذج آخر تحليه لنا ربنا الرحمن أيضاً في سورة هود(99/12)
2. النموذج الثاني: في القرآن في سورة هود عن نبيه هود عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه فيقول {وإلى عادٍ أخاهم هوداً، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره إن أنتم إلا مفترون * يا قوم ما أسلكم عليه أجراً، إن أجرى إلا على الذي فطرني، أفلا تعقلون * ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوتكم ولا تتولوا مدبرين * قالوا يا هود ما جئتنا ببينةٍ وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوءٍ، قال إني أشهد الله واشهدوا أنِّي بريءٌ مما تشركون * من دونه، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون * إنِّي توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتها، إنَّ ربي على صراطٍ مستقيمٍ * فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربِّي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً، إنَّ ربي على كل شيءٍ حفيظٌ * وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبارٍ عنيدٍ * وأتبعوا في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة، ألا إنَّ عاداً كفروا ربهم، ألا بعداً لعادٍ قوم هود *} ، قال أئمتنا الكرام كما ذكر هذا الإمام بن القيم في مدارج السالكين الجزء الخامس صفحة خمسة وستون وأربعمائة 5/465 وهكذا ذكر أئمتنا المفسرون في تفسير هذه السورة أن أخ آيات الرسل آية نبي الله هود أي أيد الرسل الكرام بمعجزات ظاهرة وأوضح خارقة للعادة كانفلاق البحر وانشقاق القمر وغير ذلك من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأما هذا النبي المبارك فحجته وبرهانه من أخف الحجج والبراهين، فتأمله فهو في أقوى أسطع الحجج والبراهين ولخفاء حجته قال له قومه {ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} استمع لهذه البينة التي قامت على أمور أربعة في هذه السورة:(99/13)
البينة الأولى:- مال لهم هذا الفرد الوحيد الذي ليس في هذا العالم موحد غيره، غير جزعٍ ولا فزعٍ ولا هياب، قال إني أشهد الله جل وعلا واشهدوا ثانية أني بريءٌ من آلهتكم والتي تبذلون في عبادتها ونصرتها أموالكم وأولادكم ثم أعلمكم ثالثة أنني أتحداكم أهل الأرض جميعاً أن تكيدوا لي وأن تنالوا مني ضراً إن قدرتم عليَّ ثم بعد ذلك وضح دعوته فقال ناصيتي ونواصيكم ونواصي العباد جميعاً في يد وقبضة الله جل وعلا فانتم أحقر وأذل أن تصيبوني بمكروهٍ، فربي على صراطٍ مستقيم، وهو العدل وسينصر من خافه، وسيخذل وينتقم مِنْ مَنْ لجأ وخاف من سواه، ثم إنه لن يتمكن أحد أن ينال منه خيراً وهو فرد وحيد ويخاطب أهل الأرض بهذا الكلام المحكم الصريح فأي حجة أقوى من هذه الحجة، وأي برهانٌ أسطع من هذا البرهان، يشهد الله ثم يشهدهم ثم يطلب منهم أن يجتمعوا عليه ثم يقول لهم مطمئناً لهم مبيناً لهم أنه لن يصلوا إليه بضرٍ لأن نواصيهم وناصيته أيضاً بيد الله والله على صراطٍ مستقيم، لا يمكن أن ينصرهم على من خاف من رب العالمين.
ومثل هذا كان يقول جميع أنبياء الله ورسله، فهذا نبي الله نوح يقول لقومه {فأجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمةً ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون} ، وهكذا يقول ربنا جل وعلا في حق نبينا - صلى الله عليه وسلم - عندما بين أحوال المشركين نحوه في سورة الطور فقال: {أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون} نعم اخوتي الكرام من خاف الله كساه الله هيبةً مهابةً في هذه الحياة وفزع منه أعداء الله في هذه الحياة وكان الخائف من الله في هذه الحياة مطمئن البال والقلب ساكن النفس كيفما جاءت المخاوف من جميع الجهات، كيف لا وهو مع الله لأنه يخافه والله معه وسيجعل الله له مخرجاً من كل شدةٍ وبلاء.
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} .(99/14)
اخوتي الكرام: هذا المعنى الذي كررته معاني القرآن تواترت في الدلالة عليه أحاديث نبينا - صلى الله عليه وسلم - فاسمعوا لإيضاح هذه القضية إذا كان من خاف الله لم يخاف من سواه والله سيكفيه من عداه، إذا كانت هذه القضية حقيقة ثابتة فلهذه الأمة من هذا المعنى والجزاء القدر الأكبر لكمال توحيدهم وتمام خوفهم من ربهم ولإتمام الله نعمته عليهم، إذا كان من خاف الله لا يخاف من سواه، وفي هذه قضية ثابتة في هذه الحياة في هذه الأمة والأمم السابقة فإن ثبوتها في هذه الأمة من باب أولى لأن خوفهم من الله أشد وتحقيقهم للتوحيد أكمل ولأن الله أكرمهم بما لم يكرم بهم الأمم السابقة، واستمعوا لتقريري هذا ولنعلم بعد ذلك أنه عندما يعترينا الهلع والفزع لعدم خوفنا من ربنا عز وجل، ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي، الحديث رواه الإمام البيهقي وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أعطيت خمساً لم يعطهنَّ نبيٌ قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجلٌ من أمتي أدركته الصلاة فليصلي، وأحلت ليَ الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث لقومه خاصة وبعثت للناس عامة]
1-[نصرت بالرعب مسيرة شهر] إذا علم عدوي بقدومي وبيني وبينه مسيرة شهر امتلأ قلبه رعباً وفزعاً لتحقيق توحيدي لربي ولخوفي منه، فمن خاف الله خاف منه أعداء الله(99/15)
[نصرت بالرعب مسيرة شهر] إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المسافة بالذكر لا للتحديد، لا ثم لا هو نصر على العدو مطلقاً بالرعب لا، كان بينه وبينهم ألف شهر، إنما خص بالذكر هذه المسافة لأنه لم يكن بينه وبينهم إلا هذه المسافة فقط كما قرر أئمتنا في شروح سنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وإلا حقيقة حاله وحلة أمته نصر بالرعب مهما كانت المسافة بينه وبينهم، هل هذا الأمر له خاص وحده - صلى الله عليه وسلم -، وفداه آبائنا وأمهاتنا وأنفسنا أو يسري لأمته أورد أئمتنا القولين وأنسبهما الذي يتناسب مع مكانة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ورفعت من هذه الأمة عند ذي الجلال والإكرام، إن هذا ثابت له ولأمته عليه الصلاة والسلام إذا كانوا على مسلكه كما سيأتينا بإذن ربنا الرحمن [نصرت بالرعب مسيرة شهر] وهذه الصفة وردت عن كثير من الصحابة الكرام وهي ثابتة ثبوتاً متواتراً عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أقطع بذلك وأسئل عنه أمامه ذي الجلال والإكرام.
روى هذه الجملة في أحاديث متعددة رواها الإمام أحمد ومسلم وصحيحيهما والترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ورواه البيهقي من رواية علي رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد في المسند من رواية عبد الله بن عباس ورواها الإمام أحمد في السنن عن رواية أبي ذرٍ ورواها الإمام أحمد والبيهقي من رواية أبي أمامة الباهلي ورواها الإمام أحمد في المسند عن رواية عبد الله بن عمر نب العاص رضي الله عنهم أجمعين، وفي رواية بعض الحديث المتقدمة [نصرت بالرعب مسيرة شهر يسير بين يدي] أن هذا الرعب يسير بين يدي وفي آخر رواية من الروايات المتقدمة رواية عبد الله بن عمر [نصرت على العدو بالرعب حتى لو كان بيني وبينه مسيرة شهر لامتلأ قلبه رعباً] .(99/16)
إذاً الثابت الثابت لي ولأمته - صلى الله عليه وسلم - أن ينصر على العدو بالرعب مهما كانت المسافة، فلو قدر أن المسافة بينه وبين العدو بمقدار شهر أو أكثر لامتلأ قلبه رعباً.
نعم اخوتي الكرام: هذه الأمة عندما خافت من ربها الرحمن وحققت التوحيد على التمام أعطاها الله الهيبة والمهابة في هذه الحياة، فإذا أعلن الجهاد الإسلامي من قبل الموحدين لله جل وعلا فزع وهلع أعدائهم وهم في بلادهم، هذا شأن المسلمين، وهذا شأن الموحدين، فإذا خلطوا وقدروا فمن نفسه فلا يظلم ربك أحداً.
ولذلك اخوتي الكرام: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن عدد جيش المسلمين إذا بلغ اثنا عشر ألفاً لو اجتمعت قوى الأرض بأثرها لقتالهم لما استطاعت أن تقف أمامهم، لا أقول مليون ولا مائة مليون ولا ألف مليون، لو اجتمعت البشرية بعدتها وعتادها وكانوا ألوف الملايين وعدد جيش الموحدين إلى اثنا عشر فلا يمكن أن يغلب هذا الجيش من قلة إنما يغلبون من معصيتهم لربهم جل وعلا، أما جيش قوامه هذا العدد لا يمكن أن يخذل ولا أن يرقد وسيكتب الله له النصر مهما بلغت قوى الكفر، فلنفتش عن أحوالنا اخوتي الكرام واستمعوا لتقريري هذا من كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثم من فعل الصحابة الكرام نرى كيف أننا في هذه الحياة نتخبط في الكلام.(99/17)
روى الإمام أحمد في المسند والإمام الترمذي وأبو داود في السنن والحديث رواه الإمام الدارمي في مسنده أيضاً، ورواه بن خزيمة وبن حبان، والحاكم في الصحاح والمستدرك بالنسبة للحاكم ورواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد والمختارة من رواية عبد الله بن عباس، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، نعم رواه الإمام بن ماجة أيضاً من رواية أنس بن مالك لكن في رواية بن ماجة ضعفاً، ورواية بن عباس صحيحة ثابتة كالشمس في رابعة النهار، ولفظ الحديث عن نبينا المختار عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال [خير الصحابة أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يغلب اثنى عشر ألفاً من قلة] .
خير الصحابة خير الصحابة أربعة ـ الصاحب يجمع على صحابه ولا نظير لهذا في اللغة كما قال أئمتنا فاعل يجمع على فاعله هذا خاص بصاحب وصحابة غير الصحابة خير الأصحاب أربعة، فإذا كانوا في سفرٍ قال يجب أن يقلوا على المقدار ووجه ذلك أن المسافرين في حاجة لحفظ ولحاجة لقضاء حوائجهم، فإذا كانوا ثلاثة جلس اثنان وذهب الثالث لقضاء الحاجة يستوحش وإذا ذهب اثنان بقى واحد عند المتاع يستوحش فإذا كانوا أربعة يبقى اثنان عند المتاع ويذهب اثنان ويستأنس كل واحد منهم بالآخر والله يؤنس الجميع أربع، ولفظ الأربعة كما يقول أئمتنا فيه تفاؤل لمعنى القوة والرعاية والأحكام كالأعمدة التي يقوم عليها البنيان وهؤلاء الأربعة خير الصحابة أربعة، وكما كثر الجمع كان خيراً(99/18)
[وخير السرايا أربعمائة] وهي القطعة من الجيش التي تصطفي منه من الشيء السري النفيس القوي جيش ذهب تختار منه قطعة لأن تقوم بأعمال حربية خاصة ومناوشات وقتال والجيش العرمرم جالس مكانه إذا سارت الحرب تحرك خير السرايا أربعمائة وهي ضعف أربعة في مائة 4×100 أي أن العدد مضاعف كما قال أئمتنا، [وخير الجيوش أربعة آلاف] ضاعف الأربعة × ألف وإذا كان الجيش اثنى عشر ألف وقاتل لن يغلب من قلة ورجه ذلك أن الأربعة آلاف الأولى جيش كامل خير الجيوش والأربعة آلاف الثانية خير الجيوش، والأربعة الثالثة خير الجيوش، إذاً عندهم ثلاثة جيوش هي خير الجيوش والقتال يكون في ميمنة وميسرة وقلب فعندهم خير الجيوش للميمنة وعندهم خير الجيوش للميسرة، وخير الجيوش للقلب، فهم اثنى عشر ألف لن يغلبوا من قلة، فمعهم ثلاث خيريات في ثلاثة جيوش كاملات، كيف سيغلبون إذا غلبوا فليفتشوا عن أنفسهم وليعلموا أنهم لا يخافون ربهم، لن تغلب اثنتا عشر ألفاً من قلة، هذا كلام ما لا ينطق عن الهوى عليه صلاة الله وسلامه، وانظروا لتحقيق ذلك في الواقع العملي.(99/19)
روى الإمام أحمد في المسند كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع والحديث رواه بن حبان أيضاً عن عياض الأشعري رحمه الله ورضى عنه قال كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك وموقعة اليرموك جرت في عصر الخليفة العابد الراشد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووقعت في العام وأدى من قرية حواران جنوبي الشام وكانت بين المسلمين الكرام والنصارى الكلام وكان عدد المسلمين يزيد على العشرين ألفاً قليلاً وعدد النصارى مائة ألفٍ ويزيدون عشرين ألفاً وهؤلاء المسلمون خرجوا من جزيرة العرب وهؤلاء في أمكنتهم يقول عياض كنت مع المسلمين في موقعة اليرموك والأمراء يومئذٍ خمسة أبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعياض بن غنم الفهري، وتوفي هذا الصحابي الجليل في عهد عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة وبعد وفاة أبو عبيدة الطاعون رضوان الله عليهم أجمعين ولاه على بلاد الشام وقال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ما كنت لأبدل أحداً ولاه أبو عبيدة وهو غير عياض بن زهير الفهري وكل منهما مكانهما بأني سعد وكل منهما عياض وكل منهما فهري لكن ذلك عياض بن غنم وذاك عياض بن زهير، وعياض بن زهير بدري كبير القدر وهو عم عياض بن غنم الفهري لكن توفي في سنة ثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، أما عياض بن غنم الفهري توفي في سنة عشرين من الهجرة 20هـ في خلافة عمر بن الخطاب، ثم هؤلاء الأمراء الخمسة قال عمر تراهم إذا كان قتال فأميركم أبو عبيدة، فلما وقعت المعركة يقول عياض الأشعري جاش القتل إلينا أي كثر وأتانا من كل جهة فبعثنا لعمر نطلب منه العون فأجابنا قال أنه جاء في كتابكم تطلبون فيه المدد وحضره لا تغيب في أي مكان ولا يعلم جنود ربك إلا هو والنص يطلب منه لا من سواه، الله وحده عز وجل فاستنصروه ينصركم فإن الله قد نصر نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في موقعة بدر في أقل من عددكم، فإذا وصلكم كتابي هذا فقاتلوهم(99/20)
ولا تكتبوا إليَّ لن أرسل فرداً واحداً مدداً فأنتم عددكم يزيد على اثنى عشر ألف والله نصر نبيه في أقل من عددكم فالجئوا على الله فجنوده حاضرة والنصر منه سبحانه قال عياض الأشعري رضي الله عنه فلما وصل الكتاب قاتلناهم واستعنا بالله فغلبناهم وقتلناهم فلما انتهت الموقعة قال أبو عبيدة رضي الله عنه من يسابقني وكأنه يستعد للقتال مرة أخرى فقال له شاب من التابعين أنا أراهنك أيها الأمير بشرط ألا تغضب فتراهنا في المسابقة على الخيول يقول عياض الأشعري فلقد أنت عقيصتين أبي عبيدة تنقذان خلفه وهو على فرس عربي خلف الفتى وقد سبق الفتى رضوان الله عليهم أجمعين، والعقيصتين مفرد عقيصه وهي الضفير وهذه كانت عادت المسلمين يضطروا من شعرهم عندما يطول والأصل فيهم أنهم يطيلون الشعور رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا أطال جعلوه في ضفائر فكان أبو عبيدة يجعله في ضفيرتين فيمر فروع الشعر إلى أصوله من أجل أن ينكمش على رأس وأن يثبت فيقول علق رأيت عقيصتين تنقذانه أي تضطربان وتتحركان وهو على فرس عربي وقد سبقه الفتى.
استمع أخي الكريم إلى هذا الإرشاد من الخليفة الراشد الثاني تطلبون العون والمدد فسوف أدلكم على ما هو خير من ذلك أدلكم على الاستنصار بمن هو أعز نصراً وأحضر جنداً وهو الله عز وجل، فإذا جاءكم كتابي تقاتلوهم ولا تطلبوا المدد وقد فتحت بلاد الشام وتهاوت عروش الرومان في تلك السنة أيضاً فتحت بلاد الفرس في موقعة القادسية في العام الخامس عشر للهجرة 15هـ اخوتي الكرام وهم قلة ولكن الله معهم وهذا لابد من تحقيق والتحقيق به لنال هذه الثمرة عز وتذليل ونصر مبين وتأيدٌ من رب العالمين.(99/21)
روى الإمام مالك رضي الله عنه في من زيد بن أسلم رضي الله عنه أن أباه بيد عامر بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموع الروم وما يتخوف منهم على المسلمين فماذا كتب الخليفة الراشد، فكتب إليه مهما تنزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعد هذا المنزل فرجاً ولن يغلب عسراً يسرين وقد قال الله في كتابه {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} والسلام، هذه رسالة الأمير إلى قائده الشدائد التي تأتي ستزول إذا كنا عبيد الله حقاً ولن يغلب عسراً يسرين {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} اصبروا على الطاعات وعن المعاصي وعلى المقدورات، وصابروا أعدائكم عند اللقاء في الحروب ورابطوا على الحدود واتقوا الله لعلكم تفلحون.
لن يغلب عسراً يسرين، هذا الكلام ثابت عن عمر في المرفأ لكن كما قال أئمتنا بسندٍ منقطع فزيد ابن أسلم لم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الحاكم في المستدرك ثبت هذا الأثر عن عمر وعن علي رضي الله عنهم، نعم ثبت هذا الأثر عن غيرهما من الصحابة أيضاً رواه عبد بن حميد في تفسيره بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه الإمام الفراء في تفسيره بسندٍ ضعيف عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه بل روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متصلاً مرفوعاً في تفسير عن جابر بن عبد الله رضي وروى مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق حسن البصري في تفسير الطبري ورواه أيضاً الإمام عبد الرزاق في مصنفه وروى أيضاً مرسلاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام عن طريق قتادة في تفسير الطبري وعبد بن حميد رضي الله عنه.(99/22)
خلاصة الكلام: أن الأثر ثابت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما نزلت سورة الانشراح وفيها {فإن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} معرفاً وإذا كرر فالثاني هو الأول وأما اليسر منكر وإذا كرر فالثاني غير الأول {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} الأول يسراً آخر ولن يغلب عسر يسرين، وهذا المعنى هو أحد احتمالين لهذه الجملة الكريمة المباركة وقد نقل الإمام البخاري في صحيحه لتفسير هذه الآية عن أبي محمد سفيان رضي الله عنه قال لن يغلب عسراً يسرين {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً *} قال يسر آخر لن يغلب عسر يسرين، فإذاً العسر واحد وعه يسران، قال البخاري وهذا كقوله تعالى: {قل هو تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} قال الخدر بن حجر رحمة الله عليه كما جعل الله للمسلمين الحسنيين جعل لهم في عسرهم يسرين {إن مع العسر يسراً * إن مع العسريسراً *} ثم يقال ويحتمل أن البخاري يريد من هذا القول {إن مع العسر يسراً * إن مع العسر يسراً*} يريد أن المؤمن إذا أصيب بعسرٍ لن يخلو حاله من أحد الأمرين، إما من الأجر وإما من الظفر والنصر.
اخوتي الكرام: الأمر يحتاج إلى الزيادة البسط في هذه القضية وأما ما يتعلق بثمرة الخوف التي يجنيها الإنسان بعد موته في أخرته أتكلم عليه مع تعليق على الأمر الأول في أول الموعظة الآتية إن شاء الله
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أقول هذا القول وأستغفر الله.(99/23)
تغير الإنسان كلما امتد الزمان
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
تغيّر الإنسان كلما امتد الزمان
الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا..
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الذين تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
" يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
" يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..(100/1)
تقدّم معنا أن دين رب العالمين يقوم على ركنين ركينين وعلى دعامتين متينتين: الركن الأول منهما إخلاص لله عز وجل. والركن الثاني متابعة لنبينا عليه الصلاة والسلام ويضاد هذين الركنين فيضاد الإخلاص الشرك والرياء كما يضاد اتباع النبي عليه الصلاة والسلام الابتداع والأهواء فمن سلم من الشرك والرياء فهو مخلص. ومن سلم من البدعة والهوى فهو متبع لنبينا خير الهدى عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: وقد تقدم معنا في المواعظ السابقة تعريف البدعة ثم شرعنا في الموعظة الماضية في مدارسة النصوص الشرعية التي تحذر من البدعة الغوية وتأمرنا باتباع نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام. ووعدت أن أكمل الموضوع في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله. ولكن ترتبط حلقات البحث ببعضها سأذكر شيئاً لم يتقدم له ذكر في تقرير الأمور الماضية التي ذكرتها في الموعظة السابقة على وجه الاختصار، ثم أكمل عليها ما سأقوله في هذه الموعظة بإذن الله جل وعلا.
إخوتي الكرام: أن آيات التنزيل وأحاديث نبينا البشير النذير صلى الله عليه وسلم أن هذه النصوص الشرعية من الآيات القرآنية وأحاديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام أمرتنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم وحذرتنا بالابتداع في دين الإسلام، يقول الله جل وعلا: "ألمص- كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون" (الأعراف/1-3) اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم على نبيكم وحبيبكم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، ولا تتبعوا من دونه أولياء.. وحذار حذار من الابتداع والأهواء والاقتداء بأحد من خلق الله غير نبينا عليه الصلاة والسلام اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه من أولياء قليلا ما تذكرون.(100/2)
وهكذا أشار الله إلى هذا المعنى أيضاً في أول سورة الحجرات، فقال رب الأرض والسموات: "يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم والله غفور رحيم". (الحجرات/1-5) .
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله عليه صلوات الله وسلامه – ولا يذكر رأي أي مخلوق كان، إذا تُليت آيات القرآن، وذكرت أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. "لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم" وهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام تأدبوا معه في حال غيبته وفي حال وجوده، في ظاهركم وباطنكم فحذارٌ حذار من رفع الصوت على صوت النبي عليه الصلاة والسلام وعنده في مجلسه وعند تلاوة حديثه وذكره عليه الصلاة والسلام لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
وقد بلغ من ورع وديانة سيدنا الإمام مالك – عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- أنه عندما كان يعلم حديث نبينا عليه الصلاة والسلام إذا أحد تكلم ورفع صوته يزجره ويتلو قول الله جل وعلى لا ترفعوا أصواتكم فوق النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
ثم أخبر الله عمّن يغضون أصواتهم عند النبي عليه الصلاة والسلام إجلالا له واحتراماً وحباً له وتعلقاً به هؤلاء أصحاب القلوب التقية النقية التي أخلصت لرب البرية واتبعت نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام.(100/3)
إخوتي الكرام: فتأملوا في هذه الدلالة في هذه الآية من القرآن، من رفع صوته في مجلس النبي عليه الصلاة والسلام أو عند ذكر حديثه وبيان أحكام شريعته رفع صوته فقط، في مناظرة أو سؤال أو استفسار.. كما يرفع أحدنا صوته أحياناً مع أصحابه الذين يجالسهم لو رفع صوته من غير اعتراض يخشى عليه أن يحبط عمله ويخلّد في النار، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فكيف سيكون حال من يردّ حكم النبي عليه الصلاة والسلام ويتبع في دين الرحمن ويحتكم إلى رأي فلان وفلان من رفع صوته ولم يلتزم بهذا الأدب الظاهري مع هذا النبي الأمي عليه الصلاة والسلام يخشى عليه من حبوط عمله وخلوده في نار جهنم ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون هذا رسول الله خير خلق الله عليه الصلاة والسلام فإن كلمته ما ينبغي أن تحد النظر إليه وإذا كلمته فما ينبغي أن ترفع صوتك عنده عليه صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام: والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ كثيرة في القرآن وهذا المعنى أكده نبينا عليه الصلاة والسلام وأمرنا أن نتبعه فيما أتى به من شرع مطهّر في حال الاكتساب وفي حال الاجتناب في حال الفعل وفي حال الترك عند فعل المأمور وعند ترك المحظور.
ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن أبي داود والحديث رواه الداراقطني في سننه والبيهقي في السنن الكبرى وهو في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين كما سمعتم من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذروني ما تركتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلكم واختلاف على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ". ما نهيتكم عنه فانتهوا عنه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.(100/4)
وفي بعض روايات الحديث كما في صحيح مسلم وغيره أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال فقال: أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحُجّوا فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم أفي كل عام يا رسول الله فسكت عنه عليه الصلاة والسلام ومم يجب فأعاد سؤاله " أفي كل عام يا رسول الله " فسكت ولم يجب حتى أعاد الثالثة فقال له النبي عليه الصلاة السلام لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم عوني ما تركتم "ذروني ما تركتم" ما سكتُّ عنه لا تبحثوا عنه وما أمرتكم به افعلوا منه ما في وسعكم ومقدوركم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ذروني / دعوني ما تركتم. إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم. إن أفعالك أخي المؤمن تدور على أمرين اثنين لا ثالث لهما.
1. اكتساب.
2. اجتناب.
فينبغي أن تجتنب ما نهاك عنه نبيك عليه الصلاة والسلام وأن تفعل ما استطعت مما هو في وسعك مما أمرك به نبيك صلى الله عليه وسلم. إن المأمور تفعله على حسب الوسع والمقدور وأما المحظور فينبغي أن يترك في جميع الأحوال والعصور. وأما السؤال الذي نهيت عنه هذه الأمة المباركة المحرمة في أول أمرها مع نبينا عليه الصلاة والسلام هذه السؤال يدخل تحته عدة أنواع:
? نهوا أن يسألوا عما لا فائدة ولا مصلحة منه.
? نهوا أن يسألوا الأمثلة التي هي عن طريفي التعنت والتشدد.
? نهوا أن يسألوا إنزال الآيات كما كانت تطلب الأمم السابقات.
? نهوا أن يسألوا عما اختص الله بعلمه من قيام الساعة والروح وغير ذلك.
? نهوا أن يسألوا عما لم يبين لهم من أمور الحلال والحرام حتى يأتي البيان من نبينا عليه الصلاة والسلام فأنتم تتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم عباد الله والله أعلم بمصالحكم فدعوا الأمر له ليُسيِّركم حسب حكمته ومشيئته لا لتتعجلوا تسيير أنفسكم كما تريدون.(100/5)
وهذا أدب جليل أدّب عليه هذه الأمة في أول أمرها أنهم يتلقون الأوامر فيفعلونها على حسب استطاعتهم والنواهي فيجتنبونها ثم يتركون بعد ذلك حالهم لنبيهم عليه الصلاة والسلام ليوجّههم حسبما يوحي الله إليه. إذا ما أمرنا به ينبغي أن نفعله حسب وسعنا وما نهينا عنه ينبغي أن نتركه وما تركه نبينا عليه الصلاة والسلام ولم يبين الحكم فيه فالأصل في الأشياء الحلّ والإباحة ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلاف على أنبيائهم وقد نص الله على هذا المعنى في كتابه في سورة المائدة فقال جل وعلا: "يأيها الذين آمنوا لاتسئلوا عن أشياء إن تُبدَ لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم غفا الله عنها والله غفور حليم. قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين" (المائدة) .
إخوتي الكرام: هذه كما قلت بعض أدلة القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام التي تأمرنا بمتابعة النبي عليه الصلاة والسلام في جميع أحوالنا والاحتكام إلى هديه وشريعته في جميع شئوننا فيما نكتسبه وفيما نجتنبه وهذا المسلك السديد الرشيد سار عليه الرعيل الأول وعليه كان عندهم المعوّل يعولون عليه وأفعالهم كلها حسب شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.
انظر لهذا النموذج الرفيع العالي المحكم السديد الذي صدر من ثاني الخلفاء الراشدين سيدنا أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(100/6)
ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة والحديث في الموطأ للإمام مالك وسنن الدارمي وسنن الداراقطني والسنن الكبرى للإمام البيهقي وهو في أعلى درجات الصحة. عن هذا الخليفة الراشد المحدِّث المبارك الملهم رضي الله عنه أنه أتى بيت الله الحرام في الكعبة المشرفة في وسط الزحام والناس في الحج وهو أمير المؤمنين استلم الحجر الأسود وقبّله ثم رفع صوته قائلا: "إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع" فعلام أيها الخليفة الراشد تقبِّل حجراً لا يضر ولا ينفع؟ استمع لأتباعه لنبينا عليه الصلاة والسلام في جميع الأحوال "ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتُك..".
وفي المسند وصحيح مسلم وسنن البيهقي والسنن الكبرى للإمام البيهقي أنه قال "لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيًّا" أي كان يحتفي بلا ويهتم ويكرمك ويقبّلك ويجلّك ونحن قدوتنا وأمامكا نبينا عليه الصلاة والسلام فإذا احتفى بك خير خلق الله فنحن تبع له في ذلك الاحتفاء "ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبلك غير أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيًّا".
وثبت أيضاً في مسند أبي داود الطيالسي والحديث رواه الدارمي والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى وإسناده صحيح كالشمس عنه أيضاً عن سيدنا عمر رضي الله عنه: أنه استلم الحجر الأسود فقبله وسجد عليه وفي رواية وضع خده عليه ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ليستلم الحجرة يقبله يسجد عليه يمسح خده "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله".
نعم إخوتي الكرام عندما نتبرّك ببيت الله الحرام "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان أمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " (آل عمران) .(100/7)
عندما نتبرك بالبيت الكريم ونعظم شعائر رب العالمين لا يعني أننا نعبد البيت وأننا نعبد هذه الشعائر لا ثم لا.. فعبادة المخلوق لا تصرف إلا لخالقه جل وعلا، " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. وليس هذا التقبيل والتمسح عبادة لهذا البيت إنما هذا طاعة لله جل وعلا وما ورد به الشرع نقف عنده ولا ندخل آراءنا وأهواءنا وإذا أراد الإنسان أن يشتط ون يقول: هذه لوثة من نزعات الجاهلية كانوا يعظمون البيت ويقبلون الحجر فقل له هذا اقتداء بخير البرية عليه الصلاة والسلام. نعم ما فيه بركة نتبرك به ونتمسح به تعظيماً لله جل وعلا لا عبادة له (للخلق) والإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/42 عندما ذكر الحضّ على زيارة المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه لتكتحل عينا الإنسان بمدينة نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: والله لو أنا ظفرنا بالمحجن الذي استلم به النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود –والمحجن هي العصا معقوفة الطرف إذا كان الإنسان يركب على دابة يأخذ بها شيئاً من الأرض من متاع سقط منه أو غيره لها طرف يعنى كالعكاز والباكورة في هذه الأيام "المحجن" نبينا عليه الصلاة والسلام عندما طاف على راحلته المباركة جاء إلى الحجر الأسود فاستلمه بالمحجن وضع محجنه على الحجر الأسود ثم قبّل هذا المحجن.(100/8)
والحديث ثابت في المسند والكتب الستة إلا سنن الإمام الترمذي فهو في الصحيحين " استلم الحجر بمحجنه ثم قبّله " يقول الإمام الذهبي لو ظفرنا بالمحجن الذي استلم به نبينا عليه الصلاة والسلام الحجر الأسود وقبّله لحق لنا أن نزدحم على محجنة للتبجيل والتقبيل هذه العصا التي كانت تمسّ يد نبينا عليه الصلاة والسلام ويمسكها لو قدر أننا ظفرنا به لحق لنا أن نزدحم على محجنه عليه الصلاة والسلام بالتبجيل والتوقير. إخوتي الكرام: الذي يقوله هذا الإمام الهمام هو المقرر عند أئمة الإسلام وقد فعله جم غفير من التابعين للصحابة الكرام رضي الله عنهم وههنا ينبغي أن تتخرّس الألسنة التي تتكلم بالباطل في هذه الأيام ويقولون: إن التبرك بغير النبي عليه الصلاة والسلام ما حصل من أحد نحو أحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ما حصل من التابعين نحو الصحابة الكرام الطيبين.
والآثار في ذلك كثيرة وفيرة سأذكر أثرين اثنين:
الأثر الأول: رواه الإمام الطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع 8/42 في كتاب الأدب باب قبلة اليد. والأثر رواه سيد المؤمنين وإمام المحدثين الإمام البخاري في الأدب المفرد ص 144 ولفظ الأثر عن عبد الرحمن بن زيد الغافقي المصري وهو من أئمة التابعين الكبار وحديثه مخرج في الأدب المفرد للإمام البخاري وسنن أبي داود وابن ماجه قال قدمنا الربذة فقيل لنا هاهنا رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سلمه بن الأكوع قال فذهبنا إليه ودخلنا عليه فقال لنا بايعت النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين اليدين قال فأخرج لنا كفَّا ضخمة كأنها خف بعير فقمنا إليه وقبلناها فلم ينكر علينا ذلك. اليد يد صحابي مسّت يد الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم قمنا إليها وقبلناها. صافحتهم متبرّكاً بأكفّهم – إذا صافحوا كفَّا على ثميناً..(100/9)
نعم هذا حصل من تابعي نحو صحابي بإسناد صحيح وفي المصدرين المذكورين. وأثر ثالث رواه الإمام البخاري في نفس المكان في الأدب المفرد ص144 عن شيخ الإسلام في زمنه وإمام التابعين ثابت بن أسلم البُناني (وقد توفي سنة بضع وعشرين بعد المائة) وحديثه في الكتب الستة وتقدم منعنا شيء من مناقبه وفضائله رضي الله عنه وأكرمه في قبره بعد موته بقراءة القرآن فما مرّ أحد بجوار قبره إلا سمعه يتلو كلام الله جل وعلا، ثابت بن أسلم البناني تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه والقصة يستشهد بها الإمام الذهبي في المكان الذي ذكرته آنفاً في السير 4/41 فما بعدها كان ثابت بن أسلم يجيء إلى سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول أبا حمزة أرني يدك التي صافحت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم مسست بها يد رسول الله صلى الله علية وسلم فكان أنس يخرج له يده فيكبّ عليها ثابت بن أسلم البناني بالتقبيل والتبجيل.(100/10)
أثران عن تابعيّين مع صحابيين. إخوتي الكرام وعمدتهم في ذلك ما أشرت إليه سابقاً من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقلت إن الحديث في المعجم الأوسط للطبراني وحلية الأولياء وإسناده صحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشرب يرجو بركة أيدي المسلمين، وقد ذكرت هذا في الموعظة الماضية أو التي قبلها فاستشكل هذا بعض المستشكلين لكثرة المشوّشين المشكّكين في هذا الحين فكان من كلامهم: أي فائدة في رواية مثل هذه الأخبار؟ قلت يا عبد الله أو ليست هذه الأخبار أفعال نبينا المختار عليه الصلاة والسلام؟ أو ليست هذه الأخبار أفعال السلف الأخيار؟ وديننا من أين يؤخذ؟ ولم يضيق صدرك إذا ذكر مثل هذا؟ لم يضيق صدرك إذا تحدث الناس بمثل هذه الأخبار؟ وإذا ذكرت قصة من ذلك كأنك أخرجت ثعباناً من الصندوق وألقيته على بعض الناس لم يضيق صدرك؟ فعل نبيك عليه الصلاة والسلام "يأتي بهذا الماء فيشرب يرجو بركة أيدي المسلمين".
وهنا فعل أئمة الإسلام وتقدم معنا بعض الحوادث كما قلت في الموعظة الماضية فعلام يضيق صدرك يا عبد الله ثم هذا التشويش واللغط من قبل الغالطين المشوشين في هذا الحين "من تبّرك بصالح فهو مشرك" وأن هذا من خصال المشركين وأن من يبيحه فهو طاغوت لعين.(100/11)
طيب بعد ذلك أنت تقول: ما الحكمة من ذكر هذا؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله إخوتي الكرام لابدّ من أن نعي أحوالنا على التمام، ما فعله نبينا عليه الصلاة والسلام ونقل عن سلفنا الكرام ينبغي أن نتأدب نحوه وأن نأخذ به وأن نفرح عند ذكره ومدارسته واجتمعت مرة مع بعض الأخوة وقال: يعني هذه الأبحاث التي تذكرها من أولها لآخرها ليس هذا وقتها فلو تركت لكان أحسن قلت في أي شيء نبحث؟ قال نبحث في أحكام دين الله قلت: أسألك ما حكم من لبس الصليب؟ قال: حرام، لبس الصليب حرام قلت: لِم تغلظ على من يتبرك بصالح أكثر من إغلاظك على من يتبرّك بالصليب ويلبسه؟ قال: ماذا تقصد؟ قلت إذا أتيت لتبرّكٍ بصالحٍ تقول " شركٌ " "ومُشرك " "وطاغوت " وإذا أتيت للبس الصليب حرام لم لا تقول إن هذا شرك وكفر بالرحمن؟! قال الشرك والكفر نوع من الحرام، قلت إذاً ترى أن لبس الصليب شرك وكفر؟ قال: نعم، قلت فأسلك سؤالاً آخر وهو محل الشاهد أما الأول فهو مجمع عليه بين أئمتنا أن من لبس الصليب فهو مرتد كافر لاحظ له في الإسلام لا تتكلم في هذه المسألة وهذا لا خلاف فيه بين أئمة الإسلام إنما المسألة ما حكم من يبرر لبس الصليب ويفتي بجوازه قال نهينا عن تتبع زلل العلماء هذه زلة من عالم قلت هذه زلة؟(100/12)
وأئمتنا عندما قرروا جواز التبرك بناءً على أدلة صدق قال بها أهل الحق تشتطّون وتغضبون للشيطان لا للرحمن، وتعاملون أئمتنا الأبرار معاملة الكفار وهنا زلة؟ قلت والله إن الفتيا بحل لبس الصليب وجوازه أشنع بكثير من لبسه، فعلام يا عبد الله تكثرون الضجيج على ما قاله أئمتنا الكرام كشيخ الإسلام الإمام النووي وابن حجر والإمام الذهبي والإمام الخطابي وأئمة الإسلام تكثرون عليهم الضجيج وتقولون: شرك –وطاغوت- ومشرك، وإذا جئتم بعد ذلك إلى لبس الصليب قلتم: "حرام " وإلى الفتوى بجواز لبسه على حسب الأعراف الدولية والمراسم الردية فهذا لا حرج فيه "زلة من عالم " لا إله إلا الله محمد رسول الله، كيف انتكست القلوب في هذه الأيام ما فعله نبينا عليه الصلاة والسلام وفعل به وما فعله الصحابة الكرام وفعل بهم وما تتابع عليه أئمة الإسلام يأتي صُعلوك في هذه الأيام وهو متكئ على أريكته يقول: هذا مشرك، والذي يدعو إلى هذا مشرك وطاغوت، ثم تأتي بعد ذلك إلى شعائر الكفر المجمع عليها بأنها تدل على كفر ما حكم لبس الصليب؟ حرام وما حكم من يفتي بجوازه؟ زلة من عالم لا يجوز أن نعلق عليها بأكثر من ذلك، وبعضهم يشتطّ يقول وهو في زلته مأجور على اجتهاده هدمتم دين الله، هدمتم دين الله يا من لا تخافون من الله رحمة وذلة واستكانة نحو أعداء الله وجبروت وطغيان نحو أولياء الله.(100/13)
إخوتي الكرام: –كما قلت- هذا الخليفة الراشد المبارك رضي الله عنه عندما قبّل الحجر حَذارِ حذار أن يقول صعلوك في هذه الأيام إن تقبيل الحجر والتبرك ببيت الله الحرام إن هذا من ذرائع الشرك وإن هذا من خصال الجاهلية ما فعلنا هذا إلا اقتداءً بنبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه مع علمنا وجزمنا بأننا عندما نتبرك ببيت ربنا وبالحجر الأسود وبنبينا عليه الصلاة والسلام وبالصالحين من عباده أننا لا نخصّ شيئاً من ذلك بالعبادة فالعبادة لا تعرف إلا لمستحقها ألا وهو الله جل وعلا، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إخوتي الكرام هذا المسلك الذي كان عليه سلفنا كما قلت في العصر الأول وعليه كان عندهم المعوّل يعوّلون عليه هذا المسلك هو المنقول عن أئمتنا بجميع مراحل هذه الأمة المرحومة يأمرون بالاتباع ويحذّرون من الزيغ والهواء والابتداع.
هذا سيدنا إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه نجم السنن (م179هـ) وحديثه في الكتب الستة يقول كما في ترتيب المدارك بطبقات أصحاب الإمام مالك للقاضي عياض 1/172 " وخير أمور الدين ما كان سنة – وشر الأمور المحدثات البدائع وخير أمور الدين ما كان سنة " ما هو منقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما هو ثابت في سنته. وشر الأمور المحدثات البدائع فكل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة. وكان يقول: وقد نقل عنه هذا القول وشرحه الإمام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوي 4/137 يقول: السنة كسفينة نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من دخلها نجا ومن حاد عنها هلك وغرق. ما نجا في الطوفان الذي حصل في عهد نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلا من دخل السفينة التي صنعها بأمر ربه الرحمن فمن دخل سفينته ممن عَبَدَ الله واتبع أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام نجا.(100/14)
وهكذا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم بيننا كسفينة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذا كنت على السنة فأنت على هدى وإذا انحرفت فأنت على ردّى وإذا كنت على السنة فمهما قصرت في الجد والاجتهاد فأنت على الطريق ولا بد لمن سلك الطريق المستقيم أن يصل إلى جنات النعيم ولو بعد حين، فإذا قصدت مكة المكرمة من الطريق المعروف المعهود ستصل بعد يوم أو يومين أو شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين مهما بعد الطريق ومهما تباطأت في المشي ما دمت على الطريق وإذا انحرفت يميناً أو شمالاً كلما ازددت سرعة ازددت عن بيت الله ابتعاداً وهكذا السنة كسفينة نبي الله نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام من دخلها نجا ومن حاد عنها هلك وغرق، وهكذا كان شيخ أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله ينبه على هذا المعنى كثيراً ويحث على اتباع السنة وطرح الآراء والأهواء وكثيراً ما كان ينشد في مجلسه كما في كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته 2/35 كان الإمام أحمد بن حنبل ينشد هذه الأبيات:
كثيراً ويقول دين النبي من أخبار ... نعم المطيّة للفتى الآثار
لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار
... ...
لا ترغبن عن الحديث وأهله، لا تزهدن في الحديث هذا الحديث كلام النبي عليه الصلاة والسلام وفي إتباع المحدثين ساداتنا علمائنا الكرام، فالرأي ليل، والليل مضيعة وهلاك ولتعرف أين تسير والحديث نهار، ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار.(100/15)
وهذه الأبيات أوردها الإمام الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث ص76 ونسبها لزياد بن عبدة الأصبهاني رحمه الله. وهكذا إخوتي الكرام كما قلت تتابع أئمتنا على تقرير هذا المعنى فهذا الإمام الجُنيد بن محمد القواريري أبو القاسم عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمة ربنا يقول كما في حلية الأولياء وتلبيس إبليس للإمام ابن الجوزي والرسالة القشرية يقول: جميع الطرق مسدودة (لا يمكن أن يوصلك طريق منها إلى الله جل علا) إلا من اقتفى آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع سنته ولزم طريقته فإن جميع أبواب الخير عليه مفتوحة ثم تلا قوله: "لقد كان في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب /21) .
وقد تواتر عن هذا الإمام وهذا القول في غنية عن إسناده فكل من ترجم لهذا الإمام أورد هذا الحديث في ترجمته سواء الكتب التي تروي بالأسانيد أو التي تذكر ما في تلك الكتب مما قيل فيها، كل من ترجم للإمام الجنيد نقل عن هذا الكلام، كان يقول: " مذهبنا مشيّد مقيّد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدي به " "اتباع " وحذار حذار من الزيغ والابتداع وكل طريق لا يوصلك إلى الله إلا طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.(100/16)
إخوتي الكرام: والإمام الجنيد توفي سنة 298هـ قبل 300سنة بسنتين. وقد ترجمه الإمام الذهبي في سير الأعلام النبلاء 14/66 ونعته في بداية ترجمته فقال: "هو شيخ الصوفية في زمانه " ثم قال إنه اشتغل بالعلم وأقبل على شأنه فتألّه وتعبّد ونطق بالحكمة ثم بعد أن ذكر ما يطلب العقول في ترجمة هذا العبد الصالح ختم ترجمته بقوله: "رحمة الله على الجنيد، أين مثل الجنيد في علمه وحاله " وهذا آخر شيء يذكره في ترجمته في سير الأعلام النبلاء وقد بلغ من إجلال أئمتنا لهذا العبد الصالح ما حكى في ترجمة العبد الصالح أبي العباس بن سريج وهو أحمد بن عمر الذي توفي 303هـ بعد الإمام الجنيد بخمس سنين ويقول أئمتنا في ترجمة أبي العباس ابن سريج " ما في اتباع الإمام الشافعي أفضل منه " ابن سريج، جميع أتباعه مذهبه ما فيهم من يصل إلى مكانته وهو شيخ الإسلام في وقته تكلم مرة في مجلسه فأثنى عليه الحاضرون وأعجبوا بفصاحته والنور على كلامه. فقالوا من أين لك هذا؟ قال هذا ببركة مجالسة أبي القاسم يعني الإمام الجنيد. عليهم جميعاً رحمة الله. يقول: أنا جالست هذا الإمام المبارك ونظرت إليه وهو الذي يقول عنه الإمام الذهبي "تعبّد وتألّه ونطق بالحكمة " نظرت إلى هذا العبد الصالح الرباني فألقى الله في قلبي هذه الخشية والسكينة وأنطق لساني بالحكمة هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد بن محمد القواريري وهذا موجود في ترجمته في سير أعلام النبلاء وغير ذلك.(100/17)
إذاً إخوتي الكرام جميع الطرق على الخلق مسدودة إلا من تبع طريق نبينا عليه الصلاة والسلام والآثار في ذلك إخوتي الكرام كثيرة وفيرة لكن هذا المسلك السديد الذي سار عليه الرعيل الأول كما قلت وكان عليه عندهم المعوّل يقتدون بنبينا عليه الصلاة والسلام ويفرحون الرحمن بعبادتهم تغير هذا الأمر في العصور المتأخرة وكلما امتد الزمان سيزداد التغير ونسأل الله حسن الختام، ثبت في المسند للإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن الإمام الترمذي من رواية الزبير بن عدي وهو من أئمة التابعين الربانيين الكرام وهو ثقة عدل رضىً حديثه مخرج في الكتب الستة توفي 135هـ يقول الزبير بن عدي رضي الله عنه: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه عندما كان البصرة نشكو إليه ظلم الحجاج فقال أنس رضي الله عنه وأرضاه " اصبروا فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ياتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم " تغير سيقع وسيعبد الناس أهواءهم وينحرفون عن عبادة ربهم ويجعلون أندادا لنبيهم صلى الله عليه وسلم يشركونهم معه في الطاعة أو يطيعونهم دونه عليه الصلاة والسلام " اصبروا لا يأتي عليكم عام إلا والذي شر منه حتى تلقوا ربكم " وفي رواية الإمام الترمذي ما من عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم وفي رواية في مسند الإمام أحمد لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه وهذا التحذير الذي صدر في هذا الصحابي الجليل نقلا عن نبينا البشير النذير صلى الله عليه وسلم هو الذي تتابع عليه سلفنا الكرام وبيّن لنا التغير الذي سيطرأ على هذه الأمة ما سيأتي من زمان.(100/18)
فانظر لبعض الآثار المنقولة فقط عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول في كتاب الزهد للإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير وإسناد الحديث صحيح يقول لامرأته: اليوم خير أم أمس أي اليومين أفضل أمس الذاهب أو هذا اليوم الحاضر فقالت زوجته الطيبة المباركة: لا أدري قال لكني أدري أمس خير من اليوم واليوم خير من الغد والغد خير مما بعده وهكذا حتى تقوم الساعة. وكان رضي الله عنه يقول كما في كتاب جامع بيان العلم وفضله وسنن الدارمي كان يقول: لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه، أما إني لا أعني عاما أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن فقهاءكم وعلماءكم يذهبون ولا تجدون عنهم خلفا ويأتي بعدهم أقوام يقيسون الأمور برأيهم فيضِلّون ويُضَلّون. هذا الذي سيطرأ على هذه الأمة وكان يقول كما في سنن الدارمي في المقدمة أيضاً " تعلموا العلم قبل أن يقبض، تعلموا العلم قبل أن يرفع" وقبض العلم بقبض العلماء تعلموا العلم فإن أحدكم لا يدري متى يُحتاج إليه أي يحتاج الناس إليه ليذكّرهم ويبصرهم وإذا لم يكن على هدى سيبتدع ويتبع الردى ثم كان يقول: "إياكم والتبدّع والتنطّع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق " وكان يقول كما في حلية الأولياء يذهب الصالحون أسلافا وتبقى حثالة كحثالة الشعير يأتي بعد ذلك قوم سوء يعبدون أهواءهم ولا يتبعون نبيهم عليه الصلاة والسلام. وهذا الكلام الذي قاله أبو عبد الرحمن هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام هذا الكلام يخرج من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى تغيّر الزمان في هذه الأمة فأخبرنا أنه سيبقى الأشرار وأخبرنا أنه سيقبض العلماء ويبقى الفجار فاستمعوا إلى تقرير هذين الأمرين من كلام نبينا المختار عليه الصلاة والسلام.(100/19)
ثبت في مسند الإمام وصحيح البخاري والحديث من رواية مرداس الأسلمي رضي الله عنه ورواه الإمام الطبراني في الأوسط والإمام الخطابة في كتاب العزلة من رواية المستورد بن شداد والحديث صحيحٌ صحيح فهو في صحيح البخاري كما سمعتم ولفظ الحديث عن نبينا صلى الله علية وسلم أنه قال يذهب الصالحون الأمثل فالأمثل وتبقى حفالة كحفالة الشعير لا يباليهم الله بال’ " والحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق وبوّب عليه بابا فقال: باب في ذهاب الصالحين، قال أبو عبد الله (يعني البخاري نفسه) حُفالة وحثالة بمعنى واحد، حفالة/حثالة..كحفالة الشعير، الرديء منه لا يباليهم الله بالةً، أي لا يكترث بهم ولا يعبأ بهم، لأنهم قوم سوء وذهب منهم أهل الخير والصلاح والاستقامة يذهب الصالحون الأمثل فالأمثل وتبقى حفالة كحفالة الشعير/حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله بالة.
وقبض العلم أشار إليه أيضاً نبينا عليه الصلاة والسلام عندما يقبض العلماء الصالحون إخوتي الكرام ثبت في المسند والصحيحين والحديث في سنن الترمذي وابن ماجه من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ورواه الإمام البزار والخطيب البغدادي من رواية سيدتنا أمنا المباركة عائشة رضي الله عنها ورواية الإمام الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنه فهو من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص وأمنا عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين.
والحديث كما سمعتم في الصحيحين وغيرهما ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم / حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جها فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".(100/20)
إخوتي الكرام: وما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام قد وقع وبداية التغير قد طرأت على هذه الأمة عند فقد نبينا عليه الصلاة والسلام وانتقاله إلى جوار ربه فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه وهذا الأمر هو ما أخبرنا عنه من شهد تلك الوقعة الشديدة الأليمة المفجعة فعند فقده عليه الصلاة والسلام فقدوا النور والبركة وحسن التربية منه عليه الصلاة والسلام كما فقدوا بركة الوحي التي كانت تنزل عليه صباح مساء على الدوام. فبداية التغير حصلت في هذه الأمة عند فقد نبينا عليه الصلاة والسلام وما أصيب المسلمون بمصيبة تعدل هذه المصيبة.(100/21)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الإمام الترمذي وسنن ابن ماجه من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء فيها كل شيء فلما قبض عليه الصلاة والسلام أظلم فيها كل شيء والله ما نفضنا أيدينا من تراب نبينا عليه الصلاة السلام حتى أنكرنا قلوبنا " أضاء فيها كل شيء بقدومه المبارك وطلعته البهية وجبينه الأزهر ووجهه المنور عليه صلوات ربي وسلامه فلما قبض كل شيء فيها أظلم ويقول هذا الخادم المبارك الذي خدم نبينا عليه الصلاة والسلام عشر سنين وهو أعلم الناس بأحواله والله ما نفضنا أيدينا عن ترابه عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا ما بقي فيها الرقة والأنس والبهجة وما بقي فيها الليونة والعذوبة التي كانت عندما نستمتع بالنظر إليه ونستمع الحكمة منه عليه صلوات الله وسلامه وهذا شعر به سائر الصحابة الكرام ففي مسند البزار بسند جيد كما قال الحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله في الفتح والأثر رجاله رجال الصحيح كما في مجمع الإمام الهيثمي رحمة الله عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: " ما فرغنا من دفن النبي عليه الصلاة والسلام ونفضنا أيدينا منه حتى أنكرنا قلوبنا " هذه بداية التغير موت النبي عليه الصلاة والسلام ذهاب السكينة ذهاب البركة ذهاب النور ذهاب السرور والله إن رؤيته عليه الصلاة والسلام تعدل ما لا يخطر بالبال والحسبان ففقدت الأمة هذا فنسأل الله تعالى أن يجمعنا في غرف الجنان وأن يمتعنا بالنظر إلى نور وجهه الكريم وإلى نور وجه نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(100/22)
والبلية الثانية التي حصلت عن فقده عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي وذهبت البركة وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه من رواية سيدنا أنس بن مالك أيضاً قال: قال أبو بكر رضي الله عنه صديق هذه الأمة وأفضل خلق الله بعد النبيين والمرسلين على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه قال سيدنا أبو بطر لسيدنا عمر رضي الله عنهما " انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها وهي أمة بعد أمة وهي حاضنته وهي بركة المباركة رضي الله عنها وأرضاها "أم أيمن " فدخل عليه سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما يزورانها بعد موت نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام فلما دخلا عليها بكت فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن فما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم " وما عند الله خير للأبرار " ما عند الله خير لرسوله عليه الصلاة والسلام قالت: قد علمت أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء هذه البركة التي كانت تنزل علينا صباح مساء فُقدت عند موت خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء فهيّجتهما على البكاء.(100/23)
بداية التغير في هذه الأمة حصلت ووقعت وطرأت عند موت نبينا عليه الصلاة والسلام وفقدانه، فأصبنا بمصيبتين لا تعد لهما مصيبة ذهاب طلعة نبينا عليه الصلاة والسلام البهية النورانية وفقدان الوحي بعد موته عليه صلوات الله وسلامه إخوتي الكرام كلما امتد الزمان يزداد التغير في هذه الأمة ونسأل الله حسن الختام ثبت في صحيح البخاري وسنن الإمام الترمذي عن الإمام الزهري أنه دخل على سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه عندما ذهب أنس من البصرة إلى بلاد الشام يشكو الحجاج وما يحصل منه من ظلم واعوجاج يقول الزهري دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنه وهو في مسجد بني أمية الكبير وهو في المسجد يبكي فقلت له يا أبا حمزة ما يبكيك؟ فقال " لا أعلم شيئاً مما كان عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الصلاة وهذه الصلاة قد ضُيّعت " لا أعلم شيئاً تواظبون عليه إلا هذه الصلاة تؤدونها بجماعة ثم مع ذلك ضيّعت تؤخرونها عن أول وقتها ولا يحصل فيها ما ينبغي أن يحصل فيها.
وفي رواية الترمذي قال أبو عمران الجوفي لسيدنا أنس رضي الله عنه عندما قال: لا أعلم شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو عمران: فأين الصلاة يا أبا حمزة نحن نصلي قال: أو ليس قد عملتم فيها ما عملتم؟ تؤخرونها عن وقتها لا تخشعون فيها ما بقي شيء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام مستقيماً كحاله في هذا العصر الذي هو العصر الأول كما يقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.(100/24)
نعم إخوتي الكرام إن الاعوجاج يزداد كلما امتد الزمان وقد تقدم معنا كلام الإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا رأيتم شيئاً مستوياً مستقيماً فتعجبوا منه، وهنا " لا أعلم شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذه الصلاة وهذه قد ضيعت، وهذه قد عملتم فيها ما عملتم وثبت في مسند الإمام أحمد عن أم الدرداء أن أبا الدرداء دخل عليها وهو مغضب فقالت: بأبي وأمي أنت من أغضبك؟ قال: " ما أعلم شيئاً ما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعاً " هذه الشعيرة هي الباقية كما كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وباقي الشعائر حصل فيها ما حصل من العكر والتغيير والكدر، والأثر كما قلت في مسند أحمد وهذا الأمر الذي شعر به الصحابة الطيبون هو الذي كان يتحدث عنه التابعون المباركون ففي موطأ الإمام مالك من رواية مالك بن أبي عامر الأصبحي وهو ثقة عدل إمام رضي الله عنه حديثه مخرج في الكتب الستة وقد أدرك سيدنا عمر وسيدنا عثمان وأمنا عائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وروى عنهم مالك بن أبي عامر الأصبحي يقول كما في الموطأ: لا أعلم شيئاً مما كانوا عليه الصحابة إلا الآذان حتى الصلاة في جماعة حصل فيها ما حصل من تغيير في ذلك الوقت إلا الآذان.(100/25)
ويقول معاوية بن قرة وهو ثقة حديثه في الكتب الستة تابعي (م 113هـ) أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو بعثوا فيكم لما عرفوا شيئاً مما كانوا عليه إلا النداء بالصلاة ويقول شيخ الإسلام ميمون بن مهران وهو ثقة إمام خير مبارك حديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة (م 117هـ) يقول: "لو نشر رجل من الصحابة الكرام من الصحابة (أي بعث من النشور) لما عرف غير قبلتكم لو نشر رجل من السلف الكرام من الصحابة الطيبين لما عرف إلا القبلة هذه التي نتوجه إليها وما غيرناها، وما عدا هذا أذاننا ملحون وصلاتنا فيها ما فيها وهكذا سائر شعائر الإسلام.(100/26)
نعم إخوتي الكرام كلما امتد الزمان تكثر البدع وتتوارى وتختفي السنن ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله موثقون كما في المجمع من رواية عبد الله بن عباس أنه قال: ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنةحتى تحيا البدع وتموت السنن، نعم بدع..تحيا، وسنن..تموت يعكف الناس على البدع باسم السنن وإذا غيرت البدع قالوا غيرت السنة. وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى التغيير الذي سيطرأ على هذه الأمة عندما سأله أمين سر هذه الأمة في المنافقين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه والحديث في الصحيحين وفي سنن ابن ماجه عن حذيفة: قال كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله انا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال نعم قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم وفيه دخن، قلت وما دخنه؟ يا رسول الله، قال قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر، قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة قال: فاعتزل تلك الفِرق كلها ولو تعضَّ على أصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك. حديث جليل يا إخوان الكرام ينبغي أن يتعلمه أولاد أهل الإسلام ليعوا حالهم في هذه الأيام كان الناس في جاهلية قبل بعثة خير البرية عليه الصلاة والسلام في جاهلية وشر ثم زالت تلك الجاهلية وانحسر ذلك الشر ببعثة نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام فقال حذيفة ابن اليمان هل سيطرأ على هذه الأمة تغيير وهل سيصيبها تكدير بعد هذا الخير الوفير؟ قال نعم.(100/27)
والشر الذي طرأ عليها في عصرها الأول في زمن الخلفاء الراشدين عند الخليفة الثالث الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حصل شر عندما حصل ما حصل من قبل الثوار الأشرار وذبحوه في بيته في بلدة نبينا المختار صلى الله عليه وسلم وما راقبوا الله في شيبته ولا في بلدة نبينا عليه الصلاة والسلام وانفتح على الأمة بعد ذلك باب الفتن وبقيت في هرج ومرج مدة خمس سنين في خلافة سيدنا علي رابع الخلفاء الراشدين توقفت الفتوحات الإسلامية وانقسمت الأمة داخلياً تتنازع فيما بينها من أهل البدع والأهواء من الخوارج والرافضة وغير ذلك من الأهواء التي حصلت في زمن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه ومن فتن بينه وبين من خالفوه في وجهة النظر وهذا كله شر ثم زاد وهذه فتنة وقعت كما كان أئمتنا يقولون ومن خالف علياً رضي الله عنه من أهل الهدى لا نقول إنهم مفتونون..فتنة ولا نقول إنهم مفتونون شر هل بعد ذلك الشر خير؟(100/28)
نعم سيأتي خير ويأتي عام الجماعة والأمة تتوحد وتصبح يداً واحدة لكن في ذلك الخير دخن، أي ليس بخير نقي صافي سليم لا شائبة فيه كما كان في زمن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين، خير وفيه دخن، والدخن هي الكدرة والتغير الذي يخالف اللون الأصلي ثياب بيضاء لكن فيها سواد وزرقة وفيها تغير وكدرة. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي ويستنّون بغير سنتي كما حصل من حكام بني أمية وبني العباس ومن بعدهم ثم قال حذيفة فهل بعد ذلك الخير من شر؟ خير وفيه دخن، خير مكدّر هل سيأتي بعده شر؟ نعوذ بالله من الشر الذي سيأتي بعده وهو ما نعيشه في أيامنا قال نعم دعة على أبواب جهنم وما أكثرهم ممن يدعون إلى الأحزاب المناقضة للإسلام وممن يدعون إلى موالاة اليهود والنصارى وأهل الشرك بالرحمن وممن..وممن..وممن..(100/29)
دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جلدتنا ليسوا بأعداء خارجية من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت ك فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ إذا شهدت انقسام الأمة وضياعها إلى هذه الحال دعاة على أبواب جهنم ماذا تأمرني؟ قال الزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة، والمراد بالإمام هو الخليفة الأعظم عندنا في الإسلام وهوالمسئول عن أهل الإيمان هذا هو تعريف الخليفة عندنا في شريعة الله المطهرة والذي يبايع على حسب كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ليحكم المسلمين فكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو من رعيته وتحت ولايته ويجب عليه أن ينصره وهذا زال عندما زالت دولة الإسلام عندما تكاتف أتباع الشيطان من شرق وغرب وقضوا على آخر خلافة إسلامية ألا وهي الخلافة الإسلامية العثمانية التي قضي عليها على أيدي الأعداء الكفرة بواسطة اللئيم الملعون مصطفى كمال أتاتورك لا رحمه الله ولا غفر له ولا أقاله عثرته وملأ قبره جمراً من نار جهنم، هذا اللعين الذي أصدر بإلغاء الخلافة العثمانية بتأييد من هذه الدول الكفرية ووقع هذا سنة 1343 من قرابة على ما يزيد على ستين سنة هذه آخر دولة إسلامية شهدها العالم الإسلامي ثم بعد ذلك تمزّقوا شذر مذر لا إمام ولا جماعة وأحوالنا لا يعلمها إلا الذي خلقنا والله لو علم بمصيبتنا الجبال لتصدعت من هول ما حلّ بنا ولوكان الحديث يشعر بما أحل بأمة نبينا صلى الله عليه وسلم لذاب وانصهر ولما وجد حديد متماسك صلب ولكن هذه القلوب ازدادت قسوتها على الحديد والحجارة في هذه الأيام الزم جماعة المسلمين وإمامهم إمام المسلمين هذا الذي هو مسئول عن الموحدين في جميع بقاع الأرض لا الذي يتكئ على أريكتة ويشجب بلسانه وهو يتترّع من التخمة لا ينزل بالأمة الإسلامية من مشاكل والنكبات، ثم بعد ذلك يدعي هو وغيره أنهم أئمة المسلمين إمام المسلمين هو(100/30)
الذي يرعاهم ويبذل مهجته من أجل الحفاظ عليهم لا أن تكئ على أريكته ثم بعد ذلك يشجب ويستنكر المذابح التي يلاقيها العزل من عباد الله الموحدين في أرجاء المعمورة لأنهم آمنوا برب العالمين ثم هو يشجب، ثم هو يستنكر وإذا أردت أن تعرّض به لسلّط عليك الصواريخ صارت كرامتك أعلى من حرمة الموحدين المؤمنين وأعلى من دين رب العالمين فالزم جماعة المسلمين وإمامهم فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة كالحالة التي نعيش فيها، فرقة ما بعدها فرقة، وما مرّ على الأمة الإسلامية وقت أشنع ولا أسفل وأحطّ ولا أسوأ من العصر الذي نعيش فيه، قال: فاعتزل تلك الفِرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ومراد نبينا عليه الصلاة والسلام من هذا الأمر السلبي مراده منه أمر إيجابي فانتبهوا له: إخوتي الكرام إذا لم يكن هناك إمام ولا جماعة والرايات ضالة باطلة إذا سارعت إلى بعضها ستهلك وتُهلك كما هو الحال في هذه الأيام يريدون الإصلاح لكن يزيدون في الفساد والإفساد، وإذا كان الأمر كذلك فكل واحد منا يحصّن نفسه، فإذا ابتعدنا عن مشاركة الناس في الشر وعلم الله في قولبنا خيراً سنجتمع بعد حين إذا أردنا وجه رب العالمين فهذا علاج سلبي يترتب عليه أمر إيجابي، لا يمكن أن نجتمع على الحق إلا بعد أن نتروّى ونتبصر وأن نتأمل هذه الدعوات وهذه الرايات التي تنتشر هنا وهناك في هذه الأوقات فاعتزل تلك الفرق كلها، وإذا اعتزل الناس الشر سيفكرون بالخير ولا بد لكن إذا شاركوا في الشرور المنتشرة كما هو حال الشباب الطائش في هذه الأيام يزيدون الفساد والإفساد في بلاد الإسلام فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك.(100/31)
إخوتي الكرام: من أشنع بدع التغيير التي حصلت في هذا الزمن الذي نشيع فيه دعاة على أبواب جهنم من جلدتنا يتكلون بألسنتنا أشنع البدع التعايش الوهمي الذي يسمونه التعايش السلمي وحقيقته أن يدخل الموحدون تحت حماية من لعنهم الحي القيوم. وأن يصطلح الأبرار مع الكفار الأشرار وحقيقة التعايش السلمي رفع البغض من قلوبنا نحو أعدائنا وأن لا نفكر في قتالهم في يوم من الأيام إنما ينبغي كما يقول المثل العامّي: أن نأكل العيش وأن نملأ الكريش وأما بعد ذلك دين الله ينبغي أن ننصر بالحديد والنار "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" (الحديد 25) .
هذا لا ينبغي أن يفكر به ن تعايش سلمي وتعايش وهمي من دعا إلى هذه الفكرة فهو كافر مرتد خارج من دين الرحمن وإن صام وصلى وزعم أنه من عداد أهل الإسلام. ما عندنا بيننا وبين الكفار تعايش سلمي والله يقول وهو أعلم بما في قلوب عباده: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" (البقرة) .
ويقول جل وعلا: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" (البقرة) .(100/32)
والله ما دام على وجه الأرض لن يهدأ بال يهودي ملحد حتى يكفر هذا الموحّد. لا يمكن أن يحصل تعايش سلمي إلا إذا تهودنا أو تنصرنا أو كفرنا بنينا عليه الصلاة والسلام وأعرضنا عن ربنا. تعايش سملي؟! أمرنا الله تعالى بقتال أعدائه. فهذه الأرض أرضه وهذا ملكه وينبغي أن تحكم شريعة الله في بلاد الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " والفتنة هي الشرك والكفر، فما دام على وجه الأرض يهودي أو نصراني أو أي ملة من الملل الضالة الكافرة فالجهاد على المسلمين واجبٌ واجب وإذا تركوه فهم آثمون ملعونون وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة..حتى لا يبقى في الأرض كافر وتكون الدعوة كلها لله ويكون الدين لله وقال جل وعلا: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير".
تأوون إلى ركن ركين وحصن حصين هو رب العالمين فعلام الخضوع والاستسلام أمام أعداء الله المجرمين..، "فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير".
إخوتي الكرام: التعايش الوهمي الذي يطنطن له في هذه الأيام بعد أن خرجنا من دين يريدون أن يجعلوا هذا الخروج له صفة الثبات والاستقرار والرسميات." هؤلاء الكفار إخواننا، فما ينبغي أن يبقى في قلوبنا شيء نحوهم " من دعا إلى ذلك فهو كافر.(100/33)
إخوتي الكرام: إن أشنع بلية أصيبت بها الأمة الإسلامية في هذه العصور المتأخرة خسارة الحرب لقد كان سلفنا رضي الله عنهم أجمعين يخسرون في الحرب والخسارة في الحرب لا منقصة فيها "وتلك نداولها بين الناس" ونحن نرجو إحدى المحسنين إما النصر وإما الظفر بالشهادة لكن في هذه الأيام خسرنا الحرب من أولها إلى آخرها وما بقي عندنا روح الجهاد واستماتت الأمة في الخلود إلى الدنيا وشهواتها وملذاتها وموالاة أعداء الله خسارة الحرب بلية لا تعد لها بلية وشتان، شتان بين أن نخسر في الحرب أن نحسر الحرب خسرنا الحرب من أولها إلى آخرها والأمة تهيّأ في هذه الأيام لئلا يبقى في ذهن فرد منها فكرة الجهاد في سبيل الله.
إخوتي الكرام..
إن الدعوة لدين الله واجبة وأول من يقوم بهذه الدعوة هو الجيش المرمرم في البلاد الإسلامية فمهمة الجيوش الوحيدة عندنا في بلاد الإسلام نشر راية لا إله إلا الله، ومقاتلة من يكفرون بلا إله إلا الله، هذه هي مهمة الجيوش الجرارة لا أن تحفظ عرش فلان وفلان مهمة الجيوش أن تنشر كلمة التوحيد في بلاد الله في أرض الله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.." وهذا المعنى إذا ضاع منا- وقد ضاع- فسنبتلى بالذع والضياع، وهو ما تعيشه الأمة في هذه الأيام.(100/34)
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد أيضاً وهو في سنن أبي داود ومعجم الطبراني الكبير ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية والبيهقي في السنن الكبرى ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتبعتم الزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دين الله " تبايعتم بالعينة ك وهي الربا وهي أن أبيعك سلعة مؤجلة بثمن ثم أشتريها منك معجلة بثمن أقل، وهي دلالة على الاحتيال على الربا، وما أكثر الاحتيال على الربا هذه الأيام باسم المبايعة الشرعية في دين الرحمن، تبايعتم بالعينة: أكلتم الربا وتبعتم الزرع وتركتم الجهاد " سلّط الله عليكم ذلاّ لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم إن الأمة الإسلامية إذا لم تجاهد ولم تكن هذه الفكرة صباح مساء فهي أمة منافقة من عين الله ساقطة.
وقد أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق". ما غزا ولا يفكر بهذا ويتطلع إليه ويتحرق عليه مات على شعبة من النفاق.
إخوتي الكرام: إننا عندما خسرنا الحرب وضيعنا الإسلام عاقبنا الله بالذلّ في هذه الأيام ونسأل الله أن يحسن لنا الختام ماذا سنلقى عند لقاء ذي الجلال والإكرام. إن كل مبتدع وكل منحرف عن دين الله تعالى سيذله الله في الدنيا قبل الآخرة وأبى الله إلا أن يُذل من عصاه قال تعالى: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين" (الأعراف/152) .(100/35)
ثبت في تفسير الطبري وابن أبي حاتم والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه أبو الشيخ عن العبد الصالح أبي محمد سفيان بن عيينة (198هـ) وحديثه في الكتب الستة قال ما من مبتدع إلا وتغشاه ذلة فوق رأسه ثم تلا قول الله تعالى: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين" (الأعراف152) .
فقيل له: أبا محمد: هذه فيمن عبدوا العجل قال: أكملوا الآية واقرؤوا آخرها وانتبهوا لمعناه " وكذلك نجزي المفترين " فهي لكل مفتر إلى يوم القيامة نعم.."إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم " أسأل الله أن يردّنا إليه ردّا جميلا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: كانت نيّتي أن أتحدث في الموعظة الثانية عن موضوع ينبغي أن يعلق عليه من ضجيج يجري في هذه الأيام حول مهادنة أعداء الله في هذه الأوقات وحول موقف أئمتنا رحمة الله عليهم – من هذا الأمر ومن شعيرة الجهاد وهذا الأمر الثاني الذي نتدارس مبحثه في الموعظة الماضية وهذه الموعظة في النصوص التي تأمرنا بالاتباع وتنهانا عن الابتداع يحتاج أيضاً إلى شيء من التفصيل أترك تفصيل هذا الأمر وتوضيح ما يتعلق بالضجيج الذي ينتشر في هذه الأيام إلى الموعظة الآتية بإذن ربنا الرحمن والوقت قد طال وأسأل الله تعالى أن يحسن لنا الختام.(100/36)
اللهم أغفر ذنوبنا اللهم استر عيوبنا اللهم أصلح أحوالنا اللهم اجعل الجنة دارنا، اللهم لا تجعل إلى النار مصيرنا يا أرحم الراحمين. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا اللهم أعز أولياءك اللهم أخز أعدائك بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أغفر للآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منا، اللهم اغفر لمن له حق علينا اللهم أحسن لمن احسن إلينا اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم أغفر لمن عَبَدَ الله فيه، اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".(100/37)
تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تعذيب الميت ببكاء أهله عليه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير..
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء الخاتمة عند الإنسان، وهذه البدعة التي يتسبب عنها سوء الخاتمة قلت إننا سنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث:
(1) أولها: في تعريف البدعة.
(2) وثانيها: في النصوص التي حذرتنا من البدعة.(101/1)
(3) وثالثها: في أقسام البدعة.
ولازلنا اخوتي الكرام في المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة فقلت فيما سبق، إن البدعة هي الحدث في دين الإسلام، عن طريق الزيادة أو النقصان: مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وهذا الحدث إلى له نصوص الشرع الحسان.
إخوتي الكرام: وقلت إن هذا التعريف ضل فيه فرقتان، فرقة غلط في تعريف البدعة وفرقت فأدخلت في البدعة ما ليس منها، وفرقة فرطت وقصرت في تعريف البدعة فبدعت في دين اله عز وجل وزعمت أنها تبعد الله، وهاتان الفرقتان على الضلال، ولابد أن نحذر مسلكهما، ونسأل الله أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا فيه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وان يكرهنا فيه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: لازلنا نناقش، نرد على الفرقة الأولى التي وسعت مفهوم البدعة وغلط في ذلك، وقلت إنها ضلت وانحرفت عن طريقين اثنين بأمرين اثنين.(101/2)
أولهما: حكمت بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل، بل جاوزت هذا الأمر فحكمت بالبدعة على ما ورد صراحة بأدلة الشريعة المطهرة الثابتة، لأن ذلك لم يرق لعقولهم القاصرة الناقصة، أمرٌ احتمله الدليل وقال به إمام جليل، ما وسعهم ذلك فحكموا عليه بالبدعة وعلى فاعله بالتضليل، أمرٌ صرح به الدليل، لكن ما راق لعقلهم الهزيل فحكموا عليه بأنه بدعة وضلال في الدين، ومثلت لذلك بعدة أمثلة ينبغي أن نكون على علم وبينة منها، من هذه الأمثلة ما أشرت إليه سابقاً من وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع كالهئية التي يكون عليه المصلي قبل الركوع، ومنها صلاة التراويح وإنها عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث، وقراءة القرآن على الموتى عند القبور، ومنها تلقين الميت، ومنها القول بأن الأموات يسمعون ما يجري عندهم ويعلمون بزيارة الأحياء لهم ويستبشرون بما يقع عندهم من طاعة، ويتألمون بما يقع في حضرتهم من معصية، وتعرضت عند هذا إلى بيان حكم زيارة النساء للقبور وبقى علينا أمر كان في نيتي أن نتدارسه في هذه الموعظة لأختم الكلام على التحذير من أقوال هذه الفرقة وهذا القول إهداء القربات بأسرها من قربات بدنية ومالية ومركبة، منها إهداء القربات إلى الأموات، كان في نيتي أن نتدارس هذا الأمر في هذه الموعظة، لكنني سأرجئ الكلام إلى الموعظة الآتية إن شاء الله، وأتكلم في هذه الموعظة على أمرٍ كنت ذكرته في الموعظة الماضية وما تمكنت من الكلام عليه، وهذا الأمر، حيث صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، احتمل ستة أمور، كل منها حق مقبول وقال فيه جميع هذه الأقوال التي يحتملها الحديث أئمتنا الكرام، السادس منها كما سأذكر يدل على مسألتنا التي تدارسناها ألا وهي سماع الأموات وسرورهم بما يجري عندهم من الطاعات وحزنهم وتألمهم بما يجري عندهم من المخالفات فلنتابع خطوات البحث في ذلك.(101/3)
إخوتي الكرام: ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمير المؤمنين الخليفة الراشد الثاني المهدي سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والحديث ثبت أيضاً في الصحيحين من رواية عبد الله بن عمر ومن رواية المغيرة بن شعبة، وجميع الروايات كما قلت في الصحيحين، والحديث مروي في غير ذلك من دواوين السنة المطهرة عن نبينا أنه قال: [إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه] ، وهذا الحديث احتمل ستة أمورٍ كما قلت كلها حق مقبول، وقال بذلك أئمتنا الكرام الفحول، سأوجه هذه الأقوال وأختمها بسادس الذي يدل على مسألتنا ألا وهو أن الأموات يسمعون ويفرحون بما يجري عندهم من طاعة ويحزنون ويتألمون بما يجري عندهم من معصية.
المعنى الأول: الذي يحتمله هذا الحديث الشريف الثابت عن نبينا عليه الصلوات والسلام (أن الميت يعذب في الآخرة عند الله عز وجل، إذا تسبب في حصول النياحة والعويل عليه، بأن أوصاهم بذلك وسن لهم هذا الأمر المنكر المبتدع في الدين، وإلى هذا ذهب سيد المسلمين وأمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري عليه رحمة الله فبوب في صحيحه في كتاب (الجنائز) باب يشير به إلى هذا القول الذي ذهب إليه ومال إليه، فقال باب (الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه) إذا كان النوح من سنته، فإذا لم يكون النوح من سنته فلا يعذب لأن الله يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} .(101/4)
وقول هذا الإمام المبارك الكريم عليه رحمات رب العالمين، أن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه يريد بالبكاء هنا النياحة وهي التي فيها جزع ورفع صوت وتسخط على المقدور، واعتراض على العزيز الغفور الذي قدر الأمور وخلق الخلق وإليه يؤولون، فإذا حصل هذا النوع من البكاء وصراخ وعويل واعتراض هذا هو الذي يحاسب الإنسان عليه ويعاقب بسببه إذا كان من سنته، وأما مطلق البكاء على الميت فلا حرج على الإنسان فيه على الإطلاق لأن هذا من باب الرحمة التي أودعها الله في قلوب الرحماء من خلقه، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (اشتكى سعد ابن عبادة رضي الله عن الصحابة أجمعين، فاشتد وجعه فذهب النبي عليه الصلوات والسلام إلى عيادته وزيارته وذهب معه سعد بن وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وجمع غفير من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فلما دخل نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه على سعد بن عبادة وجده وعليه غاشية، والغاشية تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا أي غشيه أهله وأحاطوا به لشدة وجعه واشتداد كربه، وغاشية: أي غشى عليه فقد وعيه في تلك الحالة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام قضى سعد يعني خرجت روحه وقبض وتوفى، فقالوا لا يا رسول الله عليه الصلوات والسلام، فلما اقترب منه النبي عليه الصلاة والسلام ونظر إليه استعبر وبكى وذرفت عيناه بالدموع عليه صلوات الله وسلامه فبكى الصحابة الكرام أجمعون ببكاء نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام ألا تسمعون، إن الله لا يعذب لا يؤاخذ بدمع العين وبحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار النبي (إلى لسانه، يعذب بهذا أو يرحم، أي أن البكاء وأن الأعين تزرف الدمع وأن القلب يحزن لفراق الحبيب، هذا لا لوم عليه لا على الباكي ولا على من يبكى عليه، إنما إذا حصل جزع واعتراض على الله جل وعلا وصراخ وعويل بهذا وهو اللسان فالله يعذب أو يرحم(101/5)
سبحانه وتعالى، أما أن يعذب وإما أن يعفو وهو خير الغافرين وأرحم الراحمين، والحديث كما قلت اخوتي الكرام في الصحيحين.
وقد ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن إبراهيم ولد نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عند ما اشتد وجعه ذهب النبي عليه الصلاة والسلام لزيارته مع بعض الصحابة وكان في فترة الرضاعة وقد توفي هذا الغلام المبارك سيدنا إبراهيم بن سيدنا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاثة أشهر وهو في فترة الرضاعة فأخذه النبي عليه الصلاة والسلام وحمله شمه عليه صلوات الله وسلامه ثم ذرفت عيناه بالدمع فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه، أي أنت لا تملك نفسك ولا تصبر وأنت تأمرنا بالصبر وأنت تبكي وقد نهيتنا عن الجزع؟ فقال عليه الصلاة والسلام إنها رحمة ثم اتبعها بأخرى، أي بدمعة أخرى تسيل من عينيه المباركتين عليه صلوات الله وسلامه، وإما بجملة أخرى هي قوله عليه الصلاة والسلام، [إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون] إن العين لتدمع وإن القلب يخشع ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون.(101/6)
وإلى هذا أشار الإمام البخاري عليه رحمة الله فقال باب (الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه) ثم محل استنباطه هو آخر الترجمة قال إذا كان النوح من سنته، من سنته التي جمعها سنن، أي من طريقته، بضم السين كما قال أئمتنا سنة، وفتح النون المشددة من سنته، وضبط بضم السين المهملة بعدها موحدتان، أي من سببه وهو المعنى واحد كما حقق أئمتنا شراح الحديث إذا كان النوح من سنته، أي من طريقته إذا كان النوح من سببه أي بأجله أنه هو أوصى أن ينوح أهله عليه، فإذا فعل ذلك عذب عند الله عز وجل والسبب في ذلك إنه أوصاهم بمعصية بتسخط على المقدور واعتراض على العزيز الغفور ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها من بعده إلى يوم القيامة.
وقد أشار إلى هذا الأمر نبينا قال: [لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها] لأنه أول من سن القتل، قابيل عندما قتل أخاه المبارك الجليل هابيل، كل نفس تقتل بعد موت هابيل إلى يوم القيامة ظلماً يتحمل قابيل وزر قتلها ولن ينقص من أجر القاتل شيء من وزره [لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم كفل منها] أي نصيب من ذلك القتل، والوزر لأنه أول من سن القتل، نعم عندنا في شريعة المطهرة، ومن سن خيراً واتبع فيه فله أجره وأجر من عمل به بعده، وهكذا إذا سن وزراً واتبع فيه فعليه وزره ووزر من عمل به بعده.(101/7)
وقد ثبت هذا في المسند، والحديث رواه البخاري في كتاب (الأدب المفرد) والإمام مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود أيضاً من رواية جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي قال: [من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء] فهذا هو المعنى الأول لهذا الحديث الثابت في الصحيحين من رواية عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم أجمعين، (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) أي بما يناح به عليه إذا أوصى بالنوح والاعتراض على الله عز وجل، هذا المعنى الأول. وهو حق، وقواعد الشريعة تقرر وأئمة الإسلام كلهم يقبلون.(101/8)
والمعنى الثاني: الميت يعذب ببكاء أهله عليه، بما ينوح به أهله عليه إذا علم من عاداتهم أنهم ينوحون يبكون ويعترضون على الحي القيوم، وما أوصاهم في حياته أو عند احتضاره بعدم النياحة عليه وما حذرهم من ذلك وزجرهم عنه، فإذا مات وناحوا عليه يعذب عند الله عز وجل، لأنه عليه أثم المعصية حيث ترك تربية أهله ونصحهم وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله جل وعلا يأمرنا أن نتقيه وأن ننشئ أهلنا على تقواه، يقول جل وعلا في سورة التحريم {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} قوا أنفسكم وأهليكم ناراً: أي علموها الخير، وهكذا علموا أهلكم الخير، تعلموا الخير وعلموه، واعملوا به، كما ثبت هذا التفسير عن علي رضي الله عنه في تفسير الطبري ومستدرك الحاكم، وفي مصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور، وتفسيره وغيرهم {قوا أنفسكم وأهليكم ناراً} علموا أنفسكم وأهليكم أمور الخير، وثبت في تفسير عبد ابن حميد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال علموا أهلكم وأدبوهم فأنت مسؤول عنهم، فينبغي أن نحذرهم من كل معصية، فإذا حذرتهم وفعلوا ذلك فلا أثم عليك، وإذا لم تحذرهم فقد شاركتهم في تلك المعصية لأنك ما نصحتهم عنها وما زجرتهم عنها، (الميت يعذب ببكاء أهله عليه) هذا التأويل الثاني، وهو تأويل أيضاً حق، مقبول مبرور، لأنه إذا ترك النهي أهله عن هذا المنكر الذي يفعله أهله، إذا ترك النهي عنهم فقد شاركهم في ذلك وأقرهم عليه، وقد أخبرتنا نصوص الشريعة المطهرة أن الإنسان إذا فرط فيما يجب عليه من نصح وأمر بمعروف ونهي عن منكر يحاسب على ذلك عند الله عز وجل، ولذلك أول من يختصم عند الحق جل وعلا جاران ملتصقان في السكن في هذه الحياة، أول خصومة تقوم بين جار في تذكره في التواصي بالحق والتواصي بالصبر.(101/9)
وقد أشار إلى هذا نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه أبي عاصم وإسناده صحيح، قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في (المجمع) رجاله رجال الصحيح، قال إلا أبا عُشانه وهو ثقة، وأبو عشانه اسمه حيي بن يُؤمِن المصري توفي سنة ثماني عشرة ومائة للهجرة 118هـ، وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وقد أخرج له السنن الأربعة إلا الإمام الترمذي عليهم رحمة الله، فالحديث صحيح، ولفظ الحديث من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي قال: [أول من يختصم بين يدي الله جل وعلا جاران متجاوران لا تناصحاهم ولا يتواصيان بالحق ولا يتواصيان بالصبر] والخصومة تقع بينهما أمام الله عز وجل، إذا كانت الخصومة ستقع بينك وبين جيرانك إذا تركتم النصح فيما بينكم فمن باب أولى، إنك ستحتمل عقوبة أهلك إذا ما نصحتهم وحذرتهم وزجرتهم عن النياحة والبكاء عليك بعد موتك، هذا المعنى الثاني وهو أيضاً حق مقبول مبرور.
والمعنى الثالث: قرره أئمتنا أيضاً وهو حق، (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) أي يعذب به بنظير ما يبكيه به أهله إذ كان ذلك الفعل الذي يُبكى عليه من أجله معصيته لربه جل وعلا، وهذا يقومون لبعض الأمور العظيمة في هذه الحياة، لكن على غير هدى رب الأرض والسماوات، فيثني على الزعيم إذا مات بأنه وطني وأنه كان يحرص على مصلحة الوطن، وهذا يزيده بكاءً ويعذب عليه عند الله عز وجل يثني أيضاً على الإنسان بأنه كريم لكنه كان ينفق ماله في معصية رب العالمين، يثني على الإنسان بأنه كان يتصف بالشجاعة لكن ذلك في غير الطاعة، مات وقد أثنى عليه الناس ثم تذكر هذه الأشياء وبكوا عليه كان حريصاً على وطنه، كان كريماً، كان شجاعاً، لكن كل هذا على غير شرع الله فالناس يذكرونه بهذا المأثر على زعمهم ويحزنون عليه ويبكون لفقده بسبب هذه الأشياء، وهو يعذب عليها عند الله عز وجل، وما أكثر ما يقع هذا في هذه الأيام.(101/10)
ولعلكم تذكرون اخوتي الكرام ما تطائر به الصحف ما بين الحين والحين من تأبين أعداء رب العالمين والبكاء والنياحة عليهم لما قدموه من مأثر وهي في الحقيقة بلايا ورزايا، والعبد المخذول قاسم أمين الذي أفضى إلى ما قدم نسأل الله أن يحسن ختامنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، عندما نشر البدعة الردية في هذا العصر بدعة تحرير المرأة في كتابه الذي سماه بهذا الاسم، وهكذا في الكتاب الآخر الذي هو أخبث من هذا الكتاب ألا وهو المرأة الجديدة، ودعا إلى السفور ولعري والتهتك، إنه دعا إلى معصية ولا شك لكن أخبث منه وأشر من جاؤا يؤبنونه وينشرون في الصحف العامة صور الرجال ويراقصون النساء وهنَّ عاريات كاسيات ثم يكتب بعد ذلك فوق هذا المشهد (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) ويكتب بعد هذا الحديث الثاني الذي ذكرته، كما قلت (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء) .(101/11)
وأما الحديث الأول (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) فهو حديث صحيح في المسند وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري وفي صحيح مسلم وقد أخرجه أهل السنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو من أصح الأحاديث فيرون أن دعوته إلى النور عمل صالح، مقبول مبرور يثاب عليه عند العزيز الغفور، هذا ما يقال في حفلات تأبينه في هذا الحين، وهذا العبد الضال المضل الذي انتقل إلى سجين أخذه الله سنة ست وعشرين وثلاثمائة بعد الألف 1326هـ من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، أي صار له قرابة تسعين سنة، في الدار الآخرة ونسأل الله حسن الختام ولا زال يؤبَّن ما بين الحين والحين ويثنى عليه ويتباكون على ما قدم، إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، هذا الكتاب الذي نشره تحرير المرأة، والمرأة الجديدة، يبكى عليه من أجل هذا الكتاب وإنه نشر في الأمة مفخرة، سبحان ربي العظيم، وقد يصل الأمر والشطط ببعض الضالين أنه يقول في حفلات تأبينه أبياتاً من الشعر بعد أن صدرها بالحدثين المتقدمين.
يقول كنت في الحق للإمام نصيرا، والوفي الصفي من أصحابه، ويقصد بالإمام تلميذ جمال الدين الأفغاني ألا وهو محمد عبده فيقول له كنت في الحق للإمام نصيرا، والوفي الصفي من أصحابه.(101/12)
نعم إن قاسم أمين ما نشر ذلك الضلال اللعين إلا بإيحاء من هذا الشيخ وقد أفضى الشيخ والتلميذ إلى رب العالمين ليلقى كل واحد جزاء سعيه، كنت في الحق للإمام نصيرا، والوفي الصفي من أصحابه، نم هنياءً فنصر نالت در ما ترجو من ثوابه، منك عزم الداعي، أنت دعوت بعزم، إلى هذه الخصلة تحرير المرأة، وفضل المجلى، أنت الذي سبقت إلى هذه الدعوة ولك أيضاً من الله ما ترجو من ثوابه، سبحان ربي العظيم، والله إن الجاهلية ما كانوا يؤملون أجور على جاهليتهم عند رب البرية، وإن الشيطان الغرور ما وصل به الغرور، إنه يرجو أجراً على فسقه وضلاله وخبثه عند العزيز الغفور ن لكن الناس في هذه الأيام اشتد غرورهم بحيث صاروا يريدون أجور على معصيتهم عند ربهم جل وعلا، ينشر بدعة السفور والدعوة إلى الإباحية، واختلاط النساء بالرجال ضلال لا شك ثم يؤبن بعد ذلك ويبكى عليه، بأنه قدم للأمة خيراً، ولن ينقطع عمله عند الله عز وجل، نعم لن ينقطع وزره، وما دامت امرأة تسفو في البلاد الإسلامية، يتحمل هذا الشيطان الرجيم قاسم أمين وزرها كما تحمل وزر نشر هذا الكتاب، الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أي بنظير ما يبكيه به أهله مما يعتبر معصية لله، وهذا يقع بكثرة، كم من ضال في هذه الأيام يموت وقد نشر الضلالات في هذه الحياة، ثم تتباكى عليه إذعات العالم وتحزن، ولعلكم تستحضرون الضالة الخبيثة التي ماتت من سنين وحزن عليها في جميع إذعات المسلمين وأنها كانت داعية السلام وقد قتلت هي وأسرتها وأهل الإجرام من المسلمين في ذلك المكان، ما لو جمعت دماءهم لسالت منها نهر عظيم، ثم بعد ذلك يقال عنها بأنها داعية السلام، داعية السلام ثم عند تحريقها، وهذا مما يندى جبين الإنسان يجتمع ثلاثة من الضالين عندما تحرق شيخ يقراء القرآن، وبوظى بقراء في كتاب بوظه وهنوكي يقول مراسم الهنادكة عند تحريقها من أجل أن توزع بعد ذلك ذرات جسمها على العالم يحصل للعالم بركة من هذه الذرات(101/13)
النجس والناس أيضاً يتباكون عليها داعية السلام وقد أراقت من الدماء من دماء المسلمين ما لو جمعت تلك الدماء لسال منها نهر عظيم ثم يبكي الناس عليها بأنها داعية السلام.
نعم صدق نبينا عليه الصلاة والسلام أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، يبكون عليها بهذه الخصال التي فيها وهي تعذب عند الله من أجلها ن وهذا معنى ثالث حق، قرره أئمتنا وقواعد الشرع تقرره وتدل عليه.(101/14)
والمعنى الرابع: ذهبت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو حق لا غبار عليه، لكن سأنبه ما في قولها مما ينبغي أن نكون على وعي به، تقول أمنا عائشة عندما حدثها عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، يعذب ببكاء الحي عليه، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي، ما حدث بهذا لكنه قال إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، ثم قالت حسبكم القرآن، قال الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقالت رضي الله عنها وأرضاها يرحم الله عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام ما حدث بهذا وكانت رضي الله عنها تقول إذا حاجها ابن عباس وقال حدث بهذا عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام كانت تقول والله إنكم لا تحدثون عن كاذبين مكذبين، لكن السمع يخطئ أن النبي مرَّ على يهودية وأهلها يبكون عليها وهي ميتة فقال إنهم يبكون عيها وإنها لتعذب، وكان تقول أيضاً، يغفر الله لأبي عبد الرحمن يعني ابن عمر أما والله إنه لم يكذب لكنه أخطأ أو نسيَ، مر النبي على يهودي ميت وأهله يبكون عليه فقال عليه الصلاة والسلام إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وعليه كان أمنا عائشة رضي الله عنها تريدان تقول إن هذا الوعيد لمعين معلوم، وهو اليهودي واليهودية، وينسحب ذلك الوصف وذلك الحكم على من اتصف بذلك الوصف الملعون، الكل من مات على الكفر يعذب عند بكاء أهله عليه، فكان تريد أن تقول هذا ورد من النبي عليه الصلاة والسلام في حق كافر ولا شك في صحته ما تقوله أمنا عائشة رضي الله عنها وعليه الميت يعذب ببكاء أهله، الباء هنا تحتمل أمرين كما قرر أئمتنا، إما أن تكون الحال: أي أن الميت يعذب حال بكاء أهله عليه، والسبب في ذلك كما قرر أئمتنا إن الكافر عندما يقبر يشتد حزن أهله عليه، كما هو الحال في جميع المقبورين أعظم ما يكون الحزن عليهم من قبل أهلهم عند دفنهم لأنه قطعت الآن أخبارهم(101/15)
ورؤيتهم وما حصل ولن يحصل بعد ذلك اتصال بينهم، فأعظم الحسرة في الأحياء والبكاء عندهم بكون عند الدفن وهو عند الدفن يحاسب على عمله ويعذب على سعيه، وعليه إن الميت إن الكافر اليهودي، إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، أي عند بكاء أهله عليه، وحال بكاء أهله عليه، يعذب على أعماله ويحاسب على ذلك.
ويمكن أن يخرج أيضاً على التفسير الذي ذكرته أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عندما قالت أيضاً، إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، أن تكون الباء سببية، وأن الله يزيد الكافر عذاباً إلى عذابه عندما يبكي عليه أهله لأنه فرط في حق نفسه وفي حق أهله فما اهتدى ولا أرشد أهله إلى الهداية، وكما قلت لا غبار على هذا القول، وإن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه، عند بكاء أهله عليه، ولأنه تسبب لضياع نفسه وضياع أهله فيعذب على الأمرين لا غبار على ذلك، لكن إذا ثبت في حق الكافر وأن الله يزيده عذاباً إلى عذابه كما قالت هي رضي الله عنها وأرضاها، إذا ثبت هذا في حق الكافر، لأنه ضيع نفسه وضيع أهله، فما المانع أن يحصل هذا في حق المؤمن الذي فرط في حق نفسه وفي حق أهله، وتقدم معنى إذا أوصى بالبكاء والنياحة يعذب، إذا علم هذا من سنتهم وطريقتهم وما نهاهم ونصحهم يعذب.(101/16)
إذاً ما الداعي لإنكار هذا، والحديث ثبت، وكون بعض الوقائع التي قيل فيها الحديث في يهودي أو في يهودية لا يخصص هذا عموم الحديث الذي قيل في غير اليهودي واليهودية، وعليه اعتراض أمنا عائشة رضي الله عنها على عمر وعبد الله بن عمر وعلى من روى هذا الحديث، هذا الاعتراض مردود ومن حسب حجة على من لم يحفظ نعم تأويل هذا الحديث بما أولته حق ومقبول، وحكايتها للحديث بما نقلته أن النبي عليه الصلاة والسلام مر أحياناً على يهودي ويهودية وأهلها يبكون عليهما، فقال إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، لا يمنع أن يخص هذا الحكم باليهودي واليهودية، والعلم عند الله، فإذاً هنا نقول لا مانع أيضاً أن يكون في كافر معلوم وينسحب الحكم إلى كل من اتصف بوصفه المذموم، فكل من أمر بالنياحة عليه أو ما حذر أهله من النياحة عليه يعذب في قبره وعند ربه، هذه معانٍ أربع وكلها حقا.
المعنى الخامس: قال أئمتنا المراد من العذاب هنا أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، المراد من العذاب توبيخ الملائكة بالميت ومعاتبتهم له وتقريعهم له هل هذه الأوصاف وهذا المعنى حق قد دلت عليه نصوص كثيرة صحيحة، كما أن المعاني السابقة حقاً، فإذا أوصى يعذب وإذا علم من حالتهم النياحة وما نهاهم يعذب، وإذا كان فيه وصف مذموم وبكوا من أجله يعذب، وإذا كان الميت كافر وناح أهله عليه يعذب، جميع المعاني صحيحة.(101/17)
والمعنى الخامس: إذا ما أوصى ونهاهم عن البكاء وما بكوا عليه بأمر يعذب به من أهله وليس هو بكافر، إنما نيح عليه وهو من الصالحين وقد حذرهم من النياحة هذا لن يعذب عند الله إن لن ينجو من هذه إلا إذا لطف الله به ورحمه إلا وهو عتاب الملائكة له، توبيخ الملائكة له فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول، ارفقوا بموتاكم، هل هذه الأوصاف فيه، هذا المعنى حق وقد دلت عليه نصوص كثيرة صحيحة كما أن المعاني السابقة حقا، فإذا أوصى يعذب وإذا علم من حالتهم النياحة وما نهاهم يعذب كافراً وناح عليه أهله يعذب جميع المعاني صحيحه، والمعنى الخامس إذا ما أوصى ونهاهم عن البكاء وما بكوا عليه بأمر يعذب به من أجله وليس هو بكافر، إنما نيح عليه وهو من الصالحين وقد حذرهم من النياحة، هذا لن يعذب عند الله إنما لن ينجو من هذه إلا إذا لطف الله به ورحمه ألا وهو عتاب الملائكة له توبيخ الملائكة، له فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول، ارفقوا بموتاكم ولا تزيدوهم غمة إلى غمتهم ومشكلة إلى مشكلهم وشدة إلى شدتهم عندما تبكون عليهم سيوبخون من قبل الملائكة عند البكاء عليهم، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي وابن ماجة وإسناده صحيح كالشمس من رواية موسى بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه من رواية موسى عن أبي موسى الأشعري عن أبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، إنه قال، إذا مات الميت وقام باكيه فقال وجبلاه وسيداه بعث الله ملكين يلهزانه ويقولان له، أنت كذلك، يلهزانه، أي يضربانه في صدره بقوة، يقولانه أنت كذلك، أنت السيد وأنت الجبل الذي يأوي إليك الناس، وجبلاه وسيداه، يقول من يندب الميت ويعوّل عليه فيرسل الله ملكين لليهزانه ويقولان له أنت كذلك، وفي رواية المسند والمستدرك من رواية أبي موسى أيضاً، أنه إذا قالت النائحة وآ عضداه وآ ناصراه وآ كاسياه جذبه الملك جبذة: أي شده بعنف وقال(101/18)
له، أنت ناصرها أنت عضدها أنت كاسيها، أنت تقوم بهذه الأمور، أو هذه تكفل بها العزيز الغفور الذي تكفل برزق المخلوقات جميعاً، فإذا قالا أنائح هذا، وكما قلت من ينح عليه، ما أوصى بالنياحة وحذرهم منها وما نيح عليه بفعل يعذب من أجله وليس بكافر، ليس يسلم من معاتبة الملائكة توبيخهم دون أن يعذب في البرزخ وفي القبر دون أن يعذب عند الله في النار، لكن يقال له آنت كذلك، يقال عند هذا، فيك هذه الصفات، وهذا حقيقة عذاب للميت وإيلام له، فينبغي على الحي أن يشفق على ميته، وهذا الحديث الثابت كما قلت في هذه الكتب عندما رواه موسى عن أبيه قال، أسيد بن أسيد انظر ما تحدث يا موسى قال الله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فقال موسى سبحان الله، والله ما كذبت على أبي موسى ولا كذب أبو موسى على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أنت تقول هذا، أنت تعترض وأنا نقلت عن أبي وأبي عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم تعترض علي هذا.(101/19)
وهذا الحديث اخوتي الكرام، المروي عن أبي موسى الأشعري كما قلت في المسند والمستدرك وسنن الترمذي وابن ماجة، ثبت ما يشهد له في صحيح البخاري، والسنن الكبرى للإمام البيهقي من رواية نعمان بن بشير رضي الله عنهما قال أن عبد الله بن رواحة عندما احتضر أغمى عليه، وهذا اعتراه في المدينة المنورة وجاءته ساعة الاحتضار كما سيأتينا وأغمى عليه، لكن الأجل ما حضر ففسح الله في أجله، بعد ذلك حتى شهد غزوة مؤتة رضي الله عنه وأرضاه واستشهد فيها وهو آخر الأمراء الثلاثة الذين حملوا الراية في تلك الموقعة، بعد زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب حمل الراية وكلهم استشهدوا إلى رحمة الله وجنته ورضوانه ثم حمل الراية خالد بن الوليد رضي الله عنهم أجمعين، عبد الله بن رواحة اعتراه مرض شديد في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه وساعة تشبه ساعة الاحتضار، هذا كما قلت في صحيح البخاري وغيره من رواية نعمان بن بشير والنعمان بن بشير وبن أخت عبد الله بن رواحة، فعبد الله بن رواحة خاله يقول لما احتضر قالت أخته عمرة وهي أم نعمان بن بشير وآ جبلاه وبدأت تعدد مناقبه وتند به فلما أفاق قال يا أختاه والله ما قلت لي شيئاً إلا قال لي الملك آنت كذلك ما قلت لي شيئاً إلا قال لي الملك آنت كذلك.(101/20)
وثبت في كتاب المستخرج لأبي نعيم أنها قالت وآ عضداه، والأثر رواه ابن أبي سعد في طبقات عن الحسن البصري أنها قالت وآ جبلاه وآ ناصراه وآ عِزّاه فلما أفاق قال لها قال الملك أنت عزها أنت ناصرها أنت جبلها، والأثر رواه بن سعد أيضاً من رواية أبي عمران الجنوني أنها قالت وآ ظهراه فقال له الملك أنت ظهرها، فلما زاره النبي عليه الصلاة والسلام رآه في تلك الحالة قال اللهم إن كان عبد الله بن رواحة قد حضره أجله فيسر عليه، أي خروج الروح ليخرج من هذه الشدة التي يعانيها في المرض وإن كان بقيت في أجله بقية ففرج عنه فوجد خفة رضي الله عنه وأرضاه بعد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله والله ما قالت لي أختي عمرة كلمة إلا تلقاني الملك بمرزبة ويقال لها أرزبّه وهي المطرقة الكبيرة من حديد، وقال لي آنت كذلك، لو قلت نعم لقمعني بها، ثم نهى عن البكاء رضي الله عنه وأرضاه هم جميعاً، فلما استشهد ما بكت عليه أخته عمرة رضي الله عنهم أجمعين، إذاً المراد من العذاب كما قلت توبيخ الملائكة لمن يناح عليه ويبكى عليه هذا إذا لم يوصي، وإذا نهاهم عن النياحة عليه، وإذا لم ينح عليه بأمر يعذب به، وإذا لم يكن كافراً سلم من تلك الأمور وصالح مبرور، ثم ناح عليه أهله يعاقب من قبل الملائكة.
والأمر السادس: وهو محل الشاهد كما قلت، ومن أجله أوردت هذا الحديث وذكرت هذه المعاني التي قررها أئمتنا وكلها حق.(101/21)
المعنى السادس: يقرر ما تقدم وهو سمع الأموات وفرحهم بما يجري عندهم من الطاعات، وحزنهم بما يجري عندهم من المخالفات والموبقات والمنهيات، إن معنى الحديث على القول السادس أن المراد من العذاب يعذب ببكاء أهله: أي يتألم ويتحسر ولا يشعر بارتياح ولذة ولا سرور، هذا كما يتألم الإنسان في هذه الحياة، عندما يرى المنكرات ينقبض قلبه وتشمئز نفسه وهنا عندما ينوح أهله عليه والنياحة معصية ويتسخطون على قدر الله عز وجل، ويستاء الميت ويحزن، وهذا المعنى ذهب إليه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري وقد توفي سنة عشر وثلاثمائة للهجرة 310هـ، وقد رجحه أئمة كرام منهم، الإمام المرابط وهو من أئمة المالكية الكبار وله شرح لصحيح البخاري قد توفي سنة خمس وثمانين وأربعمائة للهجرة 485هـ محمد بن خلف، ورحمه قاضي عياض وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة للهجرة 544هـ، وهذا القول نصره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في مجلد الرابع والعشرين صفحة أربع وتسعين وثلاثمائة صـ394 وإليكم خلاصة كلامه العذب المحكم، يقول هذا الإمام المبارك أن العذاب أعم من العقاب ما قيل يعاقب ببكاء أهله عليه يعاقب عند الله ما قيل هذا، إنما قيل يعذب وما ورد في رواية المغيرة بن شعبة من أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه يوم القيامة، فيخرج كما تقدم معنى على التخريجات الأربعة المتقدمة فكونوا على علم بها، العذاب أعم من العقاب، فلو زاد يطلق على ما يؤلم الإنسان ويحزنه ويشتد عليه وأن عقوبة عند الله عز وجل ثم قرر الإمام ابن تيمية هذا بنصوص كثيرة، منها حديث النبي عليه الصلاة والسلام، [السفر قطعة من العذاب] ، وليس بعذاب في الآخرة إنما قطعة من المشقة والألم والشدة والكرب والحزن.(101/22)
وهذا الحديث ثابت في المسند والصحيحين وسنن ابن ماجة ورواه الخطيب في تاريخ بغداد وهو في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: [السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله] ، فليسرع إلى أهله: أي عذاب يراد في الحديث، [السفر قطعة من العذاب] قطعة من الألم من المشقة، من الشدة، وهنا الميت يعذب ببكاء أهله عليه، إذا بكوا عليه، ولم يتسبب في تلك المعصية يحزن ويتألم ويكرب لأنه فعل عنده المعصية. ولو قرأ بجواره سورة (يسن) ، (قل هو الله أحد) لفرح وسرَّ وانشرح صدره وطار فرحه لأنه حصل بجواره طاعة، يا عبد الله أنت إذا كنت حياً والأحياء يؤذيك السماع الغناء والبلاء أما تتألم، تتألم ولا عقوبة عليك عند الله الأكرم، وإذا كان بجوارك جار صالح تسمع منه القرآن وذكرا الرحمن أما تفرح، تفرح، وهنا كذلك هذا الميت شعوره أدق بكثير من شعور الحي، فإذا فعلت بجواره طاعة فرح والتذَّ وسُرَّ وابتهج، وإذا فعلت بجواره معصية تألم وكرب وانقبض، أي الميت يعذب ببكاء أهله عليه، السفر قطعة من العذاب، ولذلك اخوتي الكرام حذرنا نبينا عليه الصلاة والسلام من الاعتداء على الميت
أو تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وإسناد الحديث صحيح من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي [كسر عظم الميت كاكسر عظم الحي] في رواية ابن ماجة عن أمنا أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين عن النبي عليه الصلاة والسلام، [كسر عظم الميت كاكسر عظم الحي في الإثم] أي من كسر عظم ميت واعتدى عليه يأثم كما لو كسر عظم حي تماماً، لماذا لأنه يتألم، كما يتألم الحي، لكن هذا التألم في دار ليس عندنا موازين تلك الدار هذا أمر آخر، ولذلك اخوتي الكرام نهينا أن نطأ على القبور وأن نؤذي الموتى إذا زرناهم، هل يجوز أن نطأ على حي إذا كان مستلقياً في مسجدٍ وفي بيت لا يجوز هذا وهذا يؤذيه وهكذا عندما نطأ على القبر هذا يؤذيه.(101/23)
وقد حذرنا نبينا من ذلك، في مسند الإمام أحمد والحديث في صحيح مسلم، ورواه السنن الأربع، إلا سنن الترمذي وهو في أعلى درجات الصحة فهو في صحيح مسلم وغيره من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: [لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر] لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده لتحرق جلده ولحمه خير من أن يجلس على قبر، وفي رواية خير من أن يطأ على قبر، وثبت في سنن ابن ماجة ومصنف ابن أبي شيبة وإسناد الحديث جيد، وهو صحيح.
كما قرر ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، والإمام الهيثمي في مجمع الزوائد ولفظ الحديث، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي، قال: [لأن أطأ على جمرة أو على سيف أو أن يخسف نعلي برجلي أحب إلى من أن أطأ على قبر مسلم، وما أبالي إذا قضيت حاجتي وسط القبوا وسط السوق] هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ن لأن أطأ على جمرة على سيف لأن يخسف نعلى برجلي أي يقطع من جلدي يخسف النعل ليرقع النعل تقطع رجلك من أجل ترقيع نعلك، ايسر عليك من أن تطأ على قبر.(101/24)
هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وما أبالي إذا قضيت حاجتي وسط القبور أو وسط السوق، لماذا لأنك في حالتين عصيت الله وفي حالتين سوءتك كشفت فرآها الناس لكن هناك لآها أهل السوق وهنا لآها أهل القبور، هي هي يرون ويشعرون ويعلمون ويحسون ويفرحون ويتألمون كما يجري منا ولنا بل أكثر وما أبالي قضيت حاجتي وسط القبور ووسط السوق، كما أنك تستحي من الأحياء استحي من الأموات يا عبد الله الله إذا ذهبت إليهم فلا تؤذهم حذار حذار أن تطأ على القبور وحذار حذار أن تتكلم الح وأن تتكلم بمعصية، والله إن الإساءة إليهم أعظم من الإساءة إلى الحي بكثير وأن الإحسان إليهم أعظم من الإحسان إلى الحي بكثير، إن الميت لو تصدقت عنه بنصف تمرة لا بتمرة لقدر ذلك وطار فرحاً ولو أعطيت الحي حفنة من تمر لاستقل لأن صار موازينه دقيقة وصارت موازين الذر من الخير والشر لها عنده اعتبار، وأما هذا الحي فلا زال يغط في جهله وفي نومه وفي غفلته، فإذا مات {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} نصف التمرة يقدرها دعوة، يقدرها وهكذا عندما تمر بجواره وتتكلم بلغط يحزنون، كما يحزن الحي إذا أذاه جاره بلغط وبصفاهة، ولذلك إذا وطئ الإنسان على جمرة ووطئ على حد السيف وقطع من رجله وخسف بما نعله، إذا كان يعقل هذا أيسر من أن يطأ على القبر، لأن هذا الأذى الذي سيتسبب له أخف من الأذى الذي سيؤذي به ميت عندما يطأ على قبره وإذا كان يعي لا يبالي الإنسان قضى حاجته وسط المقابر أو وسط الأسواق، وكما أن الحي لا يمكن أن يقضي حاجته في وسط السوق فاستحي يا عبد الله من قضاء الحاجة وسط القبور، استحي يا عبد الله والله يرون سوءتك وعورتك.(101/25)
وتقدم معنى كلام أمنا عائشة وهو أثر صحيح، تقدم معنى أنه عندما دفن عمر رضي الله عنها وأرضاها أنه عندما دفن ما دخلت على حجرتها إلا وشدت عليها ثيابها، ثيابها مشددة عليها حياء من عمر لما دفن نبينا عليه صلوات الله وسلامه تدخل وتخرج كعادتها تقول زوجي، فلما دفن أبوها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، لما دفن أبوها صديق هذا الأمة أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين تقول أبي وزوجي تدخل وتخرج وتضع خمارها عن رأسها، يعني لا تتحجب الحجاب الذي تتحجب المرأة أمام الأجانب، فلما دفن عمر ما دخلت حجرتها رضي الله عنهم أجمعين إلا وثيابها مشدودة عليها حياء من عمر سيرى شعرها، سيرى وجهها وسيرى جسمها ولا يجوز يرها لو كان حياً فتحترس منه إذا كان ميتاً، يا عبد الله، إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه.
المعنى السادس: الذي قرره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية كما قلت نصره واختاره الإمام ابن جرير ورجحه الإمام الذي يجده الميت عندما يفعل بجواره معصية كما أنه يلتذ بالطاعة يتألم بالمعصية، وهذا دليل صحيح صريح على هذا التوجيه الذي قرره أئمتنا على أن الميت يشعر ويحس ويدرك ويغتم بحال من يزور ويفرح إن فعل عنده طاعة، ويحزن إن فعل عنده معصية.
إخوتي الكرام: مما لاشك فيه أن القبر روضة من رياض، أو حفرة من حفر النار، وسيأتينا هذا ضمن مباحثنا إن شاء الله عندما يتعلق بأحوال البرزخ يوم القيامة بعون الله بعد الانتهاء من صفة الخوف وما يتعلق بها عند بيان اليوم الذي {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} أشرح ما يتعلق بالحالة البرزخية إنما أريد أن أقول إن الميت في قبره في روضة من رياض الجنة أو في حفرة من حفر النار، وهذا لا يكون إلا كان له شعور سليم شعور كامل دقيق مستقيم يزيد على شعور الحي بكثير، إنما ذلك ألا هو تلك اللذة لا يمكن أن يحس به الميت إلا إذا كان عنده شعور عنده إدراك عنده إحساس كإحساس الحي به أدق.(101/26)
إخوتي الكرام: هذا ما يتعلق بهذه القضية، وأما ما يتعلق بإهداء القربات إلى الأموات أتكلم عليها في الموعظة الآتية إن شاء الله.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وأرض الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: كما قلت مراراً إن هذا المبحث يتعلق بأمر غيب وإدخال العقل فيه من أشنع أنواع العيب، فما يتعلق بالحياة البرزخية لا يجوز أن تتكلم فيه إلا عن طريق مشكاة خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فقد دلت نصوص الشرع كما تقدم معنى على هذه القضية فأخبر جرا عن ذلك العقول البشرية.
إخوتي الكرام: إن الإنسان يعيش في ثلاثة دور، يعيش في الحياة الدنيا وهي دار أولى، ويعيش في الحياة البرزخية، وهي دار ثانية، ويعيش في الحياة الأخروية وهي دار ثالثة، وروحه تتعلق ببدنه في هذه الدور خمسة تعلقات، كل تعلق حكم لا يعلمه إلا الذي أوجد هذا التعلق ببدنك.
{ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} التعلق الأول: تعلق الروح بك عندما تكون جنيناً في ظلمات ثلاث على رأس أربعة أشهر تنفخ فيك الروح على رئس عشرين ومائة يوماً تتحرك في بطن أمك.
التعلق الثاني: عندما تولد وتكون حياً يقظه.
التعلق الثالث: عندما تنام حياناً لما، وهذه التعلقات الثلاثة كلها تعلقات في الدار الأولى وهي دار الدنيا.
والتعلق الرابع: تعلق الروح ببدنك عندما تكون في الحياة البرزخية.
والتعلق الخامس: تعلق ببدنك عندما تكون في الحياة الأخروية.(101/27)
كل تعلق من هذه التعلقات لا تدركونه لا كيفيه ولا ما هيئته كما سيأتينا المبحث المستفيد من ذلك إن شاء الله عند الحياة البرزخية وما يتبعها في الدار الأخروية لكن قال أئمتنا الكرام في الحياة الدنيوي الألم يقع على الروح والبدن واللذة يشعر بها البدن والروح لكن البدن يشعر بذلك أصالة والروح تبعاً بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها فأنت عندما تنعم في هذه الحياة النعيم يقع أصلة على البدن، وعندما تعذب العذاب أصالة على البدن والروح تشعر بذلك تبعاً، في البرزخ الأمر بالعكس تماماً، العذاب والنعيم على الروح أصالة والبدن تبعاً بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ولذلك لا دخل إدخال العقول في هذه القضية، فتلك حياة خاصة لها موازين خاصة.
وأما الدار الأخروية، فالبدن والروح تشعران يشعران بالعذاب والنعيم أصالة دون تبعية واحد منهما للآخر، لأنها أكمل الدور موازينها أدق الموازين، فما يتعلق بالحياة البرزخية لا يمكن للإنسان أن يبحث فيه، وكما قلت، لا طريق لنا في الكلام في ذلك إلا ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام.(101/28)
أختم الموعظة إخوتي الكرام: بقصة جرت في العصر الأول من الصحابة الكرام وهي قصة ثابتة صحيحة تقرر ما يكون في حياة البرزخ، والقصة رواها أبو بكر بن لال في كتاب المتآخين ونقلها عنه حزام المحدثين الإمام بن حجر في الإصابة في تميز أسماء الصحابة، وأبو بكر بن لال هو أحمد بن على بن أحمد توفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة للهجرة 398هـ وهو من المحدثين له كتاب في السنة وله مسند وهو من الفقهاء الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أبو بكر لال، والقصة أشار إليها الإمام ابن القيم في كتاب الروح في صفحة خمس وصفحة تسع فما بعدها، وقال ثبت بإسناد صحيحة عن حماد بن سلمة عن ثابت بن أسلم النباني عن شهر بن حوشب وشهر من أئمة التابعين، حديثه في الأدب المفرد وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة توفي سنة اثنتي عشر ومائة للهجرة 112هـ، وهو صدوق عدل إمام الرضى، يقول هذا التابعي المبارك، كان صعب بن جثامة وهو من الصحابة الكرام وقد توفي في خلافة عثمان رضوان الله عليهم أجمعين، كان صعب بن جثامة وعوف بن مالك الأشجعي وهو من الصحابة وكان بيده راية من الرايات يوم فتح مكة وقد توفي سنة اثنتين وسبعين 72هـ في بلاد الشام، كان صعب بن جثام وعوف بن مالك متآخيين في الله، فقال أحدهما لصاحبه، مات أحدنا فليتراء له، يقول عوف بن مالك فلما مات صعب بن جثامة وكما إذا قلت توفي في خلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وأما مالك بن عوف الأشجعي فامتد حياته ثم ذهب إلى بلاد الشام توفي هناك رضي الله عنهم أجمعين، يقول فرأيته بعد فترة من موته فقلت ما فعل الله بك قال غفر لي ورحمني بعد المصائب، أي تعرضت للأخطار وأسئلة لكن في النهاية حصلت المغفرة والرحمة، قلت ما هذه اللمعة السوداء التي أراها في عنقك، قال سبحان الله، عشرة دنانير استلفتها من جاري وهي في قرني أي في صندوق خاص أشار إليه في الرؤيا أي في قرني، وما أنفقتها فأدركتني منيتي، فإذا استيقظت اذهب إلى أهلي وافتح ذلك(101/29)
القرن وخذ تلك الدنانيير واعطها لجاري، وأخبرك إنه ما وقع شيء في بيتي بعد موتي إلا علمت به، حتى هرة توفيت من أيام، وأخبرك أن ابنتي فلانه ستموت بعد سبعة أيام، وهذا في حالة البرزخ، يكلم هذا النائم، فلما استيقظ عوف بن مالك، قلت إن في هذا لمعلمة، أريد أن أتحقق من هذه الأمور فذهب إلى بيت أخيه صعب بن جثامة لمعلما رضي الله عنهم أجمعين، وفعاتبه أهل أخيه وقالوا هكذا تفعل بأهل أخيك بعد موته كنت تزرونا ثم هجرت
قلت أخبرني هل لك معه الشيء قال، وماذا تريد رحمه الله وسامحه ولا أطالبه بشيء، قال أخبرني، فقال قد استلف مني عشرة دنانير ثم عجلته المنية وما ردها إليَّ، يقول فأخرجت له الدنانير قلت هذه هي قال والله هي هي ما تصرفت فيها، قلت هذه دنانيرك ثم رجعت إلى بيت أخي صعب بن جثامة رضي الله عنهم أجمعين، قلت هل طرأ طارئ بعد موت الصعب؟ قالوا ما حصل شيء يعني يذكر، قلت أخبروني بما وقع، قالوا ماتت هرة بعد موت صعب بن جثامة، قلت هذه ثانية، ثم قلت أين ابنة أخي فلانة بنت الصعب بن جثامه، فأحضروها وهي صغيرة، بحدو وخمس وست سنين رضي الله عنهم أجمعين، مسستها فإذا هي محمومه فقلت استوصوا بها خيراً، فلما مضت ستة أيام ماتت في اليوم السابع.
حياة برزخية لا يعلم موازينها إلا رب البرية، فجرب العقول البشرية واعزل العقول البشرية عن الكلام في هذه القضية، ما ثبت عن خير البرية صلوات الله وسلامه عليه، مثبت وما لم يثبت لا يجوز أن نتكلم فيه كما قلت هذه مسألة تتعلق بأمر غيب ولا يجوز أن نتكلم فيه عن طريق العقل، فهذا من أشنع أمور العيب.(101/30)
اللهم صل على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم قنا شرور أنفسنا، اللهم قنا شر نفوسنا يا أرحم الراحمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعل أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به.
اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم احسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات وصل الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *} .(101/31)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
19
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(102/1)
أفضل شهور العام وأحبها عند ذي الجلال والإكرام شهر الصيام شهر رمضان كما أن أفضل البقاع وأحبّها إلى الله جل وعلا المساجد ففيها نوره وهداه وإليها يأوي المؤمنون الموحدون المهتدون، وذل النور الذي يكون في بيوت الله ترك في هذا الشهر الكريم "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون".
عباد الله.. تكرم ربنا الأكرم على عباده في هذا الشهر بأعظم النعم فأنزل عليهم القرآن وبعث في هذا الشهر نبينا عليه الصلاة والسلام وفي هذا الشهر الكريم مكّن هذا الله للقرآن، ومكّن الله للنبي عليه الصلاة والسلام وأيد الله الحق الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام في معركتين اثنتين وموقعتين عظيمتين
الأولى: من العام الثاني من هجرة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في موقعة بدر حيث أظهر الله الحق على الباطل، أظهر القرآن على خرافات الشيطان.
الموقعة الثانية: من العام الثامن من الهجرة حيث أذن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام ولصحبه الكرام بفتح مكة بلد الله الحرام، وتطهيرها من رجس الشيطان ن هذا الشهر العظيم أعظم نعم الله على عباده أغرقت عليهم فيه.
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) وهذا الإنزال –إخوتي الكرام – تم على مرحلتين اثنتين كل منهما صحيحة ثابتة بالآثار الحسان.
المرحلة الأولى: في هذا الشهر الكريم نزل القرآن بأكمله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.(102/2)
ثبت ذلك في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، ومسند البزار وشعب الإيمان للإمام البيهقي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما –وهذا الأمر موقوف عليه- ولا يمكن أن يقال من قِبَل الرأي البشري إنما هو مأخوذ عن رسولنا النبي صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم قال هذا العبد الصالح –حبر الأمة وبحرها ترجمان القرآن – (فُصِل القرآن من الذكر من اللوح المحفوظ ثم نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في شهر رمضان فجعل جبريل ينزل به على النبي –عليه الصلاة والسلام) .
هذا النزول الأول للقرآن وفائدته التنويه بعظيم منزلة القرآن ورفعة شأنه وإخبار سكان السماء بأن هذا الكتاب هو أفضل كتب الله على الإطلاق وسينزل على آخر أمة على آخر الأنبياء والمرسلين على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وليكون في ذلك –بعد ذلك- إلهاباً لمشاعر النبي صلى الله عليه وسلم وتحريكاً لشوقه ليتطلع إلى نزول القرآن بتمامه وكماله. كما قال القائل:
وأقرب ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الخيام من الخيام
فالقرآن في السماء الدنيا قد استقر في شهر رمضان في ليلة الرابع والعشرين منه كما سيأتينا وسينزل عليه يا خير خلق الله – عليه صلوات الله وسلامه- فتطلع إلى إكماله وإتمامه وليشتد شوقك إليه (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..) .
والإنزال الثاني: كان في نفس الوقت أيضاً في تلك السنة في ذلك الشهر في نفس الوقت والزمن نزل جملةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل خمس آيات.. في ذلك الوقت على خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه وبعث نوراً لهذا الوجود في هذا الشهر الكريم – فأنزل الله عليه خمس آيات من سورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) .(102/3)
ثبت هذا في المسند والصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بُدِأ به من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد) ثم بعد ذلك تخبرنا أمنا عائشة رضي الله عنها – أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء فضمه ثم أرسله فقال اقرأ قلت ما أنا بقارئ، فضمه الثانية حتى بلغ منها الجهد ثم أرسله قال اقرأ قلت ما أنا بقارئ فضمه الثالثة حتى بلغ منه الجهد ثم قال اقرأ قال ما أنا بقارئ قال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم) .
(اقرأ وربك الأكرم) الذي أفاض الجود على هذا الوجود لن ينساهم من نعمة الهداية والإرشاد فإذا أغدق عليهم نِعَم الخلق والإيحاء لن يتخلى عنهم سبحانه وتعالى فالبشرية عندما تتخبط في الظلمات والضلالات، وينقطع نور الرسالات السابقات لا بد لها من تدارك (اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان مالم يعلم) وكان ذلك الوقت في شهر رمضان –كما ورد ذلك في مغازي الإمام محمد بن اسحاق فنزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا كان في شهر رمضان ونزول أول شيء منه على نبينا عليه الصلاة والسلام كان في شهر رمضان. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) ، (إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر) ، (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) .(102/4)
ولا يشكلن عليك أخي الكريم ما أخبر الله جل وعلا به في هذه الآيات من أن القرآن نزل في شهر رمضان مع أن الواقع أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة على نبينا عليه الصلاة والسلام لا يشكلن عليك ذلك أبداً لأن المراد من الإنزال كما قلت أمران: إنزال جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان. وابتُدِأ إنزاله على نبينا عليه الصلاة والسلام وكان ذلك في شهر رمضان ثم فرّق بعد ذلك حسب الحوادث التي تقع في مستقبل الزمان، منزل في ثلاث وعشرين سنة على نبينا -عليه الصلاة والسلام -.
إخوتي الكرام: فهذا الشهر الكريم خصه الله بهذه النعمة العظيمة وجعله ظرفاً لها – فأعظم نعم الله على عباده نعمة القرآن نعمة بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام وذلك حصل في شهر رمضان –نعم – إن هذه النعمة كريمة، كريمة، كريمة بها عاش الإنسان عزيزاً كريماً ولوها لكان حيوناً حقيراً مهيناً بل لكان شيطاناً رجيماً بهذه النعمة التي زكى الله بها قلوبنا وعقولنا، وأبداننا وحفظنا من الظلالات والجهالات بهذه النعمة العظيمة صرنا خير أمة أخرجت للناس يحصل المؤمن سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وهذه النعمة نزلت في هذا الشهر العظيم (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .
إخوتي الكرام: وهذه النعمة هي أتم نعم الله على عباده، ونعم الله على عباده مهما تعددت وتنوعت لا تخرج عن نعمتين اثنتين ك نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد ونعمة الله علينا بعمته الثانية أعلى وأتم من نعمته علينا بالنعمة الأولى:
ومن عظيم منة السلام ... ولطغة بسائر الأنام
أن أرشد الخلق إلى الوصول ... مبيناً للحق بالرسول
(لقد من الله على المؤمنين إذ بعثت فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) .(102/5)
إخوتي الكرام: وكما جعل الله هذا الشهر الكريم ومحلاً وزماناً لأكرم نِعَمِهِ على خلقه فقد جعل الله هذا الظرف أيضاً أعني شهر رمضان محلاً وظرفاً ووقتاً لإنزال هذه النعمة على الأمم السابقة فكل كتاب سماوي قبل القرآن الكريم نزل في شهر رمضان العظيم.
وقد ثبت هذا عن نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه أخرج الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير والأوسط والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن عساكر في تاريخ الشام والحديث لاينزل عن درجة الحسن كما قرر ذلك أئمتنا الكرام عن واثلة بن الأصقع رضي الله عنه وأضاه قال سمعت رسول الله صلى الله علية وسلم يقول: "أنزلت صحف إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم – أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة خلت من شهر رمضان وأنزلت التوراة في ستٍ خلت منه – وأنزل الإنجيل في ثلاث عشرة خلت منه – وأنزل الزبور في ثمان عشرة خلت منه وأنزل القرآن في أربع منه أي من شهر رمضان " فالكتب السماوية العظيمة وهي أعظم ما من الله به على عباده أنزلت في هذا الشهر الكريم في شهر رمضان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .(102/6)
إخوتي الكرام: والرواية المتقدمة عن واسلة كما قلت صحيحه ثابتة وقد أخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بنفس الرواية المتقدمة لكن خلافٌ في شيء واحد من الكتب السابقة ألا وهو الزبور ففي رواية أبي يعلى "إن الزبور نزل قسم منه في ليلة إحدى عشرة من رمضان وأكمل الباقي على العبد الصالح داود على نبينا عليه صلوات الله وسلامه في ثمان عشرة من رمضان. وأما أن نقول: وهو الجواب الثاني وهو أوجه وأرجح وأظهر: أن رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في مسند أبي يعلى فيها سفيان بن وكيع بن الجراح وسفيان وإن كان ثقة في نفسه كما قرر أئمتنا الكرام فقد ابتلى بكاتبه وورّاقه وكان يُدخل في كتبه ما ليس منها وقد حذره أئمتنا الكرام فما قبل تحذيرهم ولا طرد ورّاقه عنه من أجل ذلك سقطت أحاديثه ورواياته كما قال أئمتنا الكرام وإن كان صدوقاً ثقة في نفسه وهو من رجال الترمذي والإمام ابن ماجه في السنن عليه جميعاً رحمة الله فالرواية إذن لعله فيها شيء من الخلط فيما يتعلق بتحديد الوقت بالنسبة للزبور.
والرواية المعتمدة رواية واثلة بن الأصقع صحف إبراهيم تنزل في أول ليلة من شهر رمضان الكريم، والتوراة في الليلة السادسة، والزبور في الليلة الثامنة عشر والإنجيل في الثالثة عشر وهذا القرآن ينزل ليلة الرابع والعشرين على نبينا عليه الصلاة والسلام ولعلها بل إنها كانت ليلة القدر في تلك السنة وليلة القدر هي في العُشر الأخير وتتنوع وتدور فأحياناً تكون في ليلة الحادي والعشرين، في ليلة التاسع والعشرين، في ليلة الخامس والعشرين في ليلة الرابع والعشرين ففي تلك السنة كانت في هذا الوقت (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) .(102/7)
إخوتي الكرام: وتذكيراً للعباد بهذه المنة العظيمة ألا وهي إنزال القرآن وسائر الكتب السماوية في شهر رمضان تذكيراً للعباد بهذه النعمة العظيمة – وتخليداً لذكرى نزول الكتب السماوية الجليلة في هذا الشهر الكريم فرض الله على هذه الأمة وعلى الأمم السابقة عبادةً في هذا الشهر المبارك لم يُعبَد بها أحد في الوجود، فسائر العبادات صرفت لغير رب الأرض والسماوات فالسجود صرف كثير من الطواغيت، وصرف لحجر وشجر وبقر وشمس وفمر وهكذا القَسَم، وهكذا سائر شعائر العبادات إلا عبادة الصيام فلم يُعبد بها غير ذي الجلال والإكرام فخصها الله في اشهر الذي نزل فيه القرآن وإلى ذلك أشار نبينا عليه الصلاة والسلام.
ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به فإنه لي وأنا أجزي به – والصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب فإن سابّه أحد فليقل إني صائم مرتين والذي نفسي بيده لَخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه) الصوم لي.. وسائر العبادات لله وما ينبغي أن نشرك أحداً مع الله فيها، (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الصوم لي وأنا أجزي به..أكثَرَ أئمتنا الكرام في بيان هذه الجملة التي نقلها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ذي الجلال والإكرام، أكثروا في بيان ما تحتمله من معنى وأوصلوها إلى عشر معانٍ حسان.(102/8)
من المعاني المعتبرة التي قال بها بعض الأمراء الكرام في هذه الأمة الإسلامية المرحومة: أبو منصور قايماز بن عبد الله، وهو من الأمراء الصالحين توفي سنة 570 هـ ونقل قوله أئمتنا في شروح كتب الحديث في شروح السُند عند هذا الحديث. ونقل قوله الإمام ابن الأثير في جامع الأصول، وأخبر أنه سمع ذلك القول منه مباشرة وانظروه في جامع الأصول في الجزء التاسع ص454 وكما قلت إن قوله في سائر شروح السنة، أنظروه في فتح الباري وغيره يقول هذا الأمير الصالح قايماز بن عبد الله: (الصوم لي) يعني أن الصوم عبادة خالصة لله لم يُعبد أحدٌ سواه فسائر العبادات صرفت لغير الله عز وجل إلا هذه العبادة فما عُبد معبود على وجه الأرض بالصيام ولا تعبد مخلوق مخلوقاً بالصيام، إنما هذه العبادة خاصة بذي الجلال والإكرام لم يعبد بها سواه فأكرم الله بها المؤمنين في هذا الشهر الذي أنزل الله فيه هدايته ونوره على رسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه) هذا شهر عظيم نزل فيه نور الله المبين.. " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ".(102/9)
إخوتي الكرام: وهذه العبادة كما قلت أعني عبادة الصيام كما فرضت على هذه الأمة فرضت على سائر الأمم السابقة في هذا الشهر الكريم فهو شهر لنزول هدايات رب العالمين على الأولين والآخرين، وبه كلّف المتقدمون وهذه الأمة بصومه بصوم شهر رمضان، وقد دل على ذلك آيات القرآن والأحاديث الثابتة الحسان، أما آت القرآن فيقول ربنا الرحمن جل وعلا: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وهذا التشبيه ينبغي أن يحمل على إطلاقه من كل وجه.. "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" في الوقت والكيفية والمقدار والحكم، ففرض عليكم صيام شهر رمضان وفرض على من قبلكم صيام شهر رمضان وكيفية الصيام عندكم ككيفية الصيام عندهم سواءً بسواء.
"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" وقد وضح هذا الآثار الثابتة من أئمتنا الأبرار والمنقولة عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه أخرج الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير والإمام النحاس في تاريخه أيضاً والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ الشام عن دغفل بن حنظلة رضي الله عنه وأرضاه مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير عن دغفل بن حنظلة موقوفاً عليه من قوله فاختُلف في رفع الأثر ووقفه، كما اختلف في بيان حال دغفل بن حنظلة هل هو صحابي أو مخضرم من كبار التابعين رضوان الله عليهم أجمعين.(102/10)
والذي مال إليه الإمام ابن حجر في التقريب وغيره إلى أنه تابعي مخضرم قال وقيل صحابي ولم يثبت ذلك وعليه إذا كان تابعياً فسواء رفع الحديث أو وقفه على نفسه فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام فهو أثر مرسل لكن إسناده صحيح كالشمس كما قرر أئمتنا الكرام ولفظ الحديث عن دغفل بن حنظلة في الرواية المرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وفي الرواية الموقوفة عليه ولها حكم الرفع قال: " فرض الله على النصارى صوم شهر رمضان فمرِضَ ملك من ملوكهم فنذر لإن شفاه الله ليزيدن في الصيام عشرة أيام فصام النصارى بعد ذلك أربعين يوماً عندما شُفي ملكهم ثم جاء ملك ثان فمرض فنذر لإن شفاه الله ليزيدن في الصيام ثمانية أيام فما شفي صام النصارى ثمانية وأربعين يوماً ثم جاء ملك آخر فقال أرى أن نكمل العدة خمسين يوماً وأن ننقل الصيام من الأشهر القمرية في شهر رمضان وما بعده إلى فصل الربيع فلنصم في فصل الربيع خمسين يوماً ولا داعي بعد ذلك أن نتقيد بهذا الشهر الكريم فاستمر النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة على هذا –يصومون في فصل الربيع خمسين يوماً وصيامهم بعد ذلك تلاعبوا في كيفيته. يمتنعون عندما يصومون عما فيه دسم وزهومة من لحم وبيض وزُبد، أما أن يأكل الخبز والخضراوات فهذا ليس عليه حرج في نهار صومه أو في ليل صومه، إنما يمتنع في النهار فقط عن كل ما فيه دسم فنقلوا الصيام إلى فصل الربيع ثم غيروا كيفية الصيام.
الشاهد إخوتي الكرام: أن الله فرض عليهم صيام شهر رمضان غيروا تلك الكيفية وتلاعبوا فيها فهذا الشهر الكريم فرض الله صيامه على جميع المؤمنين في الحديث وفي القديم لهذه الأمة والأمم السابقة كيف لا!! وهذا الظرف كما قلت هو وقت نزول هدايات الله جل وعلا على رسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.(102/11)
إخوتي الكرام: وهذه الآية التي ذكرتها: "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" أيام معدودات.. ينبغي أن تقف معها أربع وقفات على سبيل الاختصار أولها: "يأيها الذين آمنوا" ناداهم الله جل وعلا بهذه الصفة وأخبر عنهم بهذا العنوان ليسهل عليهم امتثال أمر الرحمن فهذه الصفة هي الباعثة على الالتزام على وجه التمام فمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا ينبغي أن يصدق الشرع المطهر فيما اخبر وأنه يطيعه فيما أمر وأن ينتهي عما عنه زجر وحذر.. "يأيها الذين آمنوا" تمهيداً للاستجابة لما سيكلفون به ويؤمرون به وفي ذلك هنا دلالة على وجه الخصوص إشارة إلى أمر يتعلق بموضوعنا ألا وهو " يأيها الذين آمنوا" يا من حصلت لكم نعمة الإيمان بسبب إنزالها في شهر رمضان..
انتبهوا لمنزلة هذا الشهر وصوموه لتتقربوا إلى الله عز وجل.. "يأيها الذين آمنوا " نُور الإيمان شاع في شهر رمضان ففيه أُنزل القرآن، وفيه بُعث خير الأنام عليه الصلاة والسلام "يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " كُتب – فُرض عليكم الصيام وإنما أخبر الله عن فرضيته بلفظ الكتابة لأن هذا أبلغ ما يكون في الإيجاب والتوكيد وإذا أردت أن تؤكد الشيء وأن تؤكده تكتبه وتقيده.
ولذلك قال أئمتنا من أراد شيئاً هم به وأراده، ثم نطق به وقاله وإذا اشتدت منزلته عنده قيده وكتبه فالإرادة مبدأ والكتابة منتهى " يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " أراد الله منكم الصيام وأمركم به وسجّله عليكم على وجه التمام "كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم".(102/12)
وهذه الكتابة كما قلت على سبيل الفرضية وبذلك تواترت الأحاديث عن نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث رواه الترمذي والنسائي من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وروى مثله روايات كثيرة عن صحابة كثير من رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع له سبيلا".
وثبت في مسند أبي يعلى ومعجم الطبراني الكبير والأثر رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول أهل السنة والجماعة وإسناد الحديث حسن كما قرر ذلك أئمتنا كما في الترغيب والترهيب للإمام المنذري ومجمع الزوائد للحافظ الهيثمي عليهم جميعاً رحمة الله من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: "عُرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهُن أُسِّس الإسلام فمن ترك واحدة منهن فهو كافر حلال الدم لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً: شهادة ألا إله إلا الله-يعني وأن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام فهذه الجملة عنوان على كلمتي الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله وإقام الصلاة وصوم رمضان.. شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وصوم رمضان –هذه أسس الدين وقواعده أُسّس عليها دين رب العالمين من ترك واحدة منهن فهو كافر حلال الدم لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة " يأيها الذين آمنوا كتب –فرض- عليكم الصيام وقد أجمع المسلمون الكرام على فرضية الصيام.(102/13)
الوقفة الثالثة: إخوتي الكرام – "كما كتب على الذين من قبلكم" وتقدم المراد من وجه التشبيه هنا: كما كتب على الذين من قبلكم – في الحكم والكيفية والوقت والمقدار أي فُرض عليكم صيام هذا الشهر وألزمتم به كما ألزمت الأمم السابقة به على وجه التمام سواء بسواء. وإنما ذكر الله هذا الأمر ضمن فرضية الصيام – كما كتب على الذين من قبلكم- لِتُوحي هذه اللفظة بعدة دلالات معتبرة.
أولها: ليحصل لنا بهم الائتساء والأسوة والاقتداء فهذه الفريضة كما فرضت على الأمم السابقة فرضت على هذه الأمة وليكون في ذلك دلالة وإشارة إلى أن كتب الله نوره وهداياته نزلت في هذا الشهر عليكم وعلى الأمم السابقة ومن أجل ذلك أُلزمتم بالصيام في هذا الشهر تعظيماً لله جل وعلا – وهكذا أُلزمت الأمم السابقة بذلك وليكون في ذلك دلالة المنافسة فكأن الله جل وعلا يقول: فرضية الصيام فرضت عليكم وعلى المسلمين قبلكم فأروني من نفسكم جداً واجتهاداً في طاعتي.. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
إن الأمم السابقة غيرت شريعة الله وتلاعبت في هذه الفريضة ومن تغييرها لأن الله صان كتابها من التغيير والتبديل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" وصانها الله من أن تجتمع على صلالة أو خرافة فلن يزال في هذه الأمة طائفة ظاهرون على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله. كرامتان أكرم الله بهما أمة نبيه عليه الصلاة والسلام ما حصلت منهما واحدة للأمم السابقة: حفظ الكتاب وعدم اجتماع الأمة على ضلالة "كما كتب على الذين من قبلكم".(102/14)
الوقفة الرابعة: إخوتي الكرام بيان علية الصوم- بيان فائدة الصوم (كما كتب على الذين من قبلكم..لعلكم تتقون) هذه هي حكمة الصوم وهذه فائدته.. "تتقون" أن تجعلوا بينكم وبين ما يضركم وقاية وحاجزاً ومانعاً وحصناً وساتراً وفاصلاً وهذه الوقاية تكون بثلاثة أمور.. تكون عن طريق الحفظ والابتعداد والتحرز من الأخلاط الرديئة وعن طريق الوقاية من الأخلاق الرذيلة وعن طريق الاتصاف بصفة التقوى الجليلة " لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.. ولتتصفوا بصفة التقوى الجليلة الفضيلة.
أما الأولى: لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة -إخوتي الكرام لا يخفى على الإنسان – ما لمواصلة الطعام والشراب من أضرار على بدنه ولذلك قال أئمتنا القدماء –المتقدمون – وقال هذا العرب في جاهليتهم أيضاً المعدة بيت الداء، والحمية أصل الدواء – وهذا الكلام نقل عن طبيب العرب وأطبهم على الاطلاق: الحارث بن كلدة وهو من الصحابة آمن بنبينا عليه الصلاة والسلام الحارث بن كلدة: المعدة بيت الداء، والحمية بيت الدواء، وكان هذا الطبيب يقول: ما أهلك البرية، وقتل الوحوش في البرّية، إلا إدخال الطعام على الطعام، وأنت عندما تصوم يحصل لبدنك نشاط وخفة، وارتياح من مواصلة الغذاء، وما عجّت المستشفيات بالمرضى إلا من إدخال الطعام على الطعام، وإذا التقى الطعام الثاني بالطعام الأول فهو سم قاتل للبدن، وإذا ما انهضم الطعام الأول قبل دخول الطعام الثاني مهلكة للبدن – ولذلك قال أئمتنا:
ثلاث مهلكات للأنام ... ومدعاة الصحيح إلى السقام
دوام مُدامةٍ ودوام وطءٍ ... وإدخال الطعام على الطعام
...(102/15)
فأنت عندما تصوم تحفظ بدنك عندما يحصّل هذه الحمية النافعة فالحمية أصل الدواء..الحمية أصل الدواء..لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة. وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا..أخرج الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والحديث رواه أبو نعيم في كتاب الطب النووي وهكذا الإمام ابن السني في كتاب الطب النووي على نبينا صلوات الله وسلامه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغزوا تغنموا وصوموا تصحوا وسافرا تستغنوا" اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا وسافرا تستغنوا " والحديث إخوتي الكرام ضعيف من حيث السند كما قرر ذلك أئمتنا الكرام وضعفه لا يصل إلى درجة الترك لا النكارة ومعناه صحيحٌ صحيح لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة.. لأجل أن يحصل لكم حمية بهذا الصيام وصحة وجَلَد ونشاط على وجه التمام لعلكم تتقون الأخلاق الرذيلة.
إن الإنسان عندما يملأ بطنه من الشهوات –من الطعام- تتحرك بعد ذلك نوازعه الطبيعية وتثور بعد ذلك شهواته الغريزية والصوم فيه إذلال للنفس وفيه ترقيق للقلب فتبتعد عنه الشهوات وتبتعد عنه الوساوس الرديئات. من الذي أخرج أبانا آدم – على نبينا وعليه الصلاة والسلام من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؟! أكلةُ وشهوة إنها بلية أبيكم آدم، وهي بليتكم إلى يوم قيام الساعة، وقد تاب الله على أبينا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وكان حاله بعد الخطيئة أحسن من حاله قبلها "ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" ولا يقال ما جرى منه تعييراً له إنما لنعتبر بهد.. من أجل شهوة أخرج من دار القرار إلى دار الذل والافتقار نعم ترتب على ذلك حِكم جليلة وآثار لا نزاع في ذلك، إنما هذه الشهوة هي التي تسببت في الخروج من تلك الدار.(102/16)
إن الإنسان عندما يصوم ويضبط شهوته يتقي ربه، ويحصل بعد ذلك حمية من الأخلاق الرذيلة. وقد أرشد نبينا صلى الله عليه وسلم الشباب التي تتأجج شهوته إلى مواصلة الصيام – إلى كثرة الصيام من أجل أن يلزم نفسه وأن يحصنها بخشية الله جل وعلا.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث أخرجه أهل الكتب الستة الشيخان وأهل السنن الأربعة وهو في صحيح ابن حبان من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " له وجاء.. بمثابة الخصاء فخصاء هذه الأمة الصيام، فعليه بالصوم فإنه له وجاء..فإذا صام ابتعدت عنه نوازع الشهوة وحصن نفسه من نوازع الشيطان..لعلكم تتقون الأخلاط الرديئة..لعلكم تتقون الأخلاط الرذيلة عندما تصومون..لتصلوا صفة التقوى الجليلة وكيف ذلك؟(102/17)
إخوتي الكرام: إن هذا الشهر هو شهر الصبر كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام وسيأتي تقرير هذا في المواعظ الآتية إن شاء الله بكلام نبينا صلوات الله وسلامه هذا الشهر هو شهر الصبر ومنزلة الصبر من الدين كمنزلة الرأس من جسد الآدميين، إذن هذا الرأس لا يمكن للبدن أن يثبت ولا أن يحيي إلا برأس وهذا الدين لا يمكن أن يكتمل في بدنك وأن تقوم به وأن يحصل فيك إلا بصبر والصائم عندما يصوم يحصل هذه الصفة، هو شهر الصبر، شهر الصيام هو شهر الصبر فإذا صام الإنسان ملك نفسه وراقب ربه، ملك نفسه عندما ضبط شهوته (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) إذا امتنع عن الشهوات التي أحلها الله، امتنع عنها في نهار رمضان لأن الله أمره بالامتناع عنها سيمتنع عما حرمه الله عليه على الدوام من باب أولى، من امتنع عن الشهوة والشراب والطعام في نهار رمضان طاعة لذي الجلال والإكرام، سيمتنع عن الخمر والمخدرات والزنا وسائر الآثام في غير شهر رمضان من باب أولى إذا صام واتقى ربه في رمضان، إذن يملك الإنسان نفسه وهذا هو القوي وهذا هو الشجاع وهذا هو البطل، وهذا هو الرجل.
كما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث من موطأ الإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله من روية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس الشديد بالصُرُعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ليس الشديد بالصُّرعة الذي يصرع الرجال ويلقيهم على الأرض – إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب والصائم قد ملك نفسه ملك غضبه، ملك شهوته، ملك رغبته ملك رهبته وهذه أركان الكفر لا يمكن أن يقع الإنسان في كفر أو في معصية إلا بغضب أو شهوة أو رغبة أو رهبة وكل هذه الأمور ضُبطت عند الصائم.(102/18)
إن الذي يغضب يفقد عقله، ولعله سكر الغضب يفوق على سكر الشراب ولذلك قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: السكر نوعان، سكر غضب، وسكر طرب، فإذا شرب الخمر سَكِرَ وإذا غضب سَكِرَ، إذن الصائم حصّن نفسه من هذه الآفة وملك نفسه وزمها بزمام التقوى ووقف عند حدود الشرع المطهر..شهر الصبر. ثم بعد ذلك راقب الصائم ربه وملَك نفسه وراقب ربه فهو في خلوة لا يراه أحد لكنه يراقب الله الصمد فلا يأكل ولا يشرب والطعام بين يديه. خلق المراقبة الذي يستفيده الصائم من هذا الشهر، لو استدام عنده لكان من المتقين، لكان من المقربين عند رب العالمين، والمطلوب منك أيها الإنسان أمران:
1. أن يكون الشرع على ظاهرك وأن تلزم ظاهرك المتابعة لنبيك عليه الصلاة والسلام.
2. وأن تكون المراقبة في باطنك، لا يخرج دين الله عن هذا..ظاهر..تتابع فيه النبي عليه الصلاة والسلام..التزام بشرع الله القوي..باطن..يراقب الله الذي لا تخفى عليه خالفية في السر ولا في العلن، المراقبة أفضل وأعظم وأعلى درجات الإيمان عند ذي الجلال والإكرام.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه ورواه الإمام الترمذي في سننه وغيرهم من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أبي هريرة وعمر رضي الله عنهم أجمعين في حديث جبريل الطويل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فلما قال له: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك – الصائم يتصف بهذا الخلق، عندما ملك نفسه وضبط إرادته، وراقب ربه وصل لدرجة الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تراه فإنه يراك) .(102/19)
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام: أن الصائم يحصل الخيرات على وجه التمام والكمال إذا صام كما أمر ذو العزة والجلال فتحفظ شهوته وتبعد الشبهة عنه عندما يراقب ربه وهاتان الآفاتان شهوة وشبهات منبع جميع الآفات والصائم قد حصن نفسه بشهر الصبر بشهر التحصين بشهر الحمية بشهر التقى ثبت في مسند الإمام أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة الكبير والأوسط والصغير والحديث رواه البزار وإسناده صحيح، من رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفرجكم ومضلات الهوى) إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفرجكم (فرض الشهوة) ومضلات الهوى (فرض الشبهة) والصائم قد حصّن نفسه من ذلك. إخوتي الكرام إن الشهوات توصل إلى أسفل الدركات وإن تحصين النفس عنها يوصل إلى أعلى الدرجات.
وقد ثبت في المسند والحديث في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حُفّت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكروهات" السور الذي يحيط بالجنة ما تكرهه النفس والسور الذي يحيط بالنار تحبه النفس وتهواه ولفظ البخاري "حُجبت النار بالشهوات فمن رفع فيها هوى في الدركات، وحجبت الجنة بالمكروهات عندما تصوم وإن شق ذلك عليك تركت شهوتك وطعامك وشرابك من أجل ربك لكن ذلك يوصلك إلى نعيم عظيمٌ عظيم في يوم الدين بجوار رب العالمين حفت النار بالشهوات، حفت الجنة بالمكاره فالذي يصبر على هذه المكاره في هذه الحياة يؤدي به ذلك إلى نعيم الجنات.(102/20)
إخوتي الكرام: أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن خطر الشهوات التي يتهافت عليها المخلوقات والصائم قد حصّن نفسه منها ثبت في سنن أبي داود والنسائي والترمذي والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك وإسناده صحيح من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لما خلق الله الجنة دعا جبريل فقال يا جبريل إذهب فانظر إليها –أنظر إليها وما أعد الله لأوليائه فيها –فذهب ونظر إليها –ورأى ما فيها من النعمة والبهجة والنعيم العظيم فعاد فقال الله له كيف رأيت؟! قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد من خلقك إلا دخلها – إذا سمعوا تشويقك لهم إليها كلهم يتنافسون في طاعتك من أجل دخولها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فحفها الله بالمكروهات والمكاره ثم قال لجبريل " إذهب فانظر إليها فذهب ثم عاد ثم قال وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا يدخلها أحد " لقد خشيت ألا يدخلها أحد ولما خلق الله النار قال لجبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إذهب فانظر إليها فذهب ورأى ما فيها من العذاب والنكال يحطم بعضها بعضاً ثم عاد قال: كيف رأيت قال: وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد فيدخلها أي إذا سمع بها لا يريد أن يدخلها وينفر منها نفوراً بعيدا فحفها الله بالشهوات قال: إذهب فانظر إليها فنظر إليها ثم عاد قال: وعزتك وجلالك لقد خشيت ألا ينجوا منها أحد – أيها الصائم الذي امتنعت عما أحل الله في هذا الشهر الكريم طاعة لرب العالمين امتنع عما حرّم الله عليك في كل حين واستفد من هذا الدرس الذي تتلقاه في هذا الشهر الكريم، الذي نزل فيه القرآن العظيم " يأيها الذين آمنوا كُتِبَ عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يصومون صياماً يقبله ويرضى به عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله..
الخطبة الثانية:(102/21)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: وعدتكم في الموعظة الماضية أن أتكلم عن فضل الصدقة على الأرحام في هذه الموعظة وكان في نيتي أن أتكلم عليها إن شاء الله لكنني رأيت أن الأمر قد طال وإذا طال لا بد أن أُذَكِّر نفسي وأذكركم بأمر ينبغي أن نعتني به في هذا الشهر وأما ما يتعلق بالصدقة على الرحم لعلني أتكلم عليه إن شاء الله في الموعظة الآتية إن شاء الله.
إخوتي الكرام: هذا الشهر كما قلت هو شهر الجود جاد الله على عباده بجميع نعمه وإحسانه وفضله فنعمة الخلق والإيجاد كثرت في شهر رمضان، ورزق المؤمنين يكثر ويزداد في هذا الشهر المبارك ونعمة الهداية والإرشاد نزلت في هذا الشهر الكريم وحقنا أن نستفيد من ذلك عبرة وأن نتخلق بأخلاق ربنا العظيم، فنكثر من الجود والصدقات والإحسان في هذا الشهر كما فعل ربنا ذو الجلال والإكرام، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يواظب على ذلك ويعتبر بهذا ويفعله عليه صلوات الله وسلامه وفي ذلك حث لنا على الاقتداء في ذلك.
ثبت في المسند والصحيحين والحديث رواه الإمام النسائي في سننه ورواه البيهقي في السنن الكبرى وفي دلائل النبوة وبوّب عليه في سننه باب فضل الجود والإفضال في شهر رمضان ولفظ الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان يلقاه جبريل في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) ريح مرسلة تعم الخلق بهبوبها ونفعها..(102/22)
وهكذا أفضل الخلق عليه صلوات الله وسلامه يعم الناس بخيره ومعروفه وإحسانه في هذا الشهر الكريم فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وهي بعض روايات الإمام أحمد: (ما سئل شيئاً عليه الصلاة والسلام – خير في هذا الشهر فمنعه ما سئل شيئاً إلا أعطاه) .
وهذا هو خلق نبينا عليه الصلاة والسلام على الدوام لكنه يزداد جوداً في شهر رمضان، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا قال الحافظ ابن حجر: إن كان عنده أعطاه وإلا سكت. أما كلمة لا – ما ينطق بها خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه وقد قيل في أحفاده رضوان الله عليهم أجمعين وعلى نبينا وآل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامة:
ما قال لا قط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نَعَمُ
فكيف يكون الحال في نبينا عليه الصلاة والسلام في خير خلق الرحمن وأكرمهم على الإطلاق إخوتي الكرام الجود كما قال أئمتنا الكرام إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي –ولا يراد من الجود الصدقة كما يتوهم بعض الناس لا.
الجود: أن توسع على عيالك في شهر الجود والكرم، أن توسع على أصحابك وأحبابك أن تتصدق على المساكين والمحتاجين..إعطاء ما ينبغي إلى ما ينبغي هذا شهر الجود والكرم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في شهر رمضان ويتضاعف جوده عندما يلقاه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيدارسه القرآن.(102/23)
قال شيخ الإسلام الإمام النووي (نوّر الله مرقده وفي غُرف الجنة أرقده) يقول هذا الإمام المبارك: في هذا الحديث دلالة على أن أفضل أذكار شهر رمضان قراءة القرآن، فقد كان خير مخلوق في السماء يجلس مع خير مخلوق في الأرض عليهما صلوات الله وسلامه يتدارسان القرآن. قال هذا الإمام المبارك: ولا يقال إن المدارسة من أجل الحفظ فهذا كان حاصلاً قبل ذلك، وهذا يحصل ببعض مدارسةٍ إنما هذا من أجل أن هذه العبادة هي أعظم ما يقول به الإنسان من أنواع عبادة الذكر: قراءة القرآن كيف لا؟! وهذا الظرف كما قلت محلاً ووقتاً وزمناً لنزول هذه العبادة فأكثروا من قراءة القرآن، وتدارسوه مع أهلكم الكرام.(102/24)
وقد كان جبريل يعرض القرآن على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه –كل سنة مرة في شهر رمضان، وأما في السنة التي قبض فيها نبينا عليه الصلاة والسلام فعرض عليه القرآن مرتين في شهر رمضان كما في المسند والصحيحين والسنن الأربعة والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (لما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وجد في الصباح خفه عليه صلوات الله وسلامه ونشاطاً فتفرق عنه أصحابه فجاء نساؤه لم يغادر منهن واحدة –كلهن حَضَرْنَ- واجتمعن حوله عليه وعلى آل بيته وأزواجه صلوات الله وسلامه ثم جاءت البَضْعةُ الطاهرة فاطمة رضي الله عنها تمشي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت عليه صلوات الله وسلامه تقول أمنا عائشة رضي الله عنها ما تخطئ مِشيتُها مِشْيَة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً وكانت أشبه الناس به ولاً وسمتاً وهدياً ومشية عليها وعلى أبيها وعلى آل بيت نبينا صلوات الله وسلامه فجاءت وسلمت على النبي عليه الصلاة والسلام فرحب بها وقال: مرحباً يا ابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله عليه صلوات الله وسلامه ثم أسرّ إليها شيئاً فبكت رضي الله عنها وأرضاها فلما طال بكاؤها وكثر أسر إليها شيئاً آخر فضحكت رضي الله عنها وأرضاها تقول أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها عجبت لهذه تبكي من أجل السرار خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار- أي بسر – من بين نسائه ثم تبكي رضي الله عنها وأرضاها قالت: فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لحاجته قلت لها أخبريني ما الذي أبكاكي وماذا أسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكي؟ وقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إذاً لَبَذِرَة أي مغشية للسر لا تحافظ على السر ولا تضبطه تقول أمنا عائشة رضي الله عنها بعد ذلك أسألك بمنزلتي عندك لما أخبرتيني بما حدثك به رسول الله صلى الله(102/25)
عليه وسلم فقالت فاطمة رضي الله عنها أما الآن فنعم ثم قالت هذه البَضْعة الطاهرة: أما المرة الأولى فأسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا فاطمة كان جبريل يعارضني القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان وقد عارضني القرآن هذه السنة مرتين في شهر رمضان ولا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري، فاتّق الله واصبري، فنعم السلف أنا لك، فنعم السلف أنا لك وأنت أول أهلي لحوقاً بي قالت فبكيت وكثر بكائي عليها وعلى نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.
ثم أسر إليّ ثانية فقال: يا فاطمة أنت أول أهلي لحوقاً بي وأنت سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء أهل الجنة –فضحكت – على نبينا وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه عندما اقترب أجله عليه صلوات الله وسلامه نزل جبريل يدارسه القرآن مرتين على التمام في شهر رمضان فكان جود نبينا عليه الصلاة والسلام يزداد ويزداد ويزدادْ من غير نقصان وقد لقي ربه بعد ذلك بأحسن حال (اللهم إنا نحتسبه عندك يا رب العالمين ونسألك أن تجمعنا في جنات النعيم إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين اللهم صل على نبنيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه مغفرة ولآخره عتقاً لرقابنا من النار اللهم ارزقنا صياماً وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا يارب العالمين اللهم تقبل الصلاة والصيام والقيام اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان، اللهم أدخلنا الجنة بسلام بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين اللهم إنا نسألك في أول يوم من هذا الشهر الكريم أن تفرج عن أمة نبيك الكريم عليه صلوات الله وسلامه اللهم فرج عن المسلمين يا أرحم الراحمين اللهم ردهم إليك رداً جميلاً اللهم أعزّهم ومكن لهم إنك على كل شيء قدير.(102/26)
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم أغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منا، الله أحسن لمن احسن إلينا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان، الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) .(102/27)
شروط قبول العمل
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
شروط قبول العمل
30
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبق منها رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا. يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الاخوة الكرام..(103/1)
أكيس البشر من يعمرون بيوت الله عز وجل فقد وصفهم الله جل وعلا في كتابه بأنهم هم الرجال نعتهم بأربع خصال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسموات يصلون لله ويسبحونه ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم يكونون على استعداد للقاء رب العباد في يوم المعاد "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار".
وكنا نتدارس الصفة الرابعة من صفات هؤلاء العباد الأكياس الطيبين ألا وهي خوفهم من رب العالمين وكنا نتدارس إخوتي الكرام في الموعظة السابقة وما قبلها أسباب خوف المكلفين من رب العالمين وفلت إنها كثيرة وفيرة يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب.
أولها: إجلال الله وتعظيمه وقد مضى الكلام على هذا السبب.
وثاني الأسباب: الخوف من سوء الخاتمة.
وكنا نتدارس السبب الثاني من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين خشيتهم في التفريط في حق الله جل وعلا وهذه الخشية إخوتي الكرام تكون نحو ما أمر به ونهى عنه فما نهانا عنه ينبغي أن نجتنبه فهل اجتنابه على وجه التمام والكمال إذا لم يقع منا الاجتناب كذلك فحقيقة أمرنا على خطر ونحن نخطئ بالليل والنهار في حق الله عز وجل وتقدم معنا أن المحقرات التي نحتقرها قد تردينا في أسفل الدركات ونسأل الله أن يعاملنا بفضله ورحمته وجوده وكرمه وامتنانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ما يتعلق بهذا الأمر أعني تقصيرنا وتفريطنا نحو ما حرمه الله علينا كيف وقعنا في كثير منه ونسأل الله أن يتوب علينا.
وأما التفريط الثاني التفريط فيما أمر الله باكتسابه فيما أمر الله بفعله أي بطاعته عز وجل عن طريق القيام بالمأمورات على وجه التمام والكمال.(103/2)
إخوتي الكرام: تقدم معنا أن الإنسان لا يسلم من المنهيات ومن التقصير فيها إلا إذا اجتنبها كلها صغيرها وكبيرها سرها وعلنها وهكذا لا يسلم الإنسان على وجه التمام إلا إذا قام بجميع ما أمر به ذو الجلال والإكرام.
يقول الله جل وعلا في سورة الأنفال مقررا هذا الأمر: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أؤلئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم".
فتأمل أخي الكريم هذه الصفات هل اتصفت بها لتكون من المؤمنين حقا عند رب الأرض والسموات الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم. خافت واقشعر الجلد عند ذكر الله عز وجل. وجل القلب واقشعر الجلد ودمعت العين كما هي صفات عباد الله عندما يُذكر الله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وعلى ربهم يتوكلون. ثقة قلوبهم بربهم وهذه هي حقيقة التوكل الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا.
وعليه من لم يتصف بهذه الصفات فقد فرط في درجت الإيمان وقصر في حق الرحمن وهكذا يقول رب الأرض والسموات في سورة الحجرات: "إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون".(103/3)
فهل تحقق هذا فينا على وجه التمام والكمال كل إنسان على نفسه بصيرة إخوتي الكرام اسمعوا لهذه الآية التي في سورة البقرة وكيف شرط الله أموراً كثيرة فيها لحصول التقوى ولا ينجح العبد عن الله إلا إذا كان من المتقين يقول الله جل وعلا: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون".
هؤلاء الصادقون وهؤلاء هم المتقون الذين يتصفون بهذه الصفات إخوتي الكرام ولو قام الإنسان بجميع المأثورات وما فرط في شيء منها فهو أيضاً شديد الوجل من الله عز وجل خشية أن يمون قد قصر في القيام بتلك الطاعات وفرط في شروطها الواجبات أو المستحبات ولذلك نعت الله عباده الطيبين الذين يجدون ويجتهدون في طاعة رب العالمين بأنهم يخافون مع أنهم يحسنون.
يقول الله جل وعلا في سورة المؤمنون: "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون" والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون". قاموا بهذه الأعمال وقلوبهم مع ذلك وجلة خائفة من ذي العزة والجلال.(103/4)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه والحميدي في مسنده ورواه الطبري في تفسيره والبغوي في تفسيره أيضا في معالم التنزيل وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردوية وهكذا ابن المنذر وغيرهم والحديث تقدم معنا ودرجته حسن ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير الطبري وغيره ولفظ الحديث " عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضا قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف. "والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" قال لا يا بنت الصديق هو الرجل يصوم ويصل ويتصدق ويخاف ألا يقبل الله منه لتفريطه في بعض شروط ذلك العمل الذي أمر به عز وجل سبحانه وتعالى وهذا من باب خشيتهم ومن باب احتياطهم ومن باب كياستهم أنهم يحسنون الأعمال ومع ذلك يخافون من ذي العزة والجلال.
إخوتي الكرام: لا يمكن لإنسان مهما كان أن يضمن لنفسه أنه قام بشروط العمل الصالح بحيث يكون ذلك العمل مقبولا عند ربه ثم لو قدر أن الإنسان اجتنب جميع المحذورات والمحظورات وترك المنهيات وفعل جميع المأثورات من واجبات ومستحبات بالصفة المطلوبة لو قدر فإن ذلك فعلاً وتركاً إكتساباً واجتناباً لا يفي بشكر نعمة من نعم الله عليك فينبغي أن ينقطع قلبك إذا خوفاً من ربك جل وعلا وبهذا نعت الله عباده الذين يعمرون بيوته في هذه الأرض قال جل وعلا: "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار".
إخوتي الكرام: إن العمل الصالح لا يقبل عند الله عز وجل إلا ذا وجدت شروط فيه وشروط في فاعله ثم بعد ذلك إذا اكتملت الشروط في هذين الأمرين لا يفي هذا العمل مهما كثر بنعمة من نعم الله عليك فاستمع أخي الكريم لتقدير هذا الأمر في هذه الموعظة إلى شروط قبول العمل في العمل وفي العامل ثم بعد ذلك إذا حصلت هذه الشروط ووجدت هذه الأعمال الصالحة فلا تفي هذه الأعمال شكراً لنعمة من نعم الله عز وجل.(103/5)
أما العمل فلا يقبل عند الله عز وجل إلا بشرطين اثنين.
أولهما: أن يكون صالحاً أعني مشروعا إني تتبع فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا تفعله على حسب رأيك وعرفك ولا بأي دافع كان إنما يفعل هذا على حسب شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام وإذا استحسنت فقد شرعت ومن أدخل هواه في الاستحسان والتقبيح والتحليل والتحريم فقد جعل نفسه نداً لله العظيم والله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً أعني ما أخذ من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام فإذا عملت على حسب رأيك وذوقك وعرفك فعملك مردود عليك ولن يقبل عند ربك عز وجل.
كما ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه الإمام الداراقطني والبيهقي والإمام الطيالسي وهو من أصح الأحاديث فهو في الصحيحين كما سمعته من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية لمسلم وغيره " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " عمل عملاً غير مشروع وزعم أنه يتقرب به إلى الله عز وجل فهذا العمل مردود ولا يقبل من عمِل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.
نعم كل من بغير علم يعمل أعماله مردود ولا يقبل. من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. نعم كل من بغير علم يعمل أعماله مردودة لا تقبل فينبغي أن تكون أعمالك على حسب العلم النافع الذي أخذ من نبينا عليه الصلاة والسلام وكل عمل تراه أنه صالح ولا تتبع فيه سيد الصالحين خاتم النبيين عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه فعملك مردود عليك.
ينبغي أن يكون العمل صالحاً وينبغي أن يكون لله خالصاً وهذا هو الشرط الثاني في العمل فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً سبحانه وتعالى وهو أغنى الشركاء عن الشرك ومن عمل عملاً أشرك فيه مع الله أحداً فهو للذي أشرك والله منه بريء فإذا عملت الصالحات ينبغي أن تريد بعملك رضوان رب الأرض والسموات.(103/6)
وقد قرر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا في أحاديثه الكثيرة ففي المسند والصحيحين والسنن الأربعة من حديث الخليفة الراشد الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ مانوى فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. إنما الأعمال صحةً وفساداً وقبولاً ورداً ثواباً وعقاباً بالنيات عملت الصالحات فلا تقبل إلا إذا كانت النية صالحة وإلا ترد عليك وتعاقب عليها ولذلك من هاجر ابتغاء وجه الله وطلباً لمحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام فأجره لن يضيع عند الله. ومن هاجر من أجل عرض دنيوي فعمل صالحاً لكنه أراد به غير الله أراد به تجارة أو زواجاً فهذا تاجر وذاك خاطب وليس له على هجرته ثواب عند الكريم الوهاب ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
نعم إخوتي الكرام: لابد من إخلاص النية للرحمن في جميع ما نقوم به من أعمال في هذه الحياة ومن الذي يدعي هذا لنفسه إن أحسن الأعمال وأفضلها عند الله عز وجل العلم النافع الذي يهتدي به الإنسان في هذه الحياة وهذا العلم إذا فسدت نية الإنسان في تعلمه فشقاءًا ثم شقاءاً له.(103/7)
ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وروى الحديث أيضاً من رواية جابر بن عبد الله وكعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من تعلم علماً مما ينبغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " لم يجد عرف الجنة يوم القيامة يعني ريحها سبحان الله طلب أشرف الأعمال وعمل صالحاً عندما فسدت نيته حرمت عليه الجنة من تعلم علما ما يبتغي به وجه اله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ومن الذي يضمن صحة النية وسلامتها لنفسه فينا من التخطيط والتكدير في أعمالنا ونياتنا ما لا يعلمه ولا يحيط به إلا الذين خلقنا نسأل كما سترنا في هذه الدنيا أن يسترنا بعد الممات إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: يقول أئمتنا كما هو قول أمير المؤمنين وسيدهم في الحديث شعبة بن الحجاج يقول هذا العبد الصالح في حق بعض عباد الله المحدثين ألا وهو هشام الدستوائي الذي توفي سنة 154هـ وحديثه في الكتب الستة يقول شعبة بن الحجاج م نعلم أحداً طلب العلم ويريد به وجه الله لا هشام صاحب الدستوائي وهشام يقول الذي قيل فيه هذا يقول عن نفسه رحمة الله عليه وعلى المسلمين أجمعين يقول: والله ما أستطيع أن أقول إنني خرجت في يوم قط أطلب العلم أريد به وجه الله عز وجل ويعلق الإمام الذهبي على هذا في سير علام النبلاء في 7/152 فيقول أنا والله ما أستطيع ن أقول إني طلبت العلم وأريد به وجه الله إذا كان هؤلاء أئمتنا الأخيار يقولون هذا عن حالهم وعن وضع نياتهم فماذا نقول نحن نعم إن الأمر كما قال بعض الصالحين مخبراً عن هذه الحقيقة:(103/8)
تعلم من استطعت لقصد وجهي ... فإن العلم من سبل النجاة
وليس العلم في الدنيا بفخر ... وإذا ما حل في غير الثقات
ومن طلب العلوم لغير وجهي ... بعيد أن تراه من الهداة
وهكذا سائر الأعمال إخوتي الكرام إذا لم يخلص الإنسان فيها لذي العزة والجلال فهي وبالٌ عليه فهذا هو الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام إذا فسدت النية فيه فشقاءاً لصاحبه عند الرحمن.
ثبت في المسند ومستدرك الحاكم وسنن النسائي بإسناد صحيح من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالا فليس له إلا ما نوى " سبحانك ربي عمل صالحاً وعرض نفسه للقتل وأسرته لليتم لكنه أراد الدنيا ولم يرد وجه الله بجهاده فليس له إلا ما نوى ليس له إلا هذا الحبل الذي يربط به البعير ويعقل من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالا فليس له إلا ما نوى شرطان إخوتي الكرام القبول العمل عند ذي الجلال والإكرام عمل صالح مشروع عمل تريد به وجه الله جل وعلا صالح خالص بذلك يكون العمل حسناً ويقبل عند ربنا الكريم قال الله جل وعلا في أول سورة الملك " تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " فلا قيمة للكثرة إذا كانت منحرفة عن شريعة الله لبلوكم أيكم حسن عملا وحسن العمل لا يكون إلا بأمرين إخلاص لله ومتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام.(103/9)
قال سيد المسلمين في وقته الإمام أبو على الفضيل بن عياض عندما تلى هذه الآية ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قيل ما تعني بهذا يا أبا على الصواب أن يكون على السنة والإخلاص أن يراد به وجه الله عز وجل فمن عمل عملاً صواباً ولم يرد به وجه الله فهو مردود عليه ومن أراد وجه الله يعمله ولم يكن صواباً فهو مردود عليه فلا يقبل العمل عند الله حتى يكون صواباً صالحاً على سنة النبي عليه الصلاة والسلام وتريد به وجه الرحمن وهذا كما قال الله جل وعلا في سورة الكهف: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم حسن عملا" أخلصه وأصوبه يتبعون في أعمالهم النبي عليه الصلاة والسلام ويريدون بأعمالهم وجه ذي الجلال والإكرام.
إخوتي الكرام: وهذا الأمران أعني الإخلاص لله عز وجل والمتابعة لنبيه عليه الصلاة والسلام هما مدلول كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان في الإيمان لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله إخلاص لله في جميع شئون حياتنا قل ن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت أنا أول المسلمين ومتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله فهو إمامنا الذي نقتدي به عليه صلوات الله وسلامه وفداؤه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا وأمر من عداه يعرض على أمر نبينا صلى الله عليه وسلم فإن وافقه فهو ق وصدق وإلا فهو ظلم وباطل يطرح إخوتي الكرام شرطان لقبول العمل أن يكون العمل صواباً وأن يكن خالصاً ثم عندنا شرطان أيضاً في العامل لا بد منها من أجل أن يقبل عند الله عز وجل الشرط الأول في العامل أن يكون تقياً فإذا عملت العمل الصالح وهو صواب وأردت به وجه الكريم الوهاب لكن ليست فيك صفة التقوى وما عندك حصانة المتقين فعملك لن يوصلك إلا إلى سجين لأن الله لا يتقبل الأعمال إلا ممن هذا وصفه.(103/10)
يقول الله جل وعلا في كتابه في سورة المائدة إخبارا عما جرى بين ولدي آدم على نبينا عليه الصلاة والسلام فيقول: "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فثقيل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لا أقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين" قرب قابيل شيئاً هزيلاً إلى الله الجليل وقرب أخوة هابيل شيئاً عظيماً إلى الله الجليل فأتى بأعظم كبش سمين وقربه إلى رب العالمين وكان القربان إذا قرب وتقبل نزلت نار من السماء فأخذته كما كان هذا هو حال المغانم وما أحلت المغانم لأمة من الأمم إلا لهذه الأمة المباركة المرحومة كما في الصحيحين وغيرهما وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي وكانوا إذا جمعوا المغانم ولم يكن فيها غلول ولا خيانة نزلت نار من السماء فالتهمتها وأخذتها دليل قبولها.
وأما هذه الأمة فقد سترها الله في هذه الحياة فإذا كان هناك غلول وخينة فلا يكشف ثم من عليها بعد ذلك بأن تأكل هذه الغنائم حلالاً طيباً فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً اختلف قابيل وهابيل في موضوع زواج في ذلك الوقت وكل واحد يريد أن يتزوج تلك المرأة التي فيها صفة الحسن والجمال ثم كان بعد ذلك منهما أن قربا قرباناً إلى الله فمن تقبل قربانه هو الذي يتزوج تلك المرأة فقدم هابيل قرباناً طيباً عظيماً جميلاً وهو من المتقين وقابيل قرب قرباناً خسيساً خبيثاً وهو من الفاجرين فنزلت النار من السماء فأخذت قربان هابيل وتركت ذاك إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين السألة لا محاباة فيها إذا أخلصت لله عز وجل سيقبل الله قرباتك نما يتقبل الله من المتقين.(103/11)
إخوتي الكرام: هذه الصفة لا بد من وعيها فلا يقبل الله جل وعلا العمل إلا إذا صدر من تقي لله عز وجل إنما يتقبل الله من المتقين فلا بد من تحصيل التقوى ليكون العمل مقبولا عند المولى جل وعلا وهكذا جعل الله جل وعلا هذه الصفة صفة التقوى شرطاً لقبول الأعمال ولما يترتب عليها من طيب الخصال في جميع الأعمال الصالحة فعبادة الحج مع مكانتها وظسم الأجر الذي لها لا يحصل الإنسان تلك الأجور إلا إذا كان من المتقين يقول الله جل وعلا مقررا هذا في سورتي البقرة: "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون" فمن تعجل فلا إثم عليه غفر الله له ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه ومن تأخر فله تلك الجائزة بشرط أن يكون الأول والثاني ممن فيهم صفة التقوى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون.
نعم إن الدار الآخرة جعلها الله للمتقين ولا يقبل العمل إلا إذا كان العامل تقياً فيا عبد الله إذا عملت صالحاً وأردت به وجه الله لكن ليس في نفسك تلك الحصانة أعني حصانة التقوى وهي التي تبعثك على ترك المنهيات وتبعثك على فعل المأثورات وهي التي تجعلك لا تنهمك في المباحات واللذائذ في هذه الحياة ولا يعني هذا أنك معصوم وأنك لن تفرط في حق الحي القيوم لكن شتّان شتان بين من يقع في الذنب اتفاقاً وعرضاً وبين من يقصده ويقع فيه أعراضاً عن شريعة الله عز وجل فكل نبي آدم خطاّء لكن إذا لك تكن في نفسك صفة التقوى أنت تحرص على الخطيئة وتسعى إليها وإذا كانت في نفسك صفة التقوى تقع فيها بمقتضى جبلتك وبشريتك التي لا تنفك عن قصور وتقصير ورحمة الله جل وعلا واسعة.(103/12)
وقد أشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا إخوتي الكرام فاستمعوا لهذا الحديث الذي يخلع القلوب ووالله لو استحضرناه عند نومنا وكنا نعلم ما سيؤول إليه حالنا بعد موتنا لعل الكيس منا لا ينام انظر لأناس عملوا من الصالحات ما لا يخطر ببال أحد من المخلوقات لكن لم يتصفوا بصفة التقوى هذه الحصانة ليست فيهم يتحينون الفرص لمعصية الله عز وجل مع أنه صام وصلى وحج واعتمر لكن في نفسه ذلك الخبث وذلك الخبث يتحين فرصة لذلك وما يمنعه من ذلك إلا عجزه عنه مع أنه يقوم بأعمال صالحة كثيرة.(103/13)
ثبت الحديث بذلك في سنن الإمام ابن ماجه بسند رجاله ثقات وإسناده صحيح كالشمس من رواية ثوبان رضي الله عنهم مولى نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث رواه أبو نعيم في الحلية من رواية سالم مولى حذيفة رضي اله عنهم أجمعين ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام أه قال:" لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله هباءاً منثورا" نسأل الله أن تجعلنا من هؤلاء يا أرحم الراحمين فيجعلها الله هباءاً منثورا فقال ثوبان يا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفهم لنا جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا نعلم قال عليه الصلاة والسلام أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون بحظهم من الليل كما تأخذون لكنهم إذا خلوا إلى بمحارم الله انتهكوها. ما عنده حصانة إيمانية بحيث إذا عرضت عليه المغويات الردية يقول إني أخاف الله ما عنده هذه الحصانة يصوم ويصل ويحج ويعتمر لكن إن أمكنه أن يكذب كذب وإذا استطاع من محرم اغتنمه ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها وفي رواية الحلية ولكنهم إذا عرض لهم شيء من الحرام وثبوا عليه فصفة التقوى صفة هذه الحصانة فقدوها مع أنهم عملوا من الصالحات بمقدار جبال تهامة بيضا فجعلها الله هباءاً منثورا إنما يتقبل الله من المتقين قال مالك بن دينار كما في حلية الأولياء رحمهم الله جميعا فال هذا دلاله هو النفاق إذا لم يتصف الإنسان بحصانة التقوى فهو منافق أظهر هذه الأعمال الصالحة لكنه إذا خلا بارز الله بالمحاربة وإذا عرض له شيء من الحرام وثب عليه.(103/14)
فلابد من أن يكون الإنسان تقياً ليقبل عمله عند الله عز وجل وذا قبل العمل فلن يقل التمرة تكون عند الله أثقل من جبل أحد لكن بشرط قبولها وأعمال كجبال تهامة بيضا تصبح هباءاً منثورا وكيف يقل ما تقبل وركعتان يقوم بها الإنسان في جوف الليل وهو تقي خير له من أن يراوح بين قدميه من العشاء إلى طلوع الفجر وهو شقي لابد إخوتي الكرام من هذه الصفة التي هي شرط لقبول الأعمال وهذا شرط في العامل ينبغي أن يتصف بتلك الحصانة إخوتي الكرام ولا يفهمن فاهم أنه إذا كان الإنسان تقيا لن يقع في تفريط وفي تقصير لا كلنا نخطئ ولكن كما قلت شتان بين من وطّن نفسه على الخطأ وبين من ينتظره وبين من يفرح به إذا حصله وبين من يقع فيه عرضا بمقتضى ضعفه وتقصيره وقصوره والنقص الذي في جبلته شتّان شتان وقد رسم لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صورة واضحة لغير المؤمن وما جعل من علامة المؤمن أنه لا يعصي لكن بيّن لنا ماذا يفعل المؤمن حال عصيانه وحال طاعته.(103/15)
ثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد والبزار ومعجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم من رواية أبي موسى الأشعري والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط والكبير والحاكم في المستدرك من رواية أبي أمامة الباهلي ورواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين وروى أيضا في المسند من رواية عامر وروى أيضا في معجم الطبراني الأوسط من رواية علي رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث فهو صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من سرته طاعته وساءته معصيته فهو مؤمن" عنده هذه الحصانة الإيمانية وعنده هذه الخشية من رب البرية فإذا فعل طاعة فرح والتذ وإذا فعل معصية حزن واغتم وعليه إذا كان فعل الطاعات يفرحه فهو يحرص عليها ويستكثر منها ويبذل ما في وسعه لفعلها وإذا كان فعل السيئات يحزنه فهو يهرب عنها ويبتعد منها وإذا وقع فيها مقت نفسه في ذات الله عز وجل هذا من علامة فرح الإنسان بطاعة الله ومن علامة استيائه بمعصية الله أما أنه يستاء ويستكثر من الاستياء لا إنك إن كنت تأكل شيئاً ضاراً يسوءك لا تعود إليه مرة ثانية وإذا كنت تأكل شيئاً تلتذ به وينعشك تعاوده وتكثر من أكله وهكذا الطاعات والمعاصي من سرته طاعته فهو مؤمن ومن ساءته معصيته فهو مؤمن.
المؤمن هو الذي تسوؤه معصيته وتسره طاعته. وإذا فعل الطاعة فما وجد لها سروراً وبهجة وفعل المعصية فما وجد في نفسه هما وغما وحزناً فليبك على نفسه وليعلم أنه من أهل الجحيم ولو أتى الله يوم الدين بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فلن يقبلها رب العالمين فليس فيه حصانة المتقين ولا يتقبل الله إلا من المتقين. إخوتي الكرام هذا الأمر لا بد أن نعيه شتّان شتان بين من يفعل الطاعة ويتلذذ في قرة عينه وإذا وقع في المعصية بمقتضى جبلته وقصوره وتقصيره ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه وأسرع إليه عز وجل وتاب عليه.(103/16)
هذه الصفة الأولى: في العامل لابد من وعيها ألا وهي صفة التقوى فلا يتقبل الله إلا من المتقين.
والصفة الثانية: في العامل وقل من يعتني بها بل قل من يفكر فيها بل قد من يعلمها ألا وهي المحافظة على العمل بعد عمله والحافظة على الأعمال أصعب على العمال من سائر الأعمال ومثير من الناس حالهم كما قال القائل بنى قصراً لكنه هدم مصرا فما وفي غنمه بغرمه ما حصله من غنم في بناء هذا القصر لا يفي بالقرم الذي فعله عندما ظلم وهدم المصر بكامله كثير من الناس كذلك يفعل الحسنات ثم يأتي بما يحبطها ويبطلها عند رب الأرض والسموات ولا بد من المحافظة على العمل ينبغي أن تحافظ على عملك من فساده عند فعله ومن بطلانه بعد عمله والأمر.(103/17)
كما قال شيخ الإسلام الإمام ابن القيم الجوزية عليه رحمات رب البرية ف كتابه الوابل الصيب من الكلم الطيب في صفحة إحدى عشرة يقول: وقليل من الناس من عنده خبر عما يفسد العمل عند فعله وعما يحبط العمل بعد فعله قليل من عنده خبر ويعتني بهذا وهذا لا بد من وعيه إخوتي الكرام: عملت فحافظ على هذا العمل وإياك أن تضيعه وإياك أن تحبطه عند الله عز وجل إن الإنسان إذا تصدق ومَنَّ بعد ذلك بصدقته فهو من أهل النار وتقدم معنا أن الجنة محرمة على المنان يقول ذو الجلال والإكرام مشيراً إلى هذا في سورة البقرة: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم. يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير".(103/18)
لابد من المحافظة على العمل من إبطاله وكثير من الأعمال تُبطل أعمالك الصالحة وأنت لا تدري المحقرات التي ابتلى بها المخلوقات في الزمن القديم وفي هذه الأوقات تبطل الأعمال الصالحات وتوجب لفاعلها دخول أسفل الدركات مع أنه عمل الصالحات لكنها بطلت يقول الله جل وعلا عن هذا الصنف من المنافقين بعد أن ذكر أخبارهم في سورة التوبة (براءة) : "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا وقد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين".
وهذه الآيات نزلت كما ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في مغازي ابن اسحق وغيره رحمة الله عليهم جميعاً في المنافقين الذين تكلموا على القراء على حملة القرآن فقالوا قراؤنا أكذبنا ألسنة وأرغبنا بطونا وأجبننا عند اللقاء فحكم الله بردتهم وكفرهم عندما حقروا شعائر الله جل وعلا: "ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب" نمزح ولا نقصد بذلك الحقيقة "قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لاتعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".
كم من إنسان في هذه الأيام يستحقر ويستهزأ بشعائر الإسلام فلو كان عنده من الحسنات ما يزيد على جبال تهامه لحبطت وبطلت كم من إنسان في هذه الأيام تعرض عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم يقول دعنا منه والله جل وعلا اعتبر رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام محبطاً للعمل فكيف بمن رد سنة النبي صلى الله عليه وسلم "يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون".(103/19)
إخوتي الكرام: محبطات الأعمال كثيرة ينبغي للإنسان أن يحذر منها فإذا أتى بالصالحات وأراد بها وجه رب الأرض والسموات فليحافظ عليها من البطلان من الحبوط من الضياع أنظر هذه القصة التي جرت من صحابي في العصر الأول وجرت من باب الغفلة منه رحمه الله ورضي الله عنه وتكلمت أمنا عائشة رضي الله عنها فيم هذا كلاماً شديداً قاسياً ينبغي أن نعيه والقصة مروية في المسند ومصنف عبد الرزاق وسنن الداراقطني وسنن البيهقي وقد قال الإمام عبد البر الهادي في التنقيح إسنادها جيد من رواية العالية زوج أبي اسحق السبيعي أنها دخلت على أمنا عائشة رضي الله عنها وعندها أم مُحِبة فقالت لها يا أمهاه لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنني بعت جارية لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريتها منه نقداً بستمائة درهم باعته جارية خادمة بثمانمائة درهم إلى عطائه الذي يخرج في نهاية السنة أي إلى سنة بثمانمائة درهم ثم اشتريت منه الجارية بستمائة درهم نقداً فكأنها أعطت ستمائة درهم حالّة وستأخذ مكانها ثمانمائة درهم بعد سنة فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها بئس ما اشتريت وبئس ما اشتريت بئس ما اشترى زيد وبئس ما اشترت منه أخبري زيداً ن جهاده قد بطل مع رسول اله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب قالت أم محبة يا أماه فإذا أخذت رأس مالي آخذ من زيد ستمائة درهم ولا أطالبه بالزيادة فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها "فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".(103/20)
وهذه المبايعة هي التي تفرق ببيع العينة وهي أن تبيع الشيء بثمن كثير إلى مدة مؤجلة ثم تشتريه بثمن أقل حالاً بثمن معجل فهذا هو بيع العينة فإذا فعلت الأمة سلط الله عليها ذلا لا ينزعه عنها حتى ترجع إلى دينها والعينة هي احتيال علىالربا فكيف بمن يأكل الربا الواصح الخالص الظاهر الذي ليس حوله تأويل ولا احتيال وهنا اشترى هذا الصحابي الجليل هذا وهو فيه متأول وما بلغه النهي ثم بعد ذلك رجع فقالت أمنا عائشة أخبروه أن جهاده قد بطل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب.(103/21)
إخوتي الكرام: لابد من المحافظة على الأعمال من إبطالها فمن عمل عملا ثم أبطله فماذا استفاد منه ومن أجل هذا كان كثير من الصالحين تتقطع قلوبهم خشية من رب العالمين وإذا سئلوا هل هم من عداد المؤمنين يفوضون الأمر إلى رب العالمين ولا يقولون نعم سأل حسن البصري أمؤمن أنت قال إن شاء الله فقيل أتشك يا أبا سعيد قال وما يدريني إذا قلت نعم فقال الله لي كذبت فتحق علي الكلمة وما يدريني وهل أنا قمت بما يقتضيه على الكلمة كما حققت على إبليس وما يؤمنني أن الله اطلع على بعض أعمالي فمقتني فقال يا حسن اعمل ما شئت فلن أقبل منك فأنا أعمل في غير معمل ماذا يدريني. وان سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله يقول إذا سئلت هل أنت من المتوكلين وهل أنت بمن يتصف بمقامات الدين من محبة الله والخوف منه ورجاءه فاسكت أو قل أرجو إن شاء الله فإنك إن قلت نعم كذبت وإن قلت لا كفرت. إذا قيل لك هل أنت متوكل إن قلت نعم من عداد الكذابين ليس حالنا حال المتوكلين إذا قلت لا كفرت بالله فقل أرجو أن أكون من المتوكلين إن شاء الله أكون من المتوكلين لعل الله يجعلني منهم وأما أن تنسب هذا إلى نفسك وأنت ما تدري ماذا عملت من عمل أحبط أعمالك عند الله وأنت لا تدري كلمات قالها أناس في العصر الأول قراءنا أكذبنا السنة أرغبنا بطوناً أجبننا عند اللقاء حكم الله عليهم بالنفاق وبنار جهنم ولعله يجري منا أمثال أمثال هذه الكلمات في هذه الحياة وفي هذه الأوقات.
ولذلك قال العبد الصالح أبو يزيد البسطامي طيفور بن لميس الذي توفي سنة 261هـ ونعته شيخ الإسلام الإمام الذهبي في السير بأنه سلطان العارفين وقال له حكم ونكت مليحة وكان من كلامه رضي الله عنه وأرضاه يقول: من كان يظن أنه يوجد من هو شر منه فهو متكبر سبحانك ربي سبحانك ربي كيف كان أولئك يحاسبون أنفسهم نعم أخي الكريم مهما اطلعت على ذنوب العباد فإطلاعك على ذنوبك أكثر وأكثر فعلام ترى ذنوب غيرك وتنس ذنوبك.(103/22)
من كان يظن أنه يوجد من هو شر منه فهو متكبر إنما يرى نفسه أنه شر المخلوقات وحقيقة كما تقدم معنا من لم يحسن أن يعاقبه الله على خير الأعمال فهو من أهل الظلال على خير الأعمال وكان هذا العبد الصالح يقول ليس العجب من حب لك لله عز وجل وأنا عبد حقير إنما العجب من حبك لي وأنت رب جليل يقول هذا العبد كما في سير أعلام النبلاء رحمهم الله جميعاً يقول: لو صفا لي تهليلة ما باليت بعدها لوصف لي تهليله من جميع تهليلاتي والتهليلة هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله يقول أنا في حياتي من أولها إلى آخرها لو ضمنت أنه صفالي تهليلة من تهليلاتي كلمة واحدة أوحد بها الله سلمت من الشوائب ومن الحبوط لما باليت بشيء بعدها لو سلمت لي تهليلة ما باليت بشيء بعدها عندي ضمان عند ذي الجلال والإكرام بأنني لن أخلد في النار لكن من الذي يدرينا أنه سلم لنا تهليلة أو لم تسلم حقيقة.(103/23)
إخوتي الكرام: هذا هو حال عباد الرحمن الفذين يخشونه ويتقونه ولذلك من أسباب خوفهم خشية تفريطهم في حق ربهم سواء في فعل الطاعات سواء في فعل المحرمات أو المنهيات أوفي تضييع المأمورات والواجبات والمستحبات أخوت الكرام وختام البحث في هذا لو قدر أن الإنسان قام بالطاعات على وجه الكمال ووجدت فيه الأمور الأربعة متابعة وإخلاص وتقى وما احبط العمل وترك المحرمات كما تقدم معنا والمحضورات بكاملها لو قدر وما جرى منه تقصير وخطأ وتضييع لو قدر مع ذلك ينبغي أن ينقطع قلبه خوفاً من ربه جل وعلا لِمَ؟ لأن الطاعات من أولها لآخرها لا تفي شكر نعمة من نعم الله عليك فاعرف قدرك ومن أراد أن يدخل الجنة بعمله فهو مخذول متمن ومن أراد أن يدخل الجنة بلا عمل فهو أحمق متمن وقد روى عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مستدرك الحاكم وانظروه في المجلد الرابع صفحة خمسين ومائتين والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة ورواه العقيلي في كتاب الضعفاء وحول الإسناد الحديث كلام لوجود سليمان بن هرم وسليمان بن هرم روى عنه الليث بن سعد إمام أهل مصر وسليمان بن هرم من عباد أهل الشام بعد أن روى هذا الحديث الإمام الحاكم في المستدرك قال وسليمان بن هرم من عباد أهل الشام وقد روى عنه الليث والليث لا يروي عن المجهولين والحافظ بن حجر في لسان الميزان نقل هذا عن الحاكم وأقره نعم ن الذهبي ضعف الحديث من أجل وجود سليمان بن هرم فيه فهو مجهول وقال حديثه غير محفوظ وعلى كل حال معناه ثابت سواء ثبت الإسناد أم لا.(103/24)
ويفهم كما قلت لكم إخوتي الكرام: من كلام الحاكم والحافظ بن حجر أن إسناد الحديث مقبول والعلم عند الله عز وجل ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خرج جبريل من عندي آنفا وقال لي يا من عليه صلوات الله وسلامه إن عبداً من عباد الله جعله الله على جبل طول هذا الجبل ثلاثون ذراعاً بثلاثين ذراعاً في وسط بحر يحيط به البحر بمقدار أربعة آلاف فرسخ من كل جهة جعل الله جبلان وسط ذلك البحر وفيه إنسان عَبَدَ الله خمسمائة سنة وليس في ذلك المكان أحد وما عصى الله طرفة عين وقد أخرج الله له عيناً حلوة عذبة بمقدار الإصبع تنبض بالماء فإذا صار الماء نزل من صومعته ومن الجبل وشرب من هذا الماء وأخرج الله له شجرة رمان تحمل كل يوم رمانة يأكل منها هذا العبد الصالح والله على كل شيء قدير يقول وقد سأل ربه أن يقبضه وهو ساجد وألا تأكل الأرض جسده فأعطاه ذلك فقبضه وهو ساجد ونحن نمر عليه عندما إلى الأرض ونرى في علم الله جل وعلا أي حسب ما أعلم الله ملائكته أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله لهذا العبد الصالح الذي عبده خمسمائة سنة وما عصاه طرفة عين ثم تقول أدخل الجنة برحمتي أدخلها بعملي فقال الله أدخل الجنة برحمتي قال بعملي فقال الله للملائكة حاسبوه ثم قال الله جل وعلا قايسوا بين نعمي عليه وبين عبادته فأتى بنعمة البصر في هاتين الجارحتين الحدقتين في وجهك هذه النعمة في كفة وعبادة خمسمائة سنة في الكفة الأخرى فما وفت عبادته بنعمة البصر دع نعم سائر الجسد بعد ذلك فقال الله جل وعلا خذوه إلى النار فتى قادته الملائكة التفت وراءه قال رب أدخلني الجنة برحمتك فقال الله له عبدي من خلقك هل خلقت من قبلك أو خلقتك برحمتي قال رب خلقتني برحمتك قال ليرى من قواك على عبادتي خمسمائة سنة هل هذا من قبلك أو برحمتي قال برحمتك قال عبدي من جعلك في هذا المكان وأخرج لك عيناً من الماء حلوة(103/25)
من هذا الماء الملح الأجاج وأنبت لك شجرة تخرج لك كل يوم رمانة وبستان الرمان يخرج مرة واحدة في السنة وينتهي فحصوله من فعل هذا هذا من قبلك أو من قبل رحمتي قال برحمتك فقال الله له نعم العبد كنت لي إذهب فادخل الجنة برحمتي ثم قال جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامة يا محمد إنما الأشياء برحمة الله عز وجل نعم لو قدر أنك اجتنبت جميع المنهيات وفعلت جميع الطاعات على الوجه الذي يرضاه رب الأرض والسموات مع ذلك ينبغي أن ينقطع قلبك خوفا فجميع طاعتك لا تفي شكر نعمة من نعم الله عز وجل عليك.
وهذا إخوتي الكرام: هذا الحديث معناه كحديث الصحيحين الثابت فيهما وفي غيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولا أنا إلا أن يغمرني الله برحمة منه وفضل والحديث كنت ذكرته سابقاً إخوتي الكرام قلت سأذكر معناه في هذه الموعظة لأنه قد يتوهم بعض الناس وقوع معارضة بين هذا الحديث وبين الآيات التي تصرح بأننا ندخل الجنة بما كنا نعمل: وتلك الجنة التي كنتم أورثتموها بما كنتم تعملون ولا معارضة بين الحديث وبين هذه الآيات وقد حقق أئمتنا الكرام في ذلك من وجوه متعددة أنظروها إخوتي الكرام في فتح الباري للحافظ بن حجر 11/296 وانظروا الكلام على ذلك أيضا في مفتاح السعادة ومنشور العلم والإرادة في أول الكتاب في صفحة ثمانية وخلاصة هذه الأجوبة ذكر الحافظ بن حجر أربعة أجوبة ألا وهي:
الأمر الأول: ن العمل من فضل الله عز وجل فكون تدخل الجنة بعملك العمل من فضل الله عز وجل ومن توفيق الله لك للعمل فدخلت الجنة بفضل الله ورحمته.
الأمر الثاني: منافع العبد لسيده أنت عبد وجميع ما تقوم به من عمل يستحقه سيدك فيفي إذا دخول الجنة محصن فضل وكرم من الله عز وجل.(103/26)
الأمر الثالث: عملك الصالح مهما طال فهو في مدة يسيرة محدودة والبقاء في الجنة أبدي سر مدى لأنها به له فإذاً دخولك الجنة بفضل الله ورحمته.
وآخر الأمور: دخول الجنة مفتاحها رحمة الله وفضله واقتسام الدرجات فيها على حسب العمل والجواب الذي ذكره وهو الخامس الإمام ابن القيم في مفتاح السعادة قال إن الباء المقتضية للدخول هي غير الباء النافية للدخول فالتي تقضي الدخول هذا للسببية العادية: أورثتمونا بما كنتم تعملون يعني بسبب أعمالكم والباء التي تنفي الدخول بسبب العمل لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة هذه هي المعارضة لا يوجد عمل يعارض الجنة ويكون ثمنا لها إذا هي سببية عادية وليست للمعارضة الحقيقية من باب ثمن ومثمن ولذلك النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمة الله واقتسام الدرجات فيها على حسب الأعمال الصالحات.
هذا إخوتي الكرام: ما قرره أئمتنا وهذا صحيح فلا يمكن للإنسان أن يدخل بلا عمل وعمله لا يدخله الجنة لا بد من عمل ورحمة الله عز وجل ولأوضح هذا بمثال حسن لا يمكن أن يأتيه ولد من غير وطئ وزواج ولا يمكن أن يأتي الولد بوطئ وزواج فقط لا بد من وطئ وزواج ومن تقدير الله جل وعلا وكم من إنسان يتزوج ولا يولد له لكن إذا أراد الولد من غير زواج فهو أحمق مغرور وإذا قال إن الزواج سينتج لي الولد قدر الله أم لم يقدر فهو كافر مثبور فلا بد أن يطلب الولد من فضل الله عز وجل من الطريق الذي شرعه الله وهنا كذلك نطلب جنة الله الأعمال الصالحة التي أمرنا بها ربنا وتعويلنا على فضله ورحمته وكرمه نسأل الله أن يعاملنا بفضله وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:(103/27)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء المرسلين وسلم تسليماً كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: نحن في شهر مبارك فاضل ألا وهو شهر الله المحرم وسيستقبلنا عما قريب في الغد وفيما بعده أيام مباركة ندبنا أيضاً إلى صيامنا كما ندبنا إلى الصيام في هذا الشهر على وجه العموم.
وقد ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائي والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم " فأفضل ما يقع من صيام في أشهر السنة بعد شهر رمضان صيام هذا الشهر المبارك العظيم ألا وهو شهر الله المحرم وفيه يوم بعد ذلك ألا وهو يوم العاشر منه يوم مبارك عظيم من الله فيه على نبيه الكليم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه على نبي الله موسى بالنجاة من فرعون وقومه وأغرق الله فرعون وجنوده في هذا اليوم العظيم المبارك.
كما ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على منورها صلوات الله وسلامة فوجد اليهود يصومون في يوم عاشوراء وهو اليوم العشر من شهر الله المحرم فقال ما هذا قالوا هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى ومن معه من فرعون وقدمه فقال نحن أحق بموسى منكم فصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوماً يطلب فضله على غيره إلا صوم يوم عاشوراء ".(103/28)
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن صيام هذا اليوم له أجرٌ كبيرٌ كبير ففي المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود والحديث في سنن الترمذي من رواية أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى لله عليه وسلم يقول: صيام يوم عاشوراء ني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله يكفر ذنوب سنة بفضل الله ورحمته وقد ندبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته الطيبة الشريفة المباركة عليه صلوات الله وسلامة إلى صيام يوم مع اليوم العاشر ونوى ذلك لكن المنية جاءته فانتقل إلى الرفيق الأعلى عليه صلوات الله وسلامه قبل أن ينفذ ما نوى.
ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" لئن عشت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع " أي مع العاشر يصوم تاسوعاء وعاشوراء وهذا من باب مخالفة اليهود يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده ومن صام يوماً قبله ويوماً بعده فهو أحسن وأفضل وأكمل فقد ثبت ذلك في مسند الإمام أحمد وسند البزار من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وفي إسناد الحديث محمد بن أبي ليلى وكان قاضياً في بلاد الكوفة وقال عنه الحافظ في التقريب صدوق لكنه سيئ الحفظ وحديثه مخرج في السنن الأربعة ولفظ الحديث من عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا يوماً قبله ويوماً بعده".(103/29)
وعليه من أراد أن يصوم هذا اليوم وينبغي أن تحرص عليه فينبغي أن تصوم يوما قبله معه أو يوما بعده معه ولو جمع يوماً قبله ويوما بعده وصامه فهذا أكمل وأفضل وأبر نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من المقبولين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصبه وسلم تسليماً كثيرا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا.
اللهم أغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا. اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا. اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم أغفر لمن عَبَدَ الله فيه. اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب الأرض والسموات وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظم لعلكم تذكرون.(103/30)
زيارة النساء للقبور
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
زيارة النساء للقبور
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء الخاتمة، نسأل الله أن يحسن ختامنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهذه الخصلة الردية، أعني البدعة، قلت سنتدارسها ضمن الثلاثة مباحث.(104/1)
أولها: في تعريفها.
ثانيها: في بيان النصوص المحذرة المنفرة من البدعة.
ثالثها: في أقسام البدعة.
إخوتي الكرام: مازلنا في المبحث الأول عن تعريف البدعة، وقلت إنها حدث في الإسلام مع زعم المحدث بما أحدثه أنه يتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام وهذه البدعة بهذا التعريف وبهذا الحد وبهذا الضابط كما قرره أئمتنا الكرام، انحرف نحوه صنفان من الأنام، صنفاً غلو وأفرطوا فأدخلوا في حد البدعة وضابطها وتعريفها ما ليس منها، وقسماً فرطوا فألفوا البدعة وابتدعوا في دين الله عز وجل {وهم يحسنون أنهم يحسنون صنعا} ودين الله بين الغالي والجافي ولا إفراط ولا تفريط، وهاتان الفرقتان لابد من أن نحذرهما وأن نحذر من أقوالها.
وكنا إخوتي الكرام: في مدارسة غلو الفرقة الأولى التي وسقت مفهوم البدعة ودائرتها فحكموا بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل، بل اشتطوا أكثر من ذلك كما تقدم معنا فحكموا على الفضل بأنه بدعة منكرة مع أنه وردت به صراحة النصوص الشرعية المطهرة وذكرت لذلك أمثلة معتبرة منها إخوتي الكرام ما يتعلق بصلاة التراويح في ليالي رمضان وأنها عشرون ركعة كما نقل هذا عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه عليه سائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو المقرر عند الجماهير كما تقدم معنا ومن ذلك أيضاً ما تقدم معنا وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع كما هو الحال قبل الركوع فتقدم معنا أن هذه كيفية شرعية وليس ببدعة ردية.
ومن ذلك أيضاً قراءة القرآن على القبور، وتقدم معنا أنه يتعلق بهذه المسألة ثلاثة أمور: تلقين الميت وقد مر الكلام على ذلك، وإثبات سماع الميت في قبره وأنه يعلم بمن يزوره ويستأنس به ويفرح بما يجري عنده من طاعة، ويحزن على ما يجري عنده من معصية.
والأمر الثاني: إهداء القربات إلى الأموات:
إخوتي الكرام..(104/2)
كنا نتدارس الأمر الثاني ألا وهو سماع الأموات في قبورهم علمهم بمن يزورهم كما تقدم معنا تقرير هذا مبيناً بأدلة الثابتة الواضحة وكان المتوقع أن ننتقل في هذه الموعظة المباركة إلى آخر الأمور ألا وهو إهداء القربات إلى الأموات لننتقل بعد ذلك إلى مدارسة حال الفرقة الثانية الذين ألفوا البدعة في الدين ثم خرفوا ما شاءوا ونسبوا تخريفهم إلى شريعة رب العالمين.
إخوتي الكرام: كان المفروض وهذا وهو المتوقع لكنني سأتلكم في هذه الموعظة على أمرين اثنين: أمراً يتعلق بما مضى كنت ذكرته باب الاستطراد لتوضيح حكمة وقد رغب عدد من الأخوة الكرام تقرير وبيان أمره وقد استشكله بعض من سمع هذا الكلام فلابد من وضع الأمر في نصابه.
والأمر الثاني: فيه زيادة تقرير في أن الأموات يفرحون بما يجري عندهم من طاعات ويحزنون ويتألمون بما يقع عندهم من سيئات ومنكرات. وهذا الأمر الثاني ثابت عن نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه فموضوع موعظتنا سيدور حول هذين الأمرين.(104/3)
الأمر الأول إخوتي الكرام: يتعلق بزيارة النساء القبور وقد كنت ذكرت هذا استطراداً، فتقرير سماع الأموات وأنه شُرِعَ لنا أن نزورهم وذكرت حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهو حديث صحيحٌ صحيح ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي عن أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنها قالت لنبينا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه [كيف أقول إذا زرت القبور فقال نبينا البشير النذير المبرور عليه صلوات الله وسلامه قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] عنده هذا الحديث أيها الأخوة الكرام فإن زيارة القبور للنساء مشروعة جائزة وبينت بإختصار استشكله بعض الناس عند ما سمعه ونسأل الله أن يشرح صدورنا للحق وأن يرزقنا الفهم والعمل بما نفهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: لذلك نزولاً عند رغبة الأخوة الكرام سأذكر بما يتعلق بهذه المسألة في هذه الموعظة وهو الأمر الأول من الأمرين اللذين سنتدارسها في هذه الموعظة.(104/4)
نعم إخوتي الكرام: وردت أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام تنهي النساء عن زيارة القبور وتحذرهنَّ من ذلك، من هذه الأحاديث ما ثبت في المسند والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه الإمام أبو داوود والطيالسي في مسنده والبيهقي ي السنن الكبرى والحديث إسناده حسن حسنه شيخ الإسلام الإمام الترمذي وغيره عليهم جميعاً رحمة الله، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[لعن زوَّرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج] وهذا الحديث حديث صحيحاً والجملة الأولى وردت من رواية أبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين أما رواية أبي هريرة في لعن نبينا عليه صلوات الله وسلامه لزوارات القبور فقد رواها الإمام أحمد في مسنده، والإمام الترمذي في سننه وهكذا ابن ماجة في السنن ورواها ابن حبان في صحيحه وأبو داوود الطيالسي في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور] .
أما حديث حسان بن ثابت فبمعنى حديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين فقد رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والحاكم في مستدركه وهو أيضاً في مسند أبي داوود الطيالسي، والسنن الكبرى للإمام البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[لعن زوارات القبور] وهذا الحديث حديث صحيح كما قلت ثابت من رواية ابن عباس وأبي هريرة وحسان ابن ثابت رضي الله عنهم أجمعين.(104/5)
لكن هذا الحديث عورض بأحاديث أخرى فلابد من التوفيق بين كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم -، إن نبينا صلوات الله عليه وسلامه نهى النساء كما نهى الرجال في أول الأمر عن زيارة القبور لأن القوم حديثُ عهد بشرك وجاهلية وقلوبهم لم تتعلق على وجه التمام برب البرية فلألا يزور القبور زيارة بدعية، فهو في أول الأمر ذكوراً وإناثاً عن زيارة القبور ثم رُخص لهم من قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم -، بل ندبوا إلى ذلك والدليل على هذا ما ستسمعونه إخوتي الكرام من أدلة وما سأعقب أيضاً على هذه الأدلة بفهم كلام أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين..
أما الأحاديث التي تعارض هنا وتدل على الترخيص والندب والجواز منها، حديث بريدة رضي الله عنه وفي مسند الإمام أحمد صحيح مسلم وسنن أبي داوود النسائي ورواه الإمام البيهقي في سنن الكبرى حديث صحيحٌ صحيح فهو في صحيح مسلم كما قلت عن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها] وتقدم معنا أن سبب ترخيصها أنها تذكر بالآخرة وأنها ترق القلب وتدمع العين كما ثبت ذلك عن سيد الكونين نبينا عليه صلوات الله وسلامه [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها] وكنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم وكنت نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فانبذوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً] .(104/6)
والحديث كما قلت إخوتي الكرام في صحيح مسلم وغيره وتأمل هذه الأمور الثلاثة هل هي خاصة بصنف أو عامة للصنفين، أعني الرجال والنساء بمثبتاً الأضاحي، نهى المسلمون في أول الأمر أن يدخروا من الأضاحي فوق ثلاث من أجل أن يحصل مساعدة بين المضحين وبين من لا يستطيعون الأضحية، فإذا ضحى الإنسان يباح له أن يأكل من ذبيحته اليوم الأول، والثاني، والثالث، فإذا بقى عنده شيء يحرم عليه أن يأكل منه وإذا أكل منه فقد عصى الله عز وجل وعليه إذن يسارع الناس إلى الصدقة ومساعدة من لم يضحي، هذا كان في أول الأمر ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام [فامسكوا ما بدا لكم إن شئت أن تمسك أضحيتك حولاً كاملاً لتأكل منها في يوم عرفة السنة الآتية لتبدأ يوم النحر بأضحية أخرى فلا حرج عليك، هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل هذا خاص بالنساء أو بالرجال؟ أو هو شامل للصنفين؟ [كنت نهيتكم عن الأكل من الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم] وهكذا الإنتباذ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين في أول الأمر أن ينتبذوا إلا في أسقية الأدم، والنبيذ يراد به إخوتي الكرام: ثمرات أو حبات من زبيب تلقى في الماء من أجل أن يحلو الماء ويعذب طعمه وكان هذا فحبباً إلى نبينا صلوات الله عليه وسلامه وإلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا إذا وضعوا التمرات..(104/7)
حبات الزبيب في هذا السقاء فيشربون منه في اليوم الأول والثاني والثالث، ثم بعد ذلك يريقونه وإذا لم يُسكر فيجوز أن يشربوا منه ما شاء الله من فترة وزمن، هذا في أول الأمر، أنهم حديثُ عهد بسكر قد لا يميزون بين الشراب إذا أسكرا وبين الشراب الذي لم يُسكر فنهوا عن الإنتباذ إلا في أسقية الأدم وأسقية الأدم هي التي تون من جلداً، وأدم ويلات على أفواهها كما وضح ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو أن يربط وإذا انتبذ الإنسان في أسقية الأدم وهذا الوعاء، وهذا الوعاء مربوط على فمه لو قُدر أن هذا الشراب أسكر فتتمدد فيها الغازات وينفجر لأنه لا يحتمل، وأما إذا كان الوعاء من خشب أو حجر أو زجاج فيسكر فيه الشراب ولا يتأخر هذا الوعاء بما فيه فنهوا عن الإنتباذ إلا في الأسقية الأدم ثم رُخص لهم أن ينتبذوا في كل وعاء بشرط أن لا يشربوا مسكراً.
والأمور الثلاثة إخوتي الكرام كما قرون متقدمة ببعضها ومقرونة ببعضها في حديث واحد وبما أنه يجوز للنساء أن يدخرن من الأضاحي فوق ثلاث ويجوز للنساء أن ينتبذن في الأسقية الأدم وغيرها وأن هذا الشراب إذا لم يكن مسكراً فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يحصل من الرجال تماماً.
والأمور الثلاثة في حديث واحد [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، كنت نهيتكم عن أكل لحم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم، وكنت نهيتكم عن الإنتباذ إلا في سقاء فانتبذوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً] .
والحديث إخوتي الكرام نص صريح صحيح في جواز زيارة النساء للقبور ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام بن عبد البر حافظ المغرب في زمانه وهو كحافظ المشرق في زمانه الخطيب البغدادي وقد توفيا في سنة واحدة سنة ثلاث وستين وأربعمائة من الهجرة 463هـ.(104/8)
نبينا الأمين على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه يقول ابن عبد البر نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن زيارة القبور نهياً عاماً وترخيصه في زيارة القبور ترخيصاً عام وعلى هذا فيجوز للنساء أن يزرن القبور كما يجوز للرجال هذا الحديث الأول والحديث الثاني ثبت في الصحيحين وسنن البيهقي وفي رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال مر نبينا - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ تبكي عند قبراً فقال لها عليه صلوات الله وسلامه: يا أمة الله اتقي الله واصبري. فقال: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقد التمس لها أنسٌ عذراً فقال: ولم تعرفه. ما عرفت أن من يكلمها هو خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه ولذلك قالت له هذه العبارة إليك عني وهذا من تواضعه صلوات الله عليه وسلامه لا يتميز على أصحابه بحيث يخفى عنهم أحياناً وكان الأعرابي إذا جاء ودخل إلى مجلس النبي صلوات الله عليه وسلامه أيكم محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرف من فقيل لها إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتدري من كلمك ولمن قلت إليك عني فأتت النبي عليه الصلاة والسلام [وجدت غرابه أخرى لم تجد] لا يوجد من يمنعها من الدخول فقالت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعتذر لما جرى منها لم أعرفك فقال خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه إنما الصبر عند الصدمة الأولى.(104/9)
والحديث كما قال أئمتنا نص صريح صحيحٌ في جواز زيارة النساء للقبور وقد بوَّب على هذا الحديث سيد المسلمين وأمير المؤمنين في حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام للإمام البخاري في صحيحه في كتاب (الجنائز) باباً فقال (باب زيارة القبور) قال الحافظ بن حجر عليه رحمة الله وتقرير النبي عليه الصلاة والسلام لهذه المرأة في زيارتها وعدم إنكاره عليه في زيارتها دليل على أن زيارة القبور مشروعة للنساء كما هي مشروعة للرجال وقال الإمام العيني في عمدة القارئ في شرح هذا الحديث نؤخذ منه أن زيارة القبور مشروعة مطلقة للرجال وللنساء وكما قلت إخوتي الكرام الدلالة ظاهرة واضحة صريحة صحيحة، والحافظ ابن حجر في التلخيص الجيد أيضاً ما تقدم في (فتح الباري عند تخريج أحاديث كتاب الجنائز قال فائدة ثم ذكر أن هذا الحديث كحديث أمنا عائشة الأتي يدلان على جواز زيارة النساء للقبور.
إذاً هذا الحديث إخوتي الكرام صريح صحيح في أن امرأة زارت القبور والنبي عليه الصلاة والسلام أقرَّها ولم يعترض عليها وإقراره تشريعاً وسنه فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه وهذا الأمر كما قلت في أوله موعظة هو الوارد في حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وهو ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي أنها قالت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه كيف أقول إذا زرت القبور فقال نبينا عليه صلوات الله وسلامه قولي [السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين والمستأخرين وإن شاء الله بكم لاحقون] .(104/10)
فهذا سؤال من الصديقة موجه إلى نبينا صلوات الله وسلامه إمام الصادقين، وما أنكر عليها زيارة القبور للنساء ليسن مشروعة فعلام تسألين عما لا يحل لك ولأمثالك وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها الذي باشرت هذا السؤال بنفسها فسألت نبينا عن الأمر عندما كان حياً عليه صلوات الله وسلامه فكانت تطبق ذلك بعد انتقال نبينا صلوات الله عليه وسلامه بجوار الرفيق الأعلى تزور القبور وإذا استشكل مستشكل ترد عليه بأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بزيارة القبور بعد أن نهى عنها، ثبت في مستدرك الحاكم وسنن الكبرى للإمام البيهقي بسند صحيح كالشمس من رواية أبي المليكة وعبد الله ابن عبيد الله بن أبي مليكة من أئمة التابعين الطيبين توفي سنة سبعة عشر ومائة 117هـ حديثه مخرج في الكتب الستة وقد أدرك ثلاثين صحابياً وروى عنهم ومنهم أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين يقول عبد الله بن أبي عبيدة بن أبي مليكة رأيت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قادمة فعلت لها أين قدمت يا أم المؤمنين قالت: كنت أزور قبر أخي، قبر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين فقال لها عبد الله بن أبي مليكة أليس قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيارة القبور أنتم معشر النساء نهيتنَّ عن ذلك فكيف تزورن القبور فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن زيارة القبور ثم أمر بها] والحديث في سنن بن ماجة نختصره ففي أمنا عائشة رضي الله عنها قالت ثم رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور فهذه أحاديث كما ترون إخوتي الكرام مقصورة صريحة صريحة في الدلال بأن زيارة القبور مشروعة فأرجو التوفيق بينها وبين الأحاديث المتقدمة من حديث عبد الله ابن عباس وأبي هريرة وحسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين بأن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام [لعن زوارات القبور] الجواب من وجهين معتبرين كما كنت أشرت إلى ذلك مختصراً.(104/11)
الجواب الأول: فهو الذي عليه الجمهور أن الحديث النهي منسوخة كما أن الرجال نهو عن زيارة القبور ثم نسخ. ذلك في حقهم وهكذا للنساء نهين عن زيارة القبور ثم نسخ ذلك في حقهنَّ. وهذه أحاديث صريحة صحيحة تدل على هذا.
والجواب الثاني: ذهب إليه الإمام القرطبي: وهو على التنزّل بأن أحاديث للنهي بعد أحاديث الترخيص والإباحة قال رحمة الله عليه ورضوانه في الإمام القرطبي صاحب كتاب المفهم في شرح صحيح مسلم عليهم جميعاً رحمة الله قال هذا الإمام المبارك إن هذه الأحادي خاصة في من يكثر الزيارة ويرددها ويكررها أما بين الحين والحين فزيارتها مشروعة وقربة إلى رب العالمين.
نعم الرجل يستحب له أن يكثر لأنه في الأصل خارج البيت وليس في خروجه من البيت مشكلة، أما المرأة فهي قاعدة البيت فيباح لها أن تخرج لمصلحة شرعية لترق قلبها وتدمع عينها ولتدعو لميتها ولستأنس بها لكن هذه المصلحة ما ينبغي أن يترتب عليها مفسدة ما ينبغي أن تزور في كل يوم إنما تزور في كل شهرٍ مرة في كل سنة مرة، بالصفة الشرعية فإذا زارت وما ترتب على خروجها مشكلة وردية فأي حرج ذلك في الشريعة وقد رخص نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام للنساء الزيارة الشرعية وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الإمام القرطبي يدخل فيه ما قاله بعض أئمتنا قال على التسليم بأحاديث النهي بعد أحاديث الترخيص والإباحة فهي محمولة على من زارت القبور وقالت هجرة زارتها زيارة بدعية شركية فما تقيدت بآداب الشرع في زيارتها فهي تدل كما الرجل يدل وعليه من من لم الزيارة الشرعية من النساء كما أو كما أي لم تتقيد في عدد الزيارة ينبغي أن تزور في الشهر مرة وفي السنة مرة لا أن تخرج كل يوم وكل أسبوع، هذا ينافي ما أمرها الإسلام به من أن تكون مقيدة ببيت لا تكثر الولوج والخروج فإذاً إذا خالفت هدي الإسلام في كيفية الزيارة فزارت زيارة بدعية شركية فهي ملعونة.(104/12)
والأمر الثاني: يستوي معها فيه الرجل والرجل إذا زار زيارة بدعية شركية فهو ملعون عاصٍ للحي القيوم.
إخوتي الكرام..
هذا ما قرره أئمتنا الكرام شراح كتب السنة نحو هذا الحديث، وأما أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين فما خرج كلامهم عن ذلك ولا بد إخوتي الكرام من ذكره ليكون بينة من أمرنا وكما قلت مراراً ما احتمله الدليل، وقال به إمامٌ جليل فقد خرج عن كونه بدعة في شريعة الله الجليل، لا يقال أنه بدعة احتمله الدليل ثم بعد ذلك أنت ترى هنا أو لا تراه هذا أمرٌ أخر إنما إياك أن تدع كيفية يحتملها دليل شرعي ويقول بها إمام تقي ولنذكر إخوتي الكرام ولنتدارس أقوال أئمتنا الفقهاء على الترتيب الزمني أولهم السادة الحنفية قرروا أن زيارة النساء للقبور مشروعة. انظروا إخوتي الكرام (رد المحتار على الدر المختار) المعروف بحاشية الإمام ابن عابدين عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين في الجزء الثاني صفحة اثنين وأربعين ومائتين 2/242 يقول ويندب للنساء زيارة القبور كما يندب للرجال، والأصح دخولهنَّ في الترخيص أي في قول النبي عليه الصلاة والسلام [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها] والأصح دخولهن في الترخيص فيندب لهنَّ ذلك كما يندب للرجال وبعدهم السادة المالكية راضوان الله عليهم اجمعين.
كما في حاشية الدسوقي في الجزء الأول صفحة ثمانية وثمانين وثلاثمائة 1/388 قرر المالكية حكم زيارة النساء للقبور على تفصيلاً ذكروه فقالوا: تُمنع النساء من زيارة القبور لما يترتب على خروجهن فتنة وهي مأمورة بأن تكون قعيدة بيت {وقرن في بيوتكن} .
والأمر الثاني: يرخص لهن كما يرخص للرجال.(104/13)
والثالث: وهو الذي مشى عليه علماء المذهب أعني مذهب الإمام مالك رحمه الله ورضوانه عليهم أجمعين قالوا للتفرقة بين الشابة والعجوز الكبير، فالشابة تُمنع خشية الإختتان بها والعجوز الكبير يُرخص لها وعليه هي دخلت في الترخيص لكن الشابة تُمنع لأمرٍ أخر لما يترتب على خروجها من محذور، وقلت مراراً إخوتي الكرام أن عجب للناس في هذه الأيام عندما سمحوا لنسائهم وبناتهم.. سمحوا لهن بالذهاب إلى الأسواق وإلى المتنزهات وسمحوا لهن يذهبوا معهم في الرحالات إلى ما شاء الله من البلاد ثم بعد ذلك إذا قلت لهم إذا استصحبت زوجك إلى المقبرة بعد صلاة الفجر في يوم من الأيام لتذكرها بالمصير الذي تصير إليه ليرق قلبها وتدمع عينها لتذكر أصحابها وأقاربها وأحبابها لتدعوا لهم ويستأنسوا بها تقول: أعوذ بالله هذه بدعة وضلالة وخروجها للأسواق ذاك حسنة، وكمال، نعوذ بالله من فساد العقول في هذه الأيام ولذلك إخوتي الكرام انظروا لقول المالكية تقول إن كانت شابة تُمنع ليس تمنع من المقابر ويرخص لها أن تذهب إلى السوق، هذه قعيدة بيت، وقلت أشنع من الأسواق في هذه الأيام، المدارس التي أحياناً يُدرس فيها نساء لعلهن أخبث من الشيطان الرجيم في الفساد والإفساد وكل هذا تحملناه نحو بناتنا ثم بعد ذلك إذا ذكرت زيارة القبور تتمعر وجوهنا وتشمئز قلوبنا وعلام هذا الأمر وقد أباحه نبينا عليه صلوات الله وسلامه وقرره أئمتنا.(104/14)
وأما السادة الشافعية: فالأمر عندهم كما في المجموع شرح المهذب ليشخ الإسلام الإمام النووي في الجزء الخامس صفحة عشر ثلاثمائة 5/310 زيارة القبور عندهم، فيها قولان. القول الأول: مكروه كراهة التنزيل والبيت في ذلك كما قلت أن المرأة ينبغي أن تكون مستورة مصونة والقول الثاني وهو الذي رجحه الإمام أبو المحاسن الإمام الإمام الردياني من أئمة الشافعية الكبار ونقله عنه الإمام الذهبي النووي في المجموع قال: يباح لهن ذلك كما يباح للرجال لاستواء الجميع في العلة، شرع لها أن ترق قلبها وأن تدمع عينها وأن تتذكر المصير الذي ستصير إليه كما يشرع هذا في حق الرجل، فهذان القولان الشافعية قول للجواز وهو مرجح من قبل الإمام الردياني، وهكذا السادة الحنابلة آخر المذاهب في الترتيب الزمني قرروا هذين القولين اللذين قال بهما الشافعية الكرام ففي المغني مع الشرح الكبير في الجزء الثاني صفحة ثلاثين وأربعمائة 2/430 يقول الإمام ابن قدامة وفي زيارة النساء للقبور قولان عن الإمام أبي عبد الله يعني به الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين.
القول الأول: بالكراهة
القول الثاني: بالجواز، وذكر دليل الجواز وختم الكلام به وقرره بالأحاديث الصحيحة المتقدمة التي ذكرتها.
إذاً اخوتي الكرام:(104/15)
هذه نصوص أئمتنا الحنفية يجيزون قولاً واحداً وهو قولاً، وهو قولاً للمالكية والشافعية والحنابلة، وتقدم معنا قول شراح الحديث وشراح السنة في الجمع بين الأحاديث وهذا الذي قاله أئمتنا رضوان الله عليهم فأبعد ذلك استنكاراً لهذا القول إخوتي الكرام إن هذا الأمر كما قلت مقرراً عند أئمتنا قاطبة الرحمة رضوان الله عليهم أجمعين، فهذا الإمام عبد الحق أبو محمد وكنت نقلت عنه عليه رحمة الله في المواعظ السابقة بعض النصوص وقد توفي كما قلت سنة واحد وثمانين وخمسمائة 581هـ يذكر في كتابه العاقبة هذه المسألة فيقول ك وكذلك أبيحت زيارة القبور للنساء كما أبيحت للرجال وأبيح لهنَّ البكاء على القبور كما أبيح للرجال ثم ذكر حديث أنس المتقدم بأن النبي عليه الصلاة والسلام مر على امرأة وهي تبكي على قبر..
قال الإمام عبد الحق والحديث صحيح مشهور ذكره مسلم والبخاري وغيرهم، تقدم معنا في سنن البيهقي وغيره قال الإمام عبد الحق ولو كان بكاء النساء عند القبور وزيارتهنَّ لها حراماً لنهانا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ولزجرها زجراً يزجر بمثله من أتى محرماً وارتكب منهياً وما روي عن النهي زيارة النساء فغير صحيح أيقصد ما ورد نهياً بعد الإباحة والترخيص والجواز والصحيح ما ذكرت لك من الإباحة إلا عرف عمل النساء في خروجهن ما لا يجوز من تبرج أو علام أو غيره فهو المنهي عنه وقد أبيح لك أيها الإنسان مطلقاً رجلاً أو امرأة أن تبكي على قبر ميتك حزناً عليه أو رحمة له مما بين يديه، فإن وجدت لك بكاءاً فابكي ومع بكائك على ميتك فلا تغفل عن بكائك على نفسك وعن الفكرة فيما عملته في يومك وأمسك وفي مالك عند ملول رمسك يعني قبرك وبل لو أمكنك أن تجعل بكائك كله عليك كان الأولى بل والأحمد لك..
إذاً هذه نصوص عما قلت إخوتي الكرام عن أئمة الإسلام يقرر هذا.(104/16)
نعم ذهب بعض أئمة الإسلام كالإمام ابن تيمية عليه رحمات الله رب البرية وهكذا ابن القيم الجوزي عليهم جميعاً رحمة الله إلى المنع واخت وهذا كان لهما وانتهى الأمر والحجة فيما قرره أئمتنا أن الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله كتب في ذلك ثلاث عشر صفحة في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرون من صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة 24/343 إلى ستة وخمسين وثلاثمائة 356 وهكذا تلميذه ابن القيم الجوزي عندما علق على تهذيب السنن كتب على ذلك أربع صفحات أيضاً في الجزء الرابع من تهذيب السنن من صفحة سبع وأربعين وثلاثمائة 4/347 إلى خمسين وثلاثمائة 350.(104/17)
وقد ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله أدلة على المنع منها ما يقبل ومنها ما لا يقبل ومن ذلك قال إن حديث أنس رضي الله عنه الذي تقدم معنا نصَّاً صريحاً في تحريم زيارة النساء للقبور وما فهم ذلك أحداً قبله ولا بعده ولذلك لم يسبقه إلى ذلك أحد ولا تبعه عليه أحد وما وجه ما فهمت وما قلت من الحديث قال إن قول النبي عليه الصلاة والسلام للمرأة اتق الله يقول والتقوى هي فعل ما أمر الله وترك ما نهى عنه وزيارة القبور للنساء منهياً عنه فكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول له لا تزور القبور ثم قال قوله اصبري قال إن الصبر يلزم منه عدم خروجها من البيت وعدم بكائها مما يدل على خروجها لزيارة القبور منهياً عنها أنت تصادر على المطلوب في كلامك تقول إن الزيارة منهياً عنها، ولذلك دخلت ضمن قول الله اتق الله لأن التقوى فعل المأمور وترك المحذور قرر ذلك الأمر ثم أثبته على أنه من مقتضيات التقوى، أن لا يفعله الإنسان إنني أقول ما قاله أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين إن الزيارة لو كانت ليست شرعية لنهى عنها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه بلفظ صحيح صريح يدل على المطلوب لقال (يا أمة الله علاما تزورين القبور) وهذا لا يجوز في حق النساء أما أن يقول لها اتقي الله واصبري ما أنكر عليها الزيارة إنما يريد أن يذكرها بتقوى الله وأنه لا داعي للجزع والهلع ولا للنياحة ولا للعويل، اتقي الله واصبري، ولذلك عندما جاءت إليه وقالت له لم أعرفك عليه صلوات الله وسلامه ما قال لها إنك فعلت منكراً بزيارتك، إنما قال لها إنما الصبر عند الصدمة الأولى.(104/18)
نعم ذهب هذان الإمامان كما قلت للمنع من ذلك لكن تقدم معنا قول جمهور أئمتنا ويمكن أن يقول بعد ذلك اختصار إن زيارة النساء للقبور احتملها الدليل وقال بها إمام جليل فلا يجوز أن نحكم عليها بأنها بدعة ضلالة وأنها تضليل لا يجوز أن نحكم هذا أبداً.. إنما إذا شرح الله صدرك لهذا فاسمح لنسائك أن يزرن وكن معهن وإذا لم يشرح الله صدرك لذلك فاضبط لسانك وقف عند حدك وأمراً قرره أئمتنا ودل عليه كلام نبينا عليه صلوات الله وسلامه ما ينبغي أن يعترض عليه إخوتي الكرام: هذا الأمر لا بد من أن يرسخ في أذهاننا في هذا الزمان لابد أن يرسخ في أذهاننا في هذا الزمان، الأمر إذا احتمله الدليل الشرعي وقال به إمام تقي فقد خرج عن رسم البدعة وحدها فلا يجوز أن نحكم عليه بالبدعة أو أن نبدِّع فاعله وهذا أمراً دعاه سلفنا تمام الوعي واشتبه علينا في هذه الأيام تمام الاشتباه فبت نابتة في هذه الزمان يحصرون الحق في واحد وليتهم من المتقدمين، إنما هم من المعاصرين ينزلون أقوالهم منزلة أقوال نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا خالفته اتهموك بالبدعة والضلال وافتروا عليك ما شاءوا من الإفك المبين، رفقاً يا عباد الله بأنفسكم..(104/19)
رفقاً يا عباد الله بأمة نبيكم عليه صلوات الله وسلامه هناك فرق كبير بين السلفي والبدعي لا خير في من لم يكن سلفياً حقيقياً لكن لا بد من التفريق بين السلفي في زمنه وسيد المسلمين إلى سفيان الثوري عليه رحمة الله عندما يقرر هذا الكلام وانحرف عنه هؤلاء الأدعياء في هذه الأيام يقول كما في كتاب (الفقيه والمتفقة) لشيخ الإسلام في زمنه الخطيب البغدادي في الجزء الثاني صفحة تسعة وستون 2/69 يقول سفيان الثوري إذا رأيت الرجل يعلم العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه، والله هذا هو الدين الحق وهذا هو صراط الله المستقيم أمراً اختلق فيه أئمتنا ودلت عليه شريعة ربنا وأنت تبنيت قولاً من الأقوال على ما تنهي غيرك وعلاما تحصد الحق في نفسك وهذا يقوله سيد المسلمين في زمنه الذي توفي سنة واحد وستين ومائة للهجرة 161هـ وحديثه في الكتب الستة ويقول شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في حقه كتبت عنه ألف شيخ ما فيهم أفضل من سفيان ويقول في حقه الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله لم يتقدمه في قلبه أحد ويقول فيه الإمام الأوزاعي لو قيل لي اختر لهذه الأمة إماماً يقتدون به ما اخترت لهم إلا سفيان، ويقول هنا العبد الصالح (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي أختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه) لأنه على بينة وعلى حجة وعلى هدى وأنت إن شاء الله كذلك فينبغي أن تتسع صدورنا لهذا.(104/20)
إخوتي الكرام: قبل أن أنتقل إلى الأمر الثاني، هذا الأمر الأول حقيقة ينبغي كما قلته أن نعيه تمام الوعي كما ذكرت في خاتمته ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل لا يحكم عليه بأنه بدعة في شرع الله جل وعلا ولا يجوز أن نبدل فاعله فانتبهوا لهذا اخوتي الكرام وحقيقة كم يحزن الإنسان عندما يسمع اختلافاً بين المسلمين في مسائل احتملتها أدلة وقال بها أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وقد عرض عليَّ أمران في بحر الأسبوع الذي نعيشه ونحن في آخر يوماً فيه وهذان الأمران من أئمة المساجد هنا وما قلت كثيراً من النابتة يفعلون على أئمة المساجد وعلى غيرهم من غير هدى ولا بينة الأمر الأول، إمامان من أئمة المساجد هنا من أهل الخير والصلاح ولا أزكي على الله أحداً كل منهما دعا في مسجده لنفسه بعد أن دعا مسح وجهه بيديه عقب الدعاء كل منهما ينبذ من قبل الحاضرين بأن هذا بدعة في الدين وأن الإمام مخرف وأنه من أتباع الشياطين نعوذ بالله من هذا الإفك المبين ومن أين حصلتم هذا العلم الذي لا تحسدون عليه ومن قال إن مسح الوجه باليدين عقب الدعاء بدعة؟ من قال؟ أما تتقون الله في أنفسكم عندما تصدرون هذا الأحكام في شريعة ربكم أم عندما تتطاولون على أئمة بيوت الله جل وعلا أما تستحيون من الله، فقلت لكل منهما بما أجاب يقول ما عندي كلام لأنني أعلم أن هذا مشروع وأنه كلن يفعل ثم بعد ذلك يقولون إنه بدعة.(104/21)
إخوتي الكرام: وحقيقة سمعنا هذا مراراً ومراراً فاستمعوا لهذه القضية التي سأذكرها لينتهي القيل والقال نحوها، إن مسح الوجه باليدين عقب الدعاء مستجب وقد نص على هذا أئمتنا الكرام منهم شيخ الإسلام النووي في كتابه الأذكار ومنهم الإمام الشوكاني في (تحفة الذاكرين) صفحة ستة وثلاثين صـ36 وانظروا كلام شيخ الإسلام الإمام النووي في الأذكار صفحة أربعة وأربعين وثلاثمائة صـ344، وهذا الاستحباب جاء من أدلة واردة عن نبينا صلوات الله وسلامه قد ورد في ذلك ثلاثة أحاديث فكونوا على علم بذلك يا أئمة المساجد إذا اعترض سفيهاً من السفهاء في هذه الأيام.
الحديث الأول: عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وقد رواه الإمام الترمذي في سنة والحاكم في مستدركه والبغوي في شرح السنة عن أمير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[إذا دعا ورفع يديه لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه] .
وهذا الحديث عمر رضي الله عنه ثبت معناه وما يدل عليه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما روى حديث عبد الله بن العباس رضي الله عنهم أجمعين رواه الإمام أحمد في المسند ورواه أبو داود في السنن وابن ماجة في السنن والحاكم في المستدرك والبغوي في شرح السنة ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم] .
والحديث الثالث: ثابت عن السائب بن يزيد ووالده يزيد بن سعيد السائب الصحابي رضوان الله عليهم أجمعين قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم -[إذا دعا ورفع يديه مسح بهما وجهه] ، والحديث رواه أبو داوود.(104/22)
إذاً حديث عن عمر وعن ابن عباس وعن السائب بن يزيد عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين أحاديث ثلاثة نعم لا يخلو حديثاً منها من كلام وضعف والحديث الأول قال عنه الترمذي غريب وما نقله الإمام عبد الحق من أن الترمذي قال عنه صحيح غريب ونقله بعض من يشتغل بهذا الحديث في هذا الحين وقال لحيف يصححه الترمذي وفيه ما فيه إذا الجواب عن ذلك يا عبد الله خذ علمك ما قرَّر أئمتنا الكرام قال الإمام النووي هذا الحكم عنا لتصحيح ليس ثابت في النسخ المعتمدة في سنن الترمذي إنما حكم عليه الترمذي أنه غريب ثلاثة أحاديث.
نعم إنها ضعيفة كما قال شيخ الإسلام الإمام النووي في الأذكار وقال ذاك الإمام ابن تيمية عليهم رحمة الله في الفتاوى لكن تعدد الطرق يرفعها لدرجة الحسن وما النص على ذلك نص على ذلك حذا في المتحدثين وأمير المؤمنين في كلام نبينا الأمين عليه الصلاة السلام الإمام ابن حجر العسقلاني في آخر كتابه (بلوغ المرام) وانظروا كلامه مع شرح الإمام الصنعاني عليه في سبل السلام في الجزء الرابع صفحة ثمانية وثمانون ومائتين 4/288(104/23)
قال الحافظ ابن حجر وتعدد طرق هذا الحديث يقضي بأنه حسن ثم قال الإمام الصنعاني وإنما شُرع لنا مسح الوجه بالكفين عقب الدعاء بأن الداعي عندما يدعوا يتعرض لنفحات الله ولنزول البركة عليه وإذا كان يرفع يديه فستلاقيان بركة عظيمة كبيرة فيستحب أن يمسح بهذه البركة كي تنزلت عليه أشرف أعضائه ألا وهو وجهه وهذا ثابت كما قلت في هذا المكان وهو مقرر عن أئمتنا الكرام، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الأربعة إلا سنن النسائي والحديث رواه بن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى ورواه ضياء المقدسي في (أحاديث الجياد المختارة) والخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين] ، فإذا رفعت يديك إلى الله هو الكريم هو الجواد سينزل عليك بركة فهذه البركة التي ستقابلها هاتان اليدان المباركتان عند دعاء ذي الجلال والإكرام يستحب لك أن تمسح بهما وجهك، هذا ما قرره أئمتنا والحديث كما قلت حسن وهذا يقوله شيخ المحدثين في زمنه الإمام ابن حجر إذا قالت حذا في فصدقوها فإن القول ما قالت حذا في فأي كلام لمتكلم بعد شيخ الإسلام الإمام أبي الفضل ابن حجر العسقلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولذلك أستحب أئمتنا هذا ثم على التنزل بأن الحديث ضعيف.. الحديث الضعيف يُعمل به في فضائل الأعمال فأي إشكالاً في ذلك فكيف بعد ذلك تطلق لسانك بلا ورع ولا تؤده ولا هوادة على من يأمُّك في الصلوات الخمس وتقول له إنك عندما تمسح وجهك عقب الدعاء أنت بدعة ها أنت مبتدع ومخرف، سبحان ربي العظيم.. إذا حرمك الله هذه الفضيلة لا تعترض على من فعلها لألا تكتسب رذيلة، أما كفاك أن الفضائل فاتتك جئت بعد ذلك لتعرض على عباد الله جل وعلا فيما قرره أئمتنا ووردت به أحاديث عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.(104/24)
هذا أمراً أول إخوتي الكرام: ولعلكم تسمعونه في المساجد على الدوام إذا رفع يديه بدعة.. إذا مسح وجهه بيديه بدعة، ما أعلم هذه النابتة التي نبتت في هذه الأيام بقول من تأخذ إلى من تحتكم، وهذا هو المقرر عند أئمتنا في كتبهم، وهذا هو المروي عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
والأمر الثاني: وهو أيضاً وقع في هذا الأسبوع جاءني بعض الأخوة الكرام وبعض الأخوة الحاضرين الآن يسمع هذا وسمع أيضاً ما جرى بين الإمام وبين المعترض عليه صليت الظهر في بعض المساجد فقال لي الإمام في اليوم الماضي يقول قرأ حديثاً من رياض الصالحين حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام من رواية أبي سعيد الخدري وسأذكر من خرجه بعد رواية إن شاء الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان] قال الترمذي حديثاً حسن وهو رقمه السابع والستين بعد الألف في رياض الصالحين قال المعلق على الكتاب كذا قال.. كذا قال الترمذي حديثاً حسن وكذا قال النووي يقره كذا قال وإسناده ضعيف لكن معناه صحيح لا داعي لهذا التلويث والتشويش على عباد الله.
وإذا قال الترمذي وغيره ليكن من جاء بعده فقال لي لما رويت هذا الحديث وأقرأه من رياض الصالحين اعترض أيضاً بعض هؤلاء النابتة وقالوا هذا حديثاً ضعيف لا يجوز أن تحدث به ولا أن ترويه عن النبي عليه الصلاة والسلام قلت سبحان الله ألهذا الحد. قال نعم، شيخ الإسلام الإمام النووي يرويه في رياض الصالحين وينقل تحسنه عن الترمذي ويقرِّه وهذا يعترض.(104/25)
وهذا الحديث إخوتي الكرام رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن ورواه ابن ماجة في سننه أيضاً ورواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وهذا الحديث رواه أيضاً الإمام البيهقي في السنن الكبرى وأبو نعيم في حلية الأولياء ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد من رواية دراجماً أبي سمعة أبي هيثم عن سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان] والحديث قد حسنه الترمذي وصححه الحاكم وصححه ابن حبان وصححه ابن خزيمة وصححه الإمام المنذري وصححه شيخ الإسلام الإمام ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله في فتح الباري وفي اقتصاره الترغيب والترهيب أئمة متعددون يصححون الحديث وعلى ذلك يتتابعون يأتيك بعد ذلك إنسان في هذا الوقت يقول كذا قال ... وإسناده ضعف ومعناه صحيح لأن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ... } وإذا دل هذا الحديث على ما دلت عليه هذه الآية أما يكفيك ذلك أن تقنع بهذا وأن تثبت عليه وأنلا تعترض على من يذكر هذا الحديث ويرويه إخوتي الكرام رجال الحديث ثقات أثبات ليس فيهم من جرى حولهم علام إلا دراج أبو السمع كما قلت وقيل اسمه عبد الرحمن وهو من التابعين الكرام أدرك عبد الله ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين وأدرك عبد الله بن الحارث بن جز الصحابي وآخر الصحابة وفاة في عهد مصر آخر من توفي بمصر من الصحابة عبد الله بن الحارث أدركه دراجاً ابن السمع وروى عنه كانت وفاة عبد الله بن الحارث بن جز سنة الخامسة والثمانين 85هـ وقيل السادسة والثمانين 86هـ وقيل السابعة والثمانين 87هـ وقيل الثامنة والثمانين 88هـ من الهجرة وأرجئها ثانيها.(104/26)
كما قال ابن حجر سنة السادسة والثمانين 86هـ فدّراج يرى عبد الله ابن عمر ويروي عن عبد الله ابن الحارث ابن حجر ويخرج حديثه البخاري في (أدب المفرد) وأهل السنن الأربعة وقد توفي سنة السادسة والعشرين بعد المائة من الهجرة 126هـ نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه دراج أبو السمع يوثقه الإمام ابن معين ويقول عنه عثمان البارمي صالح الحديث ويقول عنه أبو داوود أحاديث مستقيمة إلا في ما رواه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ويقول ابن عدي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه بعد أن ذكر أحاديث أنكرت عليه قال وماعدا هذا أرجو أنه لا بأس به ويقول الحافظ ابن حجر في التقريب صدوق وفي رواية عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين فكما قلت يشهد لها قول الله ودراج عليه رحمة الله ورضوانه منهم من وثقه توثيقاً مطلقاً ومنهم من قيد التوثيق في غير روايته كأبي الهيثم والمعنى صحيح ويصححه أئمة الإسلام جهابذة كرام، ثم بعد ذلك يعترض بعضاً على بعض على من يرد هذا الحديث ونذكره إنه حديثاً صحيحاً كما قلت ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه [إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان] وهو ثابت في تلك الكتب وقد نص على تحسينه وتصحيحه عدد من أئمتنا الكرام.
وأما المسألة الثانية إخوتي الكرام: فقد كان في آرائي وظني أن أتكلم عليها وكما قلت إنها تقرر ما سبق أن الأموات يسمعون وأنهم يفرحون بما يجري عندهم من طاعة ويحزنون ويستاءون بما يقع عندهم من معصية وهذا يقرر مبحثناً الذي تقدم وكان في نيتي أن أذكر هذا فيما تقدم من مواعظ لكن لم يُيسر الله ذلك لأن الوقت ينتهي فأرجئ الكلام عليه فكان في نيتي أن أتلكم اليوم عن هاتين المسألتين بعد أن كان في نيتي أن أتكلم على ثلاث فحذفت الثالثة وهي تعلق الروح بالإنسان في دوره الثلاث التي يدركها وقلت أقتصر على اثنتين وقد مضى ما مضى من الوقت على المسألة الأولى.(104/27)
وأرى لو قلت في المسألة الثانية في حديث نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الميت يعذب ببكاء أهله وببكاء الحي عليه وسرد الأقوال الستة في ذلك وتقرير ما تقدم عليه أن الأموات يفرحون بما يجري عندهم من طاعة ويحزنون بما يجري عندهم من معصية من هذا الحديث الشريف لو سردته كما قلت هذا لما وفيت الكلام حقه لذلك أرى أن أقف عند هذا المقدار وأن أكمل الكلام على هذه المسألة الثانية إن شاء الله وأن أتكلم عليها في الموعظة الآتية إن أحيانا الله.
نسأل الله أن يحييانا على الإسلام وإذا أماتنا أن يتوفانا على الإيمان ونسأله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد الله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض الله اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام..
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه الذي تقدم معنا وهو حسن حسنه أئمتنا وصححوه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه [إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان] على التسليم كما يقال جدلاً بأن في إسناده شيئاً من الضعف على التسليم فروايته رواية الحديث الموضوع ورواية الحديث المنكر والمتروك لا يجوز أن ترويه إلا أن تبين حاله وأن تحذر منه.(104/28)
أما من فيه ضعفٌ يسيرٌ لعدم حفظ راويه وضبطه فلا حرج في روايته دون بيان درجته وقد نص على ذلك أئمة الإسلام يقول شيخ الإسلام الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري في ألفيته الشهيرة وسهلُّوا في غير موضوعاً رووا من غير تبيناً لضعفاً ورأوا بيانه في الحكم والعقائد عن ابن مهدي وغير واحداً أي سهّل أئمتنا ورخصوا وأجازوا في رواية الحديث إذا لم يكن موضوعاً في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال دون بيان حاله إلا إذا تعلق الحديث بحكم شرعي وبعقيدة ينبغي أن يعتقدها الناس فينبغي أن تبين للناس أن الحديث لا يصلح أن يُستدل به لما فيه من ضعف ولا يصلح حكم ولا في عقيدة، وسهلوا في غير موضوع ورووا من غير تبيناً لضعف ورأوا بيانه في الحكم والعقائد عن ابن مهدي وغير واحداً فعلاما الاعتراض بعد ذلك على عباد الله وعلاما الشغب عليهم، علاما اللغلط في بيوت الله والأمر كما قلت على الحالتين جائز إذا كان الحديث صحيحاً وحسنٌ كما قرر أئمتنا فلا إشكال إن كان فيه ضعف يسير كما ترى أنني أو من تقلده فلا حرج.
إذاً في روايته كما قرر أئمتنا فعلاما التعالم على أئمة المساجد وعلاما اعتراضاً على عباد الله بالباطل.
أسأل الله جل وعلا أن يرزقنا الإنصاف إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين،
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.(104/29)
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك. ومن المقربين لديك. وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً. اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(104/30)
رجال يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
رجال يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..(105/1)
أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد ففيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون وقد نعت الله الذين يعمرونها بأنهم رجال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي خلقهم من أجلها رب الأرض والسماوات وهم الذين يصلون لله ويذكرونه في الغدو والعشيات وهم الذين يحسنون إلى عباد الله ويشفقون على المخلوقات وهم الذين يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: وقد عشنا في نور هذه الآية الكريمة مواعظ متعددة وتدارسنا الصفات الثلاثة الأولى من صفات هؤلاء الرجال الأبرار.
فتدارسنا الصفة الأولى: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع} .
وتدارسنا الصفة الثانية: لهم يذكرون الله {عن ذكر الله وإقام الصلاة} .
وتدارسنا الصفة الثالثة لهم: {وإيتاء الزكاة} .
والصفة الرابعة: لهؤلاء العباد الطيبين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} . وقد وقفنا عندها قبل شهر رمضان الكريم، وكانت مواعظ شهر رمضان حول منزلة شهر رمضان وفضائل شهر رمضان، ونرى أن نعود إلى هذه الآية لنكمل بدارستها وفهم معناها وبيان هذه الصفات التي نعت الله بها من يعمرون بيوته في هذه الحياة.(105/2)
اخوتي الكرام: الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وتقلب القلوب وحركتها واقترابها وتحويلها من أماكنها. نعم إن القلوب في ذلك اليوم العصيب الرهيب تصل إلى الحناجر من أماكنها فلا يستطيع الإنسان أن يخرجها من فيه ليستريح ويموت، ولا تعود هذه القلوب إلى أمكنتها ليستريح ويهدأ ويطمئن كما قال الله جل وعلا مقرراً هذا في سورة غافر {وأنذرهم يوم الآزفة إذِ القلوب لدى الحناجر كاظمين} ممتلئين غيظاً وهماً وغماً، {إذِ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع} {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} والأبصار في ذلك الموقف لا تستطيع أن تغمض ولا أن يطبق الجفن على الجفن، إنما هي شاخصة زائغة تدور يمنةً ويسرةً ولا تدري ماذا يفعل بها.(105/3)
كما قال الله جل وعلا: {ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون إنما يخَّرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار} فالأبصار لا تغمض ولا يطبق الجفن على الجفن ثم هي زائغة تدور لا تعلم ماذا سيحل بها ولا تعلم أين مصيرها إلى جنة أو إلى نار، فهؤلاء الأخيار الذين يعمرون بيوت الله في هذه الحياة يستعدون لهذا اليوم الذي {تتقلب فيه القلوب والأبصار} وهذا المعنى لتقلب القلوب والأبصار هو أرجح ما قيل في تفسير الآية من أقوال أربع، وعليه اقتصر الإمام الجليل شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في تفسير لهذه الآية فذكر هذا المعنى ولم يذكر سواه، وهو الذي رجحه شيخ الإسلام المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عليهم رحمة الله، والمعاني الثلاثة الآخرى لهذه الآية الكريمة {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب انتقالها من حال إلى حال، فتارة تطمع في رحمة ذي العزة والجلال وترجوا النجاة في ذلك اليوم، وتارة تنقبض وتخاف، فالقلوب في ذلك اليوم بين رغبة ورهبة، ما بين أمل ووجل، وهكذا الأبصار أيضاً، تتقلب وهي زائغة لا تعلم هل ستأخذ الكتب من اليمين أو من الشمال ولا تعلم ماذا سيؤمر بها إلى جنة أو إلى نار {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب وتحولها من حال إلى حال، ما بين أمل ووجل، وهكذا تتقلب الأبصار.(105/4)
والمعنى الثاني:- من المعاني الثلاثة غير المعنى الأول {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تتقلب القلوب يوم القيامة إلى يقين بعد شك، فالكفار الذين شكوا في هذه الحياة يوقنون بالحقيقة في ذلك الوقت على التمام، لكن ذلك إلا قال لا تنفعهم تقلبت قلوبهم بعد أن كفروا آمنوا، لكن الإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت، تقلبت القلوب وتغيرت، وأما الأبصار فهذه الأبصار التي كان فيه حدة وشدة في هذه الحياة وتلمز المؤمنين وتغمزهم هذه الأبصار تنكسر في ذلك الوقت وتتقلب وتكون ذليلة بطرقة خائفة، وهذا معنى ثانٍ أيضاً من معاني الآية من المعاني الثلاثة الأخرى، وآخر معنى وهو الثالث والرابع يكون مع المعنى الأول {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} تقلب القلوب والأبصار عندما تكون في النار كما قال العزيز الغفار {إنَّ الله لعن الكافرين وأعدَّ لهم سعيراً * خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيراً * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولاً *} .
وقال جل وعلا في سورة الأنعام: {ونقلب أفئدتهم كما لم يؤمنوا به أول مرة، ونذرهم في طغيانهم يعمهون} على معناً من المعنى التي تحتمله هذه الآية الكريمة كما هو مقرر في كتب التفسير عليه تقلب أفئدتهم، عقولهم وقلوبهم وأبصارهم في النار، إنهم لم يؤمنوا وهذا لم يؤمنوا بالقرآن وبالرحمن وبنبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، {ونقلب أفئدتهم ونذرهم في طغيانهم يعمهون} .
وكما قلت هذا أحد المعاني الذي تحتمله هذه الآية في سورة الأنعام وأرجح المعاني ما قدمته وهو أن القلوب في ذلك الوقت تتطرب وتخفق خفقاً وفزعاً من هول ذلك اليوم وتتحول من أماكنها وتصل إلى الحناجر فلا تخرج ولا تعدد إلى مكانها وهكذا الأبصار تدور وتزيغ {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .(105/5)
اخوتي الكرام: إذا أردنا أن نستوعب الكلام على وجه الأختصار على الصفة الرابعة فسيكون الكلام عليها ضمناً مقامين وأمرين وبحثين:
أولهما:- في الخوف الذي يتصف به {يخافون} .
والثاني:- في بين يوم القيامة وما يتعلق به.
أما الخوف فسأقصر الكلام عليه ضمن أربعة أمور:
أولها:- في تعريف الخوف.
وثانيها:- في منزلة الخوف.
وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة إن شاء الله.
وثالث:- الأمور المتعلقة بالخوف في ثمرة الخوف.
ورابع:- الأمور في أسباب الخوف.
وأما ما يتعلق بيوم القيامة {يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} فالبحث في ذلك طويل وسيأخذ معنا مواعظ متعددة نسأل أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه ومعرفة معنى كلامه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اخوتي الكرام: أما ما سنتدارسه كما قلت في هذه الموعظة في الأمرين المتعلقين بالخوف في بيان معنى الخوف وفي منزلة الخوف.
الخوف اخوتي الكرام حقيقة كما قرر العلماء الإسلام (احتراق القلب، وتألُّمه لتوقع مكروه في المستقبل عن أمارة أي علامة مظنونة أو معلومة فمن توقع مكروهاً سينزل به في المستقبل في هذه الحياة أو بعد الممات، يعتري قلبه حالة، هذه الحالة هي حالة الخوف هي حالة الوجل هي حالة الإشفاق، هذا هو الخوف، الخوف احتراق القلب، تألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة، وقد قرر علمائنا الكرام أن ما يعتري الإنسان في هذه الحياة من خير وشر من محمودٍ ومذمومٍ من شيءٍ يحبه أو شيءٍ يكرهه، ما يعتريه ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة في حلوله عليه وشعوره به.(105/6)
إما أن يكون هذا الذي في الإنسان شيءٌ مضى وانقضى، إنما يتذكره في هذه الأيام، من خير أو شر، من محمود أو مذموم، حالة مرت عليه في الزمن الماضي، فإذا تذكرها يقال لهذه الحالة ذكر وتذكر للماضي، فإن كانت في أمر محمود فرح، وإن كانت في أمر مذموم حزن، حزن على شيءٍ فاته أو فرح بأمرٍ فاته مما يحبه أو يكرهه، هذه الحالة الأولى، حالة ماضيه تتذكرها الآن يقال لها ذكر وتذكر.
وشيء آخر يقع عليك مما تحبه أو تكرهه لكنه يقع عليك في الزمن الحاضر فهو يباشرك، ويقال لهذه الحالة التي تكون في الزمن الحاضر يقال لها ذوق وإدراك ووجد لأنك تجد هذا وتذوقه في هذا الوقت، وهذا الذي ينزل عليك إن كان محبوباً يعقب الرضا، وإن كان مكروهاً يعقب السخط، فتشعر بحالة الرضا بحالة السخط، تذوق هذا، تتلذذه، تكرهه، في هذا الوقت، بينما هناك كما قلت حزن أو فرح، وأما هنا رضا أو سخط.(105/7)
والحالة الثالثة:- التي تعتري الإنسان ولا تخرج أحوال الإنسان عن ذلك حالة مستقبلة ستنزل به ويفكر فيها فيقال لها: توقع وانقطاع، يتوقع، فإن كانت في محمود أو محبوب سميت تلك الحالة رجاءً وأملاً، وإن كانت تلك الحالة المتوقعة في مذموم ومكروهٍ سميت تلك الحالة خوفاً وإشفاقاً ووجلاً، وهذا ما قررته في تعريف الخوف، تأمل القلب، احتراق القلب بسبب توقع مكروه، سينزل عليك في المستقبل عن أمارة يقينية معلومة أو مظنونة عليه، هنا ما تتوقع أنه سينزل بك إن كان محموداً يسرك، فرحت، وهذا يقال له أمل، يقال له رجاء، وإن كان سينزل بك وهو مكروه تخافه وتحزن يقال هذا خوف، إشفاق، وجل، وهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} فلنطبق تعريف الخوف على حالتهم كل واحد منا اخوتي الكرام يوقن يقيناً أنه سيموت وبعد الموت سيبعث وسيأتينا تقرير البعث بأدلته التي لا يماري فيها عاقل في المبحث الثاني من المباحث إن شاء الله، وإذا كان الأمر كذلك سنبعث كما نستيقظ، وسنموت كما ننام، إذا كان الأمر كذلك سنموت وسنبعث، لا يخلو واحد منا من تفريط وتقصير في حق الله جل وعلا وما يعلم هل سيغفر له أم لا، إذا علم أنه سيؤول إلى الله وهو صاحب تفريط وتقصير وعصيان، ماذا سيكون حاله، إذا توقع عقوبة من الله وغضباً من الله سيعتري قلبه في هذه الحياة الحالة التي ذكرتها وهي الخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل نعم من علم هذا سيخاف ولا بد، رضي الله عن الحسن البصري عندما يقول كما في حلية الأولياء (من علم أن الموت مورده وأن الساعة موعده وأن الوقوف بين يدي الله مشهده حقيق به أن يطول حزنه في هذه الحياة، وأن يخاف من رب الأرض والسموات) الموت سترده ولا شك في ذلك، والقيامة موعدك لا شك في ذلك، سيجمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، ويحصي عليهم مثاقيل الذر {فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} ،(105/8)
{ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً *} .
الموت موردنا والقيامة موعدنا والوقوف بين يدي الله مشهدنا ليحاسبنا على النقير والقطمير وعلى القليل والكثير، فمن استحضر هذا سيخاف ولا شك من الله الجلي {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} ويقو سيد المسلمين الحسن البصري أيضاً يقول عليه رحمة الله كما في الحلية (يكون الإنسان بين خوفين لا ينفك عنها وإن كان محسناً، إذا عاقلاً مهما وصل في درجة الإحسان وطاعة الرحمن هو بين خوفين لا ينفك عنها، ولا يفارقان قلبه طرفة عين، قيل له ما هما؟ خوفان يلازمان الإنسان قال ذنب مضى ما تدري بالله صانع فيه هل سيغفر لك أو ستعاقب عليه، وذنوب عملتها في ما مضى ونحن نخطئ في الليل والنهار، ونسأله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع الفضل والمغفرة، ذنب مضى لا تدري ما الله صانع فيه، وأجل بقى: أي من حياتك لا تدري ما أنت عامل فيه يا عبد الله، إذا كنت الآن في نعمة الإيمان هل تعلم أن هذه النعمة ثتثبت لك على الدوام.(105/9)
نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولذلك إذا كان الأمر كذلك حقيقة الإنسان بين خوفين لا ينفك عنها لا يعلم ماذا سيعمل في المستقبل ولا يعلم بأي شيء سيعامله في ما جرى منه، ولذلك كان الحسن البصري عندما يقال له: أمؤمن أنت فيقول: أرجو، قيل له: أشك يا أبا سعيد؟ أتشك في إيمانك؟ قال ليس بشك، لكن ما يدريني أن الله اطلع علي ذنب من ذنوبي فقال: يا حسن اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني أن الله اطلع على عمل من أعمالي السيئة وعلى ذنب من ذنوبي وعلى عيب من عيوبي فمقتني، فقال: اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني بأي شيءٍ سيختم للك، لا تدري، ما جري منك ما حاله عند الله، ما تدري، أنت بين خوفين لا ينبغي أن يفارق قلبك طرفة عين، {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
اخوتي الكرام: أخبرنا ذو الجلال والإكرام أننا سنرد على النار وهذه قضية مفروغ منها وهل سننجو أم لا؟ لا يعلم هذا إلا الله {فوربك لنحشرهم والشياطين ثم لنحضرنَّهم حول جهنَّم جثيّاً * ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً * ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها يصلياً * وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً *} هذه النجاة هل تضمنها لنفسك يا عبد الله.(105/10)
ثبت في كتاب المصنف للإمام ابن أبي شيبة، وكتاب الزهد للإمام أحمد عن الحسن البصري رضي الله عنه وعن سلفنا أجمعين قال: (كان الرجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ألتقيا يقول أحدهما لصاحبه: هل أخبرك أنك سترد على النار قال: نعم، أخبرنا بذلك، وأن الله أخبرنا أننا سنرد على النار فيقال له: هل أخبرت أنك ستصدر عنها وتخرج منها وعندك صك بذلك؟ فيقول: لا، فيقول كل واحد لصاحبه، فعلام نضحك؟ وعلام الضحك؟ عندنا الآن إثبات بالورود على النار لكن بالخروج منها والصدور عنها هل تجزم ذلك لأنفسنا أم لا، لا يعلم ذلك إلا الله {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً *} .
انظروا اخوتي الكرام لهذه القصص التفصيلية لهذا الإجمال الذي ذكره الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله وسأذكر قصتين فقط، قصة لصحابي وقصة لتابعي رضي الله عنهم أجمعين.(105/11)
أما الصحابي فهو عبد الله بن رواحة استحضروا قصته وطبقوها على قول الله تعالى {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} روى الإمام أحمد في الزهد والأثر رواه وكيع وعبد الله بن المبارك، وهنَّاد بن السري في كتابه كتب الزهد لهم أيضاً، والأثر رواه عبد بن حميد في مسنده وابن أبي شيبة في المصنف ورواه الإمام الطبري في تفسيره ورواه الحاكم في مستدركه وصححه ورواه البيهقي في دلائل النبوة والبعث، وإسناد الأمر صحيح لكن فيه إرسال كما سأوضح عن قيس بن حازم، وقيس تابعي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، لكن تكتحل عيناه لرؤية نبينا - صلى الله عليه وسلم - فما قدر له أن يلتقي به، لكنه كان في زمانه ولو ألتقى به لثبت له شرف الصحبة، وذلك يقال له: مخضرم، توفي سنة تسعين للهجرة 90هـ أو بعده أو قبلها وقد جاوز المائة وهو من أئمة التابعين الصالحين، حديثه مخرج في الكتب الستة، وهو من روي عن العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم، رواية قيس بن أبي حازم عن صاحب هذه القصة وهو عبد الله بن رواحة مرسلة فلم يلتقي به ولم يسمع ذلك منه، نعم قصة بكاء عبد الله بن رواحة المذكورة في هذه الآية، واردة من عدة طرق يتقوى بعضها ببعض، فالأثر صحيح وخلاصته أن عبد الله بن رواحة كان متكئاً في حجر زوجته وهي تفلي شعره كداعبة وهو في حجرها في حال معاشرة أباحها الله، فبكى رحمه الله ورضي عنه، فبكت زوجته لبكائه، فلما انتهت عنهم العبرة وانقطع بكاؤهم قال لزوجته على ما بكيت؟ قالت: رأيت بكيت فبكيت، فما أبكاك أنت؟ سبحان ربي العظيم يعاشر زوجته ورأسه وحجرها لكن قلبه {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} قلبه في الآخرة وإن كان البدن مع الزوجة، ما يعلم هل سيستقر في النار أو سيكون مع الأبرار في الجنة بجوار العزيز الغفار، بكيت فبكيت فما أبكاك؟ قال: ذكرت قول الله جل وعلا: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً} أخبرنا الله في هذه الآية أننا(105/12)
سنرد على جهنم وأننا سندخلها ولكن ما أعلمها أنني سأخرج منها أو أصدر عنها أم لا فهذا الذي أبكاني، حقيقة الذي يتفكر في هذا يتفطر قلبه.
اخوتي الكرام: وهذا بين لنا معنى الورود ومعناها الدخول وهو أحد القول في تفسير الورود في قول ربنا المعبود {وإن منكم إلا واردها} أي داخلها.
والقول الثاني:- أن المراد من الورود هو المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم وفوقها وظهرها وعليه لا يدخلون إلى داخلها، لكن يمرون فوقها، فمن كان تقياً يمر ولم يسقط، ومن كان مخلطاً مفرطاً سقط من الصراط إلى قعر جهنم، ولا تنافي بين التفسيرين وسيأتينا إيضاح هذا عند أحوال يوم القيامة، فمن فسر الورود بالدخول أخبر كما ورد في الآثار ولكما قلت سيأتينا تقرير هذا وتفسيره أن المؤمن إذا دخل النار تكون عليه كالحمام، لايتأذى بحرها ولا يصطلي بنارها وتكون عليه كحال النار التي كانت على خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في هذه الحياة ومن فسر الورود بالمرور فهذا أمر واضح لا يدخلون النار، إنما يمشون فوقها على الصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ومع ذلك لا يثبت هو ضمن مزلة، يمرون عليه، هذا المرور هو الورود وعلى الحالتين لا يقاسون العذاب فيها إن كانوا من المتقين، إذاً أخبرنا أننا سنرد لكن هل سنخرج ونصدر ما عندنا بعد ذلك يقينياً في ذلك، هل تتحقق فينا الصفات وهي التقوى لرب الأرض والسموات، وكل إنسان يعلم ما عنده من تفريط وكدر وذلك عندما يستحضر الإنسان هذا ينطبق عليه هذا الوصف {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .(105/13)
والقصة الثانية اخوتي الكرام: رواها الإمام أحمد أيضاً في الزهد وهناد بن السري في الزهد أيضاً ورواها عبد الله بن المبارك في الزهد، والإمام الطبري في تفسيره وابن أبي شيبة في المصنف ورواها الإمام أبو نعيم في الحلية ع التابعي الجليل وهو مخضرم أيضاً أدرك الجاهلية والإسلام ولم يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل من الأئمة الصالحين توفي سنة ثلاثة وستين للهجرة 63هـ حديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن الإمام ابن ماجة، هذا العبد الصالح تقول زوجته كان كلما دخل معها في الفراش يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني، فلما تكرر منه هذا قالت له زوجته علام تقول هذا؟ قد أنعم الله عليك بالإسلام وفعل وفعل وأنت من العلماء الربانيين في هذه الأمة، علام تقول هذا؟ قال: يا أمة الله أخبرنا الله جل وعلا أننا سنرد على النار {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً *} وما أعلم هل سأخرج منها أم لا كلما يضجع في فراشه يتذكر ذلك اليوم الذي لا يغيب عن المؤمنين طرفة عين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} عشرة مع زوجته في الليل لكن قلبه مع ربه يفكر فيما سيؤول حله عندما سيرد النار، هل سيخرج منها أم لا.
اخوتي الكرام: وما جرى من هذا التابعي المخضرمي الجليل المبارك من قوله (يا ليت أمي لم تلدني) أثر هذا عن عدد من السلف الكرام من صحابة وتابعي رضوان الله عليهم وليس في ذلك اعتراض على تقدير رب العالمين، إنما في ذلك إتهام للنفس واعتراض بتقصيرها، وفي ذلك خشية من خالقها وفاطرها وبارئها وهو الله جل وعلا، وهذا معنى الأثر ولا أقول هذا اعتراضاً على الله عز وجل (يا ليت أمي لم تلدني) .(105/14)
إذاً اخوتي الكرام: هذا حال الخوف وتعريفه، احتراق القلب، تألم القلب بتوقع مكروه يقع في المستقبل عن أمارة معلومة أو مظنونة، فمن علم ماذا سيكون بين يديه فما سيستقبله عند لقاء ربه، ينبغي أن يطول حزنه في هذه الحياة وأن يكثر خوفه من رب الأرض والسموات، وهذا هو نعت المؤمنين الذين يعمرون بيوت رب العالمين {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} . وبعد تعريف الخوف يحسن بنا أن ننتقل إلى بيان منزلة الخوف في الإسلام، ودرجة الخوف في الإسلام، وهل هو من أركان العظام أو هو من المستحبات والمندوب إليها في شريعة الإسلام.
اخوتي الكرام: لا بد من وعي هذه القضية، فالله جل وعلا ذكر في صفات هؤلاء العباد الطيبين الذين يعمرون، هذه الحياة لا تلهيهم تجارة لا بيع، وهذا واجب، ومن آله، هذه الحياة عن طاعة رب الأرض والسموات فهو في النار ثم بعد ذلك يقيمون الصلاة واجب ثم بعد ذلك يؤتون الزكاة يشفقون على عباد الله واجب، ثم يخافون هذا أوجب الواجب، ولا يمكن أن تقبل شيء من ذلك الاعتبارات والأمور والواجبات إلا بعد تحقيق الخوف من رب الأرض والسموات.(105/15)
اخوتي الكرام: الخوف له منزلة عظمية في الإسلام والخوف مع الرجاء للإنسان كالجناحين للطائر من الحيوان، فإذا كان الطائر لا يمكن أن يطير بغير جناحه لا يمكن للإنسان أن يسير على هدىً وأن يعبد المولى جل وعلا في هذه الحياة إلا إذا اتصف برجاء الله والخوف منه. خوف ورجاء، وهما كما قلت للإنسان كالجناحين للطائر، وقد قرر هذا أئمتنا الكرام الأبرار، نقل هذا أئمتنا عن العبد الصالح أبو علي الروذباري وهو من العلماء الربانيين والصالحين في هذه الأمة توفي سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة للهجرة 323هوهو أبو علي الروذباري أحمد بن محمد بن القاسم، والروذباري يقول علماؤنا هذه كلمة تقال على أماكن اجتماع أنهار الكبار وكان هذا من الصالحين وكان شيخ المتصوفة الصادقين في بلاد مصر في القرن الرابع للهجرة، وكما قيل له: من الصوفي؟ قال: الصوفي هو من لبس الصوف على الصفا واتبع طريق النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأذاق الهوى طعماً الجفى، وكانت الدنيا منه على قفى، عبدٌ صالح من العلماء الصالحين، وأما ما يتعلق بمبحث التصوف وما دخله من خلط وتكرير، وهذا موجود في سائر الجماعات والفرق التي دخلها خلط وتكرير يأتينا الكلام بالتفسير عن هذه الفرقة بعون الله لنتبين الصادق من الكاذب ممن ينتسبون إلى التصوف.(105/16)
اخوتي الكرام: هذا من أئمة الصالحين الربانيين وأئمتنا يقولون كان ذا عقلٍ وفضل، ومن كلامه المحكم يقول في طيب الآخرة عز النفوس وفي طلب الدنيا مذلة النفوس فيا عجب لمن يكثر الذل في طلب الفاني على العز في طلب الباقي، ويروي عنه أبي نعيم في الحلية والإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام القشيري في الرسالة أنه قيل عمَّن يزعمون أنهم يستمعون الملاهي آلات العزف والغناء والموسيقى ويقول إنها لا تؤثر فيهم لأنهم وصلوا إلى حالة لا يؤثر فيهم اختلاف الأحوال، قال صدقوا، وصلوا إلى سقر، وصلوا ولكن إلى سقر لأن هذا ليس من طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتصوف الحق أن تتبع طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال، (ومن ادعى أنه وصل إلى حالة يسقط عنه فيها التكليف فهو أحط من البهيمة عند الله جل وعلا، وأولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون) يستمع الملاهي ثم يقول لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال وهي في حق حلال لأنه واصل، واصل ولكن إلى سقر، يقول هذا العبد الصالح (الخوف والرجال للإنسان كالجناحين للطائر فإذا استويا تم طيرانه، وإذا وقع النقص في أحدهما نقص الطيران بمقدار النقص الذي في هذا الجناح، فإذا عدم الجناحان وعدم الخوف والرجاء من الإنسان فالطائر في حكم الموت وهكذا من فقد الخوف والرجاء فكأنه خرج من الإيمان.
اخوتي الكرام: خوف ورجاء، خوف ورجاء للإنسان في هذه الحياة كالجناحين للطائر، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسن البصري عندما قال: (الخوف والرجاء مطيتا المؤمن يركبهما في هذه الحياة ويركب مطية الخوف ليترك المحرمات ويركب مطية الرجاء ليفعل الطاعات ويركب مطية الرجاء ليرجوا نعيم الجنات، يركب مطية الخوف ليحذر جهنم والدركات)
إذاً الخوف والرجاء مطيتا المؤمن.(105/17)
إخوتي الكرام: قرر علماء الإسلام أن عبادة الله جل وعلا واجبة على العبيد في هذه الحياة، والله خلقنا من أجله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وقال علماؤنا الكرام وروح العبادة وجوهرها محبة الله جل وعلا، وهذه المحبة لها دعامتان، ركنان لا يمكن أن تكون المحبة تامة كاملة إلا بهما، خوف ورجاء، وعليه الدين كله يقوم على هذه الأمور الثلاثة، لا يمكن أن يعبد الإنسان عبادة حقة بدونها، محبة الله، خوف منه، رجاء له، قرر هذا أئمتنا الكرام كما ذكر شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتابه القيم التحفة العراقية في مطبوع وموجود في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر من أول المجلد إلى نهاية الصفحة تسعين التحفة العراقية في الأعمال القلبية، وهذا قرره تلميذه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين أن أركان العبادة ثلاثة، حب، وخوف، ورجاء، مقرر هذا أيضاً في مدارج السالكين، وهذا منقول عن أئمتنا التابعين، يقول مكحول الدمشقي الذي توفي سنة بضع وعشر ومائة وهو من التابعين وقال أئمتنا إنه أفقه من الإمام الزهري يقول هذا العبد الصالح وهو من رجال مسلم والسنن الأربعة، ثقة عدل الرضا يقول: (من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي) وشرح كلامه أن من قامت فيه هذه الأمور الثلاثة محبة الله ووجد ركنا المحبة والخوف والرجاء فقد انضبط سلوكه في هذه الحياة وعبد الله كما يريد الله وكما يحب، فهذا موحد صديق، وسيأتينا تقرير هذا بكلام الله المجيد ن ومن عبد الله بالحب فقط دون خوف ولا رجاء فهذا زنديق، يدعوه الإدلال والبسط أن يعامل محبوبه وهو الله كما يعامل المحبوبة من البشر فيقول معه حالاً، ينبغي أن يقوله في حق الله جل وعلا، ويحمله الإدلال والبسط مع ربه أن ينزل الله كأنه مخلوق من المخلوقات، فمن عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ويأتي شيءٌ ضل(105/18)
اليهود والنصارى عندما زعموا أنهم أبناء الله وأحباءه، وأن الله لن يعذبهم ومهما فعلوه فهو مغفور لهم، وهكذا من عبد الله بالحب دون خوف ورجاء فنهاية أمره إلى الزندقة سيستمع الملاهي ويقول إنها لا تؤثر فيه، نعم وصل ولكن إلى جهنم، ومن عبد الله بالخوف فقط، أي: دون محبة دون رجاء فهو حروري والحرورية هم الخوارج عندما اجتمعوا في بلدة حروراء في ظاهر الكوفة فنسبوا إليها، وهؤلاء دينهم واعتقادهم قائم على التخويف، فلا رجاء عندهم ولا محبة منهم لربهم جل وعلا ولو أخطأ الإنسان خطيئة في هذه الحياة حكموا بكفره وخلود في نار جهنم، من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، أي من الخوارج الضالين، ومن عبد الله بالرجاء والأمل، رجاء وأمل دون خوف ووجل فهو مرجئي، والمرجئة هم الذين يقولون لا يضر مع كلمة الشهادة خطيئة، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وعليه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله درجته مع درجة الصدِّيقين مهما فعل بعد ذلك من إثم ومعصيته لرب العالمين، مرجئي، حروري، زنديق، صديق، أربعة أصناف ولا يخرج الناس عن هذا، من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبد الله بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئي، هذه الأمور الثلاثة وهي أركان العبادة قررها الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن من ذلك قوله جل وعلا في سورة الأنبياء {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} يسارعون في الخيرات لحبهم لنا وبطلبهم المنزلة عندنا، ويدعوننا رغباً راجين، رهباً خائفين.
إذاً هم يسارعون في الخيرات لمحبتهم لله، ويرجون رحمة الله، يخافون من عذاب الله، وضمير الجمع في قوله {إنهم} ذكر أئمتنا في بيان مرجعه قولان، يجمع بينهما ولا تعارض بينهما.(105/19)
القول الأول: أن الضمير يعود إلى من تقدم ذكرهم من أول سورة الأنبياء إلى هذا الموطن، فذكر الله في سورة الأنبياء موسى وهارون، وذكر إبراهيم، وذكر لوطاً، وذكر إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذكر أيضاً في سورة الأنبياء داود وسليمان وأيوب وذا الكفل وذا النون، ثم جاء إلى آخر من ذُكِرُوا في هذه الآية {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} فجمع من تقدم ذكرهم من أنبياء الله هذا وصفهم، وذهب بعض الأئمة الكرام إلى قصر الضمير إلى آخر المذكور وهو زكريا وولده يحيي وأهل زكريا {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه} .
هؤلاء الأصناف الثلاثة من زكريا وزجه وولده {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} وتخصيص من تعميم، ففي القول الأول دخل هؤلاء الصالحون المباركون مع من ذكروا قبلهم، والقول الثاني قال أن الضمير خاص بهم والأمر يسير، ويفهم من كلام الإمام بن كثير الميل إلى القول الثاني حيث نقل خطبة أبي بكر ونقلها عن تفسير ابن أبي حاتم وهي مذكورة أيضاً في حلية الأولياء في ترجمة أبي بكر، أنه خطب المسلمين فقال في خطبته (أما بعد أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، أي الخوف بالرجاء، الأمل بالوجل،، وأن تجمعوا بين الإلحاف والمسألة، الإلحاف وهي الإلحاح في السؤال، وسؤال ذي العزة والجلال، فإن الله ذكر زكريا وأهله فأثنى عليهم بذلك فقال {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيي وأصلحنا له زوجه، إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} .(105/20)
والشاهد على القول {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} لمحبتهم لرب الأرض والسموات، ويدعون الله طامعين خائفين راغبين راهبين، {وكانوا لنا خاشعين} ، وهكذا قول الله أيضاً في سورة الإسراء يقول رب الأرض والسموات {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً * أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً} .
أولئك الذين يدعون، أي تدعونهم وتعبدونهم من دون الله يتصفون بهذه الصفات، {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب} هم يتنافسون في طاعة الله ويريدون الحضرة عنده والمنزلة لديه لحبهم لربهم {ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً} .(105/21)
والآية نازلة كما صحيح البخاري، والأثر رواه الحاكم في المستدرك، وهو في صحيح البخاري كما علمتم، والأثر رواه الإمام ابن جرير في تفسيره، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، وهو موجود في كتب التفسير المتقدمة كتفسير ابن المنذر وابن مردويه، وتفسير ابن أبي حاتم، ورواه الإمام أبو نعيم في دلائل النبوة، وإسناد الحديث صحيح فهو في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال هذه الآية نزلت في ناس من الإنس كانوا يعبدون ناساً من الجن، فآمن الجن بعد بعثة نبينا - صلى الله عليه وسلم - فبقي أولئك الناس من الإنس يعبدون هذا الفريق من الجن وهؤلاء الجن آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبدءوا يحبون الله ويخافونه ويرجونه، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها فيقول {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} أي من تعبدون من دوني هم يتقربون إليَّ بحبي ويرجوني ويخافوني، فاعبدوني كما عبدني من تعبدوه {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} والأثر كما قلت في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعودٍ، واستشكال الإمام بن التين لما ورد من لفظ في هذا الأثر، وهو عبد الواحد ابن التين توفي سنة إحدى عشر وستمائة للهجرة 611هـ، استشكاله ورود لفظ الناس في حق الجن (كان ناساً من الإنس يعبدون ناساً من الجن) وقال: الجن يطلق على خلاف الإنس، فكيف يستعمل لفظ الناس في حق الجن؟ فقال: هذا مشكل، يقول الإمام ابن حجر عليهما رحمة الله راداً هذا الإشكال: إن لفظ الناس هذا لا يراد منه الناس الذي يقابل الجن، إنما يراد منه اشتقاق اللغة من الناس ينوس إذا تحرك، وصفة الحركة موجودة في الإنس والجن، فكان ناس من الإنس الذين فيهم صفة الحركة والحيوية يعبدون ناساً من الجن يتحركون أيضاً، وليس المراد أن الناي من الجن أن(105/22)
أفضل الناس لا يطلق على الجن لأن الجن يقابل الإنس، لا ثم لا، ثم ختم الإمام ابن حجر كلامه فقال: ليت شعري على من يعترض ابن التين على من يعترض، يعترض على الصحابي حجة في الشرع وفي اللفظ على الجن مراعياً هذا المعنى من الناس الذي هو الحركة والتحرك والإضراب فكان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن، في كل من هذين الصنفين كما قلت حركة واضطراب، فأنزل هذه الآية يعيرهم بها.(105/23)
وهذا الأثر ثابت في نزول هذه الآية لا يتعارض مع ما رواه ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود أيضاً، أن الآية نزلت في صنف من العرب كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله جل وعلا، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم ويعيبهم بها فقال {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} أي من تعبدونهم من الملائكة هم يعبدوني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني كما عبدني الملائكة الكرام، وهذا الأثر كما قال عن الحافظ بن حجر إن شبت فيجمع بأن الآية نزلت رداً على الفريقين، على من عبد فريقاً من الجن ثم آمن أولئك الجن، وعلى من كان يعبد الملائكة الكرام ثم استشكل بعد ذلك فقال ظاهر الأثر يدل على أن المعبودين كانوا راضين بعبادة العابدين، والملائكة لم يرضوا بعبادة ذلك فالله أعلم بحقيقة الأمر ن والذي يظهر والعلم عند الله، أن هذا الاعتراض لا يرن، وأنه لا يلزم من عبادة المعبود أن يكون المعبود راضياً بعبادة عابده، فإذا عبد واحد من البشر من نبيٍ أو ملك لا يلزم من هذا أن يكون راضياً، فإذا كان الجن كانوا يُعبدَون في الجاهلية ثم أسلم من كان يُعبَد منهم، ففي حال جاهليتهم كانوا يرضون العباد، وفي حال إسلامهم يرفضونها، لا يعني هذا أن الإنسان إذا عبد ينبغي أن يكون راضياً سابقاً بالعبادة، لا يلزم هذا على الإطلاق، وليس في اللفظ ما يشير إلى ذلك والعلم عند الله جل وعلا، ولا يتعارض هذا مع ما ثبت في تفسير الطبري عن عبد الله بن عباس أن الآية نزلت فيمن عبدوا عيسى وأمَّه والعزير والشمس والقمر، فيمكن أن يقال أن الآية نزلت فيمَّن عبد غير الله وكان ذلك المعبود يعبد الله، فالله أكبر العابدين، أن من تعبدونهم يعبدونني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محظوراً *} .(105/24)
وخلاصة الكلام لابد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة في عبادة الرحمن، محبة لله، ورجاء له، وخوف منه.
أما الخوف كما قلت والرجاء فهما للعبادة كالجناحين للطائر، وقد نوه الله جل وعلا بشأن الخوف الذين وصف الله عباده به في آية النور {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} يقول الله جل وعلا في سورة السجدة: {إنَّما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكِّروا بها خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون * تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون *} .
وهكذا يقول الله جل وعلا في سورة الأعراف {ادعوا ربكم تضرعاً وخُفْيةً وإنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً، إنَّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين} فالخوف إذاً خصال أهل الإيمان، من خصال من يعمرون بيوت الرحمن {يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
وهذه الصفة التي فيهم ينبغي أن تصرف نحو الله جل وعلا، ولا يجوز أن تصرف نحو أحد من خلق الله، فالمؤمن يخاف من الله وكفى، ولا يخاف من مخلوق مهما كان شأنه، وقد نهانا الله جل وعلا عن الخوف إلا منه وحذرنا من الخوف من غيره وأمرنا أن نخاف وأن نفرده بذلك سبحانه وتعالى، يقول الله جل وعلا في سورة آل عمران {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا لهم أجرٌ عظيمٌ * الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضلٍ عظيمٍ * إنَّما ذلكم الشيطان يخَوَّفُ أولياءه، فلا تخافوهم وخافوني إنَّ كنتم مؤمنين *} .(105/25)
وهذه الآيات نزلت بعد ما حصل ما حصل في موقعة أحد، كما روى ذلك الإمام الطبري في تفسيره والإمام الطبراني في معجمه الكبير، والإمام النسائي في سننه الكبرى، وابن مردوية في تفسيره، وإسناد الأثر صحيح عن عبد الله بن عباس قال: لما انتهت موقعة أحد ورجع أبو سفيان الذي رضي كما يقال من الغنيمة بالإياب والسلامة والهرب، مال له المشركون ولأصحابه بئسما فعلتم، لا محمد - صلى الله عليه وسلم - قتلتم ولا الكواعب أردفتم، أم عملتم في هذه المعركة ما أتيتم بأسيرات من المؤمنات ولا قتلتم خير البريات، فبئسما فعلتم، جئتم تقولون انتصرنا، ما هو النصر الذي حصل لكم، لا محمد - صلى الله عليه وسلم - قتلتم ولا الكواعب أردفتم، وهي النساء التي تكعب ثديها في صدرها فبئسما ما فعلتم، فأخذت الحمية أبا سفيان وهم بالرجوع لمقاتلة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يأتي بالكواعب الحسان، فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك استنفر الصحابة الكرام وشرط عليهم أن لا يخرج إلا من حضر موقعة أحد فقط ليعلم الكفار أننا إذا خسرنا في معركة لأمر من الأمور فما خسرنا الحرب في المعركة، كيف سينال شرف الشهادة {وتلك الأيام نداولها بين الناس} فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن معه من الصحابة الكرام وقد أصابهم القرح كما قال الله: {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القَرح} وقرأ الأخوان حمزة والكسائي وخلف من العشرة وأبو بكر شعبة عن عاصم رضي الله عنهم، القرح بضم القاف {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القُرح} وقيل أن القراءتين بمعنى واحد كالضَعف والضُعف والفَقر والفُقر، وقيل أن القرح بالفتح هي الجراح والقتل، وبالضم الآلام الناتجة عن الجراح والقتل {الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيمٌ *} خرجوا ووصلوا إلى حمراء الأسد، تبعد ثمانية(105/26)
أميال 8 ميل من المدينة المنورة على منورها - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون الجنان الذي يريد أن يسأر من النبي - صلى الله عليه وسلم - {من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم * الذين قال لهم الناس} وهم المنافقون ونعيم بن مسعود الأشجعي وكان على شركه وفريق من المسافرين قابلوا النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الطيبين فقالوا: كيف خرجتم للقاء أبي سفيان والمشركين جمعوا لكم جموعهم وأنتم لم تخرجوا إلا بمن بقي عندكم من موقعة أحد، ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأثر مروي في غير صحيح البخاري عن هذا الصحابي الجليل (وعندما ألقي إبراهيم في النار قال (حسبي الله ونعم والوكيل) وعندما قال الناس لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إن الناس قد اجمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) وهكذا قال صحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين {فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ} أما النعمة حصلوا أجر غزوة أخرى وحصلوا العافية لما جاء أبو سفيان ولَّى من معه من المشركين، والفضل بأعواد اشتروا وغنموا سرية في طريقهم للمشركين {فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتبعوا رضوان الله والله ذو فضلٍ * إنَّما ذلكم الشيطان يخَوِّف أولياءه فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين *} {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} تحت من معنيين معتبرين يخوفكم أولياءه، يخوفكم بأوليائه، يخوفكم من أوليائه، الشيطان يخوفكم من المشركين فلا تخافوهم، أن لا يلقي الرعب إلا في قلوب أوليائه المشركون، وأما المؤمنون فيستعينون بالحي القيوم، فلا يخاف إلا من كان منافقاً ليس في قلبه خشية من خالقه، إنما ذلكم الشيطان يلقي الخوف في قلوب أوليائه من المنافقين {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين *} نهى عن الخوف من غيره، وأمر بالخوف منه، وأوجب وجعل ذلك شرطاً للإيمان {وخافوني إنَّ كنتم مؤمنين} .(105/27)
اخوتي الكرام: فينبغي أن نفرد الله جل وعلا بخوفنا كما نفرده برجائنا كما نفرده بحبنا، كما نفرد بسائر عباداتنا، فهو المعبود الذي تصرف جميع أشكال العبادة إليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك، {فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين} وهذا المعنى التي دلت عليه الآية قبل أن أنتقل إلى تقريره بآيات أخرى تكملة الأثر الذي نقلته عن بن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أيضاً وقال أبو سفيان بعد موقعة أحد (موعدكم يا محمد - صلى الله عليه وسلم - موسم بدر في العام القادم حيث قتلتم إخواننا، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام إلى بدر في موسم بدر، وثبتوا هناك لكن أبا سفيان ومن معه ما أتوا، ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه (أما الشجاع وقد أعد أهبته وعدته، وأما الجبان فقد جلس في بيته) .
إذاً خرجوا لحمراء الأسد بعد موقعة أحد مباشرةً وعندما حدد ذاك موعداً في موقعة بدر في العام القادم خرجوا أيضاً وقابلوه في موسم بدر فما استطاع أن يقابل المسلمين في هذين المكانين بعد أن أصاب المسلمين ما أصابهم من قرح وقُرحٍ، الخوف ينبغي أن نفرد به ربنا ولا يجوز أن نخاف أحداً من غيره، دل على هذا آيات كثيرة في القرآن منها قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون*} .
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة المائدة: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم به النبيُّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون*} .(105/28)
ونظيرها قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتيَ التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون} .
وهكذا أمرنا الله جل وعلا أن نفرده بالخشية والخوف وأخبر أن هذا هو نعت العلماء العاملين الذين يدعون على بصيرة إلى رب العالمين، فقال ربنا الكريم في سورة الأحزاب {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً} .
اخوتي الكرام: هذا الأمر ينبغي أن نعيه تمام الوعي وأن نضبطه، ينبغي أن نفرد الله جل وعلا بحبنا وخوفنا ورجائنا، ويجمع أشكال العبادة فلا يستحق ذلك إلا هو سبحانه وتعالى قال شيخ الإسلام الإمام بن تيمية قال (من الناس من يقول أنا أخاف الله وأخاف من لا يخاف من الله لأن من لا يخاف من الله ظالم لا يردعه شيء عن ظلمه فأنا أخاف الله وأخاف ممن لا يخاف الله) قال: هذا غلط وهذا كلام باطل، نخاف الله ولا نخاف غيره، لا إن كان ذلك الغير يخاف من الله أولاً يخافه، نفرد الله جل وعلا، فإن من قيل إن من لا يخاف الله لا يتقي الله فقد يظلمنا ويبطش بنا ويوقع القوبة علينا؟ فالجواب: نقول كما قال الإمام ابن تيمية (لو اتقيت الله وعبدته حق العبادة، ولم تخف أحداً دونه لكفاك شر هذا الظالم ورد كيده في نحره سبحانه وتعالى) وأنت ما أوتيت أي ما سلط عليك هذا الظالم إلا لتفريطك في طاعة ربك وإلا لخوف من غير ربك جل وعلا، فلما خفت هذا المخلوق سلطه الله عليك، ولو أفردت الله جل وعلا بالخوف ولن تخف غيره لكفاك ما عداه {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إنَّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيءٍ قدراً} .(105/29)
اخوتي الكرام: هذه النقطة تحتاج إلى شيءٍ من التقرير والتوكيد أيضاً والإيضاح، وكان في نيتي أن أكمل الكلام عليها في هذه الموعظة وأكمل ما يتعلق بهذه القضية أننا نفرد الله بخوفنا إن شاء الله في أول الموعظة الآتية ثم أكمل مراحل البحث إن شاء الله.
أقول هذا القول واستغفر الله.(105/30)
ليلة القدر
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ليلة القدر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
خير شهور العام وأفضلها عند ذي الجلال والإكرام.. شهر رمضان، ففيه توالت الخيرات العظام الحسان على أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ففي هذا الشهر الكريم، نبئ نبينا العظيم عليه صلوات الله وسلامه.(106/1)
وفي هذا الشهر الكريم، أنزل الله القرآن الكريم، وهذا الشهر الكريم فرض الله علينا صيامه وفي الصيام خيرات وخيرات، فهو يكفر الذنوب والخطيئات المتقدمات والمتأخرات، وهو يبعدك عن النار ويحصِّل لك الخيرات في دار القرار وفي هذه الدار..
إخوتي الكرام.. وكما فرض علينا ربنا في نهار هذا الشهر الكريم صيام شهر رمضان، كما فرض الله علينا في نهار هذا الشهر الكريم الصيام، فقد سن لنا نبينا عليه الصلاة والسلام في لياليه القيام وجعل الله جل وعلا أجر القيام يعدل أجر الصيام، وماذاك إلا لأن كلاً من الصيام والقيام جُنَّة للإنسان، فالصيام جنة كما تقدم معنا من كل آفة سواء تعلقت بالبدن أو بالدين، فهو حصن لك حصين من الآفات التي تؤذيك في بدنك أو تؤذيك في دينك، وهكذا القيام أيضاً جنة حصينة للإنسان، فهو وقاية لك من المكروهات والآفات والخطيئات وهو الذي يصحّ جسمك ويكسبه القوة والنضرة والبهجة والجمال.
وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي في السنن، والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى عن بلال رضي الله عنه.
والحديث رواه الترمذي أيضاً والحاكم والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين
والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير عن سلمان، ورواه الإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة عن جابر بن عبد الله، ورواه الإمام ابن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنهم أجمعين ... خمسة من الصحابة يروون هذا الحديث، وهو حديث صحيحٌ صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه قال: [عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم وتكفير للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطروة للداء عن الجسد] .. نعم إن القيام فيه هذه الخيرات، فهو جنة لك من سائر الآفات الحسية والمعنوية التي تتعلق ببدنك أو دينك فلا غرو أن جعل نبينا - صلى الله عليه وسلم - للقيام أجراً يعدل أجر الصيام..(106/2)
إخوتي الكرام.. وقد ثبت بذلك الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي المسند والكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه والحديث رواه الإمام النسائي أيضاً بإسنادٍ صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه] .. وإذا كان ورد في الصيام ما تقدم معنا أنه يغفر لمن صام ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقد وردت هذه الزيادة أيضاً للقيام.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً بهذه الزيادة، ورواه الإمام محمد ابن نصر في كتاب (قيام الليل) ، والحديث رواه هشام بن عمار في فوائده عن أبي هريرة رضي الله عنه ومعهم الإمام النسائي: [من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] ، وهذه الزيادة رواها الإمام أحمد في المسند أيضاً من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين.
وقد نص أئمة الإسلام على صحة هذه الزيادة في هذا الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر،، ولا يشكلن عليك أخي الكريم – اللفظة الأخيرة في هذا الحديث الصحيح الثابت عن نبينا الأمين، عليه الصلاة والسلام – بأنه كيف ستغفر للإنسان ذنوبه المتأخر، فقد تقدم معنا توجيه ذلك عن أئمتنا وخلاصته أن الله إذا قبل منك الصيام، وإذا قبل منك القيام، فسيحفظك من الذنوب والآثام في مستقبل الزمان، وإذا قدر أنك وقعت في شيءٍ من الهفوات والزلات مما لا تنفك عنه طبيعة البشر والمخلوقات، فإن ذلك سيقع مغفوراً مكفراً بكرم رب الأرض والسماوات. [من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .(106/3)
وثبت في سنن النسائي، بإسنادٍ صحيح من حديث أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر شهر رمضان، ففضله على سائر شهور العام، ثم قال: [من قام رمضان إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه] وفي رواية في سنن النسائي بإسناد صحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله فرض عليكم الصيام وسننت لكم القيام، [فمن صام رمضان وقامه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه] .
إخوتي الكرام: فالقيام في هذا الشهر الكريم يعدل أجر الصيام عند رب العالمين، وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يقوم هذا الشهر، كما كان يصومه، وكان يخص هذه الأيام التي نعيش فيها في هذه الأوقات بمزيد قيام، عليه الصلاة والسلام.
فأيام العشر لها من المنزلة ما ليس لسائر أيام رمضان، فإذا كان القيام مسنوناً ومشروعاً ومرغباً في رمضان فإن في هذه الأيام التي نعيش فيها – آخر شهر رمضان – القيام مرغَّب من باب أولى وآكد، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يولي هذه الأيام – نهارها وليلها عناية خاصة، ويبذل فيها ما لا يبذله في غيرها من أيام شهر رمضان كما يبذل في شهر رمضان من الجد والاجتهاد ما لا يقوم به في سائر شهور العام.
ثبت في المسند، وصحيح مسلم، والحديث رواه الإمام الترمذي والنسائي وابن ماجه، وكما قلت إنه في صحيح مسلم فلا داعي للتنصيص على صحته فهو صحيح، من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره وكان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها] فهو فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا وعليه صلوات وسلام ربنا، عليه الصلاة والسلام، كان يجتهد في شهر رمضان في نهاره وليله ما لا يجتهد في سائر شهور العام لكنه يخص العشر الأخير من رمضان بمزيد جد واجتهاد وتقرب إلى ربنا الرحمن وهذا الجد الذي كان يقوم به نبينا عليه الصلاة والسلام، في العشر الأخير من شهر رمضان.(106/4)
وردت الروايات الصحيحة الحسان تبينه وتفسره ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن الإمام الترمذي، من رواية أمنا عائشة أيضاً رضي الله عنها وأرضاها قالت [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل عليه العشر، يعني العشر الأخير من شهر رمضان الجليل، أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد المئزر] عليه صلوات الله وسلامه.. ويحي الليل ويوقظ الأهل ليغتنموا بركات هذا الشهر ثم يجد، ويشد مئزره عليه صلوات الله وسلامه.
وشد المئزر شامل لأمرين، الأمر الأول اعتزاله لنسائه أمهاتنا المباركات الطاهرات عليه وعليهنَّ سلام الله وصلواته.
فكان يعتزلهنَّ في العشر الأخير ولا يقرب واحدة منهنَّ تفرغاً لطاعة الله الجليل،، وهذا كما قال القائل:
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار
فكان عليه الصلاة والسلام، إذا دخلت عليه العشر الأخير من شهر رمضان يعتزل النساء فلا يباشرهنَّ ولا يتصل بهنَّ عليه صلوات الله وسلامه لا لأن ذلك حراماً فهو حلال على الصائم في الليل، لكن كما قلت لأجل أنه يغتنم هذه الليالي المحدودة فيما هو أقرب له عند ربه وأنفع له عند الله جل وعلا، فكان يعتزل النساء.(106/5)
ثم بعد ذلك إن هذا اللفظ يوصي بدلالة ثابتة كما قرر أئمتنا الكرام شد المئزر، هذه كناية وإشارة وإخبار عن مزيد العزم والجد والاجتهاد الذي كان يبذله نبينا خير العباد عليه الصلاة والسلام في هذا الشهر الكريم، فكان يحي ليله، يوقظ أهله ويجد ويشد مئزره عليه صلوات الله وسلامه، أي يجد جداً زائداً ويعتزل نساءه لا سيما وقد كان يعتكف عليه صلوات الله وسلامه في العشر الأخير من شهر رمضان، فهذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام في العشر الأخير من شهر رمضان، وفي بعض روايات المسند في حديث أمناً عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العشرين من شهر رمضان ينام ويصلي، فإذا دخلت عليه العشر شمَّر وشد المئزر] فإذا دخلت عليه العشر شمَّر وشد المئزر ... شمَّر عن ساعد الجد والاجتهاد في طاعة رب العباد.
وشد المئزر: ابتعد عن أهله وضاعف من جهده في طاعة ربه عليه صلوات الله وسلامه.
إذن إخوتي الكرام: ينبغي أن يجتهد الإنسان في رمضان ما لا يجتهده في غيره، يجتهد فيها ما لا يجتهده في سائر أيام وليالي هذا الشهر.
إخوتي الكرام: هذه رواية تفسر لنا إجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام وعنايته بالعشر الأخير من شهر رمضان.
وثبت في المسند وسنن الترمذي والحديث رواه الإمام أبو يعلى في مسنده والطبراني في المعجم الكبير، وابن أبي شيبة في المصنف عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل عليه العشر الأخير من شهر رمضان يوقظ أهله، وفي رواية الطبراني في معجمه الكبير.(106/6)
كان لا يدع صغيراً ولا كبيراً إلا أيقظه، لا يدع صغيراً ولا كبيراً إلا أيقظه، لينال من بركات هذا الشهر ومن نفحات الله في هذه الليالي المباركة العظيمة، وثبت في سنن الترمذي، وكتاب (قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي، والحديث إسناده حسن من رواية زينب بنت أمنا أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[كان إذا دخل عليه العشر الأخير من شهر رمضان لم يكن يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه] .. وإنما كان يفعل نبينا عليه الصلاة والسلام هذا في العشر الأخير لأمرين معتبرين، أولهما: اغتناماً لبركات هذا الشهر الذي قد أوشك على الزوال والرحيل والذهاب، وما يدري الإنسان هل سيدركه في السنة الآتية أم لا، فلذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يضاعف الجهد في هذه الأيام الأخير من شهر رمضان ... نعم لله في دهره نفحات فطوبى لمن تعرض لنفحات الله في الأوقات التي تحصل فيها النفحات.
ثبت في معجم الطبراني الكبير من رواية أنس، ومحمد بن مسلمة، ورواية أنس رضي الله عنهم أجمعين، قال عنها الإمام الحافظ الهيثمي في المجمع، رجالها رجال الصحيح غير موسى بن إياس بن بُكير وهو ثقة، فالحديث إن شاء الله صحيح مقبول، من رواية أنس ومن رواية محمد بن مسلمة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات يصيب بها من يشاء من خلقه، إن لله نفحات يصيب بها من يشاء من خلقه.. وسلوا الله أن يستر عوراتكم وأن يؤمِّن روعاتكم، اللهم مُن علينا بنفحاتك يا أرحم الراحمين، واستر عوراتنا وآمن روعاتنا يا رب العالمين.
وهذه النفحات من تعرض لها وأصابها وحظى بها لم يشقى بعدها أبداً.. فكان نبينا عليه صلوات الله وسلامه يضاعف جده واجتهاده في العشر الأخير من هذا الشهر المبارك الجليل إغتناماً للخيرات التي فيه.(106/7)
فلعله عليه صلوات الله وسلامه لا يدرك هذا الشهر في العام القابل، وهكذا نحن إخوتي الكرام، ينبغي أن نضاعف الجد والاجتهاد والطاعة لربنا الرحمن في هذه الأيام أكثر من مضاعفتنا فيما سبق من أيام شهر رمضان.
والأمر الثاني: الذي كان من أجله يضاعف نبينا عليه الصلاة والسلام جده واجتهاده في الأيام العشر طلباً لليلة القدر، طلباً لليلة القدر
وقد اجتمع رأي الصحابة الكرام أن ليلة القدر في شهر رمضان وهي في العشر الأخير منه، وإذا كان كذلك فينبغي للإنسان أن يضاعف جده واجتهاده لعله يوافق تلك الليلة فيسعد سعادة لا يعدلها سعادة ... إن هذا الشهر فيه ليلة القدر والمحروم من حرم تلك الليلة.
ثبت في سنن ابن ماجة بإسنادٍ صحيح من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم] ... إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر.. فكان نبينا عليه صلوات الله وسلامه يضاعف الجد والاجتهاد من أجل طلب هذه الليلة التي لها هذا الشهر العظيم عند رب العباد ... عباد الله.. جعل الله لليلة القدر من الثواب ما جعله لشهر رمضان، صياماً وقياماً، فالأجر الذي تحصله بصيامك أن الذنوب المتقدمة والمتأخرة تغفر لك إذا قبل منك الصيام، والأجر الذي تحصِّله بقيامك تغفر لك ذنوبك المتقدمة والمتأخرة إذا قبل القيام، هذا الأجر بعينه تحصِّله إذا وفقت لإدراك ليلة القدر.(106/8)
ثبت الحديث بذلك في المسند والكتب الستة من رواية أبي هريرة باستثناء سنن الترمذي فلم يروا الحديث من أهل الكتب الستة – من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه] .. زاد الإمام أحمد في المسند والطبراني في المعجم الكبير من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه [وما تأخر] [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] سبحان ربي العظيم.. على هذا الجود الذي يجود به على العالمين، على المسلمين طاعة من هذه الطاعات الثلاث تغفر لك ذنوبك المتقدمة والمتأخرة!! فما أكرم الله، وما أفضل هذا الشهر عند الله، [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] وهذا الزيادة إسنادها حسن كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي وقبله المنذري، وبعدهما الإمام ابن حجر العسقلاني عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا،، يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
عباد الله..
هذه الليلة العظيمة التي هي ليلة القدر ... أنزل الله سورة كاملة تتحدث عن شأنها وتنوه بعظيم قدرها، فهي ليلة فخيمة عظيمة، يقول الله في تلك السورة الكريمة: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} الإنزال الذي يشمل الأمرين:(106/9)
إنزال القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وابتداء إنزال القرآن على نبينا عليه الصلاة والسلام، كان ذلك في ليلة القدر، في شهر رمضان، كما تقدم معنا، في أول مواعظ شهر رمضان، {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر *} الاستفهام للتفخيم والتعظيم، أي هذه عظيمة فخيمة، قال العبد الصالح سفيان بن عيينة، سيد المسلمين في زمنه كما نقل ذلك عنه البخاري في صحيحه تعليقاً عنه بصيغة الجزم: كل ما في القرآن {وما أدراك} فقد أطلع الله نبيه عليه، عليه الصلاة والسلام، وكل ما في القرآن {وما يدريك} فلم يطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عليه..
{وما أدراك ما ليلة القدر} أطلعه عليها، وأعلمه بوقتها، وقد وافقها عليه الصلاة والسلام، وأراد أن يخبر الصحابة الكرام بها، كما هو ثابت في صحيح البخاري وغيره، فرفع ذلك الحكمة يعلمها الله ولا نعلمها، وعسى أن يكون ذلك خيراً لنا [فالتمسوها في العشر الأخير من شهر رمضان] وأرجى لياليها ليالي الوتر.
إذن {وما أدراك ما ليلة القدر} وهذا الأثر الذي نقله الإمام البخاري معلقاً عن هذا العبد الصالح، سفيان بن عينه، وصله محمد بن يحي العدني إمام الحرم المكي في زمنه الذي توفي سنة 243 للهجرة، وهو من رجال الإمام مسلم في صحيحيه وأهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود، وهو من الأئمة الأخيار، وله مسند وصل هذا الأثر في مسنده عن سفيان ابن عيينة بإسنادٍ صحيح،(106/10)
وهذا الأثر مع صحته ومنزلة قائله يَرُد عليه اعتراض في الشق الثاني ألا وهو أن ما في القرآن {وما يدريك} لم يطلع الله نبيه عليه، عليه الصلاة والسلام يقع على هذا اعتراض واحد فقط ألا وهو ما ورد في سورة (عبس) فالله جل وعلا قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وما يدريك لعله يزكى} وقد أطلع الله نبيه وأعلمه أن ابن أم مكتوم ممن يزكى ويتطهر وهو من الصحابة الكرام الأبرار، نعم ما عدا هذا الكلام سديد صحيح رشيد {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} لم يطلع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - على هذا، {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر} .
قال أئمتنا الكرام، وحاصل أقوال المفسرين ترجع إلى هذا {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي خير من ألف شهر، من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر
{ليلة القدر خير من ألف شهر} وألف شهر تعدل ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر إذا حسب أن الشهر ثلاثون يوماً، وإذا كان الشهر القمري يكون تسعة وعشرين وثلاثين، فلعل السنوات تصل إلى خمس وثمانين سنة، قيام هذا
الليلة يعدل عند الله عبادة خمس وثمانين سنة، {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} وإنما أعطى الله هذه الأمة المباركة هذا الأمر لأمرين معتبرين ورد ذكرهما في كتب التفسير:(106/11)
الأول: رواه ابن أبي حاتم في تفسيره والإمام الطبري في تفسيره أيضاً، والأثر رواه محمد بن نصر في كتاب (قيام الليل) ، ورواه الإمام ابن المنذر، ورواه الإمام البيهقي عن مجاهد مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر رجلاً من الأمم السابقة لبس السلاح وبقى يقاتل وهو في سلاحه ألف شهر فعجب الصحابة من ذلك، وتمنوا لو مد الله في أعمارهم لينالوا تلك الفضيلة التي حصلها من قبلهم، فأنزل الله جل وعلا هذه السورة الكريمة يخبرهم فيها أن قيام العبد الصالح من هذه الأمة المرحومة المباركة في ليلة القدر إذا وافقها يعدل عبادة وطاعة، يعدل طاعة ألف شهرٍ لله جل وعلا،، من لبس فيها السلاح وقاتل في سبيل الله جل وعلا.
والأثر الثاني: رواه الإمام مالك في موطئه، وقال: حدثني من أثق به من أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُريَ أعمار الناس من قبله وقد كانوا يُعمَّرون وحياتهم تطول، فكأنه عليه الصلاة والسلام تقاصر أعمار أمته وخشي ألا يبلغوا من الخير ما بلغته الأمم السابقة، فأنزل الله عليه سورة القدر يبشره فيها أن قيام فرد من أمتك، ومن أتباعك (على نبينا صلوات الله وسلامه) أن قيام هذا الفرد لليلة القدر يعدل عند الله بعبادة ألف شهر.
وهذا الأثر الذي رواه الإمام مالك عمن يثق به من أهل العلم يشهد له أثر مجاهد المتقدم، ويشهد له أثر مرسل آخر روي عن علي بن عروة كما بين أئمتنا الكرام، ومثل الآثار إن لم تكن تصلح لبناء الأحكام عليها فيستشهد بها ويعتبر بها ويتقوى بعضها ببعضها، هذا ما يتعلق ببيان أن ليلة القدر خير من ألف شهر، خير من عبادة ألف شهر، حصل هذا في مناسبتين اثنتين
1- رجل لبس السلاح ألف شهر فتمنى الصحابة ذلك فبشرهم الله بأن ليلة القدر تعدل ذلك.
2- تقاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمار أمته فأعطاه ليلة القدر يعوضون بها ما فاتهم من طول العمر، فهذه الليلة لها هذا المقدار عند الله جل وعلا(106/12)
نعم إخوتي الكرام ... أعمار هذه الأمة قصيرة وقل منهم من يحوز السبعين كما ثبت هذا عن خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
ففي سنن الترمذي وابن ماجة، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط مسلم، وأقره عليه الإمام الذهبي، والحديث رواه الخطيب في (تاريخ بغداد) ، وإسناده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجُوزُ ذلك] ، وكان الحسن بن عرفة إذا حدَّث بهذا الحديث يقول: (أنا من القليل) .. لأنه ممن جاوز السبعين عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين،، أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك، فعوضوا عن قصر عمرهم بأن أعطاهم الله هذه الليلة في كل سنة في شهر رمضان، فإذا وفقوا لها ووافقوها حصَّلوا عبادة ألف شهرٍ عند ذي الجلال والإكرام.
إخوتي الكرام: وما ورد في كتب التفسير، وهو مروي في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم، وصححه وأقره عليه الذهبي فينبغي أن نعيه وأن نتبين حكمه، من رواية القاسم بن الفضل، أن رجلاً قام للحسن ابن علي رضي الله عن آل البيت الطيبين الطاهرين، وعن الصحابة أجمعين، قام إليه سنة أربعين للهجرة عند ما تنازل عن الخلافة لمعاوية وسمي ذلك العام بعام الجماعة عندما فعل الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه هذا قام إليه رجل فقال له سوّدت وجوه المؤمنين!! وفي رواية قال له (يا مسوّد وجوه المؤمنين) فقال له الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين (لا تؤنبني رحمك الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُري بني أمية يصعدون على منبره واحداً بعد الآخر فساءه ذلك فأنزل الله عليه إنا أعطيناك الكوثر ـ نهر في الجنة وأنزل عليه {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} أي من ألف شهر يملكها بنو أميّة..(106/13)
والأثر إخوتي الكرام: كما قلت في سنن الترمذي ورواه الحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي..
وينبغي أن نقف عند هذا الأثر وقفة لنتبين حكمه، كما قرر أئمتنا الجهابذة المحدثون عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا..
إخوتي الكرام..
هذا الأثر غايته أن ليلة القدر تفضل ألف شهر من حكم بني أمية، وهذا في الحقيقة ليس كذلك،، يقول القاسم بن الفضل: (فحسبنا مدة بني أمية فبلغت ألف شهر لا تنقص ولا تزيد) إن الأمر ليس كذلك، إن بني أمية حكموا سنة أربعين للهجرة واستمر حكمهم إلى سنة اثنين وثلاثين ومائة للهجرة 132هـ عندما قضى على الخلافة الإسلامية وانتقلت بعد ذلك إلى العباسيين ومن أحصى هذه المدة من سنة أربعين 40هـ إلى سنة اثنين وثلاثين ومائة 132 هـ يتبين له أن حكم بني أمية بلغ اثنين وتسعين سنة ولم يبلغ ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر كما ورد في الرواية حكمهم، بلغ ألف شهر لم يزد ولم ينقص، إنه زاد على ذلك، وهذه المدة إذن تعارض هذا الأثر الذي فيه أن هذه المدة ما زادت على ألف شهر. إنها زادت.
وأما محاولة بعضهم أن يستثني مدة خلافة عبد الله بن الزبير وقد حكم الحرمين والأهواز فلا يصح هذا الاستثناء أبداً، فالخلافة لم تخرج عن بني أمية، وإن خرج عبد الله بن الزبير في بعض أقاليم المسلمين وعليه فقد حكموا اثنتين وتسعين سنة في هذه الأمة المباركة المرحومة.
الأمر الثاني: في الأثر محذور محذور، ينبغي أن نعيه وأن نفطن له، وبالتالي ينبغي أن نعرف قيمة الرواية.(106/14)
غاية ما في الأثر أنه يُفَضِّل ليلة القدر على أيام بني أمية، وليلة القدر ليلة شريفة جليلة فاضلة، وهذا سيق على تعبيرهم لذم أيام بني أمية، فإذا كانت أيام بني أمية فيها ذم وسوء كيف تُفَضَّلُ ليلة القدر على الأيام الناقصة التي فيها ظلم وسوء وجور وعسْف؟؟! هذا لا يستقيم في التفضيل، وما مثال هذا التفضيل إلا قول القائل: جبريل أفضل من اليهود، على نبينا وعلى جبريل وعلى ملائكة الله الأطهار صلوات الله وسلامه.
هذا لا يقال، يقال: جبريل أفضل الملائكة، ويقال نبينا عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق وأفضل رسل الله، وأما أن يقال: إن نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل من أبي جهل!! ليس هذا بمدح ...
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا، إذا أنت فضلت أمرءاً ذا براعة على ناقص كان المديح من النقص، فهذا الأثر سيق لمدح ليلة القدر فكيف تُفَضِّل على أيام مذمومة على حسب ما ورد في الرواية!! هذا لا يستقيم في التفضيل ولا يصلح أبداً.
الأمر الثالث: سورة القدر مكية باتفاق أئمتنا وما كان للنبي عليه الصلاة والسلام منبرٍ يخطب عليه إلا في المدينة المنورة المشرفة، فكيف يتراء عليه صلوات الله وسلامه في مكة بني أمية يصعدون على منبره ويَنْزُون عليه نُزُوّ القردة، كما ورد في بعض الروايات، فيسوؤه ذلك فينزّل الله عليه في مكة هذه السورة بأننا سنعطي أمتك ليلة القدر وهي خير من حكم بني أمية ألف شهر؟!!(106/15)
إن هذا لا يستقيم ولا يصح وما بعد ذلك تكلف به من تأويل هذه الرواية بأن النبي عليه الصلاة والسلام أُطلِعَ على مُغَيّب على منبر سيكون في المدينة بعد حين كل هذا لا يستقيم مع ما تقدم، ولذلك قال شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره بعد أن بين أن القول المعتمد في تفسير الآية ما ذكرته {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، قال: وما عدا هذا فدعاوى باطلة لم يَرِدْ بها أثر ولم يشهد لها نظر، لم يرد بها أثر ولم يشهد لها نظر، ولم ترد في آي التنزيل ... ولذلك حكم الإمام ابن كثير في تفسيره أن الحديث مضطرب منكر الإسناد، ونقل هذا عن شيخ المسلمين في زمنه عن الإمام أبي الحجاج المزي، ولعل هذا الحديث مما دخلت فيه لأهواء السياسية والعلم عند رب البرية.
ولا يجوز أن نقول إن ليلة القدر خير من ألف شهر حكمها بنوا أمية للاعتبارات المتقدمة فكونوا على علم بذلك عباد الله.
{ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها ... } تنزل الملائكة، والروح: إما أن يراد منه خصوص جبريل، وهو أظهر الأقوال وخصه ربنا جل وعلا بالذكر تخصيص بعد تعميم لمزيته وشرفه ومنزلته ورفعة قدره من بين الملائكة الكرام،، وإما أن يكون ملك آخر أو صنف من الملائكة، والعلم عند الله جل وعلا، والأقوال الثلاثة في كتب التفسير، وأظهرها أولها {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين} وكثيراً ما يخص الله جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة {من كان عدواً لله وملائكة ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوٌ للكافرين} تخصيص بعد تعميم لمنزلة هذا الخاص ومكانته بين ذلك العموم.(106/16)
{تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} قوله: {من كل أمر} إما أن تكون {من} بمعنى الباء، تتنزل الملائكة بإذن الله بكل أمرٍ أمروا به، بكل أمر أمروا به، ففي هذه الليلة يحصل فيها التقدير فـ {فيها يفرق كل أمرٍ حكيم} {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم ... ...} يتنزلون بأمر الله جل وعلا، {بإذن ربهم من كل أمر} أي بكل أمرٍ أُمروا به، وبكل تقديرٍ أُمروا به، وعليه تم الكلام عند قول الله: {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} ثم ابتدأ {سلامٌ هي حتى مطلع الفجر} سلام: إما أن الملائكة تنزل بعد ذلك لتسلم على المؤمنين والمؤمنات، أو أن تلك الليلة سالمة من كل سوءٍ ومن جميع الآفات.
{سلامٌ هي حتى مطلع الفجر} ، وإما أن قوله جل وعلا {من كل أمر} متعلق بما بعده ويصبح التقدير كما قرر أئمتنا: سلام من كل أمر، والأمر المراد منه واحد الأمور وهي الشؤون، وعليه شؤون تلك الليلة، أمورها، ما يجري فيها سلامة فلا يقع فيها نقص ولا سوء، ولا يخرج فيها شيطان ولا يَنْقَضُّ فيها كوكب، ولا تحصل فيها آفة، {سلام هي حتى مطلع الفجر} .
إخوتي الكرام..
ليلة القدر التي نزلت هذه السورة الكاملة بشأنها قال أئمتنا: تدل هذه التسمية على ثلاثة أمور مجتمعة.
أولها: القدر بمعنى التعظيم ومنه قول ربنا الكريم {وما قدروا الله حق قدره} أي ما عظموه، وهذه الليلة عظيمة فخيمة ففيها نزل كتاب ذو قدر على نبينا عليه الصلاة والسلام وهو ذو قدر، كتاب ذو قدرة على نبي ذي قدر، أرسل الله به ملكاً ذا قدر، وهذه الأمة صار لها قدر بذلك الكتاب ويصبح لها قدر عند الله إذا أحيت تلك الليلة، وهذه الليلة تنزل فيها ملائكة ذَوُوا قدر وفيها خيرات كثيرة ذات قدر. فالعظمة حاصلة فيها.(106/17)
وشاملٌ هذا المعنى آخر يفيده لفظ القدر، ألا وهو التضييق، ومنه قول الله جل وعلا {وَمَنْ قُدِرَ عليه رزقُه} أي ضُيّق عليه وأعطي بمقدار كفايته وهنا ليلة القدر أي ليلة التضييق، والتضييق يحصل من أمرين اثنين.
أولاً: من حيث إخفاؤها، فكتمها الله جل وعلا عن عباده وأمرهم بأن يجتهدوا ليوافقوها، ولا يُحصّل موافقتها إلا من رضي الله عنه وأنعم عليه ثم بعد ذلك حصل فيها تضييق من ناحية أن الأرض تضيق في تلك الليلة بالملائكة الكرام التي تنزل من عند ذي الجلال والإكرام.
إذن ليلة عظيمة فيها تضييق من وجهين، من حيث إخفاؤها ولم يعلم بها إلا قلة قليلة، ومن حيث ضيق الأرض بالملائكة الذين نزلوا من السماء عليها.
والقدر: يؤاخي القضاء، وهو المعنى الثالث، ويدل عليه، فهو بمعنى القَدَر، فهي ليلة التقدير، فـ {فيها يفرق كل أمرٍ حكيم} ولا تنافي هذا إخوتي الكرام مع ما تقدم معنا من أنه يقع في ليلة النصف من شعبان ما يشبه هذا بأن الله يقدِّر على كل نفس تموت في ذلك العام، ذلك التقدير في ليلة النصف من شعبان لا يتنافى هذا أبداً فهذه كتابات متلاحقة، وإعلامات متتابعة من الله للملائكة الموكلة بتدبير أمر هذا العالم.
فإذن ليلة القدر ليلة العظمة، ليلة التضييق من وجهين، ليلة التقدير.
هذه الليلة إخوتي الكرام: لها شأن عظيم عند الله جل وعلا، من قامها إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا القيام، عند أئمتنا الكرام ينبغي أن يصاحبه معرفة لليلة القدر، وعلم بها، وإذا قام ولم يوافقها فله أجر على قيامه لكن هذا الأجر المعيَّن، هذا الأجر المخصوص، لا يناله إلا من استبانت له ليلة القدر وظهرت له علاماتها.(106/18)
فإن قيل: لها علامات؟! نقول: كيف لا!! وقد أرشد إليها خير البريات عليه الصلاة والسلام، ليس المقصود من إقامتها القيام فيها فقط، إنما المقصود قيام مع موافقة ففي المسند ومعجم الطبراني بإسناد صحيح في الحديث المتقدم، من رواية عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ثم وُفّقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .
وفي صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً فيوافقها غفر له ما تقدم من ذنبه] .
وفي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود، والحديث رواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الإمام الذهبي، من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: [يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا أقول إن وافقت ليلة القدر؟ قال قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني] .
إذن وُفّقت له، يوافقها، إن وافقت، قال شيخ الإسلام الإمام النووي وهذا الذي عليه أكثرأئمة المسلمين، وقال حَذام المحدثين الإمام ابن حجر: هوالذي يترجح عندي قوله وفقت له، يوافقها، عن وافقتها: أي إن استبانت له بعلامة من علاماتها.
وليلة القدر لها علامات، ولا يستبينها إلا من أكرمه الله بها، فيرى كل شيءٍ يسجد لرب الأرض والسماوات، يرى النور قد ملأ الدنيا، يسمع تسليم الملائكة عندما يسلمون عليه، لو كان بجوار بحرٍ وشرب منه لانقلب الماء عذباً سائغاً {سلام} .. فلابد من إدراك تلك الخصوصيات لينال الإنسان هذا الأجر عند رب الأرض والسماوات، وهذا الذي عليه كما قلت أئمة الإسلام.(106/19)
وقد ألف بعض أئمتنا كتباً في ذلك كما فعل ولي الدين أبو زُرعة ولد شيخ الإسلام الإمام العراقي عليهم جميعاً رحمة الله، وقد توفي سنة ست وعشرين وثمانمائة للهجرة كتاباً في علامات ليلة القدر وفضلها وهذه العلامات، كما قلت إخوتي الكرام دل عليها حديث النبي عليه الصلاة والسلام [وِّفقت له، يوافقها، إن وافقت] وليس المراد كما قلت مجرد قيام لها.. قيام تحصل موافقة مع القيام وهذه الموافقة حقيقة أنا نحوها في موفقين اثنين: هل جعلت علامةً على الصيام والقيام؟ فإن كان كذلك فيا ويح ويا ويل من لم يوافقها ونسأل الله أن يحسن ختامنا.
أو أنها جعلت تلك الموافقة، مزيد إكرام من الله لمن شاء من أوليائه وعباده ما وجدت كلاماً لأئمتنا في هذا الأمر والعلم عند الله جل وعلا.
هل تلك الموافقة تكون لمن قبل الله صيامه وقيامه فيوافق ليلة القدر، ويكون ذلك بشارة عاجلة له في هذه الحياة!! إن ذلك ليس ببعيد.
لكن كما قلت، ما وقفت على كلام لمن سبقنا في ذلك، وأعوذ بالله أن أقول شيئاً لم أُسبق إليه.. إنما أقول كما ذكرت هل هذا (لهذا أو لهذا) ، هل هذه الموافقة علامة على قبول الصيام والقيام؟ أو هي مزيد إكرام وإن قبل الصيام والقيام، يكرم الله بعد ذلك بعض المقبولين بموافقة ليلة القدر ويحرم بعض المقبولين عن موافقة ليلة القدر؟!!
إنما لا يحصل أجر قيام ليلة القدر المعين المخصوص إلا بموافقتها وإداركه علامة خاصة لها.
ولذلك قال الإمام السبكي الكبير تقي الدين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين
(يستحب ويسن لمن وافق ليلة القدر واستبانت له بعلامة من العلامات أن يكتم ذلك وأن لا يخبر به أحداً) ثم قرره بوجهين معتبرين:
الأول: قال لأن هذا الذي اختاره الله لنبييه عليه الصلاة والسلام فقد أطلعه على ليلة القدر ولما أراد أن يُعلم الناس بها رفع ذلك من صدره فما اختاره الله لنبيه، عليه الصلاة والسلام هو الخير،(106/20)
والأمر الثاني: يقول الإمام السبكي الكبير (إن ذلك وقع من الله كرامة لهذا العبد وإذا كانت تلك الموافقة كرامة فينبغي أن يكتمها الإنسان خشية السلب، أي أن يسلب تلك الكرامة، فأنت أكرمت بها على وجه الخصوص وقد أكرمك الله بهذا دون أن يشعر بذلك أحد فاكتم ذلك) ، ولذلك قال الإمام ابن حجر:
(قد يكون الإنسان في المسجد مع عشرة أو مائة يصلون ويقومون ليلة القدر فيوفقها واحد منهم ولا يوافقها البقية فيكشف له ويراها، وهم معه ينظرون لكن لا يرون ما يرى، والله على كل شيءٍ قدير) .
إذن خشية السلب، إنها كرامة فلا يخبر بها خشية السلب، وخشية الرياء، ولا يخبر بها خشية الحسد، فيوقع الناس في إثم الحسد لأنه عندما أعلمهم بذلك وما استبان لهم ذلك وهم معه يحسدونه وقد أوقعهم في ذلك ثم بعد ذلك يشتغل، عند ما يراها بإعلام الناس ويغفل عن شكر رب الناس.
ولذلك إذا أطلعه على ليلة القدر، ووافقها فهذا منَّة من الله عليه فليكتم ذلك، والكرامة إذا وقعت على وجه الخفية يسن للإنسان أن يسترها وألا يخبر أحداً من الخلق بها ...
إخوتي الكرام..
ليلة القدر تكون في العشر الأخير من شهر رمضان.
أي الليالي هي؟
لا يعلم ذلك إلا الله، وإذا قام تلك الليلة إنسان من يوافقها؟!
لا يوافقها إلا من أنعم الله عليه ورضي الله عنه.. نعم إن أرجى لياليها، كما قال أئمتنا، ليالي الوتر، وخاصة ليلة السابع والعشرين.
ثبت في مصنف عبد الرزاق والأثر رواه الإمام محمد بن نصر في (قيام الليل) والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم، وأقره عليه الإمام الذهبي، والأثر رواه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، دَعَوَا الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فسألهم عن ليلة القدر، قال ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فاجتمع رأيهم على أنها في العشر الأخير من شهر رمضان(106/21)
قال: في أي ليلة هي؟ فاختلفوا، فبعضهم يقول في التاسع، والسابع، والخامس من ليالي العشر، يقول: وأنا ساكت لا أتكلم، فقال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: ألا تتكلم؟! فقلت: يا أمير المؤمنين إنها في سابعة مضت أو في سابعة بقيت، (إنها في سابعة تمضي أو في سابعة تبقى) إذا كانت في سابعة مضت، فإذن مضت ست وعشرون، وليلة السابع والعشرون، وإذا كانت في سابعة بقيت أو تبقى، فإما أن تكون ليلة الثاني والعشرين أو ليلة الثالث والعشرين على حسب اكتمال الشهر أو نقصانه ولا يعلم ذلك إلا الله.
هذا على حسب كلام ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، إما في سبعة تبقى أو في سبعة مضت، فقال له: ومن أين لك ذلك؟! قال: يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات فجعلهن سبعاً، وخلق الأراضين فجعلهنَّ سبعاً، وأيام الأسبوع سبع، والإنسان خلق في سبع، ويأكل من سبع ويسجد على سبع وعدد سبعات ورد بها شرع رب الأرض والسماوات.
أما أن الإنسان خلق من سبع، فقد استدل ابن عباس على ذلك بقول الله جل وعلا: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماءٍ مهين * ثم جعلناه نطفةً في قرارٍ مكين * ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} .
وأما أنه يأكل من سبع فنَزع ذلك من قول الله جل وعلا: {فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حباً * وعنباً وقضبا * وزيتوناً ونخلاً * وحدائق غلبا * وفاكهة وأباً *} .
إذن خلق في سبع، يأكل من سبع، يسجد على سبع، سماوات سبع، رمي الجمار سبع، الطواف سبع، يقول هذا الأثر له دلالة معينة في شريعة الله فليلة القدر في سبعة تبقى أو في سبعة تمضي.(106/22)
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن عباس رضي الله عنهم أجمعين لله دَرُّك خفي علينا ما علمته، ما أعلم إلا ما تعلم، أن ليلة القدر تكون في سابعة تبقى أو في سابعة تمضي.
قال شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني: وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه استدل على أنها ليلة السابع والعشرين من الكلمة الواردة في سورة القدر وهي الكلمة السابعة والعشرون في سورة القدر
(إنا – أنزلناه – في – ليلة – القدر – وما – أدراك – ما – ليلة – القدر – ليلة – القدر – خير – من – ألف – شهر – تنزل – الملائكة – والروح – فيها – بإذن – ربهم – من – كل – أمر – سلام – هي – حتى مطلع الفجر)
فقال شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة، وقد استنبط ابن عباس وغيره أن ليلة القدر تكون ليلة السابع والعشرين لأن لفظ هي الذي يعود على ليلة القدر
الكلمة السابعة والعشرون من سورة القدر.
وهذا الكلام قال به عدد من أئمة الإسلام من المالكية وغيرهم، وبعد أن حكاه الإمام ابن حزم عن المالكية، شنع عليهم غاية التشنيع، وقوله في منتهى الشناعة وإذا أُثر هذا القول عن بعض السلف فليسكت الخلف.
نعم ... قال الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز وهذا من مُلح التفسير، وليس من متين العلم.
وقد أورد أئمتنا دلالة ثالثة على أن ليلة القدر تكون ليلة السابع والعشرين، وذلك أرجى ما يمكن أن يكون في إدراك ليلة القدر. قالوا: كلمة {ليلة القدر} ذكرها الله جل وعلا ثلاث مرات في هذه السورة {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر *} قالوا: و {ليلة القدر} تسعة أحرف، أما الليلة فهي أربعة أحرف، والقدر خمسة أحرف، فليلة القدر إذن تسعة أحرف، وتسعة إذا ضربت في ثلاثة، المجموع سبع وعشرون.(106/23)
وكما قلت: هذا من ملح التفسير وليس من متين العلم، نعم.. قال أئمتنا قد تنتقل أحياناً، ففي الغالب تكون ليلة السابع والعشرين، وقد تنتقل، إنما المهم العظيم أن يوافقها الإنسان إذا أقام تلك الليلة، وكم ممن يقوم ولا يوافق.
نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيءٍ أن يجعلنا ممن يصومون هذا الشهر ويقبل منهم صيامه، وأن يجعلنا ممن يقومون هذا الشهر ويقبل منهم قيامه، وأن يجعلنا ممن يقومون ليلة القدر ويوفقون لموافقتها وإدراكها بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..
عباد الله:
ذكرت العلامات لليلة القدر التي يدركها من أنعم الله عليه بإدراكها ...
نعم هناك علامات ظاهرة قد يستوي كثير من الناس في إدراكها، منها، ما تكون في تلك الليلة، ومنها ما يكون بعدها، بل أكثر علاماتها الظاهرة تكون بعد ذهاب تلك الليلة.
هذه العلامات بإمكان الإنسان أن يدركها، لكن الشأن كلُّ الشأن أن يوافقها وأما أن يتعرف على العلامات الظاهرة فلا يفنيه ذلك وليس له أجر قيام ليلة القدر وإن كان لا يعدم أجراً على القيام والعلم عند ذي الجلال والإكرام.
فمن تلك العلامات الظاهرة أن السماء تكون فيها منيرة كأن فيها قمراً يفضح كواكبها، ومن نظر إليها رآها تتلألأ في تلك الليلة.
ومن تلك العلامات أنها تكون متوسطة لا حارة ولا باردة.
ومن تلك العلامات أنها لا ينقضُّ فيها كوكب ولا يُرمى فيها بشهاب.(106/24)
ومن تلك العلامات، وكل هذا وارد في الأحاديث الصحيحة عن خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، وتركت ذكر الأدلة على ذلك خشية الطول، فالعلامات ثابتة في صحيح مسلم والمسند وغير ذلك من كتب السنة، وكما قلت علامات ظاهرة ينبغي أن يوفق الإنسان للعلامات الخاصة التي هي خاصة بمن يكرمه الله بإدراكها.
ومن تلك العلامات الظاهرة أن صبيحة تلك الليلة تخرج الشمس لا شعاع لها بيضاء كالطست أي كأنها طسْتٌ لا شعاع لها ولو نظرت إليها لا يمتد إليك أشعة منها تكسر نظرك.
كأن الشمس في تلك الصبيحة كأنها بدرٌ قمر، فيذهب عنها الشعاع ولذلك تخرج الشمس في تلك الصبيحة ترقرق برفق وسهولة لا يصاحبها شعاع من كثرة الملائكة الذين هم في هذه الأرض.
هذه علامات ظاهرة يمكن للإنسان أن يدركها، لكن الشأن، كما قلت، في إدراك العلامات الخاصة بها ... أسال الله أن يكرمنا بإدراكها إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، الله آمن روعاتنا، واغفر ذلاتنا يا أرحم الرحمين، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة، وأوسطه لنا مغفرة وآخره عتقاً لرقابنا من النار، اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان، اللهم أدخلنا الجنة من باب الريان بسلام، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم(106/25)
{إنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر* تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر* سلامٌ هي حتى مطلع الفجر} .(106/26)
فضل يوم عرفة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
فضل يوم عرفة وأحكام الأضحية
28
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تدارسنا في الموعظة السابقة بعض أحكام هذه العشر عشر ذي الحجة وسأكمل الحديث في هذه الموعظة عن تلك الأحكام.(107/1)
اخوتي الكرام: سيكون حديثنا في هذه الموعظة حول أمرين اثنين حول إكمال ما يتعلق بفضل يوم عرفة وحول أحكام الأضحية أما الأمر الأول فقد تقدم معنا إخوتي الكرام منزلة يوم عرفة في الإسلام وتقدم معنا بيان الخيرات الحسان التي يغدقها ذو الجلال والإكرام على عبادة يوم عرفة فهو الذي يدنو سبحانه وتعالى من الحجاج ويتجلى ويقول ما أراد هؤلاء ولا يوجد يوم يحصل فيه عتقاء من النار كما يحصل في يوم عرفة ولذلك لا يرى الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمات وتجاوز الله عن الذنوب العظام.
اخوتي الكرام: أما حب الله علينا في هذا اليوم من الخيرات ما لا يخطر ببال المخلوقات فاستمعوا إلى هذا الفضل الذي سأذكره عن نبينا صلى الله عليه وسلم روى الإمام بن خزيمة في صحيحه والإمام البيهقي والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة ورواه بن حبان في صحيحه أيضا والإمام البزار في مسنده وهكذا أبو يعلي في مسنده عن رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا كان يوم عرفة نزل الله إلى السماء الدنيا فباهى أهل الموقف ملائكته فيقول عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاحين أي متعرضين لأشعة الشمس وشدة الحرارة جاءوني شعثا غبرا ضاحين كم كل فج عميق أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم فتقول ملائكة الله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ربنا فيهم فلان يرهن وفلان وفلان إنما يرتكبون الدهق الإثم والمعاصي ويغشون المحارم حضروا في هذا الموسم لكن عندهم من الخطايا ما عندهم فيقول الله جل وعلا قد غفرت لهم قال نبينا عليه الصلاة والسلام " فما من يوم يعتق الله فيه عبيدا من النار كثر من يوم عرفة.(107/2)
هذا الحديث مروي في هذه الكتب ولجميع رواته ثقات أثبات وتكلم حول العبد الصالح أبي زبير المكي وهو محمد بن مسلم بن تدرس حديثه مخرج في الكتب والسنة وهو صدوق ولكنه يدلس وهو الراوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد صحح الحديث عدد من أئمتنا وهذا العبد الصالح أعني أبا الزبير المكي توفي سنة 126هـ إذا كان يوم عرفة نزل الله جل وعلا إلى السماء الدنيا فباهى بأهل الوقف ملائكته فيقول عبادي جارون شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق أشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم.
فإذا قالت ملائكة الله الأطهار على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه فيهم فلان يرهق وفلان وفلان فيقول الله جل وعلا قد غفرت لهم وهذا اليوم هو أكثر ما يحصل فيه من العتق من النار من أيام السنة هو يوم عرفة إخوتي الكرام وفضائل هذا اليوم كثيرة وغزيرة.(107/3)
روى الإمام بن المبارك عن شيخه سيد المسلمين سفيان الثوري عليهم جميعا رحمات رب العالمين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنهم والحديث رجاله ثقات أثبات هو كالشمس وضوحا عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال لما كان يوم عرفة وكادت الشمس أن تؤوب أي أن تغرب وأن تذهب وعانى النبي صلى الله عليه سلم فقال يا انس أنصت الناس اجمعهم لينصتوا قبيل غروب الشمس فنادى أنس بأعلى صوته يا عباد الله أنصتوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم فلما أنصت الصحابة الكرام قال نبينا عليه الصلاة والسلام أتاني جبريل فبلغني السلام من ربي وأخبرني أن الله قد غفر لأهل الوقف ولأهل المشعر وضمن عنهم التبعات قد غفر لأهل الوقف في عرفات ولأهل المشعر الذين يحضرون في مزدلفة وضمن عنهم التبعات فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقال هذا لنا خاصة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولنا ولمن يكون بعدنا قال بل لكم ولمن يأتي بعدكم لكم كلكم فرفع عمر ابن الخطاب صوته فقال كثر خير الله وطاب كثر خير الله وطاب إي والله لو علم الحاج هذا لاستحقر ما ينفعه بجنب ما يحصله يغفر الله لك يضمن عنك التبعات ويؤديها وهو الغني الرحيم سبحانه وتعالى إن الله قد غفر لأهل الموقف ولأهل المشعر وضمن عنهم التبعات هذا للصابة ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة نعم كثر خير الله وطاب.
إخوتي الكرام: وكما قلت إن الحديث إسناده صحيح رواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك وذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب إخوتي الكرام لا أري أن أطيل في فضل هذا اليوم فكما وعدت سابقاً إذا تدارسنا أحكام الجمع فنسمع إن شاء الله ما تطير له قلوب المؤمنين فرحا مما لهم في هذا العشر من الأجر عند الله جل وعلا وخاصة ما يحصلونه في يوم عرفة لكنني سأذكر نفسي وأذكركم وأذكر المسلمين بهذا الأمر الذي ينبغي أن نعتني به في يوم عرفة ألا وهو حفظ جوارحنا من معصية ربنا فمن حفظ جوارحه في ذلك اليوم غفر له.(107/4)
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع وقال المنذري إسناده صحيح والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضا ورواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه الطبراني في معجمه الكبير ورواه بن أبي الدنيا في كتاب الصمت وكما قلت أن الحديث صحيح صحيح من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال كان غلام منا رِدْف النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لكنه يوجه نظره إلى جهتين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا ابن أخي أما علمت أن من حفظ سمعه ولسانه في يوم عرفة غفر له هذا يوم مبارك وأنت تسرح النظر إلى هنا وهناك فينبغي أن تكف نظرك وإن كان النساء محجبات فينبغي ألا تنظر إليهن لا في هذا الوقت ولا في غيره من الأوقات لكن في يوم عرفة من حفظ سمعه وبصره ولسانه غفر له.(107/5)
إخوتي الكرام: إذا فات واحد منا الحج في هذا العام فليأخذ بهذا التوجيه النبوي الثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم فليحفظ سمعه وبصره ولسانه في يوم عرفة ولذلك أرى لو أن المسلمين تيسر لهم أن يجعلوا هذا اليوم في عبادة لله رب العالمين وأن يتفرغوا من أمور الدنيا وإن كانت أعمالهم في مباحة فليجعلوا ذلك في الصيام وذكر الرحمن وقراءة القرآن والصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام وإن لم يكونوا في الحج فلو تركوا ما يلهيهم عند ذل في هذا اليوم لكان خير لهم وأحسن وأما ما اعتاده كثير من الناس في هذا اليوم إخوتي الكرام من متابعة محطات الإذاعة وتلقط الأنباء من هنا وهناك وبعضهم غرره الشيطان من أجل أن يجعله يخسر في هذا اليوم فيظن أنه ذا وقف أمام الأجهزة المرئية أو المسموعة ليرى ويسمع ما يجري في الحج كأنه في عبادة ليسمع بعد ذلك حقيقة إن قلت عنه إنه لغط لا أبالغ من أن الميكرفون على تعبيرهم انتقل إلى ممثل دولة كذا وممثل دولة كذا ثم يحيي إخوانه بعد ذلك في العروبة والوطنية والجاهلية ماذا تستفيد من هذا أخي المسلم هلا شغلت لسانك بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه الأجهزة إخوتي الكرام ينبغي أن نحذر منها في كل وقت لا سيما في مواسم الطاعات ينبغي أن تنظر إلى وسائل الإعلام من الراديو فما فوقها كأنها جمرة نار في عرفات فكما أنك لا تلمس جمرة النار فاتق العزيز القهار في ذلك اليوم حذاري حذاري أن تفرط فيه وأن يزين لك الشيطان أن النظر إلى الحجيج واستماع ما يقال بعد ذلك من كلام باطل وتهريج من الممثلين هنا وهناك إياك أن تظن أن هذا من باب الطاعة والله أن هذا من أكبر علامات الحماقة أناس في طاعة ماذا تستفيد إذا نظرت إليهم أناس بعد ذلك يقومون بترتيبات معينة ملاك ولهم ممن يذيعون ويقولون هلا اشتغلت بذكر الحي القيوم.(107/6)
إخوتي الكرام: ينبغي أن نعي هذا على الدوام لا سيما في يوم عرفة من حفظ اسمه وبصره ولسانه غفر له هذا فيما يتعلق كما قلت إخوتي الكرام في هذا اليوم على وجه الاختصار وأما ما فيه من فضائل كما قلت أوضح من الشمس في رابعة النهار فلعل الله يمد في الحياة لنتدارس هذا عند مدارسة أحكام الحج إن أحيانا الله للسنة الآتية وما فيه من مغانم وفضائل.
وأما الأضحية التي نتدارس أحكامها وهي الأمر الثاني في موعظتنا اخوتي الكرام تقدم معنا أن العشر أعني عشر ذي الحجة أيام مباركه هي فضل السنة وأفضلها آخرها وهو اليوم العاشر فهو يوم الزيارة ويوم الضيافة وبعد أن نقي العباد وهذبوا في يوم عرفات أذن لهم بزيارة رب الأرض والسموات وأذن لهم بأخذ ضيافته ونيل جائزته فذهب الحجاج وطافوا حول البيت الحرام بعد أن وقفوا في عرفات وتابوا إلى ذي الجلال والإكرام.
اخوتي الكرام: شرع لنا في هذا أضحية ينبغي أن نتقرب بها إلى ربنا الرحمن فأفضل أيام العام كما تقدم معنا يوم النحر يوم العاشر من ذي الحجة وأفضل عمل تقدم به في ذلك اليوم قربان تتقرب به إلى الله جل وعلا ودم تريقه حسبما أمرك الله جل وعلا وقد وضح لنا هذا نبينا صلى الله عليه وسلم وأمرنا به وبين لنا ما يترتب عليه من الأجور والمغانم والفضائل.
اخوتي الكرام: الأضحية لها شأن عظيم فاستمعوا للأجر الذي يثبت لها في يوم النحر كما أخبر نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن ورواه البغوي في شرح السنة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما عمل أدمي يوم النحر عملا أنجى له من عذاب الله من دم يراق في سبيل الله، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلاعها وأشعارها حتى إن الدم ليقع عند الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً.(107/7)
والحديث إخوتي الكرام: في إسناده كما قال أئمتنا الكرام سليمان بن يزيد الخزاعي الكعبي وحديثه مخرج في سنن بن ماجه والترمذي وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف وقال الإمام الذهبي في الكاشف وثق وقد حسن هذا الحديث الإمام الترمذي وغيره من أئمتنا وله شواهد كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ما عمل آدمي يوم النحر عملا أنجى له من عذاب الله من دم يراق في سبيل الله وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلاعها وأشعارها وإن الدم ليقع عند الله قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يطلب من آل بيته حضور الأضحية لأجل أن يفرحوا بما سيحصلون من الأجر العظيم عند الله الكريم.
روى الإمام البزار في مسنده والحاكم في مستدركه والحديث رواه أبو الشيخ في كتاب الأضاحي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه وفي رواية أبي سعيد هذه رضي الله عنه عطية بن سعد العوفي وهو صدوق ويخطئ كما قال أئمتنا وحديثه في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وأخرج حديث أهل الكتب الأربعة إلا الإمام النسائي عليهم جميعا رحمة الله وهذا الحديث رواه البيهقي أيضا في السنن وأبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه والحديث في إسناده ضعف كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب والإمام البيهقي في السنن عندما أخرج الحديث.(107/8)
والحديث رواه أيضا الحاكم والبيهقي في السنن الكبرى والطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أجمعين وفي الاسناد ضعف وهذه الأحاديث الثلاثة من هذه الطرق الثلاثة قد حسنها أئمتنا فالإمام المنذري في الترغيب والترهيب يحكي تصحيح تحسين بعض شيوخه لحديث علي فقط وحديث أبي سعيد الخدري كما قلت مع الشواهد المتقدمة يرتقي إلى درجة الحسن بإذن الله ولفظ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته الطيبة الطاهرة المطهرة سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها قومي فاشهدي أضحيتك فإن لك أن يغفر الله ذنبك بأول قطرة منها وإنها لتأتي يوم القيامة بلحمها ودمها قال في رواية علي رضي الله عنه وأرضاه وهي الرواية الثانية فيوضع في ميزانك سبعين ضعفاً.
إذاً إخوتي الكرام: هذه الأضحية لها أجر عظيم عند ذي الجلال والإكرام والحديث لا ينزل عن درجة الحسن والقبول قومي فاشهدي أضحيتك فإن لك أن يغفر الله ذنبك بأول قطرة تقطر منها وإنها لتأتي يوم القيامة بلحمها وشعرها ودمها فيوضع في ميزانك سبعين ضعفاً فقالت فاطمة رضي الله عنها كما في الرواية الأول من رواية أبي سعيد هذا لنا خاصة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمسلمين عامة وفي رواية علي فقال أبو سعيد رضي الله عنه وأرضاه يا رسول الله هذا لكم خاصة آل البيت فأنتم أهل لما خصكم الله به أولك وللمسلمين عامة وفي رواية عمران بن حصين رضي الله عنهم أجمعين قال عمران بن حصين هذا لكم خاصة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أهل لما خصكم الله به أو للمسلمين عامة.(107/9)
فقال عليه الصلاة والسلام بل للمسلمين عامة سبحان ربي العظيم نِعَمٌ أنعم بها علينا عندما تراق هذه الذبيحة إستجابة لأمرنا ربنا تغفر ذنوب الإنسان بأول قطرة من دمها تقطر على الأرض سبحانك ربي ما أكرمك لا نحصي ثناءاً عليك أنت كما أثنيت على نفسك إخوتي الكرام ينبغي أن يحرص المستطيع المقتدر عل هذه الأضحية وحذاري حذاري أن يفرط فيها أو أن يضيعها فقد حذرنا من ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم غاية التحذير.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن الإمام بن ماجه والحديث رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن ورواه الداراقطني في سننه أيضاً وهو في مصنف ابن أبي شيبه ورواه الإمام أبو يعلى في المسند من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من وجد سعة لأن يضحي فلم يضحي فلا يقربن مصلانا، والحديث صحيح لكن اختلف في رفعه وفي وقفه فوقفه عبد الله بن وهب عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ولذل حكم الرفع فلا يقال من قبل الرأي ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يزيد المقرئ وقال أئمتنا إنه فوق الثقة فالحديث وقف على أبي هريرة وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.(107/10)
ولذلك قال الإمام الحاكم عقيب هذه الرواية قال " والوصل زيادة ثقة فهي مقبولة والحديث صحيح ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم من وجد سعة لأن يضحي فلم يضحي فلا يقربن مصلانا وقد ذهب فقيه الملة الإمام أبو حنيفة رحمة الله ورضوانه عليه ووافقه على ذلك عدد من أئمتنا الكرام كإمام أهل مصر الليث بن سعد وإمام أهل الشام الإمام الأوزاعي وذهب إلى ذلك ربيعة شيخ الإمام مالك وإلى هذا القول ذهب بعض المالكية وهو قول للإمام المبجل أحمد بن حنبل أيضا رضوان الله عليهم أجمعين إلى أن الأضحية واجبة فمن كان مقتدرا ولم يضح فهو عاص آثم مرتكب للكبيرة ويجب عليه أن يضحي مهما طال الوقت فهي دين في رقبته لا تسقط عنه نعم إن ضحى هذه الأضحية في اليوم الأول وفي الأيام الثلاثة الآتية كما سيأتينا فقد حصل الأجر وإلا فعليه وزر وينبغي أن يعيد الأضحية ولو بعد عشرين سنة.
فلا تسقط هذه الأضحية عند هؤلاء الأئمة الكرام بناءاً على القول بوجوبها فهي كالزكاة إذا لم تؤدها ولم تخرجها ومضى عليك سنوات وسنوات ينبغي أن تخرج هذا الحق الذي جعله الله في مالك وهكذا هذه الأضحية إخوتي الكرام لا بد من القيام بها فمن وجد سعة لأن يضحي فلم يضح فلا يقربن مصلانا والحديث كما قلت صحيح وغاية ما اختلف في رفعة وفي وقفه والمعتمد الرفع فهي زيادة ثقة وهي مقبولة وإذا كان كذلك فليس بعد هذا التحذير تحذير أن يزجر الإنسان عن حضور مصلى العيد وأن منع من مشاركة المسلمين في هذا اليوم البهيج لأنه فرط في أعظم شعائر هذا اليوم ألا وهي الأضحية التي ينبغي أن يتوب بها الإنسان إلى الله جل وعلا إخوتي الكرام هذه هي سنة المسلمين وهذا هو عمل المسلمين أضحيته.(107/11)
ثبت في سنن الترمذي وبن ماجه بإسناد حسن أن رجلا جاء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين فقال له الأضحية واجبة فقال له عبد الله بن عمر ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمون بعده وجرت بذلك السنة فأعاد السائل قوله كعادة المتنطعين فقال أواجبة هي فقال ألا تعقل ما أقول ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلمين بعده وجرت بذلك السنة أي هذه هي سنة أهل الإسلام أن يذبحوا في هذا اليوم قربانا تقربا إلى ذي الجلال والإكرام ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى المسلون بعده وجرت بذلك السنة فينبغي أن تلتزم بهذه الشعيرة الكريمة المباركة.
وفي صحيح البخاري في كتاب الأضاحي باب بهذا الخصوص فقال باب سنة الأضاحي أي هذا سنة المسلمين وهذا عملهم وهذا هديهم وما ينبغي أن يتركوه ثم نقل قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه قال الأضحية سنة ومعروف أن هي سنة سار المسلمون عليها ولا يراد بالسنة هنا بما يقابل الفرض لا ثم لا سنة ومعروف أي هذا الذي سُنَّ لهم ومشوا عليهم وهذه عادتهم وهذه هيئتهم سنة ومعروف قال الحافظ بن حجر في الفتح وهذا الأثر عن عبد الله بن عمر وصله حماد بن سلمة في مصنفه رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
إخوتي الكرام: إذا ينبغي ان نولي هذه الأضحية عناية عظيمة وما ينبغي أن نهمل أمرها كنا قادرين عليها وأما المعاني التي من أجلها شرعت هذه الأضحية والحكم التي فيها فكثيرة غزيرة يمكن أن نوجزها في ثلاث:(107/12)
أولها: إحياء لسنة خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام فقد شرع الله لهذا العبد الصالح خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هذا القربان وهذا الذبح يتقرب به إلى الله جل وعلا وفدى ربنا جل ووعلا به ولده إسماعيل على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فنحن نحيي سنته وقد قص الله تعالى علينا أمره في سورة الصافات عندما سأل ربه أن يهب له من الصالحين "رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين".(107/13)
وملخص القصة إخوتي الكرام أن الله جل وعلا أوحى إلى خليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أن يذبح ولده الوحيد البكر سبحانك ربي الولد البكر محبوب وهو أحب الأولاد إلى والديه ثم بعد ذلك وحيد ولم يرزق إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه غيره ويؤمر بذبحه وإنما أراد الله جل وعلا هذا من أجل أن يبرهن على الإيمان التام في قلب الإنسان ومن أجل أن يحقق العبودية التامة في قلوب عباده لربهم جل وعلا ومن أجل أن يظهر مكانة خليله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه والله إن قلبه لسليم كما شهد بذلك رب العالمين قلبه للرحمن ولده للقربان ماله للضيفان بدنه للنيران يحق لهذا الإنسان أن يتخذه الله خليلا على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أمره الله أن يذبح ولده في المنام وهي أقل مراتب الوحي كما قرر أئمتنا الكرام ولم ينزل في المنام شيء من القرآن على نبينا عليه الصلاة والسلام احتياط للوحي واستيثاقاً له إنما نزل بوحي جلي القرآن أما هنا يؤمر هذا العبد الصالح خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن يذبح ولده بأضعف أنواع الأوامر يأخذ الأمر على ظاهره بلا تأويل يخرجه عن ظاهره ثم بلا تلكع ولا تذمر ولا تردد يا بني إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى ولا بد من الذبح لكن ليشارك الابن أباه في الطاعة قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين لاخيار لي ولا لك ونحن ملك لله إنا لله وإنا إليه راجعون لا نتصرف في أموالنا ولا في أبداننا إلا على حسب ما يرضي ربنا سبحانه وتعالى ولذلك قال له افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين وانظر لهذا التواضع الكريم فأنا أسير في ركب عظيم كبير سار فيه صالحون قبلي يصبرون لله القدير ستجدني إن شاء الله م الصابرين فاغتنم الشيطان هذه الفرصة ولعله يوسوس إلى أم إسماعيل هاجر أو إلى الولد أو إلى الوالد في نهاية الأمر فجاء إلى الأم وهي أضعف(107/14)
الثلاثة فقال لها ما تعملين أين سيأخذا إبراهيم ولدك إسماعيل قالت إنه أخذه لبعض حاجته قال لا إنه أخذه ليذبحه في المنجر في منى قالت وهل يذبح الوالد ولده علام سيذبح إبراهيم ولده قال يزعم أن الله أوحى إليه لا خيار لنا ولا كلام لنا فأموالنا وأنفسنا ملك لربنا جل وعلا ثم جاء إلى العبد الصالح إسماعيل إلى العبد الحليم على تبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قال أما تعلم أين تذهب مع أبيك وأين يأخذك أبوك قال يأخذني لبعض حاجته قال لا ويحك إنه يريد أن يذبحك في منى قال وعلام يذبحني وهل يذبح الوالد ولده قال يزعم أن الله أوحى إليه في المنام بذبحك قال يحق له أن ينفذ أمر الرب جل وعلا فأتى إلى إبراهيم وقال يا إبراهيم أين تأخذ ولدك إسماعيل قال إلى حاجة قال لا إنك تريد أن تذبحه قال وعلام سأذبحه قال تزعم أن الله أوحى إليك بذبحه قال يجب علي أن أنفذ أمر الرب فلما آيس الشيطان اعترضه بعد ذلك في منى وأراد أن يحول بينه وبين المضي فرماه خليل الرحمن على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بسبع حصيات وهي التي شرعت إحياءاً لتلك الذكرى الكريمة وتخليدا لشأن هذا العبد الصالح خليل الرحمن إبراهيم فلما توارى هذا الشيطان اللعين وذهب إلى مكان الحجرة الوسطى وأراد أن يحول بين إبراهيم وبين ذهابه رجمه أيضا بسبع حصيات فتوارى ثم لما ذهب إلى الحجرة الكبرى رجمه بسبع حصيات فتوارى ثم أضجع ولده إسماعيل وقال إسماعيل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يا أبت إذا أردت أن تذبحني فكبني على وجهي لئلا ترى وجهي فتشفق علي عند الذبح وبعد ذلك شد رباطي لئلا أضطرب وأكفف ثيابك خشية أن ينتضح الدم على ثيابك فتراه أمي فتحزن وكان الأمر كما قال الله " فلما أسلما " استسلما لله ولتنفيذ حكمه " وتله للجبين " وبدأ خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام يعمل السكين في رقبة ولده إسماعيل على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فلا تقطع(107/15)
فقال الولد مالك يا أبت قال إنها له تمشي قال انحرني نحرا اضرب ضربا فأراد أن ينحره فتثنت فجاء الفرج من الله جل وعلا " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وقربناه بفرج عظيم".
إخوتي الكرام: فنحن نحيي سنة خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فهو أبونا وهو أب لنا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل إخوتي الكرام ففي هذه الأضحية هذا المعنى وقد قرر أئمتنا الكرام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه جميعا أن من نذر نحر نفسه أو ذبح ولده فينبغي أن يذبح شاه كما أفتى الله جل وعلا خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما ألزم بذبح ولده فدى بذبح عظيم فمن نذر أن ينحر نفسه أن يذبح ولده فيجب عليه أن يذبح شاه تقرباً إلى الله جل وعلى وهذا كما قلت الأئمة الثلاثة.
وما خالف في ذلك إلا الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه فقال هذا أنذر معصية ولا يجب الوفاء به وقول الجمهور فيما يظهر أقوى والعلم عد الله جل وعلا ومما يحقق قولهم أن الله جل وعلا شرع لنا العقيقة هذه النسيكة التي نقوم بها وشرعت في اليوم السابع من أجل الاطمئنان على سلامة المولود فكأنها فداء له وهكذا من نذر أن يذبح ولده أو أن ينحر نفسه فيفدي نفسه ويفك ولده من الذبح الذي نذره بأن يذبح شاة يتقرب بها إلى الله جل وعلا.(107/16)
إخوتي الكرام: هذا المعنى نأخذه من الأضحية وعند هذا المعنى الأول أحب أن أقف وقفة يسيرة بعض السفهاء في هذه الأيام الذين يضحون بأنفسهم في طاعة الرؤساء والحكام عندما تعرض عليهم هذه القصة قصة خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه يستعظمون ما فيها ولعل بعض الحمقى منه لا يتورع أن يرمي خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بالحماقة والسفاهة وقد قال هذا بعض السفهاء هذه الأيام قال الإنسان ينحر ولده الإنسان يذبح ولده أيها المخذول أيها المخذول يا من بعت نفسك في دنيا غيرك إذا كنت تبيع نفسك من أجل كرسي غيرك وترى هذا حسنا ألا ترى حسنا من نبي كريم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام أن يحقق أمر الله العظيم وان يذبح ولده طاعة لله جل وعلا: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم".
وقد قال بعض السفهاء ممن يدرسون في إحدى الكليات في بعض البلاد وقد سئل عن سبب تسميته بإبراهيم قال هذا المخذول المجنون سماني أهلي باسم النبي المجنون إبراهيم الذي أراد أن يذبح ولده لرؤيا رآها في منامه أيها المخذول أيها العاتي أبها السفيه اعرف قدرك إذا كانت البشرية في هذه الأيام يذهب منها ألوف مؤلفة من أجل عروش الحكام ألا نذبح أنفسنا طاعة لربنا والله إننا نقدمها فهو الذي خلقها وستؤول إليه سبحانه وتعالى إن رؤيا الأنبياء وحي.(107/17)
كما ثبت ذلك في المستدرك بسند صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال " رؤيا الأنبياء وحي " فالله أوحى إليه بذلك وهذا نص محكم فماذا بعد ذلك للإنسان نحوه إلا أن ينفذ وهذا الأثر الثابت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما روى عن جم غفير من أئمة التابعين وله حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه رواه عبد الرزاق في مصنفه ورواه عبد بن حميد في مسنده والطبري في تفسيره والإمام الطبراني في معجمه الكبير والأثر رواه الإمام ابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبيد بن عمير وهو من أئمة التابعين قال رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا " إني أرى في المنام إني أذبحك فانظر ماذا ترى ".(107/18)
والأثر رواه الإمام عبد بن حميد أيضا وبن المنذر عن قتادة رضي الله عنه وأرضاه بلفظ "رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئا في منامهم فعلوه " يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فاقظ ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين هذا المعنى الأول إخوتي الكرام نستفيده من هذا القربان الذي نتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام يوم النحر والمعنى الثاني يريد ربنا جل وعلا أن نتعود الامتثال وأن نكون مطيعين لذي العزة والجلال ولا نتصرف في جميع شؤوننا إلا على حسب ما يريد ربنا سبحانه وتعالى فالله جل وعلا عندما أمرنا بالأضحية وفيها إخراج من المال وفيها توسعة علينا وعلى المسلمين فعلنا ذلك ولو فعلنا ما هو أكبر لحققناه وما ترددنا إذا كنا مؤمنين والذي يطيع الله في ماله يطيع الله في بدنه ويطيع الله في نفسه ولا يخرج عن شرعه في جميع أوقاته وأحيانه وهذا الإيمان أيها الاخوة الكرام لا بد من أن يوجد في نفس الإنسان وإلا فليس هو في عداد المؤمنين يقول الله جل وعلا: "ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا. وإذا لآتيناهم من لدنا أجر عظيما ولهديناهم صراطاً مستقيما".
ثبت في تفسير ابن أبي حاتم لما نزلت هذه الآية قال صديق هذه الأمة وخيرها بعد نبيها وصحبه صلوات الله وسلامه قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو أمرني الله بقتل نفس لقتلت نفس قال صدقت يا أبا بكر صدقت يا أبا بكر ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم واخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم وفي تفسير ابن أبي حاتم أيضا لما نزلت هذه الآية قال الصحابة الكرام لو أمرنا الله بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.(107/19)
وفي تفسير ابن أبي حاتم لما نزلت هذه الآية أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن رواحة قال هذا منهم أي لو أمرت هذه الأمة بأن تقتل نفسها لهذا نفذ وأطاع عبد الله بن رواحة وفي تفسير بن أبي حاتم وغيره أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال بعد أن تلا الآية بن أم عبد منهم وهو عبد الله ابن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين.
إخوتي الكرام: لابد أن نستحضر هذه المعاني ما لنا لا نتصرف فيه إلا على حسب شرع ربنا وأبداننا لا نتصرف فيها إلا على حسب شرع ربنا جل وعلا فهذا الذي نستفيده من الأضحية عندما نضحي فنحن من الله وإليه "إنا لله وإنا إليه راجعون" هذا الأمر الثاني إخوتي الكرام ينبغي أن نعيه وأن نستحضره عند الأضحية أيضاً وهذا الأمر من دعاة صار عبد الله حقا ولذلك عندما امتثلت الأمة أوامر الله في جميع شؤون حياتها حققت العبودية لله جل وعلا في نفسها أتم تحقيق.
أنظر إلى أمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه يقول نبينا عليه الصلاة والسلام كما في المسند والصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: "لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح" وأي أمانة أعظم بأن يضرب الإنسان رقبة أبيه في سبيل الله جل وعلا وأبو عبيدة رضي الله عنه وأرضاه هو الذي قتل أباه في موقعة بدر رضي الله عنه وأرضاه لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ليس بين أنفسنا وليس بين خلق ربنا صلة إلا على حسب شرع الله فنفوسنا رخيصة في سبيل الله وليس بيننا وبين أحد صلة إلا على حسب شرع الله هذا متى عندما نحقق العبودية لله جل وعلا فهذا المعنى ونحن نضحي ينبغي أن نستحضره إن مالنا لا نتصرف فيه إلا على حسب شرع الله وهكذا أبداننا وهكذا جميع شؤون حياتنا.(107/20)
إخوتي الكرام: وهذا الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في الصحيحين والمسند من رواية أنس مروي من طرق كثيرة روى من طريق أبي بكر وابنته عائشة رضي الله عنهم أجمعين وروى من طريق عمر وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وروى عن عبد الله بن مسعود وعن خالد بن الوليد وعن حذيفة ابن اليمان والحديث في درجة المتواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح " ولذلك لما طعن عمر رضي لله عنه وأرضاه كما في المسند والمستدرك قال لو كان ابو عبيدة حياً لاستخلفته على المسلمين من غير مشورة فإن سألني الله عن ذلك لأقولن ربي إني سمعت نبيك صلى لله عليه وسلم يقول " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ".
وقد استخلف عليهم أمينا لكن أبا عبيدة رضي الله عنهم أجمعين توفي قبل عمر بن الخطاب فأبو عبيدة توفي في طاعون عمواس الذي وقع سنة 18 هـ رحمه الله ورضي الله عنه الأمر الثالث إخوتي الكرام ما ينبغي أن ينتبه له الإنسان عند الأضحية أن الأضحية شرعت أيضا توسعة على النفس وعلى الأهل وعلى المسلمين فأيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله المجيد فنذبح ونأكل ونتوسع ونوسع على غيرنا ونذكر اسم الله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام هذا أيضا مقصود في هذا اليوم الذي هو يوم الزيارة ويوم الضيافة ويوم البهجة والفرح والسرور في يوم العاشر من ذي الحجة إذا توسعةٌ علينا وعلى عباد الله وذكر لله جل وعلا في هذا اليوم على ما أحل الله لنا وتفضل به علينا: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيت للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ".(107/21)
وهكذا يقول الله جل وعلا بعد آيات في نفس السورة من سورة الحج: "ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين".
إذاً شرع الله لنا هذه المناسك هذه الذبائح لنوسع بها على أنفسنا وعلى غيرنا ونذكر اسم الله جل وعلا عند ذبحها ولنتحدث بنعمة الله وفضله علينا إخوتي الكرام هذه المعاني ينبغي أن نلخصها عند الأضحية وأما آخر ما يتعلق بأمر الأضحية هناك أحكام عيون مسائل في الأضحية ينبغي أن ننتبه لها أولا: الأضحية تكون من بهيمة الأنعام ليس إلا فهي من الضأن والمعز ومن البقر ومن الابل ولا تخرج عن ذل فلا يجوز التضحية بغير ذلك من الغزلان والأرانب والدجاج والبط وغير ذلك مما أحل الله لنا الأضحية تكون من بهيمة الأنعام فقط وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها الله جل وعلا من الضأن اثنين ومن المعز اثنين والإبل والبقر ذكران أو إناث وذكران كل صنف أفضل من إناثه في الأضحية عندما يتقرب الإنسان بذلك إلى الله جل وعلا.(107/22)
فالأضحية تكون من بهيمة الأنعام فإذا كانت الأضحية من الشياه والمعز ينبغي أن تكمل سنة وأن تطعن في الثانية من الضأن والمعز أن تكمل سنة وأن تطعن في الثانية أما في المعز بال خلاف أما في الضأن في المعتمد عند أئمتنا أن الجذعة من الضأن يجزئ وهو ما أكمل ستة أشهر وطعن في النصف الثاني من السنة الأولى لكن بحيث يكون حجمه كبيراً بحيث لو وضع مع من أكمل سنة لما تميز هذا خاص بجذع الضأن أما جذع المعز فلا يجزئ أبدا إذا كان من المعز لا بد أن يكمل سنة وأن يطعن في الثانية وإذا كان من الغنم والضأن فإذا أكمل ستة أشهر ودخل في النصف الثاني من السنة الأولي فيجزئ إن شاء الله وأما البقر ينبغي أن تكمل سنتين وأن تطعن في الثالثة فلا تصح الأضحية بها إذا لم تكن كذلك وأما الإبل فينبغي أن تكمل خمس سنين وأن تطعن في السادسة فلا يجزئ أيضا الأضحية بها إذا لم تكن كذلك هذا ما يتعلق بالتنبيه الأول من التنبيهات التي سأذكرها والأحكام التي ينبغي أن نعيها عند الأضحية هي من بهيمة الأنعام إن كانت من الضأن والمعز سنة وطعنت في الثانية وخصوص الضأن والغنم فقط إذا أكملت ستة أشهر ودخلت بعد ذلك في النصف الثاني من السنة تجزئ بشرط أن تكون كبيرة حقا وأما المعز فتكمل سنة والبقر تكمل سنتين والإبل لتكمل خمس سنين فكونوا على علم بشروط الذبيحة والأضحية الواحدة تكفي الإنسان عن نفسه وعن أهل بيته كثروا أو قلوا ولو كانوا مائة نفر ماداموا بيتا واحدا نفقته واحدة يشتركون فيه مهما كان فيه من أسرة وزوجات يكفيه شاه واحدة وأما البقرة تكفي عن سبع أضحيات فلو اشترك فيها سبعة لأجزأهم وهكذا الإبل وأما الشاه الواحدة وهكذا من المعز الواحدة تكفي الإنسان وأهل بيته كما ثبت ذلك من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.(107/23)
ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الإمام البيهقي في السنة الكبرى ورواه الإمام مالك في موطأه وإسناده صحيح من رواية عطاء ابن السائب رحمة الله ورضوانه عليه وهو من أئمة التابعين وقال سألت أبا أيوب الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين عن وضع الأضاحي عندما كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو أيوب " كان الواحد منا يضحي بالشاه عن نفسه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت مباهاة " أي يذبحون شاتين وثلاث وأربعا وما زاد كنا نضحي بالشاة الواحدة فيضحي بها الإنسان عن نفسه وعن أسرته يأكلون ويطعمون ثم تباهى الناس بعد ذلك لكن هذه هي سنتنا عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم بيننا فالأضحية الواحدة كما قلت تجزئ عن الإنسان وعن أهل بيته ولهم جميعاً الأجر تام غير منقوص ورحمة الله واسعة وإذا اشترط أيضا سبعة أشخاص في بقرة أو في بدنة فيجزئهم بالشروط المتقدمة.
الأمر الثالث: هذه الأضحية ينبغي أن تكون سالمة من العيوب فكل ما فيها عيب تمتهن به فتنقص قيمتها به وتعتبر هذا نقصا في خلقتها فلا يجوز التضحية إذاً بها كما ثبت ذلك عن نبينا صلى الله عليه وسلم.(107/24)
ثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة والحديث رواه بن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين عن البراء بن عازب رضوان الله عليه وعن الصحابة أجمعين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم أربع لا تجزئ في الأضحية العوراء بين عورها والمريضة بين مرضها والعرجاء بين ضلعها يعني عرجها والكسرة التي لا تنفي وفي رواية والعجفاء التي لا تنقي أي ذهب مخ ساقها فهي ضعيفة هزيلة فكل ما فيه عيب لا يجوز التضحية به من عور ومن باب أولى من عمى من قطع إليه من ذهاب أكثر القرن وهكذا من قطع الأذنين من كسر فيها من من من كل ما يعتبر عيبا في البهيمة يٌنقص قيمتها ويكون عيباً فيها لا يجوز أن تضحي به فهذه أضحية تتقرب بها إلى الله جل وعلا فينبغي أن تكون كاملة تامة.
روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات عن النعمان بن أبي فاطمة رضي الله عنه قال اشتريت كبشا أقرن أعين أملح فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم أسوقه قال هذا كأنه ذِبح إبراهيم أي هذا كالكبش الذي ذبحه خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قال بعض الأنصار فلما سمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم أحضرت له كبشا بهذه المواصفات فذبحه النبي صلى الله عليه وسلم في أضحيته إذا إخوتي الكرام لا بد أن تسلم الأضحية من العيب وكلما كانت كاملة غالية سمينة كان أعظم لأجرك عند الله جل وعلا.
ولذلك ثبت في موطأ الإمام مالك بإسناد صحيح عن عروة بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه أنه جمعت بنيه فقال يا بني هذه الهدي من البدن عندما تهدونها تخيروا الكرائم فيها فأحدكم لو أهدى الكريمة أي لمن هو عليه كريم لاختار له فالله جل وعلا أحق أن نختار له وهو أول سبحانه وتعالى عندما أمرنا بتعظيم هذه الشعيرة فينبغي أن تكون بصفة تامة كاملة لا نقص فيها.(107/25)
الأمر الرابع: إخوتي الكرام وقت الذبح بالنسبة للأضحية يبدأ بعد الانتهاء من صلاة العيد فمن ذبح قبل صلاة العيد فهذا لحم يأكله هو وأهله وليس من النسك في شيء وعليه أن يذبح نسيكة أخرى بعد ذلك كما ثبت في المسند والكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة من رواية البراء بن عازب أيضا رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم النحر إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم يقدمه إلى أهله ليس من النسك في شيء فهذا أيضا ينبغي أن نعيه وأن الذبح لا يكون إلا بعد الانتهاء من صلاة العيد.
الأمر الخامس: بالنسبة للأضحية إخوتي الكرام يستحب للإنسان أن يذبحها بنفسه وأن يباشر ذبحها إذا أمكنه وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند والكتب الستة عن حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بكبشين موجوأين أملحين أقرنين على نبينا صلوات الله وسلامه فأضجعهما ووضع رجله الشريفة علية الصلاة والسلام على صفحتها ثم سمى وكبر وذبحها عليه الصلاة والسلام فإذا باشرت الذبح فهذا أفضل وإذا لم تباشر فلا أقل من أن تشهد الذبح وأن تراه من أجل إظهار شعائر الإسلام والابتهاج بها ولو ذبحت كما قلت لكان أفضل ويقوى في ذلك الرجل والمرأة وثبت في صحيح البخاري معلقا عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأمر بناته أن يذبحن أضحيتهن بأيديهن والأثر وصله الحاكم في المستدرك بسند صحيح فلو ذبح الإنسان أضحيته رجلا أو امرأة لكان أولى وإذا لم يتمكن فلا أقل من أن يشهد الذبح وأن يحضره ولو وكل بالذبح عنه وهو حاضر أو غائب كل ذلك يجزئ.(107/26)
الأمر الخامس: إخوتي الكرام أحب أن أنوه إلى أمر كثر السؤال عليه في هذه الأيام ألا وهو إرسال الأضاحي إلى بلدان أهل الإيلام لتذبح هناك لما في تلك البلاد من حاجة وفقر إن هذا عمل طيب وشعور حسن يثاب الإنسان عليه لكن ينبغي على المؤمن أن يجمع بالحسنيين المقصود من الأضحية كما قلت التوسعة على النفس والأسرة والأهل والجيران وإظهار شعائر الإسلام فما ينبغي لك أن تفرط في هذه الأضحية ثم بعد ذلك إذا أردت أن ترسل صدقة ليذبح عنك أضحية وأضحيتان وثلاثة وأكثر تقربا إلى الله وصدقة على عباد الله المحتاجين فهذا أعظم لأجرك عند رب العالمين اذبح أضحيتك هنا ولا بد من هذا تم بعد ذلك أرسل ما شئت ليذبح بالبلاد الأخرى من أضحية أو من مائة أضحية صدقة لله جل وعلا وإذا أردت ألا تكثر في الإرسال وما تريد إلا أن تذبح أضحية واحدة وتقول إما هنا وإما هناك فحقيقة إذا كانت الأضحية هنا تقرب قيمتها مثلا من ألف ريال مثلا لو أخذت واحدة متوسطة في حدود خمسمائة أو سبعمائة أو أو وأرسلت ما يزيد من قيمتها ليذبح في أضحية أخرى هناك لكان هذا أولى المقصود وينبغي أن تحافظ على هذا الشعور ألا وهو مساعدة عباد الله وأن تحافظ على هذه الشعيرة أيضا في بلدك وفي بيتك مع أهلك تعظيما لشعائر ربك ليعلم الأولاد أن هذا يوم عيد يوم بهجة أمر الله بهذه الأضحية ثم بين لهم هذه المعاني فيها هذا أيضا مقصود وإذا ما أردت أن ترسل إلى هناك إلا من هذه الأضحية فاجمع بين الحسنيين أضحية متوسطة وأرسل الزائد من القيمة إلى هناك ليذبح في أضحية أخرى وأما أن تمنع نفسك أو أسرتك من الذبح مطلقا ومن هذه الأضحية وتقول أرسل إلى مثلا أهلي في بلد آخر أو إلى الفقراء من المسلمين في بلدان أخرى كما قلت مع منزلة هذا الشعور وحسنه ينبغي أن يضم إليه الجانب الثاني.(107/27)
ولذلك إخوتي الكرام: إن أمكن الإنسان أن يباشر الذبح بنفسه فليحرص عليه أو فليحضر أو فليوكل لكن لا بد من أن يذبح عنده في بيته إذا كان مستطيعاً وليرسل ما شاء إلى بلاد الله جل وعلا وأما آخر الأمور المتعلقة بهذه التنبيهات وعيون المسائل في الأضحية إذا ذبحت الأضحية فالمستحسن لك فيها ونحوها أن تأكل ثلثا وأن تدخر ثلثا وأن توزع على عباد الله ثلثا ما بين صدقة وهدية كما تريد ولو خالفت هذا فليس عليك حرج لو قدر أنك وزعت النصف أو أكلت الكل لكثرة أفراد الأسرة فلا حرج ولا يتعين عليك شيء تلزم به لكن إذا وزعت وتصدقت وأهديت فتقدم هذا بين يديك وهذا أعظم لأجرك عند ربك جل وعلا ثبت في المسند وسنن الترمذي بسند حسن من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح شاة وأمرهم بتوزيعها فقال لأمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها ماذا بقي منها فقالت ما بقي إلا كتفها فقال عليه الصلاة والسلام بقي كلها غير كتفها بقي كلها لأن ذاك الذي وزعناه بقي لنا عند الله جل وعلا إلا هذه الكتف لم يبق لأننا سنأكله ويفنى إخوتي الكرام هذه المعاني لابد من استحضارها عند الأضحية.
أسأل الله أن برحمته أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول هذا القول وأستغفر الله الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسمل تسليما كثيرا.
اللهم أغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(107/28)
اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم استر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم هلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم يسر على الحجاج حجهم وتقبل منهم وأغنهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.
اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلمك منا.
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.
اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(107/29)
فضل الصلاة وذكر الله
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
فضل الصلاة وذكر الله
12
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديننا قويما وهدانا صراط مستقيما وأصبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌ في كتاب مبين.
"يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيننا عمياً وآذان صماً وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فق فاز فوزاً عظيماً".
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..
أشرف بقاع الأرض وأحبه إلى الله جل وعلا المساجد ففيها نور الله وهداه وإليها يأوى المؤمنون المهتدون وهؤلاء المؤمنون الذين يأوون إلى بيوت الحي القيوم في هذه الأرض وهي المساجد وصفهم الله جل وعلا بأنهم رجال ثم نعتهم بأربع خصال.(108/1)
الخصلة الأولى: فيهم أنه لا تلهيهم الدنيا عن طاعة الله جل وعلا وعما أوجبه الله عليهم فهمه.
الخصلة الثانية: يعظمون الله ويعبدونه يذكرونه ويوحدونه يقيمون الصلاة وهم يشفقون على خلق الله ويؤتون الزكاة ثم يستعدون بعد ذلك للقاء ربهم جل وعلا في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإيقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وقد مضى الكلام إخوتي الكرام عن الصفة الأولى وهي أن هذه الدنيا لا تلهي عباد الله المؤمنين والذي يعمرون هذه المساجد في هذه الحياة.
وأما الصفة الثانية: فهم يذكرون الله جل وعلا ويصلون له نعم هؤلاء عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا وعرفوا الغاية التي من أجلها وجدت بيوت الله في الأرض – وجدت لذكر الله وعبادته والتفقه في دينه جل وعلا وللخضوع له ولعظمته جل وعلا فهم يذكرون الله في هذه البيوت ويصلون له سبحانه وتعالى.
أما الذكر إخوتي الكرام: فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل عند قول الله حي وعلا في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وبينت شعائر الذكر والمعاني التي يحتملها الذكر في شريعة الله جل وعلا وأقول ما تقدم – على وجه الاختصار بشرط أن أذكر كلاما غير الكلام الذي تقدم عند تفسير أول الآية.(108/2)
إخوتي الكرام: أما الذكر فهذا للإنسان كالماء للسمك فلا يمكن للإنسان أن يحيي بدون ذكر الله جل وعلا بقلبه ولسانه وقد وضح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت هذا حي كحال السمك في الماء عنده بهجة وحياة وذاك ميت قلبه خربٌ خربان. مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت ولفظ الإمام مسلم مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت إذا هذا الذكر فيه حياة لقلوب المؤمنين الموحدين فهذه الدنيا لا تلهيهم عن ذكر رب العالمين.
وهذا الذكر إخوتي الكرام: هو رأس الطاعات وروح العبادات فمن أجله شرع الله العبادات من أجل أن نذكره بها وأن نعظمه جل وعلا قال جل وعلا: "أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى ن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " +++ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون – ولذكر الله الذي يحصل في الصلاة عند التلذذ بمناجاة أكثر فائدة وأعظم منزلة من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر.
فالمصلي يحصل فائدتين في صلاته الفائدة الأولى: وهي المقصودة أيضا له أن قلبه يبتهج ونفسه تنشرح وصدره يتنور بمناجاة الله جل وعلا ولذكر الله أكبر – ثم يترتب على هذا أثر آخر إن هذه الصلاة تحصنه بعد ذلك من المنكر والفحشاء "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر" أكبر أثر ومنزلة وفائدة من كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.(108/3)
والآية تحتمل احتمالا آخر حق منقول على سلفنا الكرام ولذكر الله أكبر من سائر الطاعات وأفضل من جميع القربات فهو روح كل عبادة فكل عبادة روحها الذكر كما أن الروح التي نحيي بها البدن في هذه الحياة روح للبدن فروح العبادات بأسرها ذكر الله ومناجاته والتلذذ بالثناء عليه ومخاطبته ومناجاته سبحانه وتعالى ولذكر الله أكبر، أكبر من كل طاعة وهذا إخوتي الكرام على أن المصدر مضاف إلى الفاعل والمعاني كلها حق ثابتة ولذكر الله لنا عندما نذكره فالله جل وعلا تعهد وتكفل بذكر من يذكره "فاذكروني أذكركم" ولذكر الله لنا عندما نذكره أكبر وأعلى ن ذكرنا له فهو يذكرنا إذا ذكرناه ونحن عندما نذكره فهذا أعظم طاعاتنا ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا الأمر فاسمع كما قلت شيئاً لم يتقدم ذكره أخرج الطبري في معجمه الأوسط بسند رجاله وثقو كما قال الحافظ الهيثمي المجمع عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "لو أن رجلاً في حجرة دراهم يقسمها وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل منه " لو أن رجلا في حجرة دراهم يقسمها جمع في حجرة الدراهم والدنانير وجلس يقسمها ويوزعها على عباد الله المحتاجين وآخر جلس يذكر الله ويناجيه لكان الذاكر لله أفضل منه والحديث بسند ورجاله وثقو وما ذلك إلا لأن القلب لا يحيى إلا بذكر الله – لا خير في صدقة ليس معها ذكر وتعظيم لله جل وعلا لا بد إذا من حياة القلب فإذا أحييت القلب يتصدق ويحسن لعبادة الله ويجاهد في سبيل الله ويحافظ على طاعاته فلا يدخلها رياء ولا عجب لو أن رجلا في حجرة دراهم يقسمها وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل منه والطبراني في الأوسط بسند رجاله وثقو أيضا كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(108/4)
" ما من صدقة أفضل من ذكر الله، نعم عندما نذكر الله جل وعلا تتصدق على نفسك وتحيي قلبك فهذا الذكر لقلبك كالماء للسمك ما من صدقة أفضل من ذكر الله أفضل الصدقة ما تنفقه على نفسك ثم على من تعول ثم على عباد الله المحتاجين الآخرين فأنت بالذكر تتصدق على نفسك وتحيي قلبك ما من صدقة أفضل من ذكر الله ولذلك أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالإكثار من هذه العبادة من أجل أن يحيي قلب الإنسان فهذه العبادة ينبغي أن تكثر منها على الدوام ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان ورواه ابن السني في عمل ليوم وليلة ورواه عبد الله بن حميد في مسنده وغيرهم من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون. أي حتى يقول المنافقون عن الذاكر إنه مجنون وقد قيل هذا الأعقل الخلفية وأذكى الخلفية خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون وقالوا هذا عن أول رسل الله إلى أهل الأرض بعد أن حصل فيها الشرك وهو أول أولى العزم نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه " كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر " اذكروا الله أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون عن الذاكر إنه مجنون والحديث إخوتي الكرام حسنه الحافظ بن حجر وليس في إسناده من حوله شيء عن الكلام الإدراج أبو السمح وهو من رجال السنن الأربعة وأخرج حديثه الإمام البخاري في الأدب المفرد وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق وحديثه إن شاء الله حسن نعم في روايته عن أبي الهيثم شيء من الضعف والكلام.(108/5)
لكن كما قلت نص على تحسينه شيخ الإسلام الإمام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني عليه جميعا رحمة الله أكثروا من ذكر الله حتى يقال مجنون وهذا الحديث وجد ما يشه له من طرق أخرى ففي حلية +++معجم الطبراني والحديث رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق في رواية ابن عباس رضي الله عنهما والرواية الأولى من رواية أبي سعيد وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراءون – اذكروا الله ذكرا كثيرا مستمراً طويلاً حتى يقول المنافقون إنكم مراءون.
والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام أحمد في الزهد ورواه سعيد بن منصور في سنته لكن من رواية أبي الجوزاء مرفوعاً إلى خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه وأبو الجوزاء من التابعين فالحديث على هذا مرسل وخلاصة الكلام الحديث لا ينزل عن درجة الحسن أكثر من ذكر الله اذكروا الله ذكراً كثيرا – أكثروا من الذكر حتى يقول المنافقون عنكم إنكم مراءون وحتى يقول المنافقون عن الذاكر إنه مجنون فهؤلاء العباد لا تلهيهم الدنيا بما فيها من بيوع وتجارات عن ذكر رب الأرض والسموات.
إخوتي الكرام: وتقدم معنا أن لفظ الذكر يطلق على أمرين على ذكر الله باللسان وبالقلب وهو خصوص الأوراد والأذكار ويطلق على ما هو أعم من ذلك على القيام بكل طاعة لله فمن أطاع الله فهو ذاكر لأن كل طاعة فيها ذكرٌ لله جل وعلا واستحضار بالقلب لعظمة الله جل وعلا وتلفظ باللسان بهذه العبارات التي يقوم بها فكل مطيعٌ لله فهو ذاكر لله وعليه قول الله جل وعلا: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ".(108/6)
إقامة الصلاة تدخل في ذكر الله قطعاً وجزماً فهي خصوص بعد عموم إنما خصها الله بالذكر لمنزلتها ولأهميتها في شريعة الله جل وعلا ففيها الذكر بجميع أنواعه وألوانه في الصلاة من أفضل الأذكار ألا وهو تلاوة كلام العزيز الغفار ثم من تسبيح وتحميد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه كل هذا يحصل في هذه العبادة ففيها الذكر الكامل التام بجميع أنواعه وأشكاله ولذلك خص الله هذه العبادة بالذكر فقال: "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله".
وإقامة الصلاة - أما الصلاة إخوتي الكرام فالبحث فيها سيكون عن طريق عدة مراحل – المرحلة الأولى في بيان معناه اللغوي اختلف علمائنا الكرام من الفقهاء واللغويين عليهم جميعاً رحمة الله – هل لفظ الصلاة مشتق أو هو اسم علم وضع على هذه العبادة لم يشتق من شيء على قولين اثنين وعلى القول بالاشتقاق فاختلف أئمتنا في هذا الاشتقاق أيضاً على أربعة أقوال، أظهرها أولها: وهو أن لفظ الصلاة مأخوذ من صلى يصلي صلاة إذا دعا فالصلاة بمعنى الدعاء وإنما سميت الصلاة الشرعية التي هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير. مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة –
إنما سميت صلاة بمعنى الدعاء لأن الدعاء جزء منها وبعض منها وركن من أركانها فأنت عندما تقرأ الفاتحة تدعوا الله وتسأل الله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الظالين وهكذا تثني على الله وتدعوه بعد ذلك بغيرها فبما انه يحصل في الصلاة دعاء لرب الأرض والسماء فقيل لها إنها صلاة وقد جاء لفظ الصلاة بمعنى الدعاء في آيات القرآن.(108/7)
وحديث نبينا عليه الصلاة والسلام قال الله جل وعلا: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" أي أدعو لهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت له الزكاة الصدقة ليصرفها في مصارفها يدعو للمتصدقين وللمزكين وصل عليهم أي أدعو لهم ومنه قول الأعمش:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي حليت فاغتمض ... نوما فإن تجنب المرء مضجعا
عندما احتضر فبدأت ابنته تدعو له يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي حليت أي ضل الذي دعوت فاسأل الله أن يجنبك الأوصاب والألم والأوجاع عليك مثل الذي حليت فاغتمض نوما فإن لجنب المرء مضجعا وقد ثبت هذا المعنى عن نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه والبيهقي في السنن الكبرى عن رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا دعي أحدكم فليجب، إذا كان مضطراً فليأكل وإن كان صائماً فليصل إذا دعي أحدكم إلى طعام ووليمة فليجب فإن كان مضطراً فليأكل وليطعم وإن كان صائما فليصل أي فليدعو لأهل البيت بالخير والبركة أجاب دعواتهم لكن ما أفطر فدعا لهم فخل الأنس والسرور.
والحديث كما قلت إخوتي الكرام: في صحيح مسلم وغيره وإن كان صائماً فليصل والمراد من الصلاة الدعاء لأهل البيت بالبركة وليس المراد من الصلاة الشرعية كما فهم بعض العلماء فقال فليصل أي فليذهب إلى البيت الذي فيه الوليمة ثم ليصل ركعتين ولينصرف ليس المراد هذا كما وضحت رواية الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال إذا دعا أحدكم فليجب فإن كان مفطراً فليأكل وإن كان صائما فليدعوا بالبركة. وإن كان صائما فليدعوا بالبركة هذا هو معنى فليصل أي فليدعوا لأهل البيت بالخير والبركة.(108/8)
وكما قلت إخوتي الكرام: هذا أرجح الأقوال على القول بالإشتقاق أن الصلاة بمعنى الدعاء صل يصلي صلاة دعا يدعو دعاء وهناك ثلاثة أقوال أخر قيلت في الإستقاق أذكرها على وجه الإيجاز وفيها كما قال أئمتنا العلم عند الله جل وعلا قيل إن لفظ الصلاة مأخوذاً من الصلاة وهو عرقٌ يكون في وسط الظهر ويكتنف ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه ويحيط بعجب الذنب الذي هو عظمة صغيرة عجب الذنب تكون في رأس العصعص من الإنسان في هذا المكان عظمة صغيرة وكل ما في الإنسان إذا مات يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب عرق وسط الظهر يقلل له الصلا باللام بعدها ألف بدون همزة الصلا هذا العرق يمتد وإلى أن يصل إلى عجب الذنب فيفترق ثم يكتنف عجب الذنب ويحيط به ومنه قول العرب للمصلي في المحلبة أي حلبة السباق بين الخيل قول العرب للمصلي وهو الذي يأتي بالدرجة الثانية مصلى والذي يسبق يقال له مجلى مصلى قال أئمة اللغة سمي الثاني التالي للمجلى سمي مصليا لأن رأسه ورأس فرسه رأس خياله عند صلوة المجلى أي يأتي ورائه ذاك سبق وهذا ورائه فرأسه عن صلوى أي عند جلوى السابق وعليه فالصلاة مأخوذة من الصلا – قال الإمام القرطبي وهذا الاشتقاق يفيد معنيين المعنى الأول من الصلا بمعنى المصلى الذي يأتي بعد المجلى أي هي تالية للإيمان وهي أعظم الواجبات بعد توحيد الرحمان كالمصلى والمجلى فعندنا أعظم حقوق الله على عباده توحيده لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويلي التوحيد مباشرة له سبحانه وتعالى فالصلاة إذاً كأنها مصلى لذلك الأمر الأول الذي هو مجلى وهو توحيد الله جل وعلا وفي الاشتقاق كما قال الإمام الألوسي غرابة وبعد وقبله الإمام الرازي: وحقيقة إن القول فيه خفاءٌ وبعد.(108/9)
والقول الثاني: على هذا سميت الصلاة صلاةً إذا كانت مأخوذة من الصلا قالوا لأن المصلى عندما يركع ويسجد ينثني صلواهُ أي هذان العرقان اللذان كما قلت صار إثنين عند عجب الذنب وأحاطا به واكتنفاه ينثنيان في حال الركوع السجود فقيل للصلاة صلاة لأن الإنسان يثني صلويه أي هذا العرق الذي تفرق إلى عرقين عند عجب الذنب فقيل إذا لهذه الصلاة صلاة لما يحصل فيها من انثناء الصلوين أي العرقين بعد أن كانا عرقاً واحداً وكما قلت الاشتقاق فيه بعد وقيل إن لفظ الصلاة – مأخوذٌ من الملازمة ومنه صلي بالنار إذا لازمها واحترق بها – تصلى ناراً حامية – تقاسى هذه النار مقاسةً لا خروج منها وعليه فيجب على الإنسان أن يلازم الصلاة وأن لا يهملها طرفة عين – وقيل إنها مأخوذة من التعديل ومنها صليت العود بالنار – إذا لينته بالصلاة – وهو لهب النار وحرها – فهكذا ينبغي أن يعدل الإنسان نفسه بالصلاة وأن يلازم الصلاة والصلاة تالية للإيمان وإذا سجد الإنسان ينثني صلواه ثم في الصلاة دعاءٌ والتجاءٌ إلى الله جل وعلا وهذه الأقوال الأربعة أظهرها كما قلت من حيث الاشتقاق اللغوي أولها والعلم عند الله جل وعلا وللأقوال الأخرين شواهد من كلام العرب وبسط هذا في كتب اللغة وكتب الفقه.(108/10)
القول الثاني: الصلاة ليست مشتقة من شيء لا بمعنى الدعاء ولا الاشتقاقات الأخرى إنما هي اسم علم على عبادة معروفة ذهب إلى هذا الإمام أبو نصر القشيري وتبعه عددٌ من أئمة الإسلام ووجه تعليل هذا القول – أنه لم ينحل زمان من شريعة فما من أمة إلا وأرسل الله فيها مزيداً وما خلا تشريعٌ لأمة من الأمم من الصلاة وعليه هذا اللفظ اسم لهذه العبادة التي فرضها الله جل وعلا على الأولين والآخرين على عبادة المكلفين صلاة فهي اسم علم مرتجلٍ غير مشتقة من شيء كلفظ الحجر والشجر وغير ذلك هذا البحث اللغوي بقسميه سواء كانت مشتقة أو اسم علم مرتجل ليست مشتقة من شيء ولا يعنينا كثيرا إنما يحس بنا أن نعرف أهل اللفظ من حيث اللغة.
أما المعنى الشرعي للصلاة بلا خلاف بين أئمتنا أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة فمفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليله التسليم هذه الصلاة إخوتي الكرام فريضة محكمة يكفر جاحدها. قرر الله وجوبها في آيات القرآن وقرر وجوبها نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الصحيحة الحسان وأجمع على ذلك أئمة الإسلام فمن آيات القرآن التي تقرر وجوب الصلاة يقول الله جل وعلا في سورة البينة: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" ومن ذلك قول الله جل وعلا في سورة النساء: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" فرضا مؤقتاً محدداً في أوقاتٍ يجب أن تفعل هذه الصلاة فيها إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ومن الآيات أيضاً قول الله جل وعلا في سورة هود: "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين".(108/11)
أقم الصلاة والأمر للوجوب في أمرنا إلا بالإخلاص لله وتوحيده وتعظيمه عن طريق الصلاة والإحسان إلى عباده والشفقة عليهم عن طريق إيتاء الزكاة وهكذا كما قلت الصلاة فرضٌ مكتوبةٌ علينا للصلوات أوقات محددة ينبغي أن نفعلها فيها.
وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بوجوب الصلاة وفرضيتها ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث في سنن الترمذي والنسائي وهو في أعلى درجات الصحة من وراية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا".
وورود الأحاديث الكثيرة تبين فرضية الصلاة ووجوبها وأن من تركها يقاتل حتى يأتي بها ثبت في الكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه والحديث متواتر روى عن عدة من الصحابة الكرام عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا حتى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله.(108/12)
والحديث أخرجه الشيخان من رواية ابن عمر رضي الله عنهما بزيادة أعرف أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا حتى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله وتخصيص الصلاة بالذكر لأنها أعظم حقوق الله وتخصيص الزكاة بالذكر لأنها أعظم حقوق العباد وعليه ينبغي أن تقوم وبكل حق واجب لله أو للعباد والاتكال عليه كما ثنيت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا حتى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " وهذه فريضة ثابتة محكمة يكفرُ جاحدها كما دل على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل الطاعات وأعظم القربات نتقرب بها إلى رب الأرض والسموات.(108/13)
وقد وضح هذا الأمر وقرره خير البريات نبينا محمد صلى الله علية وسلم ففي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والإمام الدارجي والحديث إسناده صحيح عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" استقيموا ولن تحصوا لي لن تطيقوا الإستقامة كما يريد الله منكم إنما ابذلوا ما في وسعكم والله غفور رحيم. استقيموا ولن تحصوا لن تطيقوا الاستقامة ولا يمكن للعبد أن يؤدي حق الرب ونحن خطئ في الليل والنهار ولا يسعنا إلا عفو العزيز الغفار سبحانه وتعالى استقيموا ولن تحصوا المعنى الثاني وهو حق استقيموا ولن تحصوا لن تستطيعوا أن تحصوا ثواب الاستقامة أن استقمتم فلذلك أجرٌ لا يخطر على بال أحدٍ منكم استقيموا فإن استقمتم لا يعلم أحدٌ مقدر ثوابكم إلا الله استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة خير الأعمال التي تتقرب بها إلى ذي العزة والجلال الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن.
وهذا الحديث إخوتي الكرام الثابت من رواية نوبان عن نبينا عليه وعلى آله وأصحابه ومواليه الصلاة والسلام روى عن عدة من الصحابة الكرام أيضاً وهو حديث صحيح كما قلت رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي أمامة الباهلي ورواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ورواه الطبراني في معجمه الكبير أيضاً وفي معجمه الأوسط عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهم أجمعين وعن عبد الله بن قراظ ولفظ حديث معجم الطبراني الأوسط " استقيموا ولن تحصوا واعلموا إن أفضل أعمالكم الصلاة إن خير أعمالكم الصلاة " فهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل عملٍ تتقرب به إلى الله جل وعلا.(108/14)
ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه الصلاة إذا وقعت على الكيفية المطلوبة وأقامها الإنسان كما اشترط الله فيها "لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة" إذاً أقامها كما أراد الله فهنيئاً له فصلاح الصلاة يستلزم صلاح سائر الأعمال وفساد الصلاة يترتب عليه فساد سائر الأعمال وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة وبين لنا أن أول ما تحاسب عليه يوم القيامة من أعمالنا الصلاة فهنيئا لمن صلحت صلاته وشقاء لمن فسدت صلاته.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه أهل السنن الأربعة ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن والحديث إسناده صحيح والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وروى عن أبي قتادة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإذا صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر وفي رواية فإن صلحت صلح عمله كله وإن فسدت فسد عمله كله والحديث إخوتي الكرام كما قلت روي عن غير أبي هريرة رضي الله عنه روي عن أنس أيضاً وعن تميم الداري وروي عن عبد الله بن مسعود وعن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وفي بعض روايات عبد الله بن مسعود إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة وإن أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء وكنت وجهت هذا الحديث في المواعظ السابقة فقلت أول ما يحاسب عليه العباد من حقوق الله الصلاة وأول ما يحاسبون عليه من حقوق العباد الدماء فنسأل الله أن يسلمنا من الدماء وشرها وأن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة حق الإقامة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(108/15)
إخوتي الكرام: هذه لمحة مختصرة فيما يتعلق بلفظ الصلاة ومعناها وحكمها وفضلها – وأما إقامة الصلاة وقد اشترط الله هذا الأمر في الصلاة فقال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإيقام الصلاة ليس المطلوب من الإنسان أن يصلي فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون إنما المطلوب منه أن يقيم الصلاة وبذلك يزول الإشكال الذي يخطر في البال في كثير من الأحيان كيف تهدد المصلين بالويل لأنهم ما أقاموا الصلاة نعم حصلت منهم الصلاة لكن بدون إقامة لها فما معنى الإقامة – شاع في تعبير القرآن عند ذكر الصلاة واستفاض هذا أن يذكر الله الصلاة بلفظ الإقامة.
والآيات في ذلك كثيرة وأخيرة أنظر أول آية ذكر الله فيها الصلاة في مطلع كتابه في أول سورة البقرة ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون. إذاً يقيمون الصلاة وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الأعراف: "والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة" إنك لا تضيع أجر المصلحين وهكذا أخبرنا الله عن عباده الطيبين وإذا مكناهم في الأرض يقيمون الصلاة قال تعالى في سورة الحج: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
وتقدمت معنا آية العنكبوت أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة والآيات في ذلك كثيرة منها قول الله جل وعلا في سورة فاطر: "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة" – "ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير" وهكذا قول الله في نفس السورة بعد آيات: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور".(108/16)
وهكذا أخبرنا الله عن هذه الفريضة أن المطلوب فيها إقامتها في هذه الأمة وفي الأمم السابقة فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه يقول ما حكاه عن ربنا العظيم في السورة التي سماها باسمه بسورة إبراهيم: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة. فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" وقال ما أخبر الله عنه في آخر السورة: "ربي اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء".
وهكذا نبي الله موسى كليمه عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه أوحى الله إليه وإلى أخيه وإلى أخته بإقامة الصلاة فقال جل وعلا في سورة يونس: "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة واقيموا الصلاة وبشر المؤمنين" وهكذا أخبر الله عندما أوحي إلى كليمه موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه أمره أن يقيم الصلاة: "إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري" وهكذا عندما أوحي العبد الصالح لقمان ولده قال: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه هن المنكر".
والآيات في ذلك كما قلت إخوتي الكرام كثيرة كثيرة تطلب منا أن نقيم الصلاة لا أن نؤدي الصلاة فماذا يدل هذا اللفظ من دلالة معتبرة ينبغي أن نتصف بها ونسأل الله أن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة حق إقامتها.
إخوتي الكرام: لفظ الإقامة يقيمون الصلاة حق إقامتها إخوتي الكرام لفظ الإقامة يقيمون الصلاة من أقام إقامة يحتمل أربعة معاني كلها حق أقواها أولها وأذكر الأربعة واجمع بينهما الأمر الأول والمعنى الأول للفظ الإقامة لفظ الإقامة " توفيه الشيء حقه علماً وعمل " إذا وفيت الصلاة حقها علماً نظرياً فأتقنت أحكامها وعرفت أركانها وشروطها وسنتها ثم حققتها عملياً هذه إقامة الصلاة وساعد هذا قد يضرب بها وجهك قبل أن تسلم.(108/17)
إذاً لابد من إقامة الصلاة توفيه الشيء حقه ملماً وعملا قال الله جل وعلا في سورة الرحمن: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغو في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" - وفو هذا الميزان حقه وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان وهنا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وتوفية الشيء حقه علماً وعملاً فإذا فرطت في شيء من معرفة أحكام الصلاة فما أقمت الصلاة وإذا فرطت شيئاً في أعمال الصلاة من أركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها فما أقمت الصلاة المطلوب هنا إقامتها لا تأديتها يقيمون الصلاة توفية الشيء حقه ولأجل هذا قال العبد الصالح سفيان واختلف في تعيينه أي السفيانين هو هل هو الثوري أو ابن عيينة والأثر رواه عنه الإمام البخاري في تفسيره سورة المائدة معلقا بصيغة الجزم دون أن يبين السفيانين هو وقال بعض العلماء إنه سفيان الثوري قال الحافظ ابن حجر لم أقف على ذلك موصولاً وإذا كان هذا القائل هو سفيان الثوري أو سفيان ابن عينية فكل منهما من أئمة الهدى والإرشاد يقول سفيان ما في القرآن آية أشد علي من هذه الآية أي آية قول الله في سورة المائدة: "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم".
والإقامة هي توفية الشيء حقه علماً وعملاً فكأن الله يقول للأمم قبلنا لا اعتبار لكم ولا وزن ولا تقدير وأنتم هباءً منثورا إلا إذا وفيتم ما أنزل الله عليكم حقه علماً وعملاً وهذه الأمة يقال لها كما قيل للأمم السابقة وعليه فهم سفيان من هذه الآية المعنى الذي سأذكره يا أمة محمد على نبينا صلوات الله وسلامه لستم على شيء حتى تقيموا القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وإقامتهما توفيتهما حقهما علماً وعملاً وهنا كذلك إقامة الصلاة توفية الصلاة حقها الثلاثة مقبوله وأجمع بينهما إن شاء الله.(108/18)
وقيل إن إقامة الصلاة مأخوذة من قامت في السوق إذا نفقت وراج ما فيها وعليه فينبغي أن تكون هذه الصلاة نافعة رائجة مرغوب فيها ويترتب على هذا المحافظة عليه في أوقاتها هذا هو الذي يفعله الإنسان في الشيء الذي يرغبه ويحبه ويحرص عليه ويتعلق به فينبغي أن تكون هذه الصلاة كأنها سلعة تعمل بها لله وهي سلعة غالية ترغب فيها وتحرص عليها وتتعلق بها كما يتعلق أهل السوق بسلعهم في بيعهم وشرائهم.
قال الإمام القرطبي عليه رحمة الله وإلى هذا المعنى أشار عمر رضي الله عنه وأثر عمر مروي في موطأ الإمام مالك عندنا مع موسى عبد الله بن عمر عن عمر والأثر إسناده منقطع فنافع لم يدرك عمر رضي الله عنهم أجمعين لكن الأثر له شواهد مرفوعة متصلة إلى النبي عليه صلوات الله وسلامه ولفظ الأثر والحديث في موطأ مالك وهو الحديث الخامس في الموطأ أن عمر كان يكتب إلى عما له فيقول إن أهم أمركم عندي الثلة فمن حافظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع حفضهما علماً وحافظ عليها عملاً فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
فإذاً المعنى الثاني: إقامة الصلاة من قامت في السوق كما قلت – إذا نفقت وراج ما منها.
والمعنى الثالث: أيضا حق معتبر إقامة الصلاة من قام بالأمر إذا جد فيه وبذل النشاط فيه ومنه قامت الحرب إذا اشتد لهما القتال فيها وعليه يجدون ويجتهدون في إقامة الصلاة على أكمل وجه.
والمعنى الرابع: من إقامة الصلاة تأديتها وفعلها وإذاجمعنا بين الأمور الأربعة فأقول يؤدون الصلاة ويجدون في تأديتها برغبة ونشاط وحرص ثم بعد ذلك يكملون ما تستحقه الصلاة وما تريده علماً وعملاً فعلا خبراً فيحيطون بهذه الصلاة ويكملونها من كل جهة فحصلت هذه المعاني كلها وليس المقصود من إقامة الصلاة فعلها كما اتفق على ذلك أئمتنا.(108/19)
ولو كان المراد من إقامة الصلاة فعل الصلاة كيفما كان لما عدل الله عن الأقصر إلى الأطول بدون فائدة لقال لاتلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلاة لا داعي لإقام الصلاة وقال يقيمون الصلاة، يقول يصلون فالبليغ لا يترك أخصر الكلام الموجز إلى ما هو أطول إلا لقلته فيريد إذا من إقامة الصلاة هنا توفية الشيء حقه علماً وعملا إخوتي الكرام وإذا ما قام الإنسان بالصلاة علماً وعملاً على وجه التمام على هذه الحالة فقد جذعها ونقصها.
ثبت في معجم الطبراني في الأوسط بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الكرام يقول أبو هريرة وأنا حاضر لو كان لأحدكم هذه السارية السارية في المسجد عمود جذع نخلة يقوم عليه في المسجد لو كان لأحدكم هذه السارية لكره أن تجدع أي أن تقطع أو يحصل فيها نقص لكره أن تجدع فكيف بالصلاة التي هي لله وأنتم تجدعونها أتموا صلاتكم فإن الله لا يقبل إلا تامة وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يوفي الصلاة حقها علماً وعملاً فقد سرق منها وهذا أسرق السراق وأسوأ السراق عند رب الأرض والسماء.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح بن خزيمة والحديث رواه الحاكم في المستدرك والطبراني في معجمه الكبير والحديث روي من رواية أبي قتادة رضي الله عنه وروى عن غيره من الصحابة الكرام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته قالوا وكيف يسرق يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لا يتم ركوعها ولا سجودها روي الحديث أيضا عن أبي هريرة وعن أبي سعيد الخدري وروى عن غيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أسوأ الناس سرقه الذي يسرق من صلاته قالوا وكيفي يسرق من صلاته يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال لا يتم ركوعها ولا سجودها.(108/20)
إخوتي الكرام: لتحصل الصلاة على التمام وليحصل وصف الإقامة فيها لا بد من الكلام على أدائها في أوقاتها وعلى وجوب الخشوع فيها وعلى وجوب الخشوع فيها وعلى حفظ الحركات والسكتات فيها وألا يحرك الإنسان جوارحه وأعضائه وأن يطمئن في أركانها وأفعالها هذه الأمور ينبغي أن نتدارسها أسأل الله جل وعلا أن يسهل لنا مدارستها في موعظة آتية نه على كل شيء قدير كما أسأله أن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة ويتلذذون بها وأن تكون صلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول واستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم ارض عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفرج عن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين اللهم أغفر لنا ماقدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغارا اللهم أغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن لمن أحسن إلينا اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين الحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد".(108/21)
فرحة العيد
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
فرحة العيد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي صالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
(يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) .
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) .
(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام أيام استب شار وسرور بما من به عليها ربنا العزيز الغفور من الصيام والقيام في سيد الشهور وهذه الفرحة التي تعيشها الأمة الإسلامية في هذه الأوقات ينبغي أن يقف عندها أهل العقول فأقول ومن الله التوفيق لأرشد الأمور.(109/1)
معشر الإخوة المسلمين وحد الله بين عباده الموحدين في العقائد والأفكار وفي الأقوال والأعمال وفي المشاعر والأحاسيس في جميع الأحوال في السراء وفي الضراء فالله عقد بين عباده المؤمنين عقد الإخاء وأوجب لبعضهم على بعض النصرة والمحبة والولاء ولاغرو في ذلك فهم لله أولياء (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) .
وقد وضح نبينا صلى الله عليه وسلم صلة المؤمنين ببعضهم وما ينبغي أن يكون عليه حال المؤمنين في أحاديثه الصحيحة الكثيرة التي تقرر هذا الأمر فمن ذلك كما ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه وهو من أعلى الأحاديث درجة من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك نبينا صلى الله عليه وسلم بين أصابعه لتقرير هذه الصورة الذهنية بالأمثلة الحسية.
نعم إخوتي الكرام: هم كالبنيان المرصوص وهو كالجسد الواحد كما قرر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء والإمام أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي في السنن الكبرى من رواية سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) .
وفي بعض روايات الحديث (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .
وفي بعض روايات الحديث في صحيح مسلم وغيره (المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) .(109/2)
هذا هو حال المؤمنين وحد الله بيننا كما قلت في العقائد والأفكار وفي الأقوال والأعمال وفي المشاعر والأحاسيس في جميع الأحوال وثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام القضاعي في مسند الشهاب وأبو نعيم في الحلية وإسناده حسن بالشواهد من رواية سهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس) .
إخوتي الكرام: وحد رب العالمين بين عباده الموحدين في العقائد والأفكار في الأقوال والأعمال في الأحاسيس والمشاعر في جميع الأحوال في السراء وفي الضراء وتحقيقا لهذا الأمر أمر الله جل وعلا أن تتوحد هذه الأمة من أولها لآخرها بقضها وقضيضها عن بكرة أبيها أن تتوحد تحت إمرة حاكم واحد تحت إمرة خليفة واحد يقودها من شرقها إلى غربها ومرد الأمور فيها إليه على حسب كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وله أعوان وأمراء في أقطار الأرض إنما ينبغي أن تتوحد الأمة في جيشها وفي بيت مالها وفي جميع أحوالها تحقيقا للوحدة التي عقدها الله بين عباده الموحدين في عقائدهم في أقوالهم في أعمالهم في مشاعرهم فإذا كان الرب الذي نعبده سبحانه واحد وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي نتبعه واحدا وإذا كان الدين الذي ندين به واحدا وإذا كان البيت الذي نستقبله ونتوجه إليه واحدا فعلام تتعدد دويلات المسلمين إن هذا نذير بكل سوء مبين في العاجل وعند رب العالمين.(109/3)
وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر الوخيم ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى والبغوي في شرح السنة من رواية سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) لأنه يريد أن يفرق الجماعة وأن يشق عصى الطاعة وأن يجعل الأمة شيعا وأحزابا ودويلات تتنازع فيما بينها والدولة الإسلامية ينبغي أن يقودها إمام واحد ينوب عن نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام في الحكم بين عباد الله بالشريعة الإسلامية ورواه اِلإمام البزار والطبراني في معجمه الأوسط بسند صحيح رجاله ثقات من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة 198 في كتاب الخلفاء باب في النهي عن بيعة خليفتين والحديث رواه الإمام ابن عساكر عن سيدنا على وعن سيدنا العباس عم نبينا خير الناس عليه الصلاة والسلام.(109/4)
وروى الإمام الطبراني في معجمه الكبير والأوسط بسند صحيح رجاله ثقات أيضا كما في المجمع في المكان المشار إليه عن التابعي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه وأرضاه أن سيدنا عبد الله بن الزبير قال لسيدنا معاوية رضوان الله عليهم أجمعين: يا معاوية أنت حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا الآخر منهما) فهو من رواية أيضا معاوية وعبد الله بن الزبير يحدث معاوية بهذا ويذكره وفي السنن الكبرى للإمام البيهقي يقول روينا في حديث ثقيفة بني ساعدة وهي بيت للأنصار الأبرار اجتمعوا فيه بعد موت نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فجاءهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه ومعه سيدنا عمر ومعهما سيدنا أبو عبيدة بن الجراح مع لفيف من المهاجرين وأخبروهم أن الخلافة ينبغي أن تكون في قريش فقال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في السنن الكبرى للإمام البيهقي سيفان في غمد لا يصطلحان إذا أردت أن تجعل سيفين في غمد واحد إن السيفين سيتسلما ويتكسران وإذا أردت أن تجعل على الأمة خليفتين سيقتتلان ويتنازعان ويصبح بأس الأمة بينها وقال سيدنا أبو بكر خير هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه مقالته الشهيرة: (لا يحل أن يكون على المسلمين خليفتان فهناك تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح) وتمت بعد ذلك البيعة لسيدنا أبي بكر من قبل المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.(109/5)
إخوتي الكرام: تحقيقا لعقد الإخاء الذي عقده الله بين أولياء رب الأرض والسماء أمرهم الله أن يكون الخليفة عليهم واحد يدير هذه الأمة وهو المسؤول عن جيوشها وعن بيت مالها وعن تدبير أمورها نعم له نواب وأعوان ينوبون عنه ويرفعون كل شيء إليه وهذه الأمة هي يد واحدة وهي وإن تعدد أفرادها فهي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد الذي يكمل كل عضو فيه الآخر ولا يمكن أن يستغني هذا الجسد عن عضو منه وإذا فصلت اليد عن الجسد فلا قيمة لها فإن اليد لا تضرب إذا فصلت عن الجسد وإذا فصلت الرجل عن الجسد فلا تمشي وإذا فصلت العين عن الجسد فلا تبصر وإذا قطعت اللسان عن الجسد فلا يتكلم وحال الأمة في هذه الأيام فصلت أعضاؤها وقطعت أطرافها عن بعضها وإلى الله نشكوا أحوالنا.
إخوتي الكرام: وقد قرر أئمتنا الكرام أن هذا الأمر الذي غاب عن كثير من الأذهان أنه واجب على أهل الإسلام أعني أن يكون عليهم خليفة واحد يقود هذه الأمة بجميع أجناسها وأشكالها واختلاف لهجاتها ولغاتها وأن يكونوا أخوة متحابين في الله رب العالمين هذا أمر واجب وهو مجمع عليه بين أئمتنا لا يخالف فيه إلا من كان ضالا نص على الإجماع إمام الفقهاء وسيد المحدثين الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه الرسالة صفحة 419 وقد حكى الإجماع غير واحد من أئمتنا الكرام انظروه في كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي وفي كتاب الأحكام السلطانية للإمام الفراء.
ونقل الإجماع على ذلك الإمام ابن حزم في كتاب مراتب الإجماع وأقره على ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في التعليق على كتابه المسمى بنقض مراتب كتاب الإجماع وحكى الإجماع على ذلك شيخ الإسلام الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الثاني عشر صفحة 32 فقال اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز أن تعقد الخلافة لخليفتين في وقت واحد في بلدين سواء كانا متباعدين أو متقاربين.(109/6)
والله جل وعلا يقول في كتابه في سورة الأنبياء: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) ويقول جل وعلا في سورة المؤمنون: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) .
والمراد من الأمة هنا الملة والشريعة والدين ولفظ الأمة كما يأتي بمعنى الدين يأتي بمعان أخرى حاصلها أنه يأتي على خمسة معان في كتاب الله تعالى أولها ما ذكرت ويأتي لفظ الأمة بمعنى الجماعة والفرقة والقطعة ومنه قول الله جل وعلا: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون) ومنه قول الله جل وعلا: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) ومنه قول الله جل وعلا: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) .
ويأتي لفظ الأمة بمعنى الحين والبرهة والزمن وقد استعمل هذا في مكانين من كتاب الله عز وجل في سورة هود: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) وفي سورة يوسف: (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبؤكم بتأويله فأرسلون) .
ويأتي بمعنى الإمام المقتدى به الذي يعدل أمة من الأمم قال الله عز وجل في سورة النحل: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين) على نبينا وعلى خليل الله إبراهيم وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه والمعنى الخامس للفظ الأمة يأتي بمعنى الصنف ومنه قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) في المأكل وفي المشرب والتمييز بين ما ينفعها مما يضرها ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى إلا أمم أمثالكم تأكل وتشرب وتعرف ربها وتعرف مالكها وتعرف عدوها من صديقها هكذا الطيور وهكذا الحيوانات الأخرى.
وهكذا بنو آدم إخوتي الكرام: وأيام العيد أيام تتوحد فيها المشاعر بين عباد الله المجيد أيام فرح أيام سرور وقد أقر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا المعنى وأرشد المسلمين إليه.(109/7)
ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى والبغوي في شرح السنة وعبد بن حميد في مسنده والإمام الفريابي في كتاب أحكام العيدين والحديث صحيح كالشمس صححه الإمام الحاكم ووافقه الإمام الذهبي وصححه الإمام البغوي في شرح السنة وصححه الحافظ ابن حجر وأئمة الإسلام على هذا ولفظ الحديث من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وللأنصار يومان يلعبون فيهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما هذا فقالوا يا رسول الله يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية فنحن نلعب فيهما في الإسلام فقال نبينا عليه الصلاة والسلام إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى) .
نعم إخوتي الكرام: إظهار البشر والسرور في أعياد المسلمين هذا من الدين ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ولذلك أمر المسلمون بأجمعهم أن يحضروا صلاة العيد ليشاركوا في هذه الفرحة التي من الله بها على عباده بعد صيامهم وقيامهم أو بعد يوم عرفات الذي له شأن عظيم عند رب الأرض والسموات ينبغي أن يشارك الجميع الصغار والكبار النساء والرجال حتى أهل الأعذار ينبغي أن يشاركوا في صلاة العيد فالنساء الحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين لكنهن يعتزلن الصلاة فلا يصلين لكن ينبغي أن يحضرن في هذه الفرحة التي فيها إظهار شعائر الله وذلك من تعظيم الله جل وعلا.
إخوتي الكرام: وتحقيقا للفرحة في أيام العيد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ننزع منا أيام العيد كل ما يشر إلى شدة إلى غلظة إلى قتال فإظهار السلاح أيام العيد مما ينبغي أن لا يحصل في بلاد المسلمين فالسلاح يشير إلى الرهبة يشير إلى الشدة وهذه أيام فرح أيام سرور ما ينبغي أن يوجد فيها ما يشير إلى شدة ولا إلى رهبة.(109/8)
وقد ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح البخاري في كتاب أحكام العيدين باب بهذا الخصوص فقال باب ما يكره من حمل السلاح في العيد وفي الحرم ثم روى معلقا بصيغة الجزم عن إمام التابعين الحسن البصري عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين أنه قال: (نهوا عن حمل السلاح أيام العيد إلا أن يخافوا عدوا) قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الثاني صفحة 455 في شرح هذا الأثر يقول لم أجد هذا الأثر موصولا وإن نقله عن الحسن الإمام ابن المنذر عليهم جميعا رحمة الله نعم ثبت هذا الأثر وروى مرفوعا إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في سنن ابن ماجه من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لكن بإسناد ضعيف قال عبد الله بن عباس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس السلاح في العيدين في بلاد المسلمين إلا أن يكونوا بحضرة العدو) والحديث رواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه مرسلا من رواية الضحاك بن مزاحم إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وإسناده ضعيف أيضا لكن هذا المعنى ثابت.
وكما نهي المسلمون عن حمل السلاح أيام العيدين نهوا أيضا عن حمل السلاح في الحرمين فذاك مكان آمن يقصده كل أحد من كل فج عميق فيأتي إلى هذا المكان العجوز والبكر والرجل الضعيف فإذا رأى صورة السلاح في رؤية صورة السلاح ما فيها وهذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ففي صحيح مسلم والسنن الكبرى للإمام البيهقي من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس السلاح بمكة) .(109/9)
وثبت في مسند الإمام أحمد من رواية جابر بن عبد الله أيضا وفي الإسناد عبد الله بن لهيعة وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لأحد أن يحمل فيها سلاحا لقتال) يعني في المدينة المنورة على منورها الصلاة والسلام فكما أنه لا يجوز أن يلبس السلاح بمكة لا يجوز أن يحمل السلاح في مدينة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه ويستوي في ذلك الكان الغريب والمستوطن كما أخبر عن ذلك ربنا الرحمن: (سواء العاكف فيه والباد) وكل من آذى عباد الله في ذلك المكان فخصمه ذو الجلال والإكرام وإيذاؤه لعباد الله في حرم الله من الإلحاد في حرم رب العباد يقول ربنا جل وعلا (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) .
إخوتي الكرام: هذه المعاني ينبغي أن ترسخ في أذهان المسلمين وإذا أمرنا أن نظهر البشر والسرور في أعياد المسلمين فقد حذرنا غاية التحذير نهانا اللطيف الخبير عن المشاركة في أعياد الجاهلية وعن إظهار البشر والسرور في تلك الأعياد الغوية في أعياد المشركين وفي الأعياد الوطنية التي انتشرت بين المسلمين وفي أعياد الميلاد وفي غير ذلك من البلاء الذي حصل بين العباد من أعياد الجلوس وغير ذلك مما تعارف عليه الناس في هذه الأيام وكلها أعياد باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ولا ينبغي للمسلم أن يشارك فيها وإذا شارك فالويل ثم الويل له.(109/10)
يقول الله جل وعلا في صفات عباد الرحمن في آخر سورة الفرقان: (وعباد الحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) وعدد ربنا أوصافهم ثم قال: (والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما) وكلمة يشهدون تحتمل معنيين كل منهما ثابت عن سلفنا الكرام المعنى الأول لا يشهدون من الشهادة وعليه لا يشهدون في الزور ولا يزورون ولا يكذبون عندما يدلون بشهادتهم إنما يتكلمون بالحق والزور سمي زورا من الزور وهو الميل لأن فيه ميل عن الحق وانحراف عن صراط الله المستقيم والمعنى الثاني لا يشهدون بمعنى لا يحضرون ولا يتواجدون فهو من الشهود لا من الشهادة التي هي بمعنى إدلاء الشهادة والزور قيل مجالس النياحة والمآتم والغناء مجالس الباطل كما ثبت هذا عن جم غفير من التابعين منهم العبد الصالح مجاهد بن جبر رضي الله عنه والنياحة الذي قال بذلك الحسن البصري وغيره وقال عبد الله بن عباس والإمام الضحاك رضي الله عنهم أجمعين لا يشهدون الزور أعياد المشركين نعم من شارك في تلك الأعياد الجاهلية فهو جاهلي.(109/11)
يقول العبد الصالح أحمد بن حفص وهو من علماء الحنفية الكبار وقد ولد في السنة التي مات فيها فقيه هذه الملة المباركة سيدنا أبو حنيفة النعمان سنة 150 وتوفي سنة 217 هـ وقد ترجمه الإمام الذهبي في السير في الجزء العاشر صفحة 157 وقال إنه شيخ الإسلام وإمام العلماء في بلاد ما وراء النهر وهو من العلماء الربانيين ويقول كما في الجواهر المضية في طبقات السادة الحنفية في الجزء الرابع صفحة 37 (لو أن رجلا عبد الله خمسين سنة ثم أهدى بيضة لمشرك في يوم عيده تعظيما لذلك اليوم فقد كفر بالله وحبط عمله) وهذا الكلام نقله حذامي المحدثين وأمير المؤمنين الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الثاني صفحة 442 وهو الذي يقال له أبو حفص الكبير الإمام البخاري شيخ الإسلام وإمام العلماء في بلاد ما وراء النهر وهو من العلماء الربانيين يحكي عن نفسه أنه رأى نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه رآه في الرؤية ويلبس قميصا وبجنبه امرأة تبكي فقال لها نبينا عليه الصلاة والسلام يا أمة الله لا تبكي علي فإذا مت فابكي) فاستيقظ أحمد بن حفص أبو حفص وما استبان له وجه الرؤيا فذهب إلى والد الإمام البخاري إسماعيل بن إبراهيم وعرض عليه هذه الرؤيا فقال تأويلها أن السنة لازالت قائمة بعد والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لها إذا ضاعت السنة وظهرت البدع في ذاك الوقت ابكي وتأثري من الخلل والضلال والزلل الذي حصل وأما أنا فإن غيب جسدي فلازالت سنتي بين العباد. وقد عده عدد من أئمتنا مع اثنين معه في زمانه من المجددين للقرن الثالث الهجري هو وأمير المؤمنين أبو عبد الله البخاري والثالث هو أبو إسحاق أحمد بن إسحاق السرماري وقد عند أبي داود ومستدرك الحاكم.(109/12)
والحديث رواه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الأوسط والبيهقي في كتاب المعرفة للسنن والآثآر وإسناد الحديث صحيح قال الحافظ ابن حجر في كتابه توالي التأسيس في مناقب شيخ الإسلام الإمام الشافعي في صفحة 49 إسناده قوي وقد روى الحديث أيضا الإمام البيهقي في مناقب الإمام الشافعي عليهم جميعا رحمة الله في الجزء الأول صفحة 55 من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) يقول الليث بن نصر الشاعر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا اجتمعنا وتذاكرنا هذا الحديث وقلنا من يكون علم الزمان ومجدد هذا الزمان في هذا القرن الذي نعيش فيه في القرن الثالث للهجرة يقول فقلت لهم وبدأت به أول المجددين وأول من ينطبق عليه هذا الحديث الإمام أبو حفص الكبير قلت ومن مثله في ورعه وفي فقهه.
ثم تدارسنا من يكون بعده فقلت الإمام أبو عبد الله البخاري ومن مثله أيضا في ورعه وفي معرفته للحديث بطرقه وعلله ثم تذاكرنا من يكون بعده فقلت أبو إسحاق أحمد بن إسحاق السرماري وكانت وفاتهم على ترتيبهم سنة 217 هـ، 256 هـ، 242 هـ عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه إخوتي الكرام أما ترجمة الإمام البخاري فلن أذكر عنها شيئا فهو أشهر من جبل على رأسه علم ونار فهو سيد المحدثين في هذه الأمة وهو الذي نتبرك بذكره ونتقرب إلى الله جل وعلا بحبه وأما الإمام أبو حفص فقد ذكرت ما أزين به هذا المجلس وما نستنزل به رحمة الله من أحواله ومكانته.(109/13)
وأما الإمام أحمد بن إسحاق السرماري فلعل كثيرا منكم ما سمع باسمه قبل هذه الموعظة سأذكر لمحة موجزة من أخباره ومكانته رحمة الله ورضوانه عليه فإذا قدم أبو حفص لفقهه وورعه وقدم البخاري لفقهه وورعه ومعرفته بالحديث قدم أبو إسحاق السرماري لورعه وديانته وبطولته وشجاعته رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام البخاري في مجلسه وقد روى عن أحمد بن إسحاق السرماري في صحيحه فهو من شيوخه قال ما رأيت مثل أبي إسحاق السرماري في الشجاعة والنجدة والمروءة فخرج بعض الحاضرين وقابل رئيس المطوعة أي رئيس فرقة الجيش والمسؤول عن الجيش في ذلك الوقت ونقل له كلام الإمام البخاري فكأن ذاك وقع في نفسه ما يقع في نفس بني آدم هذا الإمام البخاري يفضل واحدا من المشايخ عليه في جهاده وفروسيته وتدبيره لأمور الحرب فجاء للإمام البخاري وقال أنت تقول ما رأيت مثل أبي إسحاق السرماري في الإسلام قال ما قلت هذا إنما قلت لا يعلم أحد مثله في الفروسية والشجاعة والنجدة في الجاهلية والإسلام ـ كان مع بعض المؤولين في بلاد الكفر يفاوضون أمير تلك البلاد من الكفرة واسمه جعبويه من أجل إطلاق بعض الأسرى فعرض ذلك الأمير الكافر جيش الكفر أمام هذين المبعوثين ومر رجل يتبختر فقال جعبويه للمبعوثين من قبل دولة الإسلام إن هذا المقاتل يعدل ألف رجل عندي فقال أبو إسحاق لرفيقه ماذا يقول جعبويه قال يقول إنه يعدل ألف مقاتل قال أنا أبارزه فقال جعبويه الكافر لهذا المبعوث من قبل الدولة ماذا يقول من معك قال يقول إنه يبارز هذا القائد الذي يعدل ألفا من المقاتلين عندك قال هل صاحبك سكران شرب الخمر ولايعي ما يقول قال هذا من شيوخ المسلمين ولا يسكر قال إن لم يكن سكران فهو مغرور فقال أبو إسحاق الموعد بيننا غدا يأخذ أهبته ونلتقي للمبارزة فالتقى أبو إسحاق بمفرده مع جيش الكفر في اليوم الثاني يتقدمهم الذي يعدل ألف فارس ثم برز أبو إسحاق لهذا البطل المغوار من الكفرة الأشرار(109/14)
فلما برز له ذاك هرب أبو إسحاق أمامه حتى فصله عن الجيش بعيدا ثم ضربه بعمود كان معه فقطعه نصفين وكان أبو إسحاق يحمل عمودا وما فارفه هذا إلا عندما شاخ فخفف وزنه يزن ثمانية عشر منا والمن يساوي رطلين والرطل عند السادة الحنفية 455 غراما وعليه العصا التي يحملها يزيد وزنها على سبعة عشر كيلو وأما الرطل عند السادة المالكية فهو 56ٍ322 غراما وأما عند السادة الشافعية والحنابلة 324 غراما وعليه على تقدير الشافعية والمالكية والحنابلة لا تقل عن أحد عشر كيلو يحملها بيده عمود فلما شاخ حمل عمودا وزنه أربعة وعشرين رطلا فلما علم جعبويه بالأمر أرسل خمسين فارسا في طلبه فهرب أمامهم وجلس تحت أكمة في منخفض التل فكان كلما رقى واحد ونزل لأجل أن يلحق أبا إسحاق ضربه بالعمود فقطعه نصفين فقتل تسعة وأربعين ثم قبض على مكمل الخمسين فقطع أنفه وأذنيه وقال لو أنه بقي غيرك لقتلتك لكن اذهب وأخبر جعبويه ومن معكم خبر المسلمين.
انظروا ترجمته العطرة الطيبة في سير أعلام النبلاء في الجزء الثالث عشر صفحة 37 فما بعدها يقول الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا في مطلع ترجمته هو الإمام الزاهد العابد المجاهد فارس الإسلام ثم أورد له قصة عجيبة غريبة يقول فيها أخرج أبو إسحاق السرماري سيفه فقال أعلم يقينا أني قتلت به ألف كافر وإن عشت قتلت به ألفا أخرى ولولا خوفي أن يكون بدعة لأمرت أن يدفن معي ثم ختم الإمام الذهبي بقوله أخبار هذا الغازي تسر قلب المسلم ثم قال إنه كان مع فرط شجاعته من العلماء العاملين والعباد الزاهدين رحمة الله عليه وعلى أئمتنا أجمعين.(109/15)
إخوتي الكرام: وأيام العيدين التي نبتهج فيها ونسر بما من الله علينا من الخيرات والفضائل والأجور أيام تجمع مقاصد الدين بأسره وكنت ذكرت مرارا أن دين الله يقوم على دعامتين اثنتين تعظيم لله وشفقة على خلق الله ومقاصد الأعياد في الإسلام تجمع هذين الأمرين فعيد الفطر سبقه شهر رمضان شهر الصيام والقيام وشهر تعظيم الرحمن شهر الجود والإحسان ومساعدة المحتاجين من الأنام أما يوم الفطر ففيه أيضا هذان الأمران ففيه تكبير ذي الجلال والإكرام (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) وما أعلم ماذا أصاب المسلمين في هذه الأيام كأنهم يستحون من تكبير ذي الجلال والإكرام وكأن أصواتهم صارت عورة في هذه الأيام يذهب أحدهم إلى المصلى وهو أخرس ويذهب إلى صلاة الفجر وهو أخرس ويدخل هلال شوال وهو أخرس وكأنه ما حل على المسلمين يوم يكبرون فيه الله العظيم والله لو عقلنا منزلة هذا اليوم لدوت أصواتنا بالتكبير وارتجت الجدران على من عليها بتكبير ذي الجلال والإكرام لكن الأمة في هذه الأيام تستحي من الفضيلة وتجهر بالرذيلة وفيه بعد ذلك مواساة وصدقة الفطر ومساعدة لعباد الله المحتاجين.
فمقاصد العيد عندنا تقوم على مقاصد دين الله المجيد من تعظيم لله وشفقة على عباد الله وهكذا عيد الأضحى المبارك فقبل يوم العيد الحجاج يتجردون لله المجيد في أيام المناسك وقضاء المناسك التي عليهم ألسنتهم تجهر بالتلبية والتهليل والتعظيم لله ومن عداهم يصومون يوم عرفات ويعظمون رب الأرض والسموات وما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة أيام مباركة حصل فيها تعظيم لله وحصل فيها شفقة على خلق الله فبر الحج طيب الكلام وإطعام الطعام عظمت الله وأحسنت إلى عباد الله.(109/16)
وأما يوم الأضحى ففيه التكبير أيضا من دخول يوم عرفة نكبر إلى عصر آخر أيام التشريق تعظيم لله وثناء عليه وفيه تقرب إلى الله بالأضاحي والهدي ونأكل منها ونطعم البائس الفقير ففي ذلك تعظيم لله وشفقة على خلق الله وصدق الله إذ يقول: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ولذلك كانت التحية بيننا أيام العيد أن يذكر بعضنا بعضا بمنة الله عليه وإحسان الله إليه وفضل الله عليه فيقول المسلمون لبعضهم إذا تلاقوا تقبل الله منا ومنكم.
روى الإمام المحاملي وهو الحسين بن إسماعيل المحاملي الذي توفي سنة 330 هـ بسند صحيح كما نص على ذلك الإمام ابن حجر في الفتح في الجزء الثاني صفحة 446 عن جبير بن نفير وهو من أئمة التابعين الكرام الأبرار ثقة إمام فاضل مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم يرى نبينا عليه الصلاة والسلام وحديثه في الأدب المفرد للإمام البخاري وصحيح مسلم والسنن الأربعة وقد توفي سنة 80 هـ وقيل بعدها يقول: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا أيام العيد يقول بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك) .
وهناك بعض الآثار المرفوعة في مجمع الزوائد انظروها في الجزء الثاني صفحة 206 وفي فتح الباري في المكان المتقدم أسأل الله أن يتقبل منا برحمته وفضله وأن يقبلنا وأن يجعل أيام العيد أيام جائزة لنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(109/17)
إخوتي الكرام: من ألقى نظرة إلى المسلمين في هذه لأيام حقيقتا يتفطر كبده ويتقطع قلبه وإلى الله نشكوا أحوالنا ضعفت صلتنا بربنا وفسدت علاقاتنا فيما بيننا فلا لله عظمنا ولا على الخلق أشفقنا وإذا ابتليت الأمة بذلك فلا وزن لها ولا اعتبار ولها في هذه الحياة ما لها من الذل والعار وما ينتظرها أشد وأشنع عند العزيز القهار.
روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه والأثر رواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسند معضل من رواية أبي علي الفضيل بن عياض عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: (إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي وإذا تسابت فيما بينها سقطت من عين الله) وفي رواية (إذا عظمت أمتي الدرهم والدينار) عظمت الدنيا تصاب بالذل والعار والصغار في هذه الدار هيبة الإسلام التي أعطاها الله لهذه الأمة (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) تنتزع منها هذه الأمة من عليها بهيبة تنصر بها مسيرة شهر تنتزع منها عندما عظمت الدنيا.(109/18)
نعم ثبت في مسند البزار وقال الإمام الهيثمي في المجمع بإسناد حسن وانظروا الحديث في كتاب الفتن من مجمع الزوائد في الجزء السابع صفحة 177 والحديث رواه الإمام أبو يعلى كما نص على ذلك الإمام الحافظ ابن حجر في المطالب العالية من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال لا إله إلا الله تمنع من سخط الله ما لم يؤثروا دنياهم على دينهم فإذا آثروا دنياهم على دينهم وقالوا لا إله إلا الله قال الله كذبتم) إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم نزعت منها هيبة الإسلام وإذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي هذا الوحي الذي أوحي به إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وهو خير كتاب أنزله الرحمن نقرؤه بلا وعي ولا تدبر ولا تفهم والقراءة لا تجاوز اللسان لأننا عطلنا قطب الإسلام ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما لله عظمنا وآثرنا الفاني على الباقي ثم بعد ذلك إذا تسابت فيما بينها سقطت من عين الله نعم إن الأمة عندما تركن إلى هذه التفاهات تصاب بهذه العقوبات.(109/19)
ثبت في سنن أبي داود والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وابن أبي شيبة في مصنفه والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة وأبو نعيم في الحلية وإسناد الحديث صحيح من رواية ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا يا رسول الله ومن قلة نحن يومئذ قال لا ولكنكم كثير كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت) فمن نظر إلى أحوالنا يتفطر قلبه وإلى الله نشكوا أحوالنا إخوتي الكرام لابد من إعادة الإسلام في الأنفس لابد من إعادة الإسلام في البيوت لابد من إعادة الإسلام في الأسواق لابد من إعادة الإسلام في جميع مرافق الحياة فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك. ومن المقربين لديك. وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(109/20)
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً. اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(109/21)
نية الصيام
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
نية الصيام
3/2/1995
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة طاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: فيا إخوتي الكرام..
وعدت في الموعظة الماضية أن نجعل مواعظ شهر رمضان حول أحكام الصيام، وفي هذه الموعظة المباركة سنتدارس حكماً من هذه الأحكام الحسان ألا وهو "نية الصيام" وسيقوم البحث على ثلاثة أركان:
1. على تعريف النية
2. على منزلة النية ووجوب إخلاص النية لرب البرية.(110/1)
3. وقت النية في الصيام.
إخوتي الكرام: النية بالتشديد والتثقيل أفصح ن ويجوز التخفيف كما قرر علماء اللغة " النيَّة" "والنِيَة " والنية هي الإرادة والعزم والقصد، وهي من أعمال القلب التي لا يطلع عليها إلا الرب سبحانه وتعالى ولذلك قال علماؤنا الكرام في تعريف النية على وجه العموم: هي انبعاث القلب نحو ما يراه نافعاً له في الحال والمال.. في العاجل والآجل.
إخوتي الكرام: ومع أن النية من الأعمال القلبية ولا يطلع عليها إلا رب البرية فقد قرر علماؤنا الكرام جواز التلفظ بها باللسان بل استحب ذلك جمهور أئمة الإسلام ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يستحب التلفظ بالنية ليواطئ اللسان القلب وليكون الأمر أقوم قيلا وأشد تحقيقاً عند الإنسان لا سيما عند وجود الغفلة والسهو الذهول في بني الإنسان في آخر الزمان.
وهذا الذي قرره أئمتنا الكرام موجود في كتبهم إن شئتم أن تنظروا في المجموع شرح المهذب للإمام النووي 1/316 وانظروا المغنى للإمام ابن قدامة 3/26 وهكذا في سائر كتب أئمتنا –كما قلت- قالوا يستحب التلفظ بها ليواطئ اللسان القلب، وهذا الذي قرره أئمتنا يستند على فعل نبينا عليه الصلاة والسلام فقد صرح بنيته التي في قلبه الشريف عليه صلوات الله وسلامه صرح بها في لسانه في بعض المواطن.(110/2)
ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لبى النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وحج فقال: " لبيك اللهم عمرة وحجاً " والتصريح بالعمرة والحج هذا تصريح بما نوى القلب بما عزم عليه القلب بما قصده القلب لبيك اللهم عمرة وحجا، قال بكر بن عبد اله المزني..وهو من أئمة التابعين الطيبين وقد لقي أنس بن مالك وابن عمر وابن عباس وغيرهم من الصحابة الأكياس وروى عنهم وهو ثقة جليل القدر فاضل كبير توفي سنة 106هـ وحديثه في الكتب الستة وقد قارنه أئمتنا بشيخ الإسلام بن سيرين وبسيد المسلمين الحسن البصري وكان سليمان التميمي يقول: الحسن البصري شيخ أهل البصرة وبكر بن عبد الله فتاها ذا شيخها وهذا فتاها وكان معروفاً بإجابة الدعوة يقول: فلقيت عبد الله بن عمر فحدثته بذلك أي بحديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبّى بعمرة وحج فقال عبد الله بن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبى بالحج وحده يقول فعدت إلى أنس فأخبرته بقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فتأثر أنس وقال: ما تعدّوننا إلا صبياناً والله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بعمرة وحج فقال لبيك بعمرة وحج، "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ".(110/3)
وهنا كما ترون إخوتي الكرام تصريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بما نواه أراه وعزمه وقصده في قلبه وهذا عمدة أئمتنا الكرام في جواز التلفظ بالنية بل استحباب ذلك، وعليه إذا أراد أن يصوم فيقول اللهم إني أريد الصيام فأعِنِّي عليه ويسره لي وتقبله مني كما يقول إذا أراد أن يحرم بحج أو غير ذلك ولا يشترط أن يرفع صوته إنما إذا أراد أن يعلم أهله هذه النية فهذا عمل صالح مبرور وهكذا إذا أراد أن يصلي يحرك لسانه بحيث يسمع نفسه، أنه يصلي صلاة كذا لله عز وجل فكل هذا قرره علماء الإسلام وعليه الجمهور من أئمتنا الكرام ومذهب الحنفية والشافعية والحنابلة وأما ما ذهب إليه بعض المتأخرين من أئمة المسلمين كالإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية من |أن التلفظ بالنية بدعة وقد كتب ابن القيم رحمة الله عليه في ثلاث صفحات في إغاثة اللهفان 1/136 فما بعدها وهذا الكلام الذي صدر من هذين الإمامين المباركين له عندي تأويلان:(110/4)
التأويل الأول: إن قصدا أن التلفظ بالنية بدعة حسبما شاع عند الموسوسين في العصور المتأخرة فإذا أراد أن يصلي يقول ديباجة طويلة بحيث تفوته تكبيرة الإحرام وأحياناً يعيد ديباجته بحيث تفوته الركعة فإذا ركع الإمام أسرع بعد ذلك في التلفظ بالنية ودخل مع الإمام هذه وسوسة وهذه بدعة والغلو في أي شيء كان مذموم، كما يقوله بعض العوام: نويت أن أصلي أربع ركعات فرض صلاة الظهر /فرض صلاة العصر حاضراً مستقبل القبلة الشريفة مقتدياً بهذا الإمام، ويقول هذه الديباجة ثم بعد ذلك يعيدها، يعيدها ويعيدها فلا شك أن التلفظ بذلك بحيث يشوش على الحاضرين ويقول هذه الديباجة الطويلة كما قلت هذا منكر وهذه بدعة وهذا مذموم وينبغي أن يمنع منه المسلمون. أما لو أن الإنسان قالها بلسانه عندما يريد أن يحرم بصلاته كما هو الحال عندما يريد أن يحرم بحجة..بصيامه..بغير ذلك قال بحيث يسمع نفسه ليستحضر ما يريد أن يفعله بقلبه وبلسانه وبجميع جوارحه باقتصاد دون تشويش على أحد من العباد فلا حرج، فإن قصد هذان الإمامان ومن تبعها هذا الأمر فهما على حق وصواب وهذا كما قلت مذموم ما ينبغي أن يقوله العباد.
وأما إن قصدا أن مجرد التلفظ بالنية بدعة فهذا كما قلت إخوتي الكرام يصادم ما عليه جماهير أهل الإسلام، وقد تقدم معنا مراراً أن القول إذا احتمله الدليل وقال به إمام جليل لا يجوز أن نحكم عليه بالبدعة والتضليل وهنا قول يقرره ثلاثة من أئمتنا الكرام وهذا القول يشهد له في الجملة حديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فالقول بأنه بدعة لا يستقم حسب قواعد الإسلام والعلم عند ذي الجلال والإكرام.(110/5)
النية نعم محلها القلب، وركنها الركين، ينبغي أن تكون في قلب الإنسان عندما يريد أن يقوم بعبادة رب العالمين ينبغي أن يريد ذلك العمل وأن يقصده وأن ينويه وان لا يفعله وهو غافل عنه فإذا حصل هذا بقلبه صح بعد ذلك عمله سواء تلفظ بلسانه أم لا، نعم يجوز بل يستحب التلفظ للأمرين اللذين ذكرتهما ليتواطئ اللسان مع القلب ولها أثر عن نبينا عليه الصلاة والسلام من تلفظ بالنية في بعض العبادات التي يتقرب بها إلى ربه الرحمن.(110/6)
الأمر الثاني: منزلة النية وضرورة الإخلاص فيها خالصاً لوجه ربك، دون اعتبار من الاعتبارات الأخرى تصوم لأن الله أمرك بالصيام وهكذا كل عبادة تقوم بها لأن الله أمرك بها فهذه النية الصالحة ينبغي أن تحصل في قلبك ألا وهي: أنك تقوم بهذا العمل لله تعالى تعظيما له سبحانه وتعالى فالنية في العمل كالروح للجسد وروح الأعمال النيات الصالحة لذي العزة والجلال وعمل بلا نية ميت كما أن الجسد بلا روح ميت ولذلك إذا أردت أن تقوم بعمل فانْوِ التقرب إلى الله عز وجل وقد كان سلفنا الكرام يتعلمون النية قبل العمل كما يتعلمون العمل وذلك لأن العمل كم غير نية "عناء" والنية من غير إخلاص ضياع وهباء والأمر كما قال: أئمتنا الأتقياء رحمة الله عليهم أجمعين: "الناس كلهم هلكى إلا العالمين، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملين والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصين والمخلصون على خطر عظيم "وهذا الكلام إخوتي الكرام لا يصح دفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فليس هو من كلامه إنما هو كلام أئمتنا الكرام وقد نسبه الإمام أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين ص244 إلى سيد المسلمين الإمام العارف الرباني سهل بن عبد الله التستري المتوفي سنة 283هـ وكثير من العلماء يوردون هذا الكلام كما فعل الإمام الغزالي في الإحياء 4/351 بصيغة أخرى فيقولون: "الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم".(110/7)
وقد قال الإمام الصغاني في موضوعاته هذا الكلام مفترىً ملحون، يريد أنه لم يثبت عن نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام وهو بهذه الصورة ملحون لأنه جاء الرفع في لفظ العالمين العاملين والمخلصين، وينبغي أن يكون ذلك بالنصب على أن الإمام السيوطي رحمه الله خرّج ضبط الرفع فقال: يجوز أيضاً الإبدال في الاستثناء الموجب وعليه يكون العالمون والعاملون والمخلصون بدل مما قبله يجوز الإبدال من الاستثناء الموجب عند العرب وإن كان المشهور في لغة العرب أن يكون بالنصب الناس كلهم هلكى إلا العالمين لكن يجوز الرفع على لغة بعض العرب كما قرر ذلك الإمام السيوطي وعليه لا لحن في الكلام بالرواية الثانية نعم لا يثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام إن هذا من كلام العبد الصالح العارف سهل بن عبد الله التستري وقد نقل عنه الإمام الخطيب البغدادي في كتابه الجليل "اقتضاء العلم العمل ".
وهكذا الإمام أبو نعيم في الحلية نقلاً عن هذا العبد الصالح ما يشبه هذا القول فكان سهل بن عبد الله التستري يقول: العلم دنيا والعمل به آخره، العلم لذة من لذات الدنيا ولا يكون صاحبه من أهل الآخرة إلا إذا عمل بعلمه، وكان يقول كما في الكتابين المتقدمين: العلماء كلهم سكارى إلا من عمل بعلمه، والعاملون كلهم حيارى إلا من أخلص لربه وكان يقول: الدنيا موات وغفلة والعلم بينه وحجة والعمل من غير إخلاص هباء والإخلاص وعلى خطر حتى يختم لك به فيا أيها الإنسان أخلص النية لربك الرحمن في الصيام وفي غيره من طاعات الرحمن.(110/8)
واعلموا إخوتي الكرام: أن الإنسان يعامل على حسب نيته فيصح عمله أو يبطل يثاب عليه أو يعاقب على حسب ما يقوم في نيته من معنى من تعظيم لله أو من إرادة لغير وجه الله فإن عظّم الله قبل العمل وإن أراد غير وجه الله عز وجل بطل العمل ولذلك كان أئمتنا الكرام يقولون: تخليص النيات على العمال أشق عليهم من سائر الأعمال وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في أحاديثه الصحيحة الكثيرة الوفيرة منها الحديث المشهور بين المسلمين وهو في مسند الإمام أحمد والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
إنما الأعمال بالنيات صحة وفساد ثواباً وعقاباً قبولاً ورداً وإنما لكل امرئ ما نوى فمن هاجر صادقاً مخلصاً إلى الله ورسوله فأجره عند الله لن يضيع. ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهو خاطب وتاجر وليس بمهاجر فهجرته إلى ما هاجر إليه إنما الأعمال بالنيات. وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي هو ذروة سنام الإسلام وهو الجهاد في سبيل الله.
إذا أراد المجاهد بجهاده عرض الدنيا ولم يُرد وجه ذي الجلال والإكرام فليس عند الله من خلاف وليس له إلا ما يحصّله في هذه الحياة من متاع ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي والحديث رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح أقره عليه الذهبي من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالاً فليس له إلا ما نوى".. قوله إلا عقالاً إلا حبلاً يربط به بعيره ودابته فليس له إلا ما نوى.(110/9)
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ملائكة الله عندما تصعد إلى الله تعالى بصحف أعمال العباد يقبل بعضها ويرد بعضها ويقول للملائكة اكتبوا لهذا العبد شيئاً نواه وما اطلعتم عليه ثبت الحديث بذلك وقد رواه الإمام الداراقطني وحسنه شيخ الإسلام الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء وانظروا في تخريج أحاديث الإحياء في المكان الذي أشرت إليه آنفا عند كلام الإمام الغزالي 4/351 يقول رواه الداراقطني بإسناد حسن ولفظ الحديث من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد الملائكة إلى الله جل وعلا بها (بهذه الأعمال) بصحف مختمة (مختومة) فتطرحها بين يدي الله عز وجل فيقول الله جل وعلا: ألقوا صحيفة كذا وصحيفة كذا، واكتبوا لعبدي فتقول الملائكة ربنا ما كتبنا إلا ما عمل، وذاك العمل ما عمله فيقول الله جل وعلا إنه لم يرد بما فيها وجهي نعم..صام وصلى وحج واعتمر وزكى وجاهد، لكن لم يرد ذلك بوجهي فما في هذه الصحف اطرحوه والله ما يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً وأما ذاك العمل الذي يعمل فيقول الله جل وعلا: إنه قد نوى ما في هذه الصحف مما عمله ما أراد به وجه ربه فاطرحوه واكتبوا له كذا وكذا لأنه نواه.(110/10)
إخوتي الكرام.. لابد من إخلاص النية لذي الجلال والإكرام وإذا كان إخلاص النية ضرورياً في جميع الأعمال فينبغي أن نخلص النية لذي العزة والجلال في الصيام على وجه الكمال لأن الصيام فيه شبه لتوحيد ذي الجلال والإكرام الصيام من بين سائر أركان وأمور الإسلام والإيمان هو الذي يشبه توحيد ذي الجلال والإكرام ولذلك أضافه إلى نفسه ربنا الرحمن فقال في الحديث الثابت في الكتب الستة وغيرها من دواوين الإسلام: الصيام لي وأنا أجزي به، وذلك لأنه سر بينك وبين ربك كحال الإيمان كم من إنسان يقول: آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين الإيمان ركنه الركين التصديق الجازم بالقلب الذي لا يطلع على ما فيه إلا رب العالمين وهكذا الصيام فيه شبه تام بتوحيد ذي الجلال والإكرام ولذلك أضافه الله إلى نفسه فإذا كنت تخلص النية لربك في جميع عملك فحقق النية على التمام في صيام إخوتي الكرام قد يزِل الإنسان في عمله ويقصّر لكن ما ينبغي أن يزل في نيته وما ينبغي أن يدنس نيته بوجه من الوجوه ولذلك إن جرت من المؤمن أخطاء وهفوات وزلاّت لا تتعدى عمله الظاهري بجوارحه وكل بني آدم خطّاء وأما من يزل في نيته وأن يدنس ما في قلبه فلا ثم لا.(110/11)
وقد أشير إلى حال المؤمن في الحديث المرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام " نية المؤمن خير من عمله " والحديث رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير وأبو نعيم في الحلية والخطيب في تاريخ بغداد من رواية سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير أيضاً من رواية النواس بن سمعان رضي الله عنه ورواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام العسكري من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الإمام الديمكي من رواية أبي موسى الأشعري ورواه أبو الشيخ في الأمثال من رواية ثابت البناني مرسلا إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فهو من رواية أربعة من الصحابة سهل بن سعد والنواس بن سمعان وأنس بن مالك وأبي موسى وروى مرسلا أيضاً كما ذكرت والحديث من جميع طرقه ضعيف لكن كما قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة:"يتقوى بمجموع طرقه " ثم قال: ألفت فيه جزءاً في طرقه وفي بيان معناه نية المؤمن خير من عمله قد يزل الإنسان في العمل لكن نيته لا يمكن أن تنحرف عن الإخلاص لله عز وجل فالخطأ لا يتعدى أعماله الظاهرة للقصور والتقصير الذي جُبل عليه البشر أما أن ينحرف بقلبه عن ربه؟ لا ثم لا. قلبه مع الله في جميع الأوقات ومخلص له في جميع الحالات نعم قد يزل بجوارحه نية المؤمن خير من عمله.(110/12)
والإمام ابن تيمية رحمة الله شرح هذه الجملة المأثوة في عدد من الصفحات وقررها انظروا كلامه على ذلك في مجموع فتاويه 10/670 وأعاد الكلام على هذا الأثر في مجموع الفتاوي أيضاً 22/242 وخلاصة كلامه بعد أن قرر وجودها كثيرة في أحقية وصدق هذا الكلام قال في تقرير معنى هذا الأثر وأنه حق وصواب وأن نية المؤمن خير من عمله يقول هذا الإمام المبارك: المؤمن يثاب على نيته المجردة وإذا نويت الخير ولو لم تعلمه بجوارحك تثاب عليه ولذلك نية المؤمن خير من عمله والوجه الثاني في تقرير هذه الجملة المأثورة: أن من نوى خيراً وبذلك ما في وسعه لتنفيذه فعمل بعضة وعجز عن باقيه يكتب له أجر عمله من أوله لآخره لأنه نواه، وعزم على فعله ولما أراد أن ينفذه ما استطاع أن يقوم بجميعه نية المؤمن خير من عمله.
والأمر الثالث يقول: النية لا يدخلها فساد، النية الخالصة لا يدخلها فساد عندما يخلص لكن العمل قد يشوبه ما يشوبه من الفساد والضعف والنقص والأمر الرابع يقول: النية هي عمل الملك وبقية الأعمال هي عمل الجوارح القلب هو مَلِك الأعضاء وعمل الملك أشرف من عمل الجنود نية المؤمن خير من عمله فالنية عمل قلبي كما تقدم معنا..لا يطلع عليه إلا اللطيف القوي سبحانه وتعالى، عمل قلبي.. إذ هي عمل أشرف ما عندك من أعضاء هي عمل رئيس الأعضاء هي عمل المشرف على الأعضاء ألا وهو القلب هي عمل الملك لا يدخل عليها فساد، إذا عملت شيئاً وعجزت عن باقيه يكتب لك لنيتك النية المجردة..ولم لم يصاحبها عمل..تكتب لك، لهذه الأمور ولغيرها نية المؤمن خير من عمله.(110/13)
والإمام الغزالي رحمة الله عليه في مبحث النية والإخلاص من كتابه الإحياء 4/355 قرر هذا المعنى في صفحات كثيرة وبوب عليها "باب نية المؤمن خير من عمله" أخي الصائم يا عبد الله إذا كنت تصوم لله وكما قلت صيامك فيه شبه بتوحيد ربك وصيامك أضافه الله إلى نفسه فأخلص النية ما استطعت لربك فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وله خالصاً "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة" (البينة /5) .
وأما الأمر الثالث إخوتي الكرام: وهو آخر الأمور وقت النية زمن النية الوقت الذي ينبغي أن تحصل فيه نية الصيام لذي الجلال والإكرام اتفق أئمة الإسلام على أنه إذا كان الصيام فريضة كصيام رمضان وقضاء رمضان وما شاكل هذا من أنواع وأقسام ينبغي على الصائم أن يبيت نية الصيام من الليل والوقت يمتد من الغروب إلى طلوع الفجر، إذا طلع عليك الفجر ولم تنو الصيام ما صح صومك ويجب أن تمسك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات لكن هذا الصيام لا يعتد به فلا بد من نية الصيام والنية وقتها مُوسّع من غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر ينبغي أن تنوي صيام رمضان صيام الغد، وعليه إذا أردت أن تفطر وتدعو بعد ذلك بالدعوات المأثورة عند الإفطار وتقول أسألك أن تقويني ربي على صيام الغد نويت صيام الغد عزمت على صيام الغد هذه نية وهكذا لو تسحرت بنية الصيام هذه نية ولا يضر أن تأكل بعد النية وتشرب لا يضر هذا على الإطلاق إنما نية الصيام في قلبك أنك ستصوم غداً لربك وإذا لم تبيت الصيام من الليل قبل أن يطلع الفجر فلا صيام لك وقد أشار إلى هذا نبينا صلى الله عليه وسلم.(110/14)
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة والحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما ورواه الحاكم في المستدرك ورواه الداراقطني في سننه والدارمي في سننه وهكذا البيهقي في السنن الكبرى ورواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار والإمام ابن أبي شيبة في مصنفه والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ورواه الإمام ابن حزم بسنده في محلاه وهو في غير ذلك من دواوين الإسلام والحديث صحيحٌ صحيح نص على صحته عدد من أئمتنا الكرام منهم الترمذي والحاكم والذهبي وشيخ الإسلام الإمام النووي في المجموع والحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث من رواية أمنا الطيبة الطاهرة المباركة سيدتنا حفصة بنت سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل".
وفي رواية: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل قوله يُجمع ويُجَمِّع كما قال الإمام النووي في المجموع شرح المهذب، لا صيام لمن لم يُجمٍع /لمن لم يُجمِّع بالتخفيف والتشديد أي يستحضر هذا و ... بقلبه لا صيام لمن لم يفرضه قبل طلوع.
ألفاظ واردة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل/ لا صيام لمن لم يُجمِع –لم يُجَمِّع الصيام من الليل لا صيام لمن لم يفرضه قبل طلوع الفجر. وأما رواية "لا صيام لمن لم ينو قبل طلوع الفجر " فقال الحافظ ابن حجر "لم أقف عليها " وأقول: لعل هذا الرفض رواه بعض من رواة في معناه لأنه صيام لمن ينو بمعنى لا صيام لمن لم يبيت والعلم عند الله جل وعلا. وثبت هذا المعنى عن عدة من الصحابة الكرام ثبت عن ابن عمر وأمنا عائشة وأمنا حفصة رضي الله عنهم كما في الموطأ للإمام مالك وشرح معاني الآثار للطحاوي والأثر أيضاً في سنن النسائي عمن تقدم ذكرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. أنهم قالوا " لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر".(110/15)
وفي رواية إذا لم يجمع الرجل الصيام من الليل فلا يصم، وفي رواية أخرى: "لا يصومن إلا من أجمع الصيام قبل الفجر" فلابد من نية الصيام، لأن الصيام إمساك ولابد له من نية وهو عبادة خالصة محضة لرب البرية فلا بد له من النية وقد ثبت الحديث بذلك عن نبينا خير البرية عليه وآله صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام: وكما قلت على هذا اتفق أئمة الإسلام لكن اختلفوا بأمر فيه توسعة على عباد الرحمن ألا وهو: هو تشترط لكل يوم نية الصيام أو تكفي فيه الصيام في شهر رمضان في يوم منه فينوي أن يصوم شهر رمضان ولا داعي بعد ذلك كل ليلة قبل طلوع الفجر لأئمتنا الكرام في ذلك قولان كل منهما حسن مقبول وتعليله حق مبرور. القول الأول: قال به جمهور الحنفية والشافعية والحنابلة لا بد من نية كل يوم أن ينوي كما قلت من غروب الشمس إلى طلوع الفجر أنه سيصوم اليوم الذي بعد هذه الليلة لأن عبادة كل يوم مستقلة لا ارتباط لها بما قبلها ولا بما بعدها فقد يفسد ما قبلها وهي صحيحة وقد يفسد ما بعدها وهي صحيحة فليست عبادة الصيام كعبادة الصلاة نية واحدة لجميع الركعات إنا هنا كل يوم يستقل عما قبله وعما بعده فلا بد من نية خالصة له.
والإمام مالك إمام دار الهجرة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ألحق الصيام بالصلاة فقال: بما أن الصيام في هذا الشهر واجب وعليه لو نوى أن يصومه من أول يوم أجزأه، ولو لم يستحضر النية كل ليلة إلا إذا فسخ هذه النية، وأما إذا نوى أن يصوم هذا الشهر الكريم في أول ليلة منه أجزأه ذلك إلى نهاية الشهر سواء استحضر النية بعد ذلك أم لا، إلا إذا فسخ نية الصيام وقال: لا نصوم، فلا بد له بعد ذلك من نية ثانية لبقية الشهر.(110/16)
وكما قلت إخوتي الكرام: القولان متقاربان بالتعليل ولا يوجد دليل خاص بالمسألة وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة والأحوط أن يبيت الإنسان فيه الصيام في كل ليلة من ليالي رمضان والعلم عند الله تعالى وهذا كله إخوتي الكرام في الصوم الواجب وأما صيام النافلة صيام التطوع فاتفق أئمتنا إلا الإمام مالكاً رحمه الله. ذهب الجمهور وهم الأئمة الثلاثة المتقدمة الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أن النية فيه موسعة على الصائم في صيام النافلة والتطوع فله أن يبيّت الصيام من الليل وهذا أعظم لأجره عند ربه وله أن يمد النية إلى الزوال فإذا زالت الشمس ولم ينو قبل زوالها أي قبل الظهر لا يصح أن يصوم بعد ذلك عند الإمام أبي حنيفة وهو الأظهر من قولي الإمام الشافعي وهناك قول للإمام الشافعي وهو المعتمد عند الحنابلة يجوز للإنسان إذا صام نافلة أن ينوي الصيام في أي وقت كان ولو قل غروب الشمس بدقيقة لو قدّر أنه مر عليه اليوم من أوله إلى آخره وما أكل وبقي للمغرب ربع ساعة فقال إذاً أنا أنوي الصيام عند الإمام أحمد يصح يقول: لأنه أوقع الصيام في جزء من النهار الذي يصح فيه الصيام وعليه إذا وقعت النية في جزء من النهار سواء كان قبل الزوال أو بعد الزوال يصح صومه هذا عند الإمام أحمد لكنه قال: له اجر بمقدار الوقت الذي بقي من هذا اليوم وعليه: لو نوى من الزوال الصيام فله أجر من الزوال إلى الغروب وليس له أجر الصيام مما قبل الزوال إلى طلوع الفجر لأنه لم ينو هذا والأعمال بالنيات لو نوى الصيام عند العصر له أجر عند العصر أجر الصيام إلى غروب الشمس ليس له أجر الصيام من قبل العصر إلى طلوع الفجر.(110/17)
فإن قيل: هل يتبعّض الصوم؟ يقول في الإجزاء لا يتبعض لكن في الأجر يتبعّض، لا بد أن تصوم يوما من أوله إلى آخره من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لكن ليس لك من الأجر إلا بمقدار ما نويت من صيام هذا اليوم فإذا نويت عند العصر فليس لك أجر، أجر إلا من العصر إلى غروب الشمس وهذا كما هو الحال في الجماعة إذا لم تدرك الجماعة فأنت ما صليت في جماعة لكن لو قدّر أنك جزءاً منها لك أجر بمقدار ما أدركت وليس أجر من أدرك تكبيرة الإحرام كأجر من أدرك الركعة الرابعة مع الصلاة فهم يتفاوتون مع أن الكل صلوا جماعة.
هذا ما يقرره الإمام أحمد وأئمتنا عليهم جميعاً رحمة ربنا وأما الإمام مالك فعنده لا يجوز للإنسان في صيام النافلة أيضاً إلا أن يُبيّت الصيام من الليل كما هو الحال في الصيام الفريضة يقول إلا إذا كان الإنسان يصوم أياماً متتابعة درجا فتسقط عنه النية كما هو الحال في نية رمضان ينوي أول ليلة ثم ليس به حاجة إلى أن يكرر النية وأما إذا أراد أن يصوم بخصوصه وأن يفطر بعده وأن يصوم يوماً بعده فلا بد من أن ينوي الصيام لكل يوم وأن تكون النية في الليل قبل طلوع الفجر كما هو الحال في صيام الفريضة. فهذا القول مع جلالة من قال به وإمامته رضي الله عنه وأرضاه فيما يظهر والعلم عند الله أنه مرجوح وقول الجمهور أرجح وبه وردت الآثار الثابتة عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام وعن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم أجمعين.(110/18)
وإليكم بعضاً إخوتي الكرام: ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا ابن ماجه فالحديث في سنن الترمذي وسنن النسائي وأبي داود الطيالسي في مسنده كما رواه الإمام البيهقي في سننه والحديث صحيحٌ صحيح فهو في صحيح مسلم كما سمعتم ولفظ الحديث من رواية أمنا الطيبة المباركة عائشة قالت: "دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهار فقال هل عندكم شيء يعني من طعام؟ فقلت ما عندنا شيء يا رسول الله قال فإني إذاً صائم، ما عندكم شيء آكله أنوي الصيام، وقد نوى الصيام بعد طلوع الفجر قالت أمنا عائشة: فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم جاءتنا هدية وفي روية جاءنا زور أي ضيف، ضيوف وهؤلاء الضيوف عندما حلوا علينا معهم هدية فخبّأت شيئاً من هذه الهدية إلى النبي علية الصلاة والسلام فلما عاد ودخل بيته ثانياً قلت يا رسول الله قد جاءتنا هدية وقد خبّأت لك منها قال ما هي؟ قلت حَيسُ، والحيس هو الدقيق الذي يعجن بالتمر والسمن دقيق وتمر وسمن وقيل: أقط وسمن ودقيق حيسُ: خبّأته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم هاتيه فلما وضعته بين يديه فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صوات الله وسلامه مدّ يده الشريفة المباركة إليه وبدأ يأكل، فقالت أمنا عائشة يا رسول الله أو لم تنو الصيام وقلت إني صائم هذا اليوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام يا عائشة مثل الصائم في غير رمضان كمثل من أخرج صدقة، فجادت نفسه منها بشيء فدفعه وبخلت نفسه بما بقي فأمسكه، أنت أخرجت مائة ريال لتتصدق بها ثم بعد ذلك حصل في قلبك ما حصل من الخواطر وأنك بحاجة إلى هذا المال فدفعت خمسين وأمسكت خمسين هل عليك إثم؟ لا ثم لا، صدقة تطوع وتريد أن تتقرب بها إلى الله تعالى ليس لك من الأجر إلا بمقدار ما تصدقت مثل الصائم في غير رمضان كمثل من أخرج صدقة.(110/19)
وهذه رواية الإمام النسائي فلما أخرجتها جادت نفسه بشيء منها فدفعه وأمضاه وأعطاه إلى الفقير وبخلت في الباقي فأمسكته وعليه يجوز للإنسان أن يتم الصوم ويجوز أن يعدل عنه ولا حرج.
وقد ثبت في موطأ الإمام مالك وشرح معاني الآثار للإمام الطحاوي والأثر رواه الإمام النسائي في سننه والحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي ورواه البيهقي في السنن الكبرى والحديث إسناده صحيح من رواية أم هانئ رضي الله عنها قالت: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وعن يمينه جالسة فجاءت البضعة الطاهرة سيدتنا فاطمة بن خير خلق الله فسلمت وجلست عن يساره تقول أم هانئ: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب قدمته إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فأخذه فشرب منه ثم ناول أم هانئ لتشرب فشربت، فبعد أن شربت قالت يارسول الله: كنت صائمة فأفطرت، أي عندما أعطيتني هذا الإناء لأشرب وكأنها تحرجت في نفسها ما حصل منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتقضين رمضان، أي تصومين الصيام الواجب؟ قالت لا. يا رسول الله قال: لا حرج عليك إن كنت تصومين تطوعاً أي إن شئت أن تصومي وإن شئت أن تأكلي تبطلي الصيام فلا حرج إنما التطوع أمير نفسه وفي رواية إنما التطوع أمين نفسه، فإن شاء صام وإن شاء أفطر إنما المتطوع أمير نفسه.(110/20)
وقد ثبت في صحيح البخاري أصح الكتب بعد كتاب الله في كتاب الصيام باب من نوى الصيام نهاراً ثم علق بصيغة الجزم عن أم الدرداء أن أبا الدرداء كن يدخل عليها في النهار فيقول: هل من طعام يا أم الدرداء؟ تقول أم الدرداء: فإن قلنا لا قال: "فإني صائم يومي هذا" قال الإمام البخاري: وقد فعله أبو هريرة وأبو طلحة وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس ومعهم كما قلت أبو الدرداء فهؤلاء خمسة من الصحابة الكرام وهذه الآثار التي أوردها الإمام البخاري معلقة بصيغة الجزم في صحيحه انظروها إخوتي الكرام في فتح الباري لتعرفوا من وصلها انظروا أيضاً وصلها في السنن الكبرى للإمام البيهقي 4/275.
وعليه إخوتي الكرام: إذا كان الصيام واجباً لا بد من تثبيت نية الصيام في الليل لكن هل لابد من تكرار النية في كل يوم أو تجزئ نية واحدة عن الشهر الأمر فيه سعة إن شاء الله. وإما إذا كان الصيام نافلاً فالمعتمد كما قلت أنك يجوز أن تنوي الصيام إلى الزوال ووسّع الإمام أحمد الأمر فقال: يجوز أن تنوي ولو قبل الغروب بقليل، وليس لك من الأجر إلا بمقدار ما نويت، نسأل الله نعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(110/21)
إخوتي الكرام: عندما نبحث النية في الصيام يرد إشكال حاسم أن التروك لا يشترط في تركها النية، نعم يشترط للثواب على تركها النية وأما إذا تركت ما حرمه عليك دون أن تريد بذلك التقرب إلى الله تركته فقط ما خطر هذا ببالك لا تعاقب عليه وأما الأفعال فلابد لها من نيات فمن ترك النظر الحرام والغيبة والنميمة والزنا وشرب الخمر إما أنه لم يخطر بباله إو هكذا دون نية صالحة لا عقاب عليه عندما ترك هذا من غير نية صالحة ولا يثاب إلا إذا ترك متقرباً إلى الله عز وجل التروك لا تحتاج إلى نية فإذا ترك وهو يعزم على فعلها لكن ما تمكن منها يعاقب عليها وإذا تركها ... .ما خطرت بباله لا ثواب وعقاب وإذا تركها خشية من الكريم الوهاب يثاب عليها عند هذا المبحث يرد إشكال ألا وهو أن الصيام ترك. فهو إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات فلم اشترطت النية لصحته باتفاق أئمتنا.
والجواب عن هذا كما قرره شيخ الإسلام الإمام النووي نور الله مرقده وفي غرف الجنان أرقده، يقول: "الصيام وإن كان إمساكاً وتركاً يراد منه حبس النفس على الهوى وحثها على طاعة المولى فالتحق بالأفعال ولا يقصد منه الترك المجرد كما هو الحال في ترك الكذب في ترك الزنا في ترك شرب الخمر، لا ... يراد من هذا الترك أن تتربى النفس على الأخلاق الكريمة والشيم الحميدة وأن تتقرب من الله عز وجل فترك يراد منه عمل ولذلك اشترطت النية فيه لتثاب على هذا الترك فهو وإن كان تركاً يشترط لصحته حصول النية باتفاق أئمتنا.
وأما التروك الأخرى فكما قلت إذا تركتها من غير نية لا ثواب ولا عقاب "وإذا تركتها لعجزك عنها فعليك العقاب " وإذا تركتها خشية من الكريم الوهاب فلك الثواب " وقد أشار إلى هذه الأقسام نبينا عليه الصلاة والسلام.(110/22)
ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث قال عنه الترمذي حسن صحيح من رواية أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة أقسم عليهن وأحدثهم حديثاً فاحفظوه وكنت ذكرت هذا الحديث في المواعظ السابقة فلا بأس من إعادته لمحل الشاهد معنا في موعظتنا ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ومن فتح على نفسه باب مسئلة فتح الله عليه باب فقر.(110/23)
هذه الأمور الثلاثة يقسم نبينا عليه الصلاة والسلام على صحتها وتحققها وأما الحديث الذي ينبغي أن نحفظه وأن نعيه وهو أن الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً فهو يعمل في ماله بعلمه فيتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقاً فهو في أعلى المنازل ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بمثل عمله قال نبينا عليه الصلاة والسلام فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فهو يخبط في ماله فلا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم أن لله فيه حقاً فهو أخبث المنازل. ورجل لم يؤته الله علماً ولا مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بمثل عمله فهما في الوزر سواء. لم يفعل المعاصي لكن عزم عليها وما منعه من فعلها إلا العجز عنها فعليه العقاب كما أن العقاب على ذلك الذي فعل تلك المعاصي أسأل الله برحمته التي وسمعت كل شيء أن يجعل أعمالنا صالحة لوجهه خالصة وأن يرزقنا حبه وحب نبيه عليه الصلاة والسلام وأن يجعل ذلك أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.(110/24)
معالم في الاجتهاد والابتداع
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
معالم في الاجتهاد والابتداع
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن البدعة من أسباب خاتمة الإنسان ... نفس السابقة إلى نتدارس ثلاثة معالم وهذه المعالم الثلاثة شرعت في مدارستها في المواعظ الماضية وهي:
1. تشريع الأحكام من خصائص ذي الجلال والإكرام.(111/1)
2. هداية الإنسان ركنان: شرع قويم وعقل سليم ولن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح.
3. منزلة الاجتهاد في شريعة رب العباد.
تقدم معنا أن فقهاء هذه الأمة المبارك هم بحث وصدق هم ورثة نبنيا عليه الصلاة والسلام وبينت منزلة الفقهاء في الإسلام ثم تكلمت في الموعظة السابقة عن أمرين اثنين ينبغي للأمة أن تعيها.
الأول: إن أقوال الفقهاء تشريع ومع ذلك ليسوا بمشرعين، فالتشريع من خصائص رب العالمين وجمعت بين هذين الأمرين فهم يظهرون الأحكام التي دلت عليها نصوص الشرع الحسان ولا يمكن لهم ولا لغيرهم أن يقولوا في دين الله برأيهم.
الأمر الثاني: التي تقدمت معنا دراسته في أمر الموعظة الماضية قلت إن الثروة الفقهية هي من أكبر المعجزات لخير البرية، فأئمتنا الفقهاء كشفوا عن صلاحية هذا الشرع لكل زمان ومكان عن طريق ما استنبطوه من أحكام من آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام وسأكمل هذا الموضوع في هذه الموعظة بإذن ربنا الرحمن، لأنتقل في موعظة التالية لبيان ضلال الفرقة الثانية التي ألغت البدعة من الإسلام.(111/2)
اخوتي الكرام: الفقهاء بمنزلة الأطباء، حاجة الأمة إليهم كحاجة السمك إلى الماء، نعم كما تقدم معنا مراراً من كلام أئمتنا الفقهاء بمنزلة الأطباء الماهرين، كما أن المحدثين بمنزلة الصيادلة المؤتمنين، لذلك كانت في العصور الأولى نسبة من يعنى بالحديث ويشتغل به تزيد على من يعنى بالفقه ويمهر فيه، يقول أنس بن سيرين رضوان الله عليهم أجمعين وهو من أئمة التابعين كما يروي هذا الإمام الرام هرمزي في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعظ في صفحة ستين وخمسمائة صـ560، يقول أنس بن سيرين الذي توفي سنة عشرين ومائة للهجرة 120هـ وقيل ثمان عشر ومائة 118 وهو من شيوخ الإسلام، حديثه مخرج في الكتب الستة، يقول هذا العبد الصالح: قدمت الكوفة وكان قدومه إلى هذا البلد الإسلامي في السنة التي ولد فيها فقيه الملة وإمام الفقهاء الإمام أبو حنفية النعمان رضي الله عنه سنة ثمانين للهجرة 80هـ، قال فوجدت فيها أربعة آلاف طالب يطلبون الحديث ووجدت فيها أربعمائة فقهوا.
إن الفقهاء لعلو منزلتهم ولصعوبة عملهم عددهم قليل في كل وقت، ففي العصور المتقدمة في بلدة الكوفة أربع مائة يعنون بالفقه ويشتغلون فيه، وأربعة آلاف يدرسون الحديث ويشتغلون فيه، هذا كان في عصور البركة والسرور في القرن الأول من الهجرة، وأما في زماننا فإلى الله المشتكى، تقاصرت الهمم وضعفت نحو الأمرين (الحديث فبضاعة من يقال عنهم أنهم محدثون في هذه الأيام بضاعة قليلة قليلة، وأكثر من يدعي التحديث، هذه الأيام قد اشتغل بمهمة الحديث، وأما فقهاء هذا الزمان فأكثر اجتهاداتهم ما أنزل الله بها من سلطان.(111/3)
نعم هذا حالنا في هذه الأيام فيمن يدعي الحديث وفيمن يدعي الفقه ومع هذه الحالة المزرية التي تعيشها هذه الأمة المباركة نشهد مجلاتٍ منكرةٍ ماكره نحو فقه أئمتنا المباركة، ففريق يطالب بمد المذاهب ويدعي أنه يريد أن يعيد الأمة إلى كتاب الله وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام وكأن الأمة، فيما يزيد على عشرة قرون كانت على ضلال ولم تكن على كتاب الله ولا على سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء لا يريدون للأمة إلا ضياعاَ مع ضياعهم وفريق آخر يدعى الصلاح والرشاد والاجتهاد ويريد أشنع وأخبث أنواع الفساد عندما يريد أن يلغي مذاهب أئمتنا الكرام من أجل بعد ذلك أن يهوس في دين الرحمن لما يريد من أجل بعد ذلك أن يوفق ويطوع الإسلام طفاهيم الحياة الغربية في هذه الأيام أناس يدعون العودة إلى الكتاب والسنة، وأناس يدعون الاجتهاد وأنهم زادوا رتبة على أئمتنا الكرام المتقدمين، ثم آل اجتهادهم إلى التوفيق والترقيع بين دين الله وبين قوانين الشياطين، وسيأتين نموذجاً لهؤلاء وهؤلاء بعد المعالم التي كنت وعدت بذكرها في آخر الموعظة الماضية، أفتتح بها هذه الموعظة وأقرر بها هذه المعالم التي ينبغي أن تنقش في قلوب العباد وأن يشرح كل معلم منها في مواعظ لتعلم الأمة أين تسير والتحذير التضليل والأباطيل.(111/4)
هذه المعالم العشرة كما قلت ينبغي أن يعيها أهل الإسلام في هذه الأيام وأن تحفظ للأولاد الصغار وأن يعتني بها الكبار ليحذروا التضليل هنا وهناك، أول هذه المعالم: إن ديننا يقوم على كتاب الله وعلى سنة نبينا عليه والصلاة والسلام حسبما فهم سلفنا وأئمتنا وكمن دعاء إلى الالتزام إلى الكتاب والسنة دون فهم سلف الأمة فهو ضال، وهذا الكلام كنت ذكرته سابقا فعلق عليه بعض شياطين الأنس فقال إننا نزعم أن كتاب الله لا خير فيه وأن سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا خير فهيا ولا يستبعد هذا ممن حرفوا دين الله أن يتلاعبوا بعد ذلك بكلام عباد الله، هذه المقولة لا بد من وعيها على هذه المشاكله، كتاب الله توضحه سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام حسما فهم سلفنا، حسبما قرر أئمتنا من صحابه وتابعين.
المعلم الثاني: إن اجتهاد وفقه أئمتنا تشريع معتبر لأنه أخذ من أدلة شرعيه ثابته محكمة من كتاب وسنة نبيه الصلاة والسلام.
نعم ليس للفقهاء ولا ليغرهم صفة التشريع فهذا من صفة الله وحده لا شريك له.
المعلم الثالث: إن التزام منهج من هذه المذاهب هدى وفضيلة ومن يخالف هذا فهو على ضلال وصاحب رذيلة وكيف لا كما قلت إذا كانت اجتهادا أئمتنا شريعة معتبرة فالذي يلتزم بذلك بالهدى والحق يلتزم بالفضيلة وعليه من قال إنه على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد وقال أنا ملتزم بهذا فهذا على هدىً وحق وهذا على خير ولا يضلله إلا من كان ضالاً،(111/5)
المعلم الرابع: لا يحتم على مسلم أن يلتزم بمذهب من هذه المذاهب، فالأمر بالخيار وكما قلت كلهم على هدىً وكلهم على حق، وتقدم معنا اخوتي الكرام في بيان اجتهادات أئمة الإسلام إنهم على صواب في جميع أحوالهم ولا يحكم على قول الواحد بالخطأ إلا إذا اجتهد فيما لا يصوغ فيه الاجتهاد فيما ورد فيه نص ولم يبلغه وما عدا هذا فيما يستنبطه من النصوص الثابتة وغيره كلهم على هدى إذا وجدت فيهم عدت الاجتهاد وآلته وعليه لا يتعين على أحد أن يلزم بمذهب من هذه المذاهب، وإذا أراد أن يصبح حنفياً شافعياً مالكياً حنبلياً، أراد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب هو على هدى وهو على استقامة وهو على فضيلة، وهذه المذاهب حققت وهذبت ونقحت من قبل أتباعها كما سيأتينا، فما يوجد من زلل أحياناً يخالف الدليل حذر منه ونبه عليه واستعد من هذا المذهب الجليل لا يتعين على أحد أن يتعبد بمذهب واحد منها دون غيره، فالأمر كما قلت بالخيار، هذا أيضاً ينبغي أن نعيه اخوتي الكرام وهو المعلم الرابع.(111/6)
المعلم الخامس: من هذه المعالم: إن التعصب المذموم ينبغي أن نعي صورته لأنه حقيقياً كثر اللفظ حوله، إن التعصب المذموم هو أن يقول الإنسان مثلاً أنا على مذهب أبي حنيفة وبقية المذاهب ضلال ورداء، إن هذا تعصب مذموم وقائل هذا ضال مخرف في دين الله، أما لو قال أنا ألتزم في هذا المذهب ولا أخرج عنه، وهذا المذهب أجمعت الأمة على أنه مستمد من كتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا كانت الاجتهادات تتفاوت فإذاً هذا معتبر وذاك معتبر كما أجمعنا على هذه القضية، فأنا لا أخرج على مذهب الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة، هذا تعصب محمود، والتعصب المذموم مذهبي هو الحق، ومذهب من عداي باطلة رديئة، فما قال هذا أحد من أئمتنا الأربعة ولا من عداهم، وأما نغمة السفهاء في هذه الأيام من أن اتباع إمام من أئمة الإسلام تعصب مقيت، مقتهم الله على هذا القول المقيت الذي يقولونه، إذا اتبع إنسان إمام من أئمة الهدى وعمل بأقواله صار متعصباً تعصباً مقيتاً، إي والله وقع هؤلاء السفهاء اللذين يريدون ضياع الأمة باسم السنة وقعوا في الفخ الذي نصب للأمة من قبل أعدائها، إن غاية ما يهتم به ديننا في هذه الأيام أنه دين الجمود، عدم التطور، هؤلاء الحامدون ما عندهم ليونة ولا مرونة، هذه الدعوى الذي بثها الغربيون في صفوف المسلمين يريدون منها أن نتزحزح عن دين رب العالمين، فجاء هؤلاء صاغوا هذه الدعوى بصيغة أخرى وقالوا إن الالتزام بمذهب من هذه المذاهب جمود، تعصب مقيت مقتهم الله على هذا القول المقيت الذي فرقوا به أمة نبينا عليه الصلاة والسلام.(111/7)
اخوتي الكرام: إنا لجمود في ديننا، إن الجمود في أحكام شريعتنا هذا من أعظم الخصائص من القوانين لو كان العباد يعون إنه إذا لم يكن جمود في التشريع ولم يكن ثباتاً واستقرار لكان التشريع عرضة لأهواء البشر كما ستسمعون فيمن نبذوا الجمود، كيف يتلاعبون بالشريعة باسم الإصلاح والدعوة، إن الجمود كما قلت من خصائص هذه الشريعة المطهرة، نصوص ثابتة لا يجوز أن تخرج عنها، أحكام قررت واستنبطت من شريعة الله المطهرة، ماذا تريدون منها؟! أن نطورها وأن نلغيها، ومن أخذ بها يوصف بأنه متعصب، بأنه متحجر، بأنه جامد، كما يوصف المسلم أمام أعداء الإسلام بأنه متعصب جامد أيضاً، الدعوة واحدة ولكن من يدعوننا إليها يختلفون في المسلك.
المعلم السادس: إننا عندما نلتزم بمذاهب أئمتنا يجب علينا وجوباً أن نتعلم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن نتعلم الدليل الشرعي ولا نتعلم ذلك الدليل للبركة كما يتهمنا من يتهمنا،
نعم نتعلم تلك الأدلة ليتبرك بها بتلاوتها، وقراءتها وفهمها والعمل بها، إننا عندما نتعلم أدلة الشرع المطهر من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبذل ما في وسعنا للوصول إلى مراد ربنا،،،، مكانه أئمتنا ومقرن أنه لا يوجد جزئية في فقه أئمتنا إلا واستندت على نص شرعي وهؤلاء الغوغاء في هذا الزمان الذين ينبزون فقه أئمتنا الفقهاء ما واحد منهم قرأ كتاباً في الفقه بأدلته، أخذ معلومات متناثرة من هنا وهناك، ثم ادعى أنه المجتهد المطلق الذي عنده قدرة على الرد على كل صغير وكبير،
نعم كما قلت في المعلم السادس نتعلم الأدلة ونعكف عليها كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا خير في الأمة إذا ضيعت ذلك، وعندما نعلم هذا نعلم سداً ورشاد أئمتنا الكرام كيف استنبطوا تلك الأحكام من هذه النصوص الثابتة الحسان.(111/8)
المعلم السابع: الخطأ يرد على قائله أياً كان وليس عندنا أحد في هذه الأمة معصوماً إلا المصطفى عليه الصلاة والسلام وعندنا شريعة بعد ذلك يتحاكم إليها الصغير والكبير، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا عليه الصلاة والسلام، وكل واحد يخطأ ويصيب إلا المصطفى عليه الصلاة والسلام، نعم اخوتي الكرام، نرد الخطأ على من صدر مه أياً كان، لكن عند هذا المعلم السابع على رسلك ورفقاً بنفسك وأعرف قدرك وقف عند حدك.
إن الخطأ الذي جرى من أئمتنا لعدم وقوفهم على الدليل أحياناً إن الزلل إن الترخص الذي صدر منهم ووقع نبه عليه ممن هو خير مني ومنك فلا تتطاول على السلف وقف عند قدرك.(111/9)
نعم نبه أئمتنا على هذا وكما قلت شريعة محكمة تتابع عليها أمة النبي عليه الصلاة والسلام تتابع عليها عشرة قرون، أما وجد في هذه الأمة طائفة ظاهرة على الحق يبينون أقوالاً ضعيفة وترخصات شاؤه بلى وجد، فإذا وجد خطأ نبه عليه من قبل من تقدمنا من أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين، ولا أعني بهذا المعلم السابع أن كل واحد منا إذا قرأ مسألة ما راقت له قال خطأ (الإمام الشافعي، لكن ما بقى في قلوبنا خشية لربنا ولا احترام لأئمتنا متكئاً على أريكته وبقهقة أخطأ الشافعي وما فهم المسألة، الإمام أحمد، ومن هذا الكلام المنكر الخطأ يرد ولكن من الذي يرد الخطأ، اعرف قدرك، أئمتنا حذروا من سقطات وزلات وهفوات وعترات يقع فيها البشر على حسب ضعفهم البشري فهذا الذي حذرنا منه وينهنا عليه صحيح من قبل من تتابع هذه المذاهب، وكفا الله المؤمنين القتال، يقول العبد الصالح سليمان التميمي الذي توفي سنة ثلاثة وأربعين ومائة للهجرة 143هـ وحديثه في الكتب الستة كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وصلى الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة رضي الله عنه وأرضاه يقول هذا العبد الصالح (من تتبع زلل العلماء ظل ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله) وهذا الكلام ينقله عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وينقله عنه الإمام أبو نعيم في ترجمته في الحلية وينقله الإمام الذهبي في السير وفي تذكرة الحفاظ وينقله الإمام الخلال في كتابه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم نقل الإمام الخلال بعد هذا الأثر أثرين عن عالمين صالحين أولهما معمر بن راشد نزيل اليمن، أبو عروة الذي توفي سنة أربعة وخمسين ومائة للهجرة 154هـ، إمام ثقة عدل رضي، حديثه أيضاً في الكتب الستة يقول أيضاً (من تبع زلل العلماء اجتمع فيه الشر كله) ونقله هذا أيضاً عن شيخ الإسلام إبراهيم بن أدهم من العلماء الصالحين الربانيين توفي سنة اثنتين وستين ومائة للهجرة 162هـ، حديثه في الأدب المفرد(111/10)
للإمام البخاري، وفي سنن الترمذي، ونص كلامه (من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً) ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في الجزء الأول من إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان الجزء الأول كما قلت صفحة ثلاثين ومائتين 1/230 (من تبع زلل العلماء تزندق أو كاد) نعم كما قلت الأخطاء حذرنا منها وبذلك انتهينا منها من قبل من حذرنا من أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين.(111/11)
المعلم الثامن: إذا كنا نرد الخطأ كما قلت، فينبغي نحن في أنفسنا أن نتروى وأن نتأدب مع أئمتنا وأن لا نتسرع في تخطيء من سبقنا، ولو قُدر أنه بلغنا نص بخلاف ما عليه أئمتنا فينبغي أن نتوقف ونتوقف ونتوقف ونبحث ونبحث ونبحث، لعله قد يأتينا الموت ولا نصرح بخطأ أئمتنا فهذا خيرٌ لنا، اعلم هذا يا عبد الله، قف عند قدرك ولا تتسرع بتخطيء أئمة الإسلام، وأما إذا بلغك بعد ذلك أمر فهمت منه شيئاً ثم نظرت فيما عليه أئمة الإسلام هم على خلافه أصدرت الفتية أنهم على خطأ وأنت على صواب، ولما تنبه وتنبه وتنبه، أنت المخطئ تتهجم على الصغير والكبير، هذه هي دعوى الإصلاح، وهذه هي العودة إلى الكتاب والسنة، انظروا إلى بعض الشاذين في هذا العصر (سمعت له أشرطة متتابعة مع تقريره لهذا في كتب كثيرة (الذهب المحلق حرام لبسه على النساء) لا يجوز للمرأة أن تلبس الخاتم، ولا القلادة ولا القرط ولا الأسوره ولا ولا ... هذا حرام..(111/12)
وإذا لبست هذا فهي في النار، وأباح للمرأة استعمال الأزرار من الذهب وكذا المشط من الذهب، يكرر هذا بلا ملل وهو صاحب كلام وجدل ومن قال هذا من الأئمة الأربعة ولا أحد، فلما نبه على هذا من قبل أهل الخير والصلاح والفضيلة تردى في نفسك وأنت في هذه المسئلة قد خالفت الإجماع، فقد حكى الإمام البيهقي الذي توفي سنة ثمانية وخمسين وأربعمائة 458 حكى الإجماع على حلي لبس النساء للذهب، وتبعه الإمام النووي الذي توفي سنة ستة وسبعين وستمائة 676 وتبعهم الإمام ابن حجر الذي توفي سنة اثنين وخمسين وثمانمائة 852، أئمة ثلاثة وعداهم يحكون إجماع العلماء، إجماع المسلمين على جواز لبس الذهب للنساء، لابد من المخالفة والرد على الصغير والكبير تحت ستار العودة إلى الكتاب والسنة، ثم عندما ينبه يقول أنت جمهوري لمن ينبه، أي أنت تسير مع الجمهور وأنت تقلد المحدثين ويتهكم بهذا وذاك، عباد الله كما قلنا نرد الخطأ لكن نعرف قدر أنفسنا، ونقف عند حدنا ولا نتطاول على أئمتنا، ومن البلاء في هذه الأيام أننا على خطأ ثم نخطئ أئمة الإسلام، إن نساء المسلمين شرقاً وغرباً يلبسن الذهب المحلق وهذا أمر ورثه الخلف عن السلف وحلة معلوم في دين الله بالضرورة ثم يأتي بعد ذلك يخالف وليته رأياً له يخالف، وليته رأياً له يقوله ويلزم به أهله، إنما فتيي تليها فتيي، كلام لا ينقطع وكأنه عندما يريد أن يقرر تحريم الذهب على النساء كأنه يريد أن يخلص دين الله من الملحدين، كأنه ما بقي في هذه الأمة إلا الإعلان بأن الذهب محرم على نساء أهل الإسلام.(111/13)
المعلم التاسع: إن الفتيا ينبغي أن تكون على حسب المذاهب الأربعة، بل على حسب المذهب المنتشر بين المسلمين في مصر من أمصارهم، فإذا كنت طالب علم ورزقك الله ذكاء وبصيرة وإنصاف ومعرفة، وكنت قرأت مذهب الإمام الشافعي ورأيت فيما رأيت أن دليل الإمام مالك في هذه المسألة أقوى (فخذ به) وهذا فريضة الله عليك، لكن إياك أن تنشر هذا بين الناس، فذاك المذهب اتفقنا على صحته وعلى سلامته وبلدة من أولها إلى آخرها يتعبدون الله بمذهب هذا الإمام الذي أجمعت الأمة على صواب ما فيه، أنت رأيت خلاف ذلك اعمل به ولا حرج ولا حضر عليك، لكن إياك إياك أن تخرج على هذه الأمة وأنت تقول هذه المسألة في مذهب الشافعي مرجوحة وأنا رأيت أن مذهب الإمام مالك في هذه المسألة أرجح، قف عند حدك، الفتيا ينبغي أن تتقيد بما في المذاهب الأربعة، بل بما في مذهب إمامٍ مما انتشر في ذلك المكان، وهذا من أجل المحافظة على وحدة المسلمين، والقضاء على القيل والقال مما انتشر في هذا الزمان.
وسأقرر هذا عما قريب بكلام أئمتنا وعلى رأسهم الإمام الذهبي عليه رحمة الله.
المعلم العاشر: إياك ثم إياك ثم إياك أن تقول قولاً لم تسبق إليه مهما كانت قوته عندك، قول ما قيل في هذه الأمة وما عرف فيها، كما كان أئمتنا يوصون بذلك وفي مقدمتهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه رحمة الله، عند هذا المعلم العاشر أعرض عليكم فتيين أفتى بهم بعض الناس في هذه الأيام.(111/14)
الأولى: بعض الدعاة في الدنمرك وأرسل إليَّ الشريط من قريب بعض الناس هناك، أفتى بطريقة الذبح التي تحصل هناك، وهل هو مصيب أم مخطئ، هذا بحثه في محله، إنما أريد أن أقول ما يتم في ذبح عن طريق الطلقة المسترجعة بحيث يُأتى بمسدس فيه حديدة طويلة إذا أطلق تخرج هذه الحديدة بمقدار عشرة سنتي تدخل في رأس البهيمة بحيث تلقى على الأرض ثم بعد فترة يجهز عليها وتذبح أو عن طريق الصعق الكهربائي في الدجاج من أجل أن تخدر بتيار مخفض ثم بعد ذلك تذبح، وهو أقر أنه يموت نسبة كبيرة من هذه الحيوانات قبل أن يُزكى تزكية شرعية، هذا الداعي أفتى بحل هذه المطرق الذي يُذبح بها هناك، لكن قيد الفتيا بشهرين قال يباح لكم ذلك لمدة شهرين إن التزمتم بذلك وغيرتم طريقة الذبح فأنا أفتي بأن الذبح الآن حلال ويصدر إلى بلاد المسلمين وإلا فلا، فلما نوقش ونوظر من قبل الأخوة هناك، كيف هذا قال إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه كما كره أن تؤتى معصيته، هذه رخصة، رخصة لمدة شهرين؟! من المرخص هل أنت صرت مشرعاً من الذي رخص بهذا في هذه الكيفية في الذبح ومن الذي حددها بشهرين، إن هذه الطريقة إن كانت جائرة فهي جائزة جوازاً مطلقاً لا يجوز أن تحددها بشرين ولا بسنتين وإن كانت محرمة فهي محرمة ولا تم ذبح ذبيحة واحدة بسببها، أم التحديد بشهرين هذا ليس من اختصاصك، هذا من اختصاص الله الذي له التشريع الذي له الحكم والأمر، رخصة ويستدل؟! ما شاء الله؟؟ ما أشط وأشذ المجتهدين في هذا الحين، ولعله زادت نسبة المجتهدين في هذه الأمة على نسبة الدارسين المتعلمين وهذه مستنداتهم (أقيدها بشهرين وإذا ما غيروا طريقة الذبح فأنا سوف أسحبها منهم وأقول إن طريقة ذبحهم حرام) .(111/15)
وضال آخر من بلاد الشام أيضاً ألف كتاب وسماه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة) وهو مهندس ضال وأنزه هذه البيت الكريم عن ذكر اسمه وعلق على كتابه وقرصنة دكتور أضل منه وخلاصة كلام هذا الإنسان في هذا الكتاب الذي زاد عن ثمان مائة صفحة 800صـ يقول إنه في كتابه لن يأخذ بالفقه الموروث وسيذكر شيئاً لا يوجد في كتب السلف والأئمة المتقدمين ثم يقول للقارئ لا تعجل عليَّ بالحكم على حسب العاطفة لا نني سأخرج عما هو موروث إنما أنا سأقرأ قرأ معاصرة وأستنبط منها الأحكام، جاء ليستنبط بعض الأحكام المتعلقة بحجاب النساء في سورة النور، وليضربن بخمر رهن على جيوبين قال الجيوب جمع جيب والجيب طبقتان بينهما خرق، وعليه يجب على المرأة أن تستر الطبقتين اللتين بينهما خرق، يقول هذا في الفرج وفي الدبر وتحت الإبطين وبين الثديين، هذا الذي يجب على المرأة أن تستره عن الأجانب وأمامهم ثم تقدم عارية بعد ذلك كاشفة الأفخاذ، كاشفة الصدر.. الرأس.. الظهر، كل لا يوجد دليل يلزمها بالحجاب لأن الله يقول {وليضربن بخمرهنَّ على جيوبهنَّ} والجيوب جمع جيب، طبقتان بينهما خرق فأين يوجد طبقتان بينهما خرق في جسم المرأة تستره وما عد هذا تكشفه، قال وهذا أمام الأجانب وأما أمام المحارم من أب وأبن فيجوز للمرأة أن تظهر عارية كما ولدت، قال ولا يجوز للأب أن يقول لها أن هذا حرام، قال وإذا ما اعتاد العرف هذا فليقل لها إنَّ هذا عيب، أما حرام لا يجوز أن يقول إنَّ هذا حرام لأنه يفتري على الرحمن عندما يحرم هذا فالله قد استثنى الزوجة والمحارم من هذا الأمر ويجوز أن يطلعوا على الزينة الباطنة، وأما الأجانب المرأة تستر أمامهم الجيوب فقط، أما المحارم فتقوم أمامهم عارية، إياك ثم إياك أن تقول شيئاً لم تسبق إليه، هذه المعالم العشرة لابد من وعيها.
الأول:- أن ديننا يقوم على الكتاب والسنة حسبما فهم سلف الأمة.
الثاني:- أن اجتهاد أئمتنا تشريع.(111/16)
الثالث:- أن التزام بمذهب من مذاهب أئمتنا هدى وفضيلة.
الرابع:- لا يلزم المسلم بالتزام مذهب بعينه.
الخامس:- التعصب المذموم أن ينتسب الإنسان إلى مذهب ويقول إن المذاهب الأخرى باطلة ضالة.
السادس:- ينبغي أن نتعلم الأدلة لنكون على بصيرة وبينة من أمرنا ولكي لا نع من قبل من يتسفه على أئمتنا.
السابع:- نرد الخطأ على من صدر منه أين كان ونلتمس لأئمتنا الأعذار الحسان.
الثامن:- لا نتسرع في تخطيء من سبقنا، وينبغي أن نعرف قدرنا.
التاسع:- الفتيا لا ينبغي أن تخرج عن المذاهب الأربعة بل ينبغي أن تتعد بالمذهب الذي يوجد في ذلك المصر.
العاشر:- إياك ثم إياك أن تقول شيء لم يُسبق إليه.
وهذه المعالم وعدتُ بينها في الموعظة الماضية وينبغي أن يعيها المسلم في الأيام الحاضرة بعد هذا أعود إلى الفرقتين.
الفرقة الأولى: التي تطالب بنبذ المذاهب وتريد أن تعيد الأمة إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
والفرقة الثانية: أرخت لنفسها العنان وادعت الاجتهاد في الإسلام وقربت بين تشريع الرحمن ونظام الشيطان.(111/17)
أما الفرقة الأولى:- أناس من ظاهرهم خير ويدعون الالتزام بالكتاب والسنة ولكن كما قلت وقعوا في فخ وشرك ومصيدة أعداء المسلمين فصاروا يخدمونهم من حيث يشعرون أومن حيث لا يشعرون، فهذا قائل منهم يقول إن الأمة الإسلامية في هذه الأيام في صحوة؟! ما هي الصحوة فيها قال بدأت تعود إلى الكتاب والسنة ونبذت مذاهب الأئمة لم تتقيد بها، يقول من قرابة خمسة عشر 15 سنة، الأمصار الإسلامية تلتزم بالمذاهب الأربعة فضلاً عن ما قبلها، أما الآن كتاب وسنة وخروج على مذاهب الأئمة، صحوة، وأنا أقول لهذا الجاهل الذي لا يدري ما يقول (والله ما مر على الأمة الإسلامية زمان! الأمة الإسلامية انحطت في علمها وفي فكرها وفي عزيمتها وقصرت في عملها، وتشتت في ذهنها ووقعت البغضاء بينها كحال الأيام التي نعيشها؟ هذه صحوة ضلال ليس بعده ضلال ضلال تعيشه الأمة من هذه الأيام الخروج عن مذاهب أئمتنا الكرام باسم العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكأن الأمة الإسلامية كانت على ضلال وردى، يعبدون الله بآرائهم التي ما أنزل الله بها من سلطان على رسلك أيه الإنسان والله ما المجتهد فينا إلا كالاعب فيمن سبقنا، والله ما المحقق بيننا إلا كطويلب بين يدي أئمتنا، إذا كان الخطيب البغدادي وهو من علماء القرن الخامس للهجرة وتوفي سنة ثلاثة وستين وأربعمائة للهجرة 463هـ يقول (إذا ذكر السلف فما نحن بجنبهم إلا كنجم صغار بجانب نخل طوال) ، فماذا نقول؟ والله إذا ذكرنا من تقدمنا فما نحن بجنبهم إلا بمثابة الشياطين مع المهتدين فأي صحوة مزعومة في هذا الحين.(111/18)
اخوتي الكرام: هل تروا نموذجاً على هذا، استمعوا إلى هذه القضية التي لن ينقضي عجب الإنسان من الفوضة العلمية في هذه الأيام التي نعيشها، كتاب ألف في هذا العصر يسمى (فقه السنة) ما أجل هذه التسمية لكن ما أشد وقعها كأننا في هذا الكتاب فقه السنة مستنبط منها، وبقيت كأن مذاهب الأئمة الكرام فقه لبني الإنسان، أما هذا فقهٌ للسنة، كما قلت ما أجل هذه التسمية وما أشد وأشنع المحتوى في أول الكتاب يعرض بأئمتنا الكرام الذين تقيدوا بمذاهب أئمة الإسلام وأنهم ما دعاهم إلى التقيد بالمذاهب إلا الأعطيات والوقوف التي وقفت على المدارس التي تتبع المذاهب يا عبد الله هذا يمكن أن يتصف به أنا وأنت أن نركض وراء (الريال) أما أئمتنا الأبرار، فحاشاهم، حاشاهم من هذا العار، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
أما محتوى الكتاب أترك التسمية فيشتمل على ثلاثة أمور:-
أراء شاذة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان تحت ستار فقه السنة،
تلفيقٌ وترقيع بين مذاهب أئمة الإسلام دون تحقيق ونسبة الأقوال إلى قائلها.
أمر ثالث:- نقل من القوانين في هذا الحين تحت ستار فقه السنة.(111/19)
وهذا الكتاب يعرض من قبل من يقال عنهم في هذا الحين إنهم أيضاً من أقطاب السلفية وما أعلم هل صار للسلفية أقطاب كأقطاب الصوفية، حقيقة ما أعلم هل أقطاب السلفية نزلوا أنفسهم منزلة أقطاب الصوفية، فكنا وما نزال نعاني من أقطاب الصوفية والضلال الذي عندهم، فبتلينا بأقطاب أيضاً السلفية، يقول في تقريضة لهذا الكتاب أنه ما قرأ كتاب في فقه من هذا الكتاب، وحث إخوانه السلفيين على قراءة هذا الكتاب وانتشر بين صفوف السلفيين في كل مكان، ثم كر على هذا الكتاب بعد المدح بأشنع أنواع القدح، وبعد الثناء بالذم، فقال إن هذا الكتاب جامدٌ لا يتطور مع الزمن ونقده في أربعة عشر خصلة، لو فصلت هذه الخصال لزادت تفصيلاتها والأدلة عليها على حجم الكتاب ثلاث مرات، وألف كتاباً (إتمام المنة في التعليق على فقه السنة مجلد وفقه السنة ثلاث مجلدات وتمام المنة يعلق فيه على نصف الجزء الأول من الأجزاء الثلاثة ويرد عليه جموده ويرد عليه تصحيحه للأحاديث الضعيفة ويرد عليه تضعيفه للأحاديث الصحيحه ويرد على نسبته الأحاديث للصحيحين ولست فيها، كما قلت هذا مجلد يعلق به على نصف المجلد الأول في فقه السنة فكيف لو علق على النصف الثاني من المجلد الأول وعلى المجلدين الآخرين، كم سيكون التعليق وهذا كما قلت فقه سلفي، سبحان الله ما هذا الضياع ما هذا الافتراء والشتات، ذمٌ بعد ثناء، ونقدٌ بعد إطراء، وقدحٌ بعد مدح، كتاب يؤلف ثم يرد على نصفه بمجلد ثم بعد ذلك مهاترات بين الأمة، بعد أن يثنى على هذا الكتاب، أما المسائل فسأذكر مسألتين اثنتين مما في هذا الكتاب، وهذا الذي دعاني للكلام عليه بعض من أئمة المساجد هنا، قال لي يا شيخ ما حكم التصوير قلت عندك شك إنه حرام في شرع الله الجليل هذا الذي عليه أئمتنا، وقد حكى الإمام النووي هذا عن أئمة الإسلام الكرام في شرح صحيح الإمام مسلم سوى صورة مما له ظل أولاً ظل له، قال في فقه السنة إن الصورة (الفتوغرافية) والصور(111/20)
التي على الجدران وعلى الستائر هذه حلال، قلت أيضاً في فقه السنة قال في فقه السنة، أين دلت السنة المطهرة على حل التصوير الفتوغرافي أين دلت هذا يحتاج إلى نص صريح صحيح ليكون معجزة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه أشار إلى هذا التصوير الفتوغرافي أين دلت، إذا أنت فهمت هذا ولا أريد أن أقول إن فهمك مردود أو مقبول، إذا فهمت هذا على ما ينسب إلى السنة يقول الإمام ابن القيم في كتاب إعلام الموقعين الجزء الرابع صفحة خمسة وسبعين ومائة 4/175 كانت عادة السلف أنهم إذا استنبطوا حكماً ما دلت الأية عليه صراحتاً ولا الحديث يقول هذا رأيي وهذا اجتهادي، أما أن يقول قال الله وقال الرسول فلا ثم لا لأن الله يقول {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرامٌ لتفتروا على الله الكذب * إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون} السنة دلت على هذا، وهذا فقه السنة التصوير الفوتوغرافي حلال، سبحان ربي العظيم، أين دلالة السنة على هذا ثم يقول لهذا عدا أنه ما دلت السنة لا تأدبت مع ظواهر النصوص التي حرمت التصوير، ولا فهمت مراد الشرع المطهر من تحريم التصوير، إن الأحاديث تواترت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن تحريم التصوير والتصوير شامل التصوير الفوتوغرافي والتصوير اليدوي على الجداران أو على الستائر كل هذا تصوير وخذ هذه الصورة إلى ستار البادية وقل يا أمة الله ما هذه تقل هذه صورة، صورة يا ولدي صورة، فلو وقفت مع ظواهر النصوص فالصورة حرام ولو بحثت في مقاصد الشرع من تحريم التصوير لو بحثت.(111/21)
وفي المعنى الذي من أجله حرم التصوير مضاهاة خلق الله ولئن لا تكون هذه الصور ذريعة للعبادة من دون اله، فهذا موجود في التصوير الفوتوغرافي والنحت وغيره، فما الذي فرق بينهما ـ ثبت في المسند والصحيحين من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سترت سهوت في البيت والسهوة هي الحرانة الطاقة فتحة مقران فيه تصاوير ن قران ستر، ستارة فيها تصاوير فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الباب وقف وقال ما هذا يا عائشة أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون في خلق الله، أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما صنعتم فأخذت هذا القران وقطعته قطعتين، هذا تصوير، تصوير على ستارة وقد نهاها عنه نبينا عليه الصلاة والسلام.(111/22)
وثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربع إلا سنن أبي داود من حديث أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب لا صورة] صورة مطلقة، وهل سيجعل في البيوت صورة أصنام؟ صورة من فوتوغرافية أو ستارة أو إلى غير ذلك، فأين دلت السنة على حل الصورة الفوتوغرافية، لكن يرخص للإنسان أن يقول ما شاء تحت ستار نبذ مذاهب أئمتنا وعدم اتباعهم، فقه السنة التصوير الفوتوغرافي حلال والسنة حلت على هذا، وأنا أقول لهذا ولمن قرصن كتابه ولمن يعنى بهذا الكتاب أقول والله الذي لا إله إلا هو لو كان التصوير الذي لا ظل له مباحاً وحلالاً لأجرم الصحابة في حق هذه الأمة وقصروا مع نبيها - صلى الله عليه وسلم - تقصير تقصيراً لا نهاية له، فإن قال قائل كيف نقول هلا رسموا لنا صورة النبي - صلى الله عليه وسلم -، الله إن النظر إلى صورته أحب إلينا من وجود الروح في أبداننا، فإذا كان التصوير جائزاً فهلا رسموا لنا صورة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تأدبنا مع ظواهر النصوص ولا فقهنا في النصوص ثم بعد ذلك فقه سنة، ثم بعد ذلك فقه جامد.
المسألة الثانية اخوتي الكرام: موضوع إرث الحمل، إرث الحمل ذكر قولاً خرج به عن المذاهب الأربعة الحمل يقول الحمل يرث من والده إذا مات بشرط أن يولد الحمل هذا الذي في بطن المرأة من زوجها أن يولد ضمن خمسة وستين وثلاثمائة 365 يوم ينبغي أن يولد في هذه المدة كما هو تقرير الطب الشرعي لو ولدت بعد ذلك لا يرث هذا الحمل ثم قال وهذا الحمل لا يرث من غير والده إلا في حالتين:-
الحالة الأولى:- أن يولد أيضاً هذا الحمل ضمن 365يوم أن يولد ضمنها إذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة.(111/23)
الحالة الثانية:- أن يولد حياً، 270 يوم على الأكثر من تاريخ وفاة المورث إن كانت من زوجته قائمة وقت الوفاة ويريد بذلك كما لو مات ابنها الذي هو أخٌ للحمل من أمه مثلاً، فهل يرث الحمل منه؟ يقول يشترط لإرثه ولادته تسعة أشهر من موت مورثه، يعني من موت أخيه من أمه، وأنا أقول ما الفارق بين هذه الصورة والتي قبلها ومن قال بهذا من المذاهب الأربعة المتبعة؟ وهل هذا القول معتبر؟.(111/24)
اخوتي الكرام: لابد أن نعي وضعنا هذه الأيام وكثير ممن يدعي في هذا الوقت الرجوع للكتاب والسنة وهو خطر على السنة ممن يحارب السنة، وقد أشار أئمتنا إلى هذا فاستمعوا إلى هذا الكلام الذي يذكره ابن رجب الحنبلي في كتابه فضل علم السلف عن الخلف صفحة ثلاثة عشر صـ13 والإمام ابن رجب الإمام التقي الورع العابد البحر الصامت الذي توفي سنة خمسة وتسعين وسبعمائة للهجرة 795هـ، وفي زماننا أي في القرن الثامن يتعين كتابه كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان على حذر مما حدث بعدهم فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة، وحدث إلى من انتسب إلى متابعة السنة والحديث من الظاهرية ونحوهم وهم أشد مخالفة لها لشذوذه عن الأئمة وانفراده عنهم بفهم يفهمه أو يأخذ ما لم يأخذ به الأئمة من قبل، وكما قلت عند المعلم التاسع من المعالم المتقدمة قلت أنقل كلام الإمام الذهبي بأن الإنسان لا يخرج في الفتية عن المذاهب الأربعة، بل يلتزم بالمذهب الذي ينتشر في ذلك المصر من أمصار المسلمين، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثامن صفحة تسعين إلى خمسة وتسعين صـ90 ـ صـ95 في ترجمة الإمام المبارك الإمام مالك بن أنس يقول بعد أن ذكر من كان يقلد من أئمة الإسلام بداً من الصحابة الكرام إلى زمنه قال: ولم يبقى اليوم إلا هذه المذاهب الأربعة وقل من ينهض بمعرفتها كما ينبغي فضلاً عن أن يكون مجتهداً ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقهاً وسعة علماً وحسن قصدٍ فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله، لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل لاح له الدليل وقامت عليه الحجة فلا يقلد فيها إمامه، بل يعمل بما تبرهن، ويقلد الإمام الآخر بالبرهان، لكنه لا يفتي العامة إلا بمذهب إمامه أو ليصمت بما خفي عليه دليله، هذا الأمر كما قلت اخوتي الكرام نحو الفرقة الأولى التي نبذت مذاهب أئمتنا الكرام ودعت على زعمها إلى العودة إلى كتاب(111/25)
الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
والفريق الثاني: وهم بلا شك أخطر من هؤلاء وفريق ثاني ادعوا الصلاح والاجتهاد وأرادوا من ذلك أن يطوعوا الإسلام للمفاهيم الغربية الجاهلية التي يعيشها البشر هذه الأيام، دعوات الإصلاح وحالهم كما قال الله: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} ، الدعوة الإصلاحية الردية التي دعا إليها (محمد عبده) وقد هلك سنة ثلاثة وعشرين وثلاثمائة بعد الألف 1323هـ ما خرج وما حصل بتلك الدعوة وما أوحي بتلك الدعوة إلا من قبل الإنجليزي اللعين (كرومر) وقد زين لهذا أن يخرج على مذاهب المسلمين وأن يقول بالاجتهاد، ليقول بعد ذلك كل واحد في دين الله ما شاء، ووصل الشطط بعد ذلك تحت ستار دعوة الإصلاح أن يفتي محمد عبده أنه لا مانع من لبس البرانيط ولا مانع من الاستعانة بالكفار في أمور الحياة فيما ينفعهم في الدنيا ولا يذكر لذلك ضابطاً ولا شرطاً ولا قيداً ولا مانع بعد ذلك من حل الذبح بالبلطة أو بالشرارة الكهربائية، بل لا مانع بالحكم بالقوانين الإنجليزية لأنها أقرب إلى الإسلام من غيرها، هي هي دعوة إصلاح ويراد منها الإفساد، نشهدها أيضاً في هذا الوقت بعد وفاة هذا الإنسان بتسعين سنة 90سـ، سبحان ربي العظيم، تلبس برانيط الكفار، يوضع الصليب وفي الصدور ثم هذا لا مانع منه، نصوص الإسلام تتسع لذلك، وقد وصل به الأمر أنه كان يلي رتبة الإفتاء ومع ذلك يلي رتبة الاستشارية، هو مستشار في محكمة الاستئناف التي تحكم بالقوانين الفرنسية، نعم إن صدورهم اتسعت لأن توسع بين شرع الرحمن ونظام الشيطان، فهنا يفتي على حسب الإسلام، وهنا يقضي على حسب القوانين الفرنسية، دعوة الإصلاح التي وجدت وانتشر بعد ذلك منها من البلاء ما انتشر اخوتي الكرام كلها قامت على نبذ المذاهب الأربعة وأن هذا جمود ينبغي أن تتخلص الأمة منه، وتراهم يتململون في كل ساعة من المذاهب(111/26)
الأربعة ثم بعد ذلك يرتمون في أحضان الكفار ويقدمون طاعتهم على طاعة العزيز الغفار، وخلاصة الكلام اخوتي الكرام هذه المعالم الثلاثة ينبغي أن نعيها تمام الوعي
(1) التشريع من خصائص الله جل وعلا.
(2) لهداية الإنسان ركنان: شرع قويم، وعقل سليم.
(3) منزلة الاجتهاد في الإسلام كما تقدم معنا منزلة عظيمة، وهذه الاجتهادات أحكام شرعية وأصحابها ليسوا بمشرعين والثروة الفقهية هي من أعظم معجزات نبينا خير البرية.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اخوتي الكرام: كل هذه الدعوات الضالة الباطلة ينبغي أن تحذرها من زعم أن الفقهاء مشرعون فهو ضال كما تقدم معنا، ومن زعم أن كلام الفقهاء هو أقوال رجال لنا أن نقول كما قالوا ضال ينبغي أن نحذر قوله ن ومن زعم أن مذاهب الأئمة الأربعة كما تقدم معنا بنيت على السياسة وعلى أهواء الحكام فهو ضال يرف بما لا يعرف، وقد ذكرت بعض أحوال أئمتنا كما تقدم، وأختم هذا الأمر بحال الإمام المبارك إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه توفي سنة تسعة وسبعين ومائة للهجرة 179هـ عندما أفتى بأن طلاق المكره لا يقع وقد ثبت هذا عن عدة من الصحابة الكرام.(111/27)
ففي مصنف ابن أبي شيبة وسنن سعيد بن منصور عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ليس (لا يقع طلاق المكره ولا المضطهد، ليس على المكره ولا المضطهد طلاق) والأثر علقه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباسٍ ونقل هذا المعنى الإمام ابن أبي شيبة عن عدة من الصحابة عن عمر وعن ابنه عبد الله وعن عدة من التابعين عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري والضحاك وقتادة رضوان الله عليهم أجمعين طلاق المكره لا يقع وقد وصل الأمر بحكام بني العباس أنهم كانوا يأخذون أيمان البيعة ويأكدونها بالطلاق ويقال لهم نسائهم طوالق، عبيده أحرار، ماله صدقة إذا نكث البيعة، قال الإمام مالك طلاق المكره لا يقع فما راق هذا للحكام، فاستدعاه جعفر بن سليمان الوالي على المدينة من قبل أبي جعفر في زمن الخلافة الإسلامية العباسية ونهاه عن هذا القول فلم ينتهي فما كان من هذا الحاكم إلا أن اشتط فسخم وجه الإمام مالك نور الله وجهه ونور قبره رضي الله عنه ورحمة وما حصل له من ذلك التسخيم إلا رفعة قدر في الدنيا والآخر، فسخم وجهه وكساه بالسواد وشحورا وجهه ثم أركبه على حمار مقلوباً وجهه إلى مؤخرة الحمار وطيف به في مدينة نبينا المختار عليه الصلاة والسلام وقيل للإمام مالك نادي على نفسك فكان يقول أنا مالك بن أنس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فليعرفني، طلاق المكره لا يقع، فمثل هؤلاء الأئمة ينبني فقههم على السياسة حاشهم من ذلك، رجمة الله ورضوانه عليهم أجمعين
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.(111/28)
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك. ومن المقربين لديك. وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً. اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(111/29)
ما يصل للميتين باتفاق المسلمين
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ما يصل للميتين باتفاق المسلمين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن الابتداع في الإسلام يؤدي إلى سوء الخاتمة للإنسان، نسأل الله حسن الخاتمة وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، وهذا الأمر أعني البدعة قلنا سنتدارسه ضمن ثلاثة مباحث.(112/1)
أولها:- في تعريف البدعة.
وثانيها:- في النصوص المحذرة من البدعة.
وثالثها:- في أقسام البدعة.
ولازلنا نتدارس المبحث الأول اخوتي الكرام ألا وهو تعريف البدعة وقلت فيما مضى إن البدعة هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرَّب بذلك إلى الرحمن، وذلك الحدث لا تشهد له نصوص الشريعة الحسان.
اخوتي الكرام: وهذا التعريف السديد الرشيد الذي قرره أئمتنا الكرام ضل نحوه فريقان من الأنام.
فرقة غلت وأفرطت في تعريف البدعة فأدخلت فيها ما ليس منها.
وفرقة قصَّرت وفرطت في تعريف البدعة فألغت البدعة وابتدعن ما شاءت وعبدت ربها على حسب هواها وهي تزعم أنها تعبد مولاها.
أما الفرقة الأولى: فتقدم معنا مناقشتها ولا زلنا في التحذير منها، قلت إنهم أهل غلوٍ وشطط ودين الله بين الغالي والجافي، وهذا الغلو انحصر في أمرين اثنين منهم الأمر الأول كما تقدم معنا حكموا بالبدعة والتضليل على ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل، بل زادوا على هذا وهذه الضلالة الثانية، منهم فحكموا بالبدعية على ما صرحت به النصوص الشرعية بأنه ما راق له قولهم الردية وتذاكرنا اخوتي الكرام أمثلة كثيرة حكم عليها بالبدعة من قبل هؤلاء السفهاء المبدعين ولا تدخل في تعريف البدعة عند أئمتنا الراسخين وسأختم الكلام في هذه الموعظة والتي تليها على أمرٍ أيضاً يزعم هؤلاء أنها بدعة وليس ببدعة، إنما هو هدىً ورشاد، وهذا الأمر هو إهداء القربات، إهداء الطاعات، إهداء الخيرات والحسنات، إهداء الأعمال الصالحات إلى الأموات.
اخوتي الكرام: هذه المسألة لها شقان:
الشق الأول: والجانب الأول منها عليه اجتماع واتفاق ولا يخالف فيه إلا أهل الضلال والبدع والأهواء.
والشق الثاني: حصل فيه اختلاف وافتراء بين أئمتنا الأتقياء، لكن الراجح ما قرره جمهور العلماء كما سيأتينا إن شاء الله.(112/2)
وموعظتنا ستكون في الأمور المتفق عليها، وأما الأمور المختلف فيها والتي هل يصح إهدائها إلى الأموات بعد موتهم فسأتكلم عنها في الموعظة الآتية إن شاء الله.
اخوتي الكرام: قرر أئمتنا الأتقياء أن أربعة أشياء تصل إلى الأموات بعد موتهم وينتفعون بها في قبورهم عند ربهم بعد رحيلهم ومفارقتهم للحياة الدنيا، وهذه الأمور الأربعة من خالف فيها شيئاً منها فهو ضال مبتدع، وكما قلت عليها الإجماع والاتفاق.
أولها:- ما تسبب الإنسان في عمله ووجوده بعد موته.
وثانيها:- دعاء المؤمنين واستغفارهم للأموات بعد موتهم.
وثالثها:- الحج والعمرة للأموات.
ورابعها:- قضاء الديون عنهم والتصدق عنهم.
فهذه الأمور الأربعة تصل إلى الأموات وينتفعون بها بعد موتهم باتفاق علماؤنا الكرام.
وسأذكرها مفصلة مقررة بأدلتها الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
أما الأمر الأول منها:- ما تسبب الإنسان في وجوده وفعله وبقائه بعد موته يكتب له أجره ما دام ذلك العمل قائماً يعمل به بعد موته، ولو استمر ذلك العمل إلى يوم القيامة، فالأجور تكتب للإنسان ما دام ذلك العمل مستمراً باقياً وقد قرر الله تعالى ذلك في كتابه فقال جل وعلا في سورة (يس) {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبين} نكتب ما قدموه من أعمال صالحة أو طالحة، من أعمال حسنة أو سيئة، ونكتب آثارهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذا أحد القولين في تفسير الآية وهو أظهرهما وأوجههما.(112/3)
والأمر الثاني: يدخل في التفسير الأول في ما قدمه الإنسان في حياته ألا وهو {وآثارهم} قالوا هو الأثر والخطى إلى الذهاب إلى بيوت الله وإلى المساجد في الأرض، فالله يكتب لهم هذه الخطى ويثبهم عليها، هذا يدخل فيما قدموه كما قلت إنما الآية تدل على القول الثاني وهو الذي قرره أئمتنا المفسرون ما قدموه من عمل وما خلفوه أنه يعمل بسببهم يكتب لهم في الخير والشر، وهذا الحقول الله جل وعلا في سورة القيامة {ينبؤا الإنسان يومئذٍ بما قدم وأخر} وهذا الحقول الله تعالى أيضاً في سورة الإنفطار {عملت نفسٌ ما قدمت وأخرت} ما قدمته من خيرٍ وما أخرته من خيرٍ، وما قدمته من شرٍ وما أخرته من شرٍ، وهذا المعنى الذي دلت عليه الآيات.
ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة عن خير البريات على نبينا صلوات الله وسلامه، فمن تلك الأحاديث ما ثبت في مسند صحيح مسلم والسنن الأربعة والحديث رواه الدارمي في مسنده أيضاً صحيحاً صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً] ، {إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} دعى إلى هدى فاهتدى الناس بدعوته ما دامت هذه الدعوة قائمة وينتفع بها أناس يقرؤن كغاية ويسمعون محاضرته يعملون بنصحه يكتب له أجر ذلك ما دام باقياً، والعكس بالعكس فإذا عمل معصية وبقيت هذه المعصية بعد موته والناس يتبعونه فيها من غناءٍ وبلاءٍ وتمثيليات وكفرٍ وغير ذلك كل ذلك يكتب وزره عليه، وهذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام.(112/4)
وثبت أيضاً في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن أبي داود، والحديث رواه الإمام الدارمي أيضاً والبيهقي في السنن الكبرى، وتقدمت وتقدم معنا الإشارة إليه في الموعظة الماضية، والحديث أيضاً من رواية أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً] .
والأحاديث في ذلك كثيرة ووفيرة، أيضاً منها ما في المسند والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد عن رواية أبو هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا م ثلاث: صدقة جارية أو علمٌ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له] .(112/5)
وكما قلت اخوتي الكرام: الأحاديث التي تقرر هذا كثيرة وفيرة منها ما في سنن ابن ماجة أيضاً وصحيح خزيمة، والسنن الكبرى للإمام البيهقي، والحديث إسناده حسن، وقد نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، وقد صحح الحديث شيخ الإسلام إمام الأئمة الإمام ابن خزيمة عليهم جميعاً رحمة الله، ولفظ الحديث أيضاً من رواية أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن مما يلحق المسلم من حسناته وعمله بعد موته مما يلحقه، مما يكتب له بعد موته علماً علَّمه ونشره وولداً صالحاً تركه، ومصحفاً ورَّثه، ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه، وصدقة أخرجها من ماله في حال صحته وحياته تلحقه بعد موته] سبعة أمور هذا من ما بالتمثيل أي ما تسبب الإنسان في فعله من الخيرات والطاعات يكتب له بعد مفارقته هذه الحياة ولقاءه رب الأرض والسماوات، وهذا الأمر اخوتي الكرام كما قلت أنه مجمع عليه ومتفق عليه لا يخالف فيه إلا أهل البدع والأهواء ولا يشكلنَّ عليك أمرُ الولد، فالولد هنا من أعظم ثمرات كسبك وهو حصل بسببك فأنت تنتفع أيضاً بما يصدر منه من طاعة وبالدعاء الذي يصدر منه نحوك وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن أعظم كسباً للإنسان ولده.(112/6)
ثبت الحديث بذلك في المسند، والحديث في السنن الأربعة أيضاً، ورواه الإمام البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الإمام الطيالسي في مسنده، والإمام البغوي في شرح السنة من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم] وفي رواية [إن أفضل ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوا من كسب أولادكم] هذا الأمر الأول ينتفع الإنسان به بعد موته ما وجد من خيرٍ بعد موته بسببه يكتب له أجره ما دام ذلك الخير باقياً، ولذلك لما وعى أئمتنا الكرام وسلفنا الكرام هذا الأمر تنافسوا في فعل الخيرات التي تنفعهم بعد الممات فأوقفوا الوقوف الكثيرة التي نستظل الآن نحن بظلها من مساجد ووقفاً على المساجد ومن دوراً لرعاية المنقطعين، ومن دوراً لرعاية طلبة العلم ومن أوقافاً بسخية كانت تنفق على ذلك من أجل أن يبقى أجره للإنسان بعد موته، نعم كانوا يقدرون الله مقدراً الآخرة ويقدمون إلى ما بين أيديهم وحصلوا ثمرة جهدهم.(112/7)
الأمر الثاني: الذي ينتفع به الإنسان بعد موته دعاء المؤمنين واستغفارهم له ينتفع به الإنسان بعد موته باتفاق أئمتنا، وقد قرر الله هذا في كتابه وذكره نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه، الله جل وعلا يقول في سورة الحشر بعد أن قسَّم هذه الأمة لثلاثة أقسام إلى مهاجرين صادقين، وإلى أنصارٍ مفلحين، وإلى من عداهما مما يأتي بعدهما، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنَّه وكرمه إنه أرحم الراحمين، جاؤوا بعد هذين الصنفين المباركين وتأدبوابأدب الشرع وما نسوا معروف من سبقهم في إحسانهم إليهم فكانت ألسنتهم تلهج بالثناء والدعاء لهم في جميع أوقاتهم يقول الله جل وعلا بعد ذكر المهاجرين والأنصار {والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيم} وهذا الدعاء نافعاً قطعاً، والله لا يأمرنا بأن ندعو لمن سبقنا وقد مات إذا كان الدعاء لا ينفع ورضي الله عن السيد الجليل الشريف الحعيفي الإمام الباقر محمد ابن على ابن الحسين ابن عليٍّ ابن فاطمة بنت رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لما جاءه أناس من السفهاء من الغوغاء ووقعوا في السلف الصالح فقال لهم هذا الإمام التقي النقي المبارك رحمة الله ورضوانه عليه هل أنتم من أهل هذه الآية: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} أنتم من أهل هذه الآية ومن المهاجرين والله عناكم بها قالوا لا قال أنتم من أهل هذه الآية {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} فنعت الله المهاجرين بالصدق ونعت الله الأنصار بالفلاح، صادقون، ومفلحون، أنتم من أهل هذه الآية؟ قالوا: لا، قال: أما والله إني(112/8)
أشهد أنكم لستم من هذه ثم تلا: {والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيم} .
هذا هو الإمام الباقر الذي هو إمام ثقة عدلٌ رضى من أئمة الخير خرج أهل الكتب الستة حديثه في دواوين الإسلام في الكتب الستة وأجمعت الأمة على جلالته وتوثيقه وإمامته وخيره وصلاحه، قد توفي سنة بضع عشرة بعد المائة قبل سنة أربعة عشر ومائة 114سـ وقيل سنة سبعة عشر ومائة 117سـ والعلم عند الله جل وعلا، وكما قلت حديثاً في الكتب الستة في الصحيحين والسنن الأربعة رحمة الله ورضوانه عليهم وعلى أئمة المسلمين أجمعين.
إذاً هذا هو الدعاء والاستغفار للأموات {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} .
نعم اخوتي الكرام: إن الدعاء للأموات أعظم من الهدايا للأحياء أعظم بكثير وإذا أهديتم لحيٍ هدية ثمينة يُسر بها فإن الدعاء للميت أعظم من الهدية للحي وقد شرع الله لنا أن ندعو لإخواننا فقبل أن نوسدة الميت قبره وقبل أن نضعه في لحده شرع الله لنا الدعاء والأستغفار له في صلاة الجنازة وقد شفع الله هذه الأمة بعضهم في بعض وصلاة الجنازة أول دعاءٍ يقدمه المسلم لهذا الميت، وقد شهد نبينا - صلى الله عليه وسلم - لهذا الميت بأنه من أهل الخير وأن ذنوبه تغفر ومن أهل الجنة إذا صلى عليه المسلمون واستغفروا الله له فالله سيشفعهم فيه فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي والحديث رواه الإمام البيهقي وأبو داود الطيالسي وهو في صحيح مسلم صحيح من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما من ميتٍ يموت م المسلمين فيصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة إذا بلغوا هذا العدد يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعهم الله فيه] .(112/9)
والحديث في صحيح مسلم [ما من ميت من المسلمين يموت يصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعهم الله فيه] .
والحديث اخوتي الكرام: كما قلت في صحيح مسلم من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وقد رواه الإمام أحمد في المسند والإمام مسلم في صحيحه والنسائي في سننه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أنس بن مالك أيضاً رضي الله عنهم أجمعين ورواه الإمام ابن ماجة في سننه من رواية أبي هريرة بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من صلَّى عليه مائة من المسلمين غفر الله له] ويمثل رواية ابن ماجة رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وهذا حدٌ أقصى، لكن إذا نزل العدد من ذلك رحمة الله واسعة أيضاً.
أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً [أن من صلَّى عليه أربعون من المسلمين من أهل التوحيد لا يشركون بالله المجيد استغفروا الله له وشفعوا له فالله سيغفر لهذا الميت وسيشفعه فيه] فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(112/10)
ثبت الحديث بذلك في المسند أيضاً وصحيح مسلم، والحديث رواه الإمام أبو داود وابن ماجة والبيهقي في السنن الكبرى من رواية كريب مولى سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: [مات ابن لعبد الله بن عباس فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: يا كريب أخرج فانظر كم اجتمع له من الناس فخرج كريب من البيت فنظر إلى الحاضرين الذين جاؤوا لتشييع ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين ثم جاء فقال له عبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: يا كريب تقول إنهم أربعون قال: نعم أو يزيدون قال: أخرجوه، أي أخرجوا ولدي إلى لحده وقبره، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول [ما من ميت يموت فيصلي عليه أربعون من المسلمين لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه] أخرجوه إذا اكتمل العدد إلى أربعين، نرجو لهذا الولد الخير العظيم عند رب العالمين، هذه شفاعة وهذا دعاء وهذا استغفار يحصل من الحي إلى الميت، أي إذا نقص العدد من ذلك رحمة الله واسعة بشرط أن يكون لدى الناس فقهاً بكيفية صلاة الجنازة، فإذا قلَّ العدد من أربعين وجعلوا الصفوف ثلاثة تكمَّل صفوفهم بملائكة الله الأطهار يشفع الله فيه أهل الأرض السماء ويرحمه فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(112/11)
ثبت الحديث بذلك في المسند أيضاً والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى من رواية مالك ابن هبيره والحديث قد نص شيخ الإسلام الإمام النووي على تحصينه وتبعه الحافظ ابن حجر في الفتح وهكذا نص على تحصينه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي، ولفظ الحديث عن مالك ابن هبيره كما قلت: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ما من رجلٌ من المسلمين يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف إلا وقد أوجب] أي: أوجب الله له الجنة وأوجب له الله العتق من النار، فكان مالك ابن هبيره رضي الله عنه وأرضاه إذا استقلَّ العدد ونقصوا عن أربعين جزئهم ثلاثة صفوف ثم تقدم بهم فصلى على هذا الميت من المسلمين.
وقد ورد في معجم الطبراني الكبير من رواية أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة ومعه سبعة نفر فجزئهم ثلاثة صفوف فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً واثنين صفاً بحيث جعلهم ثلاثة صفوف ثم تقدمهم وصلى بهم على هذه الجنازة التي توفيت من أجل تحصيل هذا الأجر إذا صلى عليه ثلاثة صفوف أوجب إذا صلى عليهم أربعون شفعهم الله فيه، إذا صلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة غفر الله له وشفع الله المصلين فيه، هكذا كله مما ينتفع به الميت بعد موته من دعاءٍ واستغفار إخوانه.
اخوتي الكرام: وإذا كان الحي يدعو للميت وينتفع الميت بهذا الأمر العظيم من الدعاء والاستغفار فاعلم أيها العبد المسلم أنه لك جائزة كبيرة كبيرة عند الله عندما تدعو لإخوانك وتستغفر لهم لاسيما إذا كانوا موتى وانقطع عملهم وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعطي عظيم الأجر لمن يدعو للأموات ولمن يستغفر لهم ولمن يصلي عليهم ويشهد جنازتهم ودفنهم.(112/12)
ثبت في المسند والحديث في الكتب الستة والصحيحين والسنن الأربعة، ورواه الإمام ابن الجارودي في المنتقى وغير هؤلاء من أئمة الحديث، والحديث مروي في دواوين السنة ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [من شهد جنازة حتى يصلي عليها كتب له عليها قيراط ومن شهدها حتى تدفن كتب له قيراطان، قالوا: يا رسول الله صلي الله عليه وسلم وما القبراطان قال مثل الجبلين العظيمين وفي رواية أصغرهما كجبل أحد.. أصغرهما كجبل أحد] فأنت عندما تدعو أيضاً للأموات وتستغفر لهم يأتيك خيرُ كثيرُ كثير من الله الجليل وكما قلت شفع الله هذه الأمة المرحومة المباركة بعضها في بعض فالأحياء يستغفرون للأموات والله يغدق عظيم الأجر بعد ذلك على الأموات وعلى الأحياء وهو واسع الفضل والمغفرة، الدعاء والاستغفار ينفع الأموات وهو لهم كما قلت بمنزلة الهدايا للأحياء وتقدم معنا اخوتي الكرام: في المواعظ المتقدمة أن نبينا عليه الصلاة والسلام كما أمرنا على الصلاة على الجنازة أمرنا بعد الصلاة أيضاً أن نقف عند القبر وأن ندعو الميت وأن نسأل الله له التثبيت وهذا محله دعاء ينفع ويقبل عند الله عز وجل.
ثبت الحديث بذلك أيضاً في سنن أبي داود والحديث رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى ورواه الإمام البزار والبغوي في شرح السنة وإسناده صحيح كما تقدم معنا من رواية أمير المؤمنين ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على شفير القبر عليه صلوات الله وسلامه وقال: استغفروا الله لأخيكم اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل، استغفروا الله لأخيكم، اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل، وهكذا شرع لنا أن نزور الأموات وأن ندعو لهم كما تقدم معنا وهذا كما قلت دعاء ينتفعون به.(112/13)
وتقدم معنا حديث المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي وغير ذلك من دواوين السنة عن أمنا عائشة بنت الصديق رضي الله منها وعن أبيها وعن سائر المسلمين عن عليه وسلم ماذا أقول إذا زرت القبور قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، هذا أمرٌ ثاني اخوتي الكرام: ينتفع به الميت بإجماع علماء الإسلام الأمر الأول ما تسبب في فعله بعد موته والأمر الثاني دعاء المسلمين واستغفارهم للموتى بعد موتهم ينتفعون بدعاء الأحياء واستغفارهم.
الأمر الثالث: الحج والعمرة فمن حج عن ميتاً واعتمر وردت النصوص الصحيحة الصريحة بأن الأجر يكتب ثواب ذلك إلى الميت والأحاديث كما قلت اخوتي الكرام: كثيرةٌ وفيرةٌ ثابتةٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
فمن هذه الأحاديث ما ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة، حديثاً رواه الإمام مالك في موطأه والدارمي في سننه وهو في دواوين السنة التي تجمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام كسنن البيهقي أيضاً ومسند أبي داود الطيالسي وسنن الدارمي وغير ذلك وهو في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من خفعم إلى النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه قالت: يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي وهو شيخاً كبير لا يستطيع الركوب على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه] .(112/14)
وفي رواية في المسند وصحيح البخاري ومعجم الطبراني الكبير والسنن الكبرى للبيهقي والدارمي ومسند أبي داود الطيالسي والمنتقى لابن الجارودي وغير ذلك عن ابن عباس أيضاً أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ فقال: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء] أقضوا فالله أحق بالقضاء، ثبت أيضاً في بعض روايات الحديث المتقدمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي وهو لا يستطيع أن يحج إنه شيخ كبير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام حجي عن أبيك، أفأحج عنه؟ قال حجي عن أبيك] وهذا الحديث ثابت عن رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، روي عن نظيره من رواية عدة عن الصحابة الكرام.(112/15)
ثبت في المسند وسنن النسائي عن رواية عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن رجلاً من خفعم وفي رواية عبد الله ابن عباس متقدماً أن امرأة من خفعم ولعل القصة تكررت عند الصحابة الكرام فسأل عن هذا الرجال والنساء أن رجلاً من خفعم قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إن فريضة الحج أدركت أبي وهو لا يستطيع الركوب على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم] الحديث أيضاً ثبت من رواية أبي رزين وهو لقبط ابن عامر ابن المنتفق أحد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثبت حديثه في السنن الأربعة بإسنادٍ صحيح عن أبي رزين أنه جاء لنبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه الطاهرين جميعاً صلوات الله وسلامه، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أبي شيخ كبير وإنه لا يستطيع الحج والعمرة ولا يستطيع الضعن يعني: السفر يشق عليه أفأحج عن أبي وأعتمر؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حج عن أبيك واعتمر، حج عن أبيك واعتمر، وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي من رواية بريدة رضي الله عنه أن امرأة قالت لنبينا على نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه [إن أمي لم تحج ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: حجي عن أمك] .
وهذه أحاديث كما قلت اخوتي الكرام كثيرة وصحيحة صريحة تدل على أن الحج والعمرة يفعلا عن الميت ويصل ثوابهما إلى الميت كرماً من الله وفضلاً وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هذه طاعةٌ ثالثة للأموات، وكما قلت هذا باتفاق أئمتنا فلا خلاف ولا نزاع في ذلك ولا يخالف في ذلك إلا أهل البدع، ما تسبب الميت في فعله بعد موته، دعاء الأحياء واستغفارهم له بعد موته، إذا حجوا واعتمروا عنه بعد موته يصل إليه ثواب ذلك وينتفع به بفضل الله ورحمته.(112/16)
والأمر الرابع: وهو آخر الأمور أداء الديون عن الميت والتصدق عنه وهو باختصار كما قلت أئمتنا. الأمور المالية سواء كان عليه ديون وقضيتها عنه أو تصدقت عنه سواء حصل هذا من أقاربه أو من غيرهم ينتفع بذلك الميت فدينه يقضى عنه، فمن قضاه وإذا تصدقت عنه يصل ثواب الصدقة إليه بفضل الله ورحمته.(112/17)
والأحاديث أيضاً في ذلك كثيرة صحيحة صريحة منها ما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث رواه البزار والإمام الطيالسي ورواه الحاكم في المستدرك والإمام البيهقي في السنن الكبرى من رواية جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما [مات رجلٌ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسلناه وكفناه وحنطناه ثم وضعناه في المكان الذي يصلي فيه على الموتى ثم دعونا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء النبي عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه، فلما وصل إلينا تقدم نحوه خطى خطوات نحو الميت ثم التفت إلينا بوجهه الشريف عليه صلوات الله وسلامه فقال: هل على صاحبكم دين؟ قلنا: نعم ديناران يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، استقرض دينارين ومات ولم يؤدهما إلى صاحبهما، قال: هل ترك وفاءاً؟ قلنا: لا، فتأخر النبي عليه الصلاة والسلام ولم يصلي عليه، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة صاحب الأربحية وصاحب المعروف والنجدة وصاحب الكرم والجود، قال: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام هما عليَّ، فصلَّى عليه إذا كان الديناران يمنعانك من الصلاة أنا أتحمل عن أخي المسلم الدينارين، بل ألف دينار صلِّي عليه فهما عليَّ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هما في مالك أنت الذي تؤدي، قلت: نعم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاستدار النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الصحابي الجليل وصلَّى عليه عليه صلوات الله وسلامه، ولقي في اليوم الثاني أبا قتادة فقال: هل قضيت الدينارين يا أبا قتادة؟ قلت: إنه مات البارحة يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبى قتادة فسكت عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورآني في اليوم الثاني قال: هل قضيت الدينارين يا أبا قتادة؟ قلت: نعم، قال: الآن برَّدت جلده إنه كان في حرارة الحساب وشدَّت العتاد، كيف مات ولم يؤدي الحقوق إلى أربابها، الآن برَّدت جلده، هذا كما ترون اخوتي الكرام نصاً صريح من نبينا(112/18)
عليه الصلاة والسلام بأن هذا الميت انتفع بقضاء هذا الدين عنه وبهذه الصدقة التي حصلت من أبي قتادة نحو هذا الصحابي الجليل رضي الله عنهم أجمعين.
والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده أيضاً، وهو في السنن الأربعة إلا سنن أبي داود، ورواه الإمام الدارمي في سننه من رواية أبي قتادة نفسه رضي الله عنه وأرضاه قال: [توفي رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، سأل: هل عليه دين؟ قال: نعم، وما حدد مقداره في هذه الرواية، قال: هل ترك وفاءاً؟ قالوا: لا،، قال: صلَّوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: دينه عليَّ يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، دينه عليَّ أنا أقوم بقضائه وسداده، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بالوفاء تفي بذلك وتتحمل، قلت: بالوفاء يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] .(112/19)
والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه والإمام النسائي في سننه من رواية سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه قال: مات رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، ولعل القصص تكررت وكان صاحب الأريحية والمعروف بالنجدة أبو قتادة يتحمل الدين في جميع هذه الحوادث، ثلاثة دنانير، قال هل ترك وفاءً؟ قالوا لا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: الدنانير عليَّ يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فتقدم النبي عليه الصلاة والسلام فصلَّى عليه، وهذا اخوتي الكرام كان في أول الأمر قبل أن يفتح الله على رسوله عليه الصلاة والسلام وقبل أن تأتي الخيرات والمغانم والأرزاق، وأما بعد أن فتح الله عليه فكان يصلي على الميت على نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه ولا يسأل عن الدين، وإذا كان على الميت دين كان يتحمله سيد الكونين نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
كما في الصحيحين وغيرهما من رواية أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني في أول الأمر إذا أراد أن يصلي على ميتٍ سأل هل عليه دين؟ فإذا قالوا ليس عليه دين تقدم فصلى عليه، وإذا قالوا عليه دين سأل هل ترك وفاءاً، فيقال: نعم فيتقدم وصلى عليه أيضاً، وإذا قالوا لم يترك وفاءاً تأخر وقال صلوا على صاحبكما، فلما فتح الله عليه قال: أنا أولى بكل مؤمناً من ترك مالاً فلورثته ومن ترك ديناً وضياعاً فإليَّ وعليَّ عليه صلوات الله وسلامه، من ترك مالاً لورثته أرعاهم وأنا أبوهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، هذا بعد أن فتح الله عليه الفتوح وفي أول الأمر إذا يترك الميت وفاءاً لدينه ما كان يصلي عليه مبالغة في تعظيم حقوق العباد.(112/20)
اخوتي الكرام: إن حقوق العباد مبنية على المشاحة والمماسكه وحقوق الله مبنية على المسامحة والمساهلة، وإذا مات الإنسان وعليه شيء من الحقوق نحو عباد الرحمن فأمره شديدٍ فظيع، أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن هول الدين وفظاعته وشناعته وأن الإنسان إذا لقي ربه به فأمره على خطرٍ خطر، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن البيهقي والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط وإسناده صحيح ثابت من رواية محمد ابن جحش رضي الله عنهما أمَّنا زينب أم المؤمنين تكون عمته رضي الله عنهم أجمعين من رواية محمد ابن جحش رضي الله عنهم أجمعين، قال: كنا مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - فنظر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى السماء ثم وضع يده كفه على جبينه وقال: سبحان الله ماذا أنزل من التشديد؟ سبحان الله ماذا أنزل من التشديد؟ قال محمد ابن جحش رضي الله عنهم أجمعين ففزعنا وخفنا وسكتنا وأطرقنا، فلما كان اليوم الثاني قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما التشديد الذي أنزل؟ ما التشديد الذي أنزل؟ فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة إلا أن يقضى عنه دينه، والذي نفسُ محمدٍ بيده عليه صلوات الله وسلامه لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل.. القتلة الثالثة ولقي الله شهيداً وعليه دين ما دخل الجنة إلا أن يقضى عنه دينه، إن الدين شأنه شديد فظيع.(112/21)
ولذلك ثبت في المسند مسند الإمام أحمد ومسند البزار أيضاً من رواية جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله بنفسي وبما لي ثم قتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبراً أدخل الجنة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، فأعاد الرجل سؤاله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، فأعاد الثالثة فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: نعم إلا إذا كان عليك ديناً ليس عندك وفاءه.. إلا إذا كان عليك ديناً ليس عندك وفاءه] أي لا تدخل.
وهذا الجواب والإستثناء وضحته روايات أخرى في مسند من رواية أبي هريرة من رواية محمد ابن جحش والطبراني من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: سارَّني ذلك جبريل، سارني بذلك جبريل أي إذا قتلت بعد أن قاتلت في سبيل الله بنفسك ومالك وقتلت صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر تدخل الجنة إلا إذا كان عليك ديناً ليس عندك وفاءه، سارني: أي أخبرني بذلك الآن جبريل سراً أن هذا الشهيد إذا كان عليه دين وما عنده وفاءاً لدينه لا يدخل الجنة إلا أن يقضى عنه دينه، وثبت في معجم الطبراني الكبير من رواية سهل ابن حبيش، وإسناد الحديث رجاله الرجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يغفر للشهيد بأول قطرة من دمه جميع ذنوبه كل ذنباً له إلا الدين] الدين لابد من قضاءه لا بد من وفاءه.(112/22)
إذاً اخوتي الكرام: أداء الدين عن الميت فمن يقضيه ويتحمل عنه ينفع الميت كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهكذا الصدقة.. الصدقة إلى الميت أيضاً تنفعه ويصل ثوابها إليه، فمن تصدق عنه وقد ثبت شهيرة منها ما في المسند والكتب الستة والصحيحين والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي، والحديث رواه الإمام مالك في موطأه أيضاً والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أمَّنا عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجلاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه إن أمي أفتلتت نفسها: أي ماتت فلتة دون سابق إنذار من مرضٍ ووعكٍ وشدة وعناء، إن أمي افتلتت نفسها، ماتت بغتة وأظنها لو تكلمت لأوصت أينفعها لو تصدقت عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم] ، وهذه المرأة هي أم سعد بن عبادة والسائل هو سعد بن عبادة.
كما ثبت هذا في المسند وصحيح البخاري، والحديث رواه أهل السنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة من رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن سعد بن عبادة جاء إلى نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي ماتت وأنا بعيداً عنها لم أكن معها لم أكن مقيماً، كنت في سفر وأنا بعيدٍ عنها أينفعها إن تصدقت عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، فقال سعد بن عبادة: أشهدك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن حائط المخرافة صدقة عنها، حائط البستان المغراف المثمر الذي يأتي منه الخريف ويخرق منه ويعي الثمر أشهدك أن حائط المخرافة صدقةٌ عنها.(112/23)
والحديث كما قلت في صحيح البخاري وغيره، والأحاديث في ذلك اخوتي الكرام كثيرة وفيرةٌ منها ما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: إن أبي مات ولم يوصي أينفعه إذا تصدقت عنه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم.
إذاً هذه العبادة أيضاً ينتفع بها الميت، وهذه الأمور الأربعة اخوتي الكرام كما قلت ما تسبب الميت في فعله بعد موته من أمرٍ خيرٍ وطاعة لله عز وجل، دعاء الأحياء واستغفارهم للأموات ينتفع به الأموات، الحج والعمرة عن الميت، قضاء الدين عنه وصدقة عنه ? كل هذا وما خالف فيها إلا أهل الابتداع، أما الشق الثاني من بحثنا ما يتعلق بتعبة أمور الطاعات من قراءة القرآن وذكر الرحمن ومن الصلاة والصيام هل يصح إهداء ذلك إلى الأموات عنهم كما هو قول الجمهور وسيأتينا تقرير هذا بأدلة وموعظة آتية إن أحيانا الله، أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام وإذا أماتنا أن يتوفانا على الإيمان.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(112/24)
اخوتي الكرام: كل ما تقدم معنا وسيأتي من إهداء القربات والطاعات إلى الأموات جاراً على حسب القواعد الشرعية وعلى الأقيسة السليمة السوية والأمر كما قرر علماؤنا الكرام أن الثواب حقاً العامر يجوز أن يهديه إلى من شاء كما أن المال الذي عند الإنسان حقٌ لمالكه يجوز أن يهديهُ وأن يهبه إلى من شاء، وإذا جاز للحي أن يدعو للميت وجواب الدعاء موقوفاً على مشيئة الله جل وعلا فمن باب أولى يصح للحي أن يهدي ما يقوم بها من طاعة ووعد بها ثواباً معلوماً، كل هذا كما قلت جاراً على الأقيسة الشرعية والقواعد السوية ما تقدم معنا من الأمور الأربعة لا خلاف ولا نزاع بين أئمتنا الكرام، وقرروا أن الميت ينتفع به ويصل الثواب إليه في هذه الأمور، وأما بقية الأمور كما قلت سيأتينا تفصيل الكلام عليها إن شاء الله..
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا الإيمان وزينه في قلوبنا. وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك. ومن المقربين لديك. وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.(112/25)
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(112/26)
تحريم النظر إلى المردان
(الجزء الأول)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
تحريم النظر إلى المردان 1
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: إخوتى الكرام..
لازلنا نتدارس الطرق التى ينبغى أن يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من الشيطان وقلت هذه الطرق على كثرتها وتعددها تنقسم إلى طريقن اثنين.
الطريق الأول أو الأمر الأول ينبغى أن نحصن أنفسنا منه وأن نحذره والأمر الثانى ينبغى أن نحصن أنفسنا به وأن نفعله.
الأمر الأول إخوتى الكرام تقدم معنا يدور على سبعة أمور والثانى يدور على ثمانية أمور وكنا نتدارس الأمر الأول وكان فى الحسبان كما ذكرت أن ننتهى من آخر أمور الأمر الأول فى الموعظة الماضية لكن امتد معنا البحث إلى جزئية نتدارسها فى هذه الموعظة بعون الله وتوفيقه إخوتى الكرام الأمور السبعة التى فى الأمر الأول كما تقدم ذكرتها مرارا.
أولها حفظ الخطرات وثانيها حفظ اللحظات وثالثها حفظ اللفظات ورابعها حفظ الخطوات وخامسها حفظ السمع الذى هو آلة المسموعات وسادسها حفظ البطن التى هى منبع الشهوات وسابعها حفظ الفرج الذى هو منبع الآفات والرزلات نسأل الله العافية من كل دنس.(113/1)
إخوتى الكرام: تقدم معنا يراد بحفظ الفرج أمران حفظ العورة سترا واستعمالا فلا نكشفها ولا نستعملها فى ما حرم الله عز وجل تقدم معنا أن الاستعمال له صور متعددة ينبغى أن نصون فروجنا عن الزنى واللواط ووطء المرأة فى دبرها والسحاق بين النساء والمباشرة فى ما دون السبيلين والاستمناء وفعل الفاحشة مع البهائم وطء المرأة فى قبلها حال حيضها والأمر التاسع تقدم معنا ما يصلح أن يراه كل من الزوجين من صاحبه ثم ختمتها بأمر عاشر ألا وهو عورة كل من الذكور والإناث.
وبعد أن تكلمنا أيضا إخوتى الكرام وتدارسنا ما يتعلق بعورة الصنفين تفصيلا وتدليلا ذكرت أيضا تسع مسائل وبأنا بالعاشرة وهى التى سنتدارسها فى هذه الموعظة.
أولها: ما يحل للزوج أن ينظره من زوجته وثانيها كما تقدم معنا ما يحل للمحارم أن ينظروه من المرأة وثالثها ما يحل للأجنبى أن يراه من المرأة ورابعها ما يحل للمرأة أن تراه من المرأة وخامسها ما يحل للمرأة أن تراه من الرجل الأجنبى وسادسها ما يحل للمرأة أن تراه من محارمها من الرجال والمسألة السابعة التى تدارسناها وهى طويلة فى موضوع العورة الأمة فى بداية الموعظة المتقدمة هذه سبع مسائل والثامنة فى ما يتعلق بنظر غير أولى الإربة من الرجال والتاسعة فى نظر الطفل إلى النساء والعاشرة هى التى سنتدارسها فى حكم النظر إلى الأمرد.(113/2)
إخوتى الكرام: كما هى العادة فى بداية الموعظة نتدارس مقدمة تدور حول موضوعنا وهذه المقدمات الماضية كانت تدور فيما يتعلق بحفظ الفرج ومنزلة حفظه وما يتعلق بسرد بعض القصص عن سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين فى ذلك أما هذه المقدمة إخوتى الكرام فلها شأن آخر تقدم معنا أن غالب ما يقع الإخلال بهذا الأمر بالأمر السابع نحو الفرج يقع سرا استعمالا أو نظرا الإنسان ينظر ولا نستطيع أن نعلم هل نظر أم لا خائنة الأعين وهكذا يستعمل الفرج ولا يعلم بخلاف الكلام وشرب الخمر كما تقدم معنا فتلك معاصى ظاهرة وهذه باطنة إذا كان الأمر كذلك فحقيقة ينبغى أن نختم هذه الموعظة بقدمة تنفعنا نحو هذا الأمر ألا وهو مراقبة ربنا سبحانه وتعالى فهذ المعصية التى تتعلق بالفرج كما قلت نظرا واستعمالا فى الغالب لا تظهر للناس لكن لا تخفى على رب الناس الذى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء فينبغى أن نراقب الله فى جميع أحوالنا وأفضل الطاعات مراقبة من لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماوات فى جميع الأوقات سبحانه وتعالى فهذا خلق المراقبة وهو درجة الإحسان فى الإسلام المراقبة أن نراقب الله فى جميع أحوالنا كأننا نراه فإذا لم نصل لهذا فلا بد من استحضار واستشعار أنه يرانا فى جميع أحوالنا.(113/3)
قال الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى مدارج السالكين فى الجزء الثانى صفحة خمس وستين فى بيان معنى مراقبة العبد لربه قال المراقبة هى دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله على ظاهره وباطنه أن تعلم دائما وأن تتيقن جازما فى جميع أحوالك بأن الله مطلع على ظاهرك وعلى باطنك سبحانه وتعالى هذا المعنى إخوتى الكرام للمراقبة ينبغى أن نستحضره فى جميع أحوالنا هذا المعنى ما خلت منه ورقة من ورقات المصحف الشريف كما ذكر ذلك شيخنا عليه رحمة الله فى أول تفسير سورة نبى الله هود وعليه الصلاة والسلام على نبينا فى الجزء الثالث صفحة عشرة يقول لا تخلو ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى يعنى أن الله يعلم سرنا وجهرنا علانيتنا وسرنا جميع أحوالنا مطلع علينا.
قال الله جل وعلا: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} .
وقال جل وعلا: {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} .
وقال جل وعلا: {وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} ، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} .
ويقول الله جل وعلا فى أول سورة النساء: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} فراقب الله فهو يراقبك فى جميع الأحوال سبحانه وتعالى.(113/4)
وهذا المعنى إخوتى الكرام الذى لا تخلو منه ورقة من ورقات المصحف الشريف هو أعظم واعظ وأبلغ زاجر أنزله الله من السماء إلى الأرض أعظم واعظ أبلغ زاجر إعلام الله لعباده بأنه يعلم جميع أحوالهم ما أسروه وما أعلنوه ووجه ذلك كما قرر أئمتنا لو قدر أن إنسانا أخذ إلى حضرة ومجلس أمير ظالم سفاك للدماء إلى مجلس ملك يبطش لأدنى الأسباب أخذ هذا لمجلسه للمباحثة معه فى قضية من القضايا والسياف واقف والسيف بيده واستدعى هذا الإنسان وبدأ الأمير يكلمه فيما اتهم به لو برز فى هذا الوقت بعض محارم الأمير من بناته وأخواته هل ينظر هذا الآن المتهم فى حضرة الأمير إلى حريم الأمير ولو بدت منه نظرة لطارت الرقبة ينظر؟ حقيقة هو مشغول عن النظر والله جل وعلا أقوى من عباده سبحانه وتعالى وهو أعلم بما فى نفوسهم فاستحى منه يا عبد الله استحى منه سبحانه وتعالى إذا كنت تخاف من بطش الأمير فتغض عن محارمه إذا كنت فى حضرته فما حرمه الله علينا ينبغى أن نغض الطرف عنه فالله أعظم عقوبة من عباده وحرم علينا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهو عليم بذات الصدور.
إخوتى الكرام..(113/5)
مراقبة الرحمن على الدوام هى درجة الإحسان التى ينبغى أن يتصف بها أهل الإيمان كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام فى الحديث الطويل الذى يسمى بأم السنة كما نعته بذلك الإمام أبو العباس القرطبى فى كتابه المفهم فى شرح صحيح مسلم وهو المعروف بحديث جبريل الطويل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام إخوتى الكرام والحديث فى صحيح مسلم وسنن الترمذى وأبى داود من رواية سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وهو فى المسند وصحيح البخارى من رواية سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهو فى سنن النسائى وابن ماجة من رواية سيدنا عمر وسيدنا أبى هريرة رضي الله عنهم أجمعين وروى الحديث عن سيدنا أنس وسيدنا عبد الله ابن عباس وسيدنا عبد الله ابن عمر وسيدنا ابن عامر أو أبى عامر أو أبى مالك وسيدنا جرير ابن عبد الله البجلى رضي الله عنهم أجمعين انظروا إخوتى الكرام هذه الروايات فى مجمع الزوائد فى الروايات المتأخرة فى الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين إلى الصفحة واحدة وأربعين والرواية الأخيرة رواية جرير رواها الإمام الآجورى فى كتاب الشريعة فهو من رواية عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من رواية عمر وأبى هريرة وأنس وعبد الله ابن عباس وعبد الله ابن عمر وابن عامر أو أبى عامر أو أبى مالك ومن رواية جرير رضي الله عنهم أجمعين وفيه سؤال جبريل لنبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه عن الإسلام والإيمان ثم قال له ما الإحسان قال أن تعبد الله كأنك تراه فإنك لم تكن تراه فإنه يراك درجة المراقبة درجة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه كأنك تتراءى الحق سبحانه وتعالى وهذا كان سلفنا يلاحظونه فى نفوسهم ويعبرون عنه بألسنتهم.(113/6)
روى الإمام ابن سعد فى الطبقات فى الجزء الرابع صفحة سبع وستين ومائة والأثر فى الحلية فى الجزء الأول صفحة تسع وثلاثمائة وانظروه فى السير فى الجزء الثالث صفحة سبع وثلاثين ومائتين وفى الجزء الرابع صفحة اثنتين وأربعمائة عن العبد الصالح التابعى الجليل عروة ابن الزبير رضي الله عنهم أجمعين قال لقيت أبا عبد الرحمن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه فى الطواف فتقدمت إليه فلما صرت بجواره وقلت أبا عبد الرحمن ألا تزوجنى سودة وهما يطوفان قال فنظر إلى ولم يكلمنى فقلت القائل عروة رضي الله عنه وأرضاه لو رضينى لأجابنى يعنى سكت عنى فلا يريد أن يقول لا أزوجك لو رضينى لأجابنى فانتهينا من الطواف وتفرقنا قال ثم ذهب عبد الله ابن عمر رضي الله عنه إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه قبلى فلما انتهيت أنا أيضا من نسكى ذهبت إلى المدينة فقلت أسلم على أبى عبد الرحمن وأقوم بحقه فذهبت وسلمت عليه فلما سلمت عليه قال له لا زلت على رغبتك فى سودة فقال له أنا أحرص ما كنت عليها قبل الآن عندى حرص عليها أشد مما كان سابقا فقال عبد الله ابن عمر رضي الله عنه كلمتنى فى الطواف ونحن نتخايل الله بين أعيننا ونحن نتراءى الله بأعيننا كأننا ننظر إليه كأننا نتراءه وأنت نكلمنى فى الطواف وإسناد الحديث ثابت إخوتى الكرام فما أجبتك ماذا أجيبك يعنى نحن الآن فى وقت مراقبة لله واستحضار وخشوع وسكينة نطوف حول البيت العتيق وأنت تريد يعنى أن أزوجك فى ذلك الوقت ونحن نطوف يعنى أجل البحث فى هذه القضية بعد الطواف وعقد له فى نفس المجلس قبل أن يذهب عروة إلى بيته رضي الله عنهم أجمعين إذن أن تعبد الله كأنك تراه نتخايل الله بين أعيننا نتراءى الله بأعيننا كأننا ننظر إليه فإنك إن لم تكن تراه فإنه يراك وقد كان الإمام الشافعى رضي الله عنه وأرضاه كثيرا ما ينشد كما فى اتحاف السادة المستقيم فى الجزء العاشر صفحة ثمان وتسعين وقيل هذه الأبيات(113/7)
للإمام الشافعى وقيل لغيره رضي الله عنه وأرضاه.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب ... وأن غدا لناظريه قريب
لابد إخوتى الكرام من استحضار هذا المعنى كأننا نرى الله فى جميع شؤون حياتنا فإذا نزلنا عن هذه الرتبة فلا أقل من أن نعلم أن الله مطلع على جميع أحوالنا ولذلك لما قال رجل للإمام أبى القاسم الجنيد ابن محمد القواريرى رضي الله عنه وأرضاه قال بما أستعين على غض البصر قال بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه إذا علمت أن نظر الله إليك لا ينقطع وأن نظره إليك أسبق من نظرك إلى من ستنظر إليه تستحى من الله وتغض طرفك إذا علمت أنه يراك كما تقدم معنا إذا كان الإنسان فى حضرة الأمير الجبار والسيوف مصلتة يغض طرفه لو خرجت عارية الله جل وعلا أقوى بطشا وقوة من الأمير وعنده نار السعير وينبغى أن نستحى منه فهو ربنا الجليل سبحانه وتعالى لا إله إلا الله.(113/8)
ذكر الإمام ابن الجوزى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى كتابه ذم الهوى فى صفحة سبع وسبعين ومائتين والقصة نقلها الإمام ابن القيم فى كتابه روضة المحبين صفحة ست وستين وأربعمائة حاصلها إخوتى الكرام أن امرأة من العابدات القانتات الجميلات المصونات كانت فى بلاد الكوفة وكانت تخطب من قبل الخطاب فتمتنع من الزواج وحتما هذا تقصير منها لكن لعله رأت أن هذا أصلح لها وما أعرضت عن هذه السنة امتهانا لها والإنسان أدرى بشؤون نفسه فعلقها بعض الأثرياء الأغنياء فكيف سيحتال عليها انظر لتفريط آخر أيضا يعنى وقعت فيه هذه المرأة اكترى هذا الإنسان ثلاثمائةراحلة وقال للناس من أراد أن يسجل الحج عندى بثمن بخس من العباد والمساكين الذين ما عندهم أجرة الحج بكاملها فخذوا منه أجرة رمزية طلبا للثواب وهو يعنى يريد أن تحج هذه العابدة القانتة وأرسل إليها من النساء من يرغبها فى الحج فسجلت فى هذه الحملة ونساء كثر تريد أن تترخص يعنى من أجل حجة الفريضة مع النساء بلا محرم فلما جاوزوا مراحل ومراحل والجيش يستريح يعنى بعد مراحل جاء إليها عندما علم مكانها وقال لا بد من الإجابة إن شئت راضية وإن شئت مكرهه يعنى لا سلامة فى هذه الليلة فقالت ويحك نحن فى طريقنا إلى الحج استحى من الله قال لا بد أنا ما جئت رغبة فى الحج ولا عملت ما عملت طلبا للثواب لا أريد فقط إلا أنت هذا العمل كله من أجلك فانظرى فى نفسك قالت نخشى أن يكون يعنى بعض الحجاج مستيقظا يفضحنا جئنا للحج لتزنى قال كلهم ناموا قالت إذن تتأكد فذهب وقال كلهم ناموا ولا يوجد أحد عينه تتحرك قالت هل نام رب العالمين وشهقت شهقة فماتت من خشية الله عز وجل هل نام رب العالمين سبحانه وتعالى وبدأ المسكين يولول يقول يا ويحى قتلت نفسا أرادت أن تحج وما حصلت شهوتى حقيقة هل نام رب العالمين هل أنت تراقب نظر العباد ونظر رب العباد يعنى ألا تأبه به ولا تستحى منه لذلك إذا أرخى الإنسان ستره وفعل الفاحشة(113/9)
ناداه رب العالمين أجعلتنى أهون الناظرين إليك استحييت من العباد وما استحييت ممن لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.
إخوتى الكرام: هذا المعنى ينبغى أن نستحضره فى جميع أحوالنا ينقل الإمام الغزالى فى الإحياء أيضا فى الجزء الرابع صفحة خمس وثمانين وثلثمائة والقصة أيضا فى ذم الهوى فى صفحة اثنتين وسبعين ومائتين وفى روضة المحبين صفحة خمس وتسعين وثلاثمائة وذكرها الإمام المناوى فى فيض القدير فى الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين وخمسمائة خلاصتها أن أعرابى خرج فى ليلة مقمرة فرأى امرأة كالجبل أى كالعلم كالجبل يراد امرأة طويلة جميلة لها شأن بارز تلفت النظر فى سواد الليل فاقترب منها وراودها وطلب منها ما حرم الله على عباده وقالت ويحك أما لك زاجر من عقل إن لم يكن لك ناه من دين إذا ما نهاك دينك عن معصية الله ما عندك عقل يردعك عن الفاحشة وما تستحى إذ لم تكن هذه محرمة أنت ما تستحى أن تعتدى على أعراض العباد فقال وممن استحى ولا يرانا إلا الكواكب تقولين تستحى ما أحد يراقبنا ليلة مقمرة والكواكب هى نورها ظاهر ولا يوجد أحد فى هذه البادية ممن استحى فقالت أين مكوكبها أين ربها سبحانه وتعالى فانزجر هذا الإنسان وانصرف حقيقة هذا المعنى لا بد من استحضاره إخوتى الكرام فى جميع أحوالنا خلق المراقبة نراقب الله فى جميع أحوالنا وأن نعلم أنه معنا أينما كنا فبذلك يكرمنا ربنا ويعزنا فى هذه الحياة ويغدق علينا نعمه بعد الممات فى نعيم الجنات.(113/10)
يذكر الإمام القشيرى فى كتابه الرسالة صفحة تسعين ومائة والقصة نقلها عنه أيضا الإمام الزبيدى فى اتحاف السادة المتقين فى الجزء العاشر صفحة تسع وتسعين خلاصتها أن بعض الأمراء فى الزمن القديم كان يكرم بعض أعوانه من حراسه وحجابه إكراما زائدا وكان فى خلقته دمامة يعنى يكرمه دميم الخلقة فكأنهم يعنى حسده أصحابه وقالوا للأمير يعنى لما تميز هذا علينا خلقته دوننا وبعد ذلك نحن وهو فى رتبة واحدة بل لعلنا أعلى منه رتبة وهذا نراك يعنى تقدمه علينا قال أوريكم وضعه ووضعكم معى.
انظروا إخوتى الكرام للمراقبة إذا كان البشر يكرم بشرا عندما يراقب حاله فكيف سيكون حالنا مع الله وسيكرمنا الله من باب أولى إذا راقبناه فخرج الملك مع أعوان هذا الأمير فتظر وهو يمشى إلى جبل عليه ثلج نظر فقط فهذا الذى مع الأمير ركب خيله وأسرع إلى جهة الجبل وقال لهم أين ذهب صاحبكم قالوا لا ندرى فعاد بعد قليل ومعه شىء من الثلج قال له الأمير من أمرك بهذا قال أيها الأمير أنت نظرت ناحية الجبل والعقل لا ينظر عبثا وفى الجبل لا يوجد إلا ثلج فكأن نفسك اشتهته يعنى شيئا من الثلج فأنا لما أنت نظرت إليه عرفت المراد وراقبت نظرك لأننى أراقب أحوالك أفهم ما تريد من حركاتك من إشاراتك أما أنك يعنى لا تتكلم لا فقال لهم انظروا لحاله كيف يراقب وبالمراقبة يتصرف وأنتم يعنى عندما توجه إليكم الأوامر والعبارات وأطلب منكم شيئا تتثاقلون وأما هذا لينظر إلى اللحظات.
وحقيقة كان سلفنا يغرسون دائما فى نفوس وأذهان أولادهم والطلبة الله ناظرى الله شاهدى الله معى سبحانه وتعالى لا بد من أن نراقب ربنا سبحانه وتعالى فى جميع أحوالنا.
إخوتى الكرام..
يراد منا أمران لا سعادة للإنسان بدونهما:(113/11)
الأمر الأول: أن تكون المتابعة على ظاهرنا ظاهرنا علم وسنة نقتدى بنينا عليه الصلاة والسلام وأن تكون المراقبة فى باطننا نراقب الله فى سرنا ونعمر ظاهرنا بسنة نبينا عليه الصلاة والسلام العلم والمتابعة على الظاهر والإخلاص والمراقبة فى الباطن من دون هذين الأمرين لا سعادة للإنسان فى هذه الحياة والحياة جعلها الله مطية لرضوانه سبحانه وتعالى فلا ينبغى أن ندنسها بالخطيئات فإذا فعلنا فنندم حين لا تنفع الندمات ويحك يا ابن آدم إذا عصيت الله وخالفته وزعمت أنه لا يراك فقد كفرت وإذا عصيت الله وخالفته وقلت إنه يراك فقد اجترأت على عمل أمر عظيم حيث لم تبال بأحكم الحاكمين ورب العالمين سبحانه وتعالى فأنت بين أمرين أحلاهما مر إن قلت لا يراك كفرت فهو الذى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء وإذا قلت إنه يراك وبارزته بالمحاربة فليس بعد حماقتك حماقة لاإله إلا الله.
إخوتى الكرام نحو هذين الأمرين ستر الفرج ستر العورة واستعمالها عدم النظر إلى عورة الغير وعدم استعمال العورة فيما حرم الله علينا نحو هذين الأمرين من حفظ فيما مضى فليتق الله فيما بقى وليعتصم بالله اللطيف القوى احمد الله حفظت فيما مضى فما فرطت لا خنت فى نظرة ولا فى كشف ولا فى استعمال احمد ذى العزة والجلال وسله أن يلطف بك وأن يثبتك فى المستقبل ومن وقع منه زلل فيما مضى فليتب إلى الله عز وجل فرحمته واسعة.
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأى عبد لك ما ألما
وحقيقة الوصف الثانى هو وصفنا وقل أن يخلو إنسان من نظرة خائنة أو استعمال لا يحل له ونسأل الله أن يرزقنا حلاوة الإيمان أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ولذلك ينبغى أن نتوب إلى الله عز وجل سبحانه وتعالى نعم إخوتى الكرام نحو هذا الأمر الثانى على وجه الخصوص قل أن يسلم أحد إلا إذا تداركته عناية خاصة ورعاية تامة من الله عز وجل والمعصوم من عصمه الله(113/12)
وقد ورد فى الآثار بأنه ما سلم من الهم بالخطايا وفعلها إلا عبدا صالحا قانتا جعله الله حصورا وهو نبى الله يحيى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قال الله جل وعلا {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} .
لا إله إلا الله إخوتى الكرام السيد هوالذى يفوق قومه بالخير يفوقهم فى خصال الخير كما ذكر ذلك شيخ الإسلام الإمام النووى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى شرح صحيح مسلم فى الجزء الخامس عشر صفحة سبع وثلاثين هذا السيد سيد قومه فاقهم فى خصال الخير والفضيلة والشرف فقال الإمام القرطبى فى تفسيره فى الجزء الرابع صفحة ست وسبعين السيد هو الذى ساد قومه وانتهوا إلى قوله وهذا العبد الصالح نبى الله يحيى على نبيناو عليه الصلاة والسلام وصفه الله بأنه سيد وحصور وهو نبى من الصالحين السيادة ما قال الرازى فى تفسيره فى الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين هى قدرته على تعليم أتباعه وتأديبهم لما فيه من خصال الخير يعلمهم ويرعاهم ويأدبهم سادهم علمهم وأدبهم.(113/13)
وأما الصفة الثانية وهى أنه حصورا لا بد منها تدل على أنه يتعفف عن أموالهم وأعراضهم ويمنع نفسه من الاعتداء عليهم وبهذا يسود وأما إذا علم وأدب ثم هو بعد ذلك يرتع فى أموالهم وأعراضهم ولا يعف عن حرماتهم فأى علم وتأديب سيحصل منه نحو رعيته وقومه وأتباعه حصور يمنع نفسه من أخذ شىء منهم من مال أو اعتداء على عرض ثم هو سيد يعلم ويأدب لفظ الحصور إخوتى الكرام من الحصر بمعنى الحبس حصر يحصر من باب نصر ينصر حصرا إذا منع نفسه الحصر هو المنع ويقال للبخيل حصور كما يقال للأمير حصور هذا حصور وهذا حصور لاإله إلا الله لأن كلا منهما محجوب ذاك حجب خيره وهو البخيل وهذا حجب شخصه وهو الأمير هذا مختفى متوارى حصور وذاك ماله لا يخرج ولا يساعد به عباد الله حصور الحصور هو فيه صفة المنع بخيل فيه صفة الاحتجاب كما قلت هنا احتجب عن رعيته حصور أيضا إذا حصر نفسه ومنعها من الشهوات المحرمة حصور إذن من الحصر وهو الحبس والمنع ومنه قول الله جل وعلا فى سورة الإسراء {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} أى محبسون فيه ولا يخرجون منه يحصرون فى ذلك المكان.
لفظ الحصور هنا إخوتى الكرام فعول إما أن يكون بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول فإذا كان بمعنى فاعل حصر نفسه عن الشهوات ومنعها من المنكرات والرزالات بتوفيق رب الأرض والسماوات.(113/14)
روى الإمام البزار فى مسنده والطبرانى فى معجمه الكبير كما فى المجمع فى الجزء الثامن صفحة تسع ومائتين وفى إسناد الأثر على ابن زيد ابن جدعان تقدم معنا حاله مرارا روى له البخارى فى الأدب المفرد ومسلم لكن مقرونا فى صحيحه وأهل السنن الأربعة وتوفى سنة واحدة وثلاثين ومائة رضي الله عنه وأرضاه على ابن زيد ابن جدعان قال الهيثمى ضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات قال الهيثمى فى مكان آخر فى الجزء العاشر صفحة اثنتين وتسعين وثلاثمائة على ابن زيد ابن جدعان وثق وانظروا ترجمته الطيبة فى السير فى الجزء الخامس صفحة سبع ومائتين قال ولد أعمى وكان من أوعية العلم كقتادة دعامة رضي الله عنهم أجمعين أيضا ولد أعمى وكان من أوعية العلم على تشيع يسير فيه وسوء حفظ يغضه عن درجة الإتقان ينزله عن درجة يعنى كمال الضبط وتمامه على ابن زيد ابن جدعان وقال فى الميزان فى الجزء الثالث صفحة سبع وعشرين ومائة اختلفوا فيه وقد وثقه الإمام الترمذى فقال عنه فضلا اختلفوا فيه فالترمذى يرى أن حديثه فى درجة الحسن على ابن زيد ابن جدعان هذا فى الإسناد وبقية الرجال ثقات ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال كنا فى حلقة فى المسجد نتذاكر فضائل الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه أيهم أفضل فذكرنا نبى الله نوحا على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه وطول عبادته يعنى امتاز على غيره بعمر طويل عبد فيه الله الجليل سبحانه وتعالى وذكرنا إبراهيم وأنه خليل الرحمن سبحانه وتعالى وذكرنا موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وأنه مكلم من قبل الله وأن الله كلمه وذكرنا نبى الله عيسى على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه قال فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى ذكروا أولى العزم أوليس كذلك ويضاف إلى هؤلاء الأربع نبينا عليه الصلاة والسلام نبى الله نوح وموسى وعيسى وإبراهيم ومعهم نبينا عليه الصلاة والسلام هم أشرف الله(113/15)
ورسله كما تقدم معنا فى مباحث النبوة هؤلاء خيار الأنبياء وأفضلهم الخليلان وأفضلهما نبينا عليه الصلاة والسلام.
كما تقدم معنا هذا إخوتى الكرام ذكروا هؤلاء وخرج عليهم النبى عليه الصلاة والسلام فقال ما تذكرون بينكم فقلنا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام نتذاكر فضائل الأنبياء أيهم أفضل ثم عاودوا عليه ذكرنا نبى الله نوحا عليه الصلاة والسلام وطول عبادته إبراهيم وخلته موسى وتكليم الله له نبى الله عيسى على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه كلمة الله وروحه وذكرناك يا رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقال النبى عليه الصلاة والسلام فما فضلتم ذكرتم خمسة فمن يعنى فضلتموه من هؤلاء كنا فضلناك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم ذكروا عللا فى تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام وهم مصيبون قالوا بعثك الله كافة للناس بشيرا ونذيرا هذا ما حصل لمن قبلك هذه خصوصية وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر وجعلك خاتم النبيين خاتم الأنبياء والمرسلين هذا ما حصل لمن قبلك فقال عليه الصلاة والسلام ما ينبغى لأحد أن يكون خيرا من يحيى ابن زكريا على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قالوا ولم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنى هذا الآن سيفضل على غيره لم حقيقة فى هذه الخصلة كما قلت مرارا المزية لا تقتضى الأفضلية المطلقة لكن حقيقة هو فيه خصلة كما أشار ربنا حصورا لا إله إلا الله قالوا ولم قال ألم تسمعوا إلى قول الله جل وعلا [فى سورة مريم] : {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا *وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا *وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا} .(113/16)
فأعطاه الله الحكم وهو صبى وكان وهو صغير فى سن التمييز ليس المراهقة ومن باب أولى ليس الاحتلام إذا قيل له من قبل الصبيان هلم لنلعب يا يحيى يقول ما للعب خلقنا نحن خلقنا فى هذه الحياة لنلعب لا إله إلا الله وآتيناه الحكم صبيا وهو صغير أعطاه الله الحكم والرشد والوعى والحكمة وتلا عليهم الآية التى معنا فى سورة آل عمران وقرأتها قبل قليل {مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين} ثم قال لهم نبينا عليه الصلاة والسلام إن نبى الله يحيى على نبيناو عليه الصلاة والسلام لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها قبل النبوة وبعد النبوة وفى جميع أحواله لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها حقيقة الذى يعنى يصل إلى هذه المرتبة فهنيئا له كما قلت عناية خاصة عناية خاصة وبعد ذلك من عداه فى الخطيئات فى جميع الأوقات ونسأل الله حسن الخاتمة بفضله ورحمته لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها.
إخوتى الكرام..
فيما يتعلق بأمر التفضيل فيأتينا بحث هذا فى مباحث النبوة التى إن شاء الله سنستأنفها بعون الله عما قريب وكل ما هو آت قريب لا إله إلا الله نبينا عليه الصلاة والسلام لا شك هو أفضل خلق الرحمن أفضل النبيين والمرسلين على نبيناو عليهم جميعا صلوات الله وسلامه وما ورد من نصوص تشعر بعدم تفضيله على غيره أو تفضيل بعض الأنبياء عليه على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه أجاب أئمتنا عن ذلك بعدة أجوبة معتبرة أذكرها إيجازا وإذا جاء المبحث معنا أفصلها بأدلة معتبرة إن شاء الله.
أولها: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قال ما قال قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل الخليقة وخير البرية وعليه إذا علم مكانة نبى يقول بتفضيله ويفضله على نفسه على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فلما أعلم أنه خير خلق الله انتهى الأمر فهذا جرى منه قبل أن يعلمه الله بتفضيله على النبيين والمرسلين على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه.(113/17)
الجواب الثانى: قال هذا من باب التواضع والأدب مع الأنبياء واحترامهم وهضم النفس واحتقارها عليه صلوات الله وسلامه.
الجواب الثالث: المنهى عن تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على غيره تفضيلا يؤدى إلى تنقيص الغير وأما إذا فضل دون أن يكون هناك تنقيص فلا حرج لكن إذا كان التفضيل سيشعر بتنقيص وتحقير لبقية أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم عليه صلوات الله وسلامه فيمنع الإنسان من التفضيل فى هذا الوقت.
الجواب الرابع: نهينا عن التفضيل الذى يؤدى إلى خصومة كأن يقول أهل الكتاب نبينا خير من نبيكم نحن نقول نبينا خير من نبيكم بعد ذلك نصل إلى خصومات يسبون نبينا ونسب نبيهم من باب الحماقة والجاهلية فهذا تفضيل يؤدى إلى خصومة فينبغى أن نقف عنه.
الجواب الخامس: التفضيل المنهى عنه بين الأنبياء فى نفس النبوة فهى إيحاء من الله لعباده لكن تفضيل فى الخصائص تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ليس فى نفس النبوة منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات إذن هذه خصائص هذا اختصه هذا بالرؤيا هذا بالتكليم هذه خصائص أما نفس النبوة فلا تفضيل فيها كما نتساوى نحن فى البشرية لا تفضيل فى نفس البشرية كلكم لآدم وآدم من تراب نتفاضل بعد ذلك بالخصائص وهؤلاء كذلك على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله سلامه.
الجواب السادس: المنهى عن التفضيل بالرأى وأما إذا وقف الإنسان على أثر فيتكلم فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يتكلمون هذا حسب آرائهم ويستعرضون الفضائل ويقولون فلا بد من إرجاع هذا إلى من لا ينطق عن الهوى نبينا خير الورى عليه الصلاة والسلام.(113/18)
الجواب السابع المنهى عن التفضيل بصورة تجمع جميع الفضائل فى المفضل عليه فنقول هذا هو الأفضل أى كل الفضائل اجتمعت فيه وغيره ليس فيه فضيلة هذا لا يصح لا بد هذا أفضل لا شك لكن بعد ذلك هناك فضائل وهناك خصوصيات تكون فى المفضول لا تكون فى الفاضل إذن لا بد من وضع الأمر كذلك وأئمتنا قرروا هذا بقولهم بكثرة المزية لا تقتضى الأفضلية يعنى هذا يعنى الفضل له فى النهاية لكن قد بعد ذلك هناك فضائل يختصون بها ولا تكون فيه فمثلا نبى الله عيسى على نبيناو عليه الصلاة والسلام اختصه الله بأن ولد من غير أب هذه فضيلة حقيقة ومزية معجزة كبيرة أعطاها لهذا النبى الكريم على نبيناو عليه الصلاة والسلام اختصه الله لم يخلقه لا من أب ولا من أم هذه مزية أيضا إذن مزايا وفضائل فلا يجوز أن نقول هذا الأفضل بحيث حوى كل الفضائل وأولئك ليس فيهم فضيلة انفردوا بها لإغذن حول سبعة أمور كما قلت يقع النهى عن التفضيل بين الأنبياء.
انظروا إخوتى الكرام فى شرح شيخ الإسلام الإمام النووى على صحيح مسلم فى الجزء الخامس عشر صفحة سبع وثلاثين وفى فتح البارى فى الجزء السابع صفحة ست وأربعين وأربعمائة واثنتين وخمسين وأربعمائة من نفس الجزء.
إذن نبى الله يحيى لم يعمل سيئة ولم يهم بها سبحان الله لم يعمل ولم يهم هذه حقيقة مزية مزية يعنى نبينا عليه الصلاة والسلام خير البرية عليه الصلاة والسلام قبل أن يوحى إليه يعنى عندما حل الإزار من أجل أن يساعد فى بناء الكعبة نودى يعنى من خلفه يعنى شد عليك إزارك عليه صلوات الله وسلامه فإذن هنا لنبى الله يحيى كما قلت فى هذا الأمر ميزة حقيقة على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه يعنى فى هذا الأمر له ميزة على من عداه ثم أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها نبى الله يحيى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.(113/19)
إخوتى الكرام: ما وقع من نبينا عليه الصلاة والسلام وجرى له قبل بعثته الشريفة عليه صلوات الله وسلامه من رفع إزاره عند مشاركته فى بناء الكعبة المشرفة ثابت فى المسند والصحيحين من رواية سيدنا جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما وراه البيهقى وأبو نعيم كلاهما فى دلائل النبوة كما رواه الإمام أبو نعيم فى كتابه معرفة الصحابة ورواه الطبرانى فى معجمه الكبير والطبرى فى تهذيب الاثار من رواية سيدنا عبد الله ابن عباس عن أبيه سيدنا العباس عن نبينا خير الناس على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فالحديث رواه الإمام عبد الرزاق فى مصنفه والطبرانى فى معجمه الكبير والحاكم فى المستدرك والبيهقى فى دلائل النبوة من رواية أبى الطفيل رضي الله عنهم وأرضاهم ولفظ حديث سيدنا جابر رضي الله عنه قال لما بنى الكعبة المشرفة ذهب النبى صلى الله عليه وسلم وعمه العباس رضي الله عنه ينقلان حجارة فقال سيدنا العباس رضي الله عنه لابن أخيه نبينا عليه الصلاة والسلام اجعل إزارك على عاتقك والعاتق هو ما بين المنكب والعنق اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة أى ليقيك من الحجارة ومن ثقلها عندما تحملها على عاتقك ففعل نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك أى حل إزاره ووضعه على عاتقه فخر إلى الأرض وفى رواية فسقط مغشيا عليه عليه صلوات الله وسلامه وطلحت عيناه إلى السماء يعنى ارتفعت ثم قال فقال إزارى إزارى فشد عليه إزاره فما رؤى بعد ذلك اليوم عريانا.(113/20)
انظروا إخوتى الكرام روايات الحديث وانظروا كلام الأئمة عليه فى شرح صحيح مسلم للإمام النووى فى الجزء الثالث صفحة ثلاث وثلاثين وفى الفتح فى الجزء الثالث صفحة تسع وثلاثين وأربعمائة وفى الجزء السابع صفحة خمس وأربعين ومائة وانظروا دلائل النبوة للإمام البيهقى فى الجزء الثانى صفحة خمس وخمسين وثبت فى المسند ومسند أبى يعلى ومسند الإمام أحمد ومسند البزار كما فى المجمع فى المكان المتقدم وفى الإسناد على ابن زيد ابن جدعان هناك ماذا قال ضعفه الجمهور هنا زاد قال ضعفه الجمهور وقد وثق على ابن زيد ابن جدعان لا إله إلا الله والحديث رواه ابن خزيمة والدارقطنى أيضا كما فى قصص الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه للإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل صفحة تسع وأربعين وخمسمائة ورواه الإمام الثعلبى فى كتابه عرائس المجالس أيضا قصص الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه صفحة ست وثلاثين وثلاثمائة وعليه وفى المسند ومسند أبى يعلى والبزار والدارقطنى وابن خزيمة ورواه الثعلبى ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أن البنى صلى الله عليه وسلم قال ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم ليس يحيى ابن زكريا هذا لا هم ليس يحيى ابن زكريا هذا لا أخطأ ولا هم على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه زاد البزار فى مسنده فإنه لم يهم بها ولم يعملها وروى الإمام البزار بسند رجاله ثقات كما فى المجمع فى المكان المتقدم عن سيدنا عبد الله ابن عمر ابن العاص رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لا ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يحيى ابن زكريا ما هم بخطيئة أحسبه قال ولا عملها فإذا ما هم لن يعمل من باب أولى لأن العمل لا يكون إلا بعد الهم ما هم بخطيئة أحسبه قال ولا عملها وهذا المعنى للفظ حصور فعول بمعنى فاعل حصر نفسه منعها من الشهوات والمنكرات والمخالفات وأظهر القولين فى تفسير الآية(113/21)
وهو الذى ذهب إليه الجمهور فقالوا فى تعليل ذلك إن اللفظ خرج مخرج الثناء والمدح وذلك يكون على فعل المكتسب دون الفعل الجبلى فى الغالب يعنى لو كان حصورا بمعنى لا شهوة له يشتهى فيها ما حرم الله عليه فلا يكون بذلك مدح إنما المدح هنا أنه عنده ما عند غيره لكن زم نفسه بزمام التقوى ومن الله عليه بالحكمة وهو صبى فصان نفسه من كل عمل ردى منذ أن ولد إلى أن قبض على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه.(113/22)
هذه هى الميزة لأنه خرج مخرج المدح فإذن هو الذى ضبط نفسه بتوفيق الله كما قلت كما تقدم معنا قلت لا يسلم أحد من مخالفة إلا إذا صاحبته عناية خاصة ورعاية تامة كما حصل لنبى الله يحيى على نبيناو عليه الصلاة والسلام وإلا من عداه نسأل الله اللطف والعافية بفضله ورحمته إذن هذا أمر فى ترجيح هذا القول التعليل الثانى فى ترجيحه فعول حصور قال الإمام القرطبى تأتى هذه الصفة بصيغة الفاعلية بصيغة الفاعل وهو الذى يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الشروب هو كثير الأكل والشرب وهو الحصور كثير الحصر والمراقبة والضبط لنفسه يراقب نفسه فى جميع أحوالها إذن هذا يرجح المعنى الأول وهو أنه بمعنى فاعل حصر نفسه معنا علة ثالثة ترجح هذا ذكرها الخطيب الشربينى فى السراج المنير قال هذا الوصف إذا كان هو حصر نفسه ومنعها مما حرم الله عليه هذا أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه يعنى هذا يحتمل أن نقول خلق ممسوحا أو عنينا لا شهوة له ولا يشتهى النساء من أجل هذا ما هم ولا تطلع فهذا أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه بالعلل الثلاثة ترجيح القول الأول الحصور الذى حصر نفسه من كل ما حرم الله عليه من كل شائبة كما قلت هذا الذى رجحه جمهور المفسرين منهم الإمام الرازى فى تفسيره فى الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين وهكذا الإمام القرطبى فى الجزء الرابع صفحة ثمان وسبعين لا فى الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين أوليس كذلك سبع وثلاثين نعم ظننت أخطأت فيها فى الجزء السابع صفحة سبع وثلاثين والقرطبى فى الجزء الرابع صفحة ثمان وسبعين ومنهم الإمام ابن كثير فى الجزء الأول صفحة واحدة وستين وثلاثمائة ونقل كلاما بديعا عن شيخ الإسلام القاضى عياض عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى تقرير هذا القول وأقره انظروه فى تفسير ومنهم الخطيب الشربينى كما قلت فى السراج المنير فى الإعانة على معرفة بعض(113/23)
كلام ربنا الحكيم الخبير فى الجزء الأول صفحة ثلاث عشرة ومائتين ومنهم الإمام الألوسى فى روح المعانى فى الجزء الثالث صفحة ثمان وأربعين ومائة بل سيأتينا أن الإمام الألوسى انفرد بإعادة القول الثانى لهذا القول كما ستسمعون إن شاء الله فجعل القولين قولا واحدا القول الثانى فى بيان معنى الحصور حصور ما فعل شيئا من الفواحش ولا المنكرات لعدم تأتى ذلك منه وصلاحيته له نفسه لا تشتهى ما حرم الله عليه فلا يتطلع للنساء وما خلق له شهوة يميل بها إلى النساء ولذلك ما هم ولا فعل فإذن هو محصور مفعول حصره الله منعه من هذه الشهوة وطهر قلبه وصارت فيه عفة وحصانة لا يتطلع إلى ما عند النساء ولا يهم ولا يخطر شىء بباله إذن هنا حصورا محصور قيل لعنة فيه قيل لصغر العضو قيل لأنه لا يخرج ماء وإن كان يتأتى منه الوطء والمباشرة وقيل قيل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه والعلم عند الله وكل هذه الأقوال تحتاج إلى سند وإن نقل بعضها عن سلفنا الصالح فهو مأخوذ عن أهل الكتاب فلا بد من أخذ هذا من نبينا عليه الصلاة والسلام الذى لا ينطق عن الهوى هذا المعنى الثانى ورد فى الأثر ما يدل عليه الجملة لكن الإمام الألوسى كما قلت أعاده إلى القول الأول على فرض ثبوته فاستمعوا له.(113/24)
روى الإمام الطبرانى فى معجمه الأوسط كما فى المجمع فى المكان المتقدم فى الجزء الثامن صفحة تسع ومائتين والأثر رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه والإمام أحمد فى الزهد وابن أبى حاتم فى تفسيره وابن عساكر فى تاريخه كما فى الدر المنثور فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وعشرين ورواه الإمام الثعلبى فى عرائس المجالس فى قصص الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فى صفحة سبع وثلاثين وثلاثمائة وفى إسناد الأثر حجاج ابن سليمان الرعينى أبو الأزهر قال عنه الهيثمى فى المجمع وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أبو زرعة وغيره وبقية رجاله ثقات إذن عندنا حجاج ابن سليمان الرعينى أبو الأزهر مختلف فى توثيقه انظروا اللسان إخوتى الكرام فى الجزء الثانى صفحة سبع وسبعين ومائة ومعه الميزان نقل الحافظان الذهبى وبعده ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين نقلا عن ابن عدى أنه مشاه وقبله لحجاج ابن سليمان الرعينى مشاه ووثقه كما تقدم معنا ابن حبان وأورد له الإمام ابن عدى هذا الحديث فى ترجمته وهو موجود فى اللسان نقلا عن ابن عدى رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث عن سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال كل بنى آدم يلقى الله عز وجل يوم القيامة بذنب كل واحد سيلقاه مذنبا مخطىء هم أو فعل وثن وقد يعذبه الله إن شاء أو يرحمه هذا الأمر إليه {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .(113/25)
قال النبى عليه الصلاة والسلام إلا يحيى ابن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين وأهوى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام إلى قذاة من الأرض يعنى قشة وعودة صغيرة وتبنة أخذها بيده الشريفة عليه الصلاة والسلام وقال كان ذكره مثل هذه مثل هذه التبنة قشة العودة كان ذكره مثل هذه القذاة يعنى ما عنده شهوة من أجل هذا كان حصورا أى محصورا عن النساء وما ولا فعل ولا تطلع إلى ما عند النساء نحو هذا الأمر الذى ينبغى أن نضبط أنفسنا كما قلت عنده ومن حفظ فى الماضى فليتق الله فى المستقبل ومن فرط فرحمة الله واسعة فليتب إلى الله نحو هذا الأمر نبى الله يحيى على نبيناو عليه الصلاة والسلام ما عنده تطلع منه نحو هذا الأمر لا هم ولا فعل ولا خطور بباله نحو الجنس الثانى كان معه مثل هذه هذا الذى معه كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث كما علمتم حاله فيه حجاج ابن سليمان الرعينى جرى حوله كلام اختلاف فى توثيقه هذا المعنى إخوتى الكرام منقول عن عدد من السلف الطيبين من صحابة وتابعين رضي الله عنهم أجمعين لعل هذه الآثار لعل تشهد لهذا الحديث المرفوع فيصبح يعنى فى درجة القبول إن شاء الله.(113/26)
انظروا إخوتى الكرام هذه الآثار والأثر الآن الثانى سيأتينا أيضا مرفوع واختلف فى رفعه وفى وقفه انظروا هذه الآثار فى تفسير الطبرى فى الجزء السادس صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة ورواه الإمام ابن المنذر فى تفسيره وهكذا ابن أبى حاتم وابن عساكر فى تاريخه عن سعيد ابن المسيب رحمه الله عن ابن العاص وسيأتينا يحتمل عبد الله ابن عمرو ويحتمل عمرو ابن العاص الابن أو الأب عن ابن العاص قال الإمام ابن كثير فى تفسيره رواه أبو حاتم على الشك عبد الله ابن عمرو ابن العاص أو عمرو ابن العاص يعنى بين الأب والإبن رواه ابن أبى حاتم على الشك فى بيان المراد من ابن العاص ورواه ابن المنذر فى رواية المنذر عن الأب لا يوجد شك عن يعنى ابن العاص عبد الله أو عمرو بن المنذر عن سعيد ابن المسيب عن عمرو ابن العاص والحديث سيأتينا مرفوع أو موقوف ورواه الطبرى أيضا على الشك لكن فى رواية الطبرى موقوف رواية مرفوعة ورواية موقوفة ورواه أبو حاتم فى تفسيره عن الأب عمرو ابن العاص لكن موقوف قال ابن كثير وهو أصح إسنادا إذن سعيد ابن المسيب عن ابن العاص مرفوعا عمرو أو عبد الله الأب أو الإبن عن سعيد ابن المسيب عن عمرو مرفوعا فقط فى رواية ابن المنذر سعيد ابن المسيب عن ابن العاص عبد الله أو عمرو موقوفا دون أن يكون مرفوعا.
فى رواية الطبرى إحدى روايتيه سعيد ابن المسيب عن عمرو ابن العاص الرواية الرابعة معنا موقوفة دون أن تكون مرفوعة قال الإمام ابن كثير هذه أصح إسنادا وأن هذا من كلام عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين وكيفما كان الأمر سواء كان موقوفا أو مرفوعا فلفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام إذا كان مرفوعا وقلت روى مرفوعا ورجح الإمام ابن كثير الوقف.(113/27)
ما من عبد يلقى الله عز وجل إلا ذا ذنب إلا يجيى ابن زكريا فإن الله قال فيه وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ثم رفع النبى عليه الصلاة والسلام شيئا من الأرض قشة تبنة عودة صغيرة وقال ما كان معه إلا مثل هذه وفى رواية لم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب يعنى طرف الثوب إذا تناه الإنسان ما كان معه إلا مثل هدبة الثوب الأثر كما قلت اختلف فى رفعه وفى وقفه وهل هو عن عبد الله ابن عمرو أو عن عمرو رضي الله عنهم أجمعين رجح كما قلت الإمام ابن كثير فى تفسيره الوقف عن عمرو ابن العاص وهكذا فى كتابه قصص الأنبياء صفحة خمسين وخمسمائة رجح الرواية الموقوفة عن عمرو فقال كونه موقوفا أصح من رفعه وهكذا فعل الإمام السيوطى فقال الرواية الموقوفة أصح إسنادا على كل حال مرفوعة أو موقوفة تشهد للرواية المتقدمة من رواية سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما قلت إخوتى الكرام هناك روايات متعددة عن السلف من صحابة وتابعين فيها هذا المعنى رضي الله عنهم أجمعين انظروها فى تفسير الطبرى فى الجزء السادس صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة وفى الدر المنثور فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وعشرين وفى زاد المسير فى الجزء الأول صفحة ثلاث وثمانين وثلاثمائة الإمام الألوسى رحمه الله رد هذا التفسير الثانى إلى القول الأول كيف هذا فقال على تقدير صحة الأثر فهو من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه بما عنده يعنى عنده مثل هدبة الثوب ما معه إلا مثل هذه أى لمجاهدته نفسه يعنى جاهد نفسه صار عضوه كأنه هدبة ثوب كأنه قشة ليس بعضو بشرى يشعر ويتحرك كما تقدم معنا فى أثر سيدنا عبادة ابن الصامت رضي الله عنه عندما مات صاحبه ولا سمع ولا بصر قال يخشى أن يحركه الشيطان فيتحرك فهذا الآن أماته ولا حركة فيه من صغره أما بالنسبة لعبادة رضي الله عنه تقدم معنا فى الموعظة الماضية ذاك لكبر سنه لا يقوم إلا ...(113/28)
ولا يأكل إلا ما ذوق وصاحبه مات ولا سمع له ولا بصر يخشى أن يحركه الشيطان إذا اقترب من امرأة وخلا بها كما تقدم معنا أما هذا النبى المبارك على نبيناو عليه الصلاة والسلام أعطاه الله الحكم صبيا فجاهد نفسه وزمها بزمام التقوى فصار عضوه كمثل هدبة الثوب كهدبة الثوب كالعودة فالإمام الألوسى يقول على فرض صحة الأثر ليس المراد أنه ممسوح أو لا شهوة عنده إنما هذه الشهوة كأنها ذهبت وانطفأت من أجل تعلق قلبه بربه فلا يعلم ما عند النساء ولا يتطلع إليهن هذا كلام الألوسى على فرض على تقدير صحة الأثر من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه بما عنده لم؟ قال لعدم ميله إلى النكاح لأنه فى شغل شاغل عنه وعلى هذا التفسير أنه حصر نفسه وما تطلع إلى النساء استدل السادة الشافعية رضي الله عنهم أجمعين إلى أن التخلى عن النكاح أفضل من فعله لمن لا يشتهيه ولا يتطلع إليه عندنا قبل هذه حالتان تقدم معنا البحث فى أحوال النكاح ضمن مباحث النبوة.
إن تاقت نفسه إليه وخشى من الوقوع فى المحذور فرض عليه ووجب
إن تاقت نفسه إليه ولم يخش من الوقوع فى المحذور سنة مؤكدة باتفاق المذاهب الأربعة.(113/29)
إنما الحالة الثالثة: هى التى فيها الخلاف لم تتق نفسه إليه لا يشتهى لا يتطلع إليه وعنده أهبته مؤنة النكاح أما نفسه لا تتطلع إليه ومن باب أولى لا يخشى من الوقوع فى المحذور نفسه لا تشتهى لا تتطلع إليه إما يعنى طبيعة الشهوة قليلة وإما كما قلت اشتغالا بعلم وجهاد ودعوة إلى رب العباد..نفسهم أحوال المقصود لا يخطر بباله شهوة النكاح لا يشتهى لا يتطلع إليه يأمن على نفسه من الوقوع فى المحذور عنده أهبة النكاح اختلف أئمتنا الأربعة على قولين اثنين فى هذه المسألة فالحنفية والحنابلة قالوا يستحب له فى هذه الحالة أن يتزوج وهو أفضل من التخلى للعبادة وطلب العلم ونشره وسائر الطاعات يتزوج وأما الشافعية هنا خالفوا فى هذه فانتبهوا يعنى الموضوع أنه ترك النكاح أولى عند الشافعية الإنسان يأخذها على إطلاق نفسه تتحرق إذا سمع المرأة اسمها فقط دون أن يرى صورتها يحصل عنده ما يحصل يقول أنا عند الإمام الشافعى يعنى تركه أولى يأثم وأنت الآن تضع الأمور فى غير موضعها لا بد من أن تتقى الله فى نفسك ذاك لا يشتهيه ولا يتطلع إليه يعنى تمر عنده المرأة والبقرة سواء وحقيقة نقول لو جاهدت نفسك وتزوجت لكان أفضل ليأتى ذرية تعبد رب البرية الشافعى رضي الله عنه يقول بما أن الله كفاك مؤنة الشهوة وثورتها لتفرغت للعبادة أفضل لك فإن قيل ستتعطل الحياة يقال هذا وهم وخيال لأن الشهوات تستعر فى نفوس المخلوقات نحن نتكلم على من هذا حاله أوليس كذلك وهذا واحد من ألف أو مائة ألف أو من مليون ألف عند الله هذا بشر الحافى من هؤلاء هذا من هذا الصنف الإمام النووى من هذا الصنف الإمام ابن تيمية من هذا الصنف يعنى هذا لا بد منه إخوتى الكرام فإذا جئت لبعض أئمة الإسلام قل هؤلاء يوجد اعتبار شرعى عندهم نفوسم لا تتطلع لأنهم كحال نبى الله يحيى لأنه أواه فى شغل شاغل عن هذا الأمر وعليه نفسه ليست فيها تطلع لهذا الأمر ولا يخشى على نفسه من نظر حرام يعنى أفكار(113/30)
رديئة فقال أنا أتفرغ لما هو أنفع من طلب علم ونشر دعوة وقتال فى سبيل الله نقول نفسه تتحمل فعند الشافعية هذا أفضل انتبه قال السادة الشافعية كما قرر ذلك شيخ الإسلام الإمام النووى رضي الله عنه وأرضاه قال فإن لم يتخل للعبادة فى هذه الحالة فالنكاح فى حقه أفضل لأنه بطال لا فائدة إذن منه لا فى دين ولا فى دنيا قال أنا لا أشتهى وعندى المؤنة لكن ما أتفرغ لا لعبادة ولا لصيام ولا لذكر ولا لحفظ القرآن ولا لطلب علم ولا ولا مجرد هكذا طلبا للراحة نقول النكاح فى حقك أفضل لأنه الآن ما انتفع لا للأمة ولا نفعت نفسك يعنى عطلت نفسك وعطلت المنفعة العامة.(113/31)
وقال السادة المالكية: ترك النكاح فى هذه الحالة وهى الحالة الثالثة التى ذكرتها أفضل إلا إذا نوى بالزواج إعفاف فقيرة وصونها وصون مسلمة وسترها فهذا أيضا أفضل هذه التى اختلف فيها كما قلت فانتبهوا لذلك السادة الشافعية كما استدل بذلك الإمام الرازى فى تفسيره عند هذه الآية بهذه الآية على مذهب السادة الشافعية فنبى الله يحيى على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه لم يرد أنه تزوج وإن ورد فى أخبار أهل الكتاب أنه تزوج ولم يعاشر ولم يباشر يعنى من أجل أن يكرم سنة النكاح علمه عند الله لكنه ما ورد وأئمتنا يعنى عندما يستعرضون قول الله جل وعلا فى تفسير قول الله {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية} يقولون لا يعترض على هذا بحال نبيين على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه الأول نبى الله عيسى على نبيناو عليه الصلاة والسلام لم يتزوج وقالوا هذا سينزل فى آخر الزمان يتزوج ويولد له كما ورد الآثار على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه ونبى الله يحيى قالوا أما أنه حصور كما تقدم معنا الجواب وعلى القول الثانى فى أنه حصور يعنى ليس معه شهوة لا يشرع له الزواج وعلى يعنى أيضا القول الثانى حصور قالوا أيضا ما يشتهى النساء ولا يتطلع إليهن وليس عنده شهوة نحوهم تزوج لإقامة السنة لكن ما تأتى منه يعنى الوطء لإخراج الذرية تعبد رب البرية على كل حال استدل بهذا السادة الشافعية من جملة أدلتهم على أن ترك النكاح من أجل التخلى للعبادة أفضل ومن فعله فى هذه الحالة لا مطلقة فانتبهوا لذلك والبحث كما قلت مضى معنا من يعنى أدلته ونسبة الأقوال إلى من قال بها وتحديد مصادرها ضمن مباحث النبوة عند معاملة نبينا لأمهاتنا أزواجه على نبينا وعليهن وعلى آل بيته وصحبه صلوات الله وسلامه.
إخوتى الكرام..(113/32)
بعد كما قلت هذه المقدمة يعنى مختصرة ننتقل بعد ذلك إلى مبحثنا وهى المسألة العاشرة فى موضوع النظر إلى الأمرد وهذه المقدمة كما قلت اختلفت عن المقدمات الأخرى هذه فى موضوع المراقبة لله عز وجل سبحانه وتعالى.
إخوتى الكرام: تقدم معنا فى بداية هذه المسألة وهى مسألة النظر إلى الأمرد أمرد أنه إذا كان صبيحا جميلا حكمه حكم النساء تقدم معنا ويحرم النظر إليه بالاتفاق إذا كان النظر بشهوة سواء كانت هذه الشهوة شهوة تلذذ بالنظر واستحسان لهذه الصورة المليحة أو شهوة وطء له وفعل الفاحشة به يعنى إذا كان فيه جمال ونظر كما قلت بشهوة حرم تلذذا أو تطلعا لشىء أشنع من النظر وهكذا يحرم عليه باتفاق النظر إلى الأمرد إذا ظن الشهوة من نفسه أو خشى على نفسه الفتنة كما تقدم معنا وهكذا أيضا على المعتمد يحرم النظر إلى الأمرد الصبيح الجميل من غير حاجة وعليه بشهوة حرام خشى الشهوة حرام ظنها حرام بدون شهوة ولا خشيها ولا ظنها لا يجوز أن تتبع النظرة النظرة إلى الأمرد ومن فعل هذا يتهم وإذا قال ليس فى قلبى شىء لا يصدق لا يجوز أيضا النظر إليه كما لا يجوز النظر إلى النساء على المعتمد وتقدم معنا هذا ما نص عليه سيدنا الإمام الشافعى رضي الله عنه فى نقله عنه الإمام النووى فى روضة الطالبين فى الجزء السابع صفحة خمس وعشرين تحريم النظر إلى الأمرد مطلقا ومعاملته معاملة المرأة كما تقدم معنا وهذا الذى ذكره الإمام ابن قدامة فى المغنى فى الجزء السابع صفحة ثلاث وستين وأربعمائة لكن قال يحرم النظر إلى الغلام قال إن خشى أو لئن خشى منه وتقدم معنا إخوتى الكرام أن من فرق بين الأمرد والملتحى فى استحسان النظر حرم عليه أن ينظر يعنى هذا ضابط الشهوة يعنى عندما تنظر إلى ملتحى لك يعنى اعتبار معين فإذا كان هذا الاعتبار هو هو عندما تنظر إلى الأمرد فلا حرج إذن نظر من غير شهوة ولا خشيت ولا ظننت ولا حقيقة نظرة طبيعية لكن هنا استحسان ولو استحسان تلذذ(113/33)
بالنظر دون أن ينتقل إلى شىء منكر وهو أنه يريد منه الفاحشة إذا كان يستحسن هذه الصورة ويستحليها كما يستحلى النظر إلى وجه المرأة وإن لم يرد أيضا مباشرتها فلا يجوز لأن هذا سيجرك إلى بعد ذلك بلايا ورزايا فى النهاية وأنت لا تدرى فلا بد إذن من البداية أن توضع الحواجز أو السدود إذا كان الإنسان يفرق فى نظرته بين الأمرد والملتحى أى حرم عليه النظر إلى الأمرد كما تقدم معنا أن هذا الذى قرره الإمام الغزالى فى الإحياء فى الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين وقلت إن الإمام ابن تيمية عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه أفاض فى هذه المسألة فذكر ما يزيد على خمسين صفحة فى الجزء الحادى عشر من صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة إلى صفحة سبع وعشرين وأربعمائة وأعد المسألة وذكرها هذا فى الجزء الخامس عشر إخوتى الكرام أحسنتم فى الجزء الخامس يعنى هو أيضا زيادة الخطأ سأنقل منه نقلا فى الجزء الخامس عشر ونسيت الجزء أيضا فقلت لبعض الإخوة هنا الأخ الكريم الإمام قلت عندك المجموع أحضر لى الجزء الخامس عشر هذا هو لذلك لما يعنى عندى هذه رؤوس الأقلام كتبت الجزء الحادى عشر فأحضرت الكتب التى يلزمنى أن أنقل منها فقلت الجزء الحادى عشر ما فيه نقل فيما أعلمه هو فى الخامس عشر قدر الله على كل حال الجزء الخامس عشر صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة إلى سبع وعشرين وأربعمائة وفى الجزء الحادى عشر صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة وفى الجزء الثانى والثلاثين صفحة سبع وأربعين ومائتين كما تقدم معنا.
إخوتى الكرام..(113/34)
قلت إن النظر إلى الأمرد فى هذه الحالة محرم عليه محرم النظر إليه باتفاق وعمومات الأدلة تدل على هذا الآيات التى تأمرنا بأن نصون فروجنا وأن نغض طرفنا يدخل فيها غض الطرف عن الأمرد وعن المرأة كما تقدم معنا لكن قلت الأدلة الخاصة التى وردت فى المنع من النظر إلى الأمرد تنقسم إلى قسمين منها ما هو مرفوع لم يصح وإن كان الحكم ثابتا للعمومات من الأدلة الشرعية وهناك أدلة أخرى عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم أجمعين جنسها متواتر وهذا ما سنبحث فيه إن شاء الله قلت سأذكر ثلاثة من الأدلة والآثار المرفوعة وأبين أنها لا تصح حتى إذا سمعناها نكون على علم بها ثم نأتى للآثار عن سلفنا الأبرار رضي الله عنهم وجنسها متواتر كما قلت واتفقت كلمتهم على تحريم النظر إلى الأمرد والخلوة به وعاملوه معاملة المرأة كما تقدم معنا مختصرا.(113/35)
وإليكم التفصيل فى ذلك الأثر الأول روى مرسلا من الإمام الشعبى كما فى ذم الهوى صفحة ست ومائة وتلبيس إبليس صفحة واحدة وسبعين ومائتين وهو فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثانى والثلاثين صفحة ثمان وأربعين ومائتين ولفظ الأثر عن الإمام الشعبى رضي الله عنه وأرضاه أن وفد عبد قيس لما جاءوا إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقعدوا بين يديه كان فيهم غلام وضىء جميل صبيح فأخره النبى عليه الصلاة والسلام وراء ظهره وأجلسه خلفه وقال إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام من أجل النظر والأثر لا يصح كما سيأتينا علق الإمام ابن تيمية غفر الله لنا وله على هذا الأثر بقوله هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنى فعل هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام ومزوج بتسع والوفد قوم صالحون ولم تكن الفاحشة معروفة عند العرب يعنى هذا فعله رسول الله عليه الصلاة والسلام أى لا مجال لحصول التهمة فيه وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما يحصنه تسع نسوة الوفد قوم صالحون ما فيهم ريبة والعرب لم تكن فاحشة اللواط منتشرة فيهم ومع ذلك احتاط نبينا عليه الصلاة والسلام ولم ينظر إليه وأجلسه خلفه وقال إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر كأن الإمام ابن تيمية كان يرى أن الأثر صحيح السند علله بما علل واستنبط منه ما استنبط وقال فى الجزء الخامس ولثلاثين صفحة اثنيتن وأربعين كلاما يشبه هذا وإن لم يذكر الأثر فقال كلاهما يعنى نبى الله آدم ونبى الله داود على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه ابتلى بما ابتلى به الآخر من الخطيئة وكل منهما خطيئتة تناسب خطيئة الآخر أما نبى الله آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام خطيئته من أجل البطن عندما أكل من الشجرة وأما نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام خطيئته من أجل النظر التى هى شهوة الفرج فى النهاية هذا يقوله فى(113/36)
الجزء الخامس والثلاثين وحقيقة الكلام خشن كدر ممن صدر فنبى الله آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
إخوتى الكرام ما جرى منه ذهول ونسيان وليس بتعمد معصية للرحمن لا بد من وعى هذا عندما قاسمه اللعين الشيطان أنه له ناصح وأنه سيخلد فى غرف الجنان ولن يخرج فإذن فعل ما فعل وهو ذاهل عن النهى الذى وجه إليه لكن لعلو مقامه ورفعة درجته عوتب على ما صدر منه وترتب على ذلك ما ترتب من حكمة هذا الوجود العبادة الرب المعبود سبحانه وتعالى هذا موضوع آخر لكن يعنى القول بأن نبى الله آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يعنى تعمد المعصية فعل الخطيئة حاشاه وحاشى الأنبياء من مباشرة الخطيئة مع استحضار النهى لابد إخوتى الكرام من وعى هذا من أن الإنسان ذهل وغفل ونسى فكما قلت هذا فى حقنا لا نعاتب حتى عليه أما علوة درجة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه يعاتبون فهو معصية بالنسبة إليهم ودرجتهم ورفعة قدرهم فلابد من وعى هذا وأما معصية نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام يا إخوتى كلها افتراء وهراء ولابد إخوتى الكرام يعنى أثر يبين هذا هناك نهى عندنا فى القرآن أكل من الشجرة لكن كما قلت أكل وهو ذاهل ناسى عوتب لعلو مقامه ورفعة درجته أما عين عندنا من أثر أن نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام نظر نظرة محرمة وترتب عليها أن يأخذ زوجة الغير أين عندنا هذا فلابد إخوتى الكرام أن نتقى الله فى أنفسنا فذكر هذا فى مكانين فى مكان ثالث ذكر الأثر انظر للتناقض من هذا الإمام المبارك رحمه الله وغفر لنا وله فى الجزء الخامس عشر صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة ذكر أثر الشعبى وأن حبيبنا النبى عليه الصلاة والسلام أجلس هذا الغلام وراء ظهره لأنه وضىء جميل وقال إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر قال قلت هذا حديث منكر طيب منكر كيف تستدل به هناك وتأخذ منه أحكاما وتعلله تقول(113/37)
وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام ومزود بتسعة والقوم صالحون ولا تعرف الفاحشة فى العرب وفعل هذا والآن أنت تقول هنا منكر.
والاستدلال إخوتى الكرام فرع الثبوت لا يجوز أن تسدل بأثر إلا بعد أن يثبت اثبت ثم استدل الاستدلال فرع الثبوت والتوجيه فرع الثبوت إذا كان الأثر لا يصح ولا يثبت عن النبى عليه الصلاة والسلام فكيف تستدل به الأثر منكر باطل لا يثبت بحال فاستمعوا لكلام أئمتنا الأبرار.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فى التلخيص الحبير فى الجزء الثالث صفحة سبعين ومائة قال ابن الصلاح إنه ضعيف لا أصل له وضعفه الإمام ابن القطان فى كتابه أحكام النظر قال الإمام ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين ورواه أحمد ابن اسحاق ابن إبراهيم ابن نبيط ابن شريط ومن طريقه رواه أبو موسى المدينى فى الترغيب والترهيب وإسناده واهى أما أحمد ابن اسحاق ابن إبراهيم ابن نبيط ابن شريط فلا يحل الاحتجاج به كذاب كما فى اللسان فى الجزء الأول صفحة ست وثلاثين ومائة وقال عنه الذهبى فى المغنى فى الجزء الأول صفحة أربع وثلاثين إنه ساقط ذو أوابد يعنى أمور شاذة غريبة يأتى بها ما يعلم إنسان من أين يختلقها ساقط ذو أوابد وقال ابن حجر الهيثمى فى الزواجر فى الجزء الثانى صفحة ست روى بسند ضعيف ثم ذكر الأثر كما عبر بعضهم يعنى أن الإسناد ضعيف بل واه كما قال شيخ الإسلام من هو ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه.(113/38)
مرة فى امتحان التوحيد فى كلية الشريعة كتبت فى السؤال قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية كذا اشرح القول دعمه بالأدلة فطالب يتفلسف يقول أنت لما لم تقل عن الإمام ابن تيمية إنه شيخ الإسلام فى قلبك سوء نحوه يقول لأن هذا علم عليه شيخ الإسلام هذا علم على ابن تيمية وهنا فى الزواجر ما قال ابن حجر ابن تيمية قال كما قال شيخ الإسلام وهو ابن حجر ما أحد يظن أنه ابن تيمية يعنى شيخ الإسلام أينما وجد ابن تيمية فاستدعيت الطالب كان من الكويت من المشوشين هؤلاء الذين لهم لغط فى هذه الأيام قلت يا رجل أنت لا تستحى من الله أنا قلت الولد أو الصبى أو الراعى ماذا قلت قلت قال الإمام ابن تيمية الله قال عن خليله إبراهيم مع أنبياء الله وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا الأنبياء أنت ماذا تريد أن أقول لهم يعنى شيخ الإسلام تظن حتى يعنى أعلى من الإمام من قال إن قلت هذا الإصطلاح أخى أريد أن أعلم من الذى نحت لكم تماثيل بدأتم تدورون حولها من أريد أن أعلم ما تستحى من الله يعنى عندما أذكر الأئمة الذين غالبوا ابن تيمية أقول فيهم هذا أقول قال الإمام النووى قال الإمام أبو حنيفة ما قلنا فى يوم من الإيام قال شيخ الإسلام أبو حنيفة وحقيقة رتبة الإمام أعلى فيا رجل كف عن سفاهتك ثم هذه ورقة امتحان تكتب يعنى الآن تطلب منك إجابة على سؤال يطلب منك تصحح لهذا السؤال للمدرس يا رجل إلى هذا الحد وصلت بكم السفاهة والتطاول.(113/39)
يعلم الله إخوتى الكرام فى الامتحان ومرارا فكرت يعنى فكرت أن أضرب على الورقة وأضع له صفر من أجل فلسفته لا يعنى موضوع أسأل الله أن يتوب علينا وأن يحسن ختامنا يعنى موضوع انتقام لنفس أو كذا لكن يعنى السفاهة الإنسان يوقفه عند حد قلت بعد غض الطرف سيقال هذا يعنى تكلم على الأستاذ بالورقة وانتقم منه خلاص ... لكن هذه الفلسفة يعنى الآن لما فأنت الآن قال الإمام قال الإمام فهنا الإمام ابن حجر يقول عبر بعضهم عن هذا الحديث ابن حجر الهيثمى بأنه واهى وقال شيخه بأنه ضعيف وقال شيخ الإسلام إنه واه من هو شيخ الإسلام ابن حجر العسقلانى يعنى ابن حجر الهيثمى ينعت ابن حجر العسقلانى بأنه شيخ الإسلام لو سمعك هؤلاء لعملوا الآن عليك محاضرة كيف حولت هذا اللقب من الإمام ابن تيمية رضي الله عنه وعن أئمتنا أجمعين إلى حمام المحدثين الحافظ ابن حجر.(113/40)
إخوتى الكرام حقيقة يعنى العقول الضحلة التى ابتلينا بها هذه الأيام أمرها عجيب شيخ الإسلام هذا ينبغى هذا واخترعوا لقبا آخر أئمة الدعوة الآن لما يذكر أئمة الدعوة يعنى يقصدون الذين هم من أتباع الشخ محمد ابن عبد الوهاب أئمة الدعوة لا إله إلا الله أطلقوا على علماء الإسلام اصطلاحات مشتركة ولا بعد ذلك كل واحد تخصونه بلقب وهذا فى الأصل من أهل الزيغ عندما يقولون عليا عليه السلام رضي الله عنه وأرضاه يذكر بعد ذلك أبا بكر وعمر وعثمان ولا يقول رضي الله عنهم ولا رحمهم الله إخوتى لما السفاهة أبو بكر عليه السلام وعلى عليه السلام لا بأس أما على عليه السلام هذا تجدونه فى سبل السلام بكثرة قال على عليه السلام ثم أبو بكر وعمر وعثمان ولا يقول رضي الله عنهم يعنى يا عباد الله لما هذا والله يا إخوتى الكرام ما خطر ببالى فى يوم من الأيام أن أفرق بين الصحابة ولا أن أفرق بين من بعدهم من أئمة الإسلام يعنى ليس إذا كنا نحب شيخ الإسلام الإمام النووى أننا بعد ذلك يعنى نتخذ نحو العلماء الآخرين موقفا آخر يا إخوتى كلهم أئمة الدين وحبهم دينا نتقرب به إلى رب العالمين أما نأتى جهة انحرفنا إليها وبدأنا نهيل عليها الألقاب وجهة أخرى قال النووى ولما بعد ذلك تقول له أنت قرر هذا النووى يقول هذا متمذهب ولما أنت تقول قال الإمام ابن تيمية يقول لما لا تقول شيخ الإسلام انظر لحالنا فى هذه الأيام.
خلاصة الكلام إخوتى الكرام..
لا يثبت الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر لا يثبت هذا وتأخيره للغلام الأمرد بحيث أجلسه خلفه ووراءه لا يثبت هذا ولذلك ذكر الإمام الشوكانى هذا الحديث فى كتابه الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة يرى عدم صحته وأنه موضوع فى صفحة ست ومائتين قال لا أصل له وفى إسناده مجاهيل.(113/41)
إخوتى الكرام: لابد من أن نقف وقفة نحو هذا النبى المبارك الصالح العابد القانت الذى أثنى عليه ربنا ثناء طيبا يعنى لعله لو قيل إن الله أثنى عليه بخصوصيات لم تحصل لغيره من الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه لما بالغنا لا بد من أن نقف وقفة إخوتى الكرام نحو هذا النبى الكريم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لنحذر الترهات والأباطيل والاختلاقات التى تجرى حوله.(113/42)
أما هذا النبى المبارك على نبينا وعليه الصلاة والسلام فهو نبى كريم ذو جد واجتهاد فى طاعة رب العالمين فما عبد مخلوق ربه بعبادة أعلى من عبادة نبى الله داود لذلك شهد نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام فعبادته أكمل العبادات وأعلاها ثبت فى مسند الإمام أحمد والحديث فى الصحيحين والسنن الأربعة فهو فى الكتب الستة وراوه ابن حبان فى صحيحه وكذا ابن خزيمة فى صحيحه والإمام الدارمى فى سننه والحميدى فى مسنده والطحاوى فى شرح معانى الآثار وفى مشكل الآثار ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق فى المصنف والبيهقى فى السنن الكبرى وأبو نعيم فى الحلية رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال [أفضل الصيام صيام نبى الله داود] وفى رواية [أحب الصيام إلى الله صيام نبى الله داود] أفضل الصيام أحب الصيام إلى الله صيام نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما ويفطر يوما هذا أفضل الصيام وأحبه إلى الله يصوم يوما ويفطر يوما وأحب الصلاة وأفضل الصلاة إلى الله صلاة نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهى صلاة الليل التى يخلو الإنسان فيها مع ربه سبحانه وتعالى [كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه] الليل ستة أسداس ثلاثة أسداس وهى النصف ينامها سدسان وهى الثلث يقومه فيقوم إذن سدس الثلث الأخير سدس منه وسدس يكون فيه نائما والسدس الأخير ينام إذن من الثلث الأخير يقوم سدسا الليل ستة أسداس نام نصفه ثلاثة أسداس وقام ثلثه سدسان بقى سدس إذن قام من الثلث الأخير سدسا ينام نصف الليل يقوم ثلثه ينام سدسه هذه أحب الصلوات إلى الله.(113/43)
وحقيقة فيها مزيد يعنى عزم وحزم وجد واجتهاد وفيها راحة للبدن عندما ينام الإنسان نصف الليل استراح فيقوم للعبادة بنشاط عندما بعد ذلك يبقى للفجر ساعة ونصف أو ساعتين ينام ليتنشط لصلاة الفجر ولئلا يظهر فى وجهه الصفرة التى تعترى من يقومون السدس الأخير دون نوم فإذن كما قلت فيها جد واجتهاد مع أنه فيها زيادة تعب يعنى هو لو نام الثلثين واستيقظ الثلث الأخير ليتهجد ويصلى الفجر كان أيسر عليه بينما هنا نام واستيقظ ثم نام ثم استيقظ هذا حقيقة يحتاج يعنى لمن يراقب الله فى كل لحظة ويضبط وقته.
إخوتى الكرام: يعنى لو ضبطنا الآن الليل بعد صلاة العشاء الآخرة لنفرض الآن ننتهى من الصلاة الساعة الثامنة لنفرض ونحن الآن فى أوقات الليل فيها قصير أوليس كذلك والنهار طويل ولذلك الشتاء غنيمة المؤمن قصر النهار فصامه طال الليل فقامه وأما الآن حقيقة يعنى النهار طويل جدا والليل ما يترثى الإنسان من القيام على وجه التمام كما هو الحال إلى ليالى الشتاء من الساعة الثامنة لو قدرنا الثامنة وأذن العشاء نحن نصلى الثامنة والنصف وننتهى للتاسعة لو قدرنا من التاسعة إلى الثالثة إن أذن الفجر أوليس كذلك عندنا ست ساعات نم ثلاث ساعات إلى الساعة الثانية عشرة استيقظ ساعتين من الثانى عشر إلى الثانية أوليس كذلك واحدة والثانية ثم تنام إلى الثالثة وتستيقظ مرة أخرى يصبح الترتيب هكذا يعنى بعد أن تنتهى من صلاة العشاء الآخرة الوقت الذى بينها وبين صلاة لفجر اقسمه نصفا وثلثا وسدسا هذا فعل نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام.(113/44)
والصفة الثالثة: وكان لا يفر إذا لاقى إذن هو صلاته خير الصلوات صيامه خير الصيام جهاده أكمل الجهاد إذا لاقى أعداء الله لا يقر ويثبت ولا يولى الدبر على نبيناو عليه الصلاة والسلام طيب مثل هذا بعدذلك سيجرى منه ما ينزه أحدنا نفسه ليقف عنه وقد كان هذا النبى الكريم على نبيناو عليه صلوات الله وسلامه على جانب من الورع عظيم ومراقبة الله الكريم.
روى البخارى رضي الله عنه وعن أئمة الإسلام أجمعين روى الإمام البخارى فى صحيحه وهكذا البيهقى فى شعب الإيمان وفى السنن الكبرى والأثر فى شرح السنة للإمام البغوى ورواه أبو نعيم فى الحلية انظر لورعه رضي الله عنه وأرضاه والحديث صحيح صحيح فهو فى الصحيح فى البخارى من رواية سيدنا المقدام ابن معدكرب رضي الله عنه وأرضاه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده سبحان ربى العظيم نبى وحاكم له شأن شأن كان حاكما بين الناس ولو لم يكن نبيا فبيت المال تحت رعايته ويستحق منه نفقة نبى وحاكم ولا يأخذ من بيت المال درهما إنما يعيش من عمل يده فنبوته لا يريد عليها أجر وحكمه ورعايته وامرته لا يأخذ عليها مكافاة ولا شىء وإن نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان يأكل من عمل يده فبعد هذا الورع ماذا تريد من الورع الذى تورع عما يحل له, عما يحل له تورع عنه هل يتوقع منه أن يقع ليتطلع إلى ما لا يحل له والله يا إخوتى الكرام أنا أعجب للعقول التافهة كيف تلوك الشبه المنكرة نحو أنبياء الله البررة على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه كان يأكل من عمل يده هذا ثابتا فى حديث المقدام وثابتا فى حديث أبى هريرة رضي الله عنه مع الإشارة إلى منقبة أخرى استمعوا لها.(113/45)
روى الإمام أحمد فى المسند والبخارى فى صحيحه وابن حبان فى صحيحه أيضا والبيهقى فى السنن الكبرى والإمام لبغوى فى شرح السنة والحديث من رواية أبى هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال خفف على نبى الله دواد على نبينا وعليه الصلاة والسلام القرآن والمراد من القرآن هنا القراءة وهى قراءة الزبور الذى أنزله الله عليه {وآتينا داود زبورا} القرآن هذا كما ثبت فى مقدمة صحيح مسلم من رواية عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنه وأرضاه انظروا الأثر فى الجزء الأول صفحة ثمانين مع شرح الإمام النووى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا عن عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال موقوفا عليه إن فى البحر شياطين أوثقها نبى الله سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا ما المراد بالقرآن هذيانا وكلاما باطلا تزعم أنه قرآن نزل على النبى عليه الصلاة والسلام يوهمون على الناس يقولون هذا قرآن وهذا متى يكون يعنى عند انتشار الجهل وضياع العلم وظهور الفتن فتخرج الشياطين وتتلوا على الناس ما يوهمونهم أنه قرآن المقصود قراءة قراءة لها قرآن قرأ يقرأ قراءة وقرآنا وهنا خفف على نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام القرآن يعنى القراءة والتلاوة تلاوة الكتاب الذى نزل عليه فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرأه أى الزبور من أوله لآخره قيل إنه مائة وعشرين سورة الزبور يقرأه من أوله لآخره فيقرأه قبل أن تسرج دوابه يقول جهزوا الدواب قبل أن يوضع السرج عليها تجهز له ليركبها خفف عليه أى بورك له فى وقته وأعطاه الله نشاطا بحيث يقرأ الزبور من أوله لآخره قبل أن تسرج الدواب يعنى إسراج الدواب لا يأخذ أكثر من ربع ساعة يقرأ هذا الكتاب من أوله لآخره قبل أن تسرج الدواب إكراما من الله له ولا يأكل إلا من عمل يده هذا تكملة لنص الحديث خفف على نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام(113/46)
القرآن فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرأه قبل أن تسرج ولا يأكل إلا من عمل يده.
قال الحافظ ابن حجر فى الفتح فى الجزء السادس صفحة وخمس وخمسين وأربعمائة فى هذا الحديث دليل على أن البركة قد تقع فى الزمن البيسير حتى يقع فيه العمل الكثير وهذا إن صدر من نبى على نبينا وأنبياء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه قالوا له معجزة وإن صدر من ولى يقال له كرامة فى هذا دليل على أن البركة تقع فى الزمن اليسير حتى يقع فيه الفعل الكثير وهذا يسميه أئمتنا يسمونه بنشر الزمان يقولون الزمان كأنه نشر تطاول فى فى حقك ساعة مرت على وعليك لكن أنا قرأت فيها المصحف بكامله وأنت ما انهيت جزءا كيف هذا نشر الله الزمان ليبارك لى أما أنت بقى الزمان.(113/47)
العادى يجرى عليك وما حصلت فيه البركة وهنا لو الآن لو أرادوا أن يفعلوا مثل فعل نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام لما أمكنهم يعنى فى ربع ساعة يقرأون الزبور لما أمكنهم وهو خفف عليه فكان يقرأه فى ربع ساعة ثم قال الحافظ ابن حجر عند هذا المبحث كما قلت فى الجزء السادس صفحة خمس وخمسين وأربعمائة ناقلا عن كتاب التبيان لشيخ الإسلام الإمام النووى التبيان فى آداب حملة القرآن وانظروا التيبان فى صفحة سبع وأربعين قال قال ابن حجر قال الإمام النووى وأكثر ما بلغنا عن عباد هذه الأمة وصلحائها أنهم كانوا يختمون أربع ختمات فى الليل وأربع ختمات فى النهار يعنى يقرأ كل يوم ثمانى ختمات أربعة فى النهار وأربعة فى الليل يعنى هذه ذكرت مع معجزة نبى الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لنحترم عقولنا ونقف عند حدنا ونعلم أن هذا ليس بمستحيل إذا وقع لنبى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فهو جائز فهو جائز كرامة معجزة فيمكن أن يقع لولى كرامة معجزة أيضا لكن يقال له معجزة تمييزا لها عن كرامات الصالحين إذن هذا وقع كما قلت لذلك العبد الصالح نبى الله على نبينا وعليه الصلاة والسلام القراءة خففت عن بعض العباد والزهاد والصالحين فى هذه الأمة أكثر ما بلغنا ثمانى ختمات عمن نقل هذا؟ قال الإمام النووى نقله أبو عثمان المغربى وأبو عثمان هو سعيد ابن سلام الإمام القدوة كان شيخ الصوفية فى زمنه بهذا نعته الذهبى فى السير فى الجزء السادس عشر صفحة عشرين وثلاثمائة قال الخطيب فى تاريخ بغداد كان من كبار المشايخ من هو أبو عثمان المغربى سعيد ابن سلام كان من كبار المشايخ له أحوال مأثورة وكرامات مشهورة مذكورة انظروا هذا وغيره فى تاريخ بغداد فى الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة بعد المائة وقال الإمام ابن الجوزى فى المنتظم فى الجزء السابع صفحة اثنيتن وعشرين ومائة لما بلغه خبر وفاة العبد الصالح القانت أبى عثمان المغربى وقد(113/48)
توفى بعد الأربعين والثلاثمائة والخطابى توفى ثمان وثمانين وثلاثمائة هذا بعد الأربعين والثلاثمائة يعنى قبل الخطابى بأربعين سنة لما بلغ الإمام الخطابى خبر وفاة أبى عثمان المغربى كان يقول إن كان فى هذا العصر أحد من المحدثين فهو أبو عثمان المغربى ولنا كان نظرى فيه أنه رجل مكاشف إذا كان فى هذا العصر رجل يطلعه الله جل وعلا على شىء من أمور الغيب بإذنه ومشيئته سبحانه وتعالى فهو أبو عثمان المغربى وعندنا إخوتى الكرام خوارق العادات تقع فى العلم والقدرة والغنى كما قرر أئمتنا وهى أمور الكمال ولا توجد مجتمعة لا يوجد واحد منها على الكمال إلا فى ذى العزة والجلال ثم يطلع الله بعض خلقه يعنى على شىء من هذه الأمور حسبما شاء فإذا وقع فى العلم يقال له مكاشفة كما قال الإمام ابن تيمية يا سارية الجبل الجبل هذا مكاشفة وإذا وقع كما قلت يعنى التحمل يقال له قدرة وإذا وقع فى الاستغناء عن الناس يقال الآن وقع فى أمر الغنى قدرة وغنى وعلم فالخارق فى العلم يقال له مكاشفة إن كان أحد من المحدثين فى هذا العصر فهو أبو عثمان المغربى وهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما فى المسند والصحيحين من رواية سيدنا أبى هريرة والحديث فى المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذى والنسائى من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان فى الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن فى أمتى أحد منهم فعمر رضي الله عنه وأرضاه فما أحد يقول يعنى إنك تخرف أو الخطابى يخرف لا أحد يخرف إلا من يفترى على الشريعة المطهرة واضح هذا ,هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام قد كان فى الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن فى أمتى أحد منهم فعمر هذا هو التحديد وهذه هى المكاشفة يا سارى الجبل الجبل وتقدم معنا تلويث بعد ذلك حال التقى فى هذه الكرامة قال ياسارية الجبل الجبل قال(113/49)
على المنبر عندما أخذته سنة قال نام على المنبر وصاح وهو نائم على المنبر يا سارية الجبل الجبل صاح فى نومه سيدنا عمر ينام فى خطبة الجمعة على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام والله يا إخوتى الكرام يعنى كيف الناس يعنى تتلاعب وتأول ,التأويلات الجهمية أخف رداءة من هذا التأويل ثم سلمنا صاح فى نومه كيف سمع قائد الجيش سارى هذا الكلام وهو ببلاد نهاوند أيضا ذاك نائم يعنى صار عن طريق النوم الأرواح التقت يا إخوتى الكرام يعنى أمر نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يعنى يلهمنا أن نقف عند حدودنا فإن يكن فى أمتى أحدا منهم فعمر قال الحافظ ابن حجر فإن يكن صيغة ترديد وشك والمراد منها التحقيق والقطع أى وجد محدثون ملهمون مكاشفون فى الأمم السابقة من غير أن يكونوا أنبياء وهذه الأمة أفضل عند الله من الأمم السابقة فإذا وجد فى تلك الأمم هذا الصنف فأمتى من باب أولى هذا كما تقول إن كان لى صديق فأنت تورد الكلام مورد الترديد والشك وتريد منه التحقيق يعنى أنت لا تشك فى صداقتى لك وأنا لى أصدقاء غيرك لكن أنت فى المقدمة وإذا انتفت الصداقة بين وبينك فليس بينى وبين أحد من خلق الله صداقة واضح هذا هنا.
كذلك يعنى إذا لم يكن فى هذه الأمة محدثون فمن باب أولى ألا لايكون فى الأمم السابقة واضح هذا وإذا وجد فى الأمم السابقة محدثون فمن باب أولى أن يوجد فى هذه الأمة فأورد الكلام مورد الترديد والشك والمراد منه التحقيق فعمر رضي الله عنه وأرضاه صالح وليا قانتا لله جل وعلا ما جاز عليه يجوز على غيره من الأولياء ولذلك قال أبو سليمان الخطابى إن كان فى هذا العصر أحد من المحدثين فأبو عثمان المغربى ومن كلام هذا العبد الصالح يقول الناس قوالب وأشباح تجرى عليهم أحكام القدرة.(113/50)
يا إخوتى الكرام أنا قلت فى سنة أربعين وثلاثمائة وهمت أربعين وثلاثمائة بعد واضح هذا على كل حال وهم بعد لكن وهم منى هذا فى صاحب الكرامة الذى كان يختم أربعا فى الليل وأربعا فى النهار أما أبو عثمان توفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بالتحديد هو بعد أربعين وثلاثمائة لكن ححدوها سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة يعنى قبل الإمام الخطابى يصبح معنا بخمس عشرة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ذاك ثمان وثمانين وثلاثمائة الإمام الخطابى وقد دفن أبو عثمان المغربى بجوار أبى عثمان الحيرى النيسابورى فاجتمع فى ذلك المكان أبوا عثمان المغربى والحيرى النيسابورى رضي الله عنهما وعن أئمة الإسلام وكل منهما من مشايخ الصوفية الكبار وقد تقدم معنا ترجمة أبو عثمان النيسابورى وهى فى السير وغير ذلك انظروا سير أعلام النبلاء فى الجزء الرابع عشر صفحة اثنتين وستين ونعته الإمام الذهبى بقوله هو الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام الأستاذ أبو عثمان سعيد ابن اسماعيل النيسابورى الحيرى توفى سنة ثمان وتسعين ومائتين علي وعلى أئمتنا رحمة ربنا وتقدم معنا إخوتى الكرام أنه كان مجاب الدعوة ولما دعا على الأمير الظالم لم يصل الفجر حتى جاءه الخبر بموته وعلق الإمام الذهبى على هذه القصة بقوله وبمثل هذا يعظم مشايخ الوقت وهو الذى تزوج المرأة المسلمة العوراء العرجاء الشوهاء غكراما لها وإرضاء لرب الأرض والسماء وهو الذى قال لأبى جعفر ابن حمدان ألستم ترون ألستم ترون ألستم تروون كما تقدم معنا أيضا ضبط ذلك وتوجيهه سابقا ألستم ترون ترون تروون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة قال بلى قال أبو عثمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصالحين يعنى إذن نكتب حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لتنزل علينا رحمة رب العالمين لأن نبينا عليه الصلاة والسلام سيد الصالحين وإمام الصالحين وأفضل خلق الله أجمعين فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصالحين على(113/51)
نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أبو عثمان المغربى الذى توفى سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة ينقل هذه الكرامة عن شيخه ابن الكاتب الذى توفى بعد الأربعين وثلاثمائة أنه كان يختم أربعا فى الليل وأربعا فى النهار من الذى يختم ابن الكاتب والناقل أبو عثمان المغربى أبو عثمان نقل عن ابن الكاتب من ابن الكاتب هو أبو على أحمد ابن على ابن جعفر كان من كبار الصالحين ومن مشايخ ساداتنا المصريين هذا بلاد مصر رضي الله عنه وأرضاه انظروا ترجمته الطيبة فى صفة الصفوة فى الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وفى البداية والنهاية فى الجزء الثانى عشر صفحة ثمان وعشرين ومائتين وفى الرسالة القشيرية صفحة ست وعشرين وأربعمائة.(113/52)
وكان يقول إذا سكن الخوف قلب الإنسان لم يتكلم اللسان فيما لا يعنيه إذا فى قلبك خوف من ربك لم يتكلم لسانك فيما لا يعنيك متى تتكلم بما لا يعنيك عندما لا تعظم الله والقلب خالى من هيبة الله جل وعلا كلام الصديقين هذا هو هذا العبد الصالح ابن الكاتب كان يختم أربعا فى الليل وأربعا فى النهار كرامة منقولة ونقلها الإمام النووى كما قلت ونقلها عنه حزام المحدثين ابن حجر فى الفتح وأوردها عند معجزة نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام فكما وقع هذا معجزة لنبى جاز أن يقع هذا كرامة لولى والله على كل شىء قدير وتقدم معنا ضمن مباحث النبوة عن العبد الصالح سليم ابن عتر الذى هو من التابعين الطيبين توفى سنة خمس وسبعين الإمام الفقيه كان أيضا قاضى بلاد مصر إمام الدارقطنى يروى عنه هذه الكرامة يقول روى عنه أنه كان يختم ثلاث ختمات فى ليلة وهو سليم ابن عتر الدارقطنى يقول كان سليم ابن عتر يختم كل ليلة ثلاث ختمات ثم بعد أن ينتهى من كل ختمة يباشر أهله ويغتسل ويشرع فى الختمة الثانية يغتسل ثلاث مرات ويتصل بأهله ثلاث بأهله ثلاث مرات يختم ثلاث ختمات قبل طلوع الفجر فلما توفى قالت له زوجه رحمك الله كنت ترضى ربك وأهلك سليم ابن عتر يروى عنه الدارقطنى.(113/53)
هذه الكرامة تقدم معنا هذا إخوتى الكرام وقلت إن الأثر موجود فى السير فى الجزء الرابع صفحة اثنتين وثلاثين ومائة المعلق على السير قال كلاما لا يقبله العقل وقال هذا الأمر هذه الكرامة هذه القصة لا يقبلها العقل ولا يصدقها وانا أقول قولك لا يقبله العقل يا إخوتى الكرام نحن عندنا فى هذا الوقت اختلت الموازين فلا نميز بين الجائز وبين المستحيل مستحيل هو الذى لا يقبله العقل وهو أن تجمع بين نقيضين أو أن تنفيهما أما الجائز الممكن يعنى لو قيل لنا فلان طار فى الهواء هذا مستحيل أو جائز جائز واضح لما كان طائر يطير واضح هذا فما المانع إذا جعل الله بشرا يطير لكن هذا ما جرى فى العادة حقه أن يطير فإذا طار يقال خرقت له العادة وخرق له العقل ما يمكن أن تخرق العقول وأن يأتى بشىء يتناقض مع العقول إنما خرقت العادة فى حقه ولو جعله الله يطير كالطائر لكان أمرا طبيعيا واضح هذا أمرا طبيعيا لكن لما ما جعل هذا فى إمكانه فإذا فعل له ذلك يقال كرامة خارق للعادة العادة خرقت له وغيره لا يستطيع أن يفعل فعله أما هذا ليس بخارق للعادة أى أتى بشىء مستحيل فقوله لا يقبله العقل هذا كلام من لا يعلم وظيفة العقل ولا معنى العقل ولا يعقل ما يقول هذا فى التعليق على سير أعلام النبلاء لو قال هذه القصة غريبة تحتاج تحقق للإثبات مسألة ثانية أما لا يقبلها العقل أعوذ بالله من التعليل الباطل كيف لا يقبلها العقل يعنى هى مستحيلة فلا بد من وعى إخوتى الكرام هذا الأمر عندنا الواجب لا يتصور عدمه والمشتحيل لا يتصور وجوده ووقوعه والممكن يتصور وجوده وعدمه فإذا شاء الله أن يوجده بكيفية من الكيفات هو على كل شىء قدير يعنى عندما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام ما حصل فى حادث الإسراء والمعراج كان خارق للعادة أو للعقل للعادة إخوتى الكرام لا يمكن أن تأتى شرائع الله بما تحيله العقول إنما تأتى بما تحار فيه العقول ليسلم الإنسان بعجزه للعزيز الغفور سبحانه(113/54)
وتعالى أما مستحيل مستحيل أن تعارض خلق الله مع شرع الله تعارض العقل مع النقل وهذا باطل لا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح إنما يحار العقل يحار كيف حصل هذا قل هذا هو دليل عجزك {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} هذا دليل عجزك وهذه الحيرة مقصودة ليسلم الإنسان بعجزه لربه سبحانه وتعالى فقوله لا يقبلها العقل هذا كلام لا يقبله العقل لو قال هذه غريبة عجيبة نقول صدقت غريبة عجيبة ما عندنا شك ثلاث ختمات استغربتها وجد ما هو أكثر وجد أربع وأربع ثمانى ختمات يعنى ثمانى ختمات هى الختمة الطبيعية للحافظ المجد المسرع إذا أراد أن يختم واحدة ليس ختمتين أو ثلاثة تأخذ منه تسعة إلى سبعة هذا للمجد الذى يقرأ حدر ولا يأخذ نفسا تسعة أو سبعة طيب ثمانى ختمات اضربها فى سبعة يكون معك ست وخمسون ساعة النهار واليوم كله أربع وعشرون ساعة واضح هذا أين ستوجد هذه القراءة يا عبد الله هذا نشر الزمان كما قلنا وهذا يوجد تحت البركة فى الوقت القليل فعل كثير كما قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه فاحترموا العقل البشرى ولا تمتهنوه.(113/55)
إخوتى الكرام: نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام إذن عبادته أعلى العبادة فى صيامه فى صلاته فى ورعه واحتياطه ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يشيد بقدره ورفعة شأنه وكان يخبر عنه بأنه كان أعبد البشر وأعبد الناس لله جل وعلا هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ثبت فى صحيح مسلم من رواية عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنه وأرضاه فى حديثه الطويل عندما جمع القرآن فكان يقرأه فى كل ليلة وكان يصوم الدهر وبعد ذلك اعتزل زوجته وما لها حظا منه ونبينا عليه الصلاة والسلام عندما علم قال له فى نهاية الأمر صم يوما وأفطر يوما قال أطيق أكثر من ذلك فقال نبينا عليه الصلاة والسلام لا أفضل من ذلك صم صوم داود فإنه كان أعبد الناس وروى الإمام الترمذى فى سننه وقال هذا حديث حسن غريب ورواه البخارى لكن فى التاريخ والبزار فى المسند وأبو يعلى فى مسنده وهكذا الطبرانى فى معجمه الكبير والإمام الروينى فى مسنده والحاكم فى المستدرك عن سيدنا أبى الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وإسناد البزار وإسناد الحديث حسن كما فى المجمع فى الجزء الثامن صفحة ست ومائتين وتقدم معنا.(113/56)
نص على تحسينه الإمام الترمذى أيضا ولفظ الحديث عن سيدنا أبى الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول كان أعبد البشر فى صحيح مسلم كان أعبد الناس كان أعبد البشر وكان من دعائه [اللهم إنى أسألك حبك وأسألك حب من يحبك وأسألك حب العمل الذى يبلغنى إلى حبك اللهم اجعل حبك أحب إلى من نفسى وأهلى ومن الماء البارد] والحديث لا ينزل عن درجة الحسن كما قلت وقد صححه الحاكم فتعقبه الذهبى بما وهم فيه فانتبهوا لوهم الذهبى رحمه الله ورضى عنه قال الذهبى فى تلخيص المستدرك فى الجزء الثانى صفحة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فيه عبد الله ابن يزيد الدمشقى قال عنه الإمام أحمد أحاديثه موضوعة وانظروا للوهم الذى وقع فيه هذا الإمام الهمام رضي الله عنه وأرضاه هذا الكلام قاله الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه لكن فى راو آخر الإمام أحمد رضي الله عنهم أجمعين قال فى عبد الله ابن يزيد الدمشقى أحاديث موضوعة وهو تابعى عبد الله ابن يزيد الدمشقى تابعى يروى عن واسلة ابن الأصقع وأبى أمامة رضي الله عنهم أجمعين كما فى المغنى للذهبى فى الجزء الأول صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة وكما فى الميزان ومعه اللسان فى الجزء الثالث صفحة ثمان وسبعين وثلاثمائة أما الراوى فى المستدرك فليس هو التابعى الذى يروى عن واسلة وأبى أمامة رضي الله عنهم أجمعين الذى معنا فى المستدرك إخوتى الكرام عبد الله ابن ربيعة ابن يزيد الدمشقى هناك ماذا عندنا عبد الله ابن يزيد الدمشقى هنا يزيد جده وهناك يزيد أبوه وهذا غير هذا عبد الله ابن يزيد الدمشقى عبد الله ابن ربيعة ابن يزيد الدمشقى هذا ليس بتابعى هذا يروى عن أبى إدريس الخولانى وهو من رجال الترمذى يختلف عن ذاك كما قرر هذا الذهبى نفسه فى كتابه الكاشف فى الجزء الثانى صفحة ست وسبعين أنت تفرق بين عبد الله ابن يزيد الدمشقى يروى أحاديث موضوعة(113/57)
كما قال الإمام أحمد عبد الله ابن ربيعة ابن يزيد الدمشقى روى عن أبى إدريس الخولانى من رجال الترمذى أنت تفرق بينهما كيف الآن جعلت ترجمة هذا لهذا وقلت فيه عبد الله ابن يزيد الدمشقى قال عنه الإمام أحمد يروى أحاديث موضوعة ليس هذا الذى فى إسناد المستدرك فانتبهوا له وقد حكم الحافظ ابن حجر فى التقريب على عبد الله ابن ربيعة ابن يزيد الدمشقى الذى هو معنا أيضا فى رجال الترمذى قال إنه مجهول والسبب فى ذلك أنه لم يرو عنه إلا راو واحد فهو إذا ما خرجت عنهم جهالة ولا زالت لأنه لم يرو عنه راويان قال الحافظ فى تهذيب التهذيب فى الجزء الخامس صفحة سبع ومائتين وقد ذكره ابن حبان فى الثقات أى على طريقته فى توثيق من روى عنه راو واحد ولم يعلم فيه جرح رواه ابن حبان فى الثقات ثم أورد الحافظ ابن حجر فى تهذيب التهذيب هذا الحديث من طريق الترمذى وقال رواه الترمذى وقال هذا حديث حسن غريب.
إذن قول الذهبى فيه عبد الله ابن يزيد الدمشقى قال عنه الإمام أحمد أحاديثه موضوعة هذا وهم إنما فيه عبد الله ابن ربيعة ابن يزيد الدمشقى نعم فيه جهالة كما قلت لكن لا يعلم فيه ضعف فالإمام ابن حبان يوثقه والإمام الترمذى يحسن الحديث من طريقه رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.(113/58)
إذن إخوتى الكرام هذا حال نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام فكيف تلصق به تلك التهمة الباطلة [إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من أجل النظر] نثبت الفتنة له ثم نؤخر الغلام الأمرد الصبيح وراء ظهورنا حقيقة هذا لا يتناسب مع خبر نبينا عليه الصلاة والسلام عن نبى الله فهذا أعبد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى وطاعته أفضل الطاعات عند رب الأرض والسماوات ومن أراد أن يجد ويجتهد فليفعل مثله ورع عظيم نبى كريم وهو حاكم أمير للمسلمين لا يأكل من بيت المال شيئا إنما يأكل من عمل يده طيب الذى يعف عن المباح الحلال الذى أحله له ذو العزة والجلال ويكتسب بعد ذلك بيمينه ليكون أتقى لربه هذا لن يسلم منه الناس فى نفوسهم ولا فى منكوحهم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
كما أثنى نبينا على نبى الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقد أثنى ربنا المعبود عليه بصفات كما قلت تكاد أن تكون من باب الخصوصيات له عن غيره من أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فكيف تلصق به تلك الرزيلة.
استمع لوصف الله لنبيه داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فى سورة ص: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} ما معنى الأيد مصدر آد يأيد أيدا بمعنى قوى واشتد وليس هنا جمع يد الأيد يمكن تكون جمع يد ممكن أن تكون مصدر آد يأيد أيدا ومنه قول الله والسماء بنيناها بأيد ليست من آيات الصفات بقوة وإحكام مصدر آد يأيد أيدا قوى إذن هو ذا القوة فى أى شىء فى طاعة الله وفى قتال أعداء الله كما تقدم معنا صومه أحب الصيام إلى الله صلاته أفضل الصلوات عند رب الأرض والسماوات يثبت إذا لاقى الأعداء ولا يفر ولا يولى أدباره بعد ذلك عنده عزم وحزم فى العمل فيأكل من كد يمينه ولا يأخذ شيئا من بيت مال المسلمين ثبت الأيد.(113/59)
صاحب القوة والجد فى طاعة الله عز وجل {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب} كثير الرجوع إلى الله عز وجل ثم اذكر فاتنبه لما أغدق الله عليه من الخيرات والبركات وسخر له من المعجزات {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} خصوصيات كان فى أول النهار وفى آخره يجلس فيقرأ الزبور وهو صاحب الصوت العذب الشجى فالجبال والطيور تسبح معه بصوت يسمع ويفهم {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق} ، {والطير محشورة كل له أواب} .
أى تسبح معه وشددنا ملكه قويناه وجعلنا له هيبة فى رعيته {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} طيب الذى يعتدى على أعراض الناس هذا حكيم أو سفيه يا إخوتى الكرام والله أعجب أنا كيف يعنى حتى الإمام ابن تيمية غفر الله له لما جاء هنا يقول وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام ومزوج بتسع والوفد صالحون والفاحشة لا تعرف فى العرب وأجلسه وراءه وقال إنما كانت فتنة نبى الله داود من أجل النظر على نبيناو عليه الصلاة والسلام كيف يقال هذا إخوتى الكرام والله يقول {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} .
والاعتداء على أعراض النفس سفاهة وخسة ما بعدها سفاهة وخسة وهل أتاك نبأ الخصم هى هنا المشكلة التى لفق الملفقون حولها ما زين لهم الشيطان الملعون وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب وهو العلوية والغرفة العالية قلنا هذا المحراب فى لغة العرب كما نقدم معنا فى مبحث الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وقلت المحاريب التى وجدت فى مساجد المسلمين هذه من المحدثات وألف فيها السيوطى رسالة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب المحاريب ما كانت فى زمن نبيتا الحبيب عليه الصلاة والسلام وكره أئمتنا الصلاة فى الطارق تقدم معنا هذا أو تنسون قلنا لعدة أمور تشبها بأهل الكتاب يتميز الإمام عن المأمومين ويستتر عنهم وينبغى أن يكون بارزا إنما تكون له سترة من يدخل فى فجوة.(113/60)
إذن إذ تسوروا المحراب المحراب الغرفة العالية العلوية يعنى حجرة فوق حجرة هذه يقال لها محراب.
ربات محراب إذا جئتها لو يعنى أصل إليها حتى أرتقى سلما لم أرقى حتى أرتقى سلما.
إذ تسوروا المحراب فى الغرفة العالية وكان ذلك كما سيأتينا فى شرح القصة إذ تسوروا المحراب دخلوا على داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام ففزع منهم قالوا لا تخف على رسلك {خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط} برز بعد ذلك أحدهما للخصومة وقال {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} عملنا شريكة خلطة فنعجتى مع نعاجه ثم طمع قال أنت عندك شاة وأنا تسع وتسعون يعنى ما أحلى العدد لو اكتمل مائة مذا تريد قال تنازل لى عن شاتك ليصبح عندى مائة قال {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها [أعطينيها واجعلها فى رعايتى وحوزتى وكفالتى وملكى] وعزني في الخطاب} بالمحاجة ويقول لأننا ليكتمل العدد ويصبح أعظم ويكون عندى مائة يعنى أنت ينبغى أن تساعد أخاك وآثره على نفسك فأنت لم لا تعطيه تسعا وأربعين ليكون عندك خمسين وعنده خمسون عندك خمسون وعنده خمسون لم {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} أثبت ما قيل فى تفسيرها وهو أحد قولين معتبرين وبقية الأقوال كلها هزيلة باطلة.(113/61)
أولها: وهو الذى قرره أبو حيان رحمة الله عليه فى البحر المحيط القصة على ظاهرها إخوتى الكرام ولا تحتاج لا إلى رمز ولا إشارة لى تسع وتسعون نعجة يعنى عنده يعنى نساء تسع وتسعون وهذا عنده زوجة واحدة وأراد بعد ذلك يعنى أن يتنازل له أخوه عن زوجته من أجل أن يكون عنده مائة امرأة وذاك يبقى عزبا من غير زوجة ما دخل النعاج بالنساء الذى أخذت من نعجة إلى امراة القصة على ظاهرها نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام كان له يوم للحكم بين الناس يوم مع أهله فى حاجاتهم يوم لمناجاة ربه يقسم اليوم الوقت ثلاث ساعات فى ساعة مناجاة الله لا يدخل عليه أحد من خلق الله أهله أو رعيته فكان يجلس فى المحراب يقرأ الزبور ويوحد العزيز الغفور سبحانه وتعالى يخلو بنفسه لذكر الله جل وعلا فجاء اثنان يعنى ثقيلان فى خصومة بينهما على ظاهرها خصومة خلطة بين نعاج كما قلت لكم عنده تسع وتسعون وذاك عنده واحدة يريد هذا أن يكمل العدد قال أعطنى شاتك فاختصما فى الكلام قال نذهب لنبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليحكم بيننا خصومة على ظاهرها ما فيها لا إشارة ولا رمز ولا داعى بعد ذلك لتحميل الكلام ما لا يحتمل أتيا إلى نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام وجدا الباب الذى يجلس باب المجلس الذى يجلس فيه للفض بين المنازعات مغلق ولا يوجد وقت الآن يعنى للجلوس للرعية.
إخوتى الكرام..(113/62)
ينبغى أن نعلم أنه بيوت الأنبياء وبيوت الصالحين على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه مهما كان حولها من ترتيب وعناية يعنى بيوت متواضعة يعنى لا يوجد يعنى دبابات ولا رشاشات ولا متفجرات ولا ألغام بحيث لو اقترب الإنسان نسفه اللغم إلى عنان السماء لا يوجد هذا يعنى نبى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه نحن عندنا نبينا عليه الصلاة والسلام وأفضل خلق الله وخير من مشى على هذه الأرض فى بيوته التسع لو أن الإنسان رفع يده كما تقدم معنا فى وصفه مال السقف ولو مد رجله مال الجدار وهى من جريد النخل وليس بعد ذلك بطين والبيوت التسعة لو عملت لها هكذا لسقطت يعنى هذه لن يريد أن يأتى أن يخرقها ويأخذ علما فيها بيده ليس برجله لو ضربها هكذا لخرقها يعنى مبانى هى بيوت يعنى بيوت يعنى كما قلت حولها ما حولها من بيوت المسؤلين فى هذا الحين فلما وجداه يعنى المجلس ليس فيه نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام قالوا بيته معروف نذهب بالليل سألوا يعنى أين نبى الله داود قالوا فى حجرته فى العلية فى المحراب جالس يناجى ربه تسلقا الجدار عليه وهبطا عليه وهو فى حجرته نظر يعنى جالس فى حجرته يدخل عليه أحد كما قلت لا يوجد يعنى احتياطات ولا يعنى بعد ذلك حذر يعنى خاف منهما وظن بهما سوءا وأنهما جاءا لاغتياله وقتله فحقيقة الإنسان فى خلوته يدخل عليه اثنان ليس من الباب من سور يعنى كيف سيكون حاله بشر مهما كان وخشى كما قلت على نفسه وظن بهما سوءا لكن بدأ يراقب أحوالهما ما عندكما برزان للمخاصمة قضى بينهما قال ظلمك أنت نعجتك تبقى ونعاجه تبقى وانصرفا فى أمان الله حقيقة لما حصل فى قلبه نحوهما ما حصل كأنه رأى أن هذا ظنا منه فى غير محله فاستغفر ربه مما خطر فى قلبه نحو عباد الله وخر راكعا له مستغفرا منيبا شاكرا على أن حفظه وما جعل لشياطين الإنس عليه سبيلا هذا معنى ولا يوجد شىء ثانى تحتمله على الإطلاق لا من قريب ولا من بعيد بحسب(113/63)
الآية.
المعنى الثانى: ممكن أن يقبل ذكره شيخنا عليه رحمة الله الشيخ مصطفى الحبيب الطير وهو من الشيوخ الصالحين فى بلاد مصر يقول القصة أيضا يعنى جاءه اثنان لاغتياله وقتله حقيقة يمكن أن يقبل هذا فلما تسورا عليه ونزلا بتقدير الله كان معه فى المحراب بعض أصحابه وخواصه وأحبابه وليس هو بمفرده فأولئك الآن لا يستطيعان أن يبديا ما فى أنفسهما فافتعلا خصومة افتعلاها لكن عليهما علامة الشر يريدان مكرا وبرا فنبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام هم أن يحقق معهما وأن يبطش بهما هذا بقلبه يعنى هذان وعليهما علامة خصومة يعنى ادعى عن التسور وقلة الأدب والبذاءة ادعى لكل هذه كما قلت يعنى للأخطاء أيضا فى نفسهما محاولة جريمة ثم قال بما أن الله سلمنى وهو خير الحافظين فالكف عنهما يعنى وعدم الانتقام والانتصار للنفس أحسن كما كان يجرى من نبينا عليه الصلاة والسلام بكثرة كما تقدم معنا من يمنعك منى قال الله الحديث تقدم معنا فى صحيح البخارى وغيره ثم قال نبينا عليه الصلاة والسلام إذن من يمنعك منى قال كن خير آخذ قال أتؤمن قال لا أومن لكن أنا أطلب منك فقط أن تعفو قال قد عفوت عنك هذا حقيقة حسن خلق وسعة صدر والإنسان لا ينتقم لنفسه من أجل أن يعود هذا إلى رشده فكان خيرا له ولقومه فذهب إليهم وقال جئتكم من عند خير الناس فآمن وآمن قومه رضي الله عنه وعنهم بعفو النبى عليه الصلاة والسلام عنه.
وهنا كذلك عفا عنه فإذا لما يعنى كما قلت هم وفكر فى عقوبتهما ورجع عن ذلك كأنه رأى أن هذا لا يليق وأنهما تعرضا لما تعرضا له يعنى إلا بسبب لعله شىء من عدم يعنى القيام كما ينبغى نحو ما يجب لله علينا وكل واحد مفرط فى حق الله {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} فاستغفر ربه إن صدر منه زلل فى حق الله عز وجل وخر راكعا وأناب واستغفر وعفا عن هذين.
هذان قولان مقبولان.(113/64)
مما لا يقبل يعنى فى هذه القصة أنه رأى زوجة بعض أصحابه بعض رعيته فأعجبته فسأله أن يطلقها سأله فطلقها وتنازل عنها وتزوجها ثم بعد ذلك يعنى جاءه ملكان فى صورة رجلين إلى محرابه وذكرا هذه القصة من أجل أن ينبهاه يعنى عندك ما عندك من النساء ثم تتطلع إلى زوجة إنسان ما عنده إلا هى فكأنه ظن أنه أخطأ فيما فعل عندما طلب من هذا الإنسان أن يطلق زوجته وأن يتنازل عنها حقيقة هذا يعنى ليس كالقصة التى يوردها من يوردها من الزنادقة كما سيأتينا أنه فتن بها وأنه هنا ذهب مجرد طلب لكن هذا فى الحقيقة مما يتنزه عنه أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه يحتاج إلى اثبات.
نعم إن النبى يقدم على أنفسنا ووالله الذى لا إله إلا هو نساؤنا وبناتنا تقدم لنبينا عليه الصلاة والسلام ولنا أكبر الشرف فى ذلك ولم يفعل إلا ما أحل الله له وإذا لو قدر إذا قدر أن النبى عليه الصلاة والسلام حالا قال أريد زوجتك أو زوجة واحد منا ففرض علينا الطاعة والنبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم لكن هذا يحتاج إلى اثبات يعنى لو قدر أنه وقع ليس فى ذلك كما قلت يعنى جناية وجريمة لكن موضوع هل هذا وقع يحتاج إلى اثبات وبعد ذلك يقال هذا من باب يعنى تقديم النبى على النفس فلا محذور فى ذلك فى الحقيقة لكن نبى يتنزه عن هذا لا بد هذا من يعنى نقله بثبوت وصحة لكن كما قلت من ناحية حكم الشرعية الظاهر لو قدر أن النبى طلب لو واجب على الإسنان أن يتخلى إحنا لا لا لا إشكال فيه عندنا إخوتى الكرام وأنفسنا وأموالنا وأهلونا تقدم خدمة للنبى عليه الصلاة والسلام يتصرف فيها كما يريد.(113/65)
انتبه ليس لغيره ذلك لمكان العصمة لأنه لن يفعل إلا ما أحل الله له لا تقل هذا لشيخى لا الشيخ قد يتخبطه الشيطان واضح هذا فلا بد إذن من التفريق أما هذا هذا نبى حاله كما قلت نحو المعاصى كحال الملائكة لا يمكن أن تصدر منه معصية فلا بد من أن نعلم هذا نعم هو يباشر هذه الشهوات عن طريق ما أحل رب الأرض والسماوات ولذلك تقدم معنا أن المعتمد فى حق النبى هو مع نساء الأمة محرم لهن والله إنه يؤتمن عليهن أكثر مما يؤتمن الآباء والأبناء والإخوة هذا لا شك فيه وقلت من لم يعتقد هذا فيجدد إيمانه بنيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه هذا قيل تحتاج كما قلت إلى اثبات فلا دليل عليه.
وقيل خطبها واحد من رعيته امرأة خطب امرأة يقال له أوريا فلم يعلم نبى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام بخطبته فخطب فأجابوه أو علم ثم تقدم وكان هذا جائزا فى شرعهم فأجابوه وألغوا فى خطبة الخاطب الأول وعندنا فى شريعتنا لا يجوز أن يخطب أحدا على خطبة أخيه وفى شريعتهم جائز يحتاج أيضا إلى اثبات نقل أنه فى الحقيقة كما قلت الظاهر يعنى فيه شىء يعنى من التنقيص للنبى على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه يعنى فى هذه الحالة لا بد من أن تنقل لأجل أن يعللها الإنسان تعليلا شرعيا أما الأصل فيسد الباب يقال هذا يحتاج إلى نقل أيضا هذا كما قلت إخوتى الكرام لا يثبت
وقيل وهو قول ثالث مردود سبب الفتنة هنا أنه عندما برز الخصمان للخصومة سمع كلام المدعى ولم يسمع كلام المدعى عليه فعاتبه الله هذا أيضا باطل لأن الذى أعطاه الحكمة وفصل الخطاب كيف يحكم بكلام المدعى قبل أن يسمع كلام المدعى عليه فالبينة على المدعى واليمين على من أنكر ولابد من أن يسمع كلام الخصمين هذا أيضا باطل وليس يعنى وحكمة نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يصدر يعنى هذا منها.(113/66)
وأرذل ما قيل بعد ذلك وهو الذى يتناقله المخرفون وهو كما يقال فتنته من أجل النظر هنا أنه كان فى خلوته فى محرابه يذكر ربه ثم جاءت حمامة انظر للترتيب وقفت على الشرفة سمع صوتها تذكر الله توحده أعجب بها أراد أن يمسكها طارت تبعها إلى النافذة لينظر وقع نظره على امرأة تغتسل عريانه.
فلما شارت لبنى الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام ينظر إليها نفشت شعرها فصار حولها كالخيمة فسترت جسمها بشعرها فزاد إعجابه بها فسأل عنها قالوا هذه زوجة أوريا أين هو قال فى الغزو فكتب لأمير الجيش قدمه ليحمل التابوت والراية ومن حملها لا يجوز أن يرجع حتى ينتصر أو يقتل يتقدم فتقدم فانتصر قال حوله إلى بعث آخر جهة أخرى انتصر وهكذا انتصر إلى سبعة جهات حتى قتل فى نهاية الأمر فجاء نبى الله داود وتزوجها على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
يا أخوتى الكرام يعنى سياق القصة يدل على أنها محبوكة أنها حبكت فى ليل مظلم أيضا طائر تقدم وتأخر فهذا كله كما قلت إخوتى الكرام افتراء وعليه الحديث الذى معنا إنما كانت فتنة نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام من أجل النظر حديث لا يثبت فانتبهوا له واحذروه.(113/67)
إخوتى الكرام بعد هذه الحادثة {وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} ، {يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض} سبحانك ربنا هل تمن بالنبوة والخلافة التى التى تكون منك وهى خلافة شرعية على من لا يأمن الناس منه لا على أنفسهم ولا على منكوحهم {إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} إذا أحكمت أمرك الكونى كيف ستهمل أمرك الدينى الشرعى ولكن تربى أنبيائك ورسلك {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار} إلى آخر الآيات {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} وكما قلت لا يمكن أن نسوى الله بين الأخيار والأشرار ونبى الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من عباد الله المخلصين وممن قوى الله ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب وهو أعبد الخلق للحق فانتبهوا لذلك.(113/68)
فالحديث الثانى الذى لا يثبت أيضا ولا يصح من رواية سيدنا أنس ابن مالك رضي الله عنه وأرضاه رواه الخطيب فى تاريخ بغداد فى الجزء الخامس صفحة ثمانية وتسعين ومائة والإمام ابن الجوزى فى كتابه ذم الهوى صفحة خمس ومائة وفى تلبيس إبليس صفحة أربع وسبعين ومائتين ورواه أيضا الإمام ابن الجوزى فى كتابه العلل المتناهية فى الأخبار الواهية فى الجزء الثانى صفحة أربع وثمانين ومائتين وهكذا الإمام الشوكانى فى كتابه الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة صفحة ست ومائتين ولفظ الحديث والحديث كما قلت لا يصح ولا يثبت من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه مرفوعا أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال [لا تجالسوا أبناء الملوك فإن النفوس تشتاق إليهم ما لا تشتاق إلى الجوارى العواتق] لا زلنا فى الحديث الثانى وروى الحديث أيضا برواية سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه بهذا المعنى فى تلبيس إبليس أيضا وفى كتابه العلل وفى العلل المتناهية كلاهما للإمام ابن الجوزى وانظروا الحديث أيضا فى الفوائد المجموعة للشوكانى فى المكان المتقدم وانظره فى الميزان زيادة على ما تقدم فى الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائتين ورواه البيهقى فى السنن الكبرى فى الجزء السابع صفحة تسع وتسعين وقال هذا حديث موضوع ولفظ الحديث عن سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال [لا تملؤا أعينكم من أولاد الأغنياء فإن فتنتهم كفتنة العزارى] وفى رواية [لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم شهوة كشهوة النساء] قال الإمام ابن الجوزى عن هذا الحديث حديث أبى هريرة وأنس رضي الله عنهم وأرضاهم هذان حديثان لا يصحان وإنما يعرف هذا من كلام السلف سيأتينا كلام السلف فى هذا جنسها متواتر فى ذلك وقال الإمام البيهقى فى السنن الكبرى عقب حديث أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه هذا حديث موضوع وفيما ذكرنا من الآية غنية عن غيرها والآية هى قل للمؤمنين يغضوا من(113/69)
أبصارهم قال والفتنة ظاهرة بالنظر إلى الغلام الأمرد فلا تحتاج إلى خبر يبينها يعنى هى لا تحتاج لا إلى آية صريحة لا تنظر إلى المردان ولا حديث إن فتنة المردان كفتنة النساء وفتنة العزارى لا يحتاج هذا.
الرواية الثالثة: وكما قلت سنقتصر على ثلاث روايات رواية سيدنا أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه وأرضاه رواها الإمام ابن الجوزى فى الموضوعات فى الجزء الثالث صفحة ثلاث عشرة ومائة وانظروها فى اللآلىء المصنوعة للإمام السيوطى فى الجزء الثانى صفحة تسع وتسعين ومائة وفى تنزيه الشريعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق فى الجزء الثانى صفحة واحدة وعشرين ومائتين فى الفصل الأول من كتاب الإحكام والحدود للإشارة إلى أن الحديث حكم عليه الإمام ابن الجوزى بالوضع وهو موضوع اتفاقا هذا فى الفصل الأول ولفظ الحديث كما قلت من رواية سيدنا أبى هريرة رضي الله عنه وعن نبيناوآله وصحبه من رواية أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه عن سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام ولم يقله واضح هذا يعنى هو الحديث هكذا لكن كما قلنا موضوع إذن لم يقله عليه الصلاة والسلام أوليس كذلك حديث موضوع [من قبل غلاما بشهوة لعنه الله فإن صافحه لم تقبل صلاته فإن عانقه بشهوة ضرب بسياط من نار يوم القيامة فإن فسق به أدخله الله النار] .
هذه ثلاثة أحاديث لا تصح ولا تثبت وهناك أحاديث فيها هذا المعنى انظروها فى الأماكن المتقدمة من الكتب المذكورة.
أما الآثار عن السلف التى تحذرنا من النظر إلى المردان ومن مجالستهم وملا مستهم والخلوة بهم فجنسها متواتر إليكم نصوصا كثيرة منها إليكم بعضها.(113/70)
روى الإمام ابن الجوزى فى كتابه ذم الهوى صفحة ست عشرة ومائة والأثر فى مجموع الفتاوى فى الجزء الخامس عشر صفحة خمس وسبعين وثلاثمائة من رواية أبى سهل نعته الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى الصعلوكى أبى سهل الصعلوكى لكن سيأتينا فى ذلك إشكال كبير والأثر فى كتاب الكبائر للإمام الذهبى صفحة ثمان وعشرين ومائتين من رواية أبى سعيد قال من أشرف على الطباعة الصعلوكى هناك أبو سهل ولم ينسب إنما فى المجموع أبى سهل الصعلوكى فى الكبائر أبى سعيد الصعلوكى أما أبو سهل الصعلوكى فلا يمكن أن يراد قطعا وجزما لأن الأثر رواه الإمام ابن أبو الدنيا وابن الجوزى رواه من طريقه وهكذا الإمام ابن تيمية قرر الإمام ابن أبو الدنيا عن أبى سهل ابن أبو الدنيا توفى سنة واحدة وثمانين ومائتين وأبو سهل الصعلوكى توفى سنة تسع وستين وثلاثمائة فكيف سيروى المتقدم عن المتأخر لكن من المراد بأبى سهل بحثت كثيرا لأقف عليه فما عثرت على المراد عدد يسمون بأبى سهل من تابعين فمن بعدهم منهم من عباد وزهاد ومترجمون فى كتب التراجم من السير والتهذيب تهذيب التهذيب لكن لا أستطيع بواحد بعينه إلا ببينة وحقيقة رجعت لكتب ابن أبى الدنيا المطبوعة عندى ليروى رواية عن أبى سهل يترجم ما عثرت على ذلك إن كان كتاب الشكر وكتاب الوارعين وكتاب قيام الليل عدد من الكتب عندى ما عثرت على هذه الرواية التى يوردها فى كتاب يعنى ذم اللواط والتحذير منه والكتاب ليس عندى الرواية كما قلت لا يمكن أن تكون عن أبى سهل الصعلوكى أبى سعيد الصعلوكى ما رأيت راويا ينعت بذلك أبو سعيد الصعلوكى فى بعض الكتب أضيف هذا القول الذى سأذكره إخوتى الكرام إلى بعض السلف عدد من كتب تقول عن بعض السلف دون أن يقول أبى سهل أو أبى سعيد الصعلوكى أو غيره فعل هذا الإمام الغزالى فى الإحياء قال عن بعض السلف وهكذا الإمام ابن عابدين فى رد المحتار على الدر المختار فى الجزء السادس صفحة خمس وستين وثلاثمائة(113/71)
وهو الهدية العالمية صفحة اثنتين وأربعين ومائتين والإمام ابن الحج فى كتابه المدخل فى الجزء الثالث صفحة تسع عشرة ومائة يقول عن بعض التابعين السلف التابعين أبى سهل أبى سعيد أبى سهل الصعلوكى أبى سعيد الصعلوكى فى هذا القول حقيقة لا بد له من تحقيق وبعد جهد أخذ منى ساعات ليس ساعة ما وصلت إلى شىء يعنى بقيت مكانى سأنقل لكم فقط هذا الذى توصلت إليه من أجل أن يبحث الأمر فى المستقبل بإذن الله عز وجل ولو عندنا كتاب ابن أبى الدنيا لأمكن أن نقف يعنى على رجال السند ليحدد من المراد أما كما قلت أبو سهل الصعلوكى لا يمكن أن يراد قطعا وجزما هو محمد ابن سليمان فقيه شافعى من أئمة الصوفية الصالحين انظروا ترجمته الطيبة فى السير فى لجزء السادس عشر صفحة خمس وثلاثين ومائتين قال عنه الإمام الذهبى مناقب هذا الإمام جمة وله كلام حسن فى التصوف والزهد والمواعظ ومن كلامه الذى أورده الذهبى وما راق يعنى للمعلقين قال من قال لشيخه لم لا يفلح أبدا.
إخوتى الكرام: الكلام يحمل على محمل حق فدعوا الكلام الذى يصدر من أئمتنا على أحسن المحامل ضعوه على أحسن المحامل من قال لشيخه لم اعتراضا ومجادلة وعنادا حقيقة لا يفلح يعنى هذا مقبول لمن يعترض على شيخه ولمن يتعالم عليه ما حكمه خزالة الله وإذا حرم الأدب فما إذن بعد ذلك تريدون عقوبة ستحصل له إنما هو يقول كان الصحابة يسألون النبى عليه الصلاة والسلام.(113/72)
هل كان أحد يعترض على النبى عليه الصلاة والسلام لما اعترض عليه من اعترض وقال هذه قسمة ما أريد بها وجه الله قال إن من ضئضئى هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يخرجون من الإسلام يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم وهم الخوارج أوليس كذلك والأحاديث فى ذلك متواترة فهذا اعترض وقال لم فليس هو سيخرج منه ذرية خبيثة نجسة واضح هذا أما أن الصحابة يسألون والتلميذ يسأل يا عبد الله هو لا يريد السؤال إنما يريد الاعتراض والجدال وما أكثر هذا ولا سيما فى هذه الأوقات كما تقدم معنا الآن قال الإمام ابن تيمية يقول لما ما قلت شيخ الإسلام هذا سيفلح هذا أنا أريد أن أعلم هذا سيفلح إذا كان فى نفسه هذا البلاء وهذا الضلال هذا سيفلح ولذلك يقول هذا العبد الصالح أبو سهل الصعلوكى رحمه الله ورضى عنه يقول التصوف الإعراض عن الاعتراض هذا الذى يريده الإعراض عن الاعتراض فلا تعترض على الله سبحانه وتعالى وسلم له يفعله وارض به فهو أحكم الحاكمين رب العالمين الإعراض عن الاعتراض وهكذا عن المشايخ وهكذا الاعتراض على الصالحين على النبى الأمين عليه الصلاة والسلام لا تعترض على عباد الله بالباطل هذا هو المراد فأما بعد ذلك من يرد الباطل هذا لا يقال اعترض يقال هذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وصدع بالحق وما أخذته فى الله لومة لائم لا بد أن نضع الكلام فى موازينه الشرعية أما من سأل نقول اعترض من رد الباطل نقول اعترض لا يا أخوتى الكرام فلا يمكن أن يراد أبو سهل الصعلوكى والعلم عند الله.(113/73)
ولفظ الأثر كما قلت عن أبى سليمان الذى هو من السلف من التابعين قال اللوطية ثلاثة أقسام صنف ينظرون وهم لوطيون وتقدم معنا سواء كان النظر نظر استحسان وتلذذ فقط أو نظر لتمنى ما هو أشنع من ذلك وأكبر كل هذا حرام صنف ينظرون وصنف يصافحون يصافح الأمرد يعبث بيده يتلذذ كما يصافح المرأة وصنف يفعلون هذا للفاحشة الكبرى نسأل الله العافية نظر لمس فعل هذا كله لوطيون لكن على درجات فإذن النظر حقيقة يمنع منه وحذرنا سلفنا منه ونقل عن العبد الصالح فتح الموصلى وهذا الاسم يوصف على اثنين كل منهما إمام صالح زاهد ناسك عابد فتح الموصلى يقال له الكبير فهو فتح ابن محمد الموصلى الكبير توفى سنة سبعين ومائة وقيل خمس وستين ومائة أحد الأولياء من عباد الأخيار انظروا ترجمته فى السير فى الجزء السابع صفحة تسع وأربعين وثلاثمائة ويطلق على فتح الموصلى الصغير وهو المراد من الإطلاق إذا قيل فى كتب الوعظ قال فتح الموصلى يراد منه الثانى وهو الصغير والكلام هنا له وهو فتح ابن سعيد هناك ابن محمد فتح ابن سعيد توفى سنة عشرين ومائتين هناك سبعين ومائة خمس وستين ومائة هذا الصغير وذاك الكبير قال الذهبى فى ترجمتة الثانى فى الجزء العاشر صفحة ثلاث وثمانين وأربعمائة كلاهما من كبار المشايخ يقول هذا العبد الصالح فتح الموصلى صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم كان يوصينى بالحذر من صحبة الأحداث احذر صحبة الحداث احذر صحبة المردان إياك أن تجلس مع الغلمان والصبيان ثلاثون من الأبدال يحذرونه من صحبة الأحداث.
إخوتى الكرام..
أكمل هذا بعد صلاة المغرب بعون الله وتوفيقه وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم(113/74)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد إخوتى الكرام كنا نستعرض الآثار الحسان عن سلفنا الكرام التى تحذر من النظر إلى المردان ومن مجالستهم ومن الخلوة بهم ومن لمسهم آخر ما ذكرته أثر العبد الصالح فتح الموصلى أنه صحب ثلاثين من الأبدال كل واحد منهم كان يحذره من صحبة الأحداث.(113/75)
إخوتى الكرام: لفظ الأبدال تقدم معنا ضمن خطب الجمعة وقلت إن الحديث فيهم وفى هذا الوصف لعباد الله الصالحين ثابت صحيح ثبت فى مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح كما فى المجمع فى الجزء العاشر صفحة اثنتين وستين عن سيدنا على رضي الله عنه وأرضاه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم الأبدال] وفى رواية [البدلاء فى أمتى أربعون وهم فى الشام بهم يسقون الغيث وينصرون على الأعداء وبهم يدفع عن أهل الشام البلاء] الحديث كما قلت فى المسند بسند رجاله رجال الصحيح وتقدم معنا أن الحديث روى من رواية سيدنا أنس ابن مالك وعبادة ابن الصامت وعوف ابن مالك أيضا وعن غير ذلك من الصحابة وإسناد حديث الأبدال لا ينزل عن درجة الحسن وقلت يراد من الأبدال من بدلوا الصفات المذمومة فيهم بصفات حسنة بدلوا البخل بكرم والجبن بالشجاعة والجهل بعلم والتقصير بجد واجتهاد فى طاعة الله الجليل ولا يشترط أنهم كانوا سابقا على تلك الصفات لا إنما تنزهوا عن النقائص واتصفوا بالكمالات هذه معنى الأبدال ثم هؤلاء خيار العباد أربعون نعتهم الله بهذا الوصف على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام سموا أيضا بالأبدال لأنه كلما مات واحد جعل الله مكانه غيره بدلا عنه بحيث لا ينقص هذا العدد عن أربعين فى بلاد الشام بفضل رب العالمين ولا نستطيع أن نقول عن واحد بعينه إنه من الأبدال نعم كان سلفنا يقولون هذا بكثرة لكثير من الخيرين الصالحين قل كنا لا نشك أنهم من الأبدال هذا وارد بكثرة على لسان الإمام البخارى فمن دونه رضي الله عنهم أجمعين لا نشك أنه من الأبدال وكان من الأبدال وكان يرون أنه من الأبدال كما قلت رتبة تدل على استقامة وصلاح أما هذه الرتبة كما قلت التى اخترع لها الصوفية بعد ذلك طقوسا ضالة فنحن كما قلت يعنى نبرأ إلى الله منها وأشد الناس محاربة لها عندما يقولون دولة خفية دولة محمدية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله(113/76)
وسلامه لا تخيب ولا تعيب ولما تكلمت عليها كأن بعض الناس ما راق لهم الكلام وبعضهم أعادوا صلاة الجمعة قالوا هذا يتكلم عن أولياء الله وقلنا حيرتمونا مرة تقولون تكلم على السلفية ومرة على الصوفية والصوفية يقولون هذا سلفى والسلفية يقولون هذا صوفى وكما قلت نحن إن شاء الله مع أئمتنا الكرام البررة المذاهب الأربعة وطريقتنا جميعا إن شاء الله طريقة أهل السنة والجماعة ما عندنا بعد ذلك تقوقعات والتزامات خاصة لا سلفية بمفهوم الحاجة المصطلحة ليس سلفية متأخرة ما عندنا هذا ولا صوفية ضالة باطلة لا هذا ولا هذا قلت إخوتى الكرام قالوا دولة خفية على تعبيرهم لا تخيب ولا تعيب وتضرب وتصيب هذه لا ترد ضربتها يقولون رئيسها الغوث القطب قلت هذا يعدل البابا مباشرة عند النصارى إن كان فى الكاثوليك أو البروتستانت نسأل الله العافية وعنده بعد ذلك أربعة أوتاد فى كل زاوية من زوايا الأرض واحد وبعد ذلك عندنا ثلاثون أو أربعون من الأبدال وعندنا أربعون من المجاباه وخمسمائة من أفراد الدائرة أمر العباد كله يسأل عنه الخمسمائة فإذا اقتنعوا بالأمر بدعائهم وأسألتهم ولجوئهم إلى ربهم اقتنعوا رفعوه إلى المجاباه فإذا اقتنعوا بالأمر رأوا فيه مصلحة رفعوه إلى الأبدال رأوا فى الأمر مصلحة رفعوه إلى الأوتاد رأوا فى الأمر مصلحة رفعوه إلى الغوث القطب الذى هو غياث الثقلين ذاك لا يحرك رأسه إلا وتقضى الحاجة إذا اقتنع بالأمر وعليه هذا الكون من عرشه إلى فرشه متوقف على القطب وعلى الغوث الذى هو نائب الله مثل الآن القسس البابا هذا الآن يدخل جنة ويمنع من النار كما يريد وهؤلاء كذلك لكن بترتيب آخر وقلت هذه زندقة وهذا كفر وهذا إلحاد فلا دليل عليه وينبغى أن نحذر هذا فكونوا على علم بذلك ليس عندما نقول موضوع التصوف كان من الصوفية من الصالحين بعد ذلك عنده هذه الإصطلاحات هذه اصطلاحات الزنادقة واضح هذا كما سيأتينا الآن فى موضوع النظر فضعوا كل شىء فى(113/77)
موضعه هذا معنى الأبدال وهو وارد على لسان رسولنا عليه الصلاة والسلام والحديث لا ينزل عن درجة الحسن وفصلت الكلام كما قلت ضمن خطب الجمعة ولا أريد ان أسترسل فى ذلك لحديث ثابت لكن هذا معناه يبدلون
الصفات المذمومة بكريمة وإذا مات واحد منهم أبدل الله غيره مكانه من أجل ألا ينقص هذا العدد هذا هو معنى الحديث أما بعد تلك الترتيبات هذا كله كما قلت كلام باطل فينبغى أن نحذره ولذلك هم عندما الآن يستغيثون بعد ما عملوا هذه الدائرة بدأوا يستغيثون بالأقطاب والأنجاب والأوتاد على تعبيرهم بالأبدال ولا يلجأون غلى ذى العزة والجلال ويستخفون عقول الناس والله يا إخوتى الكرام استخفاف استخفافا كاستخفاف مسليمة الكذاب بعقول من اتبعوه عرف بعض الشيوخ الضالين ولا نرضى إلا ما قدر نرضى إلى ما قدر نسأل الله حسن الخاتمة صار مشكلة فى مكان من الأمكنة وذهبوا إليه يعنى يعرضون عليه الأوضاع وأن الكفر البواح انتشر فى العالم ولا بد من يعنى تحرك وإذا ما تحرك العلماء يعنى من الذى سيحرك يحرك العباد يعنى كفر ينتشر فى العالم لا بد من أن يعالج قليلا سيعالجه كما عالجه العلماء من الذى سيعاجه بعد ذلك من الذى سيقضى عليه من الذى سيحاربه ولذلك إخوتى الكرام عندما يقع فى الحياة ما يقع كما يحصل فى هذه الأيام على تعبيرهم..(113/78)
يا إخوتى الكرام الحياة فيها الكفر البواح لا بد من معالجة هذا من الذى أباح الكفر البواح فى الأصل من الذى أباحه دائما لا بد من وعيه لا بد من النظر فيه فحتما إذا وجد الكفر البواح سيقابله الشذوذ سيقابله الشذوذ ولا إذن تعالج إذن الأمور عن طريق الحكمة لكن من الشاذ الأول الذى ترك البلاد مفتوحة للفساد هذا هو الشاذ الأول إذا وقع شذوذ ثانى لا يجب أن نتكلم على الشذوذ الثانى ونترك الشذوذ الأول لأنه دائما الشذوذ لن يولد إلا شذوذا هذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه بعض من يعتقل الآن ويسجن فى السجون المظلمة وصل الأمر بهم هذا أخبار ثقات فى يوم يفتش دبره مرتان بواسطة كشاف خشية أن يكون أخذ شيئا ووضعه فيه من أجل ألا يكون متفجرات يا إخوتى أما تتقون الله دبر دبر ويضحكون بعد ذلك نفتش دبر الأعمى حتى إلى هذا الحد.(113/79)
إخوتى الكرام يا عباد الله إذا قتلتم فأحسنوا القتلة لو كان يستحق القتل أما تأتى تفتح دبره وتضع الكشاف وتنظر هل وضع شيئا أو لا وهو عندك فى السجن إذن لا يقصد من هذا إلا الامتهان والاعتداء على..للإسلام هذا حتما سيولد بعد ذلك بلايا ورزايا ذهبوا عند هذا وقالوا يعنى المسألة كما ترى انظر لاستخفافه وقلة عقله ويدعى هو إنه هو الغيث وهو القطب لا إله إلا الله قال لهم ماذا تريدون قالوا نريد التغيير قال والله الذى لا إله إلا هو لو عملت هكذا لسقطت الحكومات كلها الحكومات كلها تسقط بس اعمل العمامة هكذا ما تلقى حكومة على وجه الأرض بس اعمل العمامة هكذا الحكومات كلها تسقط فقام بعض الحاضرين المساكين ظن أنه يقول حقا وصدقا قال لا شيخى أبوس رجليك حرك العمامة إذا موضوع تحريك عمامة كلهم يسقطون المسألة حرك العمامة قال ليس المقصود تحريك العمامة وإسقاطهم هاتوا لى من الذى سيحكم بدلهم قام هو مرة ثانية هذا المغفل قال أبوس رجليك أنت تحكم خلص أنت الخليفة حرك العمامة واحكم قال أنا ما أريد الدنيا هاتوا لى من يحكم حتى أحرك العمامة وما أحد على وجه الأرض منهم يبقى ...(113/80)
والذى يظهر والعلم عند الله أن القول الثانى فى بيان المراد للتابعين غير أولى الإربة من الرجال القوى الشافعية والحنابلة الذى يظهر هو الذى تدل عليه النصوص فقد كان مخمس يدخل على بيوت نبيا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ويخالط أمهات المؤمنين حتى استبان أنه ليس بمخنس وأنه يعلم ما عند النساء ففصل وطرد إذن كان يدخل والحديث إخوتى الكرام ثابت فى المسند والصحيحين وفى موطأ الإمام مالك وسنن أبى داود وابن ماجة من رواية أمنا الطيبة المباركة سيدتنا أم سلمه وروى الحديث أيضا فى المسند وصحيح مسلم وسنن أبى داود والسنن الكبرى للإمام البيهقى من رواية أمنا الصديقة المباركة أمنا سيدتنا عائشة أمنا أم سلمة وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين قالت كان مخمس يدخل على بيوت أزواج النبى على نبينا وآله وصحبه عليه صلوات الله وسلامه يخالط النساء قالت كانوا يعدونه من غير أولى الإربة من الرجال يعنى هذا حكمه حكم المحارم يخالطوهن لأنه لا يعلم ما عند النساء ولا يشتهيهن ولا يفترس بهن وهن لا يبالين به حتى قال يوما لعبد الله ابن أبى أمية وهو أخ لأمنا أم سلمة هذا ثابت فى الصحيح وفى مرسل محمد ابن المنكدر قال لعبد الرحمن أخى أمنا عائشة ولعله تكرر ذلك منه قال لعبد الله ابن أبى أمية أخى أمنا أم سلمة فى بيت أمنا أم سلمة ثم فى بيت أمنا عائشة قال هذا لعبد الرحمن قال له إن فتح الله عليكم الطائف فعليك بابنة رزاق فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان إذن هذا يعرف وصف النساء تقبل بأربع أى عكل بطنها من سمنها وكثرة الشحم بها من الصفات المرغوبة فى المرأة إلا الآن حين مسخت أذواقهم يريدونها نحيفة ضعيفة جلدة وعظمة لكن من الصفات المرغوبة فى المرأة يعنى أن يكون بها الشحم ولذلك لما ذهب تلميذ للإمام أحمد رضي الله عنه ليشترى له جارية أمة قال ليكن عليها لحم رضي الله عنهم وأرضاهم فعندما يقول تقبل بأربع يعنى عكل البطن تتثنى أربع ثنيات طاقات من(113/81)
سمنها والإنسان إذا كان سمينا يظهر التثنى فى صدره وبطنه أربع إذا أدبرت بثمان هذه الأربعة ترى من جانبها أربعة من هنا ومن هنا أربعة تصبح ثمانية فإذن إذا مشت ونظرت إليها من وراء أربعة من الجانب وأربعة من الجانب فالثنتان الأماميتان تصبح من الجانب عندما تراها أربع والثنتان من هنا أربع وتقبل بأربع وتدبر بثمان يعنى عكل بطنها وظهرها متعددة هذا لا يقوله إلا من يشتهى النساء ويعرف ما عندهن.(113/82)
وورد فى رواية الكلبى زيادة عما فى الصحيح قال لها ثغر كالأقحوان يعنى كالورد المعروف المشهور لها ثغر كالأقحوان وما بين رجليها مثل الإناء المكحوت ثم قال له أيضا أعلاها عفيف وأسفلها كثيب يعنى كأنها قمة رمل من سمنها وضخامة عجزتها إن قعدت تثنت وإن تكلمت تغنت فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام يا عدو الله أراك تعرف ما ها هنا ثم أمر بنفيه من المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه الشاهد كان يدخل وهو من التابعين غير أولى الإربة من الرجال وكما قلت كانوا يعدونه كذلك ثم استبان أنه ليس بمخنث يعنى حقيقة عنده تصنع لأخلاق النساء والتشبه بهن لكن فى واقع الأمر يدرك ما عند النساء ويتطلع إليهن ويصف أمور الفتنة فيهن ونفى بعد ذلك وطرد من البيوت واحتاط النساء منه يعنى كما قلت فيما يتعلق التابعين غير أولى الإربة من الرجال قولان فيما تبديه المرأة أمام هذا الصنف حقيقة القول الأول أحوط يعنى أنها لا تبدى إلا الوجه والكفين تحتاط نعم تتخفف أمامه فليس حالهم كحال الرجل الفحل فهؤلاء يتبعون النساء كما قلت دائما للمساعدة فلو أدخل الإنسان إلى بيته مغفلا لا يختلط بالنساء فأحيانا يأتى بكثرة بمثل هؤلاء لإطعام ومساعدة فلو المرأة دخلت ووضعت الطعام متحجبة كما قلت لاجلباب ويعنى لا عباءة لكن ساترة لابسة الطويل والشعر مستور والوجه مكشوف واليدين ووضعت الطعام هو الآن ما ينتبه للمرأة ولا يفكر فيها وكما قلت الزوج الأخ الولد حاضر موجود لها أن تفعل هذا أما أن تتوسع أكثر يعنى يطلع على زينة خفية لا يطلع عليها إلا المحارم فحقيقة يعنى تركه أولى وإن كان كما قلت مرارا وقرره أئمتنا لا نعترض على شىء منه وإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة والأثر يدل على ذلك لكن لا يدل على سبيل الوجوب يعنى يجب على المراة أن تكشف أمام غير أولى الإربة من الرجال كما تكشف أمام المحارم لا يدل على هذا قيد يدل على الترخيص والأخذ بالاحتياط أحسن(113/83)
والعلم عند الله جل وعلا.
المسألة التاسعة الآن بسم الله الرحمن الرحيم
نعم قلت لك رواها الكلبى والكلبى متروك لكن الرواية ذكرها الحافظ ابن حجر فى الفتح فى الجزء التاسع صفحة سبع وثلاثين وثلاثمائة وانظر أصل الحديث فى جامع الأصول فى الجزء السادس صفحة ستين وستمائة رواية ضعيفة روى فى الصحيحين فقط قال تقبل بأربع وتدبر بثمان الزيادة يعنى لا محذور فيها على الإطلاق يعنى الذى يعرف الأربع ويعرف الثمان يعرف ثغرها أيضا كالإقحوان وأنه رآها ... يعنى رآها ولا مانع واضح هذا ورأى بعد ذلك ضخامتها عندما تجلس ورآها عندما تتكلم كأنها تغنى من رقة صوتها وعذوبته لا حرج فى ذلك يعنى الآن ما فى كما يقال محذور يعنى ما فسره كاف فى الدلالة على أنه يعلم ما عند النساء وذلك زيادة كما قلت خبرة الأثر ضعيف لأنه كما قلت من طريق الكلبى والكلبى معروف حاله لكن يعنى يشهد له خبر الصحيحين والخبر الأول كاف فى الدلالة على أنه إذن ليس من غير أولى الإربة من الرجال والعلم عند الله جل وعلا.
الطفل الطفل معناه فى اللغة إخوتى الكرام الولد ما دام ناعما يقال له طفل ما دامت فيه النعومة ولم يغلظ صوته ولم تخرج له لحية وشارب يقال له طفل الطفل الولد ما دام ناعما ويقع على المفرد والجمع كما قال الإمام الجوهرى فى صحاح اللغة وقيل أنه مفرد محلى ب ال الجنسية فيعم الدينار والدرهم أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض المراد من الدينار الدنانير وقيل إنه مفرد وضع موضع الجمع يعنى إما كما تقدم معنا هذا اللفظ يقع على المفرد والجمع أصالة أو مفرد دخلت عليه ال الجنسية فأفاد العموم أو أنه مفرد لكن يوضع موضع الجمع واستدل بقول الله جل وعلا {ثم نخرجكم طفلا} لكن الإمام سيبويه من علماء اللغة رد هذا وقال ثم يخرج كل واحد منكم طفلا أليس هو المفرد وضع موضع الجمع والعلم عند الله جل وعلا(113/84)
على كل حال إخوتى الكرام ماذا تتحجب ما الذى تحجبه وتستره المرأة من جسمها أمام الطفل وما الذى يرخص لها أن تبديه؟
الطفل له عدة أحوال:
أولها: ألا يبلغ أن يحكى ما يرى ما وصل إلى حد يحكى ما يراه ويستحضره ويذكره لغيره أى قبل سن التمييز وقبل سن التمييز الإنسان حقيقة لا يحكى ما يرى بعد أن يميز يحكى ما يرى يقول والدى أحضر كذا وعمل كذا وذهب كذا يعنى صار عنده تمييز وأعطى لأخى ما أعطانى أما قبل سن التمييز لا يميز لا يحكى ما يرى لا يستحضر هذا ولا يذكره للناس ولا ينتبه له هذا يقع بحضرته لا يبالى به هذا قبل سن التمييز غيبته كحضوره يعنى المرأة لا تتحجب أمامه مطلقا وجوده وعدمه سواء وهذا سن التمييز فى الغالب فى سن الرابعة فى الغالب لا يقال له ابن ثلاث سنين ابن سنتين ابن سنة من هو ابن شهر يعنى المرأة تتحجب أمامه تقول هذا الآن ذكر هذا كما قلت نوع أول من الأطفال لا يحكى ما يرى ما بلغ إلى هذا السن التى يحكى فيها ما يرى ويستحضر وينتبه فهو قبل سن التمييز حضوره كغيبته.(113/85)
نوع ثانى: إذا بلغ السن التى يحكى فيها ما يرى لكن ليس فيه ثوران الشهوة وتشوف للنساء ويحكى ما يرى يعلم لكن ما عنده تمييز يعنى بعد ذلك إن هذه تشتهى وإن هذه جعلها الله لاتصال الرجل بها ويعلم شهوتها لا يعلم هذا على الإطلاق إنما يحكى ما يرى يعنى قد يقول فلان طويل وفلان قصير دون أن يذكر الأمور التى تغرى الرجل ما عنده يعنى اطلاع على هذه الأشياء فهذا حكمه حكم المحارم عند أئمتنا بلغ سن التمييز ولم يراهق والمراهقة تبدأ فى سن التاسعة والعاشرة إذن قبل التاسعة وبعد الثالثة بعد الرابعة هذا يقال له فى سن التمييز دون مراهقة يحكى ما يرى لكن لا يفهم كما قلت يعنى لأماكن الشهوة ومفاتن المرأة يعنى لا يصف لرجل يقول هذه شكلها كبير هذه تقبل بأربع وتدبر بثمان هذه مثلا فيها كذا علامات فارقة مغرية ما يميزها وممكن فقط يعلم أن هذه امرأة لا رجل هذه كبيرة عجوزة هذه صغيرة لكن الصفات الدقيقة لا يحكيها لغيره لأنه لا يعلم أثرها وهذا حاله كما قلت من هو فى سن التمييز قبل المراهقة وحقيقة يختلف حال الناس فى هذه المرحلة على حسب تفتحهم ويعنى معايشتهم فحقيقة يعنى الجيل السابق الذى عشنا فيه يعنى حتى الإنسان لو بلغ عشر سنين لا يعلم ما عند المرأة وكنا ندرس فى أولى متوسط أولى إعدادى ما يتعلق بأمر الحيض وبأمر النساء فى كذا لا نعلم إلا لنحفظ يعلم الله حفظ لكن ما معنى الحيض ما معنى النفاس نشرحه نقول هو الدم الذى يخرج من فرج المرأة إيش يعنى فرج يخرج دم ما بك ألا تحضر وتكتب فى الامتحان ونأتى بعد ذلك فى موضوع الكفارة فى فقه السادة الحنفية ومن جامع أو جومع فى نهار رمضان عامدا فعليه القضاء والكفارة مثل المظاهر أى كفارة الظهار اذكر شيخنا الشيخ بدرى رجب رحمه الله ورضى عنه.(113/86)
قرأ لنا ونحن فى إولى إعدادى فى عمر ثلاثة عشر أربعة عشر بعد أن قرأها نظر إلينا استحضر يعلم الله حركاته واحدة واحدة لكن ما وراءها ما أعلم قال ... يعنى يقول كيف سأشرح هذه العبارة أمام الطلاب هذه معناها على اللهجة هناك ... من جامع أو جومع فعل أو فعل به عامدا فى نهار رمضان عليه قضاء والكفارة مثل المظاهر مثل كفارة الظهار ... ولا شرح كلمة شرحها ... وما أحد منا حقيقة يخطر بباله يعنى ما معنى جامع وما معنى جومع إذا كان سيدنا الإمام النووى عليه رحمة الله لما حفظ كتاب المهذب ... لكن كان يقول يعنى من نواقض الوضوء خروج ريح هو يقول عن نفسه يقول فكنت أظن أن المراد من خروج الريح القرقرة التى فى البطن فكان باستمرار يتوضأ ويشق عليه ما يعلم ما المراد من هذا حتى وضح له الأمر هذا يعنى حال سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين على كل حال يعنى لا بد كما قلت من هذا الضابط وهو أنه يحكى ما يرى لكن ليس عنده وعى بأمر النساء متى ما وعى هذا ليس الآن من الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء هذا طفل لا يظهر حكمه حكم الكبار إذن عندنا طفل لم يظهر لا يميز وجوده وعدمه سواء حضوره لغيبته يميز ولا يعلم ما عند المرأة كالمحارم وعليه على المعتمد كما تقدم معنا تستر ما بين السرة والركبة أمامه ويجوز أن تبدى ما عدا هذا.
النوع الثالث: إذا راهق ودب فيه الشهوة ميز وبدأ يعلم ما عند المرأة مما يرغب الرجال فحكمه حكم الرجل البالغ تماما المراهق هذا إخوتى الكرام من حيث نظره إلى المرأة وما الذى ينبغى أن تستره المرأة أمامه.
أما من حيث النظر إليه ومن حيث عورته الولد ما هو أيضا لذلك تفصيل.
فإذا كان صغيرا جدا أيضا قبل سن التمييز فليس له عورة يعنى لو بدا منه السوأتان لا حرج فى ذلك وهو قبل سن التمييز ثلاث سنين أربع سنين سن سنتين سن سنة إذن هذا ليس له عورة على الإطلاق.(113/87)
الحالة الثانية: ما دام لم يشتهى ميز لكن لم يشتهى فعورته دبرا وقبلا مميز لكن لا يشتهى ما وصل لحالة مراهقة وما يقاربها دبر وقبل يعنى عمره ست سنين سبع سنين خلاص يستر السوأتين يعنى لو بدا بعد ذلك فخذه لا يقال الآن فخذه مثل الرجل يعن الأمر يختلف هذا لا يشتهى الواحد يتطلع إليه قال أئمتنا ثم تغلظ كلما زاد يعنى بعد سن التمييز سوأتان تغلظ ما قاربهما إلى أن يصل إلى الحد الذى يشتهى فيه ابن التسع أو ابن عشر فصارت عورته كعورة البالغ ينبغى أن يستر هذا المكان من السرة إلى الركبة وإذا كانت جارية تتحجب كما تتحجب المرأة إذا بلغت تسع سنين عشر سنين وجب عليها الحجاب يقال الآن هذه لا تميز ما عند النساء تميز به لو تزوجت من التسع يكون ... تنجب بعد.
سنة تنجب عمرها عشر سنين فلا بد من ضبط هذا وهكذا كما قلت الرجل عشر سنين صار يشتهى ويشتهى من قبل النساء ويشتهى هو النساء حكمه حكم الرجال يستر عورته.
قلت مرة فى أبها بعض جيرانى الكرام يعنى كان موضوع حول حجاب النساء وكذا قال لى عمى أحد أولاد القرية كان فى تلك الأيام فى ثالث ثانوى قال هذا نعتبره بدرا يعنى يدخل على النساء وكذا قلت يعنى أقمتم عمره أقمتم سبع عشرة سنة أوليس كذلك يعنى لو أدخلتموه ابن خمس سنين ست عشرة سنة يعنى وصل مرحلة البلوغ قطعا وجزما قالوا يا شيخ ما ترى أن فى وجهه شعرة ما زال بدر قلت هذا لو زوجته من سنتين لكان عنده ولدان قال هذا يدخل يعنى طبيعى هذا حكمه حكم ... ويقول لى خرجت له لحية وبلغ الطوق تماما يقول هذا بدر هذا وعندنا كما قلت ابن تسع عشر هذا صار فى سن المراهقة المرأة تستر أمامه فهو يستر أيضا عورته.
إخوتى الكرام: هذا مقرر عند المذاهب انظروا رد المحتار فى الجزء السادس صفحة أربع وستين وثلاثمائة وروضة الطالبين فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وعشرين والمغنى للإمام ابن قدامة فى الجزء السابع صفحة اثنتين وستين وأربعمائة(113/88)
مسألة عندنا كنتم تجعلوها عاشرة أليس كذلك وإن شئتم تجعلوها سابعة لما تقدم.. النظر إلى الأمرد نحن تقدم معنا الطفل إذا كان يعى أوليس كذلك إذا دبت فيه الشهوة وبدأ يعرف ما عند النساء المرأة تستتر أمامه كما تقدم معنا قبل ذلك حكمه حكم المحارم قبل التمييز وجوده وعدمه سواء كأنه بهيمة فى البيت لا تحتجب أمامه ولا حرج عليها أن تكون بأى شكل كان إنما بعد ذلك بالنسبة كما قلت لعورته هو قبل سن التمييز لا عورة له إذا ميز قبل ودبر ثم تغلظ العورة إلى أن يبلغ إلى سن المراهقة تسع أو عشر صار حكمه حكم الكبار يؤمر وليه بأن يلزمه بتغطية فخذيه لأن هو الآن غير موجه إليه الخطاب لكن الولى مأمورا بأن يراقبه إذا كشف عن فخذه.. وهكذا الجارية وليها المسؤل عنها يحجبها فى هذا الوقت أما من ناحية البلوغ لجريان قلم التكليف ما جرى عليه قلم لتكليف لأنه لا بد من بلوغه ويوجه إليه الخطاب لأنه لو كشف لا إثم عليه لكن وليه هو المطالب ينبغى أن يراقبه أن يلاحظه وهكذا يلاحظ الجارية وأن يحجبها فى هذا الوقت.(113/89)
أما الأمرد ما حكم النظر إليه حقيقة لا بد من وعى هذا ومسألة قررها أئمتنا وقد يؤدى التساهل بها إلى يعنى محذورات كثيرة ووقع كثير من الناس فى مفاسدها ونسأل الله أن يصون أعراضنا وأن يسترنا فى الدنيا والآخرة بفضله ورحمته وهذه المسألة إخوتى الكرام يعنى كما قلت حكم شرعى الذى يجب أن نعيه وأن ننتبه له أمر ثانى أيضا يعنى دعانى إلى الكلام عليه ما سيأتينا ضمن مراحل البحث بعون الله جل وعلا أن تقبيل الأمرد..هذا أشنع من تقبيل المرأة كما سيأتينا وبعض السفهاء ممن يعتبرون أنفسهم من السلفية الدعاة فى هذه الأيام علق على قصة كنت ذكرتها سابقا قصة تقبيل سهل ابن عبد الله التسترى للسان أبى داود قال هذا السفيه الشريط عندى الطحان الآن يفتح الباب إلى تقبيل المردان أين نحن وأين هو هنا رجل صالح صاحب سنة راوى حديث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه جاء هذا قال أرنى لسانك الذى تحدث به حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام لأقبله فقبله سهل ابن عبد الله التسترى مع أبى داود.
يا إخوتى شيخ من أهل السنة الكبار هذا شيخ جاهل عادى فما الذى أخذك إلى تقبيل الأمرد يا مفتون ما الذى أخذك قال هذا..تقبيل المردان يأتى يقبله من فمه يعانقه يضمه إليه كما يفعل الصوفية ما زاد على تقبيل المردان يقول بكل حياء بكل قلة حياء..(113/90)
يا إخوتى الكرام نحن أمرنا أن نعدل مع المشركين ألا نعدل مع عباد الله المؤمنين ما الذى أخذك إلى المردان هذا مثل إنسان لو قال يجوز للإنسان أن يجامع زوجته قالوا لا يجوز للإنسان أن يجامع زوجة جاره هذه امرأة وهذه امرأة وهنا كذلك يجوز أن يقبل لسان الإمام البخارى إذن يجب أن يقابل المردان يا عباد الله..بالحلال والحرام أما تتقون الله أم كما قال الله يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون والله وتالله وبالله إنه يعلم أننى لا أريد هذا وما خطر على بالى ووالله ما علمت به إلا لما ذكره هو أننى أقول تلك القصة من أجل تقبيل المردان فتح باب لتقبيل المردان هذا ككلامه الثانى فى نفس الشريط هذا مخرف الإمارات ككلامه الثانى فى نفس الشريط حول عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة يقول يعنى إذا أردنا المطر ما نروح للاستسقاء يعنى الطحان يقول ما نروح للاستسقاء نجلس ونقول أبو بكر أبو بكر عمر عمر فكأن عمر ما يعرف هذه العبادة العظيمة لما أصيبوا بقحط ما جلسوا قالوا محمد محمد أبو بكر أبو بكر هذا مثل المخرف أيضا الفتان الذى ألف كتابه تحذير الإخوان على مسلك واحد ثم قال هذا فساد يجر إلى فساد ... على لسان أبى داود رضى الله عنه وأرضاه يقول بدأ يستدل بآثار تقبيل يد أمة على فرض ثبوت هذه يقول يعنى هذه فيها توسع بجواز أن يقبل الإنسان اليد فثابت البنانى هكذا يدرسها هو لا يعرفون ضبط اسم ولا معرفة حكم ثابت البنانى يقول يعنى إذا فعل هذا مع أنس وقبله يعنى هذا توسع نقف عنده يقول إذن هو يقول تقبيل الرأس والجبهة إذن يجوز تقبيل..يعنى أنا أقول ما دام فعل هذا يجوز تقبيل الرأس إذن يجوز(113/91)
والجبهة يجوز تقبيل..ثم قال نحن نعلم أن تقبيل اللسان للنساء الإنسان يقبل زوجته والأدهى منه يقول مص لسان من يحدث عن النبى عليه الصلاة والسلام ولاشك هذا لا نعرفه ديانة هذا ضبطه هو ثم بعد ذلك أراد قال طبعا هو يروى أن أحد الناس قد مص يعنى لسان بعض الناس كما زعم والله أعلم بصدق هذه الرواية..على فرض أنها صحت هذا مثل ما تقدم معنا فى قبر الحسين وفى غيرها وفى قول أيضا عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة من الذى نقل هذا عن الإمام أحمد وعن سفيان ابن عيينة أين هى على فرض أيضا ليست صحيحة كل إنسان يخطأ ويصيب الإمام أحمد أخطأ فى هذا وسفيان ابن عيينة أخطأ وهنا على فرض أنها صحت لا تصلح دليل هذا كلامه لا تصلح دليل ومن قال حصلت ثم قال وأى جيل ترى أهل الطاعة كل منهم يقبل لسان صاحبه هذه أعوذ بالله منها يقول كنا نحن ننهى عن تقبيل الخدود نرى محدث فى هذه الأيام يدعو إلى تقبيل اللسان من أجل بعد ذلك يقول تقبيل المردان عافانا الله منها.(113/92)
انظر للسفاهة وقلة الحياء وقلة الديانة..فإن شاء الله سنتكلم على موضوع المردان وأنه لا يجوز النظر إليه بشهوة ولا بغير شهوة كما ستسمعون فضلا عن تقبيله فلا بد من أن نقف عند حدودنا وأن نتقى ربنا أما بعد ذلك يقبل الإنسان يد الشيخ للتبرك به يقبل جبهته للتبرك به يقبل لسانه للتبرك به يقبل سرته كما تقدم معنا فعل سيدنا إبى هريرة مع سيدنا الحسن رضى الله عنه للتبرك به هذا موضوعا آخر وموضوع إخوتى الكرام يعنى تقبيل اللسان هذا لم يقع فقط من العبد الصالح سهل ابن محمد التسترى الذى توفى سنة ثلاث وثمانين ومائتين مع سيدنا أبى داود الذى توفى سنة خمس وسبعين ومائتين وهو إمام السنة فى زمنه لم يقع هذا معه فقط وقع مع عدد من الأئمة مع عدد كان يأتى يقبل لسانه تبركا بحديث النبى عليه الصلاة والسلام منهم واحد آخر الإمام الفراوى الذى أئمتنا يقولون للفراوى ألف راوى وهو أروى الشيوخ فى زمنه لحديث صحيح مسلم الإمام الفراوى الذى توفى سنة ثلاثين وخمسمائة للهجرة تقدم معنا قصة معه جرت مع الإمام تذكرون ابن عساكر عندما ذهب إلى بغداد ليتلقى العلم عنه والإمام ابن عساكر لأنه رأى أن الشيخ يعنى ما احتفى به كثير بعض تلاميذ النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقال له أبلغ أبا عبد الله محمد ابن الفضل الإمام الفراوى إنه سيأتيه شاب أسمر من بلاد الشام فلعتن به فكان بعد ذلك إذا جاء قام له إذا انصرف شيعه ويعنى يجلس معه ما يريه حتى ينصرف الإمام ابن عساكر ووالد الإمام الفراوى رأى النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وقال ولدك خليفتى أى هو الذى ينشر حديثى هذا الإمام الصالح أوصى تلميذه الذى قرأت به كثيرا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والإمام الفراوى لتعرفوا من هو استمعوا فقط كلاما موجزا للإمام الذهبى فيه كما قلت توفى سنة ثلاثين وخمسمائة الشيخ الإمام الفقيه المفتى مسند خراسان فقيه الحرم أبو عبد الله محمد ابن(113/93)
الفضل الفروى النيسابورى الشافعى ثم بعد أن ذكر فى ترجمته ما ذكر نقل عن الإمام عبد الغافر أنه قال هو فقيه الحرم البارع فى الفقه والأصول الحافظ للقواعد نشأ بين الصوفية ووصل إليه بركة أنفاسه درس الأصول والتفسير على زين الإسلام الإمام القشيرى ثم اختلف إلى مجلس الإمام أبى المعالى إمام الحرمين ولازم درسه ما عاش وتفقه وعلق عنه الأصول وصار من جملة المذكورين من أصحابه وحج وعقد المجلس ببغداد وسائر البلاد وأظهر العلم بالحرمين وكان منه بهما أثر وذكر وما تعدى حد العلماء وسيرة الصالحين من التواضع والتبذل فى الملبس والعيش ثم قال عقد مجلس الإملاء فى الأسبوع يوم الأحد والإملاء كما قلت لكم يعنى يجلس والتلاميذ يكتبون ويملى من صدره هذا إملاء وقلت من يقال عنهم محدثون يعنى كذا وكذا يريد أن يعقد هو مجلسا من مجالس الإملاء ويروى لنا يروى لنا الأربعين النووية ونحن نتبع وراءه على علم الحديث ليبكى من كان باكيا وعقد مجلس الإملاء فى الأسبوع يوم الأحد وله مجالس الوعظ المشحونة..والمبالغة فى النصح حدث بالصحيحين وغريب الحديث للخطابى والله يزيد فى مدته ويفتح فى مهلته إمتاعا للمسلمين بفائدته قال السمعانى سمعت عبد الرشيد ابن على الطبرى بمرو يقول الفراوىألف راوى قلت لكم الفراوى نسبة إلى فراو من بلاد خراسان الفراوى ألف راوى.(113/94)
إخوتى الكرام هذه الجملة ضبطها الإمام النووى فى مقدمة صحيح مسلم للفراوى ألف راوى يعنى من كثرة تلاميذه له ألف راوى يقول الإمام النووى فى بداية صحيح مسلم فى المقدمة يقول كان إماما فى الجزء الأول صفحة سبعة بارعا فى الفقه والأصول وغيرهما كثير الروايات بالأسانيد الصحيحة العاليات رحلت إليه الطلبة من الأقطار وانتشرت الروايات عنه فيما قرب وبعد من الأمصار حتى قالوا فيه للفراوى ألف راوى وكان يقال له فقيه الحرم لإشاعته ونشر العلم بمكة زادها الله فضلا وشرفا وهنا للفراوى ألف راوى هنا الفراوى الفراوى الفراوى ألف راو هى الأصل ألف راوى من باب يحصل وزن السجع ممكن أن يقال درجة الفراوى تعدل الفراوى بمنزلة ألف راوى للفراوى ألف راوى إذن الأمران معتبران.
لكن بدون للفراوى ألف راوى بدون للفراوى الفراوى ألف راوى هكذا صبطت فى السير وفى طبقات السادة الشافعية الكبرى للإمام السبكى فى الجزء السادس صفحة ثمان وستين ومائة الفراوى ألف راوى راو للفراوى ألف راوى هذا هو إمام الدنيا يقول هذا الأخ فما أعلم إخوتى الكرام يعنى شيخ الحديث فى زمنه فهل فعل بدعة أريد ان أعلم أما نتقى ربنا أما نستحى بعد ذلك من أنفسنا لكن إلى الله المشتكى أهوائهم وأرائهم يجعلونها سنة أهوائهم وأرائهم ثم بعد ذلك ما قاله أئمتنا وفعلوه عندما تعرضها عليهم كل واحد عنده نفور الدابة الشموس نحو ما يقرره أئمتنا رضى الله عنهم وأرضاهم.(113/95)
فى إذاعة البارحة فى إذاعة نور على نور دارت بعض المشايخ الكبار لما يفتى يا إخوتى لا يفتى بفتيا لا إلى آية قرآنية ولا إلى حديث نبوى ولا ولا ولا كل الموضوع موضوع تقبيل المحارم وكذا أرى أنه لا بأس وكذا كلهم من ماء يقول يقول الإنسان يقبل محرمه يعنى لا ينبغى أن يقبل إلا الجبهة فقط لا يقبلها من مكان آخر ثم قال إلا الزوجة الزوجة إنها ليست من المحارم قال هذا معلوم قال أما بعد ذلك المحارم فيما بينهم والنساء الأمر واسع تقبل أى مكان شاءت طيب ما الدليل على هذا وعلى هذا وعلى هذا لما عندما ننقل عن أئمتنا تقولون هاتوا الأدلة ونأتى بالأدلة وأنتم عندما تقولون لما لا تسندوا هذه الفتيا لا بأس يعنى مشغل أو متبع للأئمة أحد الأمرين أريد أن أعلم ليس لك صفة التشريع وعليه إما أن تستدل بالنص وإما أن تقول هكذا قرر الأئمة لا هذا ولا هذا, هذا لا يجوز أن تعترض هذا من المشايخ الكبار ولو تكلمت تضرب الرقبة أما فعله أبو داود لماذا أبو داود أبو داود لا ناصر له مسكين فعله الإمام الفراوى من الإمام الفراوى كل واحد يخطأ ويصيب.(113/96)
قيل لبعض السفهاء فى هذه الأيام ممن جلس يعدد أخطاء أبى حنيفة أخطأ أخطأ أخطأ فى المجلس وبعض الحاضرين قال له أبو حنيفة رضى الله عنه ما كنت لأن العام مائة وخمسين بيننا وبيته أكثر من ألف سنة نريد أن تذكر لنا بعض أخطاء الشيخ ابن باز لنحذرها قال الشيخ ابن باز لا يخطأ قال يعنى معصوم قال لا يتبع الكتاب والسنة خذ على هذه السفاهة التى هى أقل من هذيان السكارى ابن باز يتبع الكتاب والسنة وأبو حنيفة أخطأ يا إخوتى ما تستحوا من الله أنا أريد أن أعلم ما تستحوا من الله هكذا يقول قلنا لقال أنت الآن تقول أبو حنيفة أخطأ كل إنسان يخطأ ويصيب بشر لكن تحذر من خطأ الأموات منا ما عندك خطأ عن ابن باز ما هو اذكره لنحذره قال ابن باز لا يخطأ ابن باز لا يخطأ وأبو حنيفة كن جريدا إن أخطأ جريدة كان بعض السفهاء منهم من هو فى الكويت وبعد ما شاركوا فى مشاكل الحرم يقول لى أكثر من ثلثى المذهب الحنفى ضلال الخطأ سهل ضلال ما هذه الأمة التى ابتلينا بها فى هذه الأيام أبو حنيفة يخطأ خذ جريدة قل له هات لنا أخطاء للألبانى يقول الألبانى الألبانى هذا ناصر السنة كيف أخطأ يا إخوتى أين تذهب عقولكم أما تستحون من ربكم من ربكم أما تستحون هذا يعنى لو أنفقت لقلت أخطأ فى كذا وكذا لأجل أن تحذر منه فهو خير ألا يتبع وأما ذاك فجاء الأئمة بعده وقرروا وحققوا ونقحوا فعلى رسلك الأمر قال به غيرك إذا كان هناك خطأ اتق الله هذا حاله يقول هذا لا يخطأ إذن من الذى يقلد على عمى نحن أم أنتم والله ما حالنا معكم فى اتباع أئمتنا واتباع من نصرتموه أئمة لكم إلا كما قلت كحالنا مع دعاة التغريب فى موضوع حجاب المرأة نعم نحن قلدنا لكن ديننا وأئمتنا وهم قلدوا الغربيين والملعونين وهنا كذلك قلدنا أئمتنا الذين حققت أقوالهم وأنتم تقلدون من لا تعلم خاتمته على أى شىء تختم له ما نعلم ونسأل الله الثبات وحسن الخاتمة وتقدم معنا نحن لو أردنا أن نقتدى بقول سيدنا عبد الله(113/97)
ابن مسعود المتقدم فلنقتد بالميت فإن الحى لا تؤمن عليه الفتنة هذا..إخوتى الكرام أخطأ أبى حنيفة اسمع كلها أخطاء شافية فى الدليل أجمع وأخطاء الإمام مالك أكثر وأكثر وأخطاء الإمام أحمد حدث ولا حرج وسيأتينا من كلام مشوش اليمن ضمن بحثنا فى موضوع المردان واشتغال النظار بذلك وألف كتابا فى تفضيل النصرانية على الإسلام لأنه عشق أمرد النصرانية النظار وهو أول من أنكر الإجماع وخليفته بعد ذلك فى هذه الأيام مشوش اليمن يقول الإجماع ليس بحجة أجماع ليس بحجة على الإطلاق الإجماع كما سيأتينا أنه ليس بحجة استمع لهذا الهناء وما قال هذا إلا النظار كما سيأتينا عند حال النظار الذى ألف كتابا فى تفضيل النصراية على الإسلام ومات على الكفر ومات وهو سكران ثم بعد ذلك يأتى الآن أقواله تنبش ويقول بها من يقولون أنهم سلفية وأنا ما أعلم أحدا من أئمتنا إلا قال إن الإجماع هو أقوى الأدلة على الإطلاق هذا يقول الإجماع ما لنا علاقة به الإجماع ليس بحجة القياس ليس بحجة إذن ماذا بقى الكتاب والسنة لكن على حسب فهمه يخرف هو كما يريد أن يستنبط وأنت تقول هذا الآن ما قال به الأئمة مخالف الإجماع يقول من الإجماع.(113/98)
إخوتى الكرام: موضوع المردان كما قلت حوله كلام فلنعيه ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا، الأمرد إن لم يكن صبيحا أى جميلا فحكمه حكم الرجال يعنى من حيث النظر أوليس كذلك يجوز أن تنظر إليه كما تنظر إلى الرجل كما ينظر بعضنا إلى بعض لحاجة أو لغير حاجة ما أحد يعنى عندما ينظر إلى أخيه يشتهيه وتأمل هذا لا حرج فيه وأما المرأة كما قلت من نظر إليها يقال ينظر من غير شهوة كذاب واضح هذا لا يجوز أن ينظر لأن الطبع سيفرق لمحل الشهوة وهكذا الأمرد الأمرد حالتان إن كان صبيحا جميلا فسيأتينا لا يجوز النظر إليه لا بشهوة ولا بغير شهوة حكمه حكم المرأة نظرت تغض الطرف إذا لم يكن جميلا حكمه حكم الرجل لا حرج أن تنظر إليه وإلا فإن كان صبيحا جميلا حكم الأمرد كحكم النساء وهو عورة من قرنه إلى قدمه لا يحل النظر إليه بشهوة كما قرر هذا فقهائنا قال هذا السادة الحنفية فى رد المحتار فى الجزء السادس صفحة أربع وستين وثلاثمائة وقاله الإمام الشافعى رضى الله عنهم أجمعين كما فى الروضة فى الجزء السابع صفحة خمس وعشرين قال الإمام النووى نص الإمام الشافعى على أنه يحرم النظر إلى الأمرد بغير حاجة وهذا ما قرره الإمام ابن قدامة فى المغنى فى الجزء السابع صفحة ثلاث وستين وأربعمائة فقال يحرم النظر إلى الغلام الذى تخشى الفتنة بالنظر إليه وأطال الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية أطال فى تقرير هذا الأمر وتفصيل الكلام عليه فى مجموع الفتاوى فى الجزء الخامس عشر من صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة إلى صفحة سبع وعشرين وأربعمائة يعنى كم صفحة يا أستاذ محمد يكون خمسين صفحة وزيادة أوليس كذلك يعنى واحد وخمسين صفحة أوليس كذلك ثلاثمائة وأربع وسبعين إلى أربعمائة وسبع وعشرين ثلاثة وأربعين لا أكثر يا إخوتى الكرام ثلاث وخمسين لأن هنا خمس وعشرون وهنا خمس وعشرون بدل إليها الكسور هذا واحدة وخمسين لما ثلاثة وخمسين هنا أربع وسبعين هنا خمس وسبعين إلى(113/99)
أربعمائة خمس وعشرون صفحة إلى خمس وعشرين خمسين يستزيد اثنتان خلاص يعنى على كل حال خمسين يعنى صفحة أما تنزلوها للأربعين وأيضا ذكر هذا فى الجزء الثانى والثلاثين صفحة سبع وأربعين ومائتين فما بعدها وفى الجزء الحادى عشر صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة فما بعدها فقال التلذذ بالنظر إلى الأمرد حرام باتفاق المسلمين كما هو كذلك فى حق الأجنبية وقال أيضا التلذذ بمس الأمرد حرام بإجماع المسلمين وكذلك النظر إليه بشهوة انتبه سواء كانت شهوة وطء أو شهوة تلذذ أى إدامة النظر شهوة وطء كى يطأه ويفجر به أو شهوة تلذذ بالنظر إليه ومن جعل ذلك عبادة فهو كافر لأنه سيأتينا صنف من الإباحية من زنادقة الصوفية جعلوا النظر إلى المردان وإلى الأشكال المستحسنة عبادة وفجروا بهم باسم التقرب إلى الله جل وعلا على زعمهم ضل سعيهم وخاب عملهم من جعل ذلك عبادة فهو كافر مرتد وقال أيضا فى الجزء الخامس عشر صفحة ثماني عشرة وأربعمائة ولا يصلح أن يخرج المردان الحسان فى الأمكنة والأزقة التى يخاف فيها الفتنة بهم لا بقدر الحاجة فلا يمكن الأمرد من التبرج كما لا تمكن المرأة تقدم معنا ولى الأمر أن يمنع المرأة من الولوج والخروج وهكذا الأمرد يتجول هنا وهناك يذهب من جهة إلى جهة أيضا ينبغى أن يوقف عند حده فهو فتنة يفتن به الناس قال الإمام ابن تيمية فكل ما كان سببا للفتنة ينبغى أن يمنع ولا يجوز فعله وقال فى الجزء الثانى والثلاثين صفحة سبع وأربعين ومائتين الأمرد المليح بمنزلة الأجنبية فى كثير من الأمور ولا يجوز النظر إليه تلذذا باتفاق المسلمين ويحرم عند خوف الفتنة لا يجوز أن تنظر إليه لا بشهوة ولا بغير شهوة لكن إذا خشيت فتنة حرم عليك النظر وأثمت وقال الإمام الغزالى فى الإحياء فى الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين من يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بين الملتحى وبين الأمرد لن يحل له النظر إلى الأمرد ونظره إليه حرام عنده الأمرد يختلف(113/100)
عن صاحب اللحية ينظر بعضنا إلى بعض لا يدور فى النفس شىء يعنى نظرك إلى الأمرد يختلف أما تتمتع بالنظر أو تشتهى ما هو أشنع من ذلك وأخبث منه وهذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه ولا بد من ضبط النفس عنده وكثير من النفوس تتوسع لأنه يعنى مخالطة النساء صعبة يعنى طالب علم يخالط امرأة لا يمكن هذا ولا يصدر منه وينفر منه المجتمع بعد ذلك لا يقره لكن هذا الحدث إما أنه ذا قرن يعنى من جنسه فالاقتراب به يعنى يسهل لوم الآخرين فيفتن به أكثر ما يفتن بالمرأة ويجعله الشيطان مصيدة له وهو لا يدرى هذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه لا يجوز النظر إلى الأمرد بشهوة ولا بغير شهوة ومن ظن أو خشى الشهوة والفتنة حرم عليه وهو آثم بالنظر بالاتفاق بل قرر أئمتنا أن حكم الأمرد كحكم المرأة بالنسبة لنقض الوضوء عند الحنفية مس المرأة لا ينقض الوضوء لكن يندب لمن مس امرأة أن يتوضأ مراعاة للخلاف عندهم كما فى رد المحتار فى الجزء الأول صفحة سبع وأربعين ومائة يندب الوضوء من مس المرأة ومن مس الأمرد يعنى لو صافحت الأمرد يسن لك أن تتوضأ كما لو لمست المرأة وفى مجموع الفتاوى فى الجزء الخامس عشر صفحة إحدى عشرة وأربعمائة مس الأمرد بشهوة فيه قولان يعنى فى موضوع إبطال الوضوء فيه قولان فى مذهب أحمد وغيره كمس النساء بشهوة فالقول الأول ينقض الوضوء وهو المشهور من مذهب مالك وأحد الوجهين فى مذهب الشافعى يعنى مسه بشهوة ينقض الوضوء كمس المرأة عند المعتمد والأظهر والأقوى من مذهب الأئمة الثلاثة الحنابلة والشافعية والمالكية أما الحنفية فى الأصل عندهم مس المرأة بشهوة لا ينقض الوضوء ولو قبل زوجته لا ينتقض وضؤه وعليه لو مس الأمرد حكمه كحكم مس المرأة فى الحنفية وعند الجمهور فأولئك بما أن مس المرأة لا ينقض هذا مس الأمرد ينقض أما عند الحنفية مس المرأة لا ينقض فمس الأمرد لا ينقض يندب يندب هناك ينقض ينقض قال وهذا أظهر لما قال الإمام ابن تيمية لأن الوطء فى(113/101)
الدبر يفسد العبادات التى تفسد بالوطء فى القبل فعبادة الصوم لو وطء فى قبل أو دبر فسدت عبادة الاعتكاف فسدت عبادة الحج فسدت ووجب الغسل على من حصل منه الوطء فى قبل أو دبر فمقدمات كل منهما ينبغى أن يكون لها حكم إذن الآخر بما أنه سوى بين وطء القبل والدبر ينبغى أن يسوى بين مقدمات وطء الدبر مس الأمرد ومقدمات وطء القبل وهو مس المرأة قال هذا أظهر كما أن الشارع اعتبر الدبر بمنزلة القبل فمقدمة هذا كمقدمة هذا وعليه لو مس الأمرد بشهوة كما لو مس المرأة بشهوة انتقض وضوءه.(113/102)
إخوتى الكرام: لا خلاف بين أئمتنا كما قلت أنه يحرم النظر إليه بشهوة أو إن ظنها أو إن خشى الشهوة وأما ما عدا ذلك فأيضا أئمتنا قالوا لا ينظر إلى الأمرد إلا لحاجة أو ضرورة كحال نظره إلى المرأة تماما هذا متفق عليه عند أئمتنا وعمومات نصوص الشريعة تدل عليه يعنى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم أى كل ما هو فتنة ومحرم ويجلب شهوة وهوى ومعصية سواء نظر إلى المرأة أو نظر إلى أمرد أو غير ذلك من المحرمات هو مأمور بغض البصر العمومات تدل على هذا وقد ورد فى ذلك آثار خاصة أما الآثار المرفوعة لا يثبت شىء منها مع صحة الحكم وثبوته الحكم صحيح لكن الآثار التى وردت فى هذا الموضوع ليست صحيحة وأما الآثار الواردة عن سلفنا فجنسها متواتر كما ستسمعون إن قيل إذا لم يثبت فى ذلك شىء مرفوع كيف قاله سلفنا نقول يا إخوتى الكرام ما قلنا العمومات واضح هذا فهم استدلوا بالعمومات على تحريم النظر إلى الأمرد أما خصوص النظر إليه وردت أحاديث لا تصح ولا تثبت سأبدأ بالأحاديث التى وردت فى أمر الأمرد وأبين عدم ثبوتها ثم انتقل إلى الآثار المتواترة القطعية عن سلفنا فى موضوع النظر إلى الأمرد والتحذير من ذلك وأنه أخشى على وأخطر على الشاب الناسك العابد على طالب العلم من السبع إذا جلس إليه فلو جلس أمرد إلى طالب علم فتنته أعظم مما لو جلس سبع مفترس حسد مفترس بجانب طالب العلم لما هناك سيأكله وله أجر الشهادة وهنا سيضيع دينه فهنا من جند إبليس وهناك له أجر عند الله العزيز حقيقة هذا أشنع بل أئمتنا كما سيأتينا حذروا منه أكثر من المرأة والفتنة بالأمرد تزيد على الفتنة بسبعين امرأة كما سيأتينا إن شاء الله كيف انتهى يا إخوتى الكرام هذه آخر المسائل لكن مع ذلك يعنى طويلة هذه فيها الآن قرابة صفحة كاملة نحن كل ما تدارسناه الآن صفحة ونصف أو صفحة وثلث على حسب الكتابة عندى فهذه تحتاج إلى صفحة يعنى نمدها إلى مرة أخرى حقيقة لا أعلم والمسألة لا بد من(113/103)
بحثها وحقيقة ضرورية لأننى لما كنت فى أبها أخبرنى عدد من الإخوة عن هذا الأمر وطلبوا منى قلت لا أريد يعنى الأمر يثار حوله كلام لا سيما فيما يعنى يقال حول الجماعات وكذا قال لى يا شيخ يعنى يتغالبون على الأمرد إلى جانب هذه الجماعة ولهذه الجماعة ولهذه الجماعة يعنى كما تتغالب التيوس فى الجريمة وكل واحد بعد ذلك عندما يخرجون فى رحلة أوكذا يتمنى أن ينام فى المخيم الذى فيه أمرد يعنى هم ينقلون يعنى الموضوع يحتاج إلى معالجة قلت له يعنى جروحنا كثيرة ولعله فى المستقبل يأتى الكلام عليه بما أنه وصلنا إلى هذه القضية عند موضوع النظر فأرى أن نكمل البحث من جميع جهاته ولعل أولئك يسمعون بعد ذلك هذا الأمر وأمر الأمرد نتدارسه فى أول الموعظة الآتية فإن بقى شىء من الوقت دخلنا فى الأمر الثانى الذى ينبغى أن نفعله لنحصن أنفسنا من الشيطان وكما قلت إذا انتهيت من هذه السبعة يعنى ثمانية تلك سأوجز فيها غاية الإيجاز لندخل فى مبحثنا لعله بعون ربنا يعنى فى أربع مواعظ إن شاء الله ننتهى إن شاء الله لندخل فى سنن الترمذى رضى الله عنه وعن أئمتنا أجمعين.
اللهم ألهمنا رشدنا واحفظنا من شرور أنفسنا الله احفظنا من شر كل ذى شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شىء وأنت الآخر فليس بعدك شىء وأنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء اقض عنا الدين واغننا منه الفقر.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك وبفضلك عمن سواك.
اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا الله أحسن إلى من أحسن إلينا اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك الله اغفر لمن عبد الله فيه.
اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.(113/104)
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(113/105)
مفسدة الاختلاط والنظر إلى العورات
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
مفسدة الاختلاط والنظر إلى العورات
ظن أنه يقول حقا وصدقا قال ياشيخى أبوس رجليك حرك العمامة إذا موضوع تحريك عمامة وكلهم يسقطون المسألة حرك العمامة قال ليس المقصود تحريك العمامة إسقاطهم هاتوا لى من الذى سيحكم بدلهم قام مرة ثانية هذا المغفل قال أبوس رجليك أنت تحكم خلص أنت الخليفة حرك العمامة واحكم قال أنا لا أريد الدنيا هاتوا لى من يحكم حتى أحرك العمامة وما أحد على وجه الأرض منهم يبقى يا جماعة هذا الآن ما زاد على استخفاف فرعون لقومه فاستخف قومه فأطاعوه يحرك عمامته ويسقط الأنظمة الموجودة على تعبيرهم من القطب.
هذه أوضاعنا التى نعيشها فالتصوف الذى فيه تخريف لا بد أيضا إخوتى الكرام من وضع الأمر فى موضعه.
فإذن الأبدال كما قلت هذا الوصف ثابت ومنقول عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
أما لفظ القطب لفظ الغوث ما ورد لنقف عند حدنا على كل حال هؤلاء الأبدال كلهم كانوا يوصون هذا العبد الصالح بالحذر من صحبة الأحداث وقلت إخوتى الكرام هذا الأثر منقول عن العبد الصالح حددت الكتب أم لا غالب ظنى ما ذكرت منقول فى الرسالة القشيرية صفحة اثنتين وستين وثلاثمائة نقلته عن فتح الموصلى وفى الإحياء مع شرحه للإمام الزبيدى فى الجزء السابع صفحة خمس وثلاثين وأربعمائة وفى مجموع الفتاوى وذكر لفظ الأبدال كما قلت لكم فى الجزء الحادى عشر صفحة خمس وأربعين وخمسمائة وفى الجزء الخامس عشر صفحة خمس وسبعين وثلاثمائة وصفحة عشرين وأربعمائة صحب ثلاثين من الأبدال وانظره فى ذم الهوى صفحة اثنتى عشرة ومائة وفى تلبيس إبليس صفحة خمس وسبعين ومائتين عن فتح الموصلى أنه صحب ثلاثين من الأبدال كل واحد منهم كان يحذره من صحبة الأحداث صحبة الغلمان المردان.(114/1)
ومن الآثار المنقولة أيضا فى ذلك ما نقل عن العبد الصالح أعقل أهل زمانه بشر الحافى بشر ابن الحارث رضي الله عنه وأرضاه الإمام العلم المحدث الزاهد الربانى القدوة شيخ الإسلام كما نعته بذلك الإمام الذهبى فى السير فى الجزء العاشر صفحة تسع وستين وأربعمائة قال إبراهيم الحربى رضي الله عنهم أجمعين ما أخرجت بغداد أتم عقلا ولا أحفظ للسانه من بشر الحافى لو أن عقله وزع على أهل بغداد لكانوا بذلك عقلاء عقله فقط بشر الحافى رضي الله عنه وأرضاه كان مع أصحابه جلوسا فمرت بهم جارية امرأة فسألت وأبا نصر أين باب حرب تريد أن تذهب إلى مكان فى بغداد اسمه باب حرب أين فقام ودلها على الطريق وأشار لها إلى الاتجاه الذى تذهب منه إلى باب حرث ثم جلس مع أصحابه فجاء غلام أمرد حدث بعد المرأة والجارية فسأله فقال أين باب حرث يسأل أيضا يريد هذا المكان أن يذهب إليه فأطرق بشر الحافى وغمض عينيه فأعاد ذات السؤال فغمض عينيه وما التفت إليه فذهب الغلام بعد ذلك قال لعله لا يعرف من أجل هذا أطرق وسكت فقيل له جاءت امرأة فسألت فأرشدتها وبينت لها الطريق وجاء غلام حدث لم تجبه وغمضت عينيك وأطرقت لما قال بلغنى عن سفيان يعنى الثورى رضي الله عنهم أجمعين أنه قال مع المرأة شيطان ومع الغلام شيطانان.
وفى رواية عن سفيان أيضا مع المرأة شيطان ومع الأمرد بضعة عشر شيطانا بضعة عشر قال فخشيت هذه الشياطين ليس الآن يعنى هذا يفتنونى به يعنى أجيبه وألتفت إليه هؤلاء الشياطين يزينونه فى عينى 453 وهو أعقل أعقل أهل زمانه وأنا على يقين رضي الله عنه وأرضاه ولا أزكيه على رب العالمين أنه ما فعل هذا هو فى الأصل يعنى خشية أن يتأثر لكن يريد أن يعلم تلاميذه وأصحابه الحذر احذروا يا عباد الله ولا تتساهلوا فى هذا الأمر وحقيقة إذا هو ما حذر كلهم يتساهلون بعد ذلك.(114/2)
ولذلك كان أئمتنا يقولون إذا رفع العالم فى الحلال رفعت الرعية والناس والعامة بعد ذلك فى المكروهات فإذا رفع العالم فى المكروه وفعله فعل العامة الحرام فإذا فعل العالم الحرام كفر الناس يعنى حتما الناس دائما وراء العالم فهو إذا احتاط هم عندهم شىء من التفلت فإذا هو تفلت فكيف سيكون حال الناس بعد ذلك والعامة دائما هذا قائدهم فهو سيريهم الحذر من نفسه ليحذروا وألا يجالس واحد منهم أمردا وأن يحتاط غاية الاحتياط وكان هذا العبد الصالح بشر الحافى كما فى مجموع الفتاوى فى الجزء الحادى عشر صفحة خمس وأربعين وخمسمائة فى المكان التقدم وهكذا فى الجزء الخامس كان لا يدع أمردا يجالسه أمرد يجالس بشر الحافى لا يمكن يقول فتح وكان يقول كما فى ذم الهوى وتلبيس إبليس فى المكان المتقدم احذروا صحبة الأحداث.
ومن الآثار المروية فى ذلك أيضا ما نقل عن العبد الصالح أبى منصور عبد القاهر ابن طاهر الإمام البغدادى توفى سنة تسع وعشرين وأربعمائة للهجرة وبشر الحافى توفى سنة سبع وعشرين ومائتين رضي الله عنهم أجمعين بلغ من ذكاء هذا الإنسان وعلمه ومكانته أنه يدرس تسعة عشر علما هو فيها إمام متخصص أبو منصور عبد القاهر ابن طاهر البغدادى صاحب كتاب الفرق بين الفرق يدرس تسعة عشر علما هو فى كل علم إمام متخصص فيه هذا الجهد وهذا النسك وهذه العبادة وهذا العلم وهذا الصلاح كان يقول من صحب الأحداث وقع فى الإحداث من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد من إحداث أهل البدع أحدث يحدث حدثا إحداثا فى دين الله عز وجل إحداث وقع فى البدع والضلالات والرزلات من صحب الأحداث وقع فى الإحداث أى أنه يحدث فى دين الله ما ليس منه.(114/3)
انظروا إخوتى الكرام: ترجمته فى السير فى الجزء السابع عشر صفحة اثنتين وسبعين وخمسمائة وفى طبقات السادة الشافعية الكبرى للإمام السبكى فى الجزء الخامس صفحة ست وثلاثين ومائة إلى ثمان وأربعين ومائة وأثره هذا منقول فى ذم الهوى فى المكان التقدم وفى تلبيس إبليس من صحب الأحداث وقع فى الإحداث.
ومن الآثار المنقولة فى ذلك ما نقل عن العبد الصالح مظفر القرنيسينى مترجم إخوتى الكرام فى الحلية فى الجزء العاشر صفحة وستين وثلاثمائة وفى الرسالة القشيرية صفحة خمس وعشرين وأربعمائة أثره أيضا فى الكتابين المتقدمين فى ذم الهوى وتلبيس إبليس فى نفس المكان يقول من صحب الأحداث علو وجه السلامة والنصيحة أداه ذلك إلى الهلاك والعطب فكيف إذا صحبه غير ذلك يعنى إذا صحب الأحداث ليعلمهم لينصحهم ليدرسهم يفتن ويؤديه ذلك إلى الهلاك والعطب فما صحبه الآن لغيبة ولا أراد أن ينظر لخيانة وليس قى قلبه شهوة محرمة لكن سيتأثر ونسأل الله اللطف بفضله ورحمته فكيف إذا صحبهم لغير ذلك وكان يقول أفضل عمل العبد شغل وقته ألا يقصر الإنسان فى الأمر وأن لا يجاوز الحد مظفر القرنيسينى.(114/4)
ومن الآثار المنقولة فى ذلك ما نقل عن سيدنا عمر رضي الله عنه كما فى تلبيس إبليس فى صفحة أربع وسبعين ومائتين والأثر نسب إلى بعض التابعين فى ذم الهوى صفحة سبع ومائة وفى مجموع الفتاوى فى الجزء الحادى عشر صفحة خمس وأربعين إذن عن سيدنا عمر رضي الله عنه ونسب إلى بعض التابعين قال ما أنا على الشاب من سبع يجلس إليه بأخوف منى عليه من حدث يجلس إليه لا أخاف عليه من السبع إذا جلس إليه واقترب منه كما أخاف من الحدث لأن أقصى ما يفعله السبع أن يأكله فيموت شهيدا وله أجر عند الله لكن الحدث الشيطان سيأكله بعد ذلك الشيطان سيأكله ينتقل من مصيبة إلى..ومن قتله العدو الإنسى مات شهيدا ومن قتله العدو الجنى مات طريدا هذا لا بد إخوتى الكرام من وعيه فإذا جلس إليه سبع يقول أخاف على الناس منه خوفى ليس كما لو جلس إليه حدث يفتنه ومعه شيطانان أو بضعة عشر شيطانا.(114/5)
ومن الآثار المنقولة فى ذلك ما نقل عن العبد الصالح معروف الكرخى معروف ابن فيروز الكرخى الذى أسلم هو وأبوه وأمه بسبب إسلامه رضي الله عنه وأرضاه وكان نصرانيا توفى سنة مائتين وقيل أربعين ومائتين علم الزهاد وبركة العصر كما نعته بذلك الذهبى فى السير فى الجزء التاسع صفحة تسع وثلاثين وثلاثمائة ويكفى فى بيان منزلته قول شيخ أهل السنة فيه هل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف وهى الخشية من الله عز وجل والعمل بالعلم هل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف يقول معروف الكرخى رضي الله عنه وأرضاه كانوا ينهون عن صحبة الأحداث أسلافنا الذين تلقينا عنهم العلم وهو فى القرن الثانى فينقل عن التابعين وأتباعهم ينهون عن صحبة الأحداث وفى مجموع الفتاوى فى الجزء الحادى عشر صفحة خمس وأربعين وخمسمائة نقل عن بعض التابعين ولم يسمه قال ما سقط عبد من عين الله إلا ابتلاه بصحبة الأحداث ومن أوال أئمتنا فى ذلك ما نقل عن سيد التابعين أبى محمد سعيد ابن المسيب رضي الله عنه وأرضاه توفى بعد سنة تسعين وقبل مائة رضي الله عنه وأرضاه اتفقوا على أن مرسلته أصح المراسيل ثقة إمام عبد صالح شيخ الإسلام انظروا ترجمته الطيبة فى السير فى الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائتين ومن مناقبه كان سيدنا عبد الله ابن عمر رضي الله عنه يحيل إليه ويعلل ذلك بعلة شرعية فانتبهوا لها ثبت هذا فى كتاب المعرفة والتاريخ للإمام الأسوى وطبقات ابن سعد والأثر فى الحلية قد كان ابن عمر رضي الله عنه إذا سئل شيئا فأشكل عليه يقول سلوا سعيدا فإنه قد جال فى الصالحين هذا يسجل وله صحبة طيبة لصحابة رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يقول هذا العبد الصالح كما فى ذم الهوى صفحة ثمانية بعد المائة والأثر فى مجموع الفتاوى فى المكان المتقدم من رأيتموه يحب النظر إلى الأمرد فاتهموه من رأيتموه يحب النظر يعنى يمعن النظر يتابع إذا نظر لا يفتر طرفه ويغمض عينيه من(114/6)
رأيتموه يحب النظر إلى الأمرد فاتهموه.
لذلك إخوتى الكرام: الذين يبتلون فى هذه الأيام فى المدارس وفى تعليم المردان من أولاد أهل الإسلام فلينبغى أن يتقى الإنسان ربه وأن يغض طرفه ويجب أن يسرح نظره إلى يعنى الأولاد يمينا وشمالا حقيقة ينبغى هذا أن يضبط وكم حصل من مشاكل وبلايا أحيانا داخل الفصل وأحيانا خارج الفصل من شذوذ بعض المدرسين ليس من النظر هذا النظر بينه وبين الله لا يعلمه إلا الله هو الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور لكن كم قبض على مدرس يخرجه يتمسح به إما فى آخر الفصل وإما فى أول الفصل يحتك به هذا قبض بكثرة وفصل أناس وسجن أناس وعوقب أناس وبعضهم بعد ذلك يطلب منه هذا حقيقة لا بد من ضبطه ينبغى دائما أن يوضع من يدرس جيلا يخافون الله الجليل ليس أشكالهم يعنى نسأل الله العافية إذن لا بد إخوتى الكرام من وعى هذا يتواصوا دائما فيما بينهم بالحق ويتواصوا بالصبر وإلا بعد ذلك يجلس يعنى مع فصل كله من المردان والفتنة بهم أشد من الفتنة بالنسوان طيب يا إخوتى كما أنه لا يجوز الإنسان أن يدرس للنسوان وأن يختلط بهم المردان لابد لهم من ضبط لابد يعنى من يدرس للضرورة ماذا نعمل مع أنه سيأتينا بعض سلفنا ممن هو أتقى لله منا بألف مرة كالإمام مالك سيأتينا وأحمد ابن صالح المصرى والإمام أحمد ما كان يسمحون أن يحضر فى حلقتهم وفى مجلسهم أمرد..(114/7)
أيضا لا بد من وعى هذا فلو ابتلى الإنسان لمصلحة شرعية لا بد من ضبط هذا بضابط شرعى ومع ذلك لا يصبح احتكاك دائما بين المدرس والطالب بسؤال خاص وكما يقال يضبط الأمر على أنه ضرورة شرعية تقدر بقدرها والإنسان يتقى ربه بعد ذلك من رأيتموه يحب النظر إلى الأمرد فاتهموه وكان هذا العبد الصالح أيضا يحذرنا من نظر خلات إلى الأمراء يقول لا تملؤا أعين الظلمة وأعوانهم إلا بإنكار من قلوبكم لكى لا تحبط أعمالكم من نظر إلى مسؤول فليكن النظر باستنكار وإلا سيحبط عمله عند العزيز القهار إن هذا متلبس بظلم وجور وبلايا ورزايا وأنت تنظر باستحسان يعنى النظر فكيف لو صار الملق والتعظيم التوبة إلى ربنا إنه أرحم..لا تملؤوا أعينكم من الظلمة وأعوانهم إلا بإنكار من قلوبكم لكى لا تحبط أعمالكم.
وتقدم معنا قول سيدنا سفيان النظر إليهم خطيئة مكتوبة إلى أمراء زمانه النظر إلى أمراء زمانه خطيئة مكتوبة فماذا نقول نحن نفوض أمرنا إلى ربنا إلى هذا قال سعيد ابن المسيب رضى الله عنه وأرضاه من رأيتموه ينظر إلى الأمرد فاتهموه ومنهم..دمشق ينقل هذا عن مشيخه شيوخ له يروى فى السنن الكبرى للإمام البيهقى فى الجزء..صفحة تسع وتسعين وصفحة ثمان بعد المائة عطاء الدمشقى اسمه..سىء الحفظ حديثه فى سنن أبى داود ورواه النسائى فى فضائل سيدنا على ومشار لكم فى التقريب فى سنة ست..ابن عطاء الدمشقى.(114/8)
طبت حياً وميتاً
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
طبت حياً وميتاً
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعا وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين. سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتى الكرام..
ما زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث النبوة فى بيان التى يعرف بها صدق النبى والرسول على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه، وقد قدمت الكلام على أن هذه الأمور كثيرة وفيرة، يمكن أن نجملها فى أربعة أمور نتحقق بها من صدق من يدعى أنه رسول على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
أول هذه الأمور: النظر إلى النبى عليه الصلاة والسلام فى نفسه خَلْقاً وخُلُقا.
وثانى هذه الأمور: النظر إلى دعوته ورسالته التى بعث بها ودعى إليها.
وثالث هذه الأمور: المعجزات والخوارق التى أيده الله بها.
ورابعها: النظر إلى حال أصحابه وأتباعه رضوان الله عليهم أجمعين.(115/1)
كنا إخوتى الكرام نتدارس الشق الأول من الأمر الأول ألا وهو النظر لخَلْقالنبى عليه الصلاة والسلام وقد قلت فيما مضى إن الله أعطى رسله وأنبياءه على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه، أعطاهم الكمال فى خَلْقهم وخُلُقهم، ففى خلقهم وخلقهم كمال من جلال وجمال كما تقدم معنا، وأخذنا الشق الأول لنتدارسه وكان فى ظنى أن نجمل الكلام عليه فى موعظة أو موعظتين، لكن الدروس فيما يبدو ويظهر زادت على خمسة دروس فى الشق الأول فى بيان ما يتعلق بخَلْق النبى عليه الصلاة والسلام وجهه دلالة ذلك على أنه رسول الله حقاً وصدقاً على نبينا صلوات الله وسلامه، وهذ عليه الصلاة والسلام هـ الدروس أقول وإن طالت فى هذا الجانب فهى فى الحقيقة قطرة من البحر الذى عليه نبينا عليه الصلاة والسلام فى خَلْقه من الكمال من جلال وجمال، من ملاحة وبهاء على نبينا صلوات الله وسلامه، وإذا فاتنا أن نصحب النبى صلى الله عليه وسلم وأن نمتع العينين بالنظر إلى نور وجهه الكريم الشريف عليه صلوات الله وسلامه وفداه أنفسنا وآباءنا وأمهاتنا فلا أقل من أن نطيل الحديث بعض الشىء فى وصف بدنه وخَلْقه وجسمه الشريف على نبينا صلوات الله وسلامه.(115/2)
إخوتى الكرام: كما قدمت أعطى الله أنبياءه الكمال فى خَلْقهم فجعل خَلْقهم يتصف بالجمال والجلال كما تقدم معنا فعوارض البشر التى يصاب بها كثيراً من البشر بوصفهم بشرا، وبوصفهم من بنى أدم، هذا العوارض إذا كان فيها ما يشير إلى نقص قفد صان الله الأنبياء الكرام على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عنها، فالتثائب من العوارص البشرية التى يصاب بها بنو الإنسان لكن التثلئب يصان عنه الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام لا يمكن لنبى أن يتثائب هذا يتنافى مع الجمال والجلال، مع الملاحة والبهاء، الذى يكون عليه خَلْق النبى عليه الصلاة والسلام التاثائب من الشيطان كما سيأتينا ويدل على فتور وضعف عزيمة فى الإنسان فكيف يتصف به نبينا عليه الصلاة والسلام.(115/3)
وقد ثبت فى كتاب التاريخ لشيخ المحدثين الإمام البخارى والأثر رواه ابن سعد فى الطبقات وابن أبى شيبة فى المصنف عن يزيد الأصم، ويزيد المعتد فى أمره أنه من أئمة التابعين الكبار الأبرار وهو يزيد بن الأصم أبو عوف البكائى وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن سائر الصحابة الكرام الطيبين يقال له رؤية للنبى عليه الصلاة والسلام لكن لا يثبت ذلك كما قال الحافظ ابن حجر نعم هو من أئمة التابعين الأبرار وميمونة رضي الله عنها أم المؤمنين تكون خالة ليزيد بن الأصم رضي الله عنه وأرضاه وتوفى سنة 103 للهجرة وحجيثه مخرج فى صحيح مسلم والسنن الأربعة وروى عنه البخارى فى الأدب المفرد، وهذا الأثر كما قلت فى تاريخ الإمام البخارى وطبقات ابن سعد ومصنف ابن أبى شيبة عن يزيد الأصم رضي الله عنه وأرضاه قال: ما تثائب النبى صلى الله عليه وسلم قط.،(115/4)
نبينا لم يتثائب عليه صلوات الله وسلامه، والأثر إخوتى الكرام مرسل وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه يحكى هذا الوصف عن نبينا عليه الصلاة والسلام لكن بما أنه لم يدركه فإذا هو له حكم الإرسال وهذا المرسل روى ما يشهد له أيضا من مرسل أخر رواه ابن أبى شيبة أيضا فى المصنف والإمام الخطابى كما قال الحافظ فى الفتح فى الجزء العاشر صفحة 613 والأثر الثانى مروى عن مسلمة بن عبد الملك الأمير وقال الحافظ فى ترجمته صدوق عندما ذكر هذا الأثر عنه فى الفتح قال إنه صدوق وحديثه مخرج فى سنن أبى داود يقول هذا العبد الصالح الأمير مسلمة بن عبد الملك الأمير يقول أيضا: ما تثائب نبى قط على وجه العموم، وأثر يزيد بن الأصم ما تثائب النبى صلى الله عليه وسلم قط، وهنا ما تثائب نبى قط، هناك يخبر عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه لم يجر منه تثائب مطقلاً منذ ولادته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام هذا يتنافى لو تثائب مع الكمال الخَلْقى الذى جعل الله عليه أنبياءه ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، ما تثائب النبى قط، ما تثائب نبى قط، وهناك على وجه العموم فهذه الصفة التى تكون لنبينا الميمون عليه الصلاة والسلام هى ثابتة أيضا لجميع أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، فما تثائب أحد منهم لأن هذا يتنافى مع الكمال مع الجمال والجلال الذى جعل الله عليه أنبياءه ورسله عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
إخوتى الكرام: زلا غرو فى ذلك ولا عجب فالعطاس من الله، والله يحبه، والتثائب من الشيطان والله يكرهه، وإذا كان كذلك فكيف يتصف الأنبياء على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه بخصلة هى من فعل الشيطان ووسوسته وتحريكه وهو المتسبب فيها لا يمكن أن يكون هذا أبدا.(115/5)
وقد ثبت فى المسند والحديث فى صحيح البخارى ورواه البخارى فى الأدب المفرد أيضا وهو فى سنن الترمذى وأبى داود وصحيح ابن خزيمة، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العطاس ويكره التثائب، فإذا عطس أحدكم فحمد الله فحق على من سمعه أن يشمته، وأما التثائب فإنه من الشيطان فإذا جاء ذلك أحدكم، أى التثائب فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا تثائب وقال: ها، ضحك الشيطان منه.
والحديث رواه الترمذى أيضا والحاكم وابن خزيمة فى صحيحه والحديث صحيح عن أبى هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يحب العطاس ويكره التثائب، العطاس من الله والتثائب من الشيطان.
إذاً لا يمكن لنبى أن يتثائب على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.(115/6)
إخوتى الكرام: تقدم معنا فى الموعظة الماضية أن هذا الكمال الخَلْقى الذى جعل الله عليه أنبياءه ورسله عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، يصاحبهم فى الحياة وبعد الممات، فلا تتغير أبدانهم ولا يعتريهم ما يعترى البشر من تحلل وعفونات ونتن وغير ذلك أبدانهم طرية تثنى وهم فى قبورهم أحياء، حياة أكمل من حياة الشهداء بكثير هى حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا رب البرية وهم فى قبورهم كما تقدم معنا يصلون ويعبدون الحى القيوم، وتقدم معنا أن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء وأن أعمالنا تعرض على نبينا عليه صلوات الله وسلامه فما كان من خير حمد الله عليه وما كان من شر وسوء استفغر لنا نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا إخوتى الكرام تقدم تقريره وكان المفروض بعد أن تدارسنا هذا أن ننتقل إلى الشق الثانى من الأمر الأول من الأمور التى يعرف بها صدق النبى والرسول على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه، ألا وهو خُلُقُ أنبياء الله ورسله عليهم جميعا صلوات الله وسلامه، لكن أردت أن أجعل هذه الموعظة ختام الكرم على خَلْق النبى عليه الصلاة والسلام، وسيدور هذا حول أمرين اثنين.
الأمر الأول: حول تنبه على أمر يتعلق بما مضى حول خَلْق نبينا عليه الصلاة والسلام.
والأمر الثانى: عظم المصيبة على هذه الأمة بفقد خَلْق النبى عليه الصلاة والسلام وبدنه عندما انتقل إلى جوار ربه على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه.(115/7)
إخوتى الكرام: أما الأمر الأول الذى سأذكره فى هذه الليلة تقدم معنا أن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء وذكرت الأحاديث التى تقرر هذا وتدل عليه، وأن النبياء أحياء فى قبورهم يصلون، هذا الحديث جرى بينى وبين بعض ما أعلم ما أعبر عنه بعض الشيوخ أو بعض الضآلين جرى بينى وبينه كلام حول هذا الحديث وهو فى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، فلما ذكرت له هذا الحديث وهو حديث أوس بن أوس الذى تقدم معنا، إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء، قال لى: الحديث ضعيف قلت: صححه أئمتنا ولا نزاع بينهم فى ذلك، قال: من صححه؟ قلت شيخ الإسلام الإمام النووى من جملة من صححه، قال: النووى متمذهب لا يؤخذ بكلامه، قلت فما علة الحديث عندك؟ حتى ــ من يدعى فى هذه الأيام أنه على السنة وأنه صاحب حديث وهو فى الحقيقة على بدعة وصاحب حدث، وكان أئمتنا الكرام يقولون كما هو قول وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعى عليهم جميعاً رحمة الله، يقول: من طلب الحديث كما هو نفعه الله، ومن طلب الحديث ليؤيد به رأيه فهو مبتدع........ يطلب الحديث لكن فى ذهنه هوى ورأى وأمر من الأمور يريد أن يتصيد من السنة ما يقرره وبعد ذلك ما يخالفه يرده، ليست هكذا دراسة ومدارسة حديث نبينا عليه صلوات الله وسلامه.،(115/8)
إخوتى الكرام: هذا الحديث كما قلت، حديث صحيح ويدل على هذا الأمر ألا وهو أن أجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ولا تبلى على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وهذا الذى يقول هذا الكلام لا يوجد فى هذه الحياة من يقدر الأمور حق قدرها ويحاسب كل إنسان على كلامه لضربت رقبته وإلقى بين رجليه وعلق بعد ذلك مصلوباً أمام الناس عندما يقول هذا الكلام الذى فيه طعن بنبينا عليه الصلاة والسلام ألا وهو أن السادة الأنبياء تبلى كغيرهم، لا يا عبد الله، وقد جرى من بعض أئمتنا الكرام فى القرن الأول فى العصر الأول فى القرن الثانى للهجرة ألا وهو وكيع الذى ذكرته الآن وهو شيخ الإسلام توفى سنة 197 للهجرة وكما قلت: هو شيخ الإمام الشافعى وهو من الأعلام من أئمة الهدى جرت منه ذلة، سأذكرها لكم، وهذه الذلة رواها لكن روى الحديث ضعيفا يشير إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته إنتفخ بطنه وانثنت خنصراه، خنصر الإنسان وهما أصبعان معروفان، يقول: إنثنى خنصراه وصار فى بطنه شىء من الإنتفاخ فأفتى شيخ أهل مكة فى ذلك الوقت الذى تقدم معنا ذكره فى الموعظة الماضية عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد وهو فى الإسناد حياتى خير لكم ومماتى خير لكم فلا تغفلوا أفتى بأن تضرب رقبة وكيع بن الجراح وأخذ وحبس وقد أصر الأمير على ضرب رقبته من أجل رواية رواها وما قال هذا رأى، لماذا رواها؟ حتى تدخل سفيان بن عيينة إمام الحرم المكى لهذا الأمير وتوسط فى إخراجه وقال: هذا الحديث رويناه وما روى لى سفيان بن عيينة، إنما قال هذا من أجل تخليص هذا العبد الصالح من أجل ذلة ذلها فى كلامه عندما روى هذه الرواية التى هى ليست ثابتة، فاستمعوا إخوتى الكرام إلى هذا الأمر وقارنوا بين ما يقع من هذا الإمام فى ذلك العصر وبينما يقع فى هذا العصر، إمام من شيوخ أهل السنة الكرم روى عسى أن يمكن أن يؤل إنتفاخ البطن من مرض يمكن أن يقع والإنسان إذا مرض يعنى(115/9)
أصابعه تذبل وإذا خرجة روح الإنسان من بدنه أصابعه تميل يعنى فى هذا منقصة، لكن لما كان ظاهر الخبر يشعر بأن النبى عليه الصلاة والسلام تغير بعد موته عما كان عليه فى حياته قال ينتقص النبى عليه الصلاة والسلام فلاجزار له إلا ضرب الرقبة، إستمع إلى ما يقوله الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء فى الجزء التاسع صفحة 159، فما بعدها محنة وكيع، يقول: تورط فيها ولم يرد إلا خيرا، ولكن فاتته سكتتة، يعنى ليته سكت، وليس كل ما ينقل يروى، إذا لم يكن ثابتا وفيه غب ومنقصة من منصب النبى عليه الصلاة والسلام فاسكت عنه.. سبحان الله نحن الآن نروى نرد ما هو ثابت، كما تقدم معنا حديث حياتى خير لكم ومماتى خير لكم، ماذا أقول؟ جاء بعض المخرفين فى هذا الوقت وقال: إنه حديث موضوع أما تتقى الله موضوع أما تتقى الله.(115/10)
فاستمع هنا، يقول: ولم يرد إلا خيرا ولكن فاتته سكتة، أى ما لزم الصمت والسكوت، وقد قال البنى عليه الصلاة والسلام كفى بالمرء غثماً أن يحدث بكل ماسمع، وهذا أثر مروى عن نبينا عليه الصلاة والسلام فى مقدمة صحيح مسلم ورواه أبو داود فى سننه، فليتقى عبد ربه ولا يخافن إلا ربه، قال على بن خشرم، قال حدثنا وكيع عن اسماعيل بن أبى خالد عن عبد الله البهى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم بعدوفاته فأكب عليه فقبله وقال بأبى وأمى يا ما أطيب حياتك وميتتك،.(115/11)
ثم قال البهى: وكان ترك يوماً وليلة، بل ترك يومين وليلتين عليه صلوات الله وسلامه لإنشغال الأمة بأمر الخلافة ومن كان لأمر المسلمين حتى ربى بطنه وانثنت خنصراه، صار فى بطنه انتفاخ وخنصراه مالتان نحو الأرض، قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة اجتمعت قريش وأرادوا صلب وكيع ونصبوا خشبة لصلبه وجاء سفيان بن عيينة فقال لهم: الله الله هذا فقيه أهل العراق وابن فقيههم وهذا حديث معروف، قال سفيان: ولم أكن سمعته إلا أنى أردت تخليص وكيع، كأنه يقول: هذا منقول، وهذا إذا لم يثبت فالجناية على من رواه يعنى لا دخل لوكيع فيه، قال على بن خشرم: سمعت الحديث من وكيع بعد ما أرادوا صلبه فتعجبت من إثارته، وأخبرت أن وكيعاً احتج فقال: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر قالوا: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت، يعنى وكيع ما كفى أنه روى الأثر وليس بصحيح كما سيأتينا كلام الذهبى، عندما جاءوا وقالوا: كيف تروى هذا؟، قال: لا إشكال النبى عليه الصلاة والسلام مات، لكن بعض الصحابة عندما شكوا فى موته منهم عمر رضي الله عنهم أجمعين، لهول المصيبة وشدة الواقع، أراد الله أن يريهم آية فى بدن النبى عليه الصلاة والسلام بأنه مات فانثنت خنصراه، يعنى ذبل وظهرت عليه علامة الموت، رواه أحمد بن محمد بن على بن رزين، قال: حدثنا على بن خشرم وروى الحديث عن وكيع قتيبة بن سعيد، يقول الإمام الذهبى: فهذه ذلة عالم فمل لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، كدت نفسه أن تذهب خلطا والقائمون عليه معذرون بل مأجرون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غضبا ما لمنصب النبوة، وهو فى باب الرأى يوهم ذلك لكن إذا تأملته فلا بأس إن شاء الله بذلك، فإن الحى قد يربوا جوفه يعنى ينتفخ يعنى يصاب بمرض والنبى عليه الصلاة والسلام كان يصاب بالأعراض البشرية التى تزيد فى أجره ورفعة قدره عند الله جل(115/12)
وعلا من مرض وهذا يعنى لرفع درجاته وليس فى ذلك منقصة وليس هذا من الشيطان فإن الحى قد يربوا جوفه وتسترخى مفاصله، وذلك تفرع من الأمراض يعنى نوع من المرض وأشد الناس بلاء الأنبياء، وهذا قطعة من حديث صحيح أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان فى دينه صلابة إشتد بلاءه وإن كان فى دينه رقة أبتلى على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئة، رواه الإمام الترمذى ورواه ابن ماجة وأحمد فى المسند والدارمى وابن حبان، صححه ابن حبان وعدد من أئمتنا الكرام وهكذا الإمام الترمذى.
وإن من المحذور أن تجوز عليه يعنى على النبى عليه الصلاة والسلام أن تجوز عليه تغير سائر موتى الأدمين ورائحتهم، هذا محظوريعنى تقول يتغير كما يتغير الأدميون ويمكن كما يمكنون، هذا هو المحظور، والمحظور أن تجوز أكل الأرض لأجسادهم، هذا محظور، ولو قلت نضرب رقبتك، فهذه منقصة فى حق النبى عليه الصلاة والسلام وأنت تنتقصه بذلك والنبى عليه الصلاة والسلام مفارق لسائر أمتة فى ذلك فلا تأكل الأرض بدنه ولا يتغير ولا يمكن عليه صلوات الله وسلامه.(115/13)
قال الذهبى: فلا يبلى ولا تأكل الأرض جسده ولا يتغير ريحه بل هو الآن وما زال أطيب ريحاً من المسك وهو حى فى لحده حياة مثله فى البرزخ، يعنى حياة الأنبياء الذين هم يحيون فى البرزخ حياة اكمل من حياة الشهداء التى هى أكمل من حياة سائر النبيين وحياتهم بلا ريب أتم وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنص الكتاب أحياء عند ربهم يرزقون، وهؤلاء حياتهم الآن التى فى عالم البرزخ حق ولكن ليست هى حياة الدنيا من كل وجه ولا حياة أهل الجنة من كل وجه يعنى ليست حياة الأنبياء فى البرزخ كحياة أهل الدنيا فلا يأكلون ولا يشربون وليست كحياة أهل الجنة من كل وجه، إن هناك أيضا أكل وشرب ويعنى إتصال بما أحل الله هذا يمنع منه الأنبياء لكن كما قلت أبدانهم تبقى ويعبدون الله وهذه أشرف حياة تكون للإنسان ولهم شبه بحال أهل الكهف أو شبه بحال أهل الكهف، ومن ذلك إجتماع أدم وموسى لما احتج عليه السلام وحجه أدم بالعلم السابق كان اجتماعهما حقا، وهما فى عالم البرزخ وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أخبر أن رأى فى السماوات أدم وموسى وإبراهيم وإدريس وعيسى وسلم عليهم، وطالت محاورته مع موسى هذا كله حق فى حديث الإسراء الطويل، والذى منهم لم يذق الموت بعد هو عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد تبرهن لك ان نبينا عليه الصلاة والسلام ما زال طيباً مطيبا وان الأرض محرم ألك أجساد الأنبياء وهذا شىء سبيله التوقيف وما عنف النبى صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لما قالوا له بلا علم: وكيف تعرض صلاتك عليك وقد أرمت، يعنى بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء وتقدم معنا فى الموعظة الماضية، اقول، وهذا بحث معترض فى الإعتذار عن إمام من أئمة المسلمين وقد قام فى الدفع عنه مثل إمام الحجاز، سفيان بن عيينة، ولولا أن هذه الواقعة فى عدة كتب فى مثل تاريخ الحافظ ابن عساكر وفى كامل الحافظ ابن عدى لعرضت عنها جملة، يعنى للألا(115/14)
يكون حول هذا الإمام يعنى شىء من الغبش والتشويش، لكن هذه مسطورة، ومزبورة فى الكتب التى ترجمته، فأنا أريد أن أحمل كلامه على محمل حسن وأنا أقول هذه ذلة ولا داعى بعد ذلك يعنى أن ندلل وأن نتهجن، يقول: ففيها عبرة حتى قال الحافظ يعقوب الفسوى فى تاريخه وفى هذه السنة حدث وكيع بمكة عن ابن أبى خالد عن البهى فذكر الحديث ثم قال: فرفع ذلك إلى العثمانى يعنى إلى أمير مكة الحاكم فحبسه وعزم على قتله ونصبت خشبة خارج الحرم وبلغ وكيع وهو محبوس قال الحارس بن صديق فدخلت عليه لما بلغنى يعنى الخبر، وقد سبق إليه الخبر، قال: وكان بينه وبين ابن عيينة يوم إذا متباعد، يعنى يوجد شىء من الإفتراق والبعد، فقال لى: ما أرانا إلا قد اضطررنا إلى هذا الرجل، من الذى يقول؟ وكيع يقول: نحن الآن بحاجة إليه وهذا شيخ الحرم المكى واحتجنا إليه فقلت: دع هذا عنك فإن لم يدرك قتلت، يعنى ليس الآن تقول نحن ما ورانا إلا محتاجين دعك الآن من هذا الكلام ويعنى التسويف، أسرع بالإرسال إلى ابن عيينة ليتدارك الأمر، فأرسل إلى سفيان وفزع إليه، فدخل سفيان على العثمانى، يعنى متولى مكة فكلمه فيه والعثمانى يأبى عليه، فقال له سفيان " إنى لك ناصح، هذا رجل من أهل العلم وله عشيرة وولده بباب أمير المؤمنين، يعنى الخليفة فى بغداد، فتشخص لمناظرتهم يعنى اذهب إلى هناك وتفاهم معهم أو إذا قتلته سيذهب بك إلى هناك، قال: فعمل فيه كلام سفيان، أثر فى الأمير، فأمر بإطلاقه، فرجعت إلى وكيع فأخبرته فركب حماراً وحملنا متاعه وسافر فدخلت على العثمانى من الغد فقلت: الحمد لله الذى لم تبتلى بهذا الرجل، الحمد لله الذى يعنى ما جعلك تبتلى بهذا الرجل وسلمك الله، فقال: يا حارث ما ندمت على شىء ندامتى على تخليته، خطر ببالى هذه الليلة حديث جابر بن عبد الله أكرم بهذا الأمير، حولت أبى والشهداء بعد ستة وأربعين سنة فوجدناهم رطابا يثنون لم يتغير منهم شىء، أمير مكة يقول: أنا الآن(115/15)
بعد أن أطلقته ندمت يعنى هذا لا زال يستحق ضرب الرقبة، يقول: أنا لما أطلقته رجعت إلى بيتى فى الليل فتذكرت حديث جابر، وأذكر لكم حديث جابر فى أنه عندما ذهب ليخرج والده عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهم أجمعين، وهو من شهداء أحد أن يغير قبره عندما جاء السيل وجرفهم، جاء بعد ست وأربعين سنة، هذه حادثة ثانية من تغيير عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر، وسبقتها حادثة سأذكرها إن شاء الله، بعد ست وأربعين سنة وجده لوالده ولعمرو بن الجموح أيضا، وجد هذين الصحابين الجليلين عندما نبش السيل قبريهما رطابا يتثنون كأنهم وضعوا هذه الساعة، وكان عبد الله والد جابر قد اصيب فى وجهه فجرح فلما استشهد وضع اصبعه على وجهه يقول فلما حولنا قبره ويعنى فى القبر بعد أن جرفهخ السيل رفعت يده فانبعث الدم منها بدأ يسيل، بعد ست وأربعين سنة، فأعدت اصبعه إلى مكان الجرح فو قف الدم، فالأمير يقول: إنا تذكرت هذا الحديث، إذا كان الشهداء ما ثنيت أجسامهم ولا بليت، فكيف بخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، يقول: أنا ندمت على تخليتى وكيع وليتنى ضربت رقبته، وهو شيخ المسلمين وما قال: إن الأرض أكلت أبدانهم ولا أنثنوا ولا تغيروا إنما قال: انثنت خنصراه، بعد ان أخر دفنه، وهذا من ذبول الموت لا بد منه، يعنى الإنسان عندما يكون حيا فيه هذا النشاط ويحرك اصابعه إذا نام يذبل، وإذا مات يذبل لكن بدون عفونة وتغير ونتن وثناء جسم، هذا كله ما حصل على عليهم، مع ذلك يقول الأمير: أنا ندمت على تخليتى هذا، ليتنى ضريت رقبته تعظيماً لرسول عليه الصلاة والسلام.
إخوتى الكرام قصة عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر رضي الله عنهم أجمعين ثابتة فى صحيح البخارى وهذا فى التغيير الأول ونقلهم فى المرة الأولى، وقد أشار إليه البخارى فى كتاب الجنائز باب: هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟(115/16)
وفى الحديث أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين أخرج والده بعد دفنه بستة أشهر، لكن السبب فى الإخراج هنا؟ أنه دفن مع عمرو بن الجموح وكان صاحبا لعبد الله والد جابر، وكان عمرو بن الجموح أيضا زوجاً لإخت عبد الله والد جابر، فهو زوجة عمت جابر بن عبد الله، دفن فى قبر واحد والنبى عليه الصلاة والسلام قال: كانا متأخيين متصاحبين فى الحياة فدفنوهما فى قبر واحد، عمرو بن الجموح وعبد الله والد جابر، بعد ستة أشهر يقول جابر: ما طابت نفسى أن يكون والدى مع أخر فى قبر واحد فأرت أن أكرم والدى، ليكون كل واحد فى قبر كما أن الإنسان فى الحياة يستريح إذا كان فى بيت بمفرده وما يضايقه أحد فى حجرته، يريد أن يجعل والده بعد الممات كذلك فجاء وفتح عن القبر، فأخرج والده ودفنه بجوار قبر عمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين، هذا بعد ستة أشهر وألأثر فى صحيح البخارى، يقول: فاستخرجته بعد ستة أشهر كيوم دفنته، ما تغير منه شىء رضي الله عنه وأرضاه، والإستخراج الثانى كان بعد ست وأربعين سنة، جاء السيل فخرق القبرين على بعضهما وهدم القبرين، فصار كأنهما قبر واحد، فجاء الصحابة غلى جابر وقالوا: أدرك والدك فقد جرفه السيل، الأثر فى الموطأ، ورواه الحاكم فى المستدرك والطبرانى فى معجمه الكبير ورواه ابن سعد فى الطبقات وإسناد الأثر كما قال الحافظ صحيح رجاله ثقات، يقول وبوب عليه البخارى فى كتاب الجهاد: باب الدفن فى قبر واحد للضرورة، وفيه يقول جابر بعد ستٍ وأربعين سنة: فأخرجتهما يعنى والده وعمرو بن الجموح لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس وفى رواية ابن إسحاق فى المغازى فأخرجناهما يتثنيان تثنى كأنهما دفنا بالأمس، إذا هذا حديث فى حق الصحابة الكرام ما تغيرت أبدانهم بعد ست وأربعين سنة فى حر الحجاز، فكيف إذاً حال النبى عليه الصلاة والسلام، إذاً وكيع كأنه بهذه الرواية عمل جناية لا بد من ضرب الرقبة لاإله إلا الله، ووالد جابر وهو عبد الله(115/17)
رضي الله عنه وأرضاه له منزلة عالية عند الله جل وعلا كما أخبر عن ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، ففى المسند والصحيحين وسنن النسائى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما قُتل والدى يوم أُحد ومثل المشركون به، جئت فكشفت عن وجهه وقبلته وبدأت أبكى، فجعل الصحابة ينهونى عن البكاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهانى، ثم جاءت عمتى وهى زوجة عمرو بن الجموح رضي الله عنهم أجمعين، فبدأت تبكى، فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم: تبكيه أو لا تبكيه..وفى روايةٍ تبكين أو لا تبكين، وفى روايةٍ لا تبكيه..فوالذى نفسى بيده ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها رفعتموه، يعنى حتى رُفع ووُرى رضي الله عنه وأرضاه فى ترابه، الملائكة تظله بأجنحتها، وقد كلم الحق جل وعلا والد جابر رضي الله عنهم أجمعين، كلمه كفاحاً بعد إستشهاده أى مشافهة من غير حجاب ولا حاجز.
ثبت الحديث بذلك فى سنن الترمذى وقال حسن غريب ورواه الإمام ابن ماجه فى سننه والحاكم فى مستدركه وصححه ووافقه عليه الذهبى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ألا أُبشرك بما لقى الله به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال إن الله لم يكلم أحداً إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحاً، فقال: عبدى تمنى على أعطك، ماذا تريد؟ تمنى على أُعطك، فقال: ربى أُريد أن تعيدنى إلى الحياة الدنيا لأقتل فيك ثانيةُ، قال: قد سبق القول منى بأنهم إليها لا يرجعون، قلت: فأخبر من ورائى، فأنزل الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} .(115/18)
وكان هذا العبد الصالح أعنى عبد الله والد جابر هو أول مقتول فى موقعة أُحد وهو الذى تفرس بذلك كما فى مسند الإمام أحمد وغيره قال لولده لولا أننى سأخلف تسعة بنات بعدى لقدمتك بين يدى لتقتل وما أحد أخلفه أعز على منك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام أنت بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، أما هو أعز الخلق عليه صلوات الله وسلامه فأريد أن تبقى من أجل البنات من أجل أخواتك وما أرانى إلا أول مقتول، أنا أتوقع أن من سيقتل فى هذه الموقعة هو أنا وكان كذلك رضي الله عنه وأرضاه، فالأمير أمير مكة، لما تذكر قصة هؤلاء فى الليلة ندم على تخلية وكيع، ثم قال الفسوى: فسمعت سعيد بن منصور يقول: كنا بالمدينة فكتب أهل مكة إلى أهل المدينة بالذى كان من وكيع، لما خرج وكيع من مكة ندم أهل مكة على تخلية وكيع، فكتبوا إلى أهل المدينة، يقول: تداركوا الأمر إذا جاءكم أقتلوه واصلبوه، وقالوا: إذا قدم عليكم فلا تتكلوا على الوالى وارجموه حتى تقتلوه، قال: فعرضوا علىّ ذلك وبلغنا الذى هم عليه فبعثنا بريدا إلى وكيع ألا يأتى المدينة، ويمضى من طريق الربدة، وكان قد جاوز مفرق الطريقين، فلما أتاه البريد رده، أى من الذهاب إلى المدينة ومضى إلى الكوفة، يقول: ونقل الحافظ ابن عدى فى ترجمة عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد، أنه هو الذى أفتى بمكة بقتل وكيع، وقال ابن عدى: أخبرنا محمد بن عيسى المروزى فيما كتب إلىّ قال: حدثنا أبى عيسى بن محمد قال: حدثنا العباس بن مصعب قال حدثنا قتبة قال حدثنا وكيع، قال حدثنا اسماعيل بن أبى خالد فساق الحديث ثم قال، قال قتبة حدث وكيع بمكة بهذا سنة حج الرشيد، هارون الرشيد، فقدموه إليه فدعى الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد بن أبى رواد، فأما عبد المجيد فإنه قال: يجب أن يقتل فإنه لم يروى هذا إلا من فى قلبه غش للنبى صلى الله عليه وسلم، وقال سفيان: لا قتل عليه رجل سمع حديثا فأرواه يعنى فنقله ورواه والمدينة(115/19)
شديدة الحر توفى النبى صلى الله عليه وسلم فترك ليلتين لأن القوم فى إصلاح أمر الأمة واختلفت قريش والأنصار فمن ذلك تغير أى التغير الطبيعى الذى إنثناءه كما قلت الخنصرين، قال قتبة: فكان وكيع إذا ذكر فعل عبد المجيد، يعنى أنه أفتى بقتله وضرب رقبته قال: ذاك جاهل سمع حديثاً لم يعرف وجهه فتكلم بماتكلم، يقول: أنا ما أردت إنتقاص النبى عليه الصلاة والسلام، وليس فى قلبى غش إنما هذه كالمرض الذى يصاب به الإنسان بطن صار شىء من الإنتفاخ من حر الحجاز وخنصران إنثنتى، لا أقول تعفن ولا تغير ولا بلى، قلت: إنتبه لكلام الذهبى، حكى كلام وكيع فى عبد المجيد وأن عبد المجيد جاهل كيف يقول من يقول هذا فى قلبه غش على النبى عليه الصلاة والسلام، قلت: فرضنا أنه ما فهم توجيه الحديث على متزعم، مافهم أن مرادك مما ذكرته من أثر أن هذا تغير طبيعى كالمرض، أفما لك عقل وورع أنت، إفرض أن عبد المجيد ما فهم مرادك أفمالك عقل وورع أنت؟ أما سمعت قول الإمام على حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، والأثر تابت عن على فى صحيح البخارى، أما سمعت فى الحديث ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم غلا كان فتنة لبعضهم، ثم إن وكيعاً بعدها تجاسف وحج وأدركه الأجل بسيد بليدة فى نصف طريق مكة من الكوفة ولكن لو دخل مكة هل سيترك أم لا؟ العلم عند الله، يعنى تجاسف مع ذلك أراد أن يحج ثانية لكنه توفى فى منتصف الطريق ولم يدخل مكة ولعل الله أراد به خيرا للألا يقال: قتل من أجل غش فى قلبه نحو النبى عليه الصلاة والسلام وهو برىء من ذلك.(115/20)
إخوتى الكرام: هذا الأثر وكما قلت ما جرى من وكيع ذلة والأثر لا يثبت كما تقدم معنا، ضعيف ومنقطع، ولكن لا نشنع عليه بذلك إنما لنعلم أن الذى يقول إن بدن النبى عليه الصلاة والسلام ينتن ويبلى فى قبره بعد موته ينبغى أن تضرب رقبته بالإتفاق، إذا كان هذا روى أثراً يقول: هذا ليس فيه إشارة إلى بلى جسده ولا إلى تعفن بدنه، إنما هذا كالمرض الذى يصيب الإنسان عند الموت حصل إنتفاخ من شدة الموت وسكراته وانثناء الخنصر عندما مات عليه الصلاة والسلام.(115/21)
الإمام الذهبى تعرض إلأى هذا أيضاً فى ميزان الإعتدال عند ترجمة عبد المجيد بن أبى رواد، يقول هنا: ونقم على عبد المجيد أنه أفتى الرشيد بقتل وكيع والحديث حدثناه قتبة، قال: حدثنا وكيع عن اسماعيل بن أبى خالد عن عبد الله البهى، وتقدم معنا، قال قتيبة حدث به وكيع بمكة وكان سنة حج فيها الرشيد، فقدموه إليه فدعى الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد فقالا يجب أن يقتل، وعبد المجيد فقال يعنى عبد المجيد قال: يجب أن يقتل فإنه لم يروى هذا إلا وفى قلبه غش للنبى صلى الله عليه وسلم، فسأل الرشيد سفيان فقال: لايجب عليه قتل رجل سمع شيئاً فرواه والمدينة شديدة الحر، توفى النبى عليه الصلاة والسلام يوم الإثنين فترك إلى ليلة الأربعاء، قلت: النبى صلى الله عليه وسلم سيد البشر وهو بشر يأكل ويشرب وينام ويقضى حاجته ويمرض ويتداوى فهو فى هذا كسائرالمؤمنين عليه صلوات الله وسلامه، يعنى هذه أعراض بشرية تعتريه كما يعترى غيره من أكل من شرب من قضاء حاجة من نوم، فلما مات بأبى هو وأمى صلى الله عليه وسلم عمل به يعمل بالبشر من الغسل والتنظيف والكفن واللحد والدفن، إنتبه لكن ما زال طيباً مطيباً حياً وميتاً، وارتخاء أصابعه المقدسة وانثناءها وربو بطنه ليس معنا نص على انتفاءه والحى قد يحصل له ريح وينتفخ منه جوفه يعنى غازات ريح يعنى غازات تنتفخ منها الجوف، فلا يعد هذا إن كان قد وقع عيبا، لكن الأثر كما تقدم معنا لا يثبت وإنما معنا نص على أنه لا يبلى وأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ويقع هذا لبعض الشهداء رضي الله عنهم أما من روى حديث عبد الله البهى ليغض به من منصب النبى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا زنديق بل لو روى الشخص حديثا، إن النبى صلى الله عليه وسلم سحر وحاول بذلك تنقصا كفر وتزندق، يعنى إذا روى حديث سحر النبى عليه الصلاة والسلام وقال: بشر ناقص يمتهن، هذه منقصة فى حقه يقصد تحقير النبى(115/22)
عليه الصلاة والسلام فقد كفر وكُفِرَ وتزندق، وكذا لو روى حديثا أنه سلم من اثنتين فى صلاته وعندما أقصرت الصلاة أم نسيت، وقال: ما درى كم صلى يقصد بقوله شينه ونحو ذلك كفر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فالغلو والإطراء منهى عنه والأدب والتوقير واجب، فإذا اشتبه الإطراء بالتوقير توقف العالم وتورع وسأل من هو أعلم منه حتى يتبين له الحق فيقول به وإلا فالسكوت واسع ويكفيه التوقير المنصوص عليه فى أحاديث لا تحصى وكذا يكفيه مجانبة الغلو الذى ارتكبه النصارى فى عيسى ما رضوا له بالنبوة حتى رفوعوه إلى الإلاهية وإلى الوالدية وانتهكوا رتبة الربوبية الصمدية فضلوا وخسروا، فإن لعل الوالدية هنا غلط لعله الولدية، إلى ألإلهية وإلى الولدية، يعنى إلى أنه ولد لله جل وعلا، أما الوالدية ما يظهر لها وجه والعلم عند الله، أما هم كونهم يقولون له أبوأو كذا ليس فى هذه منقصة إنما إلى الولدية يعنى رفعوه إلى الإلهية وإلى يقصد الولدية أنه ولد لله، أما الوالدية لا تصلح، على كل حال وانتهكوا رتبةالربوبية الصمدية فضلوا وخسروا، فإن إطراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدى إلى إساءة الأدب على الرب، نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى وأن يحفظ علينا حبنا للنبى صلى الله عليه وسلم كما يرضى.
إخوتى الكرام: للحادثة أردت أن أذكرها لتكون لنا عبرة ولنعلم بعد ذلك الذين يدعون فى هذه الأيام انه على سنة النبى عليه الصلاة والسلام وينفون سنته ويردون ما صح من حديثه بما لا يند له وهذا حديث موضوع وذاك حديث باطل وذاك صححه النووى مخرف وهذا متمذهب، يعنى والإسلام ممن يؤخذ؟ يؤخذ منكم الذين جئتم فى أخر هذا الزمان نسأل الله حسن الختام.(115/23)
إخوتى الكرام: هذا الأمر الأول الذى أردت أن أنبه عليه فالنبى عليه الصلاة والسلام طيب مطيب، سواء كان حيا أو ميتا عليه الصلاة والسلام، وكمال الخلق ثابت فى حياته وبعد مماته عليه صلوات الله وسلامه.
أما الأمر الثانى: هذا الجسد الطيب الطاهر الشريف العظيم المبارك الذى جمع جلالاً وجمالا ملاحة وبهاء على نبينا صلوات الله وسلامه، هذا الجسد الذى كتب الله علينا ألا ندركه فى هذه الحياة ولا نمتع العينين بالنظر إليه حقيقة هذه مصيبة نزلت علينا، والله لا يعدلها مصيبة على وجه الأرض، ما أصيب المؤمنون بمصيبة كمصيبتهم بموت نبيهم عليه صلوات الله وسلامه، وهذه المصيبة نحتسبها عند الله وهى أجل المصائب عندنا فقد نبينا عليه الصلاة والسلام فنسأله أن يثيبنا عليها أعظم الثواب وألا يرضى لنا ثوابا إلا بالإجتماع مع نبينا عليه الصلاة والسلام فى جنات النعيم مع عباده المقربين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(115/24)
إخوتى الكرام: وقد قرر أئمتنا مشايخ الإسلام هذا وبينوا أن أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون، أعظم مصيبة أصيبوا بها فى هذه الحياة فقد النبى عليه الصلاة والسلام وموته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى إلى جوار ربه على نبينا صلوات الله وسلامه، قرر هذا أئمتنا كما قلت قاطبة، منهم شيخ الإسلام الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المندجى، الذى توفى سنة 785 للهجرة فى كتابه تسلية أهل المصائب، فانظروا إخوتى الكرام هذا الكتب وانظروا كلامه فى صفحة 18 حيث قرر أن أعظم المصائب على المسلمين موت النبى الكريم على نبينا صلوات الله وسلامه، وقرر هذا الإمام السفارينى أيضا فى غذاء الألباب شرح منظومة الأداب فى الجزء الثانى صفحة 535، وتوفى سنة 1188 للهجرة عليه رحمة الله وقرر هذا شيخ الإسلام الإمام البيهقى فى كتابه دلائل النبوة فى الجزء السابع صفحة 265 وغالب ظنى أن وفاة الإمام البيهقى سنة 458 للهجرة عليهم جميعا رحمات رب العالمين قرروا أن أعظم مصيبة أصيب بها المسلمون فى هذه الحياة هى موت خير البريات عليه صلوات الله وسلامه وانتقاله إلى جوار ربه، وهذا الأمر أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام ففى مسند الإمام أحمد وسنن الترمذى وشرح السنة للإمام البغوى وقال الترمذى حسن غريب، وقد حسن الحديث الحافظ المنذرى أيضا فى الترغيب والترهيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من كان له فرطان من أمتى أدخله الله بهما الجنة، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ومن كان له فرط يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: ومن كان له فرط يا موفقه، قالت: فمن لم له فرط من أمتك، قال: أنا فرط من لا فرط له، فإنه لم يصابوا بمثلى عليه صلوات الله وسلامه، من كان له فرطان أى قدم له ولدين من أولاده توفى قبل الحنث والبلوغ يدخله الله بهما الجنة، سبقاه ولدان، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ومن كان له ولد واحد قدمه بين يديه، قال:(115/25)
ومن كان له فرط يكون سبب فى دخوله الجنة، فقالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك، ما مات له ولد من أولاده أو ما تزوج أو تزوج وما رزق أولادا فما حاله عند الله، المصيبة العظمى أعظم من موت الآباء والأبناء والامهات والأزواج والإخوة والأخوات موت خير البريات عليه الصلاة والسلام، قال: أنا فرط من لا فرط له، فإنه لم يصابوا بمثلى على نبينا صلوات الله وسلامه.
وثبت فى سنن ابن ماجة وبوب عليه فى الجنائز باب الصبر على المصيبة، والأثر عن أمنا عائشة رضي الله عنها والأثر المتقدم يشهد لهذا وستأتى آثار كثيرة بمعناه، قالت: فتح النبى صلى الله عليه وسلم بابا بينه وبين الناس فى مرض موته أو كشف سترا، فتح الباب وكشف الستر الذى بينه وبين الناس بين حجرته وبين الناس فى مسجده على نبينا صلوات الله وسلامه، يقول: فإذا هم وراء أبى بكر رضي الله عنه يصلون والنبى عليه الصلاة والسلام فى مرضه فى بيته عليه صلوات الله وسلامه ففتح الباب وكشف الستر ونظر إليهم فإذا هم وراء أبى بكر يصلون، فحمد الله على ما راءه من حسن حالهم ورجى أن يخلفه الله فيهم بالذى راءه، ثم قال عليه صلوات الله وسلامه أيما احد من المسلمين أصيب بمصيبة فاليتعزى بى، فاليتعزى بمصيبتى عن مصيبته بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بعدى بمثل مصيبتى عليه صلوات الله وسلامه، إذا هو عزائنا فيما يقع علينا من مصائب عليه صلوات الله وسلامه لنتعزى به لم يصب المسلمون بمصيبة كمصيبتهم بموت نبيهم على نبينا صلوات الله وسلامه، ولذلك لما توفى ولد لبعض الناس وكان إسم الولد محمد، كتب إليه بعض الناس يعزيه فى ولده فقال له:
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... واعلم بان المرء غير مخلد
أوما تر ى أن المصائب جمة ... وترى المنية للعباد بمرصد
من لم يصب ممن ترى بمصيبة ... هذى سبيل لست فيها بأوحد
فإذا ذكرت محمداً (يعنى ولده) ومصابه فاذكر مصابك بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام(115/26)
لم يصب أحد بعد النبى عليه الصلاة والسلام بمصيبة كمصيبته بموت النبى عليه الصلاة والسلام وفقده.
والحديث إخوتى الكرام رواه الطبرانى فى معجمه الأوسط وانظروا مجمع الزوائد فى الجزء التاسع صفحة 37 ورواه الإمام البيهقى فى دلائل النبوة فى الجزء السابع صفحة 202 عن أمنا عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: كشف النبى صلى الله عليه وسلم الستر فرأى الصحابة يصلون وراء أبى بكر رضي الله عنهم أجمعين فقال: الحمد لله إنه لم يمت نبى حتى يأمه رجل من أمته ما قال عليه الصلاة والسلام من أصيب بمصيبة فليتعزى بى عن مصيبته بغيرى عليه صلوات الله وسلامه.
والحديث إخوتى الكرام رواه الإمام مالك فى الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم ورواه ابن سعد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبى بكر رضي الله عنهم أجمعين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [ليعزى المسمين فى مصائبهم المصيبة بى فإنهم لن يصابوا بمثلى] ، والأثر رواه ابن سعد فى الطبقات عن عطاء مرسلا رضي الله عنه وأرضاه أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [إذا أوصيب أحد بمصيبة فليذكر مصيبته بى فإنها أعظم المصائب] ، والأثر رواه ابن سعد أيضا ورواه البيهقى فى دلائل النبوة، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [سيعزى المسلمين من بعدى التعزية بى] ، قال أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعى: كان الرجل من الأنصار إذا مات له قريب بعد البنى المختار عليه الصلاة والسلام يقول له: اتقى الله واصبر فإن لك فى رسول الله أسوة حسنة.
إخوتى الكرام والأثر مروى أيضا عن المسفر بن مخرمة كما بين ذلك الإمام ابن عبد البر رضي الله عنهم أجمعين.
نعم إخوتى الكرام: أعظم المصائب التى وقعت على المسلمين موت النبى الكريم عليه صلوات الله وسلامه، كيف لا وقد انقطع الوحى من السماء.(115/27)
ثبت فى صحيح مسلم وسنن ابن ماجة ودلائل النبوة للإمام البيهقى عن أنس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهم أجمعين، تعال لنزور أم أيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، وهى حاضن النبى عليه الصلاة والسلام وهى أمه بعد أمه رضي الله عنها وأرضاها، وهى أم أسامة بن زيد زوج حب رسول الله عليه الصلاة والسلام، زيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين، فلما دخل عليها أبو بكر وعمر بعد موت النبى عليه الصلاة والسلام بدأت تبكى فقالا لها: ما يبكيكى يا أم أيمن، فما عند الله خير لرسوله عليه الصلاة والسلام، قالت: أعلم أن ما عند الله خير لرسوله ولكن أبكى لأن الوحى قد انقطع من السماء....، إخوتى الكرام: وقد شعر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بهول هذه المصيبة وشدتها فكان رجاء لهم فصار رجية ورجأ ومصيبة وقعت عليهم فى فقده عليه صلوات الله وسلامه، يقول أنس رضي الله عنه، كما فى مسند الإمام أحمد وسنن الترمذى وابن ماجة: لما كان اليوم الذى دخل فيه النبى صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء فيها كل شىء فلما كان اليوم الذى مات فيه النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة أظلم فيها كل شىء، والله ما نفضنى أيدينا عن تراب النبى عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا، والأثر وراه عنه الإمام الدارمى والحاكم فى المستدرك والبيهقى، قال أنس رضي الله عنه: شهدت اليوم الذى دخل فيه النبى صلى الله عليه وسلم المدينة فما رايت يوماً أحسن ولا أضوأ من ذلك اليوم، وشهدت اليوم الذى مات النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة فما رأيت يوماً أظلم ولا أقبح من ذلك اليوم، على نبينا صلوات الله وسلامه........ وهذا الشعور الذى عند أنس رضي الله عنه وأرضاه شعر به جميع الصحابة الكرام.(115/28)
ففى مسند البزار بسند جيد كما الحافظ فى الفتح والأثر إسناده رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى المجمع عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: ما نفضنا أيدينا من تراب النبى صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا........ نعم ذهبت الألفة والصفاء وذهب ما كان يمدهم به خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه من تعليم وتأديب.
إخوتى الكرام: ومن لطف الله بنا ورحمته أنه لم يقطع إتصالنا بنبينا صلى الله عليه وسلم، فجعل صلاتنا تبلغ نبينا عليه صلوات الله وسلامه ويرد علينا سلامنا عليه صلوات الله وسلامه، وجعل الله لنا نبينا خيرا فى حالتيه فى حياته وبعد مماته عليه صلوات الله وسلامه، فتعرض عليه أعمالنا بعد موتنا فما رأى من حسن حمد الله عليه، ما رأى من سوء وسيىء استغفر لنا ربنا فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتى الكرام: هذا حصل لنا بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام وأما الصحابة الكرام فقد عوضهم الله جل وعلا مع هذا الأمر أمراً أخر يسكن به نفوسهم ويخفف عنهم مصيبتهم، ألا وهو تولية أبى بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين، عليهم بعد موت نبينا الأمين عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فجاءهم هذا الخليفة الراشد الذى هو كحال النبى عليه الصلاة والسلام فى كل شىء، فى طينته ومعدنه عليه صلوات الله وسلامه، نعم لايوحى إليه كما يوحى إلى النبى عليه الصلاة والسلام فما فقدوا فى خلافة أبى بكر رضي الله عنه، غير شخص النبى عليه الصلاة والسلام، أما معاملته ورافته ورحمته فكل ذلك كان موجوداً فى عهد أبى بكر رضي الله عنه من هذا الخليفة الراشد رضوان الله عليهم أجمعين، ولولا ذلك إخوتى الكرام لتقطعت قلوب الصحابة حسرة لتغير الأمور رحمهم الله ورضى عنهم.(115/29)
يقول أنس رضي الله عنه كما فى دلائل النبوة للإمام البيهقى: لما قبض النبى صلى الله عليه وسلم أظلمت الدنيا حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض وكان احدنا يبسط يده فلا يراها، وما نفضنا أيدينا عن تراب نبينا عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا.
إخوتى الكرام: هذا كان حال الصحابة الكرام عندما وقعت عليهم تلك المصيبة، نسأل الله جل وعلا ألا يرضى لنا ثواباً عليها إلا الإجتماع مع نبينا عليه الصلاة والسلام فى جنات النعيم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أظلمت عليهم الدنيا لا ينظر بعضهم إلى بعض، إذا بسط الإنسان يده لا يراها حصل فى القلوب ما حصل.
ولما ذكرت فاطمة رضي الله عنها لأنس رضي الله عنهم أجمعين كيف حصل منهم نحو نبينا عليه الصلاة والسلام ما حصل ما استطاع أن يجيبها بشىء من شدة ما وقع عليه وعلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح البخارى وسنن النسائى وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه قال: لما ثقل بالنبى صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب، فداه نفسى وأبى وأمى عليه صلوات الله وسلامه، فقالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أبتاه، فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما قبض عليه صلوات الله وسلامه، قالت هذه البضعة الطاهرة: يا ابتاه أجاب رباً دعاه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، ثم قالت لأنس رضي الله عنه خادم النبى عليه الصلاة والسلام: عشر سنين يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب، والله ما طابت أيتها البضعة الطاهرة ولم تطيب لكن قهرها الصحابة الكرام إمثالاً لأمر الحبيب عليه صلوات الله وسلامه.
إخوتى الكرام: هذا الجسد الطاهر المبارك ينبغى أن نتمنى رؤيته والشوق إليه، ينبغى أن نتمنى رؤيته وأن نشتاق إليه، نتمنى رؤيته فى المنام ونتمنى أن يكرمنا الله برؤيته فى غرف الجنان غنه رحيم رحمن.(115/30)
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه سيأتى بعده أناس يتمنون رؤيته بأموالهم وأولادهم وأهليهم وهؤلاء من أشد الناس حباً له عليه صلوات الله وسلامه.
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من روايةأبى هريرة رضي الله عنه والحديث رواه الإمام أحمد عن أبى ذر رضي الله عنهم أجمعين، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [من أشد أمتى حباً لى ناس يكونون بعدى يود أحدهم لو رآنى بأهله وماله، عليه صلوات الله وسلامه] ، وفى رواية [يود أحدهم أنه أعطى أهله وماله وأنه رآنى] .
وفى معجم الطبرانى الكبير بسند رجاله ثقات عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن أحدكم سيوشيك أن ينظر إلىّ نظرة بما له من أهل ومال] .
وقد كان أئمتنا الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين، يتمنون حصول هذا لهم فى المنام ويرجون من الله ذلك فى غرف الجنان، هذاالعبد الصالح هشام بن حسان محدث البصرة أبو عبد الله، قال عنه الإمام الذهبى إنه قذف القنطرة وجاوزها وهو من رجال الكتب الستة، كان يتمنى رؤية النبى عليه الصلاة والسلام ويشتاق إلى ذلك، وكان إذا ذكر النبى عليه الصلاة والسلام تسيل دموعه على خديه.
وما ذكر ابن عمر النبى صلى الله عليه وسلم إلا بكى كما فى مسند الدارمى، وإذا مر على بيوت النبى عليه الصلاة والسلام لا يستطيع أن ينظر إليها وما غرس شجرة بعد موت النبى عليه الصلاة والسلام رضي الله عنه وأرضاه.(115/31)
وهذا العبد الصالح عبد الله بن عون أبو عون قدوة عالم البصرة عليه رحمة الله، كان يتمنى رؤية النبى عليه الصلاة والسلام فى المنام ويبث شوقه إلى ذلك ويطلب من إخوانه أن يدعوا له بذلك فما حصل له ذلك إلا فى أخر عمره، فلما رأى النبى عليه الصلاة والسلام فى نومه فرح بذلك كثيرا، فما عاش بعد ذلك إلا قليلا حتى مات رحمه الله ورضي الله عنه، وقد توفى سنة 150 للهجرة وحديثه أيضا فى الكتب الستة وهو من العلماء الربانين، دعته أمه مرة فأجابها فظن أن صوته على صوتها فأعتق رقبتين تكفيراً لإرتفاع صوته على صوت أمه، وكان لا يغضب أبدا عليه رحمة الله، وإذا أغضبه أحد يقول له: بارك الله فيك، وكان يقول: ذكر الناس داء وذكر الله دواء.
إخوتى الكرام: إذا كان الجذع يحن إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ويحزن لفراقه ويشتاق إلى رؤيته وإلى الإتصال به فكيف بنا نحن إخوتى الكرام.
رحمة الله على الحسن البصرى عندما كان يروى حديث الجذع حنين الجذع يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن شوقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.(115/32)
وحديث حنين الجذع إخوتى الكرام حديث متواتر روى عن جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعن أنس، وعن سهل بن سعد، وأبى بن كعب، وعن بريدة، وعن معاذ بن جبل، وعن أم سلمة، وروى عن غير هؤلاء بحيث بلغ رواته بضعة عشر صحابيا، وهو حديث مشهور والخبر به متواتر كما قال الإمام عياض، وقال الإمام البيهقى: هو من الأمور الظاهرة التى حملها الخلف عن السلف، وراية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف.، وحديث الجذع فى صحيح البخارى والنسائى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جذع فى قبلته يقوم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبته فلما وضع المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، أى مثل الناقة إذا مضى على حملها عشرة أشهر، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه، قال الحسن: كان والله يحن لما كان يسمع عنده من الذكر، وفى رواية أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أجعل لك شيئا تقعد عليه، فإن لى غلاماً نجارا، قال: إن شئت، قالت: فعملت له المنبر فلما كان يوم الجمعة قعد النبى صلى الله عليه وسلم على المنبر الذى صنع له، فصاحت النخلة التى كان يخطب عليها حتى كادت تنشق وفى أخرى فصاحت النخلة صياح الصبى، فنزل النبى صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تأن أنين الصبى الذى يسكت، حتى استقرت، قال: بكت على ما كانت تسمع من الذكر أخرجه البخارى، وفى رواية النسائى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سوارى المسجد فلما صنع المنبر واستوى عليه اضطربت تلك السارية تحن كحنين الناقة، حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنفها.
وورد فى روايات كثيرة توضح هذا وتبينه، ففى رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه فاحتضن النبى صلى الله عليه وسلم الجذع فسكن، فقال: لولم أفعل لما سكن.(115/33)
وفى رواية الدارمى عن ابن عباس رضي الله عنهما، لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة.
والحديث روى عن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [والذى نفسى بيده لولم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة] حزناً على فراق رسول صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالجذع فدفن.
وفى بعض الروايات فصاحت النخلة صياح الصبى، وفى بعض الرويات اضطربت السارية كحنين الناقة الخلوج، أى التى انتزع ولدها منها، وفى بعض الروايات خار ذلك الجذع كخوار الثور، وفى بعض الرويات فلما جاوز النبى صلى الله عليه وسلم الجذع خار حتى تصدع وانشق.
وفى رواية البخارى والترمذى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه وفى رواية فنزل إليه فاحتضنه وسآره بشىء يعنى تكلم معه بشىء سراً بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين هذا الجذع، أخرجه البخارى.
وفى رواية الترمذى فأتاه فالتزمه فسكن.
وفى سنن الترمذى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم خطب إلى لذت جذع واتخذوا له منبراً فخطب عليه فحن الجذع حنين الناقة، فنزل النبى صلى الله عليه وسلم فمسه فسكن، أخرجه الترمذى والحديث صحيح.(115/34)
إخوتى الكرام: وورد فى بعض الرويات كما فى الدارمى وغيره من رواية بريدة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال للجذع: اختر، إن شئت أن أغرسك فى المكان الذى أخذت منه فتكون كما كنت قبل أن تصير جذعا، وإن شئت أن أغرسك فى الجنة فتشرب من أنهارها، فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله، قال النبى عليه الصلاة والسلام: فاختار أن أغرسه فى الجنة،،، هذا جذع وهو جماد يحن إلأى خير العباد عليه صلوات الله وسلامه، فكيف بالمؤمنين الذين يحبون النبى الأمين عليه الصلاة والسلام، أسال الله برحمته التى وسعت كل شىء أن يحيينا على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يميتنا على ملة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يبعثنا يوم القيامة من أمته ومن أتباعه وان ينادينا يوم القيامة يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام {يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتى كتابه بيمنه فأولئك يقرؤن كتابهم ولا يظلمون فتيلا} .
اللهم صلى على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه عدد ما خلقت وعدد ما أنت خالق يا أرحم الراحمين، اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم صلى عليه صلاة ترضيك وترضيه وترضى بها عنا يارب العالمين، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لآباءنا وأمهاتنا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، والحمد لله رب العالمين والسلام عليم ورحمة الله وبركاته.(115/35)
أهل الفترة
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
أهل الفترة
ونحن نرجو-هذا كلام الحافظ ابن حجر-ان يدخل عبد المطلب وال يتة في جملة منيد خلها –يعني الجنة-طائعا لكن ورد في ابي طالب مايمنع ذالك اذا يستثنى من ال عبد المطلب ابو طالب، وانما خصه بالذكر ابو لهب الان ناك مفروغ منه، ايه محكمة (تبت يدا ابي لهب) اما ابوطالب فما ذكره الله، وكان ينصر النبي ويحوطه ويدافع عنه بنفسه وماله بخلاف ابي لهب الشرير فكان يؤذيه ويبذل مافي وسعه في اذاء ابن اخيه فشتان بين العمين فذا كونه في النار محل اتفاق، واماهذا موقفه قد يعني يوحي للانان بانه في الجنه لنصرة ابوطالب لنبينا-عليه الصلاة والسلام-، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لابي طالب: اجلك اكثر من اجلال ابي، لانك انت الذي ربيتني ونشاتني ونصرتني، قل كلمة احاج لك بها عند الله: قل لااله الاالله، فلم يقل: الهك باطل ودينك مزيف، يقول: لو ان تعيرني قريش لاقررت بها اخرماقاله انه على مله عبد المطلب هذا كفر، فليس عندنا كماقلنافي دين الله محاباة وقد ثبت في الصححيين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه بعد ان مات قال النبي لاستغفرن لك مالم انه عنك لرواية المسيب بن حزم والد سعيد بن المسيب رضي الله عنهم اجمعين فنزل قول الله: (ماكان للنبي والذين امنوا ان يستغفرو اللمشركين) وابو طالب –.(116/1)
وثبت في صحيح مسلم وغير ان قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: عمك كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذالك قال نعم كان في غمرات من نار جهنم فاخذته فشفعت فوضعه الله في ضحضاح من نار جهنم: اي في نارقليلة يخوض فيها الي كعبيه، ووضع سخنطه: وهي الحفرة المنخض الذي اسفل الرجل جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه وهو اهون من اهل النار عذبا ويرى نفسه انه اشد اهل النار عذبا وشفاغة نبينا عليه الصلاة والسلام لعمه ابي طالب في تخفيف العذاب عنه خاصة به فلا يشفع نبي ولاصديق لمشرك الانبينا لعمه ابي طالب دون اخراج من النار انما في تخفيف العذاب عنه والله يقول (لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون) يستثنى شفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام لعمه ابي طالب للنصوص الصحيحة الثابته وهذا مقرر عندنا فلا يخطرن ببال احدكم امر هذا تخريف او هوي، هذا بنص صحيح وهي خاصة وهذا من شفاعاته الخاصة التي لا يشاركه فيه احد كالشفاعه في فتح باب الجنة، هذا كله شفاعات خاصة لايشاركه فيه احد من المخلوقات ادم فمن دونه على نبينا وعلى انبياءالله ورسله صلوات الله وسلامه، اذا نرجو ان يدخل عبد المطلب وال بيته، عبد الله او ليس كذلك من ال عبد المطلب، عبد المطلب يدخل نحن نجزم انهم ما وحدوا، لكن في مقابل نجزم انهم ما بعث الهم رسول. فان قيل ماذا نفعل بالنصوص، بالنص المتقدم في صحيح مسلم نقول العين والراس، نصوص تعارضت لابد من الجمع بينها فنبينا عليه الصلاة والسلام اخبر بانه في النار قبل ان يعلمه الله.(116/2)
وهذا الجمع ممكن ميسور لان من كفر بالله ولم يوحده هو ظالم او معتدي، ظالم لاشك فيه واثبت الله لمن كفره ووجوب تعظيمه ثابتان في عقول بني الانسان وفي فطرهم اثبت من وجودهم ومن الشرك في رابعه النهار فمن لم يوحد الله قبل مجئ الرسول ومشرك وكافر بناء على النصوص التي تدل على ان الجنة لايدخلها الامن وحد وان النار ماوى الكافرين، نقول عبد المطلب في النار وعبد الله في النار وكل من لم يوحد الله في النار.(116/3)
وكل من مات على الكفر في النار ثم بين لنا أن هؤلاء لهم حكم خاص وهؤلاء ليس حالهم كمن بلغته الدعوة ووقف ولم يؤمن لا هم في ضلال وضياع فالله سيحاسبهم يوم القيامة ويمتحنهم فإذا نقول ذاك الحديث صحيح لكن عورض بأدلة صحيحة ثابتة فلا بد من الجمع بينها هذا الجمع أن نقول صدر ذا قبل إعلام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وعليه لا نرو الحديث إنما نحمله على معنى يلتئم مع نصوص الشرع ووالد نبينا عليه الصلاة والسلام وجده وكل من هلك في فترة قبل بعثة رسول سيمتحن فاحكم في والد نبينا وجده علي نبينا صلوات الله وسلامه فالله أعلم لكن حقيقة نرجو ووالله أن رجاءنا الإيمان في والد نبينا عليه الصلاة والسلام عند الامتحان في يوم القيامة أعظم من رجاءنا الإيمان لأبوينا ولأولادنا رغبة في إقرار عين نبينا عليه الصلاة والسلام لكن هذا الرجاء لا يدعونا إلى التألي والكذب على الله نقول والد النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة ولا يجوز أيضا أن نجفو ونغلظ نقول هو في النار فلنقف كما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام في القول الذي قرره أهل السنة الكرام في هذا الحكم العام أهل الفترة يمتحنون فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإن عصوا دخلوا النار لكن نرجو كما قال الحافظ بن حجر وما ألطف وأظرف وأحلى وأدق وأشد هذه العبارة: أن يدخل عبد المطلب وال بيته في الإيمان والجنة طائعين وأن يؤمنوا برب العالمين وأن يكونوا من الفائزين يوم الدين هذا الرجاء لابد من أن يكون في نفوسنا إخوتي الكرام تعظيما لنبينا عليه الصلاة والسلام.(116/4)
ولأبين لكم إخوتي الكرام أن هذا الرجاء شرعي أذكر لكم قصتين اثنتين من صديقين هما أعظم الصديقين عند ربنا العظيم أولاهما الصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه: ثبت في مسند أبي يعلى والحديث رواه عمر بن شبة في أخبار مكة ورواه أبو بشر ابن سمويه في فوائده والأثر في المستغرق بسند صحيح عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر لوالده أبي قحافة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في فتح مكة أو عند حجة الوداع ليسلمه فقد طال رأسه عند فتح مكة وتحديد الزمن لا يضر جاء وقد صار والد أبو بكر أبي قحافة لحيه وشعر رأسه كالثقافة – أي كالثلج الأبيض ليس به شعره سوداء من كبره وهرمه فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بكر: ألا تركت الشيخ في بيته ونحن نأتيه إكراما لك وإجلالا للشيخ الكبير وأنت صديق فكل أحد له عندنا يد كافاناه عليها إلا أنت ولو اتخذ نبينا عليه الصلاة والسلام خليلا من أهل الأرض لاتخذ أبا بكر خليلا رضي الله عنه وأرضاه فله منزلة إكراما لك وإجلالا لهذا الرجل الوقور المهيب يعني أن أذهب قال: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام أردت أن يأجره الله في المجيء إليك ليسلم علي يديك وثيابا على هذه الخطى فلما وضع أبوه حافة يده على يد النبي عليه الصلاة والسلام ليبايعه على الإسلام بكى فقال النبي ما يبكيك يا أبا بكر قال والله يا رسول الله لان تكون يد عمك أبو طالب مكان يده أي يد أبي قحافة والد أبي بكر 10:00
ويقدر الله عينيك با سلام عمك لكن أحب إلي، يعني لو أن بدل أبيه عمه وآمن لكن هذا أحب.(116/5)
قبل هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام بثلاث سنين في العام العاشر الذي أوذي فيه النبي أشد الأذى بعد موت عمه وزوجه خديجة رضي الله عنها وعن سائر أمهاتنا وصحابه نبينا أجمعين. وأذا كانت يد عمك مكان يدي أبي قحافة به تقر عينيك فحبك يقدم على حبنا لأبائنا وأسرنا أصولا وفروعا والحديث صحيح، والله نتمنى لو أن أبا طالب آمن إقرارا لعين نبينا عليه الصلاة والسلام وإكراما لعمه في النصرية نبينا عليه الصلاة والسلام لكن لله الحجة البالغة وهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالي من باب أولي نقول لمن لم يكفر عند مجيء رسول لو الد نبينا وجده نتمنى أن يلهم هذين العبدين الأيمان عند الامتحان وأن يكونا في غرف الجنان نتمنى وهذا تعظيم لنبينا عليه الصلاة والسلام ومحبة له 11:35
قصة ثانية عن الصديق الثاني عمر وهو أفضل الصديقين بعد أبي بكر يرويها أبن إسحاق رضي الله عنهم أجمعين في كتاب المغازي والسير: لما جاء العباس رضي الله عنه لأبي سفيان رضي الله عنه وغفر الله لهما لما جاء العباس لأبي سفيان في فتح مكة إلي النبي عليه الصلاة والسلام وهو خلفه ما رضي عمر لإجارة أبي سفيان من قبل العباس، وما رضي بإجارة العباس إلي أبي سفيان وعارضه، فالعباس أخذته الشدة وتكلم كلاما يعذر لحدثه لكنه في غير موضعه لعمر: يا عمر لو كان أبو سفيان من بني عدي لما قتلته، بنو عدي هم عشيرة عمر، فهنا أنت تريد قتله لأنه من بني عبد شمس ليس من قبيلتك، هذا لو كان من قبيلتك لما طالبت بقتله، فأنظر ماذا قال عمر، قال عمر للعباس: والله يا عم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنظر إلي اللطف في الخطاب، والله لا أنا بأ سلامك عندما أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب لو أسلم، يعني لو قدر أن والدي الخطاب حيا وأسلم لما فرحت لإسلامه كفرحي14:40(116/6)
يا سلامك إقرارا لعين النبي – ص – فلك عند النبي منزلة فصنو أبيه فلا تتهمني وأنا ما أرد جوارك إحتقارا لك لكن هذا فعل ما فعل في الإسلام والآن دعنا نضرب رقبته ولا نجيره فقال له: لو كان من بني عدي لما قتلته قال: والله لأن أفرح بإسلامك عندما أسلمت من أسلام الخطاب لو أسلم. أنتم آل بيت على رؤسنا. هذا إجلالنا لإل بيت نبينا.(116/7)
- ص – وإذا كان هذا حال الصحابة الكرام، سأحكي لكم بعد القصتين، قصتين والحديث يجر بعضه بعضا، يعقوب بن السكيت وليس بين يدي الكتب لاتحقق من نسبة قصتي إليه لكن فيما أعلم غفر الله له ورحمه ورضي عنه وهو صاحب كتاب إصلاح المنطق، غالب ظني كان يؤدب ويعلم أولاد الخليفة المتوكل هذا الذي أشك فيه هل هو المتوكل أي من خلفاء بني العباس وغالب ظني أنه هو ليس في كتب بين يدي أتحقق لكن غالب ظني يعني أنه أبن السكيت مع الخليفة المتوكل وكان الخليفة المتوكل يميل إلى النقد ومعادة آل البيت فقالو مرة ليعقوب ما تقول في هذين ولدي الخليفة هما أفضل أم الحسن والحسين، ماذا سيقول يعقوب؟ ماذا يقول؟ الحسن والحسين، لا أدري الحسن والحسين، فضل الحسن والحسين علي يعني ولدي خليفة جاء وكل من جاء بعد الخلفاء الراشدين في جور أو كفر والله أعلم بحالهم باستثناء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، نقول الحسن والحسين أفضل من ولدي الخليفة يعني أذا فضلت امرأ ذا براعة علي فقال: هذا أفضل من الحسن والحسين، قال: والله أن قنبر الذي كان يخدم عليا أفضل منك ومن ولديك قنبر، خادمه آل بيت لهم حقهم، كلب صحب أصحاب الكهف ذكره الله في القرآن، أذا كيف بمؤمن رقيق عند آل بيت أرقاء القلوب طاهرين مطهرين، "قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" قنبر خادم على وغلامه ومملوكه أفضل منك ومن ولديك، كيف تفضل الحسن والحسين عليهما أنت ما تستحي، فأمر غلمانه بقتله فوضعوه في بساط فداسوه بأرجلهم حتى قتلوه في مجلس الخليفة، هذا حالنا نحو آل بيت نبينا فليعلم الشيعة ذلك من يحب آل بيت، صديق هذه الأمة يقول لو أسلم عمك كان أفرح لقلبي من أسلام والدي والصديق الثاني الذي يفتخر الشيعة ويعيدون الشيعة في يوم قتله وعندهم يوم الغفران يوم مقتل عمر حين يقول العباس أنا بإسلامك(116/8)
طاغوت العرف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعا وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين. سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتى الكرام: تقدم معنا أن نعم الله جل وعلا مهما كثرت وتعددت وتنوعت لا تخرج عن نوعين اثنين، نعمة خلق وإيجاد، ونعمة هداية وإرشاد، وبينت فيما مضى أن أعظم نعم الله علينا، نعمة الهداية والإرشاد بأن أرسل إلينا الرسل وأنزل علينا الكتب ليخرجونا من الظلمات إلى النور ولولا أن الله منّ على هذه الأمة ببعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لكانوا أحط دركة من الأنعام، فهذه النعمة أعنى نعمة الهداية والإرشاد نعمة إرسال الرسل إلى العباد هى أعظم منن الله ونعمه على عباده وهذه النعمة من انتفع بها واسترشد بها وأقبل عليها فى هذه الحياة حفظ من الضلالة فى الدنيا وحفظ من الشقاء والضياع والهلاك فى الآخرة، كما قال الله جل وعلا {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} .(117/1)
ثبت فى تفسير ابن أبى حاتم وتفسير ابن المنذر والأثر إسناده صحيح ورواه الطبرانى فى معجمه الكبير والأوسط ورواه ابن أبى سيبة فى المصنف وسعيد بن منصور فى سننه والحاكم فى مستدركه وإسناده كما قلت صحيح، عن بن عباس رضي الله عنهما أنه قال (أجار الله قارىء القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة) ثم تلا قول الله جل وعلا {فمن اتبع هداى فلا يضل ... } أى فى هذه الحياة، {فلا يضل ولا يشقى ... } أى لا يهلك ويعذب بعد الممات {فلا يضل ولا يشقى ... } ،(117/2)
(أجار الله قارىء القرآن من أن يضل فى الدنيا أو يشقى فى الآخرة) ، وفى رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (من قرأ القرآن وعمل بما فيه فلا يضل فى الدنيا ويقيه الله سوء الحساب يوم القيامة، ثم تلا قول الله جل وعلا {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى} ، فهذه النعمة العظيمة الجسيمة وهى إرسال الرسل عليهم صلوات الله وسلامه إلى العباد ليخرجوهم من الظلمات إلى النور هى منن ونعم الله على عباده، وهذه النعمة ما انعكف عليها وأقبل هليها وانتفع بها ذاق لهذه النعمة حلاوة عظيمة تتضائل بجانبها جميع اللذائذ والحلاوات كما ثبت فى مسند الإمام أحمد وصيحيح مسلم وسنن الترمذى والحديث فى صحيح مسلم كما قلت فهو صحيح عن العباس بن عبد المطلب عم نبينا عليه الصلاة والسلام رضي الله عن العباس وعن سائر الصحابة الكرام، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال [ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا] ،ذاق طعم الإيمان من رضى بالله، فإذا أقبل على هذه النعمة سيذوق لها حلاوة وبهجة فسيطمئن قلبه وينشرح صدره وتسكن نفسه {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ، [ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا] ، هذه النعمة العظيمة تقدم إخوتى الكرام معنا تقرير كونها أعظم نعمة من الله على عباده بأدلة كثيرة، إنما فى بداية كل مبحث عند المبحث الأول من مباحث النبوة العشرة، والمبحث الأول كان بعنوان (أن هذه النعمة هى أعظم منن الله ونعمه على عباده، عند بداية كل موعظة تتعلق بالمبحث الأول، ولعل هذه الموعظة هى آخر المباحث المتعلقة بهذا المبحث، أحب ان أقررما سبق بشىء لم أذكره وهو أن هذه النعمة نعمة عظيمة جليلة فخيمة هى أعظم نعم الله على عباده من انتفع بها سعد فى هذه الحياة وسعد بعد الممات، هذه النعمة العظيمة الجسيمة.(117/3)
تقدم معنا إخوتى الكرام أنه عارضها أربعة أصناف من الخلق حالوا بين وصول إلى المخلوقين، من العلماء الفاجرين والحكام الظالمين الجائرين، والعباد الجاهلين والمتفلسفة المخرفين، وبينت وجه معارضة كل من هؤلاء لهذه النعمة وكيف وقف كل واحد من هؤلاء حجر عثرة فى طريق هذه النعمة ووصولها إلى العباد الذين أرسل الله إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ليهتدوا بهذه النعمة فوقف هؤلاء الصناف أمام هذه النعمة وحالوا بينهم وبين هذه النعمة الجليلة الكريمة.
تقدم معنا إخوتى الكرام هذا وقلت نتج عن هؤلاء الأصناف الأربعة بعد ذلك شريعة بين الناس تسمى بالعرف والعادة، فعكف الناس عليها من دون شريعة رب العالمين واحتكموا إليها فى جميع شئون حياتهم، شريعة العرف شريعة العادة، أنم يسيروا على ما سلكه آبائهم وأجدادهم وما عليه أعراف قومهم، نتج عن هؤلاء الأصناف الأربعة هذا العرف العام وهذه العادة التى يسير الناسعليها، وتقدم معنا أثر العرف وضغت العرف على الناس، وكيف ضل بهذا الأمر أناس كثيرون، وفرقت بين العرف المعتبر وبين العرف المنكر، وبينت إخوتى الكرام فى الموعظة السابقة أن العرف يصيغه ويصنعه ويحدده ويوجده علية القوم وخاصتهم وهم هؤلاء الأصناف الأربعة كما تقدم معنا، ففى كل يوم يحدث الناس شيئا من الأهواء والعادات والضلالات والبدع فيأخذ الناس بها ويهملون شيئاً من الهدى والسنن.(117/4)
ثبت فى معجم الطبرانى الكبير بسند رجاله موثقون كما الإمام الهيثمى فى المجمع عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (ما أتى على الناس عام إلا وأحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن فنور الله ـ يصبح غير ظاهر بين الناس والبدع هى الشريعة التى يحتكم إليها الناس حتى تحيا البدع وتموت السنن، وهذه البدع يعكف الناس عليها على أنها أعراف عامة وتقاليد لازمة لا يجوز الخروج عنها، فإذا تعارف الناس على هذه البدع وتتابعوا عليها لاينكر بعض إذا فعلوا شيئا خلاف شريعة الله المطهرة.
وتقدم معنا إخوتى الكرام حديث أنس رضي الله عنه الذى رواه أحمد فى المسند وابن ماجة فى السنن وأبو يعلى فى مسنده، أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قالوا للنبى عليه الصلاة والسلام: متى نترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، أى فى أى حالة من الإنحطاط نصل إليها، فإذا وصلنا إليها تركنا قطب الإسلام وأعظم دعامة فيه ألا وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فقال عليه الصلاة والسلام [إذا ظهر فيكم ما ظهر فى الأمم قبلكم، إذا كان العلم فى رذالتكم، فى الفساق، والملك فى صغاركم، والفاحشة فى كباركم] ، إذا وجد هذا الأمر فيكم تتركون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتقدم معنا إخوتى الكرام أن الحديث صحيح ورواه الطبرانى أيضاً فى الأوسط من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين.
فنتج عن الأصناف الأربعة عرف جاهلى إحتكم الناس إليه دون شرع الله المحكم دون شرع الله العلى، فاحتكموا إلى هذا العرف، فإذا تعارفوا على المنكرات لن ينكر بعضهم على بعض، ورحمة الله على شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبرى عليه رحمة الله، عندما كان يقول ويسرد وينشد قول الشاعر:
وتعارف القوم الذين عرفتهم ... بالمنكرات فعطل الإنكار(117/5)
أى عطل الإنكار على من يفعلون المنكر وتعارف الناس على فعل المنكر فصار المنكر معروفا، يقول الإمام الشيخ مصطفى صبرى عليه رحمة الله:
وليته قال ولو أدرك زماننا لقال:
وتعارف القوم الذين عرفتهم ... بالمنكرات فأنكر الإنكار.........
ليس عطل، إنما إذا أنكرت على من يفعل المنكر ينكر عليك، كأن المنكر صار شريعة محكمة يتعامل الناس على حسبها فلا يجوز الإنكار عليها.
وتعارف القوم الذين عرفتهم ... بالمنكرات فعطل الإنكار
وتعارف القوم الذين عرفتهم ... بالمنكرات فعطل الإنكار
إخوتى الكرام: وتقدم معنا فى آخر الموعظة السابقة أن هذا العرف الجاهلى الذى وجد من أثر هؤلاء الأصناف الأربعة، هذا العرف الجاهلى قلت هو أول طاغوت عودى به رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهو أعظم شىء يرد به هدى الله ويدفع نوره: طاغوت العرف والعادة، وقلت: إن هذا الطاغوت هو العصا الذى كان يلوح بها الجاهليون فى وجوه رسل الحى القيوم عليهم صلوات الله وسلامه، وبها يلوح بهاكل جاهل فى كل عصر فى دفع نور الله وهداه..... طاغوت العرف والعادة.
وتقدم معنا أن حجة فرعون وهى الحجة الفرعونية {قال فما بال القرون الأولى} .، والحجة القرشية كما نقدم معنا {ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} ، إلى هنا إخوتى الكرام كنا تدراسنا هذا فيما مضى وقررته بشىء جديد فى أول هذه الموعظة، وأكمل هذا المبحث إن شاء الله فى هذه الموعظة المباركة إنشاء الله.(117/6)
طاغوت العرف العادة ضل الضآلون بسببه، وقد أخبرنا الله جل وعلا عن ضلال الأمم وضلال المشركين فى كل ووقت بتقليدهم لآبائهم واتباعهم لأعراف قومهم، يقول الله جل وعلا فى سورة البقرة {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا.....} سبحان الله هذا رد وهذه عادات وأعراف وتقاليد، اتبعوا ما أنزل الله ربكم سيدكم مولاكم يعلم ما ينفعكم مما يضركم هداكم للتى هى أقوم، تسعون فى هذه الحياة وبعد الممات وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله ما راوا حجة فى دفع هذا الضلال إلا قالوا {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} ، أى حالنا مع الكفار عندما ندعوهم إلى دين العزيز الغفار سبحانه وتعالى كحال من يدعوا بهيمة ويناديها فالبهيمة لا تسمع من نداءه إلا أصواتاً وصياحا لكن لا تفقه ما يريد بتلك الأصوات وهذا ــ {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ... } أى يصيح ويصرخ {.....كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء..} أنت لو صحت بهيمة أو ناديت حيواناً ممن يمشى على أربع ماذا يسمع منك الصراخ والصياح ـ لا يسمعون من نور وهداه عندما يعرض عليهم إلا ألفاظاً لا تؤثر معانيها فى قلوبهم {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} ، إذاً هذه حجة المشركين، ... {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا....} ، وهكذا ذكر الله هذا المعنى فى سورة لقمان رضي الله عنه وعن الصديقين الكرام، يقول الله جل وعلا {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ... } {....ألفينا عليه آباءنا ... } ،(117/7)
ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} ، أى يسلكون هذا المسلك ويقلدون الآباء ويسيرون على الأعراف والتقاليد ولو كان ذلك سيجرهم إلى عذاب السعير بوصف سبب وسوسة الشيطان الحقير { ... أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} ، إذاً آفة شنيعة ضل بها كثير من الضآلين فى العصور المتقدمة، ويقرر الله هذا المعنى فى سورة الزخرف فيقول جل وعلا {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون. وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون. بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون.وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} ، {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.....} ، عباد جمع عبد، وكل من فى السموات والأرض عبد للرب جل وعلا، وقرأ المدنيان نافع وأبو جعفر والمكى ابن كثير والشامى عبد الله بن عامر وأحد البصريين يعقوب، {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا..} ، كما قال جل وعلا {إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ... } ، {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.....} ، {وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا..} ،(117/8)
فهم فى الملأ الأعلى بحضرة الرب جل وعلا، حعلوهم إناثا، حكموا بأنهم فيهم ضفة الأنوثة والملائكة لا يصفون بذكورة ولا أنوثة، ثم بعد ذلك إزدادوا شططا، {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون} ، قالوا هؤلاء الملائكة بنات الله، فنسبوا لله ولد، ثم ازدادوا فى الشطط فجعلوا له أنزل الولدين وأنقص الولدين منزلة عندما قالوا له خصوص الإناث دون الذكور، إذاً الملائكة إناثا، ولله ولد، وله خصوص الإناث من الأولاد، {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} ، {ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى} ، وهذا كان بعض قبائل العرب يقول به، كقبيلة خزاعة، كانوا يقولون إن الله صاهر الجن تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا، فولد له الملائكة، فهم بناته من الجن {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين،} فجعلوا الملائكة إناثا وجعلوا لله ولدا وجعلوا له أنقص الولدين وأنزلهما شأناً وهو الأنثى دون الذكر وهم لا يريدون أن يرزقوا بإناث، {ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذا قسمة ضيزى} ، {أشهدوا خلقهم....} ، هل رأوا خلق الله للملائكة وأنهم بهذه الصورة؟، والواقع لا، {..ستكتب شهادتهم ويسألون} ، {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبادناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون، أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون} ، حجة متلوة بواسطة الرسل الكرام نزلة عليهم عليهم الصلاة والسلام بأن الملائكة إناث وهم بنات الرحمن {أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون} ، الواقع لا {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} ، على أمة أى على ملة.(117/9)
قال أئمتنا المفسرون: لفظ الأمة جاء فى القرآن بخمسة معانى، أولها: بمعنى الملة، { ... إنا وجدنا آباءنا على أمة..} ، على ملة، {كان الناس أمة واحدة..} على ملة واحدة، وهى التوحيد الخالص، يأتى التوحيد بمعنى الملة وهو المراد هنا، ومنه على ملة عبد المطلب، كما يأتينا فى قول أبى طالب أى على دينه.
ويأتى لفظ الأمة بمعنى الجماعة ومنه {لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون....} ، جماعة.
ويأتى بمعنى القائد المتبع فى الخير الذى يعدل أمة بنفسه {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين..} .
ويأتى لفظ الأمة بمعنى الجيل والزمن والدهر والوقت ومنه قول الله {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه..} ، وقول الله جل وعلا {وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة ... } ، أى بعد حين وبرهة ووقت.
فهذا المعنى الذى يأتى إليه لفظ الأمة وهو المعنى الرابع وغالب ظنى بقى معنا الخامس وهو قول الله جل وعلا {وما من دآبة فى الأرض وطائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم..} ، جمع أمة، فالأمة هنا بمعنى الصنف، إلا امم أمثالكم: أى أصناف أمثالكم، فهذه المخلوقات أصناف أمثالكم تتوالد وتعرف بعضها وتتخاطب فيما بينها وكل منها يعرف فاطرها وخالقها ويسبح بحمده سبحانه وتعالى، إلا أمم أمثالكم.(117/10)
وهنا لفظ الأمة بمعنى الملة والدين، {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة..} على ديانة متبعة على نحلة على ملة على شريعة، {وإنا على آثارهم مهتدون.قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون،} والآية الت قبلها {وكذلك ما أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة ... } ، أى على ديانة ونحلة وشريعة متبعة {وإنا على آثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} ، إذاً طاغوت العرف والعادة من عكف عليه كما تقدم معنا فهو مقطوع عن كل خير ممنوع، لذلك لا يوجد حجة فى دفع نور الله وهداه والإعراض عن رسل الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه إلا هذا الأمر إتباع العادات وتقليد الآباء والإلتزام بالعرف الضآل، وهذا كما قلت له أثر خبيث فكثيرٌ من الناس شطوا وضلوا وهلكوا بسبب العرف وهو أعظم طاغوت عدى به رسل الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه.(117/11)
أبو طالب عم النبى عليه الصلاة والسلام بذل ما فى وسعه فى نصرة ابن أخيه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، عرض نفسه للهلاك وماله للضياع وبذل ما فى وسعه ولم يألوا جهداً فى نصرة النبى عليه الصلاة والسلام فآزره ونصره لكن لم يتبع النور الذى أنزل معه لماذا؟ تقليداً للعرف والعادة،، ولما أحتضر أبو طالب، جاءه نبينا عليه الصلاة والسلام كما فى المسند والصيحيح من رواية سعيد بن المسيب عن والده المسيب بن حزم، وليس للمسيبب رواية فى الصحيحين إلا هذه، والد سعيد، جاءه النبى عليه الصلاة والسلام، أى إلى عمه أبى طالب عندما حضرته الوفاة أى بدايتها، ومرض مرض الوفاة، ولم يصل إلى درجة الغرغرة والإحتضار والصياغ، فعند إذٍ لا يقبل الإيمان ولا تنفع التوبة، عندما جاءته مبادىء الموت وهو فى مرض الموت، جاءه نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال: يا عم قل كلمة أجآج لك بها عند الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد لك بها عند الله، فقال أبو طالب لولا أن تعيرنى قريش لأقررت بها عينك، وكان أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة حاضرين، فقالا: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب، فكان آخر شىء قاله عم نبينا عليه الصلاة والسلام أبو طالب: هو على ملة عبد المطلب، فخرج النبى عليه الصلاة والسلام وهو يقول: والله لأستغفرن لك ما لم أنهى عنك، وهذا من باب رد الإحسان بالإحسان، فإذا نصر أبو طالب الإسلام ينبغى أن يقابل بالإستغفار إلا إذا نهينا من قبل ربنا جل وعلا، لأستغفرن لك ما لم أنهى عنك، فأنزل الله جل وعلا {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} ، وأنزل فى أبى طالب {إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} ، سبحانه وتعالى ...(117/12)
طاغوت العرف والعادة، بحضور هذين الضآلين المضلين أبى جهل وعبد الله ابن أبى أمية بن المغيرة، أترغب عن ملة عبد المطلب، هو على ملة عبد المطلب، فمات على ذلك.
ونبينا عليه الصلاة والسلام عندما بعث له أربعة أعمام آمن به إثنان وكفر به إثنان، {ولله الحجة البالغة ... } آمن به حمزة والعباس رضي الله عنهما، وكفر به أبو لهب وآذاه وعاداه، وكفر به أبو طالب ونصره وأعانه، لكن كل منهما كافر، وحتما لن يكون عذاب أبى طالب كعذاب ابى لهب وسائر الكفار، والله لا يضيع مثقال ذرة وليس معنا هذا أنه سيدخل الجنة لا ثم لا إنما يخفف عنه العذاب فى النار فهو أهون أهل النار عذابا، لكننا نجزم بأنه مات على الشرك وأنه مخلد فى نار جهنم ولا ينفعه ما بذله نحو الإسلام ونصرة النبى النبي عليه الصلاة والسلام لعدم إيمانه بذى الجلال والإكرام.(117/13)
وقد ثبت فى مسند الإمام أحمد وسنن أبى داود والنسائى والحديث إسناده صحيح ورواه الإمام أبو داود الطيالسى أيضا وأبن أبى شيبة فى المصنف ورواه البيهقى فى السنن الكبرى فى السنن الكبرى وابن خزيمة فى صحيحه، والحديث كما قلت صحيح عن على رضي الله عنه أن جاء إلى النبى عليه الصلاة والسلام بعد موت والده أبى طالب، وأبو طالب هو والد على رضي الله عن على وعن سائر الصحابة الكرام، فقال على لنبينا عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله إن عمك ذلك الشيخ الضآل قد مات، قال النبى عليه الصلاة والسلام: إذهب فوارى أباك، أى ادفنه وغيبه تحت الأرض، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينى، يقول على رضي الله عنه: فذهبت فواريته، وإذا مات للمسلم قريب كافر لفه فى خرقة كما يلف الشىء النجس ثم يلقيه بعد ذلك فى حفرة ويهل عليه التراب ولا يكون له ما يكون للمسلمين من كفن حسن وغسل وصلاة وغير ذلك، فجاء على إلى النبى عليه الصلاة والسلام، يقول: ثم جئته فأخبرته أننى واريته، يقول: فدعا لى وأمرنى بأن أغتسل، والإغتسال إخوتى الكرام من تغسيل الميت ومن دفنه على المعتمد المقرر عند أئمتنا الكرام أنه مستحب ليس بواجب وأذكر دليل الإستحباب فى أدلة غير هذه وأبين تعليل الأمر بالإغتسال من تغسيل الميت والوضوء من حمله أيضاً إن شاء الله.(117/14)
ثبت فى سنن أبى داود والترمذى والحديث بإسناد حسن عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: [من غسل ميتاً فليغتسل] ، وفى رواية الترمذى [من غسله الغسل ومن حمله الوضوء] ، أى من غسل الميت الإغتسال ومن حمله الوضوء، وهذا الحديث مع الحديث المتقدم قال أئمتنا يفيد أن الإنسان إذا غسل ميتاً يستحب له أن يغتسل وإذا حمله يستحب له أن يتوضأ، أما استحباب الغسل فلأن الإنسان إذا غسل الميت قد يصيب بدنه عندما يغسله شىء من النجاسة التى على بدن الميت، قد يخرج شىء من جوفه وأنت تصب عليه الماء فيتطاير عليك شىء من النجاسة، وهذا يقع سواء كان المغسول الميت مؤمنا أو كافرا قد يخرج منه شىء من النجاسة من دم إذا كان جريحا أومن شىء يخرج بعد ذلك من قبله أو دبره ويصب عليه الماء فيأتى على المغسل شىء من النجاسة فيستحب له أن يغتسل لا عن طريق الوجوب لأن النجاسة ليست متحققة متيقنة ولو تيقنت أنه على بدنك نجاسة لوجب عليك أن تغسلها لكن بما أن الأمر هناك يعنى مجالاً للإحتمال فاقطع الشك بأن تغتسل وأن تكون على أكمل الأحوال، وأما بعد ذلك الوضوء عند حمل الميت إذا حملناه فلنتوضأ لنزداد طاعة إلى طاعة، فحمل الميت طاعة، يشرع لنا أن نضم إلى هذا طاعة أخرى لتكتمل عندنا الخيرات لا من أجل إحتمال نزول نجاسة ووقوع حدث علينا، هذا هو المعتمد وهذا هو المقرر عند المذاهب الأربعة.
وللإمام أحمد رواية فقط ليس عليها المذهب الحنبلى: أن من غسل كافراً وجب عليه أن يغتسل من باب الوجوب لا من باب الإستحباب لهذا النص المتقدم، أن النبى عليه الصلاة والسلام أمر على أن يغتسل لكن عندنا ما هو أعم من ذلك، رواية أبى داود والترمذى (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) من غسله الغسل ومن حمله الوضوء، فهذا يدل على أن الأمر عام سوآء كان الميت مسلماً أو كافرا وأنه للإستحباب وهو المقرر عند أئمتنا الأتقياء رضوان الله عليهم أجمعين.(117/15)
وقد نقل عن جمع غفير من الصحابة تغسيل الموتى وحملهم دون أن يغتسلوا أو يتوضأو، روى الإمام البخارى فى صحيحه معلقاً بصيغة الجزم والأثر وصله الإمام مالك فى موطئه بإسناد صحيح، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما غسل ابنا لسعيد بن زيد ابن عم ابن نوفيل وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وحنطه ثم دخل المسجد وصلى ولم يغتسل ولم يتوضأ، وهذا صحابى جليل يفعل هذا مما يدل على أن ذلك الأمر للإستحباب.
وثبت فى الموطأ بإسناد صحيح كالشمس أيضا عن أسماء بنت عمير وهى زوجة صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين عنه وعنها وعن سآئر الصحابة الطيبين، أنه عندما مات أبو بكر رضي الله عنه غسلته زوجه أسماء بنت عمير، فلما فرغت من غسله خرجت إلى الباب فقابلها المهاجرون الكرام رضوان الله عليهم، فقالت لهم: إنى صائمة واليوم يوم دارج كما ترون فى شدة البرد، والبرد إذا وقع فى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه يعنى فى الإغتسال شدة وصعوبة لاسيما فى تلك الأيام عند عدم وجود يعنى حمامات يستحم فيها الإنسان، إنى صائمة واليوم بارد واليوم بارد فهل علىّ غسل، فأفتاها الحاضرون قاطبة بأنه ليس عليها غسل وما يجب عليها أن تغتسل مما يبين أن الأمر الصادر من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن من غسل ميتا فليغتسل هذا للإستحباب لا للإيجاب والعلم عند الله جل وعلا.(117/16)
أبو طالب ما منعه من اتباع النبى الذى نصره وبذل ما فى وسعه فى نصرته ما منع من اتباع من نصره وبذل روحه فى نصرته إلاّ العرف والعادة، نصر النبى عليه الصلاة والسلام وما اتبعه لما؟ تقليداً للعرف والعادة وهوعلى ملة عبد المطلب، إخوتى الكرام كما قلت: لكن الله لا يضيع مثقال ذرة، وقد أخبرنا ربنا على لسان نبينا عليه الصلاة والسلام أنه سيخفف عن أبى طالب العذاب وهو أهون أهل النار عذابا، كما ثبت فى الصحيحين وغيرهما من رواية العباس بن عبد المطلب وأبى سعيد الخدرى رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يا رسول الله عمك أبو طالب كان ينصرك ويحوطك ويمنعك فهل نفعه ذلك؟ فقال النبى عليه الصلاة والسلام: نعم هو فى ضحضاح من النار ولولا أنا لكان فى غمرات من النار، والضحضاح: هو الماء الرقيق القليل إذا خط فيه يجاوز كعبيك، هذا يقال له ضحضحاح، أى نار تصل إلى كعبيه فقط لا ترتفع إلى الساقين ومن باب أولى إلى الركبتين وإلى الفخذين وإلى وإلى، ولولا أنا أى لولا شفاعتى وأن الله شفعنى فيه لما بذله فى نصرتى لولا أنا لكان فى غمرات، أى كان فى النار تحيط به من جميع الجهات كما تحيط بالكافرين والكافرات، هو فى ضحضحاح من النار لا تصل إلى الكعبين فقط لاتزيد على الكعبين ولا بمقدار شعرة، ولولا أنا لكان فى غمرات من النار.
وثبت فى الصحيحين أيضاً أنه كان فى الغمرات ثم أخرج منها برحمة الله وتشفيعه لنبينا عليه الصلاة والسلام فيه، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام وجدته فى غمرات من النار فأخذته إلى ضحضحاح من النار ووضع فى أخمصه، وهو المكان المنخفض فى الرجل أسفل القدم، هذا المكان المنحنى المجوف ووضع فى أخمصه جمرتان من نار جهنم يغلى بهما دماغه وإنه لأهون أهل النار عذابا ويرى نفه أنه أشد أهل النار عذابا، نسأل الله العافية والسلامة.(117/17)
وورد فى بعض الروايات وكلها فى الصحيح فقال نبينا عليه الصلاة والسلام لعله تنفه شفاعتى فيجعل فى ضحضحاح من النار ويجعل له نعلين من نار ويجعل له شركان أيضاً من نار، لا يجاوزان الكعبين يغلى بهما دماغه نسأل الله العافية والسلامة، الشاهد إخوتى الكرام: أبو طالب ما منعه من اتباع النبى عليه الصلاة والسلام إلا طاغوت العرف والعادة، هذا الداء هو سبب هلاك كثير من الأشقياء، وقد أخبرنا الله جل وعلا أن أهل النار عندما يدخلونها يدخلونها بسبب هذا الداء وهذا البلاء، انظر قول الله جل وعلا فى سورة الصافات بعد أن حكى نعيم المؤمنين فى الجنة، {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم. إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم. ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم} ، ما سبب هذا؟ {إنهم ألفوا آباءهم ضالين. فهم على آثارهم يهرعون. ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} أى بهذا الداء وبهذا البلاء بطاغوت العرف والعادة بالتقليد الأعمى {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} وما تركهم الله، {ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين.(117/18)
إلا عباد الله المخلصين} ، إذاً ضل أكثر الأولين باتباع الآباء ةاتباع الأعراف والتقاليد الضآلة الباطلة والله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب ليحتكم الناس إلى رسل الله وإلى شرية الله {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين} ، أى بهذا الداء والبلاء وهو طاغوت العرف والعادة، ولذلك كانت الأمم السابقة تستنكر على رسلها وتنكر عليهم أن يأمرهم رسلهم بخلاف ما عليه آباءهم، فانظر مثلاً قول قوم شعيب لنبى الله شعيب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كما حكى الله هذا عنهم فى سورة هود عندما أمرهم أن يتقوا الله فى مكايلهم وموازينهم وألا يبخسوا الناس أشياءهم {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} أصلاتك تأمرك دينك وصلاتك التى تنهاك عن الفحشاء والمنكر تأمرنا أن نترك ما عليه الآباء صلاتك تأمرك بهذا؟ دينك يقبل أن نخالف آباءنا وأجدادنا وأعرافنا وتقاليدنا؟، ما هذا الدين الذى يخرج على الأعراف والتقاليد { ... أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ... } ، هذه حرية شخصية كوننا نتعامل بالغش بالإحتكار بتطفيف الكيل والميزان بالربا بغير ذلك، ما دخل الشريعة فى هذا؟ وما دخل الديانة بهذا؟، كما هو حال الأعراف الضآلة فى هذه الأيام، عندما تقول لإنسان الربا حرام القمار حرام، يقول ما دخل الدين بهذا أصلاتك تأمرك أن تتدخل فى شئوننا الخاصة وفى حرياتنا الشخصية، ما لك ولهذا { ... أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ... } ،من تطفيف وبخس واحتكار وقرض للدراهم والدنانير أى كسر لها بحيث تكون قيمتها ناقصة فبدل أن يكون وزن المثقال الدينار مثقال أربعة جرامات مثلاً ونصف من الذهب، يجعلونها ثلاثة ونصف يتلاعبون فيها { ... أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ... } ،(117/19)
هذه حرية وهذه شطارة فى البيع والشراء وفى أمور الحياة، ما دخلك أنت فى هذه الأمور؟ { ... إنك لأنت الحليم الرشيد} .
قال أئمتنا الكرام: الذى صدر منهم على الحقيقة "إنك لأنت السفيه الجاهل " لكن الله كن عن قولهم بضدد قولهم لشناعة ما قالوه فما حكى قولهم السفيه إنك لأنت بدل الحليم السفيه، الرشيد الجاهل، يعنى أنت سفيه جاهل عندما تأمرنا بترك ما عليه آباءونا وبالتدخل فى حريتنا الشخصية فى أمولنا وغير ذلك، إنك لأنت السفيه الجاهل، وهذا أحد الأقوال الأربعة قيلت فى بيان هذه الجملة المباركة، ومعناها أنهم قالوا ضدها لكن الله كنى عنها لشناعتها إنك لأنت الحليم الرشيد وهم لم يقولواهذا، إنما أنت سفيه جاهل عندما تأمرنا بمخالفة آباءناوتتدخل فى شئوننا وأحوالنا.
وقيل: أنهم قالوا هذا على حسب زعمك، أى إنك لأنت الحليم الرشيد كما تزعم أنت تزعم أنك حليم رزين عاقل رشيد فطن، فكيف تنهانا عن تقليد الآباء وعن أن نفعل فى أموالنا ما نشاء كيف هذا؟ أو أنهم قالوا ذلك استخفافاً به وازدراء واستنكارا يعنى أنت حليم رشيد عندما تأمرنا أو أنهم حقيقة كانوا يعتقدون فيه الحلم والرشد، ونحن نعتقد فيك العقل والرزانة والحصافة، لكن كيف يصدر منك تدخل فى شئوننا وترك تقليد آباءنا؟،كيف هذا، حال الحلماء وحال الراشدين؟ ليس هذا حالهم إنك لأنت الحليم الرشيد، معانى كلها معتبرة وذكرها أئمتنا المفسرون، الشاهد { ... أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاءإنك لأنت الحليم الرشيد} ، طاغوت العرف والعادة وقف أمام هذه المنة التى منّ الله بها على عباده إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهذا كما قلت: كلام عام فى طاغوت العرف والعادة، فلنضع الأسوة على بعض أمثلة نعيشها فى هذه الحياة أختم بها هذه الموعظة إن شاء الله.(117/20)
مثال أول: كثر السؤال عنه ولعل السائل حاضر بيننا نبهنى مراراً، قال: أريد أن تنبه على هذه القضية يكررها، قلت: لعله تأتى لها مناسبة إن شاء الله ضمن مباحث النبوة وأدرجها فيها إن شاء الله وهذا وقتها، موضوع تطويل الثياب وأ، يجر الإنسان ثوبه بحيث ينزل عن كعبيه، صار عرف جاهلى بين كثير من الناس بناءاً على فعل علية القوم من علماء سوء وغيرهم فى جر ثيابهم وأن الجر صار كأنه يعنى محمدة حسنة وأن الإنسان إذا قصر ثوبه كأنه صار مومتهناً، يعنى إما بخيلاً لا يريد أن يزيد شبراً من القماش فى ثوبه وإما بعد ذلك متنطع رجعى ومتحجر يشوه خلقته، وبعضهم يقول يمشى كما تمشى الدجاجة، إذا كان ثوبه إلى منتصف ساقيه، هذا عرف جاهلى انتشر فى كثير من الأوساط وصار جر الثياب هذا يعنى هو العادة الحسنة المتبعة، أعراف جاهلية، هذا عرف جاهلى وهو من الأعراف المنكرة الذى يعرض ما ورد فى شريعة الله المطهرة، فلننظر لما ورد فى شريعة الله ولنضرب بعد ذلك بكل عرف عرض الحائط.
ثبت فى الصحيحن وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة] ، فقال أبوبكر رضي الله عنه: يارسول الله صلى الله عليه وسلم إنى ضعيف وإن إزارى يسترخى " ضعيف البنية والبدن رضي الله عنه وأرضاه فليس له بطن بارزة ولا مستوية إنما غائرة داخلة من ضعفه رضي الله عنه، فإذاره الذى يعقده على بطنه، الإزار عندما يعقد إذا لم يكن هناك بطن إما مستوية أو بارزة الإزار ينزل ما بين الحين والحين، إنى ضعيف وإن إزارى يسترخى إلا أنى أتعهده يعنى إذا نزل عن الكعبين وشعرت مباشرة أرفعه وأشد الإزار ليرتفع الإزار عن الكعبين، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: لست ممن يفعله خيلاء يا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه.(117/21)
الحديث مع أحاديث أخرى يبين المراد وحكم جر الثياب والذى ينبغى أن يفعله الإنسان فى ثيابه إن شاء بعد أن أذكر روايات الحديث.
وثبت فى سنن أبى داود والترمذى بإسناد صحيح عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه] ، فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول صلى الله عليه وسلم فكيف يفعل النساء بذيولهن، من كلمة عموم دخل فيها الذكور والإناث، فإذا كان يحرم جر الثياب كيف يفعل النساء، يعنى ألا تجر المرأة ثوبها ولا تنزله عن كعبيها فكيف يفعل النساء بذيولهن، قال: يرخينه شبرا، أى تجعل الإزار ينزل عن القدمين بمقدار شبر، قالت: إذاً تنكشف أقدامهن، يعنى لو كان شبر فقط والنساء لا يلبسن الجوارب فى العصر الأول، والمرأة عندما تمد رجلها وتمشى يبدو القدم لأن الذى يوجد بمقدار شبر، فعند التحرك قد يظهر شىء من القدم من أصابع الرجل، إذاً تبدوا أقدامهن، يعنى شبر لا يكفى فى الجر، قال: فليرخينه، يعنى الثياب،ذراعا والزراع من بداية الأصبع إلى نهاية المرفق، الذراع الشرعى فليرخينه ذراعا ولا يزدن، يعنى ما زادعلى الذراع يعتبر خيلاء فى النساء، فلتجر ثوبها على الأرض بمقدار الذراع لألا يبدوا شىء من قدميها عندما تتحرك وتمشى، وهذا كما قلت إخوتى الكرام إذا لم تلبس المرأة الجوارب، وإذا لبست المرأة الجوارب ونزلت الثياب بحيث تلتسق بالأرض وتغطى القدمين فلا يلزمها أن تجر شبراً ولا ذراعا لأنها لو قدر أنه يعنى حركت رجلها ومشت لايبدوا شىء من الأصابع ولا من القدمين ولا ولا لوجود الساتر عليهما، لكن إذا لم يكن هناك ساتر حقيقة المرأة ينبغى أن ترخيه شبراً على أقل تقدير أو ذراع لألا يبدو شىء عندما تتحرك وتمشى ولا يجوز أن يبدوا شىء من أعضاء المرأة إذا خرجت من رأسها إلى رجليها فكلها عورة، إذاً كيف يصنع النساء بذيولهن؟ يرخينه شبرا، إذاً تنكشف أقدامهن يرخينه ذراعاً ولا يزدن.(117/22)
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن من صلى وهو مسبل إزار لا يقبل الله صلاته، وهذا مما يدل على أن الإسبال كبيرة وأنه يعنى معصية فظيعة، ثبت الحديث بذلك فى سنن أبى داود قال الإمام النووى عليه رحمة الله فى رياض الصالحين إسناده صحيح على شرط الإمام مسلم ولفظ الحديث عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: بينما رجل يصلى وهو مسبل إزاره أمره النبى عليه الصلاة والسلام أن يذهب فليتوضأ، فذهب وتوضأ ثم جاء وهو مسبل إزاره، فأمره أن يتوضأ فذهب ثم جاء، فسكت عنه النبى عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الحاضرين لم يعلم اسمه: يارسول الله عليه الصلاة والسلام أمرته بالوضؤ ثم سكت عنه، قال: كان يصلى وهو مسبل إزاره ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل.
قال أئمتنا: عندما كان يصلى وهومسبل أمره النبى عليه الصلاة والسلام يذهب ويتوضأ ويأتى، أى بدون إسبال ينبغى أن ينتبه، فجاء مع إسبال، قال: اذهب وتوضأ مرة أخرى، فانتبه لأمره، فذهب وتوضأ ولم يأتى بإسبال قصر الثوب ورفعه، فما أمره بأن يتوضأ بعد ذلك، إن قيل: لما يتوضأ؟ وهل إسبال الثوب من مبطلات الوضؤ؟ لا ثم لا، لكن نقول: الصلاة المقبولة هى التى تنهى عن الفحشاء والمنكر وإذا صلى وهو مسبل دل على أن صلاته ما نهته عن الفحشاء والمنكر وبالتالى ما قبلت، فإذا لم تقبل الصلاة دل على أن الوضؤ الذى حصلت فيه هذه الصلاة فيه أيضاً تقصير، فهو ينبغى أن يعيد الوضؤ مع الصلاة ليحتاط لنفسه، وهذا الذى أرشد إليه النبى عليه الصلاة والسلام هذه علة وهذه حكمة من الأمر له بالوضؤ لأن الصلاة عندما لم تنهه عن الفحشاء والمنكر ينبغى أن يعيدها من أولها، من وضوءها إلى صلاتها.(117/23)
هناك معناً آخر للأمر له بالوضؤ، وهو أن من يسبل إزاره الأصل فى ذلك أنه يفعل خيلاء وكبر سوآء قصد أو لم يقصد، لكن هذا من علامة الكبر والأشر والبطر، والكبر هذا من صفات الشيطان وهو أول المتكبرين، والشيطان خلق من نار والنار تطفأ بالماء، وعليه كأن النبى عليه الصلاة والسلام يقول لهذا الصحابى: إذا أسبلت ففيك خصلة من خصال الشيطان، والشيطان جمرة تتوقد لابد لها من أن تطفأ بالماء فأعد وضوءك يذهب عنك غرور الشيطان وكبره ورجسه ووسوسته فتقصر بعد ذلك ثوبك، ولذلك لما توضأ المرة الأولى وأعاد وما حصل الأثر قال مرة ثانية انتبه الصحابى لنفسه ولانت نفسه فقصر ثوبه وجاء فسكت عنه النبى عليه الصلاة والسلام، فقال بعض الحاضرين: أمرته بالوضوء ثم سكت عنه لماذا؟ قال: كان يصلى وهو يسبل وزالت العلة الآن الثوب قصر، ولا يقبل الله صلاة رجل مسبل.، والحديث كما قلت فى سنن ابى داود وإسناده صحيح.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن المؤمن ينبغى أن يكون ثيابه إلى منتصف ساقيه وهذا هو السنة ولا حرج عليه ولا جناح إذا زاد إلى الكعبين فما نزل عن ذلك إن كان بطراً وخيلاء فلا ينظر الله إليه، وإن لم يكن بطراً وخيلاء فهو أيضاً عاص لله ما نزل عن ذلك ففى النار قصد الخيلاء أو لم يقصد.، ثبت الحديث بذلك فى سنن ابى داود من رواية أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إزرة و (أزرة) المسلم إلى أنصاف ساقيه إلى نصف الساق ولا حرج أو لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، يعنى إن مد الثوب إلى الكعبين، عظمان ناتئان فلا حرج عليه، وما كان أسفل من الكعبين ففى النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه.(117/24)
وعليه يتلخص معنا أحكام الإزار لبسه وجره، السنة أن يكون إلى منتصف الساق ويباح للإنسان أن يمده وأن يطوله إلى الكعبين بحيث لا يستران الكعبان فليس لهما حظاً من إزار المسلم وثوبه وقميصه، إذا استرخى الإزار من غير قصد منك ولا علم فلا حرج عليك فثيابك لو قدر أن هذه الحاشية فتقت وأنت تصلى أو فى السوق فلما فتقت طال الثوب، الأصل كان إلى حدود الكعبين فما فتقت وهى بحدود أربعة أصابع نسى نفسه، وهذا يقع مع كثير منا أحياناً ثوبه يقتق حاشية الثوب المطوية تقتق تنقطع خيوطها فالثوب يطول يصبح نزل عن الكعبين، هذا من غير قصد منك ولا إرادة فلا حرج عنك ولا جناح إن لم تقصد بما حصل عرضاً الخيلاء، هذا حصل من غير قصد منك فحالك إن شاء الله كحال أبى بكر لست ممن يفعله خيلاء، إذا حصل بدون قصد ثم تذهب إلى بيتك تخيطه وتتعاهده، وإذا جر إزاره خيلاء لا ينظر الله إليه، وإذا جر إزاره لا خيلاء ولا كبرا فما نزل عن ذلك ففى النار قصد الخيلاء أم لم يقصد، هذه أحكام خمسة للإزار، هذه الأحكام لهذا الإزار وأن السنة ينبغى أن يكون الإزار إلى منتصف الساق ولا حرج إلى الكعبين لا حرج جرى كثير كما قلت من الأعراف فى كثير من البلدان على خلاف هذا سوآء الذى سيا يعنى الثياب والقميص أو الإزار أو البنطلون، حتى تراه يلبس بنطلون أيضا وعدا عن كونه يعنى ليس بلباس الأخيار لكن مع ذلك يسبل فينزل عن الكعبين وفوق الحذاء بحيث يصل إلى الأرض طيب لما؟ يعنى من جميع الجهات حزمت نفسك وضيقت يعنى لما فقط من الأسفل تريد أن تطول،؟ سبحان ربى العظيم عادة جاهلية، وتأتى بعد ذلك لمن يلبس الثوب أو الإزار يجر لما تجر، يعنى تتشبه بالمرأة؟ ما رخص للإنسان أن يجر ثوبه إلا إذا كان إمرأة شبراً أو ذراعا، أنت لما؟ يعنى عندما تجر ثوبك لما؟ الجر حرام حرام، ثبت فى صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد عندما طعن وهو فى مرض الموت على فراش الموت ودخل(117/25)
الصحابة عليه يسلمون عليه ويثنون عليه دخل شاب من الأنصار فأثنى على عمر فلما ولى رضي الله عنهم أجمعين وجده يجر إزاره فناداه وقال له: ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك، وفى رواية أبقى لثوبك وأتقى لربك، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه كما فى تاريخ المدينة المشرفة على نبينا صلوات الله وسلامه لعمر بن شبة رحم الله عمر لم يمنعه من قول الحق ما كان فيه يعنى بطنه مفتوحة والدماء تسيل منه وهو على فراش الموت وما هى إلا لحظات حتى يفارق الدنيا ومع ذلك ما منعه من قول الحق هذه الحالةالتى هو فيها مع ذلك أمر بمعروف ونهى عن منكر إرفع ثوبك، فالرفع أنقى لثوبك من الأوساخ، أبقى لثوبك لأنه إذا اتسخ وغسلته يتلف ويتمزق، فيبقى فترة أطول، أبقى وأنقى ثم أتقى لربك جل وعلا، هذا هو الحكم الشرعى فما يسير عليه بعد ذلك بعض الناس على حسب أعرافهم عرف جاهلى، كل عرف ينبغى أن يطرح إذا خالف ما جاء فى شريعة الله المطهرة، وتقدم معنا عرف معتبر وعرف منكر، فكل عرف عارض نصاً شرعياً فهو عرف منكر ينبغى أن يلغى وألا يعتبر، وإذا أراد الإنسان أن يسير على عرف قومه وعادة آباءه وأجداده فلا داعى إذاً لا لإرسال رسل ولا إنزال كتب، كل أمة ما تقول ما قاله الضآلون قبل هذه الأمة {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا غلى آثارهم مقتدون.} ، هذا لا يصلح ويصح، فلا بد من تحكيم شريعة النبى عليه الصلاة والسلام فى جميع شئون الحياة {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} .(117/26)
خذ مثالاً آخر هذا اللباس الظاهرى يعنى جرى حوله عرف ردى جر الثياب لباس داخلى معنوى وهو ما أشار إليه ربنا {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن.} ، انظر لعادات الجاهلية نحو ذلك اللباس الثانى التى وجدت فى هذا العصر وهى موجدة فى كل عصر، وجدت عادات جاهلية وأعراف ردية نحو المرأة فى كثير من أحوالها وأمورها فى هذا العصر وهى موجودة فى كل عصر، وجدت عادات جاهلية وأعراف ردية نحو المرأة فى كثير من أحوالها وأمورها وفى صلة الرجل بها، منها موضوع التزاوج بين الذكور والإناث والدافع لهذا التزا وج ما هو الدين فى المرأة والدين فى الرجل هو الذى اشترطه الإسلام، وتنكح المرأة كما ثبت فى الصحيحين وغيرهما والحديث فى الكتب الستة أيضاً باستثناء سنن الترمذى من رواية أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه قال [تنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها فاظفر بذات الدين تربت يداك] ، وهكذا الرجل الشرط الأساسى فيه الدين والصلاح والإستقامة كما فى سنن الترمذى وابن ماجة والحديث رواه الحاكم فى المستدرك والخطيب فى تاريخ بغداد وإسناده حسن من رواية أبى هريرة رضي الله عنه ورواه الترمذى والبيهقى فى السنن من رواية أبى حاتم المزنى، والحديث كما قلت حسن، عن نبينا عليه الصلاة والسلام [إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير] ، وفى رواية [وفساد عريض] ، قالوا: يا رسول الله عليه الصلاة والسلام وإن كان فيه، أى شىء مما لا يرغب فيه من قلة مال أو ذمامة فى خلقه أو غير ذلك أو نزول فى نسب، قال: [إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير، ثلاثة] على نبينا صلوات الله وسلامه يكرر هذا ثلاث مرات، هذا الذى اشترطه الإسلام، جاءك صالح يزوج، وأنت تطلب المرأة الصالحة دون اعتبار جاهلى بعد ذلك، ماذا حصل بعد ذلك فى هذه العصور أعراف جاهلية ضآلة.(117/27)
يحكى لى بعض الأخوة وأنا اطلاع تام على هذه القصة عرض بعض أهل الخير من الدعاة، هذا فضلاً عن الغوات، لكن الدعاة فى هذه الأيام إذا صاروا بغاة فإلى الله المشتكى، من الدعة عرض ابنته على طلبة العلم، وذاك الطالب فى الأصل متزوج وهنا نريد أن نتحفك بها زوجة ثانية، فقال: ليس عندى مانع ولا حرج والله أحل لنا مثنى وثلاث ورباع، وبعد حصول رؤية ودفع المهر واتفاق على كل شىء وتحديد موعد للعقد مع محكمة شرعية فى ذلك المكان ودعوة الناس إلى الوليمة، وإذ الإنتكاس فجأة، لما؟ قال: نتوقف فترة والسبب، يعنى بدا كل شىء فى دينه فى خلقه لا ماذا تريدون، يقول: ما دعونا أحداً إلى الوليمة إلا عيرنا، ما عندكم طعام تطعمون به ابنتكم حتى تزوجوها لمتزوج؟، ويقول: قال بعض الضعاف الذين هم على شاكلتهم: إذا لم يكن عندك طعام أنا مستعد أرسل لك كل يوم طعامها إلى بيتك، وفعلاً قلبوا، ومعنى أن رتب كل شىء وأعادوا بعد فترة المهر لهذا الإنسان قال: لن نزوج، ما هو السب؟ بعض العرف الجاهلى، كيف نزوج متزوج؟، هذه جريمة، وهذا لن يفعله، هذا لو فعله الجهلة لكان فيهم جهلا ونقصا وعيبا، فكيف لو فعله من يعتبر من الدعاة ممن يسلكون مسلك السالف الصالح على تعبيرهم، إلى الله المشتكى، فاتصل ولدان بالوالد من أولاده ليقنعانه يا والدى أنت كنت تقول لنا: إذا سلك الناس هكذا أنا أسير هكذا، لأن الناس يسيرون على ضلال وإذاً الإتجاه المعاكس هو الهدى، قال: ما بالك يا أبى صرت تركض وراءهم، يعنى أنت كنت تقول لنا أنت على خلاف الناس فلما تغير كلامك، قال: لا أستطيع كل من نعزمه يعيرنا، يقولوا: لمن تزوج ابنتك؟ يقول: لفلان، لفلان؟ متزوج؟ متزوج، وزيادة أنت أيضاً عرضت عليه، لهذه ـ لأنك ما تطعمها ما تتقى الله فى ابنتك، يقول له الولد: يا ابى اتقى الله زوجت أختنا التى أكبر لإنسان مهندس ليس عنده زوجة ما كانت تحفظه من القرآن عندك نسيته عندزوجها، اتق الله(117/28)
فى أختنا، يقول: ما أستطيع الأعراف أنا أحرج أمام الناس ماذا أعمل، وفعلاً ألغى النكاح وانتهى الأمر عرف جاهلى.
وحضرت مرة بعض الأعراس ـ يعنى حضرت قصته يخبنى بعض الأخوة، يقول لى: يا شيخ كل عمل جاهلى عمل فى العرس، ويقول لى هذا الأخ وهو خطيب مسجد، يقول: أخذت زوجتى إلى العرس، يقول: عادتنا فيما بيننا أننا إذا نزلت المرأة لتدخل العرس أترك حتى العباة فى البيت لأن بيت العرس لا يدخله أحد خاص بالنساء، يقول: هذه عادتنا فى بعض الأماكن، يقول: فزوجتى تركت عباءتها لما نزلت من الباب وحتماً خطأ، لكنه هكذا يقول، ودخلت إلى هذا البيت الذى خاص بالنساء، يقول: وما فوجىء النساء بعد ذلك إلا بدخول الزوج ودخول بعد ذلك أقرباءه من الذكور وآلات تصوير وفيدوا يصورن الحاضرات فزوجتى تختبىء وراء كرسى ووراء طاولة ونحن أنكرنا بعد ذلك وما أحد وافقنا على هذا وتم العرس بسلام، بعد شهور صارت خصومة بين إخوة والد الزوجة ووالد الزوجة لما؟ قال: تبين لنا أن الزوج الذى تزوج بنت أخينا وهم أعمامها لا يكافؤنا فى النسب، ـ هو دوننا فى النسب، ويقول لى هذا الأخ يقول لا يصلى ولايصوم ويشرب الخمر ويفعل كل رذيلة وفعل كل هذا فى العرس، كل هذا لا قيمة له، إنما بعد فترة تبين أنه فى النسب دونهم، فقاموا يصولون ويجولون ويهددون أخاهم بالقتل إن لم يأخذ إبنته بنت أخيهم من هذا الزوج للألا يعيروا أمام الناس كيف ابنتهم عند إنسان دونهم فى النسب، وأن دونهم فى الدين هذه لا قيمة لها أعراف جاهلية نسير عليها فى هذه الأيام.(117/29)
وقال لى بعض إخواننا الكرام وهو من أسرة طيبة كريمة لما كنت فى بعض البلاد يقول: كنت مع قومى وذكر موضوع النكاح، وقلت: ينبغى الإنسان أن يزوج الرجل الصالح، قال: أنت تزوج يعنى لو جاءك رجل صالح من غير قبيلة، قال: نعم، يقول: فقال لى بعض الحاضرين والله لو جاءنى محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وفداه أنفسنا وأبآءنا وأمهاتنا لما زوجته، أعوذ بالله من هذا الكفر، أعوذ بالله من هذا ـ وهو مسلم يصلى الصلوات الخمس فى المسجد {ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين} ، ليتنا كنا إماء يخدمن النبى عليه الصلاة والسلام ومن يحظى بذلك؟، وأنت يا صعلوق البعيد لو جاءك الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه ليس من قبيلتك ولا نسبك لا تزوجه ابنتك؟ والله لا تسوى بولة حمار أنت الذى تقول هذا الكلام، لكن ماذا يقول الإنسان؟ هذا يقوله من يدعون اتباع النبى عليه الصلاة والسلام وأنهم اهتدوا بهداه واستناروا بنور الوحى، هذه مفاهيم جاهلية، أعراف وتقاليد، ما الفارق بين هذا القول وبين أبى طالب هو على ملة عبد المطلب ولذلك كثير من العبادات الآن تفعل لا على أنها عبادة، على أنها عادة، يعنى المرأة اعتادة أن تتحجب تتحجب، ذهبت إلى بلد أخر يسفروا سفرت، رجل اعتاد أن يطلق لحيته أطلق، ذهب إلى مكان يحلقون حلق، بين قوم يصلون صلى، بين قوم لا يصلون لا يصلى، هذا ليس بدين، الدين أن تعرض أحوالك كلها على شريعة رب العالمين فيما أحببت وفيما كرهت، ولا يتحقق الإيمان بدون هذا.....(117/30)
أعراف جاهلية فى أمر النكاح لا إله إلا الله، أمر الإختلاط، الإختلاط إخوتى الكرام، هل الإسلام قائم بين الصنفين بيننا وبين هذا اللباس المعنوى لنا أن المرأة ينبغى أن تفصل عن كل أجنبى عنها، والأحنبى: هو من يحل لها أن يتزوجها، كل من يحل له أن يتزوج المرأة فهو أجنبى عنها، فخرج اهل المحارم الذين تحرم عليهم المرأة حرمة مؤبدة، فأخو الزوج أجنبى ابن العم اجنبى ابن العمة أجنبى ابن الخال والخالة أجنبى، الذى من القبيلة أجنبى، هذا ينبغى أن تنفصل عنه، فلا يجوز أن تختلط معه، لايجوز ليس لأن تكشف عن وجهها أمامه، لا يجوز أن تختلط يعنى الإختلاط، يعنى حضور الذكور والإناث فى مكان واحد لا يجوز، لا يجوز، لا يجوز، إلا فى الأماكن العامة لضرورة، فى المسجد هن فى جهة ونحن فى جهة، ومن شارع عام، أما أجلس فى بيت ومعى زوجة أخى أوبنت عمى متحجبة أو سافرة كل هذا حرام، بحضور زوجها وبعدم حضوره هذا اختلاط، ولا يجوز الإختلاط بين الذكور والإناث إلا فى الأحوال العامة لضرورة، ما عدا هذا لا يجوز، انظر لأعراف المسلمين نحو هذا الأمر، الإختلاط كأنه صار سنة ماضية، يعنى تأخذ زوجة أخيك تجلس تاكل معها حتى فى /، الإناء الذى يأكل هو منه، وقد تلمس يده يدها، قد، ولما؟ يقول هذه زوجة أخى، وقد يأتى بعد ذلك ضآل بسم الشرع يقول: متحجبة حجاب شرعى، يعنى سترت نفسها إلا وجهها وكفيها، حجاب غوى ليس بحجاب شرعى، من الذى أباح الإختلاط، سوآء كانت متحجبة أو لا، وخلتطة النساء بالرجال فى شرعنا من أقبح الخصال، وسمت الفساق والجهال فى كل وقت وبكل حال ومن أجل موجبات الطرد، الإختلاط من أشنع ما حصل فى الأمة الإسلامية فى هذه العصور الردية، طاغوت العرف والعادة، ولو أن إنساناً تزوج الأن من أسرة مسلمة وأراد أن يحجب زوجته عن إخوته لقامت الدنيا وما قعدت ــ ستفرق الأسرة أنت تهدمها، إخوتك يعنى سيخونون، يا عباد الله ليس الموضوع لا اتهام لا لزوجتى ولا لإخوتى،(117/31)
هذا حكم الله، لا يجوز أن تظهر هذه المرأة أمامهم ولا تختلط بهم، {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من ورآء حجاب} ، ولو أن الأخ جاء إلى البيت وما فتحت له زوجة الأخ الباب أيضاً قامت الدنيا، كيف أخوك يطرد، هى بمفردها، كيف يدخل عليها هذا الأجنبى؟ إما أن ينصرف وإما أن ينتظر عند الباب حتى يأتى هذا الأخ، وإذا كان هناك حجرة منفصلة، يدخل إليها بغير استئذان فليدخل، وأما من لا يدخل إليه إلا باستئذان فلا يجوز أن يدخل هذا الأجنبى ولا يوجد هناك زوج، كلها أعراف ضآلة جاهلية وجدت فى هذه الأوقات ما أنول الله بها من سلطان، وزالذى يخرج عنها يرى عنتا ومشقة وحرجا.(117/32)
انظروا إخوتى الكرام لقصة جرت فى العصر الأول محمد بن اسحاق من رجال أهل السنن الأربعة وروى له مسلم مقرونا صاحب المغازى إمام علم وهو من التابعين رأى أنس بن مالك وتوفى قيل سنة 150 للهجرة فى السنة التى توفى فيها الأمة أبو حنيفة عليهم رحمة الله، وقيل 51 وقيل 52، وهذا أقصى ما قيل فى وفاته، محمد بن اسحاق رحمه الله ورضي عنه، روى عن فاطمة بنت المنذر حديثاً وهى زوجة هشام بن عروة، فهشام بن عروة، ما تحمل هذا وتضايق منه، يقول يحيى بن سعيد: فمل بلغ هشام رحمه الله ورضي الله عنه، بلغه هذا الخبر إختاظ وتضايق وقال: يزعم محمد بن اسحاق أن زوجتى حدثته، والله إن قط، يعنى ما رأها قط، من أين يروى عنها، وبدأ يتهمه بالكذب ويقول: محمد بن اسحاق كذاب وروى الأئمة الثقات كما قلت حديثه فى حديث مسلم مقرونا وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن الحال رحمه الله ورضي الله عنه، يقول الإمام الذهبى فى سير أعلام النبلاء معلقاً على هذه القصة ليتنى حددت الجزء والصفحة، على كل حال يقول: ما زعم محمد بن اسحاق أنه رأها ولا يلزم من روايته عن فاطمة بنت المنذر أن يراها، فما قال: رأيت زوجتك، حتى أنت غضيت، قلت: من أين اختلط بها وأخذ الرواية عنها، ما قال هذا، يقول وقد سمعنا من نساء كثيرات والله ما رأيت واحدة منهن، هذا كلام الذهبى، وقد كان التابعون يسألون أمنا عائشة رضي الله عنها وما رأو لها صورة قط، يعنى هل يلزم من سماع الحديث رؤية واختلاط؟ لا يلزم، فاطمة بنت المنذر فقيهة محدثة روة حديثا عن النبى عليه الصلاة والسلام فلعلها روته فى المسجد فمحمد بن اسحاق كان حاضرا فسمعها فنقل عنها، يقول: حدثتنى أو سمعت فاطمة بنت المنذر تروى ثم ساق الحديث، لكن ذاك الرجل ما تحمل، يغنى كيف هذا يروى عن زوجتى، أين راءها، وهذه يعنى حمية إسلامية لكن حقيقة إذا زادت عن الحد ففى غير محلها.(117/33)
وأذكر إخوتى الكرام ونحن صغار عندما يسألنا المدرس ونحن فى المرحلة الإبتدائى ما اسم أمك؟ نقول عيب يا أستاذ، عيب ما تريد منها، اسم أمك، كيف أقول اسم أمى؟ وما أحد منا يبوح باسم أمه لو ضريت رقبته، إسم الأم عيب، مع أنه لا حرج فيه، يعنى أنت عبد الرحيم بن أحمد، طيب الأم لا يريد يسجل يقول: عيب، إسم أمك عيب ماذا تريد من أمى، وحقيقة هى فى الأصل شهامة إسلامية أصلها وغير إسلامية أن المرأة عند ما نسمى ينوط الحديث عنها، فأنت عندما تقول حجثتنى، قد يوهم أنك جلست معها، قد يوهم أنك اختلط، قد قد، من أين لك هذا؟ أنت ما رأيتها قط، فاتهمه بالكذب من أجل الرواية عنها، قال الذهبى:ما زعم أنه رآها وأنه يلزم من الرواية أن يرآها وقد روينا عن نساء صالحات ما رأيت واحدة منهن، فلا يلزم إخوتى الكرم هذا الأمر كون الإنسان يتلقى العلم عن امرأة ويسمع صوتها فيقال ليس بعورة، فتنة إذا أُمنت فلا حرج، والمرأة تتلقى العلم عن الرجل فلا حرج لكن بالضوابط الشرعية عدم الإختلاط، يوجد حاجز بين الصنفين وهو يتكلم وهى تسمع، أو هى تتلكم وهو يسمع، فلا يراها وهى لا تراه، أى حرج فى ذلك؟ لا حرج فى ذلك وهذا الذى كان يفعله سلفنا مع أمنا عائشة رضي الله عنها ومع النساء الصالحات التى يحدثن بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام من وآء حجاب، لا حرج وإذا اضطر الرجل إلى تعليم النساء اضطر الأصل أن يعلم النساء امرأة وأن يعلم الرجال رجل، إذا اضطر فالمسائلة لها حل شرعى ولا حرج، ليس من الحكمة أن يبقى النساء جاهلات، وليس من الأدب والشرع أن نخلط بين الأستاذ والطالبات، إذاً ماذا نفعل؟ كان شيخنا الإمام الصالح اليشخ عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمه الله يدرس للبنات عندنا فى الثانوية الشرعية التى يدرس فيها بنين وبنات، بنين فى قسم وبنات فى قسم، ففى المواد الشرعية لا يوجد نساء مؤهلات لتدريس المواد الشرعية فإذاً ضرورة، يقول لى: والله يا ولدى ما(117/34)
وقعت عيناى على صورة بنت فى المدرسة، قلت سبحان الله كيق تدخل إذا!؟، قال: يا ولدى يخلى لى الطريق عندما أريد أن أدخل إلى الفصل، سنة ثالثة ثانوية رقمها مثلاً حجرة 10، يخلى لى الطريق إليها بواسطة حارس زوجته تحرس فى مدرسة البنات، فتخلى له الطريق، يدخل له الحارس إلى ثالث ثانوى عرفته، فإذا أردت أن أدخل وقت المحاضرة خلى لى الطريق، وإذا خلى يكون البنات يكن فى الفصل جالسات، فإذا دخلت عند دخولى للفصل أغض طرفى ولا أرى بعين واحدة ثم أوليهن ظهرى، ويستقبل الجدار ويشرح حت تنتهى المحاضرة، انتهت طوى كتابه وخرج وعند المدرسة إعلان عام لا واحد يخرج لأنه يوجد رجل فى هذه المحاضرة، فالفصول كلها مضبوطة لا تفتح باب، فيخرج الشيخ من طريقه ويغادر ماذا جرى؟ فلا حرج، فهذه صفة شرعية، أما يأتى رجل يقابل نساء أو امرأة تقابل رجال، والأشنع من ذلك والأنجس أن نأتى بالرجل ليدرس النساء، والمرأة لتدرس الرجال، والله ليس هذا كفر، هذا أشنع أنواع الكفر، لأنه لا يوجد ضراوة إذاً على الإطلاق، لو وجد ضرورة ودخل الرجل بالصفات الشرعية لابد ربما يحتاط وهو صالح ويوجد ضوابط شرعية يستقبلهن كما قلت بظهره ويلهن ظهره، أما أنه يوجد مادة واحدة لها مدرس ومدرسة فنرسل المدرس إلى البنات والمدرسة إلى البنين ثم يقول بعد ذلك المسئول اللعين عندما يتكلم معه، يقول: أريد منكم أن تتعلموا الإتصال بالنساء وألا يبقى بين، يعنى بينكم وبين النساء حواجز تدخل عليكن امرأة تتهذب أخلاقكم، ما فى داعى يعنى لهذه الفجوة، أنت يعنى ما فى داعى لهذه الفجوة ماذا تريد؟ تريد أن يكفر الطلاب، تريد أن يكفر ولما عرض الأمر على فى بعض الأماكن: قلت للطلاب الحكم الشرعى إذا اضطررتم يعنى لايجوز الدراسة أن تدرسكم امرأة بحال من الأحوال، لكن أرى بعد أن تكلموا المسئولين إذا ماحصل نتيجة أقل الأمور ـ حتى هذه المدرسة تخرج ولوها ظهوركم، إذا تكلمت ما أحد يجيب، إذا جاء أحد من(117/35)
المسئولين، قولوا: ماذا تريد منا؟ مدرسة فى عمرنا يعنى أن نجلس وكل واحد يفكر فى الشهوة ويتحرك منه وينتشر تريدون هذا، أو تريد احد منا يعتدى على هذه المرأة فى وسط الفصل، ماذا تريدون؟، هذا تعليم أو تدمير مذا تريدون؟، انظر روى عن امرأة فلما روى ما رأى عورة، الذهبى يقول: لا على رسلك وعلى مهلك لا يلزم أنه رآها وهو ما ادعى أنه رآها، وقد سمعنا نحن من نساء وما رأيتهن، وكان التابعون ينقلون عن أمنا عائشة رضي الله عنها وما رأوها، هذا إخوتى الكرام لابد منه ولا نريد بعد ذلك عقة مصتنعة ولا نزاهة مزورة، الذى يقول: نخلط بين الصنفين، بين المدرس والطالبات، بين المدرسة والطلاب، بين الطلاب والطالبات، الذى يخلط بين هؤلاء الأصناف ثم يقول:لا يقر الزنا فهو كذاب كذاب، متى ما حصل الإختلاط حصل الزنا شاء الناس أم أبو، نحن عندما يمنع الإختلاط تدرون حتى فى الشارع لا يجوز للرجل أن يختط بالمرأة وأن يسير بجنبها فى شارع لا أن يجلس بجوارها فى فصل خمس ساعات قد لا تجلس هذه المدة هى مع زوجها، فى شارع لا يجوز، وانظر لهذه الصورة فى أطهر العصور وفى أفضلها عصر النبى عليه الصلاة والسلام مع الصحابة والصحابيات، ثبت فى سنن أبى داود وكتاب شعب الإيمان للبيهقى وإسناد الحديث حسن عن أبى أسيد الأنصارى، قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارجاً من المسجد وقد اختلط النساء بالرجال، فى الشارع العام صحابيون وصحابيات وبينهم خير خلق الله عليه وعليه جميعاً صلوات الله وسلامه، سمعته يقول [يا معشر النساء إستأخرن ليس لكن أن تحققن الطريق (أى أن تسرن فى حقه وفى وسطه) عليكن بحآفة الطريق] ، خرجتن من المسجد لا داعى للوسط هذا يسير رجال، رجال مع نساء صار اختلاط، وهذا الإختلاط ممنوع حتى فى هذا المكان، عليكن بحآفة الطريق، يقول أبو أسيد: فلقد رأيت المرأة تلتسق بالجدار عندما تمشى حتى يكاد ثيابها أن تعلق بالجدار من لصوقها به،(117/36)
صحابيات مع صحابين قلوب طاهرة فى زمن نزول الوحى حصل اختلاط صاح النبى عليه الصلاة والسلام بأعلى صوته:يا معشر النساء إستأخرن ليس لكن أن تحققن الطريق، أن تسرن فى حقه وفى وسطه على حآفته صاح النبى عليه الصلاة والسلام بأعلى صوته: يا معشر النساء إستأخرن ليس لكن أن تحققن الطريق، أن تسرن فى حقه وفى وسطه على حآفته، وثبت فى صحيح ابن حبان والحديث رواه أيضاً البيهقى فى شعب الإيمان من رواية أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [ليس للنساء وسط الطريق] ، لا يحل لمرأة أن تمشى فى وسط الطريق، على جانبه الأيمن أو الأيسر، ليس للنساء وسط الطريق، والحديث رواه البيهقى فى شعب الإيمان من رواية أبى عمر بن شماس، ان النبى عليه الصلاة والسلام قال: [ليس للنساء وسط الطريق] ، وسط الطريق لايسرن فيه.(117/37)
يقول الإمام أبو بكر بن العربى فى أحكام القرآن عند تفسير قول الله {وقرن فى بيوتكن} فى سورة الأحزاب، يقول: لقد دخلت أكثر من ألف قرية فما رأيت نساءً أصون ولا أستر من نساء نابلس فى البلاد المقدسة فى بلاد فلسطين، يقول: فأقمت فى تلك البلاد أشهرا فما وقعت عيناى على امرأة قط فى شارع فى سوق إلا فى يوم الجمعة فقط، يخرج النساء وهن متسترات حتى كدن أن يلتسقن بالجدر عندما يمشون إلى المسجد ليشهدن موعظة ثم يعدن فلا يرن بعد ذلك إلى الأسبوع الآتى، نساء فى الشوارع لايوجد، وحقيقة هذه هى الحمية الإسلامية وهذه هى الصفات الشرعية لهذين الصنفين لا اختلاط بين الذكور والإناث إلا فى الحياة العامة بمقدار الضرورة بهذه الصفات، وأما كما قلت رخصة مصتنعة والقلوب طاهرة، وبعد ذلك نزاهة مزورة دعونا من هذا، وإذا أردت أن تتحقق أثر الإختلاط بين النساء والرجال فانظر للحديث التالى الذى رواه مسلم فى صحيحه وأهل السنن الأربعة لترى أثر الإختلاط من رواية أبى هريرة رضي الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: [خير صفوف الرجال أولها وشرها أخرها، وخير صفوف النساء أخرها وشرها أولها] ، طيب لما؟ لما صلت فى أول الصفوف صار بينها وبين الرجال قرب، لأن النساء كن فى عهد النبى عليه الصلاة والسلام يصلين ورآء الرجال، فالتى تصلى فى أول الصفوف يكون بينها وبين الرجال مسافة قريبة، فترى حركاتهم تسمع أصواتهم إذا هذه صلاتها أنقص أجرا، والمراد من الخيرية كثرة الأجر والشرية قلة الأجر، فإن قيل أجر معبر عنه بالشر والنقص، نقول: نعم لأن من قدر على الكمال تركه وأخذ ما دونه يعتبر ناقصا، ولم أرى فى عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام إذا أردت أت تصل إلى التمام ثم نقصت عنه هذا شر بالنسبة لهذا النقص وإن كان خيراً من ناحية وقعه العام وحقيقته هو خير، وجميع صفوف الصلاة خير لكن ليس حال من أمكنه أن يصلى فى الصف الأول وتأخر كحال من أمكنه أن يصلى فى(117/38)
الصف الأول وصلى فى الصف الأول، هذا الخير فيه أكثر وذاك أقل، فذاك عندما فوت على نفسه الخير الأكثر كأنه صار شر ونقص فى حقه، قال أئمتنا: وهذا إذا صلى الرجال والنساء، والنساء ورآء الرجال، أما إذا صلى النساء لأنفسهن فيما بينهن فخير صفوفهن أولها وشر صفوفن أخرها.
إذاً هذا أثر الإختلاط فى بيت الله فى حال مناجات الله المرأة إذا ابتعدت عن مخالطة الرجال كان أفضل وأتقى لها، هن الذين منعوا من تلك الأمور وأما هؤلاء أبيح لهم ما حرم على سلفهم، نعوذ بالله من هذا الفهم وهذا الحكم.(117/39)
إخوتى الكرام: موضوع المرأة هو أعظم حاجز بين الحياة الإسلامية والغربية، فعندنا المرأة عرض يصان، وعندهم سلعة مبتذلة وسيلة للشهوة والتلهية فانتبهوا لهذا، والأعراف الضآلة نحو المرأة كثيرة كثيرة لا أريد أن أسترسل فيها إنما أريد أن أقول: ما يشاع من أنه ينبغى على المرأة أن تكشف وجهها إظهاراً لإنسانيتها وأن سترها لوجهها إمتهان لشخصيتها وهكذا ضياع لهويتها، أقول: إن الدعاية إلى ذلك لا تصدر إلا من خبيث وهو من أكبر أعوان إبليس، فأعظم ما يميز حياء المرأة ويبين طهارتها سترها لوجهها، وأختم الكلام على ذلك بكلام ذكره شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبرى عليه رحمه الله وهو شيوخ الإسلام للدولة الإسلامية العثمانية، وتوفى من قرابة أربعين سنة 1373 للهجرة من واحد وأربعين سنة عليه رحمه الله، يقول فى كتابه قولى فى المرأة وتضمن مقالتين اثنتين لا ثالث لهما بحدود سبعمائة صفحة، السفور والإحتجاب، يقول: ولا خلاف أيضا فى أن السفورحالة بداوة وبداية فى الإنسان، ويراد من السفور كشف الوجه كما سيأتينا، والإحتجاب طرأ عليه بعد تكاملها رواج دينى أو خلقى نزعه عن الفوضى فى المناسبات الجنسية الطبيعية ويسد ذرائعها، ويكون حاجزاً يبن الذكور والإناث ...(117/40)
إنتبه، وقد خص الإحتجاب بالمرأة دون الرجل، أى حجاب؟ الوجه وأية الحجاب التى فى سورة الأحزاب ما زالت أصالة لستر الوجه ليس إلا، {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما} ، أية الحجاب نزلت لستر ما كان يكشف وما كان يكشف فى أول الأمر إلا الوجه والكفين، فكل ما يقوله منك أية حجاب، إذاً ينغى نقول بوجوب ستر الوجه، يقول هنا: وقد خص الإحتجاب بالمرأة دون الرجل لإشتغله فى خارج البيت فلو حجبته لتأخر عن عمله وشق عليه أن يزاول الأعمال والمهن، ولأن موقفه فى المناسبات الجنسية، أى عندما يريد الإتصال بالمرأة موقف الطالب، وهو طالب وهى مطلوبة، فهى تتحجب وهو يطلب، وموقف المرأة موقف المطلوب، فيكون منه الطلب والإيجاب من القبول أو الإداء، واحتجابها يعنى ستر وجهها وسام ردائها وهو متحمية به أمام الرجل كى لا تحتاج إلى الأداء والرفض باللسان أو باليد، عندما سترت المرأة وجهها كأنها تقول للرجال: لا مطمع فىّ، هذا هو حتى لا ـ إذا كشفت متى كشفت هذه الأمانة على الر غبة يتعرض لها الإنسان، تريدينى بعهر أو بطهر بحلال أو بحرام، تقول: لا حتى لا تمتهن المرأة تقول لا لالا، تكثر من لا، سوآء فى زواج أو فى حرام، تغنيها عن هذا ـ ستر الوجه، إذا كان الوجه مستوراً فهى لا تستطيع أن تقترب ولا أن تتعرض ولا أن تصرح، لا إله إلا الله، واحتجابها وسام ردائها وهى متحلية به أمام الرجل كى لا تحتاج إلى االإداء والرفض باللسان أو باليد ففيه صونها عن أن تكون عرضة للرجال فإذا تصدى لها الرجل وراودها بلاحاظه وأرادت هى قبول مراودته تسفر له، هو يمن عن قبولها الطلب، وسفورها لرجل معين من غير سبق طلب منه، إذا كشفت المرأة وجهها أمام رجل من غير طلب، إذا طلب وكشفت يدل على أنها راضية به قيل فلان يخطبك يابنتى فقابليه فسفرت وجاءت دليل على الرغبة، وإن قالت: والله ما أقابله(117/41)
ولا أكشف وجهى أمامه ولو قطعتمونى دل على أنها رافضة، سفورها أمام رجل من غيرطلب، على أى شىء يدل، انظر لكلام شيخ الإسلام: وسفورها لرجل معين من غير سبق طلب منه شعار قبول متقدم على الطلب وإغرار له بالطلب، كأن تقول أنا راغبة راغبة وأنت لا تفهم على أى كشفت الوجه وهذا ـــ نحن معشر النساء افعل أنا أغريك أريد منك أن تتعرض، أريد أن تطلب، بزواج وبغيره هذا على حسب وضعها ووضعه، وسفورها العام شعار القبول والإغراء العامين، إذا سفرت عن وجهها على كل أحد وبرزت إلى الشارع دل أنها راغبة فى كل أحد، كأنها تقول: معشر الرجال إلىّ إلىّ، ما أحد يفهم عنى ولا أحد يتدبر حالى سفورى العام دليل على الرغبة العامة، هذا الحال فى المرأة شاء الناس بعد ذلك أم أبو ومهما أرادوا أن يستروا هذا الحال بعبارات معسولة وأن هذا لا يعنى رغبة ولا يعنى تطلعاً ولا ولا كله باطل باطل.
إذاً موضوع حجاب الوجه كما قلت لن أتكلم عليه وأفصل الكلام، وكنت تعرضت له فى حجاب المرأة المسلمة فإذا أمكنكم أن تسمعوا تلك المحاضرة لعل الله ينفعنى بما نسمع بفضله ورحمته، هتان صورتان ذكرتهما ما يتعلق باللباس الظاهرى ثم باللباس المعنوى، وهناك بعض الصور كان فى نيتى أن أذكرها لكننى أريد أن أقف عند هذا الحد وأعد إن شاء الله وعداً إن أحيانى الله ولا أريد أن أغيره كما هو الحال فى كل موعظة، فى الموعظة الآتية أنم نبدأ فى المبحث الثانى فى تعريف النبى والرسول والفارق بينهما إن أحيانا الله وبقيت الأمور التى حصل فيها عرف جاهلى وما ينبغى أن نسير يعنى نحوها وفيها نحو أعراف الجاهلية كثيرة كثيرة، وهى معلومة ويأتى الكلام عليها ضمن مواعظنا ومباحثنا إن شاء الله.(117/42)
أسأل الله برحمته أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل أعمالنا صالحة ولوجهه خالصة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لآباءنا وأمهاتنا واغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا ولمن أحسن إلينا ولجيراننا ولأزواجنا وأولادنا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(117/43)
أفضل البقاع المساجد
(حديث ديني)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
أفضل البقاع المساجد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلم نجد له وليا مرشدا الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنه وهو اللطيف الخبير اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله بيدك الخير كله واليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض الأعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلا في كتاب مبين يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا اله الا هو فأنا تؤفكون الكرام أن المساجد هي أفضل البقاع وأحبها إلى رب الأرض والسماء ففيها نوره وهذه وإليها يأوي الموحدون المهتدون وحقيقة حقيقة هم الرجال الذين يتصفون بأطيب الخصال فهم الذين لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسماوات وهم الذين يعظمون الله فيسبحونه ويصلون له وهم الذين يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم وهم الذين يخافون من ربهم ويستعدون للقائه "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار".(118/1)
نعم إخوتي الكرام هؤلاء الرجال حقا أحسنوا صلتهم لربهم عز وجل وأحسنوا صلتهم لعباد الله فعظموا الله جل وعلا وأشفقوا على عباد الله ومع ذلك اتصفوا بالخوف من الله جل وعلا والوجل منه وهذا من علاقة سعادتهم كما قال العبد الصالح أبو عثمان النيسا بوري وهو سعيد الله إسماعيل الذي توفى سنة ثمانية وتسعين ومئتين من الهجرة يقول هذا العبد الصالح من علاقة سعادة الإنسان أن يعمل الصالحات وأن يطيع رب الأرض والسماوات ويخاف أن يكون مردودا مطرودا ومن علاقة شقاوة الإنسان أن يعمل السيئات ويرجو بعد ذلك أن " 24: 6"
يكون مقبولا وهؤلاء العباد عظموا الله عز وجل وأحسنوا إلى عباد الله وأشفقوا عليهم ومع ذلك يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار إخوتي الكرام وهذه الصفة الرابعة التي نعتهم الله بها في القرآن كنا نتدارسها وقلت نتدارسها ضمن مبحثين اثنين حول الخوف وحول يوم القيامة أما الخوف فقد ذكرت أننا سنتدارسه أيضا من ضمن أربعة مراحل مضى الكلام على ثلاثة منها فيما يتعلق بتعريف الخوف ومنزلته الخوف في شريعة الله وثمرة الخوف وما يحصله الخائف من ربه من ثمرات طيبة في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة وبقي علينا الأمر الرابع المتعلق بالخوف ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين إخوتي الكرام إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة وهي على تعددها تحصر في ثلاثة أسباب أولها تعظيم لله جل وعلا وإجلاله وثانيها الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقا بفعل الطاعات أو ارتكاب المحظورات " 18: 8 "(118/2)
السبب الثالث من أسباب الخوف وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين خشية سوء الخاتمة فهذه الأمور الثلاثة تدعو هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال تعظيم الله جل وعلا وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء سيختم لهم وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله الموعظة وفيما بعدها فلنتدارس في هذه الموعظة السبب الأول منها إجلال الله وتعظيمه نعم إخوتي الكرام هؤلاء الرجال يجلون الله جل وعلا ويعظمونه لأنه عظيم لأنه جليل وينبغي لهذا العبد الفقير الذليل أن يجل مولاه الكبير الجليل سبحانه وتعالى لا لعله سوى ذلك فأنت فقير والله غني وأنت ضعيف والله قوي وأنت ذليل والله خليل وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تجل الله وأن تهابه وتخافه وكل من استحضر هذا المعنى هذا لا بد أن يخاف الله عز وجل إخوتي الكرام الخوف من الله تعظيما له وإجلالا له لا من أجل ثواب ولا من أجل خشية عقاب " 12: 10 "(118/3)
إنما هو إله عظيم جليل ينبغي أن نجله وأن نخاف منه وحقيقة من عرف الله جل وعلا وعرف أن ما يجري في هذا الكون من عرشه إلى فرشه ما هو إلا آثار أسمار الله وصفاته آثار صفات الجمال والجلال آثار صفات البر والقهر لا قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتعز من تشاء لآبه بغير حساب فمن استحضر صفات الكريم الوهاب أنها هي التي تعمل في هذا الكون من عرشه إلى فرشه لا بد وأن يخاف الله جل وعلا لا بد وأن يجل الله جل وعلا لا بد وأن يهاب الله سبحانه وتعالى وأن يعظمه وهذا النوع هو أعلى أنواع الخوف وقد أمرنا الله بأن نخاف نفسه وأن نخشاه حق خشيته في آيات كثيرة من القرآن فقال جل وعلا في سورة آل عمران "لا يتخذ المؤمنون................ ويحذركم الله نفسه" ويحذركم الله نفسه لا طمعا في ثوابه ولا خشية من عقابه ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل إن تبدو ما في صدوركم أو تخفوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير "53: 12 "(118/4)
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمرا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد نعم إن هذا الخوف هو أجل وأعلى وأرفع أنواع الخوف وقد أشار إلى هذه المرتبة في خوف الله جل وعلا الخوف منه لتعظيمه وإجلاله أئمتنا الكرام كما قال العبد الصالح ذو النون المصري وهو ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض توفى سنة خمسة وأربعين ومئتين للهجرة من العلماء الربانيين الكرام كان مجاب الدعوة ولما توفى عليه رحمة الله أظلت الطير جنازته حتى دفن ذو النون المصري ومن كلامه العذب المحكم أنه كان يقول من تطأطأ لقط رطبا ومن تعالى لقي عطبا. من تطأطأ وتواضع في هذه الحياة لقي رطبا والرطب يجنيها الإنسان عندما يلتقطها من الأرض ومن تعالى وشمخ بأنفه لقي عطبا ومن كلامه المحكم الذي تناقله أئمتنا عنه وأكثروا من ذكره ومن اللهج به وبخاصة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم جميعا رحمات رب البرية "51:15 "(118/5)
كان يقول هذا العبد الصالح والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله وبمحبته وما طابت الآخرة إلا بمغفرة الله ورحمته وما طابت الجنة إلا برؤية الله أو مشاهدته يقول هذا العبد الصالح ذو النون مشيرا إلى هذه المرتبة من أنواع الخوف المكلفين من رب العالمين خوفهم إجلالا له وتعظيما يقول خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي ويريد بذلك رحمة الله أي أن الرجال الكاملين يخشون من فراق رب العالمين ومن غضبه عليهم أضعاف ما يخشونه من نار الجحيم خشية النار الخوف من النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي ويحذركم الله نفسه نعم إخوتي الكرام إن هذه المرتبة هي اجل أنواع الخوف أن تخاف من الله إجلالا له وتعظيما له وهكذا أن تعبده لأنه إله عظيم يستحق العبادة سواء أمرك بالعبادة أو لا سيثنيك على العبادة أو لا وسواء نهاك عن مخالفته أولا وسواء سيعذبكم على المخالفة أنت تطيعه وتعبده لأنه إله عظيم " 15: 17 "
فتقوم بحقوق ربك عليك في كل حين ويحذركم الله نفسه وإذا ما أمرنا الله بعبادته هل يصلح منا أن نتخلى عنه وأن لا نلجأ إليه وإذا ما جعل الله في الآخرة جنة ولا نار هل يصلح منا أن نبتعد عنه هل البعث لم تأتنا رسله وحاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق الحياء من الرب الملهم هب أنه ليس هناك بعث وليس هناك نار تضطرم يوم القيامة وتغلي وتفور أليس من حق الله أن نعبده وأن نعظمه وأن نجله وأن نستحي منه فلا عزة ربنا وهذا المعنى قرره أئمتنا الكرام وانظروه موسعا إخوتي الكرام في كتاب مفتاح ومنشوري العلم والإرادة لابن القيم في الجزء الثاني صفحة ثماني وثمانين وما بعدها وانظروه في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السادس عشر صفحة ثلاثة وخمسين ومئتين وما بعدها فهذا هو أجل أنواع الخوف وعبادة الله تعظيما له أعلى أنواع العبادات والسبب في هذا أن من يخاف " 12:19 "(118/6)
من الله إجلالا له أعطى الرب حقه وقام بما ينبغي أن يقوم به العبد نحو سيده والأمر الثالث أن من عبد الله جل وعلا تعظيما له وخافه إجلالا له ما جعل الله وسيلة لمنفعته وشهواته ولتنعمه وللذاته إنما عبد الله لأنه إله عظيم إله عظيم يستحق منا العبادة في كل حين في كونه تكرم علينا بعد ذلك بجنات النعيم أي بزيادة الإحسان وصبر منه كما أغدق علينا نعمه في هذه الحياة فضلا منه وكرما دون استحقاق للمخلوقات على خالقها وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها والأمر الثالث أن من عبد الله إجلالا له ومن خافه تعظيما له لا ينقطع عن العبادة ولا يفتر عن الخوف وإن حصل مطلوبة وإن أسقط الله عنه الأمر والنهي وإن وإن فهو يقول أنا عبد وسيدي رب ولا يصلح للعبد إلا أن يخاف من الله وأن يتذلل له سبحانه وتعالى إخوتي الكرام هذا هو أجل أنواع الخوف ويحذركم الله نفسه وقد أشار الله إليه في آيات من القرآن وقدمه على الخوف من وعيده ومن النيران وقال جل وعلا في سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم "05: 21"(118/7)
والآية تقدمت معنا في ثمرات الخوف لكن انتبهوا إلى هذه الدلالة التي تطرب لها عقول الرجال يقول ذو العزة والجلال وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ديارنا أو لتعودن إلى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد نوعان من أنواع الخوف لمن خاف مقامي وتقدم معنا أن المصدر هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول وعلى الأمرين في ذلك دلالة على بحثنا ألا وهو أن الخوف من الله إجلالا له وتعظيما هو أعلى أنواع الخوف ذلك لمن خاف مقامي عن قيام الله عليه بالإطلاع والمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة فأنت في قبضته وجميع من في هذا الكون من عرشه إلى فرشه تحت حكم الله جل وعلا ذلك لمن خاف مقامي قيام الله عليه بالمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة ذلك لمن خاف مقامي المصدر مضاف إلى المفعول إلى من خاف قيامه بين يدي في هذه الحياة وبعد الممات فعلم أنه فقير محتاج إلي في جميع الأوقات ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ذكر الله نوعين الخوف قدم الخوف "56: 22".(118/8)
منه إجلالا له على الخوف من وعيده وعقابه وناره ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي نعم إخوتي الكرام إن هذا النوع من أنواع الخوف هو أجل أنواع الخوف على الإطلاق ويحصل هذا النوع في نفس الإنسان عندما يعرف الإنسان الصلة الحقيقية بينه وبين ربه الرحمن فأنت فقير والله غني أنت ضعيف والله قوي أنت ذليل والله جل وعلا جليل أنت لا تقوم بنفسك ومحتاج إلى ربك في جميع أحوالك والله هو الغني الحميد هذا هو أجل أنواع الخوف وكما قلت يترتب على معرفتك بنفسك ومعرفتك بربك ولذلك قال أئمتنا الكرام من عرف نفسه عرف ربه والأثر روي عن العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي الذي توفى سنة ثماني وخمسين ومئتين للهجرة وهو من العلماء الربانيين الصالحين في هذه الأمة وكذلك يقول لا يزال العبد مقرون بالتواني ما دام مقيما على الأماني ومن كلامه المحكم عمل كالثراء يعني لا حقيقة له ومشوب بالأخلاط والآفات عما كالثراء وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرحل والتراب " 51: 24 "
ثم تطمع بالكواعب الأتراب والنظر إلى وجه الكريم الوهاب هيهات هيهات أنت سكران من غير شراب ثم يقول ما أجلك لو بادرت أجلك ما أقوالك لو خالفت هواك يقول هذا العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمة ربنا اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا هذا العبد الصالح صاحب هذه الحكمة من عرف نفسه عرف ربه وليس هذا بحديث ينسب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما توهم ذلك بعض الأنام وقد حقق أئمتنا الكرام هذا القول وبينوا أنه ينسب إلى هذا العبد الصالح منهم شيخ الإسلام الإمام النووي في فتاواه المشهورة ومنهم أيضا الإمام ابن القيم الجوزية في الجزء الأول صفحة سبع وعشرين وأربع مئة من مجالس السالكين ومنهم الإمام السيوطي وألف رسالة حول هذا الأثر عن هذا العبد الصالح سماها القول الأشبه في بيان معنى حديث من عرف نفسه عرف ربه وقد ذكر الإمام السيوطي" 49: 26 "(118/9)
عشرة أوجه في شرح هذا الأثر وضغطها الإمام ابن القيم عليهم جميعا رحمة الله إلى ثلاثة معاني خلاصتها الأمر الأول هو الذي يتعلق ببحثنا إن معنى هذا الأثر إما أن يكون من باب النهي أو الضدية أو الأولوية من باب الضدية أو الأولوية أو النفي أما الضدية عرف نفسه لصفات النقص أو الفقر أو الاحتياج عرف ربه في ضد ذلك فإذا عرفت نفسك فقير ضعيف محتاج ذليل عرفت أن الله جل وعلا بخلاف ذلك فمن عرف نفسه عرف ربه ومن باب تكملة معنى الأثر على حسب المعنيين الآخرين عرف نفسه من باب الأولوية عرف ربه أي من عرف أنه يتصل بحياة وعلم وقدرة ورحمة وغير ذلك من صفات الكمال التي تناسب حالة وهي محفوفة بالنقص من عرف أنه يتصف بذلك يعرف يقينا أن الله يتصف بذلك الكمال من باب أولى فالذي منحك حياة ناقصة فيه حياة كاملة والذي منحك علما قليلا وهو بكل شيء عليم والمعنى الثالث للأثر من عرف نفسه عرف ربه من باب النفي " 25: 28 "
كما أنه لا يمكن أن يقف على حقيقة نفسك وإدراك كنه روحك فلن تقف على إدراك حقيقة ربك جل وعلا فالله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فإذا كنت تعجز عن إدراك حقيقة الروح ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الرب جل وعلا ومالك أن تؤمن بما أخبرنا الله جل وعلا عن صفاته وأن تمره حسبما يليق بذاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشاهد المعنى الأول من عرف نفسه عرف ربه عن طريق الضدية لعلمت أنك فقير فالله هو الغني فالذي يحقق معرفة الصلة بين الخالق والمخلوق سيخاف من الخالق ويجله ويعظمه وهذا هو خوف الإجلال هذا هو خوف التعظيم لا لتفريط فيك ولا لانتظار خاتمة ستقابلك وتلاقيك أنما أنت تجل الله وتعظمه لأنه إله عظيم يستحق من عباده أن يجلوه وأن يخافوه وأن يهابوه وأن يعظموه في كل حين ويحذركم الله نفسه ذلك لمن خاف مقامي " 05: 30 "(118/10)
وخاف وعيد إخوتي الكرام وإذا استحضر الإنسان ما لله من صفات حسان سيهابه ويخاف منه ويجله ويعظمه ولا بد ويستحيل قطعا أن نستعرض ما لله من صفات الكمال في هذه الموعظة لكن سأشير إلى خمسة منها وهذه الصفات انتبهوا لها إخوتي الكرام وتقدم معنا أن ما في هذا الكون من قبض وبسط من نعمة وضر كل هذا أثر صفات الجمال والجلال التي يتصف بها ذو العزة والجلال كل هذا أثر صفات الرحمة والقهر التي يتصف بها ربنا عز وجل الصفة الأولى في الله والتي إذا استحضرها الإنسان مع صفات الله سيخاف من الله ويجله ويعظمه لأنه يستحق ذلك صفة العلم وما أدراك ما صفة العلم يتصف بها ربنا جل وعلا فلا يخفى عليه بهذه الصفة خافية في الأرض ولا في السماء يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء من استحضر يخاف من الله ويجله " 57:31 "(118/11)
وقد قرر أئمتنا في كتب التوحيد أن أعظم واعظ أنزله الله من السماء إلى الأرض وأبلغ زاجر نوه الله به في كتبه التي أنزلها على رسله على نبينا عليهم جميعا صلوات الله وسلامه أعظم واعظ وأبلغ زاجر إخبار الله لعباده بأنه يعلم سرهم وعلنهم ولا تخفى عليه خافية منهم هذا أعظم واعظ أبلغ زاجر تأمل معي آيات الله ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا ثم ينبأهم بما عملوا يوم القيامة إنه بكل شيء عليم هو مع الاثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والقليل والكثير معهم بعلمه وإحاطته ومراقبته وإطلاعه فلا تخفى عليه خافية من شئونهم ألا أنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور وهذا المعنى لا تخلو منه ورقة من ورقات المصحف تأمل القرآن من أوله لآخره لن تجد ورقة من ورقات المصحف تخلو " 50: 33 "(118/12)
من أخبار الله لعباده وأنه يعلم سرهم ونجواهم ولا تخفى عليه خافية منهم أينما كانوا سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم إستوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور هذا هو أبلغ واعظ أعظم زاجر أنزله الله علينا لنزدجر به ولنعظم يسببه ربنا من علم أن الله عليم ولا تخفى عليه خافية من شئون عباده فيستحي من ربه ويهابه ويعظمه ويجله ولا يوجد أحد في الوجود يتصف بصفة العلم في كل شيء إلا الرب المعبود فهو بكل شيء عليم وكل من عداه يصدق عليهم قول ربنا جل في علاه وما أتيتم من العلم إلا قليلا العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلانه يتغمغم ما للتراب وللعلوم وأنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم صفة العلم انتقل منها إلى الصفة الثانية تخلع القلب وتوجب عليك هيبة الرب " 48: 35 "(118/13)
توجب عليك إجلال ربك والخوف منه جل وعلا تعظيما لشأنه لا من أجل جنته ولا من أجل ناره تعظيما لشانه فهو إله عظيم جليل ينبغي أن نهابه وأن نخاف منه في كل وقت صفة القدرة التي يتصف بها وينفذ بها ما شاء وما أراد سبحانه وتعالى لا راد لحكمه ولا معقب لقضاءه هو على كل شيء قدير ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والعالم بأسرهم علويهم وسفليهم مشيئتهم مرتبطة بمشيئة ربهم وقد انتهى سعي الخلق والمخلوقات من عرش رب الأرض والسماوات إلى الثراء انتهى عند آيتين من كتاب الله جل وعلا الآية الأولى في سورة الدهر في سورة الإنسان وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما والآية الثانية في سورة التكوير وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فمشيئة العباد مقيدة بمشيئة ربهم جل وعلا وإذا أشاءوا الشيء وأرادوه وأذن الله لهم في مشيئته وإرادته لا يستطيعون أن ينقذوه إلا أقدرهم الله على ذلك " 59: 37 "(118/14)
والله جل وعلا مشيئته مطلقة وقدرته كذلك ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن من استحضر هذا في كتاب الله وأن الله يتصف به فيها به ويخافه ويجله ويعظمه مشيئة الله جل وعلا وقدرته عامتان شاملتان لكل شيء سبحانه وتعالى وأما العباد فحالهم كما قال شيخ الإسلام أبو عبد الله الإمام الشافي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا وهذا الكلام عامة ثابت صحيح كما قال شيخ الإسلام ابن عبد البر في كتاب الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء في صفحة ثمانين في ترجمة الإمام الشافعي يقول هذا العبد الصالح وهذا من شعر الإمام الشافعي الذي لا يختلف فيه وهو أصح شيء عنه واثبت ما خيل في الإيمان بالقدر وهذا الشعر نقله أئمتنا عن هذا العبد الصالح نقله الإمام البيهقي في الأسماء والصفات وفي السنن الكبرى وفي كتاب الاعتقاد ونقله في كتاب البعث والنشور عن الإمام الشافعي ونقله أئمتنا وخلاصة ما نقل من أبيات تبين الصلة بين الخالق والمخلوق ويترتب عليها تعظيم المخلوق لخالقه وإجلاله له يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله " 51: 39 "(118/15)
ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم غني ومنهم فقير ومنهم حسن ومنهم شقي ومنهم سعيد وكل بأعماله مرتهل ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن من استحضر هذا سيهاب الله ويخاف الله ويجله قطعا وحزما ويحذركم الله نفسه وصفة القدرة وبها ينفذ الله ما شاء وما أراد فهو على كل شيء قدير كما أنه بكل شيء عليم والصفة الثالثة من الصفات الخمس التي سنتدارسها لتكسب قلوبنا الحياء من ربنا والخشية له جل وعلا تعظيما له صفة الغنى سبحانه عليم بكل شيء قدير على كل شيء غني عن كل شيء فما خلق العباد يتعزز بهم من ذله ولا يتكثر بهم من قلة سبحانه لو أعطاه أهل السماوات والأرض ما نقص ذلك من ملكه شيئا سبحانه وتعالى هو الغني وكل من عداه فقير إليه يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد " 51: 41 "(118/16)
إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وأخص وصف في ربنا الغني كما أن أخص وصف في من عداه الفقر وعلة احتياج العالم بأسره من عرشه إلى فرشه علة احتياج المخلوقات إلى رب الأرض والسماوات فقرها وعنى رب عنها فنحن الفقراء وليس علة احتياجنا إلى ربنا حدوثنا ولا إمكان حدوثنا كما قرر الفلاسفة والمتكلمون لإثم لا لعلة احتياج العالم إلى خالقه فقر المخلوقات وغنى رب الأرض والسماوات والفقير لا يستغني عن الغني فنحن نحتاج إليه بأكثر من عدد أنفاسنا التي نتنفس بها من أجل ثبوت حياتنا الغني غني الرب هو الغني سبحانه وتعالى من استحضر هذه الصفة فيه سيخاف من الله جل وعلا أجلالا وتعظيما لكن هذا المعنى لا يعرفه إلا من كان إنسانا كريما لا يعرفه من كان شيطانا رجيما لا يعرف الفضل لذوي الفضل إلا ذوي الفضل من الذي يهاب من الله عز وجل الأتقياء الأكياس الرجال الذين عظموا الله وأحسنوا إلى خلقه ومع ذلك يخافون يوما تنقلب فيه القلوب والأبصار غنى الرب جل وعلا إذا استحضره الإنسان سيخاف من الله يروي الإمام ابن القيم في مدارج السالكين عن شيخه شيخ الإسلام " 58: 43 "(118/17)
الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه أرسل إليه ورقة في آخر حياته وفيها مقدمة في التيسير وقد كتب على غلافها أبيات من الشعر يقول فيها: أنا الفقير إلى رب البريات أنا المسكين في مجموع حالات أنا المظلوم لنفسي وهي ظالمتي والخير إن يأتنا يأت من عنده ثم يقول عليه رحمة الله: والفقر لي وصف ذات اللازم أبدأ كما الغني وصف له الذات الحال حال الخلق أجمعين وكلهم عنده عبد له آت فمن بغى مطلبا من غير خالقه فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي أخص وصف فينا الفقر وأخص وصف في ربنا الغنى وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول أيضا: أنا المكدا وابن المكدا وهكذا كان أبي وجدي هذا حالنا هذه صفتنا وتلك صفة ربنا وحقيقة من استحضر ضعفه وقوة الله ومن استحضر فقره وغنى الله ومن استحضر ذله وعز الله سيهاب من الله ويخاف منه ولا بد وهذا خوف الإجلال خوف التعظيم لا لسبب آخر الصفة الرابعة في ربنا الكريم التي توجب علينا أن نجله وأن نعظمه اعترافا بحقه علينا دون شيء آخر سبحانه غني كريم بكل شيء عليم على كل شيء قدير غني عن العالمين هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين هو يجب أن يجود بغير قيود ولا حدود سبحانه وتعالى من أجل ذلك خلق هذا العالم من أجل يجود ويتكرم عليه " 14: 46 "(118/18)
وقد أمرنا الله أن نسأله وأخبرنا إذا لم نسأله فسيغضب علينا لأنه كريم كما أن العباد يغضبون من سؤالك فالله يغضب من عدم سؤالك وقارن بين الأمرين لتعلم علة الربوبية وكذلك العبودية إن سألت العباد غضبوا وضجروا وإن تركت سؤال الرب غضب عليك ومقتك وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال ربنا جل وعلا وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون قد ثبت في سند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة والحديث رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من لم يسأل الله يغضب عليه لن تتعرض لنفحات الله ولجوده ولكرمه من لم يسأل الله يغضب عليه من استحضر هذه المعاني في ربنا سيجله تعظيما له وحياء منه وإجلالا له سواء بعد ذلك أدخلك الجنة أو النار فهذا لا دخل لك فيه ولا ينبغي أن تفكر فيه إنما ينبغي أن تجل الله جل وعلا وإذا تكرم عليك بالجنة زيادة كرم وفضل وإذا من عليك بالنجاة من النار زيادة كرم وفضل إنه إله عظيم جليل كريم له علينا حق العبادة وينبغي أن نخافه في كل حين ويحذركم الله نفسه الصفة الرابعة صفة الغنى وأما الصفة الخامسة صفة الجلالة والعظمة " 32: 48 "(118/19)
سبحانه ما أجله سبحانه ما أعظمه وعظمة الله وجلاله لا يمكن أن نوفيها عشر معاشرها إذا أردنا أن نتدارسها أنا سأشير إلى شجرات من جلالة الله من عظمة الله ذكرها الله في سيدة آيات القرآن وأفضل آياته على الإطلاق هي آية الكرسي ثبت في المسند وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام أبو داوود ورواه الحاكم فيالمستدرك مستدركا به على الصحيحين وهو واهم فهو في صحيح مسلم من رواية أبي أمامه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ابن كعب أي آية في كتاب الله فقال أبي بن كعب آية الكرسي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال ليهلك العلم أبا المنذر هنيئا لك العلم بالتوفيق والسداد والتوفيق للعلم وأطابة الجواب ليهلك العلم أبا المنذر الله لا إله إلا هو الحي القيوم تأمل ما في هذه الآية من إشارات إلى عظمة رب الأرض والسماوات وسنتدارس ثلاثة منها في هذه الآية الكريمة أولها مطلع الآية "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" حي قيوم سبحانه وتعالى حي حياة كاملة تامة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء ليس كحياة المخلوقات لذلك أتبعها الله بقوله " لا تأخذه سنة ولا نوم " هذه حياة ذاتية ما وجدت بعد أن كانت معدومة ولم يطرأ عليها العدم وفي حال اتصاف الله بها وهو متصف بها أزلا وأبدا لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه لا تأخذه سنة ولا نوم وهو القيوم القائم بنفسه " 48: 50 "(118/20)
القيم المدير لشئون خلقه فلا يوجد شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه إلا بتدبير ربه وتقديره سبحانه وتعالى حي قيوم وهاتان الصفتان لربنا الرحمن هما أصل سائر صفاته الحسان فصفات الله إما أن تكون ذاتية أو فعلية فجميع الصفات الذاتية أصلها صفة الحياة وجميع الصفات الفعلية أصلها صفة القيومية وبهاتين الصفتين أشار الله إلى جميع كمالاته وصفاته الحسنى العلى الله لا إله إلا هو الحي القيوم وما ذكر الله هذين الاسمين مقترنين إلا في آية الكرسي وفي مطلع سورة آل عمران "ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وفي سورة طه "وعنت الوجوه لله الحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما" الله لا إله إلا هو الحي القيوم الإشارة الثانية.
"له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتقديرا وتدبيرا ومصيرا كل ما في هذا العالم علوية وسفلية خلقه الله يملكه الله يدبره الله سيصير ويؤول إلى الله جل وعلا هو المنفرد في هذا من علم هذا وإنه إذا استحضر نفسه صمن هذه العوالم أنه أقل من قطرة من بحر في جنب ملك الله وأقل من ذرة رمل من رمال الدنيا حقيقة يهاب من الله ويجله تعظيما لشأنه له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ملكا تدبيرا مصيرا " 13: 53 "(118/21)
وهذا العالم بأسره سيصير إلى ربه وانظر إلى الصور التي سيصيروا إليها وما في ذلك من دلالة على عظمة ربنا جل وعلا ثبت في صحيح مسلم والحديث رواه البيهقي في الأسماء والصفات ورواه الإمام البغوي في معالم التنزيل وه صحيح في مسلم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين فهو في حديث صحيح ثابت عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام قال ابن عمر رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يقبضهن بيمينه وفر رواية ثم يأخذهن بيمينه فيهزهن جل وعلا فيهزهن السماوات يطوي الله السماوات يقلب الله السماوات ثم يأخذهن يقبضهن بيمينه جل وعلا ثم يقول: انا الملك اين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوى الله الاراضين ثم ياخذهن بشماله جل وعلا فيقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون انظر لعظمة الرب جل وعلا وجلاله السماوات السبع في كف الرحمن كأنها خردلة يطويها جل وعلا بيمينه والأراضين السبع كذلك من استحضر هذا المعنى سيخاف من الله عز وجل ولا شك إخوتي الكرام ما ورد في هذا الحديث الصحيح من وصف الله بيدين مباركتين يتصف بهما إحداهما يمنى والأخرى شمال يثبت ما يتصف به ربنا ذو العزة والجلال كما أخبرنا نبينا الذي ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه دون أن ندخل في ذلك بعقولنا متوهمين أو متأولين وكل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك والعجز عن درك الإدراك إدراك " 38: 55 "(118/22)
والبحث في كنه ذات الإله إشراك وإيماننا بصفات ربنا يقوم على دعامتين وركنين متينين إقرار وإمرار فمن لم يقر بالصفات لله الواحد القهار ناس جاحد معطل ومن لم يمر صفات الله جل وعلا فهو مشبه ضال ممثل نقر بالصفة كما وردت ولا نقف عندها وقراءتها تفسيرها كما قال سلفنا ولله يدان مباركتان كما أخبر الله عن ذلك في محكم القرآن بل يداه مبسوطتان وما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وأحدهما يمينا والأخرى شمال بالكيفية التي يعرفها الله ولا نعرفها وبالكيفية تليق بجلال الله وجماله ونجهلها آمنا بالله وبما من الله على مراد الله وآمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشكلن عليك أخي الكريم وصف الله في هذا الحديث باليمين والشمال ليديه المباركتين جل وعلا لا يشكلن عليك هذا مع الحديث الصحيح الثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي والسنن الكبرى الإمام البيهقي والأسماء والصفات للإمام البيهقي وهو حديث صحيح أيضا فهو في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا فقوله وكلتا يديه يمين لا يتعارض مع " 48: 57 "(118/23)
ما ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمر أن السماوات تطوى بيمين الله وأن الأراضين تقبضن بشمال الله لا يتنافى هذا مع هذا لأن المراد من قوله وكلتا يديه يمين في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين من اليمين أي بمعنى الخيرية والبركة والتمام والكمال فالله له يدان مباركتان يمين وشمال لكن الشمال فيه ليست كالشمال فينا جل وعلا فإذا كانت الشمال فينا أضعف من اليمين وتستعمل لما يمتهن ويستقذر فالله كامل كريم مجيد سبحانه وتعالى لا نقص في شيء من صفاته جل وعلا كلتا يديه يمين من اليمين بمعنى الخيرية والبركة وأما الحديث الثابت في صحيح مسلم فقد أخبرنا عن وضع وحال صفتي اليدين كما فصل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام وأما من طعن في ذلك الحديث الذي هو في صحيح مسلم بأنه من رواية عمر بن حمزة عن عمه سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين وعمر بن حمزة أخرج حديثه البخاري تعليقا في صحيح ومسلم في صحيح وأهل السنن الأربع إلا سنن الإمام النسائي فمن تكلم في عمر بن حمزة لروايته عن عمه سالم بن عبد الله بن عم فعمر بن حمزة روى عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين من طعن في الرواية وقال إنه قالها على حسب المعروف فينا لأن الوارد في رواية المسند والصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه "44: 59"(118/24)
أن النبي عليه الصلاة والسلام يقبض الله الأراضين بالأخرى ولم يذكرها بوصف الشمال فقال بعض العلماء أن رواية عمر بن حمزة قالها على حسب المعهود والمعروف في الناس فعبر عن اليد الأخرى بوصف الشمال وفتح هذا الباب على الرواة حقيقة قد يسد علينا بعد ذلك باب الرواية وسلفنا أتقى لله عز وجل من أن يستعملوا عقولهم في صفات الله عز وجل وأن يبدلوا اللفظ بما هو معروف فينا وعليه لفظة ثابتة لكنني كما قلت موقفنا نحوها كما موقفنا في سائر صفات ربنا إقرار وإبرار ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقول ربنا الجليل ليس كمثله شيء نفي للتشبيه والتمثيل وقوله جل وعلا وهو السميع البصير رد ونفي للنفي والتعطيل فلا تمثيل ولا تعطيل ليس كمثل ربنا شيء وهو السميع البصير والدلالة الثالثة في آية الكرسي وسع كرسيه السماوات والأرض إخوتي الكرام حول لفظ الكرسي وما بعده كلام طويل كان في نيتي أن أتكلم عنه في هذه الموعظة ولكني أخشى إذا بحثت فيه دخلت فبه أن يأخذ الكلام منا أكثر من ربع ساعة ول أريد أن أطيل عليكم أنما نقف عند هذه الدلالة لنتدارسها في الموعظة الآتية إن شاء الله وسع كرسيه السماوات والأرض أطاق واحتمل كرسي ربنا السماوات والأرض هذا الكرسي ما هو وما صلة بالعرش وماذا يترتب على ذلك من عظمة لربنا جل وعلا كما قلت أرجئ على ذلك في الموعظة الآتية إن شاء الله أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا خشيته في السر والعلن وأن يرزقنا كلمة الحق في الرضا والغضب وأن يرزقنا القصد في الغنى والفقر إنه هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول واستغفر الله.(118/25)
حوادث شق الصدر
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
حوادث شق الصدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعا وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتى الكرام..
كنا نتدارس الأمور التى يعرف بها صدق النبى والرسول على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: هذه الأمور على كثرتها وتعددها وتنوعها يمكن أن تجمل فى أربعة أمور.
أولها: النظر إلى النبى عليه الصلاة والسلام فى نفسه خَلْقاً وخُلُقا.
ثانيها: النظر إلى دعوته التى أتى بها.
ثالثها: النظر إلى المعجزات التى أيد بها.
رابعها: النظر إلى حال أصحابه الذين اتبعوه وآمنوا به، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.(119/1)
وهذه الأمور الأربعة إخوتى الكرام كنا نتدارس أولها، النظر إلى حال النبى عليه الصلاة والسلام فى نفسه خَلْقا وخُلُقا، وأخذنا الشق الأول وهو النظر إلى خَلْق النبى عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن الله أعطى انبياءه ورسله وعلى نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه، أعطاهم الكمال فى الخَلْق والخُلُق، فأما الخلق كما تقدم معنا فقد جمع حلاوة ومهابة، ملاحة ورزانة، هذا حال الأنبياء جميعا على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه، وقد مر الكلام على تفصيل ذلك وكنت أتوقع أننا ننهى الكلام على الشق الأول من النظر إلى حال النبى عليه الصلاة والسلام فى نفسه المتعلق بخَلْقه فى موعظة أو موعظتين فامتد الكلام إلى ثلاث مواعظ، وأسأل الله أن يمكننا من إنهاء الكلام على الشق الأول فى هذه الموعظة، لندخل فى الموعظة الآتية إن شاء الله فى ما يتعلق فى بيان الشق الثانى وهو خُلُقٌ النبى على أنبيناء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه.
إخوتى الكرام: أخر شىء تكلمنا عليه وتدارسناه فى الموعظة الماضية، القوة التى أيد الله بها أنبياءه ورسله على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله جميعا صلوات الله وسلامه، هذه القوة فى خلقهم وهذه الشدة وهذا البأس الذى يكون فى أبدانهم بحيث لا يقهرهم أحد ولا يغلبهم أحد، وكانوا لا يفرون عند ملاقاة أعدائهم، وكان أشجع أتباعهم يحتمى بهم غذا اشتد البأس وحمى الوطيس كما تقدم تقرير هذا بأدلته المفصلة، وهناك ثلاثة أمور كما ذكرت فى الموعظة الماضية، قلت: سأتكلم عليها وهى اخر ما يتعلق بخَلْق النبى عليه الصلاة والسلام.
أولها: شق صدره الشريف.
وثانيها: خاتم النبوة الذى بين كتفيه عليه صلوات الله وسلامه.
وثالثها: ولادته مسرورا مختوناً على نبينا صلوات الله وسلامه.(119/2)
وأختم هذا بأمر ضرورى يتعلق يخَلْقه، الا وهو حفظ بدنه وحفظ أبدان الأنبياء جميعاً وعلى نبينا وعليهم جميعا الصلاة والسلام، حفظ أبدانهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه من البلا والفناء، فالأرض لا تأكل أبدانهم ولا يتغيرون عن الحالة التى يوضعون فيها فى قبورهم على نبينا وعلى أنبيناء الله ورسله صلوات الله وسلامه ولهم فى البرزخ حياة كاملة كاملة لا تشبهها حياة الشهداء ولا غيرهم فحياتهم أكمل حياة من فى البرزخ كما أن حياتهم فى هذه الحياة هى أكمل حياة كما أن حياتهم بعد الممات وبعثة المخلوقات هى أكمل حياة وأتمها هذا هو حال أنبياء الله ورسله على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه، فقبل أن أتكلم إخوتى الكرام على هذه الأمور الثلاثة وأختمها بألمر الرابع وهو ضرورى ويتعلق بخَلْق النبى على نبينا صلوات الله وسلامه، كان فى ظنى أننى سأتعرض فى الموعظة الماضية لقصة ركانة التى رواها أهل السير وانقضت الموعظة وما امكن الكلام عليها وأحب أن أذكركم بها وقد رواها اهل السير قاطبة وكان هذا الرجل ركانة بن يزيد اشد الناس بأساً فى الجاهلية ولا يستطيع أن يصرعه أحد، وكان إذا وضع رجله على الشىء على أديم أو غيره لا يستطيع أحد أن يسحبه من تحت رجله بحيث غذا شدوه وكانوا أقوياء يبقى ما تحت رجله ويتقطع ما عداه، أما ما تحت رجله ما يمكن أن يخرج ولا أن يتزحزح، وقصته رواها أهل السير وتعرض لها أهل السنن رواها الإمام الترمذى وأبو داود فى سننهم، لكن إسناد الأثر فى السنن ضعيف ولذلك قال الإما الترمذى غريب إسناده ليس بالقائم فى قصة مصارعة ركانة لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الأمر كما قلت: مستفيض مشهور عند علماء السيرة، انظروا الجزء الأول من السيرة النبوية للإمام ابن هشام وهى أخر شىء فى الجزء الأول، أمر ركانة المطلبى ومصارعته للنبى صلى الله عليه وسلم، وغلبة النبى صلى الله عليه وسلم له وأية الشجرة.،(119/3)
قال ابن اسحاق: وحدثنى أبى اسحاق ابن يسار: كان ركانة ابن يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش، فخلا يوماً برسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ركانة ألا تتقى الله وتقبل ما أدعوك إليه، قال: إنى لو أعلم أن الذى تقول حق لتبعتك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرئيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق، تتصارع وأنت أقوى رجل فى قريش، وانا يتيم أبى طالب على نبينا صلوات الله وسلامه الذى ما تعلمت الفروسية ولا صارعت ولا سبقت وأنا يعنى على اصطلاح الناس غر فى هذه الأمور وأنت يعنى ماهر فارس، تفضل، غن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق لأنك ستعلم أن هذا بتأييد من الله جل وعلا لا بمعرفة منى بأساليب الفروسية ولا لقوة ذاتية من بدنى، غنما تأييد من ربى القوى العزيز سبحانه وتعالى، قال: نعم، يعنى إذا صرعتنى أُمن أن ما جئت به هو الحق، قال: فقم حتى أصارعك، قال: فقام إليه ركانة يصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعه على الأرض وهو لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال: عد يا محمد عليه الصلاة والسلام، يعنى هذه ما أخذت فيها احتياطى ولا يعنى ظننت أنك ستغلبنى يعنى بهذه السرعة حتى أجهز نفسى مرة ثانية نتصارع،.(119/4)
فعاد فصرعه النبى صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عد، فعاد وصرعه النبى عليه الصلاة والسلام، فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، انصرعنى، أنت تصرعنى؟ وما أحد من العرب يستطيع أن يصارعنى، أنت تصرعنى هذا للعجب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واعجب من ذلك إن شئت أن أريكه، فى روايه أخرى، أعظم من هذا إن اتقيت الله واتبعت أمرى، قال: وما هو، قال: أدعوا لك هذه الشجرة التى تراها فتأتينى، فقال: ادعها، فدعاها، فاقبلت حتى وقفت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقال لها ارجعى إلى مكانك قال: فرجعت إلى مكانها، فذهب ركانة إلى قومه، فقال: يابنى عبد عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، يعنى تحدوا به سحرة أهل الأرض وهو يغلبهم، إن شئتم فى المصارعة أو لغيرها، ساحروا بصاحبكم أهل الأرض، ووالله ما رأيت اسحر منه قط، ثم اخبرهم بالذى رأى والذى صنع، بقى على كفره رضي الله عنه فترة من عمره ثم اسلم بنبينا عليه الصلاة والسلام وروى عنه الحديث الذى فى سنن الترمذى وسنن أبى داود وإسناد الحديث ضعيف إلى ركانة كما قال الترمذى غريب وليس إسناده بالقائم، قال الإمام ابن حبان فى هذا الحديث نظر وفى مصارعة النبى عليه الصلاة والسلام لركانة نظر أى الواردة من هذا الطريق عند المحدثين.(119/5)
والحديث الذى رواه عن النبى عليه الصلاة والسلام أنه قال: فصل ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس، أى يتميز المسلمون عن المشركين بانهم يلبسون هذه العمائم وتحتها قلنسوة وهى الطقية التى توضع ويلف عليها العمامة، [فصل ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس] ، والعمامة سنة لا خلاف فى ذلك بين أئمتنا وليس حكمها كحكم اللحية، لكنها سنة مستحبة، وقد فعلها نبينا صلى الله عليه وسلم ولبس نبينا عليه الصلاة والسلام للعمامة متواتر عنه، وهكذا كان الصحابة الكرام يلبسون هذه العمائم، لكن الأمر بلبسها ورد فى أحاديث ضعيفة منها حديث ركانة [فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس] ، الأمر بها وحث الناس على ذلك، وإثبات الفضيلة لها هذا طرقه ضعيفة، لبسها وثبوت لبسها من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام هذا متواتر، اما اللحية فقد أعفاه عليه صلوات الله وسلامه، وهكذا الصحابةالكرام وأمر بإعفائها، فحلقها فسق ومعصية، ليس ترك العمامة فسقا ومعصية، ففرق بين الأمرين، إنما من ترك العمامة فاتته فضيلة، اى فوت الكمال وهذا الأجر الذى يكون لهذه العمامة، ويعنى ما حصل التشبه الكامل منه بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، وأما بعد ذلك ما يلبس من غير العمائم، إما من طاقية فقط أو من طربوش يلبسه الأتراك، أو من باكستانية يلبسها الباكستانيون والاندونيسيون، أو الغطرة يعنى يلبسها بعد ذلك بعض الناس فى بعض الأماكن كل هذا يقال عنه مباح لكن ليس فيه فضيلة، الفضيلة والكمال أنت تلبس عمامة كما كان حال نبينا عليه الصلاة والسلام وحال الصحابة الكرام، ذاك بعد ذلك لا يقال عنه محمود ولا يقال عنه مذموم إذا لم يكن فيه تشبه بمن غضب عليهم الحى القيوم، يعنى لا تلبس لباس الكفرة على رأسك، ثم بعد هذا ما عليه قومك من باكستانية أو من غيره، فإذا لبسته فلا حرج والأكمل والأفضل العمامة، ووالحاديث كما قلت فى الأمر بها والترغيب بلبسها(119/6)
ضعيفها، لكن ثبوت لبسها من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام وصحايته الكرام قلت هذا ثابت قطعى لا شبهة ولا شك فيه، إذاً هذا ركانة رضي الله عنه وأرضاه وهذا حاله وهذه قوة نبينا عليه الصلاة والسلام وتقدم معنا أن قوته تعدل قوة أربعة آلآف رجل عليه صلوات الله وسلامه.
اما الأمور التى أكرمه الله بها فى خَلْقه شق صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه، من جملة ما أكرمه الله به فى خَلْقه فى بدنه فى جسمه فى جسده شق صدره الشريف من صغرة نحره إلى شعرته أى إلى منبت العانة، هذا الصدر كله شق، واستخرج قلبه الطاهر المبارك الشريف عليه صلوات الله وسلامه، وغسل فى تسط من ذهب ثم بعد ذلك ملىء إيماناً وحكمة، وهذه الحدثة تكررت لنبينا عليه الصلاة والسلام أربع مرات، والأسانيد فى ذلك صحيحة ثابتة.(119/7)
أولها: عندما كان صغيرا وهو فى حدود الثالثة إلى الرابعة من عمره عليه صلوات الله وسلامه، عندما كان عند مرضعته حليمة السعيدة السعدية التى سعدت بإرضاع خير البرية على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه، وحليمة قد آمنت به هى وزوجها بعد أن بعث نبينا عليه الصلاة والسلام وامتدت حياتها وعندما جاءت إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أكرمها وأجلسها وأحسن إليها رضي الله عنها وأرضاها، وبعض الناس عندما تذكر أمامه هذه المرأة يتوقف الترضى عنها وكأنه يطن أنها هلكت قبل بعثة النبى عليه الصلاة والسلام، لا هى صحابية باتفاق أئمتنا، وجميع الذين كتبوا فى تراجم الصحابة ذكروا حليمة رضي الله عنها من جملة الصحابيات التى آمنت بخير البريات على نبينا وآل بيته وأصحابه صلوات الله وسلامه، الشق الأول حصل عندما كان صغيرا، والحديث ثابت فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ورواه الحاكم فى المستدرك مع أنه فى صحيح مسلم ورواه البيهقى فى دلائل النبوة وأبو نعيم فى دلائل النبوة، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، والحديث روى أيضا من طريق عتبة بن عبد السلمى فى المسند وسنن الدارمى ومستدرك الحاكم ورواه الإمام البيهقى فى دلائل النبوة، عن عتبة بن عبد السلمى، وروى أيضا عن مرضعته أمه حليمة رضي الله عنهاوأرضاها فى صحيح ابن حبان ومعجم الطبرانى الكبير ومسند أبى يعلى ورواه إسحاق بن راهوية،.(119/8)
ورواه أبو نعيم فى دلائل النبوة، والبيهقى فى دلائل النبوة، فهو مروى عن ثلاثة من الصحابة الكرام، اولهم كما قلت، أنس بن مالك، عتبة بن عبد السلمى، حليمة السعدية رضي الله عنهم أجمعين، أما حديث أنس كما قلت: هو فى صحيح مسلم، والاحاديث الثلاثة صحيحة، واصحها أولها حديث أنس فهو فى صحيح مسلم، عن أنس بن مالك، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وهو يلعب مع الغلمان، فاخذه فصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة يعنى شىء كالدودة الصغيرة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله فى تسط من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، أى لحمه، لئم صدره بعد أن شقه وفرجه، ثم أعاده فى مكانه وجاء الغلام يسعون إلى أمه يعنى زئره، يعنى مرضعته، فقالوا: إن محمد عليه الصلاة والسلام قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون، اى متغير اللون مصفراللون مما اعتراه ودهاه فى هذه الحالة عليه صلوات الله وسلامه، قال أنس: وقد أرى أثر ذلك المخيط فى صدره، أى أثر ذلك الخياط والتخيط الذى حصل فى صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه من صغرة النحر إلى الشعرة، وفى بعض الروايات الثابتة فى الصحيحن إلى مرآق بطنه أى ما رق من بطنه، تحت سرته، كل هذا شق من نبينا عليه الصلاة والسلام ثم لئم هذه الرواية فى صحيح مسلم.(119/9)
والروايات الأخرى بمعناها، وحليمة السعدية رضي الله عنها عندما سعدت بخير البرية على نبينا صلوات الله وسلامه وأرضعته، بعد زهدها هى والمرضعات فيه كما فى الروايات الأخرى فى صحيح ابن حبان عن حليمة عندما زهدت فيه هى والمرضعات، وكان عادة النساء فى البادية يأتين إلى مكة ويأخذن الأطفال من أجل إرضاعهم، وكانت هذه عادة فاشية فى العرب يرسلون أولادهم إلى البوادى من أجل أن يرضعوا ليعيش الولد ويستنشق هواء البادية ويسرح نظره بعيدا فليس هناك جدران ولا حواجز، يصاب الإنسان بكلال فى البصر وقصر النظر من هذه الحواجز، وحقيقة أولادنا عندما عاشوا فى علب من الكرتون لكن يعنى هى حجارة لكن كصور علب الكرتون، ترى الولد منا يعنى فى سن العاشرة ويريد أن يركب النظارة، لأن هذا النظر منحسر منكسر هنا جدار يصدمه وهنا باب يضربه، هذا النظر لا يأخذ مداه، فكانوا يرسلونه إلى هناك ليستنشق الهواء ويجد حر الشمس، وطلاقة الجو، وبعد ذلك هذا الفسيح، هذا كان العرب يفعلونه، فكانوا يرسلون أولادهم إلى البادية من أجل الرضاعة، فلما جاء المرضعات ليأخذن الأولاد لإرضاعهم، كل من عرض عليها حبيبنا محمد عليه صلوات الله وسلامه كانت تسأل من أبوه؟، فيقال لها ميت، يقول: أمه حية؟ تقول: وما عسى أن تفعل أمه، يعنى ماذا ستعطينا أمه؟ امرأة مهما جابت ستجيب بمقدار، أما الأب إذا كان على قيد الحياة هذا يكدح ويحصل ويعطينا كثيرا، أما أمه ماذا تعطينا؟ فأخذ المرضعات أولاداً وحليمة ما حصلت ولداً تأخذه، فقالت لزوجها: أرى أن نأخذ هذا اليتيم على نبينا صلوات الله وسلامه، لعل الله يبارك لنا فيه، قال: إن شئت، فأخذته، هى لما جاءت جاءت على أتان أنثى الحمار، وكانت عجفاء هذيلة يخاصمها قومها من أجل أنها تتأخرعنهم وينتظرونها، وكان معها شارف، وهى ناقة مسنة، صبى ترضعه من رحمها وبطنها ولدته، فكانت تقول: لا يكفيه ما فى ثديى من اللبن، وإذا اردنا أن نحلب الشارف الناقة المسنة(119/10)
ما يخرج منها لبن فكان هذا الولد يبكى طول الليل لا لبنى يكفيه ولا لبن الناقة ما يخرج منها شىء يكفيه وكنا فى شر حال، تقول: فلما أخذت محمد عليه الصلاة والسلام وألقمته ثدى، غذا بالثدى قد امتلأ، فشرب وشرب أخوه فشبعا، وما احتجنا بعد ذلك إلى أن نحلب هذه الشارف الناقة المسنة، وأم الأتان الهذيلة التى كانت فى المؤخرة بدأت تسابق الخيل وتقدم معنا فرس أبى طلحة بدأ لا يسبق بعد ذلك، وهذه أتان حمارة، بدأت تسابق الخيل كل من فى الركب معها وراها، وهى متقدمة، فكان من معها يقولون: يا حليمة لقد أخذت مباركة، فهذه علامة بركة وخير، يعنى كانمت أتانك تمشى ورأنا الآن تسبقنا، وأيضا ثديك امتلأ ويدر على هذا اليتيم على نبينا صلوات الله وسلامه، وعلى اخيه وهو ولدك من بطنك ويكفيهما يعنى هذا حقيقة ولد مبارك، ثم لما ذهب بعد ذلك مع أبويه من الرضاعة إلى ديار بنى سعد واسترضع هناك عليه صلوات الله وسلامه، كثرت الخيرات على الناس بوجه العموم وعلى هذا البيت بشكل خاص، فلما انتهت فترة الرضاعة أرادت حليمة أن تبقيه عندها طمعاً من بركات التى حصلتها من هذا المولود، لا تريد أجرة لكن فترة الرضاعة انتهت فعادة مع زوجها إلى مكة وكلمت آمنة، وقالت: نخشى عليه وباء مكة، ونتنها ووخامتها وأن يتضرر ولا زال صغيرا لو تركتيه عندنا ليشتد عوده وهى تريد الخيرات التى تحصلها من خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، فرضيت أمنة بإرساله مع أيضا موافقة جده عبد المطلب فأخذته، فبعد أن جلس فترة فى ديار بنى سعد حصل له حادثة شق الصدر، فجاء الغلمان الذين يلعبون معه إلى ظئره وإلى أبيه من الرضاعة، وقالوا: إن محمد قد قتل، نزل رجلان عليهما ثياب بيض لا نعرفهما أضجعاه وشقا بطنه، نحن نرى هذا، محمد قد قتل، فأسرع والده من الرضاعة وأمه حليمة رضي الله عنهم أجمعين، وأسرع إليه فرأه منتقع اللون، احتضنه والده، قال: ما بك؟ ذكر له ما رأه النبى عليه الصلاة والسلام، فقال(119/11)
زوج حليمة لحليمة: أخشى أن يكون هذا الغلام قد أصيب أى من قبل الجن على نبينا صلوات الله وسلامه، لإارى أن نسرع به إلى مكة، خشية أن يصاب، ونتحمل المسئولية، فعادوا إلى مكة، فالآن كانت حريصة عليه لما وقع ما وقع حقيقة يعنى هى حريصة من ناحية وتخاف من ناحية، فقالت: يعنى ولدك اشتد عوده وخذيه، قالت: أخبرينى بأمرك، لما أعتيه وأنت كنت حريصة عليه كل الحرص؟، قالت: هو ذاك اشتد عوده وقوى، قالت: أخبرينى، قالت: هو ذاك، فى الثالثة قالت: أخبرينى فأخبرتها بالقصة، فقالت أمنة: أكنت تخافين عليه، يعنى أنه يخذل يأتيه جن، لما حملته ما شعرت بثقل، فى بكنها على نبينا صلوات الله وسلامه، ولما وضعته وضعته إلى الأرض ساجدا، ورفع يديه إلى السماء قيل لى قولى: أعيذوه بالواحد من شر كل حاسد وسميه محمدأ على نبينا صلوات الله وسلامه، هذا حاله، ثم قالت: خرج منى نور عند ولادته ووضعه، أنت تخافين عليه؟ هذا غلام مبارك، دعيه وانصرفى راشدة، وحقيقة هذا فيه بشارة، يعنى لأمنة أسأل الله جل وعلا أن يثبتها عند الإمتحان وأن يمن عليها بالإسلام والإيمان، وأن يتكرم عليها بغرف الجنان، إنه رحيم رحمن ذو الجلال والإكرام، أمنة والدة النبى عليه الصلاة والسلام قبضت قبل أن يبعث النبى عليه الصلاة والسلام بلا خلاف بين أئمتنا ولما ماتت كان عمر النبى عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا لا ذاك جده عبد المطلب، ستة سنوات وأما والده قلنا توفى والنبى عليه الصلاة والسلام حمل فى بطن أمه، فغذاً ما نوبىء النبى عليه الصلاة والسلام ولا بعث لكن هذه الإرهاصات رأتها وقالت: هذا المولود مبارك وسيكون له شأن ثم لقيت الله، فهى من أهل الفترة قطعاً وجزما، وأهل الفترة يمتحنون فى عرصات الموقف كما امتحنا نحن فى هذه الحياة، فمن أطاع الله منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، فلا نقول فى الجنة ولا نقول فى نار.(119/12)
وقد قال الحافظ بن حجر فى الإصابة فى ترجمة أبى طالب، وأبو طالب أدرك الإسلام ولم يؤمن فهو من أهل النار مع عندنا فى ذلك شك، وأبو لهب عم النبى عليه الصلاة والسلام أدرك الإسلام ولم يؤمن فهو من أهل النار ما عندنا فى ذلك شك، والحمزة والعباس أدركا الإسلام وآمنا فهما من أهل الجنة مازال فى ذلك شك إن شاء الله،
فيما يتعلق بعد ذلك بوالد النبى عليه الصلاة والسلام وجده وأمه ومن مات قبل البعثة فى الفترة، نقول: يمتحنون فى عرصات الموقف كما امتحن فى هذه الحياة فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار، قال الحافظ ابن حجر: ونحن نرجوا لجميع أباء النبى عليه الصلاة والسلام وأمهاته إذا امتحنوا فى عرصات الموقف أن يؤمنوا، هذا فى الإصابة، نرجوا إذا امتحنوا أن يؤمنوا، والأحاديث فى امتحان الذين لم توجد فيهم شروط التكليف بالتوحيد فى عرصات الموقف مستفيضة، وبعض أئمتنا نص على تواترها وهذا هو القول الوسط، وأما من قال: هما فى النار فالحقيقة يعنى الكلام شديدٌ شديد، ومن قال: هما فى الجنة فأيضاً بدون حجة وبينة، فقف عند حدود الشرع وقل: يمتحنون والله أعلم بشأنهما ونقول ما قاله أمير المؤمنين فى الحديث هذا المحدث ابن حجر نرجوا لأبوى النبى عليه الصلاة والسلام ولجده ولجميع أهله غذا امتحنوا أن يؤمنوا، وربك أعلم بمن اتقى.(119/13)
وأما ما ورد فى صحيح مسلم وغيره من أن والد النبى عليه الصلاة والسلام فى النار فهذا سيأتينا إن شاء الله إخوتى الكرام تفصيل الكلام فيه موسعا، إن شاء الله هو بيين أن الحديث صحيح ولا إشكال فيه، لكن لابد من الجمع بين الأدلة، هذا حديث يصرح بأنه فى النار، عندنا بعد ذلك أدلة تخبر أن الله لا يعذب إلا بعد قيام الحجة {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ، {لتنذر قوماً ما أنذر أباءهم فهم خافلون} ، {لتنذر قوما ماأتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون} ، وكل من يلقى فى النار يقر على نفسه بأنه جاءته رسل العزيز الغفار {كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلا} ، فلوا قيل هذا لعبد الله أو لأمنة، قالوا: ما جاءنا نذير، ما يقولون بلا، ما جاءهم نذير، وهم فى زمن الفترة وضياع، إنما كل من سيلقى فى النار، ألم يأتيكم نذير قالوا: بلا، قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا، والله جل وعلا قال {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ، وقال جل وعلا {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} ، وهو النبى عليه الصلاة والسلام {فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارافى الأرض ومكر السىء} وهذا فى حق من كفر فكل من سيدخل النار بلغته دعوة العزيز القهار {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} .(119/14)
فنقول هذا الحديث قاله نبينا عليه الصلاة والسلام قبل أن يعلمه الله بحكم أهل الفترة لأنه لم يصدر من والده توحيد، والجنة لا يدخلها إلا الموحدون، ثم أخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الفترة لهم حكم خاص يمتحنون فى عرصات الموقف كما امتحن نحن فى هذه الحياة، فمن أطاع دخل الجنة ومن عصاه دخل النار، وهذا القول أدلته وتقريره كما قلت: يأتينا إن شاء بسط ذلك والكلام عليه عند الكلام على مبحث توحيد الله، أما نحن فى مبحث النبوة، إذا جئنا لمبحث توحيد الله جل وعلا بإذن الله نستعرض هذا وأفصل الكلام عليه وأذكر الأدلة الخمسة التى تقرر هذا القول وهذا القول امتحان من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد ممن مات وهو فى فترة، أو من أولاد المشركين أو حاءه الإسلام وهو لا يعقل شيئا فهو شيخ خرف، كل هؤلاء وردت فيهم الأحاديث بأنهم يمتحنون يوم القيامة، وكيفية امتحانهم وكيف يمتحنون؟ يأتينا كما قلت بحث هذا عند توحيد الله عز وجل، والأصل أن يقدم على مبحث النبوة لكن كما قلت قدمته لإعتبارات ذكرتها ومبحث التوحيد كنت تعرضت لبدايته فى بعض الأماكن فما أردت أن أعيد تلك البداية قلت: نبدأ فى مبحث جديد وهو مبحث النبوة إذا انتهينا منه ندخل إنشاء الله فى مبحث توحيد الخالق جل وعلا سبحانه وتعالى لا إله إلا الله، وهذا الكلام كما قلت هو وسط بين قولين متقابلين وعلمائنا الكرام ذكروا ثلاثة أقوال منهم من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة كالإمام السيوطى، منهم من ذهب إلى أنهم من أهل النار والد النبى عليه الصلاة والسلام، كالشيخ ــ القارى، ومع هذا ومع هذا جمع غفير، ومنهم من قال بالقول الذى ذكرته وهذا أسلم فى ديننا ودنيانا، فإذا كان من أهل الجنة ما أخطأنا وإذا كان من أهل ما أخطأنا، وقف عند حدك، وليست المسألة كما يترآء لبعض الناسيعنى هى من باب عواطف لا {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} ، العم صنو الأب وقد قلنا إن أبا طالب فى(119/15)
النار، وإن أبا لهب فى النار ليست مسألة عواطف، ووالد إبراهيم فى النار، ـ فلا شك فى ذلك لكن كما قلنا بلغتهم دعوة وكفروا، أما أن تحكم على أم النبى عليه الصلاة والسلام بالنار، طيب إذا لم تكن من أهل النار فياويحك أمام النبى المختار عليه الصلاة والسلام يوم القيامة يا ويحك، فأنت إذا سكت سلمت فإذا كانت من أهل النمار ما أخطأت وإذا كانت من أهل الجنة ما أخطأت، ومثل هذه الأمور التى لا يتعلق بها عمل، الواجب على المسلم أن يقف هذا الموقف، وأما أن يتدين بعض صغار طلبة العلم فى هذه الومان وأن يقوم أمام العامة ويقول: أم النبى عليه الصلاة والسلام فى النار، فيا عبد الله على رسلك واتق ربك جل وعلا، أى يعنى فائدة يستفيدها الناس من هذا، ولو قال لك قائل ما بلغتها دعوة، أنت تحكم عليها بالنار ونصوص القرآن القطعية كيف تردها، ماذا ستقول؟ فاتق ربك واجمع بين الأدلة وهذا أحسن المسالك وخيرها والعلم عند الله جل وعلا، إذاً هذا الشق الأول عمر مابين الثلاث والأربع عليه صلوات الله وسلامه، وفداه أنفسا وآباءنا وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم.(119/16)
قال الإمام ابن عبد البر فى الإستيعاب فى ترجمة حليمة السعدية فى تراجم الأصحاب: رأت برهاناً وعلم جليلا لنبينا صلى الله عليه وسلم تركنا ذكره لشهرته، هذا البرهان ما هو شق صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه، خادم البنى عليه الصلاة والسلام أنس يقول: كنت أرى أثر المخيط وترك الأثر من أجل أن يتحقق من يأتى بعد وأن هذا شق، شق حسى ليس بشق معنوى كما يذهب إلى ذلك بعض الناس، شق حسى، يشق الصدر ويفرج ويخرج القلب ويوضع فى تسط من ذهب ويغسل بماء زمز ثم يحشى بعد ذلك إيمانا وحكمة، واختير الذهب لأنه من معادن الجنة، معادن الجنة ذهب، ولا يعتريه صدا، وللإشارة إلى أن أمر النبى عليه الصلاة والسلام ذهب خالص وحق كامل ليس فيه يعنى شائبة من وجه من الوجوه، الذهب هذا خير المعادن، لا يعتريه تغير، وكل من عاداه من المعادن يعتريها ما يعتريها، أما الذهب ذهب، وهذا حال نبينا عليه صلوات الله وسلامه،(119/17)
الشق الثانى حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام وهو ابن عشر سنين، لكن ليس عند حليمة فى شعاب مكة، وكان هذا بعد موت أمه وجده، عندما كان فى كفالة وراعية عمه، حصل له شق الصدر مرة ثانية وقلت: أربع مرات صحيحة، ما الحكمة من تكررها؟ والمرةالأولى فيها، اذكر هذا إن شاء الله بعد بيان أنواع الشق الأربعة عمره عشر سنين، ثبت هذا فى مسند الإمام أحمد فى الجزء الخامس صفحة 139 بسند رجاله ثقات وثقهم الإمام ابن حبان، كما قال الإمام الهيثمى فى المجمع، وانظروا الأثر فى، وانظروا كلام الهيثمى فى الجزء الثامن فى المجمع، صفحة 222 والأثر رواه أبو نعيم فى دلائل النبوة، لعله بحدود لا إله إلا الله، صفحة 70 أو كذا، فى دلائل النبوة وهو معى الآن، ورواه كما قلت: الإمام أحمد فى المسند وهو فى مجمع الزوائد فى الثامن صفحة 222، حصل شق الصدرتالشريف وعمر نبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت عشر سنين، لا إله إلا الله، يقول هنا: وعن ابى بن كعب أن أبا هريرة رضي الله عنه كان حريصا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أول مارأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: لقد سألت أبا هريرة، يعنى يا أبا هريرة لقد سألت هذا السؤال فاستمع الجواب، لقد سألت يا أبا هريرة، يعنى لقد سألت عن عظيم، ليس أبا هريرة هو المسؤل، لقد سألت أبا هريرة، يعنى لقد سألت يا أبا هريرة، سألت عن سؤال عظيم، وينبغى للإنسان أن يعيه وأن يعتنى به، فاسمع، وهنا ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ لعله يقصد فى شعاب مكة، لأن الشق الأول كان فى بادية بنى سعد، وبادية بنى سعد مررت يعنى بها فى بعض أسفارى، ولعل بعض المخرفين يقول: إن الشيخ دخل فى التخريف، يعلم الله عندما مررت فى ذلك المكان فى بلاد بنى سعد رأيت لذلك المكان إشراقا ونورا وبهجة ليست للبقاع الأخرى، هذا بعينى، وهل هذا يعنى من(119/18)
أثر حب الإنسان لنبيه عليه الصلاة والسلام يترآء له هذا، أو أن البلاد حقيقة كل من يراها يقول هذه البقعة التى نشأ فيها خير خلق الله عليه الصلاة والسلام، يعنى فيها كذا نور، يزداد على البقاع الأخرى، الله أعلم، لكن أنا أقول يعلم الله عندما أمر فى تلك البقعة يعنى يشعر الإنسان بشىء من النشاط والفرح وينظر هكذا إلى السماء فيرى فيها يعنى شىء من الإشراق والبهجة لا يحصلها فى الأماكن الأخرى، هذه بادية بنى سعد، فقيل للنبى عليه الصلاة والسلام، ما أول ما رأيت من أمرالنبوة؟ لعله فى شعاب مكة، فاستوى النبى عليه الصلاة والسلام جالسا وقال: لقد سألت أبا هريرة، يعنى يا ابا هريرة، إنى لفى صحراء وأنا ابن عشر سنين وإذا بكلام فوق رأسى وإذا برجل يقول لرجل: أهو هو، هذا الذى أرسلنا من اجله؟ رجلان ملكان، قال: نعم، يقول: فاستقبلانى بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلىّ يمشيان حتى أخذ كل واحد منهم بعضضدى لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعانى بلا قصر ولا هصر، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدرى ففلقها، فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فاخرج شيئاً هئية العلقة، ثم نبذها فطرحها، فقال: أدخل الرحمة والرأفة، بالمؤمنين رؤوف رحيم، عليه صلوات الله وسلامه، فإذا مثل الذىأخرجها ثم هز إبهام رجلى اليمنى فقال، أغدوا واسلم، فرجعت بها أغدوا بها رقة على الصغير ورحمة على الكبير، رواه عبد الله فى المسند ورجاله ثقات، وثقهم ابن حبان، عبد الله ولد الإمام أحمد فهو من الزيادات فى مسند الإمام أحمد من زيادات ولده عبد الله فى مسند أبيه، عليهم جميعا رحمة الله، وكما قلت الأثر أيضا فى كتاب دلائل النبوة لأبى نعيم، وذكره الحافظ فى الفتح، فى الجزء الأول صفحة 460 وسكت عليه وعلى شرطه لا ينزل عن درجة الحسن كما ذكر هذا فى مقدمة هدى السارى، أن كل(119/19)
حديث ستدل به فى الشرح ولا يضعفه لا ينزل عن درجة الحسن، فهو صحيح أو حسن والعلم عند الله جل وعلا.
الحادثة الثالثة: لشق صدر نبينا الشريف عليه صلوات الله وسلامه وقعت عندما أكمل أربعين سنة من عمره، فى أول مجىء جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام إليه فى غار حراء وفقبل أن يقول له: إقرأ شق بطنه وإن لم يرد هذا فى رواية الصحيحين فقدورد فى الروايات الأخرى والروايات تكمل بعضها بعضا، فبعد أن شق صدره وحشى قلبه إيمانا وحكمة قال له: إقرأ، إلى أخرالحديث، الحديث أخرجه أبة نعيم فى دلائل النبوة، صفحة 69، رواه أبو داود الطيالسى انظروه فى ترتيب الشيخ البنا منحة المعبود فى ترتيب مسند الطياليسى، أبى داود فى ترتيب مسند الطييالسىأبى داود، رتبه على حسب يعنى تراجم المحدثين وأبواب الفقه أنظروه فى الجزء الثاتى صفحة 87، رواه الحارث بن أبى أسامة فى مسنده كما ذكر ذلك الحافظ فى الفتح أبو نعيم، وأبو داود الطيالسى، والحارث بن أبى أسامة، رووا ذلك عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وفيه أن الحادث وقعت له عندما جاءه جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فى غار حراء وأول مجىء جبريل لنبينا الجليل عليه الصلاة والسلام فى غار حراء.(119/20)
شرح حديث
(يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
حديث
(يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس)
"يكون عليكم أمراء هم شر عند الله من المجوس (1) " وأرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى قتالهم، ومنابذتهم بما في وسعنا، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود – رضي الله تعالى عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) ".
__________
(1) رواه الطبراني في الصغير: (20/90) ، والأوسط أيضاً كما في مجمع الزوائد: (5/235) كتاب الخلافة – باب في أئمة الظلم والجور وأئمة الضلال – عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – ورجاله رجال الصحيح خلا مؤمل بن إهاب وهو ثقة، وفي الحلية: (1/280) عن حذيفة – رضي الله تعالى عنه – موقوفاً: "ليكونن عليكم أمراء لا يزن أحدهم عند الله يوم القيامة قشرة شعيرة".
(2) انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان –: (10/70) 80 وهو في مسند الإمام أحمد: (1/458، 461) ، وسنده صحيح كما في تعليق الشيخ شاكر: (6/175، 187) ، (4379، 4402) ، ورواه البيهقي في الاعتقاد: (122) .(120/1)
.. وقد وردت الأحاديث كثيرة عن خير خلق الله – صلى الله عليه وسلم – بقتال الأئمة الضالين إذا لم يحكموا بشرع رب العالمين، وظهرت المجاهرة بالمنكر المبين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت – وهو مريض – رضي الله تعالى عنه – فقلنا: حدثنا أصحك بحديث ينفع الله به، سمعْتَهُ من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: دعانا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبايعناه على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان (1) ، قال الإمام النووي – عليه رحمة الله تعالى –: هكذا هو لمعظم الرواة، وفي معظم النسخ "بواحاً" بالواو، وفي بعضها "براحاً" والباء مفتوحة فيهما، ومعناها: كفراً ظاهراً 10هـ، وقال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن الإمام الخطابي – عليهما رحمة الله تعالى – مَنْ رواه بالراء فهو قريب مِنْ هذا المعنى، وأصل البراح الأرض القفراء التي لا أنيس فيها ولا بناء، وقيل: "البراح": البيان، قال الحافظ: ووقع في رواية الطبراني: "إلا أن يكون معصية الله بواحاً"، وعند أحمد: "ما لم يأمروك بإثم بواحاً (2) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية: (4/1470) ، وصحيح البخاري – كتاب الفتن – باب 2: (13/5) بشرح ابن حجر، والمسند: (5/314) ، وفي: (5/321) بلفظ "ما لم يأمروك بإثم بواحاً".
(2) انظر شرح الإمام النووي: (12/228) ، وفتح الباري: (13/8) ، وتقدمت رواية الإمام أحمد في المسند وقوله: "عندكم من الله فيه برهان" أي: نص آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليهم ما دام فعلهم يحتمل التأويل كما في فتح الباري: (13/8) .(120/2)
.. قال مقيد هذه الصفحات – فرج الله عنه وعن المسلمين الكربات –: تقدمت قريباً رواية الصحيح أيضاً: "أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" وكل من الحديثين صريح في أن الإمام إذا أمر بالآثام، وضاد شرع الرحمن، ينبغي أن يزال بالحسام، وقد قرر الحافظ الهمام، الإمام ابن حجر شيخ الإسلام – عليه رحمة الله تعالى – أن الإمام ينعزل بالكفر بإجماع العلماء الكرام فيجب على كل مسلم عند ذلك القيام، فمن قوي على ذلك فله المثوبات العظام، ومن داهن فعليه الوزر والآثام، ومن عجز وجبت عليه الهجرة ومفارقة تلك الأوطان (1) .
__________
(1) انظر فتح الباري: (13/8، 123) ، ومثله في شرح الإمام النووي: (12/229) حيث نقل عن القاضي عياض – عليهما رحمة الله تعالى – أن الإمامة لا تنعقد لكافر إجماعاً، ولو طرأ عليه الكفر انعزل، وكذا لو ترك إقامة الصلاة والدعاء إليها، فيخرج عن حكم الولاية، وتسقط طاعته، ويجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونَصْبُ إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر 10هـ، وقد تقدم حديث يصرح باستمرار الهجرة وداوامها، وأشرت هنا إلى عدة كتب بحثت تلك المسالة بحثاً سديداً، وبيَّنَتْ أنواع الهجرة بياناً رشيداً، فانظر صفحة (36) من هذا البحث المبارك، قال الإمام ابن العربي في أحكام القرآن: (1/484) الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في أيام النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة.(120/3)
.. قال عبد الرحيم الطحان – غفر الله له سائر الآثام –: ما قاله الأئمة الكرام، من وجوب مهاجرة دار الكفر إلى دار الإسلام، كان متحققا ميسوراً فيما مضى من الأزمان، عند وجود دارَيِ الكفر والإسلام، وأما إذا عم الظلام بلاد الأنام، ولم يكن هناك خليفة ولا إمام، فما على المكلف إلا مقارعة الكفر أينما كان، والعض بالنواخذ على هي النبي – صلى الله عليه وسلم – والحذر من مشاركة الطغام فيما يتهافتون فيه من الإجرام، مع السعي الحثيث لإعادة دولة الإسلام، فمن قام بذلك فهو من الناجين بسلام، المتقين الله حسب ما في الوسع والإمكان، وهذا كما ثبت عن حذيفة بن اليمان – عليه رضوان الرحيم الرحمن – أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله – صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يَسْتَنُّون بغير سنتي ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد الخير من شر؟ قال: نعم: دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) .
3- إمام جائز، وله حالتان:
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المناقب – علامات النبوة في الإسلام –: (6/515) ، وكتاب الفتن – باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة؟: (13/35) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال: (4/1475) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الفتن – باب العزلة –: (2/1317) .(120/4)
الحالة الأولى: أن يكون متصفاً بالشروط المرضية، وتمَّت له البيعة، ثم طرأ عليه بعد ذلك مُفَسِّقٌ كأن جار، أو تلبس ببعض المعاصي الكبار، كشرب الخمر أو تعاطي عهر.
الحالة الثانية: أن يتغلب على الناس على كره منهم، ويقودهم بغير رضاهم، فهو مغتصب لسلطان الأمة معتدٍ على الذمة.
ولهاتين الحالتين حالتان:
أ) يجب خلعه إن أمكن بلا ظلم ولا فتنة، لأن ذلك من النصح له وللأمة، وهو ممكن دون ارتكاب محظور، فلا يترك (1) .
ب) إذا لك يمكن عزله إلا بالوقوع في فتنة عمياء، وجر الأمة إلى بلاء، فالواجب الصبر على طاعته، وعدم الخروج عن كلمته، وخالف المعتزلة في هذا، فالتزموا الخروج عليه بالسيف، ولو أدى ذلك إلى فتنة وحيف، ومعلوم ما في هذا القول من الفساد والإفساد، والشقاق والعناد، ولذلك حذرنا منه خير هاد – صلى الله عليه وسلم أبد الآباد – وقد تقدم حديث عوف بن مالك، وعبادة بن الصامت، ومعاوية – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وفيها التنصيص على أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن جاروا، وعصوا ما أقاموا الدين، ولم يظهروا الكفر المبين.
__________
(1) وهذه تكاد تكون فرضية، وتتصور في إمام عاقل أُخبر بأن الأمة لا تريده لما جرى منه من فسق وجور فلم يعارض ذلك، واستجاب له.(120/5)
.. وهذا إذا لم يقدروا على خلعه بلا فتنة وظلم وحرب كما قرر ذلك أئمة الدين ففي فتح الباري نقلا ً عن الداودي بواسطة ابن التين – عليهما رحمة رب العالمين – قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه فلا فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر 1هـ ونحوه في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، وحاشيته رد المحتار، وحاصل ذلك أن الإمام إذا جار لا ينعزل إذا كان يترتب على عزله فتنة ومفسدة احتمالاً لأخف المضرتين وأدناهما أو كان له قهر وغلبة لعوده بالقهر والغلبة، فلا يفيد عزله، وإن لم يكن له قهر ومنعة، ولا يترتب على عزله مفسدة ومضرة ينعزل بجوره (1) .
... واعلم- علمني الله وإياك - أنه بهذا التفصيل يظهر أنه لا تعارض بين قول بعض أهل السنة الكرام: تنفسخ إقامة الخليفة بفسقه الظاهر المعلوم، ويخلع، وبين قول من قال من أهل السنة الأبرار: لا يجوز القيام عليه، ولا خلعه إذا ارتكب فسقاً، فالقول الأول ينزل على الحالة الأولى والثانية على الثانية، ولا تعارض بينهما، والله تعالى أعلم.
تنبيهان:
الأول: في حالة طاعة الإمام الذي طرأ عليه الفسق ينبغي ضرورة الالتزام بأمرين، فالتفريط بأحدهما هلاك:
__________
(1) انظر فتح الباري: (13/8) ، ورد المحتار: (4/264) ، وانظر البحث في هذه المسألة في شرح الإمام النووي على صحيح مسلم: (12/229) ، والجامع لأحكام القرآن: (1/271) ، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن –: (1/271) ، والأحكام السلطانية للماوردي: (17) .(120/6)
أ) إذا أمر الإمام بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة (1)
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب الجهاد – باب السمع والطاعة للإمام –: (6/115) ، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –: (13/121) بشرح ابن حجر فيهما، وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية –: (4/1469) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –: (3/93) ، وسنن الترمذي – كتاب الجهاد – باب ما جاء لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق –: (6/30) ، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –: (7/142) ، وسنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/956) والمسند: (2/17، 142) ، وشرح السنة – كتاب الإمارة والقضاء – باب الطاعة في المعروف: (10/43) ..(120/7)
"، وفي الصحيحين وغيرهما أيضاً عن علي – رضي الله تعالى عنه – قال: بعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا ناراً، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف" وفي رواية "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف (1) ".
__________
(1) انظر صحيح البخاري – كتاب المغازي – باب 59: (8/58) ، وكتاب الأحكام – باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية –: (13/122) ، وأول كتاب أخبار الآحاد –: (13/233) بشرح ابن حجر في الجميع – وصحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية: (4/1469) ، وسنن أبي داود – كتاب الجهاد – باب في الطاعة –: (3/92) ، وأشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد – باب لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق – ق: (6/30) ، وهو في سنن النسائي – كتاب البيعة – باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع –: (7/142) ، والمسند: (1/82، 94، 124) وانظره من رواية أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – في سنن ابن ماجه – كتاب الجهاد – باب لا طاعة في معصية الله –: (2/955) ، والمسند: (3/67) ، وانظر روايات متعددة عن عدة من الصحابة الكرام – رضي الله تعالى عنهم – فيها البيان التام بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الرحمن في مجمع الزوائد: (/225-229) كتاب الخلافة – باب لا طاعة في معصية الله – عز وجل.(120/8)
ب) ينبغي على الرعية نصح الإمام إذا جرى منه ما يوقعه في الفسق والعصيان، فذلك من الواجبات العظام، وعليه يقوم أمر الإسلام، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن تميم الداري – رضي الله تعالى عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "الدين النصيحة، قلنا لمن: قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) ".
__________
(1) انظر صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب بيان أن الدين النصيحة –: (1/74) ، وسنن النسائي – كتاب البيعة – باب النصيحة للإمام: (7/140) ، وسنن أبي داود – كتاب الأدب – باب في النصيحة: (5/233) ، وكتاب السنة لابن أبي عاصم: (2/519) ، والمسند: (4/102) ، وكلهم من رواية تميم الداري، ورواه النسائي في المكان المتقدم عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنهم أجمعين – وعنه أيضاً الترمذي في كتاب البر والصلة – باب ما جاء في النصيحة –: (6/173) ، وابن أبي عاصم في السنة: (2/90) ، وأحمد في المسند: (2/297) ، ورواه عن ابن عمر – رضي الله تعالى عنهما – الدارمي – في كتاب الرقاق – باب الدين النصيحة: (2/311) ، وعنه رواه البزار مختصراً كما في مجمع الزوائد: (1/87) ورجاله رجال الصحيح، ورواه عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – الإمام أحمد في المسند: (1/351) ، وعنه أيضاً رواه البزار، والطبراني في الكبير وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد: (1/87) ورواه عن ثوبان – رضي الله تعالى عنه – ابن أبي عاصم في السنة: (2/521) , والطبراني في الأوسط وفيه أيوب بن سويد وهو ضعيف لا يحتج به كما في مجمع الزوائد: (1/87) ، والحديث علقه البخاري بصيغة الجزم – في كتاب الإيمان – باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم": (1/137) بشرح ابن حجر، قال الحافظ: أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسنداً في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة.(120/9)
وقد بين لنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – أن كلمة الحق عند الإمام الجائر، من أعظم ما يقرب إلى الرب القاهر، ففي السنن بإسناد صحيح حسن عن أبي عبد الله طارق ابن شهاب البجلي الأحمس أن رجلاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم –: أي الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر (1) ".
__________
(1) انظر سنن النسائي – كتاب البيعة – باب فضل من تكلم بالحق عند إمام جائر –: (7/144) ، وسنده صحيح كما في الترغيب والترهيب: (3/225) ، وهو في المسند: (4/314، 315) ، ورواه عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – ابن ماجه في كتاب الفتن – باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (2/1330) وإسناده صحيح أيضاً كما في الترغيب والترهيب: (3/225) ، وهو في المسند: (251، 256) ، ورواه ابن ماجه أيضاً في نفس المكان عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – وهو في المسند: (3/19، 61) ، وكتاب العزلة للخطابي: (86) ، وسنن الترمذي – كتاب الفتن – باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر –: (6/338) ، وسنن أبي داود – كتاب الملاحم – باب الأمر والنهي: (4/514) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب، وأشار إلى رواية أبي أمامة فقال: وفي الباب عن أبي أمامة – رضي الله تعالى عنه – 1هـ وفي سند حديث أبي سعيد – رضي الله تعالى عنه – عطية العَوْفي وهو صدوق ويخطئ كثيراً وهو مدلس أيضاً كما في التقريب: (2/24) ، وقد عنعن في السند، وحديث أبي أمامة، وطارق بن شهاب – رضي الله تعالى عنهم – يشهد له، ولأجل ذلك حسنه الترمذي، وانظر الترغيب والترهيب: (3/225) ، وتعليق الشيخ الأرناؤوط على جامع الأصول: (1/333) .(120/10)