{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1)
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
خير بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد فهي محل نور رب العالمين وهي موطن عباد الله المهتدين وقد نعت الله جل وعلا من يعمرونها ويتواجدون فيها بأنهم رجال ثم وصفهم بأربع خصال لا تلهيهم هذه الدنيا عن طاعة ذي العزة والجلال يعظمون الله جل وعلا فيذكرونه ويصلون له يشفقون على عباد الله ويُحسنون إليهم فيعطونهم قسطاً من أموالهم ثم هم على أتم الاستعداد ليوم المعاد في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يُسبح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
__________
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71(68/2)
إخوتي الكرام: كنا نتدارس الصفة الثانية من صفات عباد الرحمن الذين يعمرون بيوت ذي الجلال والإكرام في الأرض ألا وهي إقامة الصلاة وقد مضى الكلام على هذه الصفة في موعظتين اثنتين وقلت إن المراد من إقامة الصلاة توفية الصلاة حقها علماً وعملاً فإذا قام الإنسان بذلك قرت عينه وابتهجت نفسه وذاق للصلاة حلاوة تتضاءل بجانبها جميع الحلوات واللذائذ والمشتهيات ويستعين الإنسان بعد ذلك بهذه الصلاة على شدائد الحياة وهذا ما كان يشير إليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود بإسناد صحيح عن بعض الأنصار والأبرار - رضي الله عنهم أجمعين- والحديث رواه الإمام الداراقطني في العلل عن بلال - رضي الله عنهم أجمعين- أن -النبي صلى الله عليه وسلم- قال: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها أقم هذه الصلاة لنستريح فيها ولنتلذذ بها فنحن نناجي الحي القيوم عندما نصلي له أقم الصلاة أرحنا بها نعم إن الراحة تحصل بالصلاة على خلاف الكُسالى والمنافقين الذين يستريحون من الصلاة وشتان شتان بين من يستريح بها وبين من يريد أن يستريح منها فيراها كأنها ضريبة وإذا قام إليها يقوم وهو متثاقل فيريد أن يستريح منها وأن يتخلص من عناءها وكأنه ما فهم من الصلاة إلا هذه الحركات المتتابعات فهو يريد الراحة منها وحال المتقين يستريحون بها [يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها] .
نعم تحصل الراحة بالصلاة فهي قرة العين كما تقدم معنا -إخوتي الكرام- وقد كان نبينا -عليه الصلاة والسلام- إذا اعتراه هم ودهاه حزن يفزع إلى الصلاة ويشرع لنا ذلك لنستعين بهذه الصلاة على كل شدة في هذه الحياة ثبت في المسند أيضاً، وسنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حَزَبَه أمر فزع إلى الصلاة أي نزل به أمرٌ مهم وشدة وحزن وكرب وغم فزع -عليه صلوات الله وسلامه- إلى الصلاة.(68/3)
نعم إن الصلاة هي مفزع المؤمنين كيف لا وبها يناجون رب العالمين {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (1) وقد كان السلف الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- عندما كانوا يقيمون هذه الصلاة كما يريد ربنا -جل وعلا- وكما أمر كانوا يتلذذون بها وكانوا يتسلون بها عن كل شدة تطرأ على أبدانهم وأجسامهم أخرج أبو داود في سننه، والحديث رواه الإمام ابن حبان، وابن خزيمة في صحيحهما، ورواه الحاكم في المستدرك، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى ودلائل النبوة على نبينا -صلوات الله وسلامه- وعلقه الإمام البخاري في صحيحه والحديث صحيح نص على تحسينه الإمام النووي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والإمام الحاكم، والذهبي -عليهم جميعاً رحمة الله-.
__________
(1)) ) سورة البقرة 45(68/4)
ولفظ الحديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: غزونا مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في غزوته ذات الرقاع وسميت بذلك لأمور كثيرة أبرزها أمران أولهما: لف الخرق على أرجلهم فوضعوا الخرق على أرجلهم من شدة وعورة الطريق وعناء السفر فتنقبت أرجلهم فلفوا عليها الخرق وراياتهم تمزقت أيضاً وتقطعت فرقعوها غزوة ذات الرقاع يقول فلما دخل الليل قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هل من رجل يكلئنا أي من يكلؤنا من يكلؤنا هذه الليلة، يحفظنا يحرصنا في هذه الليلة فانتدب لذلك صحابيان أنصاري عباد بن بشر، ومهاجري عمار بن ياسر -رضي الله عن الصحابة أجمعين- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذين الصحابيين المباركين عباد بن بشر، وعمار بن ياسر كونا بفم الشعب أي في هذا المنفتح والطريق بين الجبلين كونا في أوله حتى إذا جاءنا طلب من المشركين تخبروننا فهذا هو الطريق الذي يأتون منه كونا بفم الشعب وأخذ النبي -عليه الصلاة والسلام- والصحابة الكرام بعد ذلك مضاجعهم ليستريحوا في الليل فقال عمار بن ياسر لعبَّاد بن بشر تريد أن أكفيك أول الليل وتكفيني آخره أو أنت تكفيني أول الليل وأكفيك آخره أي نتناوب في الحراسة فقال عباد بن بشر أنا أحرس أول الليل فقام يحرس وبجواره عمار بن ياسر مضجع نائم فجاء بعض المشركين فلما نظر إلى هذا الرجل وهو عباد بن بشر وجده قائماً يصلى فعلم أنه هو ربيئة القوم أي هو حارسهم وهو الذي يحفظهم ويكلؤهم ويراقبهم ويراقب الأعداء إذا جاءوا عليهم فسدد إليه السهم فضربه بسهم وقع في صدره وعباد بن بشر يصلي وورد أنه كان يقرأ سورة الكهف -رضي الله عنهورحم الصحابة والمسلمين أجمعين- فنزع عباد بن بشر هذا السهم وما التفت ولا قطع صلاته وبدأ في صلاته فسدد إليه ذاك الرجل سهماً آخر فوقع في صدره والدماء تنزف منه -رضي الله عنه وأرضاه- فنزع هذا السهم وما قطع صلاته فسدد إليه سهماً ثالثاً فوقع في صدره فنزعه فلم اثخنته الجراح(68/5)
وخشي أن يسقط على الأرض ميتاً وبعد ذلك يكشف المسلمون ولا يوجد من يحرصهم ولا من يوقظهم إذا داهمهم المشركون أيقظ عمار بن ياسر وجراحاته تنزف من صدره - رضي الله عنهم أجمعين- فقال له عمار هلا أنبهتني في أول الأمر أي عندما شعرت بهذا العدو لِمَا لم تخبرني ولِمَا لم توقظني قال عباد بن بشر كنت في سورة فكرهت أن أقطعها سبحان الله كنت في سورة أنا أناجي الله وأتلذذ بحلاوة كلامه كيف أقطعها وهذه الجراحات لا نشعر بشدائدها في صلاتنا ووالله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه لقطع نفسي أو أنفذها إعلم يا عمار ما أيقظتك من أجلى ولا من أجل هذا المشرك لتطرده ما أيقظك إلا لأنني مؤتمن على هذا الثغر ولولا هذه الأمانة لما قطعت صلاتي حتى أُُنهي هذه السورة بتمامها أو أن أقتل وأنا في الصلاة [وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر] .
الفائدة التي تحصلها من ذكر الله الفائدة التي نحصلها من صلاتنا بذكر الله عندما نذكره أكبر من كل شيء أكبر من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر وأكبر من كل طاعة ومن كل لذه ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون. -إخوتي الكرام- إذا أقام الإنسان الصلاة وفاها حقها علماً وعملاً نال بها الراحة وقرة العين وحصل بهجة النفس وانشراح الصدر وطمأنينة القلب عباد الله وتقدم معنا أنه لا بد لإقامة الصلاة من أمور قلت جماعها ينحصر في أربعة أمور أولها أن نؤدي الصلاة في وقتها وثانيها أن يحضر قلبنا عند أداء الصلاة لربنا وثالثها أن تسكن جوارحنا وأعضائنا الظاهرة ورابعها وهو الذي لم يتيسر الكلام عليه في الموعظة الماضية وقلت سأتكلم عليه في هذه الموعظة إن شاء الله إتمام أركانها من ركوعها وسجودها.(68/6)
إخوتي الكرام: وهذا الأمر الرابع قبل أن أتكلم عليه تكلمت على الأمر الثالث وهو أن الجوارح ينبغي أن تسكن وأن تخشع كما خشع الباطن ينبغي أن يخشع الظاهر وعليه ينبغي أن تضبط عينيك وأن تضبط فمك وأن تضبط جميع جوارحك وأن تكون في سكون وخشوع وإخباتٍ لله -جل وعلا- وكنت أشرت على سبيل الإجمال أن النظر ينبغي أن يكون إلى محل السجود وقد سأل عدد من الأخوة عن هذا الأمر ولذلك أرى أن أتكلم عليه وهو يتعلق بالأمر الثالث ثم نتدارس الأمر الرابع إن شاء الله -عباد الله- إذا قام الإنسان للصلاة فينبغي ألا يُفَرِق نظره كما تقدم معنا إلى أي جهة من الجهات وينبغي أن يكون نظره موضع سجوده وقد وردت في ذلك أحاديثَ وآثارً ضعيفة تعتضد ببعضها فترتقي إلى درجة القبول بإذن الله -جل وعلا- من هذه الآثار ما رواه الإمام الطبري في تفسيره، ورواه ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وعبد بن حميد في تفاسيرهم، رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن والأثر، ورواه الإمام الحازمي في الناسخ والمنسوخ، وسعيد بن منصور في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين شيخ الإسلام والأثر مرسل وإسناده صحيح إلى محمد بن سيرين -عليهم جميعاً رحمات رب العالمين- قال: كان الصحابة الكرام ومعهم نبينا -عليه الصلاة والسلام- في أول الأمر إذا قاموا إلى الصلاة رفعوا رؤوسهم ونظروا فوقهم وتَلَفَّتوا يميناً وشمالاً فأنزل الله {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} يقول محمد بن سيرين في هذا الأثر فلما نزلت هذه الآية طأطأو رؤوسهم وفي رواية طأطأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه ونكّس رأسه والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين كانوا على هذا الأمر فحنَوْ رؤوسهم كما في بعض الروايات.(68/7)
وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن أيضاً عن محمد بن سيرين متصلا عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فهو متصل لكن كما قال البيهقي المحفوظ هو المرسل وقال الإمام الذهبي هو الصحيح هذا الأثر الأول طأطأو رؤوسهم حنَوْ رؤوسهم نكسوا رؤوسهم ونظروا محل سجودهم، وورد في سنن البيهقي وإسناد الأثر فيه ضعف كما قال الإمام النووي في المجموع عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: [يا أنس ضع نظرك حيث تسجد] أي إلى موضع السجود هذا النظر ما ينبغي أن يزيد على ذلك وهذا الأمر نقل عن السلف الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.(68/8)
ثبت في سنن البيهقي والأثر رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق وإسناد الأثر فيه ضعف أيضاً وكما قلت الآثار تعتضد ببعضها عن أبي قلابة -رضي الله عنه- وهو عبد الله بن زيد الجَرْمَي من أئمة التابعين توفي سنة 104هـ أخرج حديثه أهل الكتب الستة كما قال عنه الإمام الحافظ بن حجر في التقريب ثقة فاضل عابد أخرج حديثه أهل الكتب الستة إلا أبا داود فأخرج عنه في كتاب القدر لا في كتاب السنن وهو عبد صالح أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي ومن مناقبه وفضائله واحتياطه وحزمه وعزمه أنه عندما أريد على القضاء في بلاد البصرة هرب وشرد إلى بلاد الشام وتوفى هناك وكان يقول ما مثل القاضي العالم إلا كمثل رجل وقع في البحر فما عسى أن يسبح ثم يغرق هذا العبد الصالح يقول حدثني عشرة من أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامه وركوعه وسجوده وقراءته كانت كصلاة هذا الأمير يعني الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا- يقول الراوي عن أبي قلابة وهو سليمان بن داود الخولاني إمام ثقة حديثه في سنن أبي داود، وسنن الإمام ابن ماجه يقول سليمان بن داود الخولاني نظرت إلى صلاة عمر بن عبد العزيز وتأملتها فكان لا يجاوز بصره موضع سجوده هذا الأثر يدل على هذا الأمر وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي ألا يجاوز هذا النظر موضع السجود وهذه الآثار كما قلت تعتضد ببعضها وتتقوى وهو أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة ينبغي أن يكون نظره موضع سجوده.(68/9)
إخوتي الكرام: وهذا الأمر الذي دلت عليه هذه الآثار وتعتضد ببعضها هو الذي أفتى بموجبه أئمتنا الأبرار هو الذي أفتى بُموجبها أي بموجب الآثار أئمتنا الأبرار -عليهم جميعاً رحمات العزيز الغفار- فهذا قتادة والأثر ثابت عنه في سنن البيهقي بإسناد صحيح أنه كان يقول الخشوع في القلب وإلباد البصر في الصلاة أي: يحصل الخشوع بهذين الأمرين أن يخشع القلب وأن يتفكر وأن يتدبر والباد البصر في الصلاة وإلباد البصر أي سكونه بحيث يكون إلى موضع السجود ولا يتجاوز ذلك فهو مستقر ثابت الخشوع في القلب والباد البصر في الصلاة وروى مثل هذا عن شيخ الإسلام محمد بن سيرين أيضاً -عليهم جميعاً رحمة الله- أنه كان إذا صلى لا يجاوز بصرُه موضع سجوده وكان يعجبه ذلك للمصلى أي إذا صلى الإنسان أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وهذا الذي نص عليه أئمتنا الفقهاء -عليهم جميعاً رحمة الله-.
كما قرر هذا شيخ الإسلام الإمام النووي في المجموع، وشيخ الإسلام الإمام ابن قدامه في المغنى وعلى هذا أيضاً كتب المذاهب الأخرى كما في الفقه الحنفي في رد المحتار على الدر المختار للإمام محمد بن عابدين -عليهم جميعاً رحمات رب العالمين- وحاصل ما ذكروه أن الإنسان ينبغي في صلاته أن يضع بصره موضع سجوده في جميع أحوال صلاته سواء كان قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو جالساً وهذا هو الذي نقل عن الإمام أحمد وقال الإمام النووي إنه أصح القولين وهناك قولٌ حكى في كتب الفقه أيضاً وهو أن هذه الآثار التي تدل على وضع البصر موضع السجود تُحمل على حاله الوقوف والقيام فإذا كان الإنسان قائماً يضع بصره موضع سجوده وأما إذا ركع فينبغي أن ينظر إلى قدميه وأما إذا سجد فينبغي أن ينظر إلى أرنبة أنفه وأما إذا جلس فينبغي أن ينظر إلى حجره بحيث لا يتجاوز نظره رؤوس أصابعه وهذه الكيفية منقوله عن شريك بن عبد الله ورجحها الإمام البغوي -عليهم جميعاً رحمة الله-.(68/10)
ولا يقولن قائل ما الدليل على هذا الدليل؟ على هذا كما قال أئمتنا أن هذه الكيفية فيها قصر للنظر وإعانة على الخشوع عند أداء الصلاة لأن النظر كلما امتد وتبعثر تفرق القلب فبين العين والقلب صلة عجيبة فإذا امتدت العين إلى مكان بعيد تشوش القلب وعليه أنت إذا كنت قائماً تنظر إلى محل سجودك فإذا ركعت تنظر إلى قدميك فإذا سجدت لا يتجاوز النظر أرنبة الأنف وإذا جلست بعد ذلك تنظر إلى حجرك بحيث لا يتجاوز النظر أصابع اليدين اللتين على الفخدين إلى منتهى الركبتين وكل من القولين كما قلت إخوتي الكرام قرره أئمة الإسلام والأخذ بأيهما كان حسن إما أن تنظر إلى محل سجودك على الدوام في جميع أحوال صلاتك وإما أن تفعل هذا فانظر أيهما أخشع لقلبك فافعله ولا حرج إخوتي الكرام وكسر البصر وغضه ينبغي أن يصاحب الإنسان في جميع الأحوال سواء كان في حال الصلاة أو في غيرها من العبادات والأذكار ينبغي للإنسان ألا يَمُد نظره وألا يفرق بصره وكلما قصره كان خيرا له.(68/11)
ولذلك ثبت في المستدرك والحديث رواه البيهقي في السنن وإسناد الحديث على شرط الشيخين صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي وهو صحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت عجبت للمرء المسلم عندما يدخل البيت وتعني بالبيت بيت الله الحرام الكعبة المشرفة إذا دخل الإنسان إلى داخلها عجبت للمرء المسلم عندما يدخل البيت كيف ينظر قبل السقف وهو في غير صلاة دخل إلى بيت الله دخل إلى الكعبة المشرفة فبدأ يتأملها وينظر إلى سقفها تقول عجبت للمرء المسلم إذا دخل إلى البيت كيف ينظر قبل السقف ينبغي أن يدع ذلك تعظيما لله وإجلالاً له إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما دخل البيت ما جاوز بصره موضع سجوده أي كان مطرقاً -عليه صلوات الله وسلامه- عندما دخل الكعبة المشرفة دون أن تقع صلاة إنما هذا من علامات السكينة من علامات الخشوع من علامات الأدب إذا كنت تذكر الله -جل وعلا- في غير صلاة إذا كنت تقرأ القرآن إذا كنت تصلي أيضاً فما ينبغي أن تفرق بصرك بيمين وشمال وخلفك وفوقك ينبغي أن تَقْصُر بصرك فكلما فعلت هذا كان أخشع لقلبك واتقى لربك عجبت للمرء المسلم إذا دخل البيت كيف ينظر قبل السقف ينبغي أن يدع ذلك تعظيماً لله -جل وعلا- وإجلالاً له إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما دخل البيت ما تجاوز نظره موضع سجوده.(68/12)
والأثر كما قلت -إخوتي الكرام- صحيح على شرط الشيخين صححه أئمة الإسلام وقد ورد في سنن ابن ماجه ما يدل على حاله رفيعة كريمة للصحابة الكرام في صلواتهم والحديث حوله شيء من الكلام أذكره وأبين ما فيه إن شاء الله ولفظ الحديث عن أمنا أم سلمة -رضي الله عنها- وأورده الإمام ابن ماجه في كتاب الجنائز ومن العجيب أن يورد هذا الحديث في كتاب الجنائز في باب وفاة نبينا -عليه الصلاة والسلام- ودفنه مع أنه في ظاهر الأمر ليس له صلة بوفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- ودفنه لكن أمنا أم سلمة -رضي الله عنها- تشير بهذا الحديث إلى تغير الناس بعد نبينا -عليه الصلاة والسلام- ولفظ الحديث عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان الناس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قاموا إلى الصلاة لم يعدو بصر أحدهم موضع قدميه فهو يصلي مطرق الراس لا يتجاوز بصره موضع قدميه تقول فلما قُبض النبي -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- صار أحدهم إذا قام للصلاة لم يعدو بصر أحدهم إذا قام يصلي موضع سجوده فتوسع الناس إلى هذا الأمر ولا زالوا ضمن المشروعية والجواز تقول فلما كان عمر واستخلف عمر -رضي الله عنه- وقبض أبو بكر - رضي الله عنهم أجمعين- صار أحدهم إذا قام يصلي لم يعدو بصرهم موضع القبلة لم يعدو بصر أحدهم موضع القبلة فتوسعوا تجاوزوا القدمين ومحل السجود لكن لا ينظرون إلا إلى جهه القبلة إلا إلى الجهه الأمامية تقول أمنا أم سلمة -رضي الله عنها- فلما قتل عمر واستُخلف عثمان ووقعت الفتنة -رضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين- تَلَفّت الناس في صلاتهم فنظروا يميناً وشمالاً أي تغيروا عن الهدى الصالح الذي كانوا عليه.(68/13)
وهذا الحديث إخوتي الكرام فيه موسى بن عبد الله انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه فلم يروي عنه أحد من الكتب الستة موسى بن عبد الله والإمام المنذري لما ذكر الحديث في الترغيب والترهيب قال إسناده حسن وليس فيه إلا موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي ولم أقف على جرحٍ أو تعديلٍ فيه ولا يحضرني جرحٌ أو تعديل فيه وهذا الحديث عندما تعرض له أئمتنا كما فعل الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المَنْبِجيّ الحلبي في كتابه تسلية أهل المصائب قال إسناده مقارب بفتح الراء وكسرها مقارَب مقارِب أي رجال الإسناد يقاربهم غيرهم في الحفظ وهم يقاربون غيرهم في الحفظ إسناده مقارَب إسناده مقارِب وتبعه على هذا الاصطلاح الإمام السفاريني في غذاء الألباب شرح منظومة الآداب فقال إسناد الحديث مقارِب إسناد الحديث مقارَب أما الإمام المنبجي فتوفي سنة 785هـ وأما الإمام السفاريني الذي جاء بعده توفي سنة 1188هـ -عليهم جميعاً رحمات رب العالمين- موسى بن عبد الله بن أبي أمية المخزومي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج عنه وقد حكم عليه الحافظ بن حجر العسقلاني في التقريب بأنه مجهول لأنه لم يرو عنه إلا واحد نعم ليس فيه كما قلت توثيق ولا تجريح والحديث كما قلت يعطينا سورة واضحة لأحوال السلف الكرام في العصر الأول وكيف كانت الأحوال تتغير في كل مرحلة فهم في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- لهم هذه الحالة لا يجاوز بصر أحدهم موضع قدميه في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- لا يجاوز بصر الواحد منهم موضع سجوده في عهد عمر -رضي الله عنه- لا يجاوز بصر أحدهم القبلة فلما وقعت الفتنة وتغيرت القلوب نظر الناس يميناً وشمالاً وكيف يفعل الناس في هذه الأيام من النظر إلى سائر الجهات وكل هذا كما تقدم معنا اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الإنسان.
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام:(68/14)
إذا صلى الإنسان ينبغي أن ينظر موضع سجوده ولا يجوز أن يرسل نظرة زيادة عن ذلك ولا بمقدار أنمله وإذا فعل هذا فقد شوش ذهنه وتسبب في تشويش قلبه ونقص من الخشوع بمقدار ما يُطلق بصره هذا فيما يتعلق بالنظر الذي سأل عنه عدد من الأخوة الكرام وكما قلت ينبغي للإنسان أن يقصر من نظره في الصلاة وفي غيرها ذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح الربيع بن خثيم وهو تابعي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم يرى النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو من شيوخ التابعين الكرام توفي سنة 65هـ حديثه مخرج في الكتب الستة الربيع بن خثيم -رضي الله عنه وأرضاه- يقول هذا العبد الصالح وكان تلميذاً لعبد الله بن مسعود كان إذا جاء إلى بيت شيخه عبد الله بن مسعود يقول أهل عبد الله بن مسعود لعبد الله بن مسعود جاء صاحبك الأعمى وما كان به عمى -رضي الله عنه وأرضاه- كان منور البصر والبصيرة لكنه كان يطرق الراس في مشينه وفي جميع أحواله ولا يُفَرِّق نظره إلى سائر الجهات فكان إذا جاء إلى بيت شيخه يقول أهل عبد الله بن مسعود لعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم أجمعين- جاء صاحبك الأعمى وكان إذا قام إلى الصلاة وسجد كأنه ثوب مُلقى فكانت العصافير تأتي وتقف على ظهره وهو ساجد لربه -جل وعلا- ومع ذلك كان يقول أدركنا أناساً ما كنا بجنبهم إلا لصوصاً يعني الصحابة الكرام كنا بجنبهم إلا لصوصاً نحن كاللصوص مع الصحابة الكرام فماذا نقول في هذه الأيام نسأل الله أن يتوب علينا وأن يعفو عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين إطلاق النظر والبصر إلى سائر الجهات وحتى توسع الناس من رجالٍ ونساء بحيث تجلس المرأة أحياناً على البلكونه على الشرفة أو تفتح النافذة لتسرح نظرها إلى هذا وذاك يا أمة الله يا عبد الله غضوا أبصاركم واقصروا أعينكم فهذا أزكى لكم.(68/15)
وأما ما يتعلق بالأمر الرابع الذي ينبغي أن يحرص عليه الإنسان لتحصل فيه إقامة الصلاة على التمام المحافظة على الوقت خشوع القلب خشوع الظاهر بعد ذلك ينبغي أن توفي الأركان حقها من قيام وركوع وسجود ينبغي أن تأخذ هذه الأركان حقها من اطمئنان ومن رفع من الركوع ومن رفع من السجود وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن الذي لا يؤدي هذه الأركان حقها ولا يطمئن فيها ولا يرفع ظهره وصلبه بعد ركوعه وبعد سجوده بحيث يواصل الركن الثاني بالأول دون أن يعتدل وأن يطمئن بأن هذا لا صلاة له ولا تجزئه صلاته ولو مات على هذه الحالة يموت على غير ملة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
ثبت في مسند الإمام أحمد، والسنن الأربعة والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، ورواه الطبراني في معجمه الكبير وأبو يعلى في مسنده وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي مسعود الأنصاري البدري -رضي الله عنه وأرضاه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول [لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود] إذا ركعت ثم أردت ان تسجد أقم الصلب وأقم الظهر واعتدل قائما مطمئناً حتى تستوي تماماً ويحصل عندك شيء من الراحة والاطمئنان ثم تهوي إلى السجود وأما أنك ترفع بحيث لا يعتدل الارتفاع ثم تهوي إلى السجود لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع وفي السجود.(68/16)
والحديث -إخوتي الكرام- روى عن عدة من الصحابة الكرام رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند، وابن ماجه في السنن، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان عن علي بن شيبان -رضي الله عنه- وأرضاه وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: [لا صلاة لرجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود] والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير عن طلق بن علي ورواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [لا ينظر الله إلى صلاةٍ لا يقيم الرجل فيها صلبه بين ركوعه وسجوده] وفي رواية [لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه في صلاته بين ركوعه وسجوده] لا ينظر الله إلى هذه الصلاة ولا إلى فاعلها ولا صلاة له ولا يقبل الله صلاته إذا لم يسوي هذه الأركان ولم يطمئن فيها على وجه التمام.
وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير، ومسند أبي يعلى، وصحيح ابن حبان من رواية أبي عبد الله الأشعري وهو يعرف بكنيته تابعي صالح قال: حدثنا أمراء الأجناد عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وشُرَحبِيل بن حسنه - رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً يصلي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: [لو مت لمت على غير ملة محمد عليه الصلاة والسلام لا تتم الركوع وتنقر السجود كما ينقر الديك الدجاج فلا تطمئن لا يتم الركوع ينقر في السجود] لو مت على هذا لمت على غير ملة محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم قال -النبي صلى الله عليه وسلم-: [إنما مثل من لا يتم ركوعه وينقر في سجوده كمثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين هل يغني ذلك عنه شيئاً] جائع أكل تمرة لا تملأ بطنه ولا ترد جوعته وهكذا جاء ليصلي فما أتم الركوع أنقصه ونقر في السجود هذه صلاة ناقصة ليست بتامة ولا مقبولة.(68/17)
وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير بإسناد حسن عن بلال -رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً أيضاً لا يتم ركوعه وينقر في سجوده فقال له "لو مت على هذا لمت على غير ملة محمد -صلى الله عليه وسلم-".
إخوتي الكرام: قد يسأل سائل فيقول ما الأمور التي يستعين الإنسان بها على إقامة الصلاة كما بينا أن يحافظ عليها في وقتها أن يحضر قلبه في صلاته أن يخشع ظاهره أن يتم بعد ذلك أركانها كما شرع الله وكما يحب والجواب أن ذلك يحصل بأمرين اثنين.
أولهما: قوة المقتضى وثانيهما انتفاء المانع أيها العبد المؤمن أيها المصلي أيها المسلم إذا علمت أن الله خلقك سبحانه وتعالى وأحسن إليك فما بكم من نعمة فمن الله واستحضرت تقصيرك نحو ربك -جل وعلا- إذا استحضرت هذه المعاني في بداية صلاتك إنك مخلوق لخالق وهو الله -جل وعلا- والله أحسن إليك بنعم لا تحصى وأنت مقصراً نحوه صلاتك حقيقة ستكون بين خوف ورجاء بين رغبة ورهبة ترغب فيها إلى الله وترهب منه مما عندك من تقصير فأنت بين حالتين في صلاتك إما أن تعبد الله بعد ذلك كأنه يراك وإما أن تعبد الله كأنك تراه أن تستحضر أحد الأمرين أعبد الله كأنك تراه فإذا لم يكن هذا وما وصلت إلى هذا المقام فلا أقل من استحضار.
الأمر الثاني ألا وهو أنه يراك سبحانه وتعالى ويراك وأنت عبده ومحسن إليه وأنت مقصر معه فاستحي منه في صلاتك وأحضر قلبك واخشع لربك -جل وعلا- هذا الأمر إذا استحضره الإنسان قوة المقتضى أي المقتضى للخشوع وحضور القلب أيها المصلي أتعلم أنك في صلاتك تقرأ أعظم سورة أنزلها الله -جل وعلا- على أنبيائه ورسله -عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها لا يوجد سورة تعدل هذه السورة ألا وهي سورة الفاتحة.(68/18)
وقد ثبت هذا عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- في مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري ورواه أهل السنن الأربعة إلا الإمام الترمذي من حديث أبي سعيد بن المعلى، وثبت أيضاً في المسند، والترمذي، والنسائي، وصحيح ابن خزيمة، والمستدرك، وموطأ الإمام مالك من حديث أبي هريرة - رضي الله عنهم أجمعين-.
وللحديثين قصة وفيه يقول -النبي صلى الله عليه وسلم-[ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها أم الكتاب فاتحة القرآن هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم الذي أوتيته] يا عبد الله عندما تقرأ هذه السورة وتصل إلى قول الله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي هي بينك وبين رب العالمين هذه الآية كما قال أئمتنا سائر كتب الله -جل وعلا- شرح لها فالقرآن تضمن الكتب السماوية بأسرها ومضمون القرآن كما يقول أئمتنا الكرام في حزب المفصل الذي يبتدأ من سورة ق إلى نهاية القرآن ومضمون هذا الحزب في سورة الفاتحة وسورة الفاتحة مضمون في هاتين الجملتين إياك نعبد وإياك نستعين عبادة لله على الدوام واستعانة بذي الجلال والإكرام حب له على التمام تذلل له على الدوام وهذان ركنا لعبادة إياك نعبد ثم استعانة به في كل زمان ومكان.
استحضر هذا أيها المصلي عندما تقرأ هذه الآية ينبغي أن ينخلع القلب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وأما أن تقول إياك نعبد وأنت تعبد الريال. وأنت تعبد المرأة وأنت تعبد الهوى وأنت تعبد الشهوة وذهنك غاب عما تناجي به ربك فهذا حقيقة مما ينبغي أن يستحي منه الإنسان إياك نعبد.(68/19)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كن على علم بذلك أيها الإنسان عندما تصلي ثم بعد ذلك ينبغي أن تصرف الموانع عنك إذا وجد المقتضى فلا بد من انتفاء المانع والموانع كنت أشرت إليها سابقاً ينبغي أن تحصن أربعة أمور الخطرات والنظرات فما ينبغي في غير الصلاة أن يدخل قلبك وسوسة ولا أن تُشغله بما لا ينفع من أخطار رديئة فهذا سيعرض عليك في صلاتك وما ينبغي في غير الصلاة أن تُطلق بصرك هنا وهناك فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أضبط الخطرات واللحظات ثم اضبط بعد ذلك الخُطوات واللفظات {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما} (1) .
__________
(1)) ) سورة الفرقان: 63(68/20)
ومن ضبط هذه الأمور الأربعة فهو صديقٌ صديق لا يخطر في قلبه إلا حق يرضاه الله ولا ينظر إلا إلى حلال أحله الله ولا يمشي إلا لمباح أحله وشرعه الله وبعد ذلك لا يتكلم إلا بما يحب الله حقيقة إذا حصنت نفسك خارج الصلاة ستتلذذ في الصلاة وأما هذه المنافذ مفتوحة والشياطين تدخل فيها من كل جهة ثم بعد ذلك إذا صليت تقول لا أجد حلاوة الصلاة يا عبد الله ألا سددت منافذ الشيطان خارج الصلاة أضبط خطراتك ولحظاتك وخطواتك ولفظاتك فإذا ضبطت هذا وقمت تصلي واستحضرت المعنى الأول قوة المقتضى من خلق الله لك وإحسانه إليك وتقصيرك في حقه حقيقة شتخشع في صلاتك وستعيش في الصلاة ما بين رغبة ورهبة ما بين خوف ورجاء وإذا لم يحصل هذا فيك فكم من إنسان -إخوتي الكرام- يصلي ولا يُحَصِّل من صلاته إلا جزءاً يسيراً كما ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إن العبد ليصلي الصلاة وما يكتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها إلا سدسها إلا سبعها إلا ثمنها إلا تسعها حتى بلغ إلا عشرها سبحان الله كتب له واحد من عشرة هذا إن كتب له وقد أحيانا لا يكتب له شيء من صلاة وقد يرتكب وزراً وكم من إنسان يصلي ويتحمل بصلاته خطايا ما لو وزعت على أهل مدينته وحيّه وبلدته لأهلكتهم وهو يصلي وحقيقة إذا كان الإنسان يصلي وذهنه يرتع في كل نقيصة ورذيلة ما حال يسيء الأدب مع رب العالمين في حضرة مناجاته سبحانه وتعالى.
ولذلك -إخوتي الكرام- لابد من استحضار هذا من سد منافذ الشيطان الأربعة ثم استحضار بعد ذلك إحسان الله إلينا وتقصيرنا في حقنا لعل الله يمن علينا إذا استحضرنا ذلك بحلاوة مناجاته عند صلاتنا له.
نسأل الله أن يرزقنا حلاوة الإيمان وخشية على الدوام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول واستغفر الله.(68/21)
الحمد لله رب العالمين..(68/22)
تلخيص
النكاح الشرعي والنكاح المدني
1. ذكر الشيخ الآيات التى تدل على ارتفاق كلا من الزوجين بصاحبه.
2. الرد على الإمام الرازى لقوله أن النساء خلقن كخلقة الدواب والنبات والجماد.
3. ذكر الشيخ الأقوال عند تعارض رواية المرأة مع رواية الرجل.
4. الرد على قول الحسن البصرى وقتادة فى قولهما أن العقيقة تشرع للذكر ولا تشرع للأنثى.
5. شرح الآية الثالثة التى تدل على ارتفاق الزوجين وهو {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا} .
6. شروط الكفاءة بين الزوجين.
7. الفروق بين النكاح الشرعى بصبغته الشرعية والنكاح المدنى بدونها.(69/1)
النفقة المستحبة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
النفقة المستحبة
18
الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيماً وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيد الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صما وقلوباً غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) آل عمران: 102(70/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى ذي الجلال والإكرام المساجد فهي بيوت الله وفيها نوره وهداه وإليها يأوي الموحدون المؤمنون المهتدون وقد نعتهم الله بأنهم رجال ووصفهم لأربع خصال لا تلهيهم البيوع والتجارات ويعظمون رب الأرض والسموات فيذكرونه ويصلون له ويشفقون على عباد الله والمخلوقات فيحسنون إليهم ويتصدقون عليهم ثم بعد ذلك يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
وكنا إخوتي الكرام نتدارس صفتهم الثالثة ألا وهي الإحسان إلى عباد الله ومساعدة خلق الله عن طريق إخراج الزكاة الواجبة والمندوبة وتقدم معنا الكلام إخوتي الكرام على ما يتعلق بالزكاة الواجبة ثم بعد ذلك تكلمت على النفقة الواجبة ووعدت أن نتدارس في هذه الموعظة ما يتعلق بالنفقة المستحبة التي هي من باب التطوع وفاعلها يحصل عظيم الأجور عند العزيز الغفار.
__________
(1) سورة الأحزاب: 70، 71
(2) سورة النور: 36، 37(70/2)
عباد الله: تقدم معنا أن النفقة الواجبة تشمل إخراج الزكاة وتشمل الحقوق الطارئة المتعينة على الإنسان غير الزكاة كما أنها تشمل النفقة على النفس والأهل والأولاد والوالدين ومن يلزمك أن تنفق عليهم. عباد الله وتقدم معنا أن النفقة بهذه الأقسام الثلاثة نفقة واجبة وفيها أجرٌ عظيم عظيمٌ كما بينت هذا بما ثبت عن نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه وقبل أن انتقل إلى النفقة المستحبة التي هي من باب التطوع والسنة وفاعلها يحصل أعظم الأجر قبل ذلك أحب أن أبين أمراً يسيراً يتعلق بالنفقة الواجبة ألا وهو أن كثيراً من الناس يحجمون عن الزواج ويقللون من الأولاد خشية من النفقة عليهم وخشية من رزقهم وكل هذا ضلال وعار ينبغي أن يتنزه عنه المؤمنون وأن يربطوا قلوبهم بالحي القيوم عندما تنفق على عيالك تحصل أجراً عظيما عظيماً يتضائل بجانبه كل أجر على كل نفقة إن أعظم نفقة تنفقها على عيالك تلك عليها أجر عظيمٌ عظيم يفوق سائر أجور النفقات وقد أخبرنا عن ذلك خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ديناراً أنفقتَهُ في سبيل الله وديناراً أنفقته في رقبة ودينارأً تصدقت به على مسكين وديناراً أنفقته على أهلك أعظمها أجراً عند الله الدينار الذي أنفقته على أهلك " أعظمها أجراً عند الله الذي أنفقته على أهلك نعم هذه نفقة واجبة متعينة لكن منّ الله علينا أيضاً عليها بالأجور العظام فهي واجبة علينا ويثيبنا عليها سبحانه وتعالى.(70/3)
إخوتي الكرام: طيبوا نفساً بما تنفقونه على أنفسكم وعلى أهليكم وأولادكم ووالديكم فلكم بذل أجرٌ عظيمٌ عظيم هو أعظم النفقة عند رب العالمين وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم أيضاً والحديث أخرجه الإمام النسائي والترمذي وابن ماجه في سننهم وهو حديث صحيحٌ صحيح عن ثوبان رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: أفضل دينار أنفقته على عيالك ودينار أنفقته على فرسك في سبيل الله ودينار أنفقته على أصحابك في سبيل الله قال أبو قلابة: بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيال ثم قال أبو قلابة رضي الله عنه وأرضاه: وأي رجل أعظم من رجل ينفق على أولادٍ له صغار يعفهم الله به ويغنيهم ويرحمهم. فأضل دينار تنفقه على أهلك، دينار تنفقه على فرسك في سبيل الله، دينار تنفق على أصحابك في سبيل الله.
إخوتي الكرام..(70/4)
النفقة الواجبة بأقسامها مع أنها واجبة علينا نثاب عليها عند ربنا جل وعلا. وأما النفقة المستحبة التي هي نفقة التطوع هي خلاف النفقات المتقدمة، من صدقات على المساكين ومن هدية للأحباب وللأخوة في الدين، ومن إطعام لعباد الله أجمعين من تقديم طعام وثياب لهم فيما لا يجب عليك ولا يتعين وكل هذا من باب أعمال البر والنفقات المستحبة التي طولبنا بها وهذه طاعات عظيمة لأنك تعبد الله بها ونفعها يتعدى إلى غيرك فهي طاعة متعدية أعظم أجراً من الطاعة التي بينك وبين ربك وقد أشار إلى هذا سلفنا الكرام ففي مستدرك الحاكم والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وإسناده صحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ذُكِر لي أن الأعمال تتباهى عند الله جل وعلا فتقول الصدقة أنا أفضلكم الأعمال تتباهى عند ذي العزة والجلال فتتكلم الصدقة وتقول: أنا أفضل الطاعات. وأنا أعظم القربات فأنا طاعة متعدية فعلها الإنسان طاعة لله ونفع بها عباد الله، ودين الله يقوم على تعظيم الله وعلى الشفقة على خلق الله وقد حصل هذا من الصدقة التي اطلعت بها وتقربت بها إليه وأحسنت إلى عباد الله وساعدتهم فتقول الصدقة أنا أفضلكم وهذا الأثر إخوتي الكرام الثابت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه له حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه فمثله لا يقال من قبل الرأي لا سيما وقد قال: ذُكر لي أن الأعمال تتباهى عند الله فتقول الصدقة أنا أفضلكم وهذه الأفضلية التي تكون للصدقة من وجوه كثيرة أولها:(70/5)
1. إن من يتصدق في سبيل الله ويحسن مع عباد الله بالنفقات التي لا تجب عليه من صدقة وإطعام لعباد الله وهدية لخلق الله وغير ذلك أنه عندما يفعل هذا يحصن نفسه في كل يوم تتصدق فيه فقد حصنت نفسك بحصن حصين من البلايا الطارئة والرزايا المفاجئة كما أخبرنا عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ففي معجم الطبراني الأوسط من حديث علي رضي الله عنه والأثر رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الروايتين من رواية علي وأنس ومرفوعاً أيضاً على أنس رجح شيخ الإسلام الإمام البيهقي أن الأثر مرفوع على أنس وهذا ما ذهب إليه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب عليهم جميعاً رحمات ربنا القريب المجيب. الأثر من كلام أنس لكن هذا أيضاً إذا ثبت عن أنس وهو ثابت كما قرر الإمام البيهقي وبعده الإمام المنذري فثابت إذن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثله لا يقال من قبل الرأي كما ستعلمون يقول أنس رضي الله عنه باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها (باكروا بالصدقة) أي إذا أصبحت عجِّل بالصدقة والإحسان إلى عباد الله فإذا فعلت هذا لا يصل إليك بلاء أنت عملت صدقة إذا جاء البلاء لا يمكن أن يتجاوز الصدقة ولا يمكن أن يخرقها ليصل إليك فأنت في حصن حصين وأنت في جُنة قوية محكمة متينة باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها نعم لا يتخطى البلاء صدقة بحيث يصل إلى المتصدق. فإذا أردت أن تحصن نفسك علىالدوام فأكثر من الصدقات إلى عباد الرحمن لا سيما في البكور من كل يوم يتصدق ولو شيئا قليلاً فهو حصنٌ لك وجُنة من بلاء طارئ يطرأ على عباد الله. وإذا طرأ ذلك البلاء ونزل ولم تكن متصدقاً فأسرع إلى معالجة نفسك ومداواتها بالصدقة فما وجد مثل الصدقة دافعاً للبلاء قبل حلوله وبعد حلوله.(70/6)
إن الصدقة تدفع البلاء فلا يحل عليك وإن الصدقة تدفع البلاءة فإذا أصابك البلاء وأردت أن يزول عنك فأكثر من الصدقة وأكثر من مساعدة عباد الله ولو درى العباد هذا الأمر لكفاهم ذلك عن شراء أدوية كثيرة وفيرة قد تضر ولا تنفع ولداووا أنفسهم بالصدقات التي يتقربون بها إلى ربهم جل وعلا ويساعدون بها عباد الله والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه. وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر والحديث من درجة القبول ولا ينزل عن درجة الحسن رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في معجمه الكبير وأبو الشيخ في كتاب الثواب من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه والأثر رواه الطبراني أيضاً في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وروى عن عدة من الصحابة الكرام ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وثبت عن أنس ابن مالك وعن العرباص بن سارية وعن عبادة بن الصامت وعن سمرة بن جندب وعن الحسن البصري في جميع الروايات مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم والروايات يعتضد بعضها ببعض فتتقوى أنه قال عليه الصلاة والسلام " داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وأعدوا للبلاء الدعاء " داووا مرضاكم بالصدقة إذا وجد لك مريض فأكثر من الصدقة على العبيد، داووا مرضاكم بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وأعدوا للبلاء الدعاء – أكثروا من الدعاء لئلا ينزل البلاء وليرفع إذا نزل والحديث كما قلت إخوتي الكرام لا ينزل عن درجة الحسن لتعدد مخارجه وكثرة طرقه وشواهده إذن الأعمال تتباهى فتقول الصدقة أنا أفضلكم وأي فضيلة أعظم من أن البلاء يُدفع عنك فلا يصل إليك إذا تصدقت في هذه الحياة وإذا وصلك بلاء ولم تتصدق وأردت أن يزول عنك فتصدق والله خير معين وهو خير ضمين سبحانه وتعالى.(70/7)
الأمر الثاني: الذي يقرر أفضلية الصدقة وخيرتها ويحق لها أن تقول أمام ربها عندما تتفاخر الأعمال الصالحة: أنا أفضلكم.
هذه الصدقة تمحو عنك الخطايا وتزل عنك الذنوب والرزايا إذا أخطأ الإنسان وما اكثر الأخطاء التي يرتكبها في الليل وفي النهار وفي الصباح وفي المساء. هذه الصدقة تمحو الخطايا وتزيلها برحمة الله وكرمه وجوده وعفوه. وقد ثبت في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه. والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان موقوفاً على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ قريب من لفظ أبي ذر في صحيح ابن حبان وقد ذهب شيخ الإسلام الإمام ابن حجر عليه رحمة الله إلى أن الأثر رواه مغيث بن موسى وهو من الرواة عن كعب الأحبار وهم من أئمة التابعين الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين.(70/8)
والرواية الأولى كما قلت عن أبس ذر في صحيح ابن حبان وهو صحيح على حسب ما يراه هذا الحافظ الإمام وقد ذكر تصحيحه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب ولم يعترض عليه وهكذا فعل الحافظ الهيثمي من الزواجر عن اقتراف الكبائر فذكر تصحيح ابن حبان للحديث ولم يعترض عليه وإذا كان حوله كلام له شواهد كثيرة حسانٌ حسان كما يأتينا ولفظ الحديث عن أبي ذر عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: "تعبّد عابد من بين إسرائيل ستين سنة في صومعته فلما أمطرت السماء واخضرت الأرض قال: لو خرجت من صومعتي حتى أتعبد الله على هذه الخضرة فخرج فتعرضت له بغى فلم تزل تكلمه ويكلمها حتى غشيها ووقع عليها ثم لما صحا وتفكر فيما فعل وندم على نفسه أغمي عليه من حسرته ثم بعد ذلك ذهب إلى بركة وبدأ يستحم بها ليسقط عندما حصل فيه من جنابة فجاءه مسكين ومع هذا العابد رغيف أو رغيفان فأعطاه هذا الرغيف أو هذين الرغيفين، قال نبينا عليه الصلاة والسلام: "وُضعت عبارة ستين سنة في الميزان وهذه الزِّنْية فَرَجَحت بها " وهذه الزينة فرجحت بها أي كِفّة السيئات رجحت {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (1) (خرجت بها ثم أُتِيَ بالرغيف أو الرغيفين فوضعا في كفة حسناته فرجحت فغفر الله له) الصدقة تمحو الخطايا، تزيل الذنوب بفضل الله وكرم علام الغيوب وهذا الأثر إخوتي الكرام كما قدمت الكلام عليه في صحيح ابن حبان وغيره وانظروه في موارد الضمآن في ص210 وفي الكتب التي أشرت إليها إنما أريد أن أقول معنى الحديث صحيح وأن الصدقة تمحو الخطايا هذا ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة منها ما يثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه والدارمي في مسنده وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ويحفظه الأولاد الصغار في المرحلة الابتدائية في الأربعين
__________
(1)) ) سورة الإسراء: 32(70/9)
النووية على مؤلفها رحمات رب البرية عندما قال معاذ رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار قال: " لقد سألت عن عظيم وأنه يسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت – أي إن استطعت إليه سبيلا – ثم قال النبي صلى الله علية وسلم يا معاذ ألا أدلك على أبواب الخير قلت بلا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نبينا عليه الصلاة والسلام الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار (الصوم جُنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا نبينا عليه الصلاة والسلام {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذرة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذرة سنامه الجهاد، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ (بما يملك عليك أمر نفسك ويعينك على طاعة ربك) فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: يا معاذ كف عنك هذا فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لمؤاخذون لما نتكلم به؟! قال ثكلتك أمك وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!
__________
(1)) ) سورة السجدة: 15- 17(70/10)
الشاهد – أخوتي الكرام: والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وهذا المعنى متواتر عن نبينا المختار صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه الحاكم في المستدرك وأبو يعلى في مسنده وسنده صحيح كالشمس من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ورواه ابن حبان من رواية كعب بن عُجرة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكعب في رواية جابر وفي رواية كعب بن عُجرة: (يا كعب بن عُجرة، يا كعب بن عُجرة الصلاة قربان تتقرب بها إلى الله – الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) وفي رواية ابن حبان (والصدقة تذهب بالخطيئة كما يذهب الجليد على الصفا) والجليد هو قطع الثلج على البلاط الأملس إذا سطعت عليه حرارة الشمس يذوب ويتلاشى ويمشي ولا يبقى متماسكاً وهكذا الصدقة تُذهب الخطيئة كما يذهب الجليد على الصفا. إذا إخوتي الكرام الصدقة..تمحوا الخطايا تكفر الذنوب تستر العيوب ولذلك يحق لها أن تقول أمام علام الغيوب أمام الطاعات عندما تفتخر فتقول الصدقة: أنا أفضلكم. من أفضلية الصدقة إخوتي الكرام أيضاً الصدقة المندوبة المستحبة.(70/11)
2. أن الإنسان يستظل بظلها في عرصات الموقف عندما يُحشر الناس حفاة عراة، وتدنوا الشمس من رؤوسهم ويلجمهم العرق صدقتُك في ذلك الوقت تظلك إحسانك إلى عباد الله إطعامك لخلق الله مساعدتهم بما استطعت فيما لا يجب عليك. يكون كالمضلة عليك من حر ذلك اليوم {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (1) وقد ثبت الحديث بذلك وهو صحيح كالشمس ع نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وابن خزيمة في صحيحه وكما قلت أنه صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس ".
__________
(1)) ) سورة الشعراء: 88، 89(70/12)
في ذلك الموقف العصيب الرهيب يكون لهذه الصدقة ظلال وتستظل بظلالها حتى يفرغ أهل الموقف من الحساب (المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس) قال يزيد بن أبي حبيب الراوي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني وهو الراوي عن عقبة بن عامر رضي الله عنهم أجمعين قال يزيد فكان أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني وهو من أئمة التابعين الطيبين روى عن عدة من الصحابة الكرام الصادقين وتوفي سنة 90هـ وحديثه في الكتب الستة وهو عالم مصر، وفقيهها وصالحها وعابدها وزاهدها في زمانه أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني يقول يزيد بن أبي حبيب فكان مرثد لا يخطؤه يوم إلا تصدق فيه ولو بكعكة ولو ببصلة، وفي رواية ابن خزيمة يقول يزيد فكان مرثد أبو الخير لا يخطؤه يوم إلا تصدق وكان يأتي إلى المسجد في الصباح وفي جيبه فلوس أو خبز أو قمح أو بصل فقلت له: أبا الخير ماذا تصنع بالبصل تحمله في جيبك ينتن ثيابك؟! قال: والله ما في البيت غيره وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المتصدق في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس " فما في البيت إلا بصل فأخرجت بصلة لأتصدق بها حتى تكون ظلا لي يوم القيامة. وإذا وجد فلوساً تصدق، وإذا وجد خبزاً تصدق، وإذا قدر أنه لم يُحصِّل إلا البصل، يحمل في جيبه البصل وهو من أئمة التابعين الأبرار وشيخ المسلمين في تلك الديار في زمنه يحمل البصل من أجل أن يتصدق به في كل يوم بما تيسر لكون في ظل صدقته عند الله جل وعلا.
إخوتي الكرام..(70/13)
يحق للصدقة أن تقول إذن إذا افتخرت الأعمال أمام ذي العزة والجلال: أنا أفضلكم، لا يوجد عمل في ذلك في ذلك اليوم إلا الصدقة؟! نعم يوجد أعمال أخرى سيأتينا الإشارة إليها تضلك في ظل العرش، أما عمل بنفسه يكون ظلا لك فهذا خاص بالصدقة وعليه إذا تصدقت واتصفت بالأعمال الأخرى حصّلت ظلين: ظلا تحت عرش الرحمن وظلا بهذه الصدقة عندما تظلك في ذلك اليوم.
إخوتي الكرام: ويحق للصدقة أن تقول: أنا خيركم، وأنا أفضلكم فالأفضلية أيضاً تظهر بالوجه الرابع.(70/14)
3. الصدقة تقيك من نار جهنم وتحفظك من لهيبها وتكون حصناً حصيناً لك من دخولها كما أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم والحديث إخوتي الكرام في المسند ورواه الشيخان في الصحيحين وهو في سنن الترمذي وابن ماجه من رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بيننا وبينه ترجمان (ليس هناك مترجم ولا واسطة كل واحد من الخليفة سيقف أمام ربه ليكلمه) قال عليه الصلاة والسلام (فينظر – أي هذا الذي سيكلمه الله أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وعمل وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وعمل وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة – فاتقوا النار ولو بشق تمرة) تصدق بما استطعت لتكون هذه الصدقة وقاية لك من النار ولو بشق تمرة (فمن لم يجد فبكلمة طيبة) فاتقوا النار ولو بشق تمرة.(70/15)
وقد تواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الصدقة تمنع من دخول النار وتقي صاحبها من ذلك العار الذي سيحصِّله أهل الأوزار في دار القرار ففي مسند الإمام أحمد وحلية الأولياء لأبي نعيم والحديث صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليقي أحدكم وجه من النار ولو بشق تمرة " ليتق أحدكم وجهه من النار ولو بشق تمرة والحديث رواه الإمام أحمد في المسند بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنا النبي صلى الله عليه وسلم قال لها يا عائشة "استتري من النار ولو بشق تمرة " (استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسُد من الجائع مسدّها من الشبعان) استتري من النار ولو بشق تمرة وهذا المعنى كما قلت ثابت متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام رواه عدة من أصحابه الكرام منهم البزار في مسنده والإمام الطبري في معجمه الأوسط عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اتقوا النار ولو بشق تمرة" والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة إخوتي الكرام.(70/16)
نعم..إن الإنسان يقي نفسه عندما يتصدق وكل على حسب استطاعته وكما قال أئمتنا سابقاً الجود بالموجود وإذا لم تجد إلا تمرة وشققتها قسمين فأخذت قسماً وتصدقت بالباقي فأجركم عظيمٌ عظيم عند ربك الكريم وقد ثبت في سنن النسائي من رواية أبي ذر رضي الله عنه والأثر رواه النسائي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي هريرة كما قلت والحديث عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سبق درهم مائة ألف درهم –سبق درهم مائة ألف درهم " قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! يتصدق بدرهم ويزيد أجره عند الله على من يتصدق بمائة ألف درهم؟! والحديث صحيحٌ صحيح فقال عليه الصلاة والسلام "رجل يملك درهمين عنده درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ورجل أخذ من عُرض ماله لف درهم فتصدق به" من عُرض ماله: يعني من ناحية ماله من جانب ماله أموال مكدسة فخذ من جانبها مائة ألف ذاك عندما أخرج الدرهم أخرج نصف ما يملك وهذا عندما أخرج مائة ألف درهم أخرج طرفاً يسيراً من طرف ما يملك يقول نبينا عليه الصلاة والسلام "سبق درهم مائة ألف درهم " الجود بالموجود وثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه البزار في مسنده عن علي رضي الله عنه وإسناد الحديث ثقات أثبات وليس فيه من تُكلِّم فيه إلا الحارث الأعور وقد ضعفه أئمتنا وأخرج حديثه أهل السنن الأربعة ونقيم عليه شيء من التشبع كان فيه وهو من أصحاب علي رضي الله عنه وأرضاه وتشيّعُهُ أنه يفضل علياً على سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الحارث الأعور المعتمد في أمره أنه ضعيف.(70/17)
لكن الحديث له شواهد ولفظ الحديث عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: جاء ثلاثة نفرإلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم يا رسول الله كانت عندي مائة دينار فتصدقت منها بعشرة دنانير وقال الآخر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عندي عشرة دنانير فتصدقت منها بدينار وقال الثالث: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندي دينار واحد فتصدقت بعُشره فقال عليه الصلاة والسلام "كلكم في الأجر سواء كلكم تصدق بعُشر ماله " نعم..يتصدق الإنسان بنصف تمرة متى؟! عندما لا يملك إلا تمرة وإما إذا كانت عنده أطنان التمر ثم بعد ذلك تصدق بتمرة أو بنصف تمرة فبئس ما قدمه لنفسه {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (1) .
إذن إخوتي الكرام ... الجود بالموجود لكن الصدقة لها هذا الأجر الكريم عند ربنا المعبود:
1. لا يتخطاها البلاء.
2. تكفر الذنوب والخطايا.
3. تستظل بظلها يوم القيامة.
4. تمنعك هذه الصدقة بعد ذلك من دخول نار جهنم.
إخوتي الكرام..
__________
(1)) ) سورة آل عمران: 92(70/18)
هذا المال الذي منَّ الله به علينا لا ينتفع الإنسان به إلا إذا أخرجه وقدمه بين يديه. وقد ثبت ف مستدرك الحاكم بسند صحيح قال الحاكم أبو عبد الله إسناد الحديث على شرط الشيخين ولا أعلم له علة وأقره على ذلك الإمام الذهبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الأختلاء ثلاثة، أصحابك ثلاثة لا يخرجون عن ذلك. فخليل يقول لك أنا معك ما دمت حياً فإذا مِتّ، فأذا مُتّ فارقتك وخليل يقول لك أنا لك ما أنفقت وإذا لم تنفق فلست لك وخليل يقول لك أنا معك أينما ذهبت إذا دخلت أو خرجت. قال نبينا عليه الصلاة والسلام " أما الخليل الذي معك ويفارقك إذا مُتّ –ذا مِتّ فهم أهلك وأصحابك وعشيرتك (يصاحبونك في هذه الحياة ويشيعونك إلى قبرك ثم يعودون) . (وأما الخليل الذي تنتفع به إذا أنفقته ولا يكون لك إذا لم تنفقه فهو مالك) أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك يقول لك المال: إن أنفقتني فأنا لك وإن لا فلست لك وأما الذي يصاحبك من جميع أحوالك من دخولك وخروجك: عملك. قال نبينا عليه الصلاة والسلام (فيقول الإنسان بعد موته لعمله: لقد كنت أهون الثلاثة عليّ) أنت الخليل الملازم لكن ما تقيت الله من خُلتك ولا في صحتك (كنت أهون الثلاثة علي) أنت ستصاحبني في حِلِّي وترحالي في حياتي وبعد مماتي في الدنيا وفي الآخرة ثم ما أحسنت عشرتك. أما المال الذي سيكون لي إذا أنفقته ويكون لغيري إذا كنزته فقد اعتنيت به والأهل والعشيرة كذلك فارقوني عند الموت واعتنيت بهم وأما هذا الصاحب الذي لا يفارقني " كنت أهون الثلاثة علي" ما تمنيت بك وهناك يتحسر الإنسان ولكن ليس ذلك الوقت تنفع فيه الحسرة.(70/19)
إذن.. لابد إخوتي الكرام من إنفاق هذا المال لينفعك عند ذي العزة والجلال وهذا الحديث الثابت كما قلت في المستدرك وغيره أصله في الصحيحين من رواية أنس أيضاً رضي الله عنه وأرضاه هو في الصحيحين وسنن النسائي والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يتبع الميت ثلاثة: مالُه وأهلُه وعملُه فيرجع إثنان ويبقى واحد يرجع ماله وأهله ويبقى عمله " هذا الذي سيصاحبك في كل وقت. إخوتي الكرام فلا بد من إخراج المال إخراج المال تقرباً إلى ذي العزة والجلال صدقة على المسكين أمر طيب إطعام لعباد الله ولأحباب الله ولعباد الله والمساكين ولغيرهم كل هذا أيضاً عمل طيب يقوم به الإنسان عندما يطعم عندما يقدم شراباً عندما يقدم لباساً كل هذا من أنواع النفقات المستحبة التي تشرع للإنسان وينبغي أن يقوم بها.
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن عظيم الأجر الذي يحصله من يطعم عباد الله ومن يسقي عباد الله ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وقال حسن صحيح والحديث رواه ابن حبان في صحيحه ورواه الإمام الدارمي في مسنده من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " اعبدوا الرحمن.. أطعموا الطعام..صلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام.(70/20)
والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند والترمذي في السنن وابن ماجه في السنن أيضاً ورواه الحاكم في المستدرك والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه -أي أسرعوا إلى لقائه – يقول فذهبت فلما استثبتُ منه نظرت إلى وجهه فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب عليه صلوات الله وسلامه لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام " أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " إطعام الطعام إلى عباد الرحمن من أسباب دخول الجنة بسلام.
والأحاديث إخوتي الكرام في ذلك كثيرة وفيرة منها ما ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألا وأن في الجنة غُرفاً يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " فقال أبو مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه: لمن أعدها الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وقال بالليل والناس نيام " والحديث رواه ابن حبان عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه بتغيير أطاب بأفشى قال من؟ قال لمن أفشى السلام وأطعم الطعام وبات قائما والناس نيام إذن إطعام الطعام له أجرٌ كبير عند ذي الجلال والإكرام.(70/21)
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان والحديث رواه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبئني عن أمر إذا عملته دخلت الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة " أفشي السلام وأطعم الطعام وصِل الأرحام وصلي بالليل والناس نيام وادخل الجنة بسلام " أي بعد ذلك. والأحاديث في ذلك كثيرة ولذلك كان سلفنا الكرام يتسابقون على هذه المكرمة أعني إطعام الطعام، تقرباً إلى ذي الجلال والإكرام. أخرج الإمام أحمد في المسند بسند حسن وأبويعلى في مسنده والأثر في كتاب الأحاديث الجياد المختارة الصحيحة للإمام الضياء المقدسي وأصل الحديث في مستدرك الحاكم عن صهيب رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب قال لصهيب رضي الله عنهم أجمعين يا صهيب أي رجل أنت لولا ثلاث فيك؟! قال صهيب: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: تكنّيت وليس لك ولد، وانتسبت إلى العرب وأنت من الروم، ولك إسراف في الطعام. وفي رواية المستدرك: ما جاءك شيء إلا أنفقته فقال: يا أمير المؤمنين أما منيتي فقد كناّني رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني بأبي يحيى – هذه كنية النبي صلى الله عليه وسلم لي – وأما انتسابي للعرب فأنا من قبيلة النمر بن قاسم من العرب سباني الروم وأنا صغير أعقل أهلي وقومي والله لو كان أصلي روثة لانتسبت إليها قال: صدقت قال: وأما قولك أني أسرف في الطعام فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "خياركم من أطعم الطعام " زاد الإمام أحمد في المسند (ورد السلام) خياركم من أطعم الطعام ورد السلام. ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه كما في كتاب الثواب لأبي الشيخ وإسناد الأثر حسن لولا وجود ليث ابن أبي سليم فيه.(70/22)
وهو كما قال أئمتنا صدوق لكن طرأ عليه الاختلاط وقد أخرج حديثه البخاري في صحيحه معلقاً والإمام مسلم في صحيحه وهو من رجال أهل السنن الأربعة. عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: "لأن أجمع إخواني على صاعٍ أو صاعين من طعام أحبُّ إليّ من أن أدخل سوقكم فأشتري عبداً فأعتقه في سبيل الله" إطعام الطعام له هذا الأجر العظيم عند ذي الجلال والإكرام وهذا سَقْيُ الماء إخوتي الكرام فقد سقى رجل كلباً فشكر الله سعيه فغفر له وفي كل كبدٍ رطبة أجر.
ثبت الحديث بذلك في المسند والصحيحين والحديث رواه البخاري في الأدب والمفرد وأبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئر فنزل فيها فشرب فلما خرج رأى كلباً يلهث يكاد أن يأكل الثرى من شدة العطش فقال لقد بلغ بهذا الكلب من العطش مثلُ الذي بلغ بي فنزل البئر ثانية وملأ خفيه بالماء ثم رقى وسقى الكلب فشكر الله له فغفر الله له قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإن لنا في البهائم لأجراً؟! قال: (في كل كبد رطبة أجر) والحديث أيضا ثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينما كلب يطيف بركية- أي يدور حول بئر – لا يستطيع أن يشرب منها فلقيته بغي من بغايا بني إسرائيل نسأل الله العافية فنزعت موقها – يعني خفها – ثم استقت بهذا الموق لهذا الكلب فسقته إياه فغفر الله لها به) أي بهذه السقيا بغي من بغايا نبي إسرائيل عندما سقت هذا الماء وتصدقت على خلق الله فغفر الله لها غفر الله وزرها وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(70/23)
وإليكم هذه القصة إخوتي الكرام التي تتعلق بسقي الماء القصة ينقلها شيخ الإسلام الإمام البيهقي في كتاب شعب الإيمان والبيهقي توفي سنة 458هـ ينقلها عن شيخ الإسلام في زمنه عبد الله بن المبارك الذي توفي سنة 181هـ حاصلها أن رجلاً جاء إلى شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك فقال له خرجت فرحة في ركبتي بقي لها سبع سنين وقد عالجتها بأنواع العلاجات فما برأت ولا شفيت وهي تنزف بالدم والماء والقيح والصديد فأريد أن ترشدني إلى أمر يكتب الله لي به العافية. فقال له شيخ الإسلام: ابحث عن مكان يحتاج الناس فيه إلى ماء واحفر فيه بئراً وأنا أرجو من الله إذا استقى الناس من ذلك البئر أن يجف سيلان قرحتك وأن تبرأ بإذن الله جل وعلا وفعلاً الرجل بحث عن مكان يحتاج الناس فيه إلى بئر، فحفر بئراً فلما خرج الماء واستقى الناس منه برأت قرحته بإذن الله داووا مرضاكم بالصدقة.(70/24)
قال الإمام البيهقي: وقد جرى مثل هذا لشيخنا أبي عبد الله الحاكم الذي توفي سنة 430هـ وهو من شيوخ البيهقي وهو صاحب المستدرك عليهم جميعاً رحمة الله يقول جرى مقل هذا لشيخنا أبي عبد الله الحاكم خرج في وجهه قروح فشوهت وجهه وبقي فيه ذلك قرابة سنة ثم جاء إلى شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني الذي توفي سنة 449هـ وهو من العلماء الربانيين الذين يستقى بهم وينزل غيث السماء عند ذكر اسمهم عليهم جميعاً رحمات الله وهو صاحب كتاب عقيدة السلف وأهل السنة مطبوعة ضمن الرسائل المنيرة فجاء الإمام الحاكم إلى هذا الشيخ العَلَم الهمام فقال: أبا عثمان أريد أن تدعو لي في مجلس وعظك وقد وعظ هذا الرجل وحضر الأئمة الكبار وعظه وعمره تسع سنين واستمر في الوعظ سبعين سنة حتى لقي رب العالمين أبو عثمان الصابوني قال أريد أن تدعو لي في مجلس وعظك وأن يُؤمِّن الناس لعل الله يُذهب عني هذه القروح فاجتهد أبو عثمان في الدعاء وأمّن الحاضرون وكثر البكاء فلما انصرفوا جاءت امرأة في اليوم الثاني إلى أبي عثمان وقالت رأيت النبي عليه الصلاة والسلام فقال لي: أبلِغي أبا عثمان أن يخبر الحاكم أن يوسِّع على المسلمين في الماء. فأخبرت أبا عثمان الصابوني بهذا فأعلم الإمام الحاكم بذلك فعمل مباشرةً سقياً عند داره قال أئمتنا فلما خرج الماء منها واستقوا منها يقول البيهقي وهو يدرك هذا بعينه: ما مضى أسبوع حتى ذهبت القروح من وجه أبي عبد الله الحاكم وصار وجهه أنضر وجه وأحسنه وأبهاه (داووا مرضاكم بالصدقة) .
هذه الصدقات إخوتي الكرام لها أجور عظيمة حسان يتعلق بها أمران أذكرهما على سبيل الإيجاز في الموعظة في الخطبة الثانية ن شاء الله أقول هذا القول واستغفر الله.(70/25)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين. اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام.. يتعلق بالصدقة أمران لا بد من العناية بهما:
الأمر الأول: يستحب للإنسان إذا تصدق أن يخفي صدقته ما أمكن فهذا أعظم لأجره عند ربه وقد ثبت في معجم الطبراني الكبير من حديث أبي أمامة رضي الله عنه والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أمنا أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صنائع المعروف تقي من مصارع السوء وصلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفئ غضب الرب" وتقدم معنا أن مطلق الصدقة يطفئ غضب الرب وعليه صدقة السر تزيد في إطفاء غضب الرب وإذهاب عقوبته ونعمته وفقته وسخطه لعظيم الأجر الذي فيها.
والحديث إخوتي الكرام إسناده حين وهو ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم (صدقة السر تطفئ غضب الرب) وقد كان سلفنا يتبارون في صدقة السر.
يذكر أئمتنا كما يوجد في سير أعلام النبلاء في ترجمة شيخ الإسلام الإمام الرباني أبي عمرو إسماعيل بن نُجير الذي توفي سنة 365هـ وانظروا ترجمته إخوتي الكرام في الجزء 16/146 من سير أعلام النبلاء وكما قلت هو من العلماء الربانيين وشيخ الإسلام ومحدث خراسان في زمنه ونعته الإمام الذهبي بأنه كان صوفياً وكان كبير القوم من أئمة الهدى والصلاح والسداد والرشاد.(70/26)
يقول هذا الإمام المبارك يقول الذهبي في ترجمته ومن محاسنه أن شيخه يعني به أبا عثمان الحيري الذي توفي سنة 298هـ احتاج إلى مبلغ من المال من أجل تحصين الثقور من الأعداء فحثّ الناس على الصدقة فأبطؤوا فجاء في المجلس الثاني ابن نُجيد – إسماعيل بن نُجيد أبو عمرو بألفي درهم في صرة ووضعها بين يدي أبي عثمان دون أن يشعر أحد بذلك فشكر أبو عثمان هذا المتصدق ونوّه به في مجلس وعظه وقال: أبطأتم عن الصدقة وقد قام بعبء الجماعة هذا العبد الصالح ابن نُجيد فاعترض شيخه وقام من المجلس وقال يا إمام كنت أخذت هذه الفلوس من أمّي وهي كارهة وتريد أن تعيدها إليّ فقال خذ هذا الكيس بحاله. فأخذ هذا الكيس حتى انفض الناس دخل إلى شيخه وقبّل يديه وقال أيها الشيخ علام فضحتني بين الناس؟ ! أمر عملته لله لا أريد أن يطلع عليه أحد هذه الفلوس تعاد مرة لتحصين الثغور ولا أريد أن يعلم بهذا أحد من خلق الله هذا الصوفي الزاهد العابد الورع القانت كان يقول: كل حال وإن جل لا يُبنى على علم ضرره على صاحبه أكثر من نفعه – نعم من عَبَدَ الله على جهل ودعا على جهل فما يفسده أكثر مما يحصله وكان هذا العابد القانت يقول: لا تثبتُ قدم الإنسان في العبودية حتى يعلم أن جميع أعماله كلها رياء وأن جميع أمواله كلها دعاوى أحواله دعاوى أعماله رياء نعم من لم يتهم نفسه بالرياء فهو مراءٍ ومن لم يتهم نفسه بالنفاق فهو منافق ما أمن النفاق إلا منافق وما برّأ نفسه من الرياء إلا مرائي أما الأمر الثاني: ألا وهو المتعلق بالصدقات على الأقرباء والأرحام أترك هذه للموعظة الآتية عند شهر رمضان فهو شهر الصدقة والإحسان.
الدعاء..(70/27)
تحذير التائب
من الذكر بضمير الغائب
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تحذير التائب
من الذكر بضمير الغائب
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) آل عمران: 102(71/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
لازلنا نتدارس منزلة عبادة الذكر في الإسلام وما جرى نحو هذه العبادة من ابتداع من قبل المتأخرين من أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: تقدم معنا أن عبادة الذكر هي أفضل الطاعات بعد أداء الواجبات، وهذه العبادة غيرها المبتدعون المخرفون في العصور المتأخرة وتغييرهم دار على أمرين اثنين:
أما أنهم أحدثوا عبادة زعموا أنهم بها يذكرون ربهم كالقصائد والأشعار التي أحدثت في هذه الأمة من قبل الصوفية، ومن قبل من يزعمون الجهاد في هذه الأيام وعلقوا عليها وأعرضوا عن كلام ذي الجلال والإكرام.
وأما أنم جاءوا إلى صيغ الأذكار الشرعية فتلاعبوا في تغييرها وغيَّروا الكيفية.
وكنا نتدارس الأمر الثاني من أحوالهم في الموعظة الماضية وسأكمل الحديث عليه في هذه الموعظة بإذن الله جل وعلا، وكما هي عادتنا قبل أن نبدأ في إزهاق الباطل ودمغه ودحضه يحسن بنا بل يجب علينا أن نتدارس منزلة الحق ومكانته وفضيلته لتتعلق القلوب به وليسكن في الصدر ثم بعد ذلك نرد الباطل وندحضه.
__________
(1) سورة الأحزاب 70، 71(71/2)
إخوتي الكرام: تقدم معنا منزلة الذكر في الإسلام وقلتُ إن صيغ الأذكار تتفاوت عند ذي الجلال والإكرام فأعظمها كلمة التوحيد لا إله إلا الله فهذه هي أفضل ذكر يذكرها العبد ربه جل وعلا، وكنت ذكرت في الموعظة السابقة شيء من فضائل الذكر من هذه الكلمة، وكما قلت لن أتحدث عن أحكامها العظام ولا عن جميع فضائلها الحسان ولا على ما يترتب عليها من خيرات في العاجل والآجل، وإنما سأتكلم على جزئية يسيرة، ألا وهو الأجر الذي يعطيه الله لمن يذكره في هذه الصيغة فقط دون ما يترتب عليها من أحكام، فبهذه الكلمة ينجو الإنسان من النيران، بهذه الكلمة يستوجب الإنسان الشفاعة من النبي عليه الصلاة والسلام، بهذه الكلمة يدخل غرف الجنان، بهذه الكلمة يتمتع بالحور الحسان، بهذه الكلمة يعصم دمه في هذه الحياة فيصبح من أولياء الرحمن، لمن أتكلم هذه الآثار الحسان، وإنما أتكلم عن الأجر الذي يعطيه الله لمن يقول لا إله إلا الله، وقد ذكرت كثيراً من الأجور التي يمن بها العزيز الغفور على من يذكره بهذه الصيغة في الموعظة الماضية، وسأزيد ذلك تقريراً في نفس الموضوع دون أن أنتقل إلى جزئيه أخرى.
إخوتي الكرام..
من ذكر الله بهذه الصيغة فله من الأجر من الله ما لا يخطر ببال أحد.
ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند حسن من رواية أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. قال [من قال لا إله إلا الله كتب له كذا وكذا حسنة] أي كتب من الحسنات ما لا يحيط به المخلوقات، والكريم إذا أطلعه الجزاء فلا يعلمه إلا هو فهو الكريم وهو رب الأرض والسماء، ومن قال هذه الصيغة وأكثر من قولها وواظب عليها بالليل والنهار فله أجر كبير عند ربنا الجليل.(71/3)
ثبت في سنن الترمذي، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب، والحديث في إسناده الضحاك بن حمرة الاملوكي الواسطي وفيه ضعف وقد حسن الإمام الترمذي حديثه لعل ذلك لشواهده، ولفظ الحديث من رواية عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من هلل الله بالغداة مائة مرة وبالعشي مائة مرة كان كمن اعتق مائة نفس من ولد إسماعيل] .
وتقدم معنا في الموعظة الماضية ما للمعتق من أجر عند الله جل وعلا، فمن اعتق رقبة واحدة في هذه الحياة اعتقه الله من النار وأوجب دار كرامته، أوجب له الجنة بفضله ورحمته، وهنا إذا هللت الله بالغداة مائة وبالعشي مائة فلك هذا الأجر عند الله كأنك أعتقت في ذلك اليوم مائة نفس من خيار أنواع الرقيق، من العرب إذا استرقوا من ولد إسماعيل.
نعم إخوتي الكرام: إن هذه الكلمة لها أثر عظيم عند ذي الجلال والإكرام.
ثبت في سنن البزار ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه الإمام النسائي في كتابه (عمل اليوم والليلة) وابن أبي الدنيا، وإسناد الأثر صحيح من رواية سيدنا عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة الكرام [أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم مثل أحد عملاً، قالوا وكيف نستطيع أن نعمل كل يوم مثل أحد عملا، نحن أضعف من ذلك وأعجز يا رسول الله، فقال كلكم تستطيعونه، قالوا وكيف ذاك؟ فقال لا إله إلا الله أعظم من أحد وسبحان الله أعظم من أحد، والله أكبر أعظم من أحد.(71/4)
نعم لا يثقل شئ مع اسم الله جل وعلا والميزان الذي كفته تسع السماوات والأرض كما ثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط مسلم أقره عليه الإمام الذهبي من رواية سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعته فتقول الملائكة ربنا من يزينها هنا، من يستطيع أن يأتي بعملاً ليرجح ميزانه الذي كفته تسع السماوات والأرض، فيقول لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
إن كلمة التوحيد التي يأتي بها الموحد وهي في بطاقة صغيرة تثقل الميزان ولا يثقل شئ مع اسم الرحمن جل وعلا.(71/5)
نعم إخوتي الكرام: هذه الكلمة لها هذا الأثر عند ذي الجلال والإكرام، كلمة التوحيد من قالها فقد أتى بعمل أعظم عند الله من جبل أحد، وأخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من هلل الله نظر الله إليه، ومن نظر الله إليه سينال رحمته قطعاً وجزماً، والحديث بذلك في كتاب (عمل اليوم والليلة) للإمام النسائي وهو في السنن الكبرى له والحديث رواه الإمام الخطيب البغدادي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وأما الإمام النسائي فرواه من رواية يعقوب بن عاصم من رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعقوب بن عاصم من أئمة التابعين وهو ثقة إمام عدل طيب مبارك حديثه في صحيح مسلم وهو من رجال سنن النسائي وأبي داود وهنا يروي هذا العبد الصالح يعقوب عن رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [ما من عبد يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، إلا خرقت هذه الكلمة أبواب السماوات حتى تصل إلى الله جل وعلا فإذا وصلت إليه نظر الله إلى قائلها من أهل الأرض وحق لمن نظر الله إليه أن يعطيه سؤله] أو كما قال، وفي رواية الخطيب البغدادي عن أبي هريرة رضي الله عنه [ما من عبد يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، إلا صعدت إلى الله جل وعلا، هذه الكلمة لا يحجبها شيء ليس دونها حجاب تخترق الحجب وتصعد فإذا وصلت إلى الله نظر الله إلى صاحبها وحق على الله ألا ينظر إلى أحد إلا رحمه، إذا نظر الله إليك تنال سؤلك ويعطيك حاجتك، إذا نظر الله إليك رحمك أرحم الرحمين، والحديث إسناده صحيح.(71/6)
وصفة النظر من الصفات التابعة لمشيئة الله جل وعلا، فهو الذي ينظر إلى من يشاء، وإذا نظر إلى إنسان فقد رضي عنه ورحمه وقد أخبرنا ربنا أنه لا ينظر إلى من غضب عليه كما ذكر الله ذلك في سورة (آل عمران) : {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم} .
وقد ثبت عن أبي عمران الجويني وهو من أئمة التابعين الكبار وحديثه في الكتب الستة وهو إمام ثقة عدل، ثبت عنه في كتاب (حلية الأولياء) في الجزء الثاني صفحة أربع عشرة ومائتين 2/214 عنه قال (ما نظر الله إلى أحد إلا رحمه ولو نظر الله إلى أهل النار لرحمهم، ولكن قدر ألا ينظر إليهم) والإمام ابن تيمية قرر هذا في (مجموع الفتاوى) في الجزء الثالث عشر صفحة أربع وثلاثين ومائة 3/134 أيضاً وبيَّن أن صفة النظر تابعة لمشيئة الله جل وعلا، فهو ينظر إلى من شاء ممن رضي عنه ولا ينظر إلى من شاء ممن غضب عليه.
فإذا هلل الإنسان بهذه الكلمة المباركة نظر الله إليه وإذا نظر الله إلى عبدٍ أعطاه سؤله، وإذا نظر الله إلى عبد رحمه، الذي يهلل الله يجد هذه المنزلة عنده جل وعلا يكتب له كذا وكذا من الحسنات، إذا قال هذه الصيغة مائة مرة بالغداة والعشي مائة مرة فكأنه أعتق مائة نفس من ولد إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، إذا هلل الله مرة واحدة نظر الله إليه، ومن نظر الله إليه أعطاه سؤله ورحمه، فهنيئاً لمن ينظر الله إليه، وهنيئاً ثم هنيئاً لمن ضحك الله إليه.(71/7)
ثبت في مسند الإمام أحمد وأبي يعلى ومعجم الطبراني الكبير والأوسط بسندٍ رجاله ثقات كما في مجموع الزوائد للإمام الهيثمي في الجزء الخامس صفحة اثنتين وتسعين ومائتين 5/292 عن نعيم بن همار رضي الله عنه وهو من الصحابة الأبرار يقال له نعيم بن هبار ويقال نعيم بن هدار وقيل غير ذلك كما في (أسد الغابة) عن نعيم بن همار أن نبينا المختار قال [إذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه] نعم هذه الصيغة بها هذه الآثار ولا فوق ذلك من هذه الآثار، إن هذه القلوب يخلق فيها الإيمان كما يخلق الثوب على الأبدان فلابد من تجديد الإيمان على الدوام ويجد ويذكر الرحمن جل وعلا.
ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير وإسناد الحديث صحيح من رواية عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم] نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تجدد الإيمان في قلوبنا، وأن توفقنا إلى الشيء الذي يحصل به تجديد الإيمان في قلوبنا فإنك أرحم الراحمين.
بأي شيء يجدد الإيمان، بذكر الرحمن سبحانه وتعالى وأوضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم وفي معجم الطبراني الكبير وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[جددوا إيمانكم، قالوا بأي شيء نجدد إيماننا؟ قال قولوا لا إله إلا الله] بهذه الكلمة يحصل بها تجديد الإيمان.
نعم: بها يحصل بها الدخول في الإيمان وبها يحصل بها تجديد الإيمان، بها تنجو من النيران، بها تدخل غرف الجنان، بها تستحق شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بها تستحق رحمة ذي الجلال والإكرام.(71/8)
جددوا إيمانكم ـ بأي شيء نجدد إيماننا قال قولوا لا إله إلا الله، لا إله إلا الله أفضل الأذكار وأفضل ما نطق بها أنبياء الله وقد أمرنا نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك ففي مسند أبي يعلى وإسناد الحديث رجاله ثقات كما قال الإمام الهيثمي رجاله رجال الصحيح إلا ضمام بن إسماعيل فهو ثقة، لم يخرج أحد من أصحاب الكتب الستة في كتبهم، إنما أخرج الإمام البخاري في (الأدب المفرد) وهو ثقة إمام عدل رضا، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، ورواه ابن عساكر، وإسناده صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [أكثروا من قول لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها ولقنوا بها موتاكم] هي أول واجب وهي أوجب واجب هي أعظم واجب هي آخر واجب، هنيئاً لمن ختم له بكلمة التوحيد، هذه بعض فضائل الذكر بكلمة لا إله إلا الله، فإذا كان لهذه الكلمة هذه الفضائل والخيرات والبركات كما تقدم معنا أن أفضل الأذكار كلام العزيز الغفار وكما أن صيغ الأذكار تتفاوت في الثواب فهذا سور القرآن تتفاوت في الثواب وكنا نتدارس أعظم سور القرآن ثواباً ومنزلة ألا وهي سورة الإخلاص كما أن أفضل صيغ الأذكار كلمة الإخلاص، فتقدم منزلة سورة الإخلاص هذه السورة من تعلق بها، سورة وجيزة بليغة فيها صفة اله ونسبه سبحانه وتعالى هو أحد، صمد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(71/9)
ثبت في الصحيحين والسنن الكبرى للإمام النسائي والحديث في كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي وهو في أعلى درجات الصحة عن أمنا عائشة رضي الله عنها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثاً وأمر عليهم واحداً منهم فكان يصلي بهم ويختم صلاته بقل هو الله أحد، إذا انتهى من القراءة قبل أن يركع يقرأ سورة الإخلاص، فقال له قومه، يجزئك أن تقرأ السورة الذي قرأتها أو أن تقرأ سورة الإخلاص فعلام تقرن بين السورة التي تقرأها وبين سورة الإخلاص بعد ذلك قال: ما أنا بفاعل ما تقولون ولا يمكن أن أقتصد على سورة كلما أقرأ أختم الركعة بقل هو الله أحد فإن شئتم قدموا غيري ولا مانع عندي وكانوا لا يريدون تقديم غيره فهو أميرهم وأقرأهم، قيل هو كلثوم بن الهرم من الأنصار الأبرار، كما ذكر الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في الجزء الثاني صفحة ثماني وخمسين ومائتين 2/258 وقيل غيره، انظروا الحقيقة الكلام في بيان المراد بهذا الصحابي رضي الله عنه.(71/10)
فلما عادوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -[قال سلوه لأي شيء يفعل ذلك؟ فسألوه: فعلام تختم قرأتك بقل هو الله أحد؟ فقال لأنها صفة الرحمن أنا أحبها فقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بأن الله يحبه] وفي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري ومسند الترمذي، والحديث رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى وابن الفريس في (فضائل القرآن) وهو في صحيح البخاري كما قلت فالحديث صحيح من رواية أنس بن مالك أن بعض الأنصار الأبرار كان يصلي في مسجد قباء بقومه فكان يفتتح قراءته بقل هو الله أحد، هذا يختم، وهذا يفتتح، فعتب عليه قومه إما أن تقتصر على {قل هو الله أحد} أو على السورة التي تقرأها بعدها فهذا يجزئك، فقال: ما أنا بفاعل فإن شئتم قدموا غيري كما قال ذاك وما كانوا يريدون أن يتقدم غيره لحسن قراءته ولكثرة حفظه فعرضوا هذا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فستدعاه النبي عليه الصلاة والسلام وسأله علام تفعل ذلك؟ قال: يا رسول الله إنها صفة الله وأنا أحب أن أقرأ بها فقال: حبك إياها أدخلك الجنة، وفي بعض الرواية الحديث عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال إن أخي مولع بسورة الإخلاص يكثر من قراءتها فقال بشره بالجنة.
فمن أكثر من قراءتها أحبه الله، فمن أكثر منها ولهج بها له بشارة بفضل الله ورحمته أنه من أهل الجنة، هذه السورة هي صفة الله ونسب الله وعندما سأل أهل الأرض عن أنساب الله أنزل الله هذه السورة فيجب بنا أن نقرأها وأن نلهج بها ويعطينا عليها من الأجور ما لا يخطر ببال أحد من المخلوقات.(71/11)
ثبت هذا في سنن الإمام أحمد وسن الترمذي، والحديث رواه الإمام البيهقي في (الأسماء والصفات) وهو في تفسير الطبري والبغوي ورواه الإمام ابن المنذر في تفسيره وأبو الشيخ في كتابه (العظمة) وبوب عليه الإمام ابن أبي عاصم في كتابه (السنة) باباً فسماه (باب نسبة الرب جل وعلا) والحديث إسناده حسن وأقره عليه الإمام الذهبي وله شواهد كثيرة ولفظ الحديث من رواية أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنسب لنا ربك فأنزل الله {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (1) ٌ.
__________
(1) سورة الإخلاص(71/12)
وقد تكرر هذا من المشركين في زمن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام فكان الجواب ينزل بهذه الصورة، ثبت ذلك في معجم الطبراني الأوسط والأثر رواه الإمام الطبري في تفسيره وأبو يعلى بسنده أيضاً، كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي ورواه ابن المنذر في تفسيره وابن الضيريس في (فضائل القرآن) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتى رجلاً أعرابياً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد صف لنا ربك، يا محمد أنسب لنا ربك، فأنزل جل وعلا سورة الإخلاص {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (1) ٌ وهذا الأثر حسن إسناده الإمام السيوطي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وتكرر هذا في غير هؤلاء في رواية عبد الله بن مسعود في معجم الطبراني الكبير وكتاب (العظمة) لأبي الشيخ قال، قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنسب لنا ربك فأنزل الله {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (2) ٌ وعلى هذا فالسورة مكية وتكرر نزولها في المدينة المنورة عندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه البقعة المباركة فسأله اليهود كما سأله عتاة قريش عن نسبة الرب وصفة الرحمن فأنزل الله هذه السورة أيضاً.
ثبت هذا أيضاً في تفسير ابن أبي حاتم، والحديث رواه البيهقي في (الأسماء والصفات) ورواه أبو الشيخ في كتابه (العظمة) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال، قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - صف لنا ربك فأنزل الله سورة الإخلاص {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (3) ٌ.
وثبت هذا من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه كما ورد هذا في كتاب
__________
(1) سورة الإخلاص
(2) سورة الإخلاص
(3) سورة الإخلاص(71/13)
(العظمة) لأبي الشيخ، والأثر رواه السمرقندي في فضائل سورة الإخلاص قالت اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - صف لنا ربك فأنزل الله جل وعلا: {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (1) ٌ.
فالآثار المتقدمة الثلاثة من رواية أبي بن كعب، من رواية جابر بن عبد الله، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم تدل على أن السورة مكية، والاثاران الآخران من رواية ابن عباس وأنس رضي الله عنهم تدل على أن السورة مدنية، وقد ورد ما يؤيد القول الأول من رواية جماً غفيراً من التابعين وكلاً مبهم له حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، ثبت ذلك في تفسير الطبري من رواية عكرمة وأبى العالية وأثر أبي العالية رواه الإمام الترمذي أن سورة الإخلاص نزلت عندما سأل المشركون عن نسب الحي القيوم فنزل {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (2) ٌ والذي يدل عل أنها مدنية نقل أيضاً عن جماً غفير من التابعين منهم قتادة في تفسير الطبري وابن المنذر والأثر رواه بن الرزاق وإسناده صحيح إلى قتادة ومنهم سعيد بن ثبت في تفسير الطبري وابن المنذر ومنهم أيضاً الضحاك بن مزاحم، ثبت ذلك في كتاب (السنن) للإمام الطبراني.
__________
(1) سورة الإخلاص
(2) سورة الإخلاص(71/14)
إذن مكية، مدنية، والجمع بين هذا ما ذهب إليه أئمتنا وهو المعتمد في هذا وقرره الإمام الزركشي في كتاب (البرهان في علوم القرآن) الجزء الأول في صفحة ثلاثين 1/30 فقال (وهذه السورة مما تكرر نزولها وقد يتكرر نزول بعض القرآن لمزيته وأهميته، تكرر نزولها لتكرر سبب النزول) فنزلت في مكة عندما سأل المشركون عن نسب الحي القيوم، فلما هاجر نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة وسأله اليهود عن نسب ربنا جل وعلا أنزل الله السورة بعينها وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في (جواب أهل العلم والإيمان تحقيق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن سورة الإخلاص {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن في صفحة تسعين ومائة صـ190 بيَّن أن هذه السورة مكية، مدنية نزلت في مكة جواباً للمشركين، ونزلت في المدينة جواباً لليهود.(71/15)
إذن هذه لها شأن عظيم، من أحبها أحبه الله وأدخله الله الجنة، وقد كان سلفنا يلهجون بذكر الله بذكر لا إله إلا الله كما كانوا يلهجون بذكره بقراءة سورة الإخلاص {قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (1) ٌ فما الذي حصل بعد ذلك، إنما الأمر تغير وتكدر كما تقدم معنا، أعرض الناس عن أفضل الأذكار عن كلمة التوحيد، وأعرض الناس عن أفضل الكلام عن كلام الله المجيد، وعن التقرب إليه بصفته وبهذه السورة التي فيها نسبه جل وعلا، أعرضوا عن التعبد لله بهذه الصيغ الشرعية التي لها أجور كثيرة وفيرة، فلجأوا إلى قصائد وأشعار وإلى أذكار زعموا أنها كهذه الأذكار أو أنها أعظم في المنزلة وهم أتوا صيغ الأذكار الشرعية فغيروا كيفيتها، تقدم معنا أنه ما ابتدعوه ذكر أن بالاسم المفرد الله هو، مظهراً أو مضمراً حق قيوم، قهار، غفار، يجلس ويردد أسماء من هذه الأسماء الحسنى المباركة دون أن يذكر جملة مفيدة، تقدم معنا أن هذا من الأذكار المبتدعة، وتقدم معنا أنه غلا كثير من المخرفين المتأخرين فقالوا أن لا إله إلا الله ذكر العوام وأن ذكر الله بالاسم المفرد (الله، الله) ذكر الخواص، وأن ذكر الله بالاسم المفرد (هو، هو) ذكر خواص الخواص، وتقدم معنا إخوتي الكرام تفنيد هذه الأوهام، وأن هذا من البدع التي لم يأذن بها ذو الجلال والإكرام.
__________
(1) سورة الإخلاص(71/16)
فالذكر بالاسم المفرد قلت لا دليل عليه وهو مبتدع، وما ذكر نبينا ربنا بهذه الصيغ، وما دلل عليه هؤلاء من صحة كلامهم من كلام الله ومن أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أدلة عقلية وكنت ذكرتها إخوتي الكرام في الموعظة الماضية وبينت ما هو ثابت في القرآن والسنة واستدلوا به لا دلالة فيه على ما قالوا وما لم يثبت وقالوا إنه يدل على قولنا فقلت إنه ليس بثابت فلا يجوز الاحتجاج به. وتقدم معنا هذا، وأما الحجج العقلية التي أتوا بها كما نقلوه عن الشبلي وغيره من أنه لا يريد أن بذكر الله بكلمة التوحيد لا إله إلا الله حتى لا يموت بين النفي والإثبات فقلت غاية ما يقال عن هذا أنه من الخطأ الذي يقدر فيه قائله وليس هو من السعي الذي يشكر عليه ولا يجوز أن يتبع في هذا إخوتي الكرام، هذا تقدم، ومن هذه الجزئية قلت سأكمل الكلام عن ذلك على ما بعدها إن شاء الله.
إخوتي الكرام: إن كثيراً من الناس غلوا في هذا الذكر المبتدع، أفضل الأذكار (الله، الله) (هو، هو) ووصل الأمر ببعض الصوفية المتأخرين كما يحكى عنهم ذلك حجة الإسلام وأعجوبة الزمان الإمام الغزالي في (الأحياء) 3/18 ويكرر هذا في ص74.(71/17)
والإمام المبارك الإمام الغزالي يعد أنه حكى ذلك عن الصوفية، ليته رده وأبطله، وفنده بل ظاهر كلامه أنه يقرره ويحتج به وهو باطلٌ باطل لاشك فيه يذكر هذا الإمام المبارك في المكانيين المتقدمين الفارق بين الصوفية وغيرهم وأن غيرهم يحصلون العلوم عن الطرق التعليمة، أولئك يتعلمون ويجلسون بين يدي المشايخ ويكون في حلق الذكر، وأم هؤلاء عن طريق الإلهام كيف الإلهام أيها الإمام؟ قال وطريق الصوفية أقرب وأيسر وأسلم والإنسان يحصل المطلوب بسرعة، كيف هذا قال أنه يفرغ نفسه عن مشاغل الدنيا ولا يفعله بمال ولا أهل ولا ولد، يجلس في حجرة مظلمة لا يراه أحد، وإن قدر أنه يتصور أنه يراه أحد فينبغي أن يلف رأسه بثوب أو أن يدخل رأسه في جبة أو أن يدثر بثوب ثم يجلس في هذه الحجرة المظلمة فيقول (الله، الله، الله) ولا يقرأ قرأناً ولا ينظر في تفسير ولا في حديث ولا يتدبر معنى آية أو حديث لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ويبتعد من قراءة القرآن وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن التدبر والتأمل جلس في حجرة مظلمة، ولف رأسه بثوبه وأطرقه ثم يقول (الله، الله، الله) يقول حتى بعد ذلك قالها مصورة اللفظ حتى عن لسانه، ويستقر هذا المعنى في قلبه ثم بعد ذلك أيضاً يغفل عن هذا حيث يتعلق بربه فعند ذلك يظهر له البوارق الربانية، والأنوار الرحمانية ويرى جلال كحضرة الإلهية إخوتي الكرام: يقرر هذا في هذين المكانين وكلامه أخذ قرابة صفحة ولا أريد أن أقرأه من أوله إلى آخره وهو كلام باطل لاشك فيه وليت هذا الإمام الهمام علق عليه بما يبين أن هذا الطريق فيه نسف الإسلام من أوله لآخره وفيها لبساط الشريعة وتعطيل أحكام الله جل وعلا.(71/18)
فالله أمرنا أن نتعلم كتابه وحديث نبيه عليه الصلاة والسلام والعلم بالتعلم، وهؤلاء يريدون منا أن نخلو في حجرة مظلمة لتعشش الشياطين في أذهاننا ونحن نعبد الشيطان بعد ذلك ونزعم أننا نعبد الرحمن وقياس حال الأولياء على حال خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قياس في منتهى البعد والفساد والشناعة، فذاك معصوم وعند ما ينزل عليه الوحي يحاط من جميع الجهات من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا كما أخبر ربنا عن ذلك في كتابه في سورة (الجن) : {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا* ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} .
ما الصعلوق منا إذا اجلسا في حجرة مظلمة وابتعد عن القرآن وعن حديث نبينا عليه الصلاة والسلام ليتخيل في مختليه أشياء وأشياء ما العصمة لما تخيل له وما العمدة فيما ظهر له من أنوار فهو من الحضرة الإلهية لا من الشياطين الغوية، إن الإلهام لا يجوز أن يعول عليه أحد أياً كان؟ أما ما اخترعه الصوفية من أن الإلهام مصدر الأذكار هذا من وساوس الشيطان يقول علماؤنا (وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام.. الأولياء وقد رآه بعض من تصوف وعصمة النبي توجب اقتداء، النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما يلقى في روعه عندما يحدث وينزل عليه الوحي فهو معصوم فيجب علينا أن نتبعه وأن نقتفي أثره وأما هذا الولي فلا ثم لا، لذلك لخان الصالحون من الصوفية لإلهام فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة وكان الصالحون من الصوفية يقولون: دوروا مع الشرع حيث دار، لا مع الكشف (الإلهام) فإنه يخطأ.(71/19)
والله ضمن لشرعه العصمة وما ضمن لأوهامنا وساوسنا العصمة، إننا إذا أردنا أن نحصل العلم الشرعي بأن نجلس في حجرة مظلمة، وأن نلف رأسنا بثوب وأن نقول بعد ذلك (الله، الله، الله) لتحصل لنا الفتوحات وتتنزل علينا الخيرات والبركات فهذا ضلال وطيٌ لبساط الشريعة من أوله إلى آخره، علق الإمام ابن الجوزي في كتابه (تبليس إبليس) صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وصفحة ثاني وثمانين ومائتين صـ323 صـ282 على هذا الكلام بعبارة قاسية، ونعم ما قال قال المصنف رحمه الله وهو الإمام ابن الجوزي توفي سنة سبع وتسعين وخمسمائة من الهجرة 597هـ والإمام الغزالي توفي سنة خمس وخمسمائة 5005هـ سنة، بينهما اثنتان وتسعون سنة.(71/20)
يقول الإمام ابن الجوزي (عزيز عليَّ أن يذكر هذا الكلام منه ففيه فإنه لا يخفى قبحه فإنه في الحقيقة طي لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن وطلب العلم وعلى هذا المذهب قرر) رأيت الفضلاء من علماء الأمصار ما سلكوا هذا الطريق، إنما اشتغلوا بالعلم أولاً وعلى ما قد رتب أبو حامد معنى الغزالي تخلو النفس بوساوسها وخيالاتها ولا يكون عندها من العلم ما يطر وذلك فيلعب بها إبليس أي ملعب غيرها الوسوسة محادثة كأن الله يحدثه ولكن الشيطان يوسوسه فيريها الوسوسة محادثة ومناجاة ولا تتكرر أنه إذا طهر القلب انصبت عليه أنوار الهدى فينظر بنور الله إلا أنه يجب تطهيره بمقتضى العلم لا بما ينافيه، ابتعد عن العلم الشرعي وسنن النبي عليه الصلاة والسلام تنصب عليه الأنوار، ما تنصب عليه إلا الظلمات والإقرار إنما عالم صالح حفظ كتاب الله ووعى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نعم إذا طهر قلبه من التعلق بالدنيا تنصب عليه الأنوار وينظر بنور العزيز القهار، قال الإمام ابن الجوزي: ثم إن لا تنافى بيده العلم والرياضة بل العلم يعلم كيفية الرياضة ويعين على تصحيح الرياضة وإنما تلاعب الشيطان بأقوام أبعدوا العلم وأقبلوا على الرياضة بما ينهى عنه العلم والعلم بعيد عنهم، فتارة يفعلون الفعل المنهي عنه وتارة يؤثر ومر ما غيره أولى سنة، وإنما كان يفتي في هذه الحوادث العلم وقد عزلوه فنعوذ بالله من الخذلان، ثم روى عن بعض من عاصرهم من أهل الشطط والزيغ ممن دخلوا هذه الخلوات ثم بعد ذلك انسلخوا من دين رب الأرض والسماوات، فيحكى قصة عن بعض هؤلاء المخذولين أنه كان يقول: القرآن حجاب والرسول حجاب ليس إلا عبد ورب، يقول دعك من القرآن ومن النبي، إذا أجلس في حجرتك وقول (هو، هو) ، ففتتن جماعة به فأهملوا العبادات ثم اختفى مخافة القتل، هذا بعض الزنادقة الذين كانوا في القرن السادس للهجرة فماذا يقول الإمام ابن الجوزي لو أدرك زنادقة أيامنا في(71/21)
هذا الزمان.
إخوتي الكرام: كل من عزل العلم عن هذه الحياة فهو جاهل يحب نفسه ويعبد شيطانه وإن زعم أنه يعبد ربه وكل من يغير علم يعمل أعماله مردودة لا تقبل لذلك لابد أن تزين بيوت المسلمين بكتب العلم الشرعي من كتاب الله وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب أئمتنا السلف ليكرر العبد النظر فيها بين الحين والحين، وأما أنه يريد تنزل عليه الفتوحات وهو بعيد عن الكتاب والسنة فيهات هيهات أن يحصل له ما يريد.
إخوتي الكرام: عندما بحث أئمتنا في أنواع الأدلة فهما تعددت فهي تنقسم إلى أربعة أنواع، نوعان شرعيان سلفيان مقبولان، ونوعان مبتدعان مخترعان بدعيان مردودان، السلفيان الشرعيان هيما النصوص الشرعية من الكتاب السنة، والدليل الثاني الفطرة البشرية التي تقلدها العقول بلا تمطع ولا تكلف، والأدلة المخترعة النظر الفلسفي العقلي المتعمق فيه كما حصل من أصحاب الهذيان والدليل أنهم يعولون على أدلة الكشف والعقول ولا يقفوا على الأدلة التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(71/22)
إخوتي الكرام: هذا يتبع ما تقدم أن الذكر بالاسم المفرد أفضل الأذكار، يقدمه على كلام الله وعلى تدبره وعلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فهمه ونجلس في حجرة مظلمة ونقول (الله، الله) ، هذا طريق المضالين وليس بطريق المهتدين واعلموا عباد الله أن الصوفية الصادقين بريئون من هذا المسلك، فهذا الشيخ الصالح شيخ العارفين سهل ابن عبد الله أبو محمد التستاري الزاهد الصوفي شيخ الصوفية المهتدين في القرن الثالث الهجري يقول (اجهدوا ألا تلقوا الله إلا ومعكم المحابر،) وقيل له إلى متى يكتب الرجل الحديث قال حتى يموت ويصب باقي حبره في قبره وكان يأتي إلى أمير المؤمنين في الحديث الإمام أبي داود شيخ أهل السنة وصاحب السنن فيقول له لي إليك حاجة، فيقول أبو داود وما هي؟ فيقول سهل: حتى تقول قضيتها مع الإمكان فيقول سهل: أخرج لي لسانك التي حدثت به أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبله فأخرج أبو داود لسانه فقبله وهو القائل كما في (الحلية) وكتاب (الزهد) للإمام البيهقي (لا معين إلا الله ولا دليل إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) انظروا هذا وغيره من ترجمته العطرة في (سير أعلام النبلاء) صفحة ثلاثين وثلاثمائة صـ330 وما بعدها، وسهل توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين 283هـ وقد أثنى عليه كل من ترجمه وملأ الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكتبهم بالنقل عنه ووصفه الإمام ابن تيمية بأنه من أكابر المشايخ وأئمة الهدى ونقل عنه في (الاستقامة) الجزء الثاني صفحة خمسين ومائة 2/150 أنه قال (كل وجدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) .
إخوتي الكرام: كنت ذكرت في مواعظ سابقة قصة هذا العبد الصالح مع الإمام أبي داود فاعترض عليها بعض السفهاء وأكثروا الشغب من غير دليل ولا أدب فربنا يرزقنا الأدب معه ومع خلقه.(71/23)
نعم إخوتي الكرام إن الصوفية الصالحين بريئون من أوهام المخرفين المتأخرين وقد اشتهر عن الإمام ال وتوفي سنة ثمان وتسعين ومائتين 298هـ اشتهر عنه أنه قال: (علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدي به) رحمة الله عليه، أين مثله كما يقول الإمام الذهبي في ترجمته.
وأما الذكر بالاسم المضمر وهو ــ هو، هو، فهو أشنع من الذكر بلفظ الجلالة مظهرة الله، الله.
هو، هو ــ مضمر، وهناك مظهر، ولم يرد في الشريعة ما بهذا ولا بهذا، أما هو، هو، وقيل إنه أفضل الأذكار، وأنا أعجب من الجديد على ذكر لم ينقل عن أعلم البرية - صلى الله عليه وسلم - ويعارض به ما قال به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أفضل الأذكار وأن أفضل ما قاله هو والنبيون من قبله هو، لا إله إلا الله، وهذا يأتي ويقول هو، هو من أفضل الأذكار، وأول من أهذا الذكر المبتدع ودعا إليه الحسين بن منصور الحلاج صاحب، الضلال والاعوجاج الذي أباح العلماء دمه، فقتل سنة تسع وثلاثمائة للهجرة 3009هـ لما كان يقوم به من بدع وزندقة واسم كتابه (هو، هو) انظروا ضلالته في (سير أعلام النبلاء) في الجزء الرابع عشر صفحة أربعة عشر وثلاثمائة 14/314 فما بعدها حيث ترجمه في أربعين صفحة وتبعه على ذلك الضلال ابن عربي صاحب اللصوص والفتوحات الهلكية وهو علي بن محمد الطائي الحاكم الأندلسي توفي سنة ثماني وثلاثين وستمائة 638هـ وألف كتاب سماه (الهو) وكتبه ابن عربي مشحونة بالضلالات فإن تاب منها قبل موته فالله يقبل توبة من تاب إليه ممن يشاء من عباده، ونقلت كلام العز بن عبد السلام في دروس الترمذي رزقنا الله العلم الن الإمام الرازي غفر الله لنا وله، في أول تفسيره في الجزء الأول صفحة خمسة وأربعين ومائة 1/145 إلى صفحة اثنتين وخمسين ومائة صـ152 ذكر أحد عشر دليل في تفصيل الذكر بالاسم المفرد (هو، هو) على (الله، الله) ومن باب أولى على (لا إله إلا الله) .(71/24)
إن قلب المؤمن يتفطر عندما يسمع هذا، وقال: (وإذا قرنت المكتوب بين ما أجده من اللذة في القلب من الذكر بالاسم المفرد المضمر (هو، هو) وجدت أن المكتب لا يفي بما في القلب فعلمت أنه لا يمكن للإنسان أن يحيط بأسرار هذا الذكر (هو، هو) أحد عشر دليل منها: هذا أفضل الأذكار لأنه خال عن الإشعار بالسؤال فهذا يدل على تعظيم خالص لله، فلا تقول يا الله ارحمني، يا رب توب عليَّ لكن أنت الآله (هو، هو) .
الأمر الثاني: (هو، هو) هذا صيغ الغائب وأنت عندما تذكرها كأنك تذكر الله بها كأنك تقول من أنا حتى أثنى عليك ما فيك من صفات العظمة فمن أنا.
أمر ثالث يقول: هذا الذكر بالفظ (هو) يوجب الدهشة والحيرة، فمطلوب للإنسان أن يدهش ويتحير في جلال الله عظمته ووجه ذلك لأن الله جل وعلا ما احتجب عنا إلا لنقصنا ولو حصل الكمال فينا لمن علينا ولأريناه كما سمين بإلكمال في الجنة فنراه بما أن النقص فينا هو الذي حجبنا عن ربنا فينبغي أن نلهج (هو، هو) لأن نقصنا هو الذي فجبنا عنه فلا ينبغي أن نذكره بما فيه من صفات الكمال والجلال، ثم قال: إن من يذكر الله بما فيه من بهذه الصيغة (هو، هو) تعترية الدهشة والدهشة مطلوبة إلى غير ذلك من الكلام في تفضيل الذكر بهو على الذكر الله، الله، عن باب أولى على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) .
وأنا أريد أن أقول مرو هذا إلى النبي عليه الصلاة والسلام لا إلى الرازي ولا إلى الغزالي ولا إلى كبير ولا إلى صغير فمن أراد أن يقول إن هذه الصيغة هي أفضل الأذكار نقول هات الدليل على ذلك من كتاب نبينا المختار عليه الصلاة والسلام، عرف الخلق الخالق على البيان وتوضيح المطلوب، فإذا كان الذكر (هو، هو) ، هذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام ربه به، وهل علم أمته هذه الأذكار.(71/25)
إخوتي الكرام: أذكار بدعية عكف عليه الناس في هذه الأيام يعبدون الشيطان ويعبدون أهوائهم وهم يظنون أنهم يذكرون الرحمن، ليتك إذا ذكرت الله بهذه الصيغ تخرج رأساً ترأس لا أجر ولا وزر، إنما سترتكب وزراً، لو قدر أنه لا حرج من الذكر بها فأين الثرى من الثرية، وأين البعر من الدر عندما تقول هو لا معكم به أجراً، وعندما تقول (لا إله إلا الله) لا منزلة من الله أعظم من جبل أحد، عندك عقل تميز به بين الآخرين، لو سلمنا تنزلاً أن ذكر الله باسم الله مظهراً أو مضمراً جائز لكن الفضيلة التي تحصل لك أنت ولا غيرك أن تثبت له فضيلة من الفضائل وأما هناك فقد أخبرك نبيك - صلى الله عليه وسلم - عما يكون من فضائل وأجد فعلام تذهد منها أيها الإنسان.
إخوتي الكرام: لابد من اتباع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام والسلف الذين اتبعوه بإحسان وفي جميع أحوالنا وكل خبر في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.
أسأل الله ربنا أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل هواناً تبعاً لشرع نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمد عبده ورسوله خير خلق الله، اللهم صلِ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم أجمعين.(71/26)
إخوتي الكرام: إن كلمة التوحيد لها أجرٌ جليلٌ جليل عند ربنا الكريم وقد كان نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يذكر أصحابه بها دائماً، ذكر عند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وفي مسند البزار، ورواه الإمام النسائي وهو في مستدرك الحاكم، ورواه الإمام الضياء المقدسي في الأحاديث، وإسناد الحديث حسن كما قال الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) في الجزء الثاني صفحة 415، ورجال الإسناد موثقون كما مجمع الزوائد في الجزء الأول صفحة 19، وأعاد الحديث في الجزء العاشر كتاب (الأذكار) صفحة 81.
ولفظ الحديث عن يعلى بن شداد بن أوس رضي الله عنهم حدث عن أبيه شداد ابن أوس وعبادة بن الصامت حاضر يصدق فالحديث من رواية صحابيين جليلين يقول شداد بن أوس كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام يوماً فقال عليه الصلاة والسلام [هل فيكم غريب؟] ويريد بذلك هل فيكم أحد من أهل الكتاب، دخل النبي على أصحابه في مجلس به كثيرون فقال [هل فيكم غريب؟ فقالوا لا يا رسول الله فقال: أغلقوا الباب، فأغلقوا الباب فقال: ارفعوا أيديكم فرفع الصحابة الكرام أيديهم ثم قال لهم النبي قولوا لا إله إلا الله ثم حمد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه فقال: الحمد لله اللهم إنك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة ثم قال للصحابة الكرام: قوموا فقد غفر الله لكم، والله لو كنا نعظم ربنا لما فترت ألسنتنا عن ذكر الله بها، من أجلها أرسل الرسل من أجلها أنزلت الكتب، من أجلها أسس الجنة والنار، ليعبد الله وحده لا شريك له، فكيف بعد ذلك أعرضت عقول الضالين عن هذا الذكر إلى أذكار ولم يأذن بها ربنا الكريم.
اللهم صلي على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.(71/27)
اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اجعل حبك وحب رسولك - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ.
اللهم صلِ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض بفضلك ورحمتك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحد * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد} (1) ٌ
__________
(1) سورة الإخلاص(71/28)
تذكير الكرام بتوديع شهر الصيام
(لقاء ديني)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
تذكير الكرام
بتوديع شهر الصيام
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا..
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غُلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3)
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) آل عمران: 102(72/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1)
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..
لازلنا نتدارس ما يتعلق بشهر رمضان من فضائلَ وأحكام، وهذه آخر موعظة من شهر الصيام وسأذكر فيها بعض فضائل شهر رمضان بما يطرب قلوب أهل الإيمان.
إخوتي الكرام: هذا شهر عظيم كريم مَنَّ الله فيه على عباده بالخير العميم، فجعل الصيام طاعة مكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، بل جعل في شهر الصيام طاعاتٍ أخرى تكفر للعبد ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد أحصى أئمتنا الكرام الطاعات التي وردت عن خير البريات -عليه الصلاة والسلام- أنها تكفر الذنوب المتقدمات والمتأخرات فبلغت اثنتين وعشرين طاعة أحصاها حَذَاِمي المحدثين وأمير المؤمنين الإمام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني في كتابه معرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة.
وفي شهر رمضان ثلاث طاعات تكفر جميع ذنوب الإنسان ما تقدم منها وما تأخر، وبإمكانه أن يحرز في شهر الصيام طاعات أخرى يضم إلى تلك الفضائل أيضا، فضيلةً تساويها إخوتي الكرام سأذكر طاعتين اثنتين فيهما تكفير الذنوب المتقدمة والمتأخرة، ثم أنتقل بعد ذلك إلى الطاعات التي مَنَّ الله بها على عباده المؤمنين والمؤمنات في شهر رمضان، وتكفر عنهم الذنوب المتقدمات والمتأخرات، الطاعة الأولى من الطاعات التي لا ارتباط لها بشهر الصيام إنما ينبغي أن يحرص الإنسان على فعلها على الدوام وإذا قام بها غفرت له جميع الذنوب والآثام ما تقدم منها وما تأخر كما ثبت ذلك عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-.
__________
(1) سورة الأحزاب 70، 71(72/2)
ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث رواه أهل السنن الأربعة، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك، ورواه البخاري في التاريخ الكبير، ورواه الإمام ابن أبي السني في كتاب عمل اليوم والليلة -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين-، رووا هذا الحديث عن سيدنا معاذ بن أنس الجهني وهو من أصحاب حبيبنا النبي -على نبينا وآله وصحبه صلاة الله وسلامه- عن معاذ بن أنس الجهني -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من أكل طعاماً فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه] زاد الإمام أبو داود في روايته بسند حسن كما في الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة ورقم هذه الطاعة في هذا الكتاب الحادية والعشرون يقول الإمام ابن حجر.
زاد الإمام أبو داود في روايته: [غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] ، ومن لبس ثوباً فقال الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه] .
زاد أبو داود أيضا في روايته بإسناد حسن وما تأخر، هذه طاعة أولى ونفعلها باستمرار وكثير منا يغفل عن هذا الذكر الذي له أجر عظيم عند العزيز الغفار إذا أكلت الطعام فقل الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام، ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة تتبرأ من حولك وقوتك إلى ربك جل وعلا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا تحول لنا من حال إلى حال ولا قوة لنا على شيء من الأشياء في حال من الأحوال إلا بتقدير ذي العزة والجلال، وهكذا إذا لبست ثوبا فقل: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، والحديث إخوتي الكرام إسناده صحيح والزيادة ثابتة بإسناد حسن.(72/3)
والطاعة الثانية صلاة التسبيح أيضا تغفر للإنسان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد ثبت الحديث بذلك في السنن الأربعة إلا سنن النسائي والحديث رواه الإمام الحاكم في المستدرك، وابن خزيمة في صحيحه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، وفي شعب الإيمان، كما رواه الإمام الداراقطني وألف فيه جزءاً كما سيأتينا خبر ذلك -إن شاء الله- والحديث رواه الإمام البغوي في شرح السنة، وابن أبي شيبة في مصنفه -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- والحديث إسناده صحيح صحيح ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، عن سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لسيدنا عمه العباس -على نبينا وآل بيته أصحابه الأخيار صلوات الله وسلامه- قال له: يا عم يا عماه؟ ألا أفعل بك؟ ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أثيبك؟ ألا أحبوك؟ ألا أجيزك؟ ألا أخبرك بأمر من الأمور؟ وفيه عطية وهبة ومنحة وجائزة وفضل عظيم؛ إذا أنت قمت بهذا الأمر أعطاك الله هذه الفضيلة وهي يغفر الله لك ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، سره وعلنه، خطأه وعمده، يغفر الله لك هذه الذنوب إذا قمت أنت بهذا الأمر الذي سأخبرك به، ثم علمه نبينا -عليه الصلاة السلام- صلاة التسبيح وهي باختصار أربع ركعات؛ إن شئت أن تصلي ركعتين وتسلم، وإن شئت أن تصلي الركعات ببعضها وتقول في كل ركعة خمساً وسبعين تسبيحة بهذا اللفظ: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؛ وتوزع هذه التسبيحات على أفعال الصلاة، فإذا كبرت تكبيرة الإحرام وقلت دعاء الاستفتاح فقل، بعده: خمس عشرة مرة قبل أن تقرأ الفاتحة (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) ، ثم اقرأ سورة الفاتحة وسورة بعدها، وقبل أن تركع قل عشر مرات: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) فهذه خمس وعشرون تسبيحة، فإذا ركعت وانتهيت من تسبيحات الركوع، زد عليها عشر مرات (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا(72/4)
الله والله أكبر) فإذا نهضت إلى القيام فقل: (سمع الله لمن حمده) وانتهيت من أذكار الرفع من الركوع، ضم إليها عشر تسبيحات هذه: خمس وأربعون فإذا سجدت السجدة الأولى وانتهيت من تسبيح السجود فقل: عشر تسبيحات، ثم قل: الله أكبر واجلس بين السجدتين، فإذا انتهيت من الدعاء الوارد بين السجدتين ضم إليه عشر تسبيحات، هذه خمس وستون ثم اسجد السجدة الثانية وقل: بعد تسبيحات السجود: عشر تسبيحات هذه خمس وسبعون. افعل هذا في ركعاتك الأربع يكون مجموع التسبيحات ثلاث مائة تسبيحة، وهذه إحدى الكيفيتين المنقولة عن سيد الكونين -عليه الصلاة والسلام-.
وهناك كيفية ثانية لا تختلف عن هذه إلا بأمر يسير ألا وهو أنك تقول خمس عشرة مرة بعد الانتهاء من الفاتحة والسورة قبل الركوع، وتقول بعد السجدة الثانية وقبل القيام للركعة الثانية عشر تسبيحات، ثم قم وقد أورد الإمام المنذري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا الكيفيتين في كتاب النوافل في باب الترغيب في صلاة التسبيح من كتابه الترغيب والترهيب من فعل هذه الصلاة غفر الله ذنبه كله أوله وآخره، عمده وخطأه، سره وعلنه، قديمه وحديثه، صغيره وكبيره.
والحديث صححه الإمام الحاكم في المستدرك، والذهبي والمنذري في الترغيب، ونقل تصحيحه عن شيوخه وعن جم غفير من المحدثين، وإن عراق في تنزيه الشريعة، وتتابع أئمتنا على تصحيحه، بل ألفو فيه أجزاء مستقلة، ومن الذين ألفو فيها:
الإمام الدارقطني ـ وتوفي سنة 385هـ ـ
وبعده الخطيب البغدادي ألف كتابًا في طرقه ـ وقد توفي سنة 463هـ ـ
وبعده السمعاني ألف كتابًا فيها ـ وتوفي 562هـ ـ
وبعده الإمام أبو موسى المدني ـ ألف كتابًا في تصحيح صلاة التسابيح ـ توفي سنة 81هـ
وبعد هؤلاء حافظ بلاد الشام ابن ناصر الدمشقي ـ توفي سنة 842هـ ـ
وبعده الإمام ابن حجر العسقلاني ـ وتوفي سنة 852هـ ـ
وبعده السيوطي ـ وتوفي سنة 911هـ ـ
هؤلاء أئمة حفاظ كرام يؤلفون كتبًا مستقلة في هذا الحديث.(72/5)
وقد قرر أئمتنا الكرام أنه مع صحة الحديث فقد عكف على فعلها علماء الإسلام، وكانوا يوصون أتباعهم والمسلمين بها على الدوام.
يقول الإمام الحاكم في المستدرك: ويكفي في تصحيح حديث صلاة التسبيح فعل أئمة أتباع التابعين لها ومنهم شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك إمام الدنيا في زمانه، وأمير العلماء في وقته الحافظ الجهبذ الغازي المحدث حديثه في الكتب الستة محتج به في جميع دواوين السنة، وقد توفي سنة 181هـ عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: ولم يزل عمل المسلمين على ذلك من زمنهم إلى زماننا، والحاكم توفي سنة 405هـ وهكذا قال الإمام الترمذي قبله في السنن، وقد توفي الترمذي سنة 179هـ يقول: وقد رأى شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك وغيره من العلماء صلاة التسبيح، واستحبوها وفعلوها، وأوصوا أتباعهم بها هذا في سنن الترمذي، وهكذا يقول الإمام البيهقي في السنن الكبرى وقد توفي سنة 458هـ، وبعده الإمام البغوي في شرح السنة وقد توفي سنة 510هـ، هؤلاء كلهم ينقلون فعل العلماء الكرام لها وفي مقدمتهم هذا الإمام المبارك شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-، فالحديث صحيح وعمل به علماء الشريعة المطهرة وأوصوا أتباعهم به. وهذا الحديث المروي من طريق عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال الحاكم في المستدرك في المكان المشار إليه آنفا، وقد صح من حديث عبد الله بن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أوصى بصلاة التسبيح عمه العباس أوصى ابن عمه جعفر ابن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين- وهذا ثابت كما قلت في المستدرك وإنما ذكرت صلاة التسبيح في آخر موعظة من شهر رمضان لأمرين اثنين:(72/6)
الأمر الأول: الذي أدركت عليه الصالحين منذ أن نشأت قبل البلوغ أنهم يصلون صلاة التسبيح في أواخر شهر رمضان لا لأنه ورد أثر في ذلك على الخصوص بأنها تصلى في أواخر شهر رمضان لا ثم لا إنما أواخر شهر رمضان أعني العشر الأخير منه لها شأن عظيم عند الرحمن ولذلك أئمتنا كانوا يفعلون هذا في أواخر شهر رمضان فيضمون إلى خيرات هذا الشهر، هذه الطاعة العظيمة المباركة وهذا مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان وينبغي أن يفعل الإنسان صلاة التسبيح إن استطاع في كل يوم مرة، فإن لم يستطع ففي كل أسبوع مرة، فإن لم يستطع ففي الشهر مرة، فإن لم يستطع ففي السنة مرة، فإن لم يستطع ففي العمر مرة، فإن لم يفعلها مغبون مغبون خاسر عند لقاء الحي القيوم.
قال الإمام ابن عابدين في حاشيته الشهيرة -رد المحتار على الدر المختار في 2/27-: فيها ثواب لا يتناهى، ومن ثم قال بعض المحققين: لا يسمع بعظيم فضلها ثم يتركها إلا متهاون بالدين، وكثير من الناس في هذه الأيام ليس عنده خبر عنها، بل من سمع بها يكثر اللغط حولها0 -إخوتي الكرام - أردت أن أذكر نفسي وإياكم بها لنفعلها في هذا الشهر الكريم وما بقي منه إلا أيام.
والأمر الثاني: أنني كنت ذكرت هذه الصلاة وفضلها في موعظة كاملة، ومن أحب أن يسمع الشريط في شأنها فلعله يزداد خيرا في التعلق بها، كنت تكلمت عليها وسمعت كثيرا من كلام الناس لاسيما في إذاعة نور على الدرب، ممن يفتون فيتجرؤون ويقولون إنها بدعة وما عندهم في ذلك إلا التقليد المحض.(72/7)
نعم ذهب شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- إلى عدم صحة حديث صلاة التسابيح، وقرر هذا في كتاب السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 7/434 وكلامه مذكور أيضا في مجموع الفتاوى في 11/579، لكن كلامه مردود عليه مع حبنا له، وتقربنا إلى الله جل وعلا بمحبته، لكن الحق أحق أن يتبع، وهو مجتهد فيما قال، معذور ومأجور، لكن الحديث صححه من قبله ممن هو أعلى منه، ومن بعده ممن هو في درجته، أو أعلى منه، ولا يعقل بحال أن نترك كلام جمهور أئمتنا الأبرار لقول عالم من العلماء، فعنده عذره ويغفر الله لنا وله، وكنت ذكرت هذا -إخوتي الكرام- في الشريط وبينت العذر الحامل له على هذا، وبينت أنه لا يصلح أن يعل به حديث صلاة التسابيح، وأن يرد من أجل تلك العلة التي توهمها هذا الإمام، وتبعه على ذلك الإمام الشوكاني فرأى أن حديث صلاة التسبيح لا يصح في السيل الجرار وهكذا في تحفة الذاكرين، وهكذا في الفوائد المجموعة للأحاديث الموضوعة، وهو في ذلك تابع للإمام ابن تيمية، وهؤلاء الذين يفتون في نور على الدرب يتبعون هذا، أو كليهما من غير بينة وحجة.
وقد قابل بعض الإخوة الكرام ممن هو معنا في هذه الموعظة بعض الشيوخ الذين يفتون في نور على الدرب، ويقولون إن الحديث لم يصح قال له إن الحديث صحيح، وفلان قد تكلم فيها بمقدار ساعتين، وكلامه موجود في شريط، قال ما عندي علم بما تقول إلا أنني أعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول إن حديثها ليس بصحيح، هذا علمه من السنة، لكن المسكين ما اطلع على حديثها في سنن الترمذي، ولا في سنن ابن ماجه، ولا في سنن أبي داود، وهي من دواوين السنة، ومن أصول الحديث، ومن باب أولى ما اطلع بعد ذلك على المستدرك وعلى غيره، ومن باب أولى ما اطلع على الكتب المفردة في شأنها، والحديث فيها لا ينزل عن درجة الصحة بحال.(72/8)
لذلك ـ إخوتي الكرام ـ أردت أن أنبه على هذا الأمر خشية أن يكون بعضكم قد سمع أحيانا إذاعة نور على الدرب فظن أن صلاة التسابيح بدعة، وهي سنة ثابتة عن نبينا -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-.
هذان أمران إذا فعلهما الإنسان يغفر الله له بهما ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بعد هذا ندخل في فضائل هذا الشهر الكريم وما فيه من خيرات عظيمة تكفر عنا ما تقدم وما تأخر من ذنبنا.
إخوتي الكرام: الصيام طاعة مكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، وقد ثبت في المسند، والصحيحين، والسنن الأربعة، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، وهو في غير ذلك من دواوين السنة، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه] .
زاد الإمام أحمد في المسند في روايته وما تأخر، قال شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في 2/90 وإسناد الزيادة حسن، وقال الإمام ابن حجر -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- في فتح الباري في 4/115 وهذه الزيادة على شرط الصحيح، هذه الطاعة الأولى في شهر الصيام تكفر عنك جميع الذنوب والآثام، ما تقدم وما سيأتي في مستقبل الزمان، والطاعة الثانية التي في شهر الصيام هي: القيام.
ثبت في مسند الإمام أحمد، والصحيحين، والسنن الأربعة، والحديث في موطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي، وهو في السنن الكبرى للإمام البيهقي، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه] .(72/9)
زاد الإمام النسائي في روايته، والإمام المروزي في روايته في كتاب قيام الليل، وهشام بن عمار في كتابه الفوائد [وما تأخر] ، وهذه الزيادة زيادة صحيحة، ثابتة كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في كتاب الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، ورقم هذه الطاعة في كتابه (السابعة) وقرر هذا في فتح الباري، هذه طاعة ثانية تكفر الذنوب المتقدمة والمتأخرة، والثالثة ليلة القدر.
ثبت في مسند الإمام أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي، ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه] .
قال الحافظ ابن حجر وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه- من طريقين اثنين كل منهما حسن: [غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .
هذه ثلاث روايات عن أبي هريرة -رضي الله عنه- فيها، أن من قام بهذه الطاعات الثلاث الصيام، والقيام، وقيام ليلة القدر، من قام بها غفر له بكل واحدة ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأما بخصوص الصيام فالروية في تاريخ بغداد لفظاً وما تأخر.
إخوتي الكرام: الإنسان إذا فعل هذه الطاعات الحسان في شهر رمضان ينال هذه الجائزة عند ذي الجلال والإكرام، ويصبح كأهل بدر الكرام فهذه الفضيلة ثبتت لأهل بدر -رضي الله عنهم وأرضاهم- والله غفر لهم ما تقدم وما تأخر من ذنوبهم، والحديث ثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود، والترمذي من رواية سيدنا علي -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] .(72/10)
والحديث ثابت في المسند، وسنن أبي داود، ومستدرك الحاكم من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه-، وثابت في المسند، ومعجم الطبراني الكبير والأوسط من رواية سيدنا عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وثابت من رواية أمير المؤمنين عمر وابنه عبد الله بن عمر ومن رواية جابر بن عبد الله ومن رواية حاطب بن أبي بلتعة فهو مروي من طريق سبعة من الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- باللفظ المتقدم.
إخوتي الكرام: وهذه المغفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة، تُحمل على معنيين اثنين كما قرر ذلك حذامي المحدثين وأمير المؤمنين الحافظ ابن حجر -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا-.
المعنى الأول: من عمل طاعة من هذه الطاعات الثلاث وغيرها التي يغفر للإنسان بها ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما تقدم معنا في أول الموعظة، من عمل شيئا منها وقبلت طاعته عند الله، سيحفظ بعد تلك الطاعة من المعاصي والمخالفات والموبقات وله صك عند رب الأرض والسموات بأنه سيوافي ربه بالإيمان، ولن يحصل منه ارتداد وكفران، فإن قيل هل يلزم من هذا أن يكون معصوماً من الذنوب والأوزار؟ لا ثم لا وهذا يتضح في الجواب الثاني فإن جرى منك زلل حسبما لا تنفك عنه طبيعة البشر فذلك يقع مغفورا بفضل الله -عز وجل- إنما إذا قبلت الطاعة من هذه الطاعات التي بلغت ـ كما قلت ـ اثنتين وعشرين طاعة من فعل واحدة منها غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر إذا قمت بها وقبلت عند الله جل وعلا لوجود الشروط المعتبرة فيها فقد صار لك عند الله عهد وثيق وصك محكم بأنك ستوافي ربك بالإيمان ولن يحصل منك ارتداد وكفران كما هو الحال في أهل بدر الكرام بقي الأمر الثاني إن وقع منك زلل حسبما لا تنفك عنه طبيعة البشر يقع ذلك مكفرا مغفورا بفضل الله -عز وجل- ولذلك معنى قول نبينا -عليه الصلاة والسلام- لأهل بدر -رضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم الله عن الإسلام وعنا خير الجزاء وملأ قبورهم نورا وقلوبهم بهجة وسرورا-.(72/11)
فإن قال قائل إذا فعلنا شيئا من تلك الطاعات فهل معنى ذلك أننا صرنا كأهل بدر ومن عدادهم؟ لا ثم لا، فإن قال لم يا عبد الله؟ أقول هذه الجائزة التي وعد بها أهل بدر مقطوع بها لكل فرد منهم وأما نحن فما الذي يدرينا أن الطاعة قبلت منا وما ضربت بها وجوهنا فنحن نأمل ونرجوا من ربنا أن يلحقنا بساداتنا أهل بدر الكرام وأن يقبل طاعاتنا مع ما فيها من نقصان فهو الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى لكن لا يمكن لواحد منا أن يقطع لنفسه بذلك نؤمل فضل الله ونرجو عفوه وأن يقبل منا ما وعدنا عليه أنه يكفر ما تقدم من ذنبنا وما تأخر.
وهذا المعنى –إخواتي الكرام- الذي ذكرته هو الذي قرره أئمتنا هو المعنى الحق المراد من حديث فضل أهل بدر ومن الطاعات التي ذكرتها وأن من قام بها غفرت له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر هذا المعنى الذي يدور على أمرين اثنين هو المراد ولما خفي هذا عن كثير من العلماء واستشكلوا ظاهر الحديث قالوا أقوالا مردودة منهم: الحافظ الإمام ابن الجوزي كما نقل عنه ذلك الإمام ابن القيم في كتابه الفوائد من صفحة 14 إلى 17 يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر صفحة 330 [اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] .(72/12)
يقول غفرت لكم أي ما تقدم وليس في ذلك دلالة على مغفرة الذنوب المتأخرة وليس في قوله اعملوا ما شئتم أن هذا سيعمل في المستقبل لأن هذا يكون من باب الإطلاق في الذنوب وأنه يعمل ما شاء من العيوب وعليه مهما عملتم من عمل سابق فقد غفرته لكم بعد موقعة بدر قال ولو كان المراد اعملوا في المستقبل ما ستعملون لقال فسأغفر لكم وهذا الكلام مع جلالة من قال به وإمامته وهو شيخ الإسلام لكن الكلام مردود مردود أما قوله غفرت للماضي فنقول اعملوا للمستقبل وهو لم يقل ما عملتم غفرته لكم إنما قال اعملوا فإن قال غفرت للماضي نقول يا عبد الله هذا من باب تحقيق هذه البشارة لهم والله جل وعلا يخبر عن المستقبل بلفظ المضي للإشارة إلى تحقق حصوله كما يستعمل هذا بكثرة في كتابه سبحانه وتعالى {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} أتى ثم قال فلا تستعجلوه إذن سيأتي فلا داعي لاستعجاله لكن مجيئه لما كان حتما وجزماً ولا خلف لوعد الله فأخبر الله عن المستقبل بلفظ المضي ولهذا نظائر كثيرة وعليه فقد غفرت لكم لم يقل فسأغفر لكم -سبحانه وتعالى- للإشارة إلى تحقق المغفرة وثبوتها وأنها متيقنة مقطوع بها ثم بعد ذلك نقول للإمام ابن الجوزي -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- أنت غفلت عن سبب ورود الحديث إن الحديث ورد بعد موقعة بدر بست سنين وقع في العام الثامن هذا الحديث وهذه البشارة ولم يبشر بها أهل بدر بعد موقعة بدر فموقعة بدر وقعت في العام الثاني للهجرة وهذه البشارة قالها نبينا -عليه الصلاة والسلام- في العام الثامن عند فتح مكة وسبب ورود الحديث أن سيدنا الصحابي المبارك حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- عندما كاتب أهل مكة يخبرهم أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يتجهز لفتح مكة وأراد أن يصنع يداً عندهم ليأمن على أسرته وعلى ماله وعلى أهله وما نافق في إيمانه وما تردد يقينه في صدره وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فلما أعلم الله نبيه -عليه الصلاة والسلام-(72/13)
بما حصل من حاطب واستحضر الكتاب الذي أرسله مع امرأة وقد وضعته في ضفائر شعرها قال له نبينا -عليه الصلاة والسلام- ما حملك على ما صنعت فقال له: كل واحد من أصحابك له أهل وعشيرة هناك، وأما أنا فكنت ملصقا فيهم وليس لي من يحمي أهلي فأردت أن أتخذ يداً عندهم لئلا يؤذوا أهلي فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- صدقت فقال سيدنا عمر الفاروق -رضي الله عنه-: دعني أضرب عنقه يا رسول الله فقد نافق فقال يا عمر وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم - فالنبي -عليه الصلاة والسلام- يبرر فعل حاطب، وأنه مغفور له، وأن هذه الزلة لا تضره لأنه شهد بدرا.
والأحاديث في أهل بدر كثيرة، وفيرة، فما قاله شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي مردود بعيد وأبعد منه ما قاله الإمام الرازي في تفسيره في 24/192 قال معنى الحديث اعملوا ما شئتم من النوافل والفضائل والمستحبات فقد غفرت لكم، وكما قلت غفلة عن سبب ورود الحديث إنما المراد اعملوا ما شئتم، أي مهما جرى منكم من زلات وهفوات لا تنفك عنها طبيعة المخلوقات، فذلك مغفور بفضل رب الأرض والسموات، وهكذا الصيام والقيام وقيام ليلة القدر إذا وقع شيء من ذلك عند الله مقبولا غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر تحفظ من الذنوب وتلقى بالإيمان علام الغيوب، وإذا وقع منك شيء من الهفوات والزلات فيقع ذلك مكفراً بفضل رب الأرض والسموات.
إخوتي الكرام: لكنَّ هذه الفضيلة كما قلت لا ينالها إلا من قبل صيامه وقيامه وقيامه لليلة القدر وأما إذا رد الصيام على الصائم وضرب به وجهه فهو لأن يعاقب أولى من أن يثاب وكل واحد منا يعرف صيامه ويعرف قيامه ويعرف تحريه لليلة القدر والإنسان على نفسه بصيرة، ونسأل الله أن يتوب علينا.(72/14)
إخوتي الكرام: إن بني آدم يفرطون في جنب الحي القيوم، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، وطاعاتنا التي نقوم بها فيها من الشوائب والخلل والزلل ما لو تُقُرِّب بها إلى بشر لما قبلها فكيف نتقرب بها إلى الله -عز وجل- ولذلك نهانا نبينا -عليه الصلاة والسلام- أن نقول صمنا رمضان كله، وأن نقول قمنا رمضان كله سبحانك ربنا ما أفطرنا في يوم من أيام هذا الشهر الكريم ومع ذلك تأمر نبيك -عليه الصلاة والسلام- أن ينهانا عن ادعاء الصيام إياك ثم إياك أن تقول صمت رمضان كله خشية أن يقول الله لك من فوق عرشه فوق سمواته كذبت وما قبلت منك صيام يوم من الأيام.
ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث رواه أبو داود، والإمام الضياء المقدسي، ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، كما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان، وهو في المسند، وسنن الترمذي، والنسائي وإسناد الحديث رجاله ثقات أثبات وما فيه إلا عنعنة سيدنا الإمام الحسن البصري -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- ومعنى الحديث صحيح ثابت ولفظ الحديث من رواية أبي بكرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [لا يقولَن أحدُكم صمت رمضان كله ولا يقولَن أحدُكم قمت رمضان كله] قال أبو بكرة فلا أدري أكره التزكية أم قال لابد من رقدة أو نومة يعني ما سبب النهي كره لنا أن نزكي أنفسنا وبأي شيء نزكيها نعلم هل قبلت عند ربنا أم لا أو أنه قال لابد من رقدة وغفلة ونوم فحصل شيء من التفريط والتقصير في هذا الصيام فكيف تقول صمت رمضان كله وقمت رمضان كله وبوب عليه الإمام ابن خزيمة في صحيحه في كتاب الصيام فقال باب الزجر عن قول صمت رمضان كله وقمت رمضان كله.(72/15)
إخوتي الكرام: تلك الجائزات الحسان ينالها من صام رمضان كما يحب الرحمن ومن قام كما يريد ذو الجلال والإكرام ومن وفق لليلة القدر وتقرب بها إلى الرحمن نعم إذا صدرت منك على وجه مقبول نلت تلك الجائزة عند العزيز الغفور وإلا فنسأل الله أن يتوب علينا، وأن يعفو عن تقصيرنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الإمام النسائي في سننه، ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى، وفي كتاب شعب الإيمان، وإسناده صحيح صحيح من رواية سيدنا أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند لا بأس به من رواية سيدنا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين-، وقد صحح حديث ابن عمر الإمام الهيثمي والمنذري في الترغيب والترهيب -عليهم جميعا رحمة الله- ولفظ حديث أبي هريرة وابن عمر متقارب لفظ الحديثين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر] سبحان ربي العظيم، صام عن الطعام والشراب وما امتنعت جوارحه، عن الآثام، حكمه عند الله كحكم الكلب الجائع فإياك ثم إياك أن تقول صمت رمضان كله وإياك ثم إياك أن تتصف بالغرور وأن يغرك الغرور وأن تقول أنا غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر والتحقت بأهل بدر الكرام لأنني صمت شهر رمضان وما تعلم ستعاقب أم تثاب على الصيام فأمِّل فضل الله وهو واسع الفضل والمغفرة وإياك من الدعوى وإياك من الاغترار وكل واحد كما قلت يعلم حاله في طاعاته والله ثم والله لو حاسبنا الله على طاعاتنا لأكبنا على وجوهنا في نار جهنم ونسأله أن يعفو عنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(72/16)
ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، والحديث في السنن الأربعة، ورواه ابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] .
والحديث رواه الإمام الطبراني في الأوسط والصغير من رواية سيدنا أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [من لم يدع الخنا والكذب فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه] .
إخوتي الكرام: ولذلك أوصى نبينا -عليه الصلاة والسلام- صديقة هذه الأمة أمنا الطيبة المباركة الطاهرة المطهرة سيدتنا الفاضلة عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أن تسأل الله العفو والمغفرة إذا وافقت ليلة القدر، إذا عفا الله عنا وتجاوز عنا فهنيئا لنا فصيامنا فيه تقصير وقيامنا فيه تقصير وحالنا في جميع طاعاتنا لا يعلمه إلا اللطيف الخبير، ثبت في سنن الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحديث رواه الإمام ابن ماجه، والحاكم في مستدركه عن أمنا عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أنها قالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا أقول إذا وافقت ليلة القدر قال قولي الله إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا سبحان الله كأنها كانت مقصرة مفرطة. نعم هذا جميع حال العباد فإذا غفر لك زللك في صيامك وتقصيرك في قيامك فهنيئا لك، وأما الثواب فهذا محض كرم من الكريم الوهاب أما طاعاتنا التي كلفنا بها ونقوم بها لو حوسبنا على التفريط الذي فيها فنحن من أهل جهنم وبئس المصير، فإياك ثم إياك أن تبحث في الثواب إلا من باب التعويل على فضل وكرم وجود ورحمة الكريم الوهاب لكن من باب الاستحقاق لا نستحق إلا جهنم التي هي دار أهل التباب قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا أرحم الراحمين اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك يا واسع الفضل والمغفرة أقول هذا القول وأستغفر الله.(72/17)
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمَّن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: كان سلفنا الكرام -رضوان الله عليهم- يجعلون سَنَتَهم كُلَّهَا حول شهر رمضان قبل دخول شهر رمضان بستة أشهر يلجؤن إلى الله ويضجون إليه أن يبلغهم شهر الصيام ليصوموه فإذا دخل عليهم هذا الشهر من بدايته إلى ستة أشهر أخرى يضجون إلى الله ويجأرون أن يقبل صيامهم وأن يجعلهم من المقبولين الفائزين بخيرات هذا الشهر الكريم وهذا ينقله عن سلفنا الكرام شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي الذي توفي سنة 795 هـ في كتابه لطائف المعارف وما يتعلق بوظيفة شهر رمضان مطبوع على انفراده في صفحة 92 قبل دخول شهر رمضان بستة أشهر يسألون الله أن يبلغهم شهر رمضان، وإذا دخل عليهم هذا الشهر الكريم ضجوا إلى ربهم من بدايته إلى ستة أشهر أخرى يسألون الله أن يكونوا في شهر رمضان من المقبولين ولا غرو في ذلك فهو سيد الشهور وأفضلها عند العزيز الغفور. عبد الله إذا لم تقبل في شهر رمضان عبد الله إذا لم يغفر لك في شهر رمضان فليت شعري متى سنقبل ومتى سيغفر لنا.(72/18)
ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح من رواية كعب بن عجرة، والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه من رواية مالك بن الحويرث، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير من رواية ابن عباس والبزار من رواية عبد الله بن الحارث، وهو في سنن الترمذي، وصحيح ابن خزيمة، والسنن الكبرى للإمام البيهقي، من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- رقى المنبر فقال: عند الدرجة الأولى آمين ثم رقى الدرجة الثانية فقال: عندها آمين ثم رقى الدرجة الثالثة فقال: عندها آمين فسئل من قبل الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- رأيناك تقول شيئا لم تكن تقوله قبل ذلك يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: [أتاني جبريل عند الدرجة الأولى فقال: يا محمد من دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له فأبعده الله وفي رواية فأبعده الله وأسحقه وفي رواية رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل آمين فقلت آمين وفي الدرجة الثانية يقول جبريل لنبينا -عليه الصلاة والسلام-: [من أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما فلم يغفر له ولم يدخلاه الجنة فأبعده الله فأبعده الله وأسحقه رغم أنفه فقل آمين فقلت آمين وعند الدرجة الثالثة من ذكرت عنده فلم يصلي عليك فأبعده الله فأبعده الله وأسحقه فرغم أنفه قل آمين فقلت آمين] .
إخوتي الكرام: إذا لم يغفر لنا في شهر رمضان فمتى سننال الغفران عند ربنا الرحمن.
إخوتي الكرام: الشهر قارب على الانصراف وكم من قريب لنا وعزيز علينا أدرك معنا شهر رمضان في العام الماضي ولم يهيأ له أن يدرك شهر رمضان في هذا العام وما ندري هل سندرك هذا الشهر في السنة الآتية أم لا.(72/19)
إخوتي الكرام: اغتنموا ما بقي من أيام شهر رمضان واعلموا أننا عما قريب سنلقى في حفرة لا أنيس لنا فيها إلا عملنا الصالح رحمة الله على العبد الصالح داود بن نصير الطائي أبي سليمان الذي توفي سنة 162هـ وهو من رجال سنن الإمام النسائي وكان سيدنا سفيان الثوري -عليهم جميعا رحمة ال-له يعظمه ويقول أبصر أمره وكان شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك يقول وهل الأمر إلا ما عليه داود يقول اًلإمام الذهبي في ترجمته لم يخلف مثله في الكوفة سبب استقامته استقامة تامة كاملة رحمة الله ورضوانه عليه- أنه مر بامرأة تزور قبر حبيب لها وتقول:
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتُنْسَى كما تَبْلى وأنت حبيب
نعم يشتد حزن الأهل والأصحاب على الميت عندما يوسد التراب ويقل حزنهم كلما امتدت الأيام حتى يذهب الحزن كما أن البِلى يسري في بدن الميت على بطئ هكذا نسيان هذا الميت يكون على بطئ إخوتي الكرام: اغتنموا ما بقي من أيام شهر رمضان.
اللهم ارحمنا إذا فارقنا الأصحاب اللهم ارحمنا إذا نسينا الأحباب اللهم ارحمنا إذا افترشنا التراب اللهم اجعل قبورنا نورا اللهم املأ قلوبنا بهجة وسرورا اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا اللهم إنا نتوب إليك وهذه نواصينا بين يديك فإن قبلتنا فبفضل منك علينا وإن طردتنا فلا حول ولا قوة إلا بك اللهم إن أطعناك فبفضلك والمنة لك، وإن عصيناك فبعلمك وعدلك والحجة لك، اللهم إنا نسألك بحق قيام حجتك علينا وانقطاع حجتنا أن تغفر لنا يا أرحم الراحمين.(72/20)
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، كثيراً اللهم لنا آباء وأمهات منهم الأحياء والأموات اللهم من كان حياً من آبائنا وأمهاتنا فألهمه رشده وسدده وتب عليه واختم له بخاتمة الخير يا رب العالمين، ومن كان ميتاً من آبائنا وأمهاتنا فنسألك أن ترحمه وأن تتجاوز عنه وأن تجعل قبره روضة من رياض الجنة يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين هذا شهر الجود والكرم، نتوسل بك إليك أن تغفر لآبائنا وأمهاتنا الحيين والميتين، وأن تجزيهم عنا خير الجزاء يا رب العالمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.
اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة وأوسطه لنا مغفرة وآخره عتقاً لنا من النار، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان اللهم، أدخلنا الجنة من باب الريان بسلام بفضلك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك، يا واسع الفضل والمغفرة، سبحانك سبحانك لا نحصي ثناءا عليك تتحبب إلينا بالنعم وأنت الغني عنا، ونتبغض إليك بالمعاصي ونحن الفقراء إليك، إلهي وعزتك وعظمتك وجلالك ما عصيناك استخفافا بحقك، إنما لضعفنا وغلبة نفوسنا علينا، فارحم ضعفنا، وتب علينا يا رب العالمين، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.(72/21)
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء، نسألك في هذا الشهر الكريم أن تؤلف بين المؤمنين، وأن تنصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين، إلهي أمة نبيك عليه الصلاة والسلام لا يخفى حالها عليك، اللهم فرج عن أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
اللهم انصر أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (1)
والحمد لله رب العالمين..
__________
(1) ((1 سورة القدر(72/22)
حكم قراءة القرآن على القبور
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم قرآة القرآن على القبور
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غُلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) سورة آل عمران: 102(73/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن من صفات عباد الرحمن الذين يعمرون بيوت ذي الجلال والإكرام، من صفاتهم الخوف من ربهم وهذه الصفة اتصفوا بها بعد أن أحسنوا حالهم ومعاملتهم مع الله -جل وعلا- ومع عباده: فهم الذين لم تلههم البيوع والتجارات، وهم الذين عظموا رب الأرض والسموات وهم الذين أحسنوا إلى المخلوقات ومع ذلك يخشون رب الأرض والسموات حقيقة هؤلاء هم الرجال هم الرجال {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
إخوتي الكرام: وكنا نتدارس أسباب خوف المكلفين من رب العالمين وهي على كثرتها كما تقدم معنا يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب.
أولها: إجلال الله وتعظيمه.
ثانيها: خشية التفريط والتقصير في حق الله الجليل.
وقد تقدم الكلام على هذين السببين مفصلاً بأدلته في المواعظ الماضية
والسبب الثالث: من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين خوفهم من سوء الخاتمة.
وتقدم معنا إخوتي الكرام أن لسوء الخاتمة سببين معتبرين:
السبب الأول منهما: الخوف على الإيمان من الاستلاب والفقدان. فما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه إلا سلبه عند موته، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
__________
(1) سورة الأحزاب: 70، 71
(2)) ) سورة النور: 36، 37(73/2)
والسبب الثاني: من أسباب سوء الخاتمة قلت: اغترار المكلف بالحالة الحاضرة واغتراره بما يصدر منه من طاعات ناقصة قاصرة مع الغفلة عما فيه من بليات مهلكات وتقدم معنا أن أشنع تلك البليات ثلاث بلايا ورزايا.
أولها: النفاق.
ثانيها: البدعة.
ثالثها: الركون إلى الدنيا.
وكنا نتدارس -إخوتي الكرام- ما يتعلق بالبدعة وقلت سأتكلم عليها ضمن ثلاثة أمور في تعريفها وفي النصوص المحذرة منها، وفي أقسام البدعة وسبب كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة.
إخوتي الكرام: أما الأمر الأول فقد مضى الكلام عليه وأُكمله في هذه الموعظة -إن شاء الله-، مضى الكلام عليها في الموعظة الماضية وقلت: إن حقيقة البدعة، الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مما لم تشهد له أدلة الشريعة الحسان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، وبينت هذا التعريف -إخوتي الكرام- في الموعظة الماضية وشرحته وقلت انقسم الناس نحو البدعة إلى ثلاثة أقسام:
? مهتدون صالحون عند حدود الله وقَّافُون، فما ينطبق عليه أنه بدعة حكموا عليه بذلك، وما لا ينطبق عليه أنه بدعة فاتقوا الله في أنفسهم وفي أمة نبيهم -عليه الصلاة والسلام- وحملوا أحوال الناس على الاستقامة والسداد والحسنى،
? وفريق أهل شطط متهورون ما لا يروق لأذهانهم ولا يدخل في فهمهم حكموا عليه بأنه بدعة فوسعوا دائرة البدعة ونبذوا عباد الله الصالحين بهذا اللقب المشين
? وفريق قابلهم كما قلت فرَّطوا كما أن أولئك أفرطوا فقالوا لا بدعة في الدين ولا وجود للمبتدعين وكل ما يفعله الإنسان ويرى أنه يتقرب به إلى رب العالمين فهو خير وهدى.
إخوتي الكرام: ولاشك أن الفرقة الثانية التي أفرطت والفرقة الثالثة التي فرطت كل منهما على ردى، وكنا نناقش الفرقة الأولى من هاتين الفرقتين الضالتين الفرقة التي وسَّعت مفهوم البدعة، وقلت أن هذا التوسيع له حالتان.
الحالة الأولى:(73/3)
عندهم وهي حالة ضلال حكموا على ما شهد له الدليل، وقال به إمام جليل حكموا عليه بأنه بدعة وهذا ضلال كما تقدم معنا وَضَرَبْتُ لذلك مثالاً من الأمثلة الشرعية التي شهدت لها نصوص الشريعة الإسلامية، وقال بها بعض أئمتنا الكرام، ألا وهي هذه الكيفية، موضوع قبض الشمال باليمين ووضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع وبينت أن الدليل الشرعي يحتمل هذه الكيفية وقد قال بها بعض أئمتنا الكرام، فلا يجوز أن ندخلها في دائرة البدعة كما تقدم معنا، تقرير هذا قلت إنهم وسَّعوا البدعة أيضاً إلى ما هو أشنع من ذلك فحكموا بالبدعة على ما دل عليه دليل صحيح صريح كما تقدم معنا في صلاة التراويح فثابتة عشرون ركعة ويوتر المسلمون بثلاث كما قررت هذا بأدلته وبفعل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والخليفة الراشد عليّ ابن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-، وجمهور أهل العلم جمهور أمة نبينا -عليه الصلاة والسلام- على هذا العدد في صلاة التراويح، فقد شهد لذلك دليل صحيح وقال به أئمتنا الكرام ثم وجد في هذه الأيام من ينبذ هذا الفعل بأنه بدعة والفاعل مبتدع وليس بعد هذا الضلال ضلال.
إخوتي الكرام: ومما يدخل في هذا الأمر أعني في توسيع مفهوم البدعة والحكم على عباد الله بالبدعة مما يدخل في هذا مسألة سنتدارسها في هذه الموعظة وهي مسألة لها ذيول ألا وهي قراءة القرآن على القبور والمسألة يتبعها عدة مسائل يتبعها حكم التلقين بعد الدفن، ويتبعها بيان الحق في سماع الأموات وعلمهم بزيارة الأحياء وشعور الميت شعوراً أدقَ من شعور الحي، فهو يعلم ويبصر ويرى ويسمع من يزوره وما يجري حوله، وأقرر هذا بالأدلة الصحيحة الصريحة من كتاب الله ومن أحاديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ومما أجمع عليه سلفنا الكرام، ثم وجد من ينبذ هذا بالبدعة في هذه الأيام،(73/4)
الأمر الرابع: الذي يتعلق بهذه المسألة، إهداء القربات إلى الأموات سواء كانت تلك القربات والطاعات بدنية أو مالية أو مركبة، منهما هذه المسائل الأربع.
إخوتي الكرام: تتعلق بالمسألة الأولى وتتفرع عنها ألا وهي قراءة القرآن على القبور، وكما قررت في تعريف البدعة -إخوتي الكرام-، فاستحضروا التعريف ولا يغيبن عنكم طرفة عين في هذه الحياة، كل ما لم يشهد له دليل مستقيم وما لم يقل به إمام كريم فهو بدعة، وما شهد له الدليل الشرعي وقال به إمام تقي فخرج عن رسم البدعة وحدها، ومن رمى ذلك الفعل بالبدعة فهو المبتدع الخارج على أمة نبينا -عليه الصلاة والسلام-.
إخوتي الكرام: لابد من ضبط هذا، وإذا أراد الإنسان أن يتكلم في هذا العصر فينبغي أن يسند كلامه إلى النصوص الشرعية وإلى علماء هذه الأمة المرضية، وأما أن يأتي ويقول: هذا الذي يظهر لي وهذه هي السنة وهذه هي السلفية فهذا قول مردود على قائله أيَّا كان.
قراءة القرآن على القبور، -إخوتي الكرام- هذه المسألة استحبها علماء الإسلام ونقلت عن السلف الكرام، استحبها علماؤنا ونقلت عن سلفنا ومع هذين الأمرين ترى في هذه الأيام من يرفع لسانه على أمة نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-.
فيصف قراءة القرآن على القبور بأنها بدعة، ويحكم على القارئين بأنهم مبتدعون، وهذا الأمر حقيقة مما يفطر الأكباد في هذه الأوقات، أمر نقل عن السلف الكرام من صحابة وتابعين ومن بعدهم وقرره أئمة الإسلام كما سيأتينا، يوجد في هذه الأيام أهل شطط ينبذون من فعل ذلك بأنه مبتدع مخرِّف صاحب أوهام، فمن المخرف من يخرج عن هدى السلف أو من يلتزم بهديهم؟ إذا كان هذا نقل عن السلف الصالح وقرره أئمتنا وهو مسطور مزبور في كتبنا في كتب شريعتنا فعلام بعد ذلك التشويش على الناس؟(73/5)
إخوتي الكرام: وإذا كان الأمر في هذه الصورة وهو كذلك، أناس يرفعون أصواتهم بأن هذا بدعة وبتبديع من يفعل ذلك، إذا كان الأمر كذلك في هذه الأيام فلابد -إخوتي الكرام- من وعي هذه المسألة على التمام وبيان العلم فيها بشكل تام، فاستمعوا -إخوتي الكرام- هذه المسألة لها أمران:
الأمر الأول: لو لم يرد دليل في هذه المسألة بخصوصها يجيز قراءة القرآن على مقابر المسلمين وبين مقابر المسلمين وعلى موتى المسلمين، لو لم يرد دليل في هذه المسألة بخصوصه في الدين لما صح أن يحكم على الفعل بأنه بدعة وأنه ضلال وأنه ذميم ووجه ذلك أن قراءة القرآن يؤمر بها الإنسان في كل زمان ومكان إلا ما نهاه عنه الشرع المطهر.
فنحن نهينا أن نقرأ القرآن إذا كنا مجنبين ونهينا أن نقرأ القرآن راكعين وساجدين، والحديث ثابت بذلك في صحيح مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً وساجداً] ولا يجوز أن يقرأ القرآن في الحمامات عند انكشاف العورات والله طيب لا يذكر إلا في مكان طيب، وما عدا هذا ما ينبغي أن يمنع الإنسان من قراءة القرآن إلا إذا أتيت بدليل يمنعه فهوانا يتبع شرع مولانا ولا نحكم عقولنا في ديننا فما نهانا عنه ربنا ونبينا -عليه الصلاة والسلام- انتهينا عنه.
فأنت أيها الإنسان يا من تريد أن تمنع قراءة القرآن على موتى المسلمين ما دليلك في ذلك بأن هذا منهيٌ عنه؟ كما أننا نهينا عن قراءة القرآن في الركوع والسجود وحال كوننا مجنبين جنباً؟ فإذا أردت أن تمنع من قراءة القرآن على المقابر ينبغي أن تقيم الدليل على ذلك وأن يكون هذا الدليل ظاهراً بيناً واضحاً.(73/6)
إخوتي الكرام: هذا الأمر كما قلت لو لم يرد في هذه المسألة دليل بخصوصه لما صح أن نمنع ولما صح أن نصف ذلك الفعل بالبدعة ولا أن نحكم على فاعله بأنه مبتدع، فإن قال قائل: إن الذي يقرأ القرآن على الأموات يقصد بذلك أن تحصل البركة لهم، ولابد من دليل على ذلك نقول -سبحان ال-له إلى هذا الحد وصل بك الانحطاط وأي حرج في قراءة القرآن على الموتى لتحصل لهم البركة؟ أي حرج أي حرج؟ إن من مقاصد إنزال القرآن أن يتبرك به الرجال والنساء والمرضى والأصحاء والأموات والأحياء ما الحرج في ذلك أو ليس هذا القرآن بكتاب مبارك؟ {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (1) {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
هذا الكتاب مبارك وكما أنزل ليكون لنا هداية في هذه الحياة نتبرك به ونستشفي به من أمراضنا، ونقرأه لتحصل به البركة على موتانا، وقد كان الصحابة الكرام يفعلون هذا ويتعالجون بالقرآن.
__________
(1)) ) سورة الأنبياء: 50
(2)) ) سورة الأنعام: 155(73/7)
والحديث الثابت في صحيح مسلم، والكتب والستة، ومسند الإمام أحمد، في الصحيحين، والسنن الأربعة، وهو من أصح الأحاديث وأعلاها رتبة، فهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه وأرضاه- في قصتهم عندما ذهبوا بعثا غزاة في سرية من السرايا فمروا بطريقهم على حي من أحياء العرب وطلبوا منهم أن يضيفوهم فأبوا ضيافتهم ولم يقروهم، ثم لدغ زعيم الحي في تلك الليلة فجهد أهل القبيلة أن يعالجوه بأنواع العلاجات فما نفع ذلك فيه فأتوا إلى الصحابة الكرام-رضوان الله عليهم أجمعين- فقالوا: هل فيكم راقٍ؟ فإن سيد الحي قد لدغ، لدغه ثعبان ذات سمى وحمى هل فيكم راقٍ؟ قال أبوسعيد الخدري نعم: فينا راقٍ لكننا طلبنا منكم أن تضيفونا فما أضفتمونا. لا نرقي سيدكم إلا بِجُعْلٍ تجعلونه لنا، فاتفقوا على أن يعطوهم ثلاثين رأساً من الغنم، فذهب أبو سعيدٍ الخدري ـ -رضي الله عنه- ـ وبدأ يقرأ سورة الفاتحة ويتفل على هذا اللديغ حتى قام كأنما نشط من عقال وليس به قََلََبه، فأخذوا جُعْلهم وأرادوا أن يقتسموه بينهم فقال أبو سعيدٍ الخدري -رضي الله عنهم أجمعين-: حتى نسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن ذلك، فلما سألوه قال [وما أدراك أنها رقية اقتسموا واجعلوا لي معكم سهماً] . من أجل أن يطيب قلوبهم وأن ما أخذوه حلالٌ حلال، إذاً قرئ القرآن لتحصل البركة ويعالج هذا المريض وهكذا، يقرأ القرآن لتحصل البركة على الميت وللميت وليخفف عنه العذاب أو ليرفع عنه أو ليزيد الله في النور الذي يحصل له في قبره وهو على كل شيءٍ قدير -سبحانه وتعالى-.(73/8)
القرآن شفاء بنص القرآن، يقول الله -جل وعلا-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} (1) ومِن في قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ} لبيان الجنس فالقرآن كله شفاء من سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس من القرآن وليست للتبعيض {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ} أي ننزل القرآن شفاءً للناس فليستشفوا به من أمراض قلوبهم ومن أمراض أبدانهم، {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} .
و (من) كما قلت هنا لبيان الجنس كقول الله -جل وعلا- في سورة الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (2) (مِن) لبيان الجنس وليست تبعيضية وجميع الأوثان رجس ونجس لا خير فيها ولا طهارة ولا بركة {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أي اجتنبوا الرجس التي هي الأوثان القذرة النجسة، وهكذا قول الله -جل وعلا- في آخر سورة الفتح {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (3) من لبيان الجنس لا للتبعيض، لا أن بعض المؤمنين الصالحين الذين يطيعون رب العالمين وعدوا بذلك والباقي ليس كذلك، لا ثم لا، من لبيان الجنس {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وهكذا قول الله -جل وعلا-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} (4) .
__________
(1)) ) سورة الإسراء: 82
(2)) ) سورة الحج: 30
(3)) ) سورة الفتح: 29
(4)) ) سورة الإسراء: 82(73/9)
فإذا قرئ القرآن على الأموات لتحصل لهم البركة بعد موتهم كان ماذا؟ حققنا مقصود القرآن، ومِن مقاصد إنزاله أن يتبرك به كما قلت الرجال والنساء الأموات والأحياء، المرضى والأصحاء، نتبرك بتلاوته في جميع الأحوال. هذا الأمر الأول -إخوتي الكرام- ما ينبغي أن يغيب عن أذهاننا لو لم يرد في هذه المسألة دليل بخصوصه في شريعة ربنا، وأنه يجوز قراءة القرآن على الموتى لما صح أن نمْنَع إلا بدليل من كتاب ربنا وسنة نبينا -عليه الصلاة والسلام-.(73/10)
والأمر الثاني: وهو الذي يوضح لنا حقيقة الأمر الأول نُقِلَت كما قلت هذه المسألة أعني جواز قراءة القرآن على الأموات، نقل هذا عن الصحابة الأبرار من مهاجرين وأنصار وتبعهم على ذلك أئمتنا الكرام الأخيار، فأي دليل تريده بعد ذلك يا عبد الله؟، فعل هذا المهاجرون، فعله الأنصار، قرره أئمتنا الأبرار، ماذا تريد دليلاً بعد ذلك على هذا؟ فإن قيل: من الذي فعله من المهاجرين؟ فاستمع أخي الكريم، ثبت في سنن البيهقي في كتاب الجنائز وبوب عليه الإمام البيهقي (باب قراءة القرآن عند القبر) والأثر في الجزء الرابع من سنن البيقهي صفحة 56 ورواه أيضاً الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو آخر شيء في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو كتاب في حدود مائتي صفحة، هذا في صفحة تسعين ومائة وهو آخر الأبواب (باب قراءة القرآن عند القبور) والإمام الخلال هو الذي قرر مذهب الإمام أحمد وجمع نصوصه وكانت قبل ذلك مفرقةً وقد توفي هذا العبد الصالح سنة إحدى عشرة وثلاثمائة للهجرة 311هـ، يعني بعد المبجل الإمام أحمد ابن حنبل بسبعين سنة -رضوان الله عليهم أجمعين- الإمام الخلال المذهب الحنبلي من أوله لآخره يستقي منه، فهو الذي جمع نصوص الإمام أحمد وقررها -رضي الله عنهم أجمعين- ينقل هذا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن العباس بن محمد الدوري قال قلت ليحيى ابن معين هل ورد شيء في قراءة القرآن على القبور؟ وهل يجوز أن نقرأ القرآن على القبور؟ ويحيى بن معين هو قرين الإمام أحمد -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- فقال: يحيى بن معين حدثني مبشر الحلبي عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج عن أبيه أنه قال: لبنيه إذا مت، بضم الميم أو كسرها، ووضعتموني في لحدي فقولوا -بسم الله وعلى سنة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ـ بسم الله وعلى ملة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ثم سنوا علي التراب سناً: يعني ضعوه(73/11)
برفقٍ، فالميت يتأذى مما يتأذى منه الحي وشعوره أدق من شعور الحي، ثم سنوا علي التراب سناً، ضعوه برفق عندما تهيلون التراب علي، ثم سنوا علي التراب سناً واقرؤوا عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت ابن عمر يوصي بذلك ويستحبه وابن عمر شيخ الإسلام في الصحابة الكرام وهو من المهاجرين، وهذا الأثر قال عنه شيخ الإسلام الإمام النووي في الأذكار في صفحة سبع وثلاثين ومائة صـ137 إسناده حسن، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع صفحة أربع وأربعين من الجزء الثالث 3/44 رجاله موثقون.
وكما قلت هو في السنن الكبرى للإمام البيهقي، ورواه الخلال، وروى الإمام الطبراني أيضاً، هذا أثر عن عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهم أجمعين- بأنه أوصى بأن يفعل ذلك به واستحبه للأموات أن يقرأ عند رؤوسهم بعد دفنهم بفاتحة البقرة وخاتمتها. وهذا الفعل الذي نقل عن هذا الصحابي المهاجري -رضي الله عنهم أجمعين-، نقله الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونقله أيضاً عن الإمام الخلال الإمام ابن القيم في كتاب الروح في صفحة عشرة ص10 قال الخلال: قال الشعبي: وكان الأنصار إذا مات لهم ميت يختلفون إلى قبره فيقرأون عنده القرآن. الأنصار الأبرار -رضي الله عنهم وأرضاهم- إن مات لهم ميت يختلفون إلى قبره بعد دفنه يقرأون عنده القرآن، هذا فعل الأنصار وهذا فعل المهاجرين، وقد نقل ذلك الإمام ابن تيمية -عليه وعلى أئمتنا جميعاً رحمات رب البرية عن الصحابة- كما في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع والعشرين صفحة ثمان وتسعين ومائتين 4/298 وقال القراءة عند الدفن ثابتة في الجملة عن الصحابة، وقد أوصى بعضهم أن يقرأ عنده سورة البقرة ثابتة في الجملة عن الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-.(73/12)
وهذا الذي فعله المهاجرون والأنصار رضوانه عليهم أجمعين، روي مرفوعاً عن نبينا المختار -عليه صلوات الله وسلامه- لكن بإسنادٍ ضعيف والأثر رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن شاهين في كتاب القبور كما ذكر ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ولا تؤخروه عن قبره، فإذا دفنتموه فليقرأ عند رأسه بفاتحة الكتاب وعند رجليه بخواتيم سورة البقرة] والحديث كما قلت في معجم الطبراني الكبير، ورواه ابن شاهين في كتاب القبور وفيه يحيى ابن عبد الله البَابْلُتيِّ وقد حكم عليه الإمام الهيثمي بأنه ضعيف، وهكذا الإمام ابن حجر في التقريب بأنه ضعيف، وقد أخرج البخاري حديثه معلقاً في صحيحه فهو من رجال البخاري، لكن ما أخرج له في الأحاديث المتصلة، وهكذا هو من رجال سنن النسائي، فحديثه مخرج في البخاري معلقاً وفي سنن النسائي يحيى بن عبد الله البَابْلُتيِّ، وهو ابن امرأة الإمام الأوزاعي -عليهم جميعاً رحمة الله-، وتوفي سنة ثمان عشرة ومائتين للهجرة 218هـ، لو لم يكن هذا في إسناد الحديث لكان الحديث صحيحاً، أوصى نبينا -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث الذي قلت إسناده ضعيف أن يقرأ عند رأس الميت بفاتحة الكتاب وعند رجليه بخواتيم سورة البقرة، لكن كما تقدم معنا أشر ابن عمر ثابت وقد حسنه شيخ الإسلام الإمام النووي كما قلت في الأذكار، ونقل هذا عن الأنصار الأبرار، وروي مرفوعاً عن نبينا المختار -عليه صلوات الله وسلامه- لكن بإسنادٍ ضعيف.(73/13)
هذا الأمر الذي ورد فيه هذا الدليل المنقول انتبه لأئمة الإسلام كيف تلقوه بالقبول لترى بعد ذلك من الذي يخرج عن هدى السلف؟ وهل يجوز لإنسان أن يحكم على فعل نقل عن المهاجرين والأنصار، وثبت عن الصحابة في الجملة واستحبه أئمتنا الأخيار وقرره أئمتنا في كتبهم هل يجوز أن يحكم عليه بالبدعة وعلى فاعله بأنه مبتدع؟ انتبه إلى سيد المسلمين إلى فقيه المحدثين ومحدث الفقهاء أبي عبد الله الشافعي رحمة الله ورضوانه عليه يقول في كتاب (الأم) في الجزء الأول صفحة اثنين وثمانين ومائتين 1/282 يقول هذا العبد الصالح (وأحب أن يقرأ القرآن عند القبر وأن يدعى للميت وليس في ذلك دعاء مؤقت) هذا في كتاب (الأم) وهذا الكلام الذي قرره الإمام الشافعي ينقله محقق المذهب الشافعي الإمام النووي في الأذكار وفي رياض الصالحين وفي (المجموع) وفي كتاب (الروضة) فيقول: نص الشافعي على أنه يستحب قراءة القرآن عند الدفن ووافقه جميع الأصحاب على ذلك. قالوا: (ولو قرءوا القرآن كله كان حسنا) هذا الكلام في الأذكار كما قلت في المكان المتقدم صفحة سبع وثلاثين ومائة صـ137 وهو في (المجموع) .(73/14)
انظروه إخوتي الكرام في الجزء الخامس صفحة إحدى عشرة وثلاثمائة صـ 5/311 في (المجموع) وهو في (روضة الطالبين) للإمام النووي -عليه رحمة الله- في الجزء الثاني صفحة تسع وثلاثين ومائة 2/139 وهو في (رياض الصالحين) قال المعلق على (رياض الصالحين) صفحة سبع وأربعين وثلاثمائة صـ 347 (هذا الكلام الذي نقله الإمام النووي عن الشافعي قال: غريب لا أعرفه) ثم قال: أنا في شك كبير من نسبة ذلك إلى الإمام الشافعي، هذه النسبة إلى الإمام الشافعي فيها نظر) أي نظر فيها أيها المعلق؟ من الذي ينقل هذا عن الإمام الشافعي؟ ينقله محقق المذهب ألا وهو الإمام النووي في أربعة من كتبه ثم أنت تأتي تعلق على عبارته بأن هذه النسبة فيها نظر وأنت في شك كبير من نسبة ذلك إلى الإمام الشافعي،، سبحان الله سبحان الله، هلا سألت شافعياً في هذه الأيام ليرشدك إلى نص الإمام في كتاب (الأم) ؟ وأن هذا موجود في كتاب (الأم) وأن الإمام النووي عندما نقل هذا عن الإمام الشافعي لاتخرص وما افترى ولا وهم ولا أخطأ، إنما هذا هو نص المذهب وهذا كما قلت في كتاب (الأم) للإمام الشافعي فقولك: إنك في شك كبير من نسبة ذلك إليه، وهذه النسبة فيها نظر، كان الواجب عليك أن تسأل شافعياً ممن يعيش معك في هذه الحياة وأن تقول له الإمام النووي نسب هذا إلى الإمام الشافعي -عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه- فأين نص الشافعي ليقول لك: هو في (الأم) في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين ومائتين 1/282 هذا الإمام الشافعي يقول: (وأحب أن يقرأ القرآن عند القبر إذا دفن الميت وأن يدعى للميت وليس في ذلك دعاء مؤقت) هذا نص كلام الإمام الشافعي في (الأم) -عليه رحمة الله ورضوانه-، وهذا الكلام الذي قرره الشافعية هو المقرر عند الحنفية.(73/15)
انظروا كتبهم إخوتي الكرام كما هو في (رد المحتار على الدر المختار) في الجزء الثاني صفحة اثنتين وأربعين ومائتين 2/242 يقرر علماء الحنفية أنه إذا جاء الإنسان إلى المقابر يسلم عليهم أولاً (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وسيأتينا صيغة السلام وصيغها ضمن مبحثنا إن شاء الله، قال الحنفية (ثم يقرأ ما تيسر من القرآن ثم يدعو، وإنما يقرأ القرآن قبل الدعاء من أجل أن تنزل البركة والرحمة في ذلك المكان قبل دعائه، ومن أجل أن يكون ذلك أرجى لقبول دعائه فيقرأ القرآن لحصول الرحمة والبركة في ذلك المكان ثم يدعو فيكون الدعاء أرجى للإجابة والقبول) ، هذا كلام الأئمة الحنفية في كتبهم.
وأما السادة المالكية -رضوان الله عليهم أجمعين- فالمنقول عن الإمام مالك -رحمة الله عليه- وعلى جميع أئمتنا كما في كتبهم انظروا حاشية الدسوقي إخوتي الكرام أيضاً في الجزء الأول صفحة تسع وثمانين وثلاثمائة صـ1/389 ينقلون عن الإمام مالك (أن قراءة القرآن تكره عند القبور. وسبب كراهية الإمام مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- هذه القراءة يقول: المقصود من زيارة القبور أن تعلم ما صار للميت وما انتهى إليه حاله وأنت عما قريب ستصير إلى مثل حاله فينبغي أن تعتبر وإذا قرأت القرآن أنت مأمور بالتفكر والتدبر والاعتبار عند قراءة القرآن فكيف ستجمع بين الأمرين؟ كيف ستجمع بين الاعتبار بحال هؤلاء الموتى وبين التدبر والاعتبار عند قراءة القرآن؟ ولذلك لا تقرأ القرآن عند القبور من أجل أن تتفكر في ما صار إليه من قبلك وعما قريب أنت ستصير إلى ما صاروا إليه) .
أخي الكريم: أما تأملت أحوال الموتى جثث هامدة عندما يدخل الإنسان القبور أما تأملت أحوالهم وعما قريب ستصير إليهم كم من حبيب تزوره وهو قريب منك ولا تستطيع أن تراه ولا أن تكلمه.
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاءك لا يرجى وأنت قريب(73/16)
تزيد بلىً في كل يوم وليلة ... وتُنسى كما تبلى وأنت حبيب
كم من إنسان يدفن حبيبا لديه ويكثر من زيارته في أول الأمر ثم يتسلى عن حبيبه بعد ذلك، كما أن البلى يسري إليك رويداً رويدا ويأكل التراب والدود بدنك، هكذا الحب يبلى من قلوب محبيك وأنت حبيب، وتنسى كما تبلى وأنت حبيب، فإذا كان هذا هو المقصود يقول الإمام مالك - عليهم جميعاً رحمة الله -: فيمتنع الإنسان عن القراءة لا لأن القراءة لا تجوز، إنما ليعتبر بحال هؤلاء وحاله الذي سيصير إليه.
ولذلك قال أئمة المالكية: (إن قرأ القرآن تسنناً فهذا لا يجوز ويمنع منه أي اعتقاد لسنية القراءة في ذلك الوقت. السنة في الزيارة كما يقول الإمام مالك: السنة أن تعتبر وإذا أردت أن تقرأ على أن هذا من شعائر الزيارة فلا ثم بعد ذلك قالوا: إن قرأ دون اعتقاد السنية فهذا جائز. وهذا أصل المذهب كما قلت، ثم جاء متأخروا المذهب كما في حاشية الدسوقي فنقل عن ابن رشد وعن أئمة المالكية المغاربة والأندلسيين أنهم أجازوا قراءة القرآن على القبور طلباً لنزول الرحمة والبركة على الأموات.
قال الإمام الدسوقي وهذا كما قلت من كتب فقه المالكية، قال: (وعلى هذا عمل المسلمين شرقاً وغرباً) أي إذا زاروا المقابر يقرءون القرآن ولا ينكر بعضهم على بعض ذلك، وأما الإمام المبجل أحمد ابن حنبل - رحمة الله ورضوانه عليه - فكان يرى ما يراه الإمام مالك في أول الأمر -رضوان الله عليهم أجمعين- من أن القراءة يمنع الإنسان منها من أجل أن يتدبر ما آل إليه حال هؤلاء الناس وما سيصير إليه عما قريب ثم لما قيل له: إن ابن عمر أوصى بذلك -رضي الله عنهم أجمعين- فرجع عن قوله.(73/17)
وقصة رجوع الإمام أحمد -رحمة الله ورضوانه عليه- عن هذا القول وأنه يرى أن قراءة القرآن جائزة عند القبور نقلها أتباع مذهبه قاطبة، نقلها شيخ الإسلام الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء الثاني صفحة خمس وعشرين وأربعمائة 2/425 قال (وقد رجع الإمام أحمد عن ذلك رجوعاً أبان به عن نفسه ونقلها الإمام ابن القيم في كتاب (الروح) وشيخ الإسلام الإمام ابن تيمية -عليهم جميعاً رحمة ال-له في مجموع الفتاوى، واسمعوا هذه القصة في رجوع الإمام أحمد بن حنبل -رضوان الله عليهم أجمعين- عن قوله، القصة كما يرويها الإمام الخلال في جامعه وفي كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (باب قراءة القرآن عند القبور) أن الإمام أحمد كان مع أصحابه في زيارة لمقابر المسلمين فرأى ضريراً يقرأ على القبور فنهاه وقال: يا هذا القراءة عند القبر بدعة، فقال له تلميذه محمد بن قدامة الجوهري: يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي؟ وتقدم معنا هو الذي حدث بهذا الحديث ليحيى ابن معين أيضاً ما تقول في مبشر الحلبي؟ قال: ثقة، هل كتبت عنه؟ الإمام أحمد يقول لمحمد بن قدامة الجوهري: هذا ثقة، هل كتبت عنه؟ قال: نعم، حدثني مبشر الحلبي عن عبد الرحمن بن العلاء ابن اللجلاج عن أبيه أنه قال إذا مت، وذكر الأثر المتقدم ووضعتموني في اللحد فسنوا عليَّ التراب سناً وقولوا قبل ذلك: بسم الله وعلى ملة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- واقرءوا عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت ابن عمر يوصي بذلك ويستحبه) فقال الإمام أحمد -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- ارجع إلى الرجل فقل له يقرأ: أي إذا ثبت هذا عن شيخ المهاجرين عبد الله بن عمر رضوان الله عنهم أجمعين فما بقى كلام لي ولا لغيري، ارجع إلى الرجل فقل له يقرأ.(73/18)
إخوتي الكرام: هذا هو المنقول عن الصحابة من مهاجرين وأنصار وتبعهم على ذلك أئمتنا الأبرار الأخيار فهل يصح القول بعد ذلك بأن هذا بدعة؟ لا ثم لا. والإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الروح) تعرض لهذه المسألة - رحمة الله ورضوانه عليه - في أول الكتاب في صفحة عشرة صـ10 كما قلت يقول: (وقد ذُكِرَ عن جماعة من السلف أنهم أوصوا بأن يقرأ عند قبورهم وقت الدفن ولمن رأى بذلك قال عبد الحق يروى أن عبد الله بن عمر أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة وكان الإمام أحمد ينكر ذلك أولاً حيث لم يبلغه فيه أثر ثم رجع عن ذلك وكما قلت وهذا الكلام الذي ينقله الإمام ابن القيم والذي نقله أئمتنا عن الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله.(73/19)
وقال الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) : رخص فيها- يعني في القراءة على القبور - الإمام أحمد في الرواية الأخرى؛ لأنه بلغه أن ابن عمر أوصى بذلك، أن يقرأ على قبره بفاتحة البقرة وخاتمتها، وروي عن بعض الصحابة قراءة سورة البقرة، والقراءة عند الدفن مأثورة في الجملة، ويروي الإمام الخلال كما قلت في كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وفي كتاب (الجامع) وينقل هذا عنه الإمام ابن القيم أيضاً يقول عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني وهو من أئمة الشافعية الكبار ومن تلاميذ الإمام الشافعي توفي سنة ستين ومائتين للهجرة 260هـ -عليهم جميعاً رحمة الله- وحديثه مخرج في صحيح البخاري، والسنن الأربعة، قال: سألت الشافعي عن القراءة عند القبر فقال لا بأس بها،، فالشافعي يقرر هذا في كتابه وينقله عنه تلاميذه وينقله الخلال عن الزعفراني، وكما قلت الخلال توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة للهجرة 311هـ والزعفراني سنة ستين ومائتين 260هـ فبين وفاتهما وقت قصير والإمام الخلال أدرك من حياة الإمام الزعفراني ستاً وعشرين 26 سنة لأنه ولد سنة أربع وثلاثين ومائتين للهجرة 234هـ والإمام الخلال توفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة 311هـ ثم قال: وذكر الخلال عن الشعبي قال: كانت الأنصار إذا مات لهم الميت اختلفوا إلى قبره يقرءون عنده القرآن.
إخوتي الكرام: كما قلت هذه هي أقوال أئمتنا -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- في هذه المسألة فهل يصح بعد ذلك أن تقول: إنها بدعة وأن فاعل ذلك مبتدع؟! لا ثم لا، تحتمله الأدلة وينقل عن سلفنا ثم يوجد في هذا الحين من يبدع من يفعل ذلك ويصف هذا الفعل بالبدعة، هذا شطط نحو رسم البدعة وحدها وإدخال في البدعة ما ليس منها. كل ما احتمله الدليل، وقال به إمام جليل فقد خرج عن كونه بدعة.(73/20)
إخوتي الكرام: وعند الختام ختام الكلام على هذه المسألة أقول كلمة موجزة، إن القراءة ما أوجبها أحد وما قال إنها فرض وليس في فعلها حرج، فإن فعلتها فقد أحسنت وإلا فما عليك لوم ودع الأمة في سعة، وإذا كانت نفسك لا ترتاح إلى هذا فما أحد أوجب ذلك عليك، لكن اترك أمة النبي –صلى الله عليه وسلم- في بحبوحة وسعة كما نقل عن سلفها وكما قرر أئمتها ولا تصولن عليهم ما بين الحين والحين بالتبديع والتضليل والتخريف وقد شهد لصحة فعلهم نصوص الشرع المطهر وفعل السلف الكرام وقرر ذلك أئمة الإسلام.(73/21)
إخوتي الكرام: كما قلت ما أوجب ذلك أحد وما قال إنه فرض وليس أيضاً في فعله حرج ولذلك ينبغي أن تتسع صدورنا لهذا الأمر الذي قرره أئمتنا، كنت مرة في مدينة نبينا -عليه صلوات الله وسلامه- في زيارة موتى المسلمين من الصحابة فمن بعدهم -رضوان الله عليهم أجمعين- في البقيع وحضرت جنازة دفنت بعد صلاة الفجر في البقيع الطيب المبارك وبعد أن انصرف الناس وقف بعض أهل الموتى وأخرج مصحفاً يقرأ بصوت خافت لا يسمعه من بجواره فمر به بعض الناس وأنكر عليه وقال: هذه بدعة، وهذا ضلال وبدأ يتهجم عليه بالعبارات القاسية، فالرجل خاف وقال: جزاك الله خيراً ووضع المصحف في جيبه، لكنه تلقى هذا الحكم من شيوخه وهو على بينة من أمره ولم يترك ما هو عليه، لكنه لا يريد أن يدخل مع هذا المنكِِِر في جدال وقيل وقال، فبعد أن انصرف هؤلاء وهذا المنكِر وكانوا ثلاثة وقد كادوا أن يصلوا إلى باب البقيع ليخرجوا منه وقف الرجل مكانه وأخرج المصحف وبدأ يقرأ فعادوا إليه فأسمعوه من الكلام الغليظ والسب حقيقة ما لا ينبغي أن يقوله مسلم، فكيف في مدينة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فكيف مع الصحابة الكرام والموتى بعد ذلك من المسلمين في هذا المكان وأنا أراقب المشهد من أوله لآخره فدخلت معهم في الكلام قلت: إخوتي لم تنكرون؟ قالوا هذا بدعة وضلال ولا يجوز أن يفعل، قلت: ومن قال إنه بدعة؟ هل عندكم دليل من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- وكلام سلفنا في الزجر عن هذا؟ قالوا: أنت ما دليلك على الجواز؟ قلت هذا منقول عن سلفنا وفيه سعة إن شاء الله، قالوا عمن نقل؟ قلت نقل عن ابن عمر -رضي الله عنهما- والأثر ثابت عنه، قالوا: مذهب الصحابة ليس بحجة، قلت: قرره الإمام المبجل أحمد بن حنبل، وعلى هذا المذهب الحنبلي بكامله أن قراءة القرآن عند القبور جائزة، هذا في المغني، قالوا: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، فالإمام أحمد ليس بحجة.(73/22)
قلت ننتقل إلى القرن الثامن الإمام ابن تيمية الذي آلت أيضاً إليه أقوال السلف قال: إن القراءة عند القبور وقت الدفن مشروعة في الجملة ونقلت عن السلف. قالوا: ابن تيمية ليس بحجة. قلت: من الحجة؟ قالوا القرآن والسنة، قلت: على العين والرأس، نعم ما تحتكمون إليه، لا نريد الصحابة على حسب قولكم ولا أئمة الإسلام من متقدمين ومتأخرين كتاب وسنة، أنا وأنتم ما الدليل على المنع؟ هاتوا دليلاً، قالوا: قول الله في سورة (يس) {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (1) قلت: ما وجه الاستشهاد بهذه الآية وأن قراءة القرآن ممنوعة؟ قالوا: نزل القرآن لإنذار الأحياء ولا يجوز أن نقرأه على الأموات. قلت: ما رأيكم لو قرأناه على المرضى من أجل أن يحصل الشفاء لهم؟ فأجاب واحد منهم، قال: لا يجوز أن نقرأه على المرضى من أجل أن يحصل الشفاء لهم، قلت: يا عبد الله أنت خالفت القرآن والسنة الآن في هذه الفتيا أما قال الله {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (2) ؟
أما ثبت عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي ذكرته آنفاً [وما أدراك أنها رقية] وقد رقى أبو سعيد الخدري اللديغ بسورة الفاتحة، وأخذ ثلاثين رأساً من الغنم، فقال له من معه: هداك الله يجوز قراءة القرآن للرقية، قلت: يجوز أم لا؟ اثبتوا على قول، قال: يجوز، قلت: إذاً قول الله -جل وعلا-: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ} (3) .
__________
(1)) ) سورة يس: 70
(2)) ) سورة الإسراء: 82
(3)) ) سورة يس: 70(73/23)
نزل القرآن للإنذار ونزل للتبشير ونزل للاستشفاء به ولحصول البركة، نعم من أعظم مقاصده إنذار الأحياء ولكن ليس لذلك فقط، فلم تستدلون بالآية التي لا دليل فيها على وهمكم ? لكن قلت لهم: هذا القول سبقكم به من سبقكم من المعاصرين في هذه الأيام وأنتم ترددون كلامه تقليداً دون وعي ودون علم، ما وجه الاستدلال بهذه الآية على أنه لا يجوز قراءة القرآن على الموتى؟ ثم قلت: إخوتي الكرام اعرفوا قدركم فعل ينقل عن سلفنا ويقرره أئمتنا وكل واحد منكم يرفع صوته بين الموتى ويقول: لا يجوز، اتقوا الله في أنفسكم، فقام واحد منهم وقال كلمة لنرى إخوتي الكرام كيف ننحرف عن شريعة الله عندما لا نحكم شريعة الله في حياتنا وكم من إنسان يدعو إلى السنة وإلى السلفية وقد نبذهما وراء ظهره وكم من إنسان يدعو إلى تحكيم القرآن وقد جعل القرآن وراء ظهره، كم؟ قال لي بعد ذلك: يا عبد الله هذه بلادنا نفعل فيها ما شئنا إن أعجبك وإلا بعبارات قاسية كذا وكذا، قلت غفر الله لي ولكم جعلنا الله إخوة متحابين {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) .
ثم بعد ذلك أنتم جئتم تفصلون المؤمنين إلى هذه الفواصل يا عبد الله كنا نتكلم في مسألة ولو لم تسلموا بجوازها فغاية ما تقولون: إنني مبتدع وإذا كنت مبتدعاً لازلت ضمن دائرة الإسلام وأنا مسلم وأنتم مسلمون، أما الآن انفصلنا فما بقى رباط بيننا، قلت: يا إخوتي الكرام كنا نتكلم ضمن الإسلام خرجنا الآن إلى الكفر وأنا أقول إن هذا القول الجاهلي لا يقره العاقلون الصالحون في مدينة نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- ولا في أي مكان فالمؤمنون اخوة ونحن لا يحجز بين إخوتنا مع إخواننا شرقاً وغرباً لا حاجزً ولا حدً ولا قيدً ومن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته.
__________
(1)) ) سورة الحجرات: 10(73/24)
لكن كما قلت: انظر لمنطق الجاهلية عدم تسليم لأئمة الإسلام ثم يريد أن يرجع الأمة من أولها إلى آخرها لفهمه السقيم، ثم بعد ذلك كأنه يريد أن يخرج من حظيرة الدين، بلادنا وبلادك ونفعل وتفعل.
إخوتي الكرام: لابد كما قلت من أن نعي هذا الأمر ما احتمله الدليل وقال به إمام جليل خرج من رسم البدعة وإذا لم نقل بهذا فيبدع بعضنا بعضاً ويلعن بعضنا بعضاً ويريق بعضنا دماء بعض فاتقوا الله في أنفسكم وفي أمة نبيكم -عليه الصلاة والسلام-، ويترتب على هذه المسألة، مسألة التلقين إذا مات الميت نقوم على قبره ونلقنه بما سأذكره إن شاء الله، أما مسألة التلقين فقد ورد بها حديث ضعيف وكما قال أئمتنا في الفضائل يتسامح في الأحاديث الضعيفة والحديث الضعيف شهد له شواهد صحيحه هذا الدليل الأول حديث ضعيف يتسامح به أصالة ولو شاهد.
والدليل الثاني: فعل السلف في التلقين، فانتبه لهذه المسألة التي تترتب على المسألة الأولى.
أما الحديث -إخوتي الكرام- فقد رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، ورواه ابن منده في كتاب (الروح) ، ورواه الإمام الخلال أيضاً عن أبي أمامة -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: [إذا دفنتم الميت فقوموا عند رأسه فليقم أحدكم عند رأسه وليقل يا فلان ابن فلان فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان ابن فلانه فإنه يجلس قاعداً ثم ليقل يا فلان ابن فلانه يقول أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون ثم ليقل بعد الثالثة يا عبد الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا أنك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبياً ورسولاً وبالقرآن إماماً فإذا قيل له ذلك يقول منكر ونكير لبعضهما ماذا قعودنا عند رجلٍ قد لقن حجته فيفارقانه ويكون الله حجيجه دونهما فالله هو الذي يتولى الجواب وهو الذي يثبت الميت بعد ذلك في القبر] .(73/25)
هذا الأثر إخوتي الكرام إسناده ضعيف كما قرر أئمتنا وقال الحافظ في تلخيص الحبير الجزء الثاني صفحة ثلاث وأربعين ومائة 2/143 إسناده صالح وقواه الضياء المقدسي في أحكامه وله شواهد وهذا ما قرره أئمة الإسلام كالإمام النووي، وابن القيم، وابن تيمية -عليهم جميعاً رحمة الله- ومن شواهد هذا الأثر ما سأذكره فانتبهوا له إخوتي الكرام.(73/26)
الشاهد الأول: ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم عن عمرو ابن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- في حالة احتضاره عندما احتضر وكان التابعون والصحابة معه في حال السياق فبكى -رضي الله عنه- طويلاً وكثيراً ثم حول وجهه إلى الجدار وهو يبكي فقال له ولده عبد الله يا أبتاه ما يبكيك أليس قد بشرك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بكذا وكذا فأقبل على الحاضرين بوجهه وقال (إن أفضل ما نُعِد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ثم قال: كنت على أطباق ثلاثة الحالة الأولى التي كان عليها: رأيتني أشد الناس بغضاً للنبي -عليه الصلاة والسلام- وكنت أتمنى أن أتمكن منه لأقتله وهي الحالة الأولى، قال ثم جعل الله الإسلام في قلبي فجئت إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فقلت: يا رسول الله مد يدك ابسط يدك فلأبايعك فمد النبي -عليه الصلاة والسلام- يده، فقبضت يدي قال: مالك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أريد أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي ما مضى من حياتي الجاهلية تزيد على عشرين سنة يقاتل النبي -عليه الصلاة والسلام- وأسلم في العام الثامن من الهجرة بعد بعثة نبينا -عليه الصلاة والسلام- بواحد وعشرين سنة، أريد أن يغفر لي قال: يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟ قال عمرو بن العاص فما كان أحد أحب إلي من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وما كان أحد أحلى في عيني منه. والله ما استطعت أن أملأ عيني من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إجلالاً له ولو قيل لي صفه لما استطعت أن أصفه لأنني لم أملأ عينيَّ من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فلو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة، هذه هي الحالة الثانية.(73/27)
قال: ثم ولينا أعمالاً ما أدري حالنا فيها وهي الطبقة والحالة الثالثة التي يتصف بها عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- ثم قال لولده وللحاضرين إذا أنا مت فلا يصحبنيّ نار ولا نائحة وإذا دفنتموني فسنوا عليَّ التراب سناً ثم أقيموا عند قبري) وهذا في صحيح مسلم قدر ما ينحر جزور ويوزع لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر بماذا أراجع به رسل ربي بعد الدفن أقل شيء تقيمون عند قبري بمقدار ذبح الجزور وتوزيع لحمها وهذا أقل ما يكون ساعة وإذا جلس الناس هذه الساعة ماذا سيفعلون؟ سيتكلمون في حديث الدنيا يقرءون القرآن ويصلون على النبي -عليه الصلاة والسلام- يسألون له التثبيت يدعون له؟ فأقيموا عند قبري بمقدار ما تنحر جزور ويوزع لحمها.
قال شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين -عليه رحمات رب العالمين- في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن في الجزء الرابع صفحة سبع وثلاثين وأربعمائة 4/437 وهذا الأثر عن عمرو ابن العاص له حكم الرفع إلى نبينا -عليه الصلاة والسلام- فنحن نجزم ضرورة بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أعلم أمته وأصحابه أن الميت يستأنس بأصحابه عندما يكونون حوله، هذا كلام عمرو، وعمرو لا يمكن أن يقول هذا من قبل رأيه إنما هذا تلقاه من النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا له حكم الرفع لا يجوز لصحابي أن يتكلم في مُغَيّب من طريق رأيه واجتهاده وتخرصه فكأن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لأمته: إذا [دفن الميت اجلسوا عنه وأقيموا عنده هذا المقدار من أجل أن يستأنس بكم من أجل أن يحصل له تثبيت بحضوركم] كيف لا وإذا كنا نصلي عليه ونطلب له الشفاعة فلنواصل هذه الشفاعة بعد ذلك ورحمة الله -جل وعلا- واسعة، هذا الشاهد الأول وكما قلت هو في المسند وصحيح مسلم.(73/28)
والشاهد الثاني: رواه الإمام أبو داود، والحاكم في المستدرك، والبهيقي في السنة، والبزار، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وقال الإمام النووي في المجموع إسناده جيد عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأرضاه عن ذي النورين قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف على شفير القبر وقال [استغفروا لأخيكم وسلوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل] والحديث إسناده صحيح كالشمس وضوحاً وسطوعاً [استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل] إذاً عندما نلقن الميت فهذا من جملة تثبيته، فذاك الأثر الذي كما قلت إسناده ليس بالقائم وابن حجر يقول إسناده صالح يشهد له أثر عمرو ويشهد له حديث عثمان -رضي الله عنهم أجمعين- ونقل مثل هذا آثار كثيرة من سلفنا الكرام رواها سعيد بن منصور وغيره في سننه بأن يحصل تثبيت للميت عند جلوس الناس حوله وعند تلقينهم له لا إله إلا الله محمد رسول الله ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد -عليه الصلاة والسلام-.
إخوتي الكرام: هذا الأمر كما قلت الذي نقل عن هؤلاء السلف ويشهد لذلك الحديث نقل أيضاً عن السلف الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- وقرروه واستحبوه.(73/29)
الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) في الجزء الرابع والعشرين صفحة تسع وتسعين ومائتين 24/297 يقول: (وهذا التلقين فعله أبو أمامة من الصحابة وفعله واثلة بن الأصقع -رضي الله عنهم أجمعين- وغيرهما هذا كلام الإمام ابن تيمية بالحرف والتحقيق أنه جائز يجوز أن نلقن الميت وهذا ثبت عن أبي أمامة وثبت عن واثلة بن الأصقع وقال مثل هذا في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الحجيم) في صفحة ست وعشرين وثلاثين صـ 326 بأن التلقين جائز ونقل عن السلف الكرام وهذا الذي اختاره قال أكثر الحنابلة وقرره علماء الإسلام وهذا هو الموجود في المغني ونقله من القاضي أبى يعلى وأبي الخطاب، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام الإمام النووي -عليهم جميعاً رحمة الله-، وهو الذي قرره الإمام ابن القيم في كتاب (الروح) فقال -رحمه الله ورضوانه عليه- في صفحة ثلاث عشرة صـ 13 قال كلاماً ينبغي أن نعيه في هذه الأيام لنرى حال من يبدع من يفعل ذلك ويتهجم على سلفنا الكرام يقول الإمام ابن القيم: ويدل على هذا أي أن الميت يستبشر بزيارة الحي ويسمعه ويسمع ما يجري حوله ما جرى عليه على الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً وقد سئل عنه الإمام أحمد -رحمه الله- فاستحسنه واحتج عليه بالعمل، أي: الإمام أحمد يستحسن التلقين ويقول عمل المسلمين عليه ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة، وكما قلت رواه ابن منده، ورواه الخلال وغيرهم -عليهم جميعاً رحمة الله- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: [إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول يا فلان ابن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية فإنه يستوي قاعداً ثم ليقل يا فلان ابن فلانة يقول أرشدنا رحمك الله ولكنكم لا تسمعون فيقول أذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله(73/30)
إلا الله وأن محمد رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ –صلى الله عليه وسلم- نبياً وبالقرآن إماماً فإن منكراً ونكير يتأخر كل واحد منهما ويقول انطلق بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله حجيجه دونهما] فهذا الحديث، هذا كلام ابن القيم -عليه رحمة الله- وإن لم يثبت: أي من حيث السند فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير نكير كافٍ في العمل به، وما أجرى الله العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها وهي أكمل الأمم عقولاً وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ولا يعقل وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنة الأول للآخر ويقتدي فيه الآخر بالأول ثم ذكر الشواهد له أثر عثمان الذي تقدم معنا وأثر عمرو بن العاص -رضي الله عنهم أجمعين-.
وهذا إخوتي الكرام هو الذي قرره كما قلت أئمة الإسلام يقول الإمام النووي في (المجموع) وفي (الروضة) وفي (الأذكار) هذا التلقين استحبه جماعة كثيرون من أصحابنا، قال الإمام ابن الصلاح: هو المختار وهو الذي نعمل به ثم قال: روينا فيه حديثاً وهو حديث أبي أمامة الذي تقدم معنا وليس إسناده بالقائم لكن اعتضد بشواهد ويعمل به أهل الشام قديما، قلت القائل هو الإمام النووي: وإن كان الحديث ضعيفاً فيستأنس به وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب وقد اعتضد بشواهد من الأحاديث منها حديث سلوا الله له التثبيت، ومنها وصية عمرو وهما أثران صحيحان ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا في زمن من يقتدي به وإلى الآن، وكما قلت هذا الذي قرره سائر أئمة الإسلام -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- وشيخنا المبارك كما قلت في أضواء البيان بعد أن بحث في هذه المسألة إخوتي الكرام ونقل نصوص أئمة الإسلام في قرابة ثلاث صفحات في مشروعية التلقين واستحبابه. قال وإيضاح كون الشواهد تشهد للتلقين أن حقيقة التلقين مركب من أمرين.(73/31)
الأول: كون الميت يسمع ما يقال عنده.
الثاني: كون الميت ينتفع بالتلقين.
قال وكل من الأمرين ثابت في الجملة، أما أن الميت يسمع ما يجري حوله فهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة ولا ينكره إلا مكابر ضال.
ثبت في المسند، والصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي من رواية أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [إن الميت إذا قبر وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم محمد -عليه الصلاة والسلام-، فأما المؤمن فيقول هو عبد الله ورسوله آمنا به واتبعناه، فيقولان له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري، أقول ما قال الناس فيقولان لا دريت ولا تليت فيضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه يصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين] والحديث كما قلت في الصحيحين، يسمع قرع النعال، والحديث رواه الإمام أحمد، وأبو داود عن البراء بن عازب [يسمع خفق نعالهم] ، ورواه الإمام أحمد أيضاً، والبزار، والطبراني في معجمه الأوسط، وفي صحيح ابن حبان أيضاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن ابن عباس -رضي الله عنهم أجمعين-[أن الميت يسمع خفق النعال وقرع النعال] فإذا سمع الميت قرع النعال ألا يسمع صوت الفم إذا لقناه وقلنا يا عبد الله [اذكر ما خرجت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله-عليه الصلاة والسلام-] ،، الذي يسمع قرع نعلك ألا يسمع صوت فمك، إنه يسمع هذا من باب أولى.(73/32)
والأمر الثاني: انتفاع الميت بالتلقين، هل ينتفع؟ قال شيخنا كما قلت: كل من الأمرين ثابت في الجملة، فإذا شرع لنا نبينا -عليه الصلاة والسلام- الدعاء له بالتثبيت وقلنا إن الحديث صحيح، لماذا هذا؟ لينتفع به وليحصل الخير له، فإذا كنا نسأل الله له التثبيت وينتفع بسؤالنا فنلقنه وينتفع بتلقيننا، فكما انتفع بذلك القول ينتفع بهذا القول، وكما سمع قرع النعال يسمع صوت الفم، كل من الأمرين ثابت كما قلت في الجملة فعلام الإنكار؟ وأريد أن أعلم -إخوتي الكرام- أي بدعة تحصل لو أن الإنسان عندما يقبر وقف الحاضرون وقالوا هذا الكلام الموجز بهذا الكلام المحكم، يا عبد الله أذكر ما خرجت عليه من الدنيا أنك تشهد أن
لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، أي بدعة في ذلك يا من تخرفون وترمون من يفعل هذا بالبدعة، أي بدعة وأي لفظ فيه محظور، ثم يا عبد الله أذكر أنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- نبياً وبالقرآن إماما، والله إن هذا الكلام إن لم ينفعه فلن يضره ولن يرتكب أحد من الحاضرين حرجاً، وأنا أعجب غاية العجب كيف ترك الناس هذا.
إخوتي الكرام: من أثر لفظ ينتشر هنا وهناك ولا صحة له وهذا الذي قرره أئمتنا وهذا الموجود في كتب علمائنا وهذا الذي نقل عن سلفنا -رحمة الله عليهم أجمعين- إذا كان شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية قد قال بعد أن آلت إليه هذه الأقوال: هذا والتحقيق أنه جائز، يأتيك من يأتيك في هذه الأيام ويقول: وإن قال الإمام ابن تيمية إن التلقين جائز فهو بدعة، قال الإمام ابن تيمية جائز أو لم يقل لا علاقة لنا به، لم بدعة؟ ما الدليل؟ هل ورد نهي عن ذلك إخوتي الكرام؟
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يحسن ختامنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(73/33)
وأما المسألة الثالثة: التي تتعلق أيضاً بزيارة القبور، ألا وهي سماع الموتى وانتفاعهم بما يجري حولهم من خيرات وطاعات أترك الكلام عليه للموعظة الآتية لتحقيق الكلام واستعراض أدلة القرآن وأحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- التي تقرر هذا القول.
أسأل الله إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان إنه رحيم رحمن ذو الجلال والإكرام.
أقول هذا القول واستغفر الله،،،
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام: لوضع الأمر في نصابه وفي موضعه، ما كان بدعة -كما قلت- نقول إنه بدعة، وما ورد النهي عنه فلا يجوز لأحد أن يبيحه، لكن ما احتملته الأدلة الشرعية وقاله علماء الشريعة الإسلامية، فتأدب معهم سواء فعلت ذلك أو لم تفعل، نعم ما كان منكراً ننكره وإن فُعل من قبل من فعل وقد نلتمس عذراً للفاعل لنسقط اللوم عنه لا لنحتج بفعله، فاستمع لما يقوله أئمتنا نحو هذا الحكم الموجز (القبر لا يجوز أن يجصص ولا أن يبنى عليه ولا يجوز أن يكتب عليه وقد ثبت ذلك عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-) فلا كلام لمتكلم بعد ذلك.(73/34)
ثبت في صحيح مسلم، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربعة، والحديث في المستدرك، وسنن البيهقي، ورواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم-[نهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه] لا يجوز أن يجصص ولا أن يبنى ولا أن يقعد على القبر، زاد أهل السنن والحاكم في المستدرك والبيهقي والطحاوي [وأن يكتب عليه] ، لا يجوز الكتابة على القبر وما يكتب من آيات قرآن ومن مواعظ ومن أبيات أشعار كلها بدعة وضلال، فما كان بدعة فهو بدعة وما لا يدخل في رسم البدعة لابد من أن نقف عند حدنا، انتبه لكلام الحاكم في المستدرك ولتعليق أئمتنا على كلامه قال الحاكم بعد أن ذكر هذا الحديث قال (وهذه أسانيد صحيحة وليس العمل عليها فإنه لم يزل يكتب على القبور أئمة المسلمين في الشرق والغرب) كأنه يريد أن يقول هذه أحاديث وإن نهت عن الكتابة على القبر فقد كتب على قبور أئمتنا، فإذاً ليس العمل على هذه الأحاديث لا ثم لا.
فاستمع لتعليق الذهبي ولكلام أئمتنا قال الذهبي (قلتُ ما قلتَ طائلاً أي ما قلتَ كلاماً معتبراً له وزن يقبل ما قلتَ طائلاً وهل فعل ذلك صحابي؟ هل هذا الفعل فعله أحد الصحابة الكرام، إنما فعل ذلك بعض التابعين ممن لم يبلغهم النهي واقتدى بهم بعض المتأخرين فإذا فعل هذا ممن لم يبلغه النهي غاية ما نقول إن شاء الله لا يعاقب لأنه لا يعلم النهي لكن هذا الفعل لا يجوز، أما أن يقال هذا، كتب على قبور أئمة المسلمين فليس العمل إذاً على ما ثبت عن نبينا الأمين -عليه الصلاة والسلام-، لا ثم لا.(73/35)
وكما قلت نزل بالقسطاس المستقيم، لا بد من التفريق بين ما هو بدعة وما قال أئمتنا إنه بدعة، وهذا ما هو مقرر في كتب المذاهب الأربعة لا يكتب على القبر ولا يرفع ولا يبنى ولا يجصص وعليه إذا قال قائل كتب على قبور بعض أئمة المسلمين نقول ما قلت طائلاً إما أنه فعل هذا بغير علمه ولو قدر أنه أوصى أن يكتب شيء على قبره لعله ما علم النهي أو علمه ونسيه وذهل عنه فهو إن شاء الله معذور، لكن لا يقتدى به في هذا العمل المرذول، هذا عمل يخالف شريعة النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يعول على عمل أحد كان، فلابد من التفريق إخوتي الكرام بين ما شهد له الدليل وقال به إمام جليل وبين ما نهانا عنه نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، ثم فعل في العصور المتأخرة فلا يجوز أن نحتج بفعل المتأخرين لنلغي كلام نبينا الأمين -عليه الصلاة والسلام-، وكما قلت نزن الأمور بالقسطاس المستقيم فما ضاد السنة الثابتة ما رفعها ما رغمها ما ألغاها هو بدعة ضلال ممن صدر، نعم قد يكون لفاعله عذر عند ربه لكن نحكم على هذا الفعل بأنه بدعة وبأنه لا يجوز وبذلك كما قلت نكون من المقتصدين المعتدلين لا نُفْرِط ولا نُفَرِّط.
نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وأن يرزقنا كلمة الحق في الغضب والرضا، وأن يرزقنا القصد في الغنى والفقر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(73/36)
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
وصلِّ الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، والحمد لله رب العالمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (1)
__________
(1)) ) سورة الإخلاص: 1 - 4(73/37)
فضل النفقة الواجبة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
فضل النفقة الواجبة
17
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عيه ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين مشرع لنا ديننا قويماً وهدانا صراط مستقيم وأصبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌ في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبياً محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيننا عمياً وأذاناً صماً وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا من أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) آل عمران: 102(74/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة المسلمين..
أحب البقاع إلى الله جل وعلا وأفضل البقاع في هذه الأرض المساجد فهي بيوت الله وفيها نوره وهداه وإليها يؤوي المؤمنون الموحدون المهتدون وقد نعت الله من يأوي إلى بيوته بأنهم رجال ثم وصفهم بأربع خصال لا تلهيهم الدنيا- ويذكرون الله ويصلون له ويشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم ثم يستعدون بعد ذلك للقاء ربهم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
وقد تدارسنا إخوتي الكرام الصفتين الأوليين من صفات هؤلاء الرجال أن الدنيا لا تلهيهم وأنهم بعد ذلك يصلون لله جل وعلا ويعظمونه ويعرفون حقوق الله عليهم وكنا نتدارس الصفة الثالثة ألا وهي إيتاء الزكاة وقد مضي الكلام على هذه الصفة في موعظتين اثنتين مضى الكلام على سبب اقتران الزكاة بالصلاة – في هذا الموضع وعلى فريضة الزكاة ووجوبها وعلى التحديد من عدم إخراجها.
ثم تدارسنا بعد ذلك إخوتي الكرام النفقات التي أوجبها الله على أهل الإسلام من زكاة واجبة ومن نفقات على الأهل ومن حقوق واجبة طارئة تجب على الإنسان إذا تعينت.
__________
(1) سورة الأحزاب 70، 71
(2) سورة النور: 36، 37(74/2)
وسنتدارس في هذه الموعظة إن شاء الله فضل النفقة الواجبة وإذا مد الله في أعمارنا نتدارس في الموعظة الآتية فضل الصدقة المندوبة ثم ننتقل بعد ذلك إلى مدارسة الصفة الرابعة من صفات هؤلاء الرجال الأبرار عباد الله إخراج النفقة الواجبة له أجرٌ عظيم – عند رب العالمين فمن فعل هذا لن يخاف مما يستقبله ولن يحزن على ما يخلفه وقد ضمن الله له أجره عنده كما قرر ربنا جل وعلا هذا في سورة البقرة فقال بعد أن حذر من الربا وزجر عنه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} - {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) .
فمن أعطى الزكاة ودفعها كما أوجب الله وشرعها له أجرٌ عظيم عند رب العالمين فالتمرة الواحدة كما تقدم معنا يبارك له فيها وهكذا اللقمة حتى تكون أكبر من جبل أحُد {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فما يستقبله من شدائد ومكروهات فالله سيتولى أمرهم ويدخلهم نعيم الجنات ولا هم يحزنون على ما يخلفونه من مالٍ وأهل وولد فالله وكيلهم على ذلك وهو خير الحافظين سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
__________
(1)) ) سورة البقرة: 276، 277
(2)) ) سورة البقرة: 276، 277(74/3)
وقد ذكر الله جل وعلا في مطلع هذه السورة الكريمة أعني سورة البقرة أن من صفات المتقين أنهم يخرجون الحق الواجب من أموالهم كما شرع رب العالمين {الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (1) .
فمن صفات هؤلاء الأخيار أنهم يخرجون من أموالهم ما أوجبه عليهم العزيز الغفار {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وهذا شامل لأمرين اثنين كما ذهب إلى ذلك شيخ المفسرين الإمام الطبري عليه رحمة الله شامل لإخراج الزكاة الواجبة وشاملٌ لإخراج النفقة الواجبة على النفس والزوجة والأولاد ويفهم من كلام الإمام ابن كثير الميل إلى هذا والآية تشمل هذا قطعاً وجزماً لكنها تدل على ما هو أوسع من هذا كما ذهب إليه الإمام القرطبي عليه رحمة الله فالآية تشمل النفقات الواجبة الثلاثة تشمل الزكاة الواجبة ذات النصب المحددة المقدرة. تشمل النفقة الواجبة على النفس والأهل والولد كما تشمل الحق الطارئ على الإنسان في حالة كما تشمل النفقة المستحبة المندوبة مغموم اللفظ شامل لجميع هذا ومما رزقناهم ينفقون من واجبات ومستحبات عبادة الله وإنما كان لإنفاق المال هذه المنزلة عند ذي العزة والجلال فله أجر عظيم عند الله ولا يخاف مما يستقبله ولا يحزن على ما يخلفه وهو من عباد الله المتقين إنما كان الأمر كذلك لأن المال محبوب محبوب إلى النفس هو محبوب ومرغوب ومن أجله كره كثيراً من الناس لقاء علاّم الغيوب وركنوا إلى هذه الحياة من أجل هذه الدريهمات وعليه.
__________
(1)) ) سورة البقرة: 1- 5(74/4)
إخراج هذا المال حقيقة برهان على محبة ذي العزة والجلال فالإنسان عندما يخرج هذا المال كما شرع ربنا جل وعلا ببرهان ذلك على محبته لربه جل وعلا فلا يترك الإنسان محبوباً إلا كما هو أحب عنده لديه فإذا ترك هذا المال وهو محبوب عند النفس دل على أن محبته لله جل وعلا هي المحبة الحقيقية الكاملة وأما هذا المال فلا يتصرف فيه إلا كما يريد ذي العزة والجلال والصدقة ببرهان وفيها تزكية لنفس الإنسان ولذلك إذا أردت أن يرق قلبك وأن يخشع وأن تكون محبوب عند الله جل وعلا فأكثر من هذه الصدقة.
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكى إليه قسوة القلب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ضع يدك على رأس اليتيم وأطعم المسكين والحديث صحيح إخوتي الكرام إذا أرت أن يرق قلبك لا طف اليتيم وأحنو عليه واشفق عليه فضع يدك على رأسه براً ومآنسه وملاطفة وأطعم بعد ذلك المساكين إذا أرت أن يرق قلبك ضع يدك على رأس اليتيم وأطعم المسكين.
نعم إخوتي الكرام: إن من يتصدق ويبذل المال في سبيل ذي العزة والجلال وكما شرع الله جل وعلا يدفع غضب الله عنه ويحصل له رضى الله جل وعلا كما ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حبان والحديث حسن من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء " –الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء فيذهب غضب الله عنك عندما تتصدق ويجعل لك رضاه ثم بعد ذلك تحفظ منه ميتة السوء التي تسوؤك في العاجل والآجل. الصدقة تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء.(74/5)
أخوتي الكرام: قد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن من أسباب دخول الجنة ومن شروط دخولها إيتاء الزكاة كما شرع الله جل وعلا وأوجب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبين هذا في المواسم العامة الجامعة لأن هذه الأمة شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام وهي إحدى دعائم الإسلام التي يقوم عليها ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وصحيح بن حبان ومستدرك الحاكم وإسناد الحديث صحيح عن أبي أمامه الباهلي رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في حجة الوداع أيها الناس اتقوا الله اتقوا الله وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعوا ذا أمركم تدخلون جنة ربكم أداء الزكاة سبب لدخول الجنة ولحصول رضوان الله أدوا زكاة أموالكم وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمن حافظ على الزكاة وغيرها من شعائر الإسلام بأن له أجر الصديقين عند رب العالمين.
ثبت في مسند البزار وصحيح بن خزيمة وصحيح ابن حبان وإسناد الحديث صحيح كالشمس من رواية عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه وأرضاه قال جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأخرجت الزكاة وصمت رمضان وقمته أين أنا – وممن أكون فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت من الصديقين والشهداء إذا شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ثم بعد ذلك صليت الصلوات الخمس صمت رمضان وقمته أخرجت الزكاة أنت من الصديقين والشهداء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرر هذا في أحاديثه الكثيرة فإذا سأل عليه صلوات الله وسلامه عما يدخل الجنة وعما يقرب إليها وعما يكون سببا لدخولها كان يبين عليه صلوات الله وسلامه إن إخراج الزكاة سببا لدخول الجنة.(74/6)
ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، عباد الله إيتاء الزكاة وإخراجها سبب لدخول جنة الله جل وعلا وسبب لرضوان الله جل وعلا.
والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة منها ما ثبت في سنن النسائي وابن ماجه والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حبان في صحيحه أيضاً والحاكم في مستدركه وإسناده الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين قالا خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته عليه صلوات الله وسلامه والذي نفسي بيده ثلاثاً ثم أطرق النبي صلى الله عليه وسلم وسكت قال أبو هريرة وأبو سعيد رضي الله عنهم أجمعين فأكب كل واحد منا يبكي حزناً على يمين رسول الله صلوات الله وسلامه ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه نرى في وجهه البشرى فقال عليه الصلاة والسلام ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية وقيل له أدخل بسلام وإذا صلى الصلوات الخمس صام رمضان إخراج زكاة ماله اجتنب بعد ذلك السبع الموبقات من الشرك بالله ومن السحر ومن قتل النفس ومن عقوق الوالدين ومن أكل مال اليتيم وأكل الربا ومن التولي يوم الزحف ومن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.(74/7)
كما ثبت التنصيص على ذلك من قوله خير البريات عليه صلوات الله وسلامه في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين من فعل هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية وقيل له أدخل بسلام أخوتي الكرام هذا فيما يتعلق بإخراج الزكاة الواجبة من فضلٍ عظيم أوجبها الله علينا فيها تطهير لنا من رذيلة البخل والتعلق بهذه الدنيا فيها مواساة لعباد الله وربط بيننا وبين عباد الله جل وعلا برباط المحبة والود والوئام فيها بعد ذلك أجرٌ عظيم عظيم عند ذي العزة والإكرام فسبحانه أعطانا المال وسبحانه وشرع لنا ما يطهرنا من أرذل الخصال وما يؤلف بين قلوبنا وسبحانه كيف رتب بعد ذلك أجوراً عظيمة على إخراج هذا المال.
إخوتي الكرام: وكنا أن هذا الأمر يجب للإنسان عندما يخرج الزكاة الواجبة فهذا الأمر أيضاً يجب عليه أيضاً وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان الفضل العظيم الكثير لمن أخرج هذه الحقوق الطارئة إذا وجبت عليه فأجره أعظم. ماذا لم تجب وإذا لم تجب عليه فله أجر أيضاً عظيم كما سيأتينا في الموعظة الآتية عند بيان فضل النفقة المستحبة المندوبة عبادة الله مما ورد من أجر على الحقوق الطارئة التي تطرأ عليك غير الزكاة الواجبة ما ثبت في المسند والكتب للسنة عدا سنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالقائم الليل والصائم النهار. أي له أجر المجاهد في سبيل الله وله أجر الذي يقوم الليل ولا يفطر وله أجر الذي يصوم النهار ولا يفطر فإذا تعينت عليك مساعدة يتيم مساعدة مسكين لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين وإذا لم يتعين إنما قمت به تطوع فلك هذا الأجر أيضاً وفضل الله عظيم عظيم.(74/8)
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأجر العظيم الذي يحصله من يكفل اليتيم ويحسن إلى المسكين في هذه الحياة ففي صحيح البخاري والحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي وهو في مسند الإمام أحمد من رواية سهل بن سعد الساعدي رضي الله عن الصحابة أجمعين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين. وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بالسبابة والوسطى وفرج بينهما أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى وفرج بينهما عليه صلوات الله وسلامه والأحاديث في ذلك كثيرة وهذا اليتيم إذا قمت بكفالته لك هذا الأمر سواء كان يتيم لك من قرابتك وتجب نفقته عليك أو سواء كان يتيم من غير قرابتك وتجب نفقته عليك أو لا تجب لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين.
ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه والحديث رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى كافل اليتيم له أو لغيره كان هذا اليتيم مما تجب عليه نفقته وهو من قرابته كما لو كان هذا اليتيم أخٍ لك فمات أبوك وأنت قمت على كفلته ورعايته أو كان هذا اليتيم بعيدٍ عنك ليس بينك وبينه صلة نسب إنما بينكم صلة الإسلام ومساعدة في دين الرحمن كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو في الجنة كهاتين وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى السبابة والتي تليها إخوتي الكرام وإذا تعينت كافله اليتيم على الإنسان وكان ضعيفاً فبذل جهداً في كاملته مع ضعفه له أجراً لا يخطر ببال أحد عند الله جل وعلا.(74/9)
ثبت في مسند أبي يعلي بسند حسن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أول من يفتح باب الجنة غير أني أرى امرأة تسابقني أرى امرأة تبادرني تريد أن تسبقني وأن تدخل قبلي فأقول لها ويحك من أنت فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي سبحان الله. سبحان الله تساوي نبينا عليه الصلاة والسلام في دخول الجنة لهذا الأمر الذي قامت به أنا امرأة قعدت على أيتام لي. أنا أول من يفتح أبواب الجنة غير أني أرى امرأة تبادرني فأقول لها ويحك من أنت فتقول أنا امرأة قعدت على أيتام لي والحديث كما قلت اسناده حسن وقد روى في سنن أبي داود من رواية عوف بن مالك رضي الله عنه بإسنادٍ فيه ضعف ويشهد له الأثر المتقدم عن أبي هريرة رضي الله عنه في مسند أبي يعلي ولفظ رواية أبي داود عن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنا وامرأة سفعاء الخدين في الجنة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى امرأة آمت من زوجها أي تأيمت ومات زوجها وهي ذات منصب وجمال فحبست نفسها على أولاداً لها صغاراً حتى ماتوا أو بانوا. ففرج عنها بزواج أو حسن حال هذه هي والنبي عليه صلوات الله وسلامه في الجنة كهاتين كما بين لنا النبي عليه الصلاة والسلام وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المرأة السفعاء الخدين أن في خديها كدرة وتغير وفيهما كُمدٌ أي ليس فيهما طراوة ولا بهجة ولا لينة لشدة العيش التي تقاسيه وتتحملها مع أولادها ولا يوجد من تتزين له فعندما تحملت شدة في هذه الحياة عوضها الله نعيم عظيم لا ينفذ بعد الممات وامرأة سفعاء الخدين عباد الله هذا أجرٌ عظيم أيضاً على النفقة الطارئة التي تجب عليك من يتيم قريب ينبغي أن تقوم به أمر من يتيم غريب ليس بينك وبينه قرابة في نسب لكن تعينت عليك مساعدته لعدم وجود من يكفله فكل هذا مما تحصل عليه هذه الأجور العظيمة عند الله جل وعلا.(74/10)
وأما النفقة على الأهل من زوجة وأولاد ووالدين وغيرهما مما يجب عليك أن تنفق عليهم ففي ذلك أيضاً أجرٌ عظيم ثبت في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث إسناده حسن عن المقدام بن مسعد كرب رضي الله عنه يقول: "ما أطعمت به نفسك فهو صدقة وما أطعمت به زوجتك فهو صدقة وما أطعمت به ولدك فهو صدقة وما أطعمت به خادمك فهو صدقة". طعام واجب ينبغي أن تأكله وأن تقدمه إلى من تجب عليك نفقتهم ومع ذلك ضمن الله لنا هذا الأجر العظيم على هذه النفقة الواجبة التي نقدمها للزوجة والولد والخادم ولهذه النفس فعندما تطعم نفسك وأهلك لك صدقة عظيمة عند الله جل وعلا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن من يسعى في هذه الحياة ليُعف نفسه أو ليطعم أبويه أو لينفق على أولاده فلا ينقص أجره عن أجر المجاهد في سبيل الله جل وعلا.
ثبت في معجم الطبراني الكبير والحديث في درجة الحسن عن كعب بن عجزة رضي الله عنه وأرضاه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر علينا رجل فأعجب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من جلده ونشاطه فقالوا ليت هذا يكون في سبيل الله أي ليته يخرج في القتال وفي الغزوات وفي السرايا فقال عليه الصلاة والسلام إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أولاد له صغار فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها في سبيل الله وإن كان خرج رياء وبطرا فهو في سبيل الشيطان، إذا عندما يحصل مالاً وينفق به نفقته واجبة على نفسه على عياله على والديه له أجر المجاهد في سبيل الله وله على هذه النفقة أجر عند الله جل وعلا والأحاديث في ذلك إخوتي الكرام كثيرة كثيرة فطيبوا نفساً بما تزكو وطيبُ نفس بما به تساعدون وطيب نفس بما تقدمونه إلى أهليكم وتنفقون.(74/11)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا سعد إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك حتى ما تطعم به امرأتك حتى في أوقات المداعبة والملاعبة لوضعت في فمها حبة عنب فلك أجر عظيم عند رب العالمين: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (1) .
إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك نعم إخوتي الكرام يؤجر الإنسان على ما ينفقه على أهله وهذا له أجر عظيم يفوق على أجر الصدقة النافلة عند رب العالمين لأن هذا نفقة واجبة. هذا حق واجب وأجر الواجب أكثر من أجر التطوع بكثير وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن كل ما يقدمه الإنسان إلى أهله وأولاده يؤجر عليه حتى الماء عندما يشربون.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير ورواه البخاري في التاريخ الكبير والحديث حسن لشواهده وتعدد رواياته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرجل إذا سقى أهله الماء أجر إن الرجل إذا سقى أهله الماء أجر".
قال العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه فذهبت إلى زوجي وسقيتها الماء وأخبرتها بما سمعته من خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه إن الرجل إذا سقى أهله الماء أجر إخوتي الكرام وقد كان السلف الصالح يدركون هذا المعنى ويعلمون أن النفقة على الأهل يؤجر عليه الإنسان فكانوا يبذلون هذا المال في النفقة على العيال تقرباً لذي العزة والجلال.
__________
(1)) ) سورة الزلزلة: 7، 8(74/12)
أخرج الإمام أحمد في المسند والطبراني في معجمه الكبير والحديث رواه أبو داود والطيالسي في مسنده وأبو يعلى في مسنده أيضاً وإسناده حسن عن عمرو بن أمية الضمري وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قال مر رجل بمرط " وهو الكساء الذي تلبسه المرأة من صوف أو خز" على عثمان بن عفان أو على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين على واحد منهما فكأنه استغلاه فلم يأخذه فاشتراه عمرو بن أمية الضمرى فسأله بعد ذلك عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين ماذا فعلت بالمرط الذي ابتعته قال تصدقت به على سُخيلة بنت عبيدة بن الحارث وهي زوجته فقال له عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين كل ما تصنعه إلى أهلك صدقة – يعني إذا أعطيتها مرط وقدمت لها غذاء وماء هذا صدقة وأنت تقول تصدقت به على سخيلة قال نعم سمعت ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عثمان أو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له قول عمرو بن أمية الضمرى يا رسول الله يقول إنك كل ما صنعته إلى أهلك أي يصنعه المؤمن مع أهله فهو صدقة فقال عليه الصلاة والسلام صدق عمرو كل ما تصنعه إلى أهلك صدقه عليهم. ما تقدمه من مرط من طعام من شراب كل هذا تُثاب عليه عند الكريم الوهاب سبحانه وتعالى- سبحان الله نفقة واجبة إذا تركتها أثمت ولعنت ومع ذلك إذا فعلتها لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين والحمد لله الذي هدانا للإسلام ومن علينا بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام إخوتي الكرام وإذا كان يؤجر الإنسان على هذه النفقة واجبة فإن الأجر يتضاعف عندما يكون المتفق عليهم من الضعاف كما لو كانوا حضاراً أو كانوا نباتاً فلك أجر عظيم عظيم عند رب العالمين.(74/13)
ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار والحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين ورواه الإمام أحمد في المسند وابن ماجه في السنن عن عقبة بن عامر رضي الله عنهم أجمعين وهذا لفظ حديث جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كن له ثلاث بنات ويؤوهن ويرحمهن ويكفلهن أوجب الله له الجنة البتة – أوجب الله له الجنة البتة أي قطعاً وجزماً ولا ترد في ذلك والله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ثلاث بنات يؤولهن يرحمهن ويكفلهن أوجب الله له الجنة البتة فقال رجلٌ واثنتان يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال واثنتان قال جابر فرأى بعض المتقدم أن لو قال واحدة واحدة لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وواحدة.
وأنا أقول لجابر رضي الله عنه ورد ما توقعته في روايات أخرى عن نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح كالشمس صححه الحاكم وأقر عليه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من كن له ثلاث بنات فصير على ضرائهن ولئوائهن أدخله الله الجنة برحمته إياهن فقال رجل واثنتان يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل وواحدة يا رسول الله قال وواحدة سبحان الله النفقة الواجبة على هذه البنت المسكينة إذا قصرت في النفقة تذم وتعاقب وتلعن وإذا أنفقت عليها وقمت بكفالتها ورعايتها وربيتها كما يريد الله ويحب هذه المرأة توجب لك الجنة بفضل الله ورحمته.
إخوتي الكرام: أقول للذين يريدون أن يزجوا بالبنات والنساء في مجال الحياة في الأسواق وفي دور العمل أقول لهؤلاء اسمعوا إلى هذين الحديثين الشريفين إذا كان عندك ما تطعم به هذه المرأة فاتقي الله إننا نطعم أعراضنا لا من عرق جبيننا والله أننا نطعمه من لحومنا ونسقيه من دمائنا ولا تزج بها في الأماكن العامة لتختلط بالرجال ولتتعرض للابتذال ولتكون بعد ذلك سلعة رخيصة لكل سائم لا وزن له ولا اعتبار.(74/14)
إخوتي الكرام: المرأة عندنا عرض يصان جوهرة مكنونة وعندما تنفق عليها يبارك الله لك في رزقك ويرزقك من حيث لا تحتسب ثم لك هذا الأجر العظيم عند رب العالمين أليس من العار أن تكلف ابنتك أو أختك أو زوجتك من أجل أن تعمل لأجل أن تأكل هي أو تأكل أنت أو يأكل من في البيت وبإمكانك أن تعمل وإذا كان ذاك العمل بالضوابط الشرعية فالأمر فيه هوادة أما أن تزج بها بعد ذلك في أماكن فيها اختلاط وبلاء ثم بعد ذلك تقول إنني محتاج أي حاجة أيها الإنسان إن الحر يأكل ورق الشجر ولا يعرض عرض لهذا الدنس وهذه الريبة وهذه الشبهة فينبغي إخوتي الكرام أن نعي هذه الأمور وأن نقنع بما قسمه الله لنا وأن نرضى به وأن تطيب بعد ذلك نفوسنا لما نخرجه للفقراء والمساكين عن طريق الزكاة والواجبة وبما نقدمه للمحتاجين عن طريق الحقوق الطارئة وبما ننفقه على الأهل والأولاد أسأل الله جل وعلا أن يلهمنا رشنا وأن يبصرنا بعواقب أمورنا وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.(74/15)
إحساس الميت بالزائرين
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
إحساس الميت بالزائرين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2) سورة النساء: 1
(3) آل عمران: 102(75/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..
تقدم معنا أن من صفات الرجال الأكياس أنهم يخافون رب الناس وهم يتصفون بهذه الصفة الجليلة الكريمة مع كونهم لله، لله يتقون وإلى عباده يحسنون وتقدم معنا إخوتي الكرام أن هذه الصفة فيهم، أعني صفة الخوف من ربهم جل وعلا لها أسباب كثيرة في نفوسهم يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب.
أولها: إجلال الله وتعظيمه.
ثانيها: خوفهم من التفريط في حق ربهم جل وعلا فيما أمروا أو نهوا عنه.
وثالث: الأسباب التي تدفعهم للخوف من ربهم جل وعلا الخوف من سوء الخاتمة.
وتقدم معنا إخوتي الكرام أن لسوء الخاتمة سببان:
أولها: الأمن على الإيمان من الاستلاب فما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه إلا سلبه وذهب منه.
والسبب الثاني: اغترار المرء بالحالة الحاضرة وعجبه بما يصدر منه من طاعات قاصرة ناقصة وغفلة عن ما فيه من آفات مهلكات وأبرز ذلك ثلاث بليات كما تقدم معنا.
أولها: النفاق، وقد مضى الكلام عليه وعلى ما قبله.
وثانيها: البدعة.
وثالثها: الركون إلى الدنيا.
أما البدعة وهي التي كنا نتدارسها إخوتي الكرام، قلت سنتدارسها ضمن ثلاثة مباحث.
أولها: في بيان حد البدعة ورسمها وحقيقتها.
وثانيها: في النصوص المحذرة منها.
وثالثها: الأمور في بيان أقسام البدعة وحدها وضبطها،،، وقلت إنها باختصار حدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع عدم دلالة نصوص الشرع الحسان على ذلك الفعل المحدث وإن يزعم الإنسان بما أحدثه أنه يتقرب به إلى الرحمن هذا هو حد البدعة وهذا رسمها وهذا تعريفها..
__________
(1) سورة الأحزاب 70، 71(75/2)
قلت: إخوتي الكرام،، وقد ضل نحو حقيقة البدعة صنفان من الأنام صنفان غلوا ووسعوا مفهوم البدعة ودائرتها فبدعوا عباد الله الصالحين وحكموا بالبدعة على ما شهد عليه الدليل القويم وقال به إمام من أئمة المسلمين وقابلهم فريق آخر قصروا وفرطوا وقالوا لا بدعة ولا ابتداع في الدين وكلا طرفي قصد الأمور ذميم وما من أمر شرعه الله لعباده إلا وللشيطان نحوه نزعتان، نزعة غلوٍ ونزعة تقصير لا يبالي الشيطان بأي النزعتين وقع الإنسان.
وكنا إخوتي الكرام نناقش الفرقة الأولى التي غلت في مفهوم البدعة ووسعتها فحكمت بالبدعة على ما شهد له الدليل وقال به إمامٌ جليل، بل حكمت بالبدعة كما تقدم معنا على ورد فيه نص صريح عن نبينا الجليل على نبينا صلوات الله وسلامه واستعرضت بعض النماذج إخوتي الكرام مما احتمله الدليل وورد وحكم به بعض المتطرفين المتشددين الغالين في هذا الحين بأنه بدعة وابتداع في الدين ومثلت بذلك بوضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع، كما مثلت على ذلك بصلاة التراويح وأنه عشرون ركعة ويوتر الإنسان بثلاث ثم انتقلت إلى الأمر الثالث ألا وهو قراءة القرآن على الأموات عند القبور وقلت إن هذه المسألة لها ثلاثة ذيول تلقين الميت وتقرير سماع الأموات ما يجري عندهم ورؤيتهم لما يقع حولهم، وثالثها إهداء الطاعات والقربات إليهم.(75/3)
إخوتي الكرام: وقد مر ما يتعلق بقراءة القرآن عند المقابر كما مر معنا تلقين الموتى وفي هذه الموعظة سنتدارس الأمر الثالث وهو الذيل الثاني للمسألة ألا وهو سماع الأموات لما يجري ويقع عندهم وحولهم وعلمهم بما يقع في ساحتهم ورؤيتهم لمن يزورهم واستبشارهم بذلك، هذه المسألة كما سيأتينا إخوتي الكرام وردت بها نصوص صريحة صحيحة ومع ذلك ترى في هذا الحين من يرفع صوته بلا حياء من رب العالمين ولا توقير لأئمة المسلمين فيرى بالابتداع والبدعة من قال الأموات يسمعون وأن الأموات يعلمون بحال الزائرين ويستبشرون بهم ويستأنسون وهذا الأمر إخوتي الكرام أمر غيبي لا دخل فيه لأي عقلٍ بشري والإنسان إذا أراد أن يتلكم في هذه القضية فإن كان مهتديا ينبغي أن يحتكم إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام سماع الأموات وعلمهم بمن يزورهم وفرحهم واستبشارهم بالزائرين في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الوفيرة يمكن أن تجمع تلك الأحاديث إلى ثلاثة أنواع وفيها ثلاث دلالات انتبهوا لها إخوتي الكرام لنكون على بينة من أمر ديننا ولنعرف بعد ذلك من المخرف الذي يخرج من نصوص النبي عليه الصلاة والسلام ويُبَدِّعَ أئمة الإسلام أو الذي يلتزم بهذه النصوص ويحتكم إليها، إذا علمنا هذه المسألة يظهر لنا من المخرف.(75/4)
إخوتي الكرام: أما الدلالة الأولى، والأمر الأول، صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون وأخبرنا أن سماعهم أعظم وأدق من سماع الأحياء ووردت النصوص الصحيحة عن خاتم الأنبياء وعليه صلوات الله وسلامه ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن النسائي من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه البخاري من رواية أنس عن أبي طلحة، ورواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه والنسائي في سننه من رواية أنس عن عمر ابن الخطاب، ورواه الشيخان في صحيحيهما من رواية عبد الله بن عمر، ورواه الإمام أحمد في المسند بسندٍ رجاله ثقات عن أمنا الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله أمنا عائشة على نبينا وعليها وعلى سائر آل نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه، ولفظ الحديث من رواية هؤلاء الصحابة الخمسة الكرام أنس وأبي طلحة وعمر وعبد الله ابن عمر وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن انتهى من موقعة بدرٍ أقام ثلاثاً وكانت هذه عادته عليه صلوات الله وسلامه إذا انتصر على قدم لا يبرح من ذلك المكان مدة ثلاثة أيام لئلا يقال ضرب وهرب كما يفعل بعض الناس وأن هذه الأيام فليست هذه الشجاعة عند أهل الإيمان، الشجاعة أن تضرب وأن تثبت وأن تتحدى أهل الأرض بعد ذلك لأنك واثق بالله والله سينصرك وكان نبينا عليه الصلاة والسلام هذه عادته في غزواته إذا مكنه الله ونصره يقيم ثلاثة أيام إذا كان بإمكان الخصم أن يعيد الكرة فنحن على استعداد، أقام ثلاثة أيام قداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه ثم ركب ناقته وتوجه إلى القتلى فوقف عليهم وقد قتل سبعون من المشركين في أول موقعة حكم الله بها وفيها بين الموحدين والكافرين فوقف عليهم وهو على ناقته المباركة على نبينا صلوات الله وسلامه فقال يا أبا جهل ابن هشام يا أمية ابن خلف يا عتبة ابن ربيعة يا شيبة ابن ربيعة هل وجدتم وما وعد ربكم حقاً فإني وجدت ما وعدني ربي(75/5)
حقاً فقال سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخاطب أقواماً قد جيفوا أنى يجيبوا وكيف يسمعون تخاطب أقواماً قد جيفوا بعد ثلاثة أيام وهم على رمال حارة وفوقهم شمس محرقة تخاطب أقواماً قد جيفوا أنى يسمعوا وكيف يجيبوا فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون، إنهم يسمعون سماعاً أدق من سماعكم ويروني الآن رؤية أوضح من رؤيتكم لكن حيل بينهم وبين الكلام الذي يسمعه الأحياء مثلكم ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون والحديث كما قلت في الصحيحين وغيرهما من رواية خمسة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وهذا حديث صحيح صريح في أن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء كما قرر ذلك شيخنا المبارك في (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) ووسع الكلام في هذه المسألة إلى قرابة خمس وعشرين وقال هذا نص صريح صحيح في أن الأموات يسمعون ولا معارض له فالقول بموجبه متعين وهذا الذي قرره شيخ الإسلام الإمام ابن القيم وشيخه الإمام ابن تيمية وهذا المقرر عند علماء الشريعة الإسلامية ما أنتم بأسمع لما أقول منهم إذا هذا صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأنهم يسمعون ويعلمون ما يجري حولهم والحديث الثاني الذي يقرر هذه الدلالة وهي الدلالة الأولى تصريح نبينا عليه الصلاة والسلام بسماع الأموات وعلمهم بما يجري حولهم كنت أشرت إليه في الموعظة الماضية وأذكره الآن الحديث رواه الإمام أحمد أيضاً في المسند وأخرجه الشيخان في الصحيحين والإمام النسائي وأبو داود في السنن من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن من رواية البراء ابن عازب وإسناده صحيح كالشمس ورواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة ورواه الطبراني في معجمه(75/6)
الكبير والأوسط من رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث كما قلت من أصح الأحاديث فهو في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس والبراء ابن عازب وأبي هريرة وعبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إذا وضع الميت في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم] وفي رواية المسند وأبي داود من رواية البراء ابن عازب [إنه ليسمع خفق نعالهم] وقد بوب الإمام البخاري على هذا في كتاب (الجنائز) فقال (باب الميت يسمع خفق النعال) ، يسمع قرع نعالهم، يسمع خفق نعالهم، [فإذا تولى عنه أصحابه أتاه ملكان منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم] يعني محمداً على نبينا صلوات الله وسلامه [فأما المؤمن فيقول هو عبد الله ورسوله آمنا به وصدقناه فيقولان له هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما معاً، وأما الكافر أو المنافق فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقولان له لا دريت ثم يضربانه بمطرقة معهما بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين] [يسمع قرع النعال] ، [يسمع خفق النعال] سبحان ربي سبحان ذي العزة والجلال، إذا سمع الميت قرع النعال وخفق النعال ألا يسمع سماع الزائرين ألا يعلم بحالهم ويستبشر بهم عندما يزورنه بلى ثم بلى ورضي الله عن عون ابن عبد الله ابن عتبة ابن مسعود عندما نقل من عم أبيه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أثراً واستغرب منه الحاضرون فعلق عليه بما ستسمعون، والأثر رواه الإمام أحمد في (الزهد) وعبد الله ابن المبارك في كتاب (الزهد) ، و (الرقائق) أيضاً، والأثر مروي في سنن سعيد ابن منصور وفي مصنف ابن أبي شيبة ورواه أبو الشيخ أيضاً ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في معجمه الكبير عن عون ابن عبد الله ابن عتبة ابن(75/7)
مسعودٍ، وهو من أئمة التابعين توفي قبل سنة عشرين ومائة للهجرة 120هـ وحديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة، إمام ثقة عدل رضا، عون ابن عبد الله ابن عتبة ابن مسعود، نقل عن عم أبيه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، أنه قال إن الجبل لينادي الجبل كل يوم باسمه فيقول له مر بك أحدٌ ذكر الله فإن قال الجبل نعم يقول استبشر وفرح وتطاول بأنه مر عليه أحدٌ ذكر الله عز وجل،، نعم {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (1) فقيل لعون ابن عبد الله ابن عتبة كيف هذا قال سبحان الله أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير، سبحان الله أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير: يعني هذه الجبال والجمادات، الأرض والأشجار تسمع الزور ولا تسمع الخير قالوا وكيف ذاك قال أما قرأتم قول الله جل وعلا {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِداًّ * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً} (2) السماوات تشقق من الكلمة بأن لله صاحبة وولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرا، (أيسمعن الزور ولا يسمعن الخير) ، وأنا أقول هل يسمع الأموات قرع النعال وخفق الأحذية ولا يسمعون كلام الزائر السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين ولا يسمعون دعاء الزائر ولا يرونه ولا يستبشرون به؟ تعالى الله عما تتوهمون وتقولون علواً كبيرا هذه الدلالة الأولى.
__________
(1)) ) سورة الإسراء: 44
(2)) ) سورة مريم: 88 - 95(75/8)
إخوتي الكرام: وكما قلت نص صريح من نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الأموات يسمعون سماعاً يزيد على سماع الأحياء، نعم إنك لو دخلت على ساحة كبيرة واجتماع كبير وسلمت عليه لا يسمع سلامك إلا من كان بجورك وفي المقدمة، أما الأموات فإذا دخلت باب المقبرة ووصلت إلى أول قبر منها امتدت المقابر وقلت كما سيأتي معنا (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين) لا يوجد ميت في تلك البقعة إلا يسمع صوتك ويجيبك ويستبشر بك ويفرح كما سيأتينا، ووالله لو كانوا من الأحياء لما سمعوا صوتك،، نعم السلطان للروح في عالم البرزخ وليست مقيدة بكثافة الجسم وفتور الجسم فتشعر بك وتسمع سلامك ولو كانت هذه الروح في بدنها الحي بها لما سمعت سلامك عن بُعْد، [ما أنتم بأسمع لما أقول منهم] هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، هذه الدلالة الأولى إخوتي الكرام.(75/9)
والدلالة الثانية: شرع لنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - زيارة القبور والزائر يقال زائر والميت يقال لما في الزيارة من فوائد وخيرات فالإنسان يعتبر في المصير الذي سيصير إليه ويدعو لإخوانه وهذان أبرز مقصود زيارة الحي للميت يعتبر ويدعو وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه أبو داود والنسائي وهو صحيح صحيحٌ فهو في صحيح مسلم من رواية بريدة ابن الحصين رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة] والحديث روي في المسند والحاكم في المستدرك من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه وفي رواية أنس في المستدرك كما قلت والمسند عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [كنت نهيتكم عن زيارة القبور فإنها ترُقُّ القلب وتُدمع العين وتذكر بالآخرة ولا تقولوا هجراً] : أي كلاماً قبيحاً، فلا داعي لنياحةٍ ولا لاستغاثة بميت ولا بطلب الحاجات منه، إنما تزور تعتبر بما إليه ستؤول ثم تدعو لهذا العبد الذي انقطع عمله بما ينفعه في موته كما أذن لنا ربنا وأمرنا به.(75/10)
إذاً الزائر زائر والميت مزور، قال شيخ الإسلام الإمام ابن القيم في كتابه (الروح) صفحة خمسة إلى صفحة ثمانية ص5 إلى ص8 يقول وهذا اللفظ يعني الزيارة والزائر زائر والميت مزور يقول لا يقال إلا إذا علم المزور بزيارة الحي وسمع صوته شعر به واستأنس به، لا يصح غير هذا البته في جميع لغات الأمم، فلا يسمى الإنسان زائر لمن يزوره إلا إذا علم به المزور إلا إذا شعر به إلا إذا سمع سلامه إلا إذا علم بزيارته أما أنك أمواتاً ويقال، أنت زائر وهو مزور هذا لا يصح فلفظ الزيارة عندما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام بزيارة القبور يدل على أن المزور يعلم بحال الزائر ويسمعه ويستبشر به ويفرح بزيارته وهذا الأمر الذي استنبطه أئمتنا وردت به نصوص صحيحة صريحة كالشمس لا يخالف فيها إلا من كان مبتدعاً روى الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب والتمهيد والحديث صححه شيخ الإسلام أبو محمد عبد الحق الإشبيلي وهو صاحب كتاب (العاقبة في التذكرة في أمور الموت وأمور الآخرة) وهو صاحب كتاب (الجمع بين الصحيحين) وله كتاب في الأحكام كبرى ووسطى وصغرى وقد توفي سنة واحد وثمانين وخمسمائة للهجرة 581هـ وهو من أئمة الإسلام الربانيين أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الأندلسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، هذا الحديث الإمام أبو محمد عبد الحق، ونقل تصحيح عنه أئمة الإسلام وأقروه منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) في الجزء الرابع والعشرين صفحة واحد وثلاثين وثلاثمائة 24/331 ومنهم الإمام ابن القيم في أول كتابه (الروح) وهكذا الإمام السيوطي في كتاب (شرح الصدور في أحوال الموتى وزيارة القبور) وهكذا الإمام القرطبي في كتاب (التذكرة في أمور الآخرة) وغيرهم، فالحديث صحيح ولفظه من رواية عبد الله ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال سمعت النبي يقول [ما من أحدٌ يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام] .(75/11)
قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه (الروح) وهذا نص صريح في أن الميت يسمع ويعرف من زاره بل ويرد عليه سلام.
نعم إخوتي الكرام: إن الميت انتقل من دار إلى دار والدار التي انتقل إليها كما سيأتينا دار البرزخ هي أدق من دار الدنيا بكثير وموازينها أضبط بكثير ولذلك يعرفه ويرد عليه السلام، أما أننا نحن لا نعي ما في تلك الدار فلعدم موافقة موازيننا لتلك الموازين، أما هو فيعلم ما يجري في البرزخ ويعلم ما يجري في الحياة الدنيا، ونحن نعلم ما يجري في الحياة الدنيا ولا نعلم ما يجري في البرزخ، فعلمه أدق من علمنا بكثير يعرفك ويرد عليك السلام.(75/12)
وثبت في كتاب (دلائل النبوة) للإمام البيقهي والأثر رواه الإمام الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قبر مصعب ابن عمير بعد موقعة أحد رضي الله عنهم أجمعين فبكى نبينا عليه الصلاة والسلام ثم قال [أشهد أنكم أحياء عند الله عز وجل ألا فزوروهم وسلموا عليهم والذي نفسي بيده لا يزورهم أحد ويسلم عليهم إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة] وهذا ليس خاصاً في ذلك الوقت بعد قتلهم وانتهاء موقعة أحد إنما هذا الحكم ثابت إلى يوم القيامة وقد روى الإمام الحاكم في المستدرك بإسنادٍ مدني صحيح كما قال هو ذلك رضي الله عنه وأرضاه عن عطاف ابن خالد وهو من العلماء الصالحين صدوق كما نعت بذلك في التقريب وقد أخرج حديثه البخاري في (الأدب المفرد) والإمام أبو داود في كتاب (القدر) وهو من رجال الترمذي والنسائي في السنن ينقل عطاف ابن خالد عن خالته أنها (زارت قبور الشهداء شهداء أحد فسلمت عليهم فسمعت جواباً لها ورد السلام من قبورهم يقولون لها وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، تقول فأخذتني قشعريرة فقالوا لي هؤلاء الأموات وهم في قبورهم إننا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضاً) هذا حال الموتى فأنت زائر والميت مزور وشرع لنا نبينا عليه الصلاة والسلام زيارة القبور، هل شرع لنا زيارة جماد لا يعي ولا يفقه ولا يشعر ما يدور حوله لا والله ولما رسخ هذا في أذهان الناس تركوا زيارة المقابر وانقطعت الخيرات من الأحياء نحو الأموات ولو علموا أن الأموات يستأنسون بهم عندما يزورونهم لما خلت المقابر من زائر يزورهم ويدعو لهم ليستأنسوا بهم ويفرحوا بهم عند زيارتهم لعل كثيراً من الناس لا يذهبون إلى المقابر إلا إذا مات لهم قريب أو حبيب وما عدا هذا ليس بينه وبين المقابر صلة، ثم إذا دفن والده أو ولده أو ولده كأنه انقطعت صلته به يا عبد الله أما تزوره لو كان حيا والله إن(75/13)
زيارته آكد عليك إذا صار ميتاً لكن هذه المفاهيم الضالة التي وجدت في الأمة وأن الميت لا يسمع ولا يعي ولا يشعر ولا يستأنس نفرت الناس عن زيارتهم للموتى بعد موتهم.
إخوتي الكرام: إن الموتى كما أنهم يشعرون بزيارتك ويسمعون سلامك ويرونك عند زيارتهم إن الأمر أدق من ذلك بكثير فأعمالك تعرض عليهم أينما كنت وهم في قبورهم لأن السلطان للروح فإذا عملت خيراً استبشروا وفرحوا وإذا عملت غير ذلك حزنوا ودعوا لك بالهداية وهم أموات في قبورهم كما أخبرنا عن ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي الإمام أحمد، والحديث في إسناده رجل لم يسم كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في (مجمع الزوائد) في الجزء الثاني صفحة واحد وثلاثين وثلاثمائة 2/331، والحديث من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائكم من الأموات فإن كان خيراً فرحوا واستبشروا، وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا] وهذا العرض يكون على الصالحين على المقربين وأصحاب اليمين، وأما من هم في سجين فنسأل الله أن يكفينا شرهم وألا يجعلنا منهم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(75/14)
وهذا الحديث إخوتي الكرام الذي هو المسند عن أنس رضي الله عنه وفي إسناده رجل لم يسم رواه ابن أبي الدنيا والطبراني في معجمه الكبير والأوسط من رواية أبي أيوب الأنصاري ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده من رواية جابر ابن عبد الله والأسانيد الثلاثة لا تخلو من ضعف كما قرر أئمتنا لكنها تعتضد ببعضها وقد كان أئمة الإسلام عليهم رحمة الله ورضوانه يقررون هذا بناءاً على هذه الآثار، فهذا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) في المجلد الرابع والعشرين صفحة واحد وثلاثين وثلاثمائة 24/331 وقد أفاض في هذا الكتاب وكرر هذا الكلام في عدد من الصفحات لكن في هذا المكان سئل عليه رحمة الله عن الأحياء وإذا زاروا الأموات هل يعلمون بزيارتهم وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره؟ فأجاب رحمه الله ورضا عنه: الحمد الله نعم قد جاءت الآثار بتلافيهم وتساءلهم وعرض أعمال الأحياء على الأموات كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري وهذا الأثر الذي نقله الإمام ابن تيمية عن شيخ الإسلام عبد الله ابن المبارك بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري، وهو في كتاب (الزهد) و (الرقائق) في صفحة خمسين ومائة صـ150 وبعد أن نقله الإمام عبد الله ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري موقوفاً عليه بيَّن أنه روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا في رواية ابن أبي الدنيا ومعجم الطبراني الكبير والأوسط يقول الإمام ابن تيمية (كما روى ابن المبارك عن أبي أيوب الأنصاري قال إذا قبضت نفس المؤمن تلقاها الرحمة من عباد الله كما يتلقون البشير في الدنيا فيقبلون عليه ويسألونه فيقول بعضهم لبعض انظروا أخاكم يستريح فإنه كان في كرب شديد قال فيقبلون عليه ويسألونه ما فعل فلان وما فعلت فلانة هل تزوجت، فإذا سأل عن الرجل قد مات قبله قال لهم إنه قد هلك فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى أمه الهاوية فبئست الأم وبئست المربية،(75/15)
مات قبلك وما علمنا ذهب إلى سجين، قال فيعرض عليهم أعمالهم فإذا رأوا حسن فرحوا واستبشروا وقالوا اللهم هذه نعمتك على عبدك فأتمها عليه وإن رأوا سوءاً قالوا اللهم راجع بعبدك قال ابن صاعد رواه ابن سلام الطويل عن ثور ابن يزيد ورفعه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قال الإمام ابن تيمية وأما علم الحي بالميت إذا زاره وسلم عليه ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ما من أحد يمر بقبر أخيه الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام] قال ابن المبارك ثبت ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.(75/16)
وأما ما أخبر الله به من حياة الشهيد ورزقه وما جاء في الحديث الصحيح من دخول أرواحهم الجنة فذهب طوائف أن ذلك مختص بهم دون الصديقين وغيرهم والصحيح الذي عليه الأئمة وجماهير أهل السنة أن الحياة والرزق ودخول الجنة ليس مختصاً بالشهيد كما دلت على ذلك النصوص الثابتة ويختص الشهيد بالذكر يعني هو الذي ينوه به من أجل حكمة سيذكرها هذا الإمام لكون الظان يظن أنه يموت فينكب عن الجهاد أي يتأخر ويبتعد فأخبر بذلك ليزول المانع من الإقدام على الجهاد والشهادة كما نهى عن الأولاد خشية الإملاق لأنه هو الواقع وإن كان قتلهم لا يجوز مع عدم خشية الإملاق وهذا كما قلت يقرره إخوتي الكرام شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية والمقرر عند أئمتنا علماء الشريعة الإسلامية وقد روى الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب (الزهد) والأثر رواه ابن أبي الدنيا أيضاً، ورواه الإمام الأصبهاني في (الترغيب والترهيب) عن أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: (إن أعمال الأحياء تعرض على الأموات فيسرون ويساءون ثم قال اللهم إني أعوذ بك من أن يخزى خالي عبد الله بن رواحة من أجلي، اللهم إني أعوذ بك أن يعرض علي خالي عبد الله ابن رواحة عمل يمقتني من أجله وهو في قبره) ، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه والأثر إخوتي الكرام رواه ابن أبي الدنيا وبن أبي شيبة في مصنفه والحكيم الترمذي من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن تفضحني عند عبادة ابن الصامت وسعد بن عبادة) أي عندما تعرض أعمالي عليهما أعوذ بك أن أفتضح.
إخوتي الكرام: هذا الأمر أعني أن الميت المزور يعلم بحال الزائر، هذا مقرر عند أئمتنا كما قلت، وهم يتزاورون فيما بينهم، والآثار في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة.(75/17)
روى الإمام سعد في (الطبقات) وأبو نعيم في (الحلية) أنه التقى صحابيان جليلان مباركان سلمان الفارس وعبد الله ابن سلام رضي الله عنهم أجمعين فقال أحدهما لصاحبه إذا مات أحدنا قبل الآخر فليتراء من له قال ويكون ذلك يقول عبد الله ابن سلام لسلمان ويكون ذلك؟ قال نعم إن روح المؤمن مخلاة تذهب حيث شاءت وإن روح الكافر في سجين فلما مات سلمان الفارس وكانت وفاته سنة اثنتين وثلاثين للهجرة 32هـ وقيل ثلاث وثلاثين 33هـ وقيل ست وثلاثين 36هـ وعبد الله ابن سلام توفي سنة ثلاث وأربعين 43هـ رضوان الله عليهم أجمعين لما مات سلمان الفارس رآه عبد الله ابن سلام بعد موته مشرق الوجه بهي الصورة يتلألأ النور منه قال ما فعل الله بك يا أخي قال غفر لي ورحمني وأكرمني قال بأي شيء توصيني؟ قال عليك بالتوكل فنعم الشيء التوكل ونعم الشيء التوكل ثلاث مرات.
نعم إخوتي الكرام: إن هذا كان مقرراً عند الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثبت في المسند وسنن ابن ماجة بسندٍ صحيح كالشمس عن محمد ابن المنكدر وهو من أئمة التابعين توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة 130هـ حديثه في الكتب الستة أنه دخل على جابر وهو يموت فقال يا جابر أقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام فإذا كان هذا هل يحتمل هذه الأمانة صحابي وهلا أنكر على محمد ابن المنكدر وقال له ما علمي وأنا سأموت ولن أجتمع بالنبي عليه الصلاة والسلام ولا بغيره وكيف تحملني هذه الأمانة (أقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام) والأثر كما قلت في المسند وسنن ابن ماجة بسند صحيح.
نعم يسن للرجل إذا احتضر وكان صالحاً وحسنت ظنك وعلمت أنه من أهل الخير أن تقول له هذه المقولة: (أقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام) فإنه روحه ستلتقي بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبالصحابة الكرام وبأهل الخير والإحسان، (أقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني السلام) .(75/18)
إخوتي الكرام: إن شعور الميت أدق من شعور الحي وقد كان هذا مقرراً عند سلفنا وعلى رأسهم الصحابة وفي مقدمتهم رضوان الله عليهم أجمعين.
ثبت في مسند الإمام أحمد والأثر في المستدرك ورواه ابن سعد في (الطبقات) بسندٍ صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت لما دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتي كنت أضع ثيابي وأقول ما هو إلا زوجي على نبينا صلوات الله وسلامه قالت فلما دفن أبو بكر رضي الله عنه كنت أضع ثيابي وأقول ما هو إلا زوجي وأبي فلما دفن عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت حجرتي إلا وأنا مشدودة على ثيابي وما وضعت عني ثيابي حياءً من عمر.
نعم والله إنه يراها كما يراها كما لو كان حياً في حجرتها وهذه هي المعاني عند سلفنا فكانت تستحي منه كما لو كان في الحجرة حياً فلا تضع ثيابها عنده، هذا هو علم سلفنا، وهذا هو كلام أمنا رضي الله عنها وأرضاها وابتلينا بشرذمة في هذه الأيام إذا قلت لهم إن الميت يسمع ويعلم من يزوره ويشعر بحاله ويستأنس به قالوا إنك مبتدع وهذه بدعة، فهل كانت أمنا عائشة على بدعة عندما كانت تستحي من أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضوان الله عليهم أجمعين؟ اللهم ألهمنا رشدنا يا أرحم الراحمين.
إخوتي الكرام: هذه دلالة ثانية،، إن الأموات يعلمون بحال الزائر ويسمعونه ويستبشرون به وعلمهم بذلك أدق وأضبط وأوسع من علم الحي بكثير.(75/19)
وأما الدلالة الثالثة إخوتي الكرام: شرع لنا إذا زرنا القبور أن نسلم على الأموات بصيغة نخاطبهم بها لا نخاطب الجمادات ولا يصح مخاطبة أحد بهذه الصيغة إلا إذا كان يعي ويسمع ويشعر، نقول له السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، كما سأورد الأحاديث في ذلك السلام عليكم هذا سماع من هذا الخطاب لمن يعي ويسمع ويشعر ويجيب ولا شك في ذلك، ووالله إن كلام النبي عليه الصلاة والسلام أعلى وأجل من أن يوجه هذا الكلام منه إلى من لا يعي ولا يسمع ولا يفقه وهو أعلى حكمة من أن يقول لنا سلموا على جماد لا يشعر ولا يسمع ولا يحس ولا يرى سبحان الله جمادات نسلم عليها إنه كما قلت يسمع سماعاً أدق من سماع الأحياء ولذلك نخاطب الأموات بالصيغ التي ستأتينا.
ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث في صحيح مسلم ورواه الإمام النسائي وابن ماجة ومسند أبو داود الطيالسي عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ماذا أقول إذا زرت القبور قال قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وفي رواية ابن ماجة ومسند أبي داود الطيالسي [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم] ورواه أبي داود الطيالسي [اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تضلنا بعدهم] هذا كله كلام النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أمنا عائشة: [السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين] خطاب يوجه إلى من يعي، من يشعر، من يسمع لمن يرى، لمن يرد [السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين] .(75/20)
نعم إخوتي الكرام: إن زيارة القبور مشروعة ونخاطبهم بهذا وهي كما تشرع للرجال تشرع للنساء، والحديث صحيح وفيه نبينا عليه صلوات الله وسلامه يقول لأمنا عائشة قولي كذا وهي تدخل في عموم الترخيص فإنها تذكر بالآخرة والمرأة بحاجة أن تتذكر الآخرة كما يحتاج الرجل وهي بحاجة إلى أن يستأنس أقاربها وأن تدعو لهم كما يحصل من الرجل والأحاديث في ذلك إخوتي الكرام كثيرة صحيحة وفيرة، وهذا هو المعتمد عند مذهب الحنفية والأئمة الشافعية رضوان الله عليهم أجمعين، قالوا إن زيارة النساء للقبور مكروهة كراهة تنزيه وللمالكية ثلاثة أقوال الجواز والكراهة والتفريق بين الشابة والعجوز الكبيرة، وللإمام أحمد قولان قول بالجواز وقول بالكراهة والراجح من هذه الأقوال ما هو مقرر عند الحنفية وإلى هذا ذهب شيوخ الإسلام المتأخرون فهو الذي رجحه الإمام القرطبي وهو من المالكية والإمام الشوكاني في (نيل الأوطار) وهذا الذي ذكره الإمام أبو محمد عبد الحق في كتاب (العاقبة) وهو المقرر عند أئمتنا والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وفيرة، وأما ما ورد في المسند والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة والحديث في صحيح ابن حبان وسنن البيهقي من رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج فالحديث إما أن يكون منسوخاً بما تقدم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة، وإما أن يراد من الزوارات ما قرره الإمام القرطبي وإلى هذا قال واستراح الإمام الشوكاني، إما أن يكون المراد من الزوارات صيغة مبالغة المكثرات للزيارة فالمرأة تزور أياماً ما بين الحين والحين والرجل يكثر من من الزيارة لأن هدى الإسلام في المرأة أن تكون قعيدة بيت وأنا أعجب للناس في هذه الأيام عندما رخصوا للمرأة أن تذهب إلى المدرسة ورخصوا لها أن تذهب إلى المتنزهات ورخصوا لها أن تذهب إلى البر ورخصوا لها أن(75/21)
تذهب إلى السياحة ورخصوا لها أن تذهب إلى الأسواق ورخصوا لها إلى زيارة الجيران وإذا قلت لهم تزور القبور لتتذكر الآخرة قالوا هذا حرام المرأة ينبغي أن تجلس في البيت، هلا عرفتم هذا الحكم عند ذهابها إلى السوق، هلا عرفتم هذا الحكم عند ذهابها إلى المدرسة وقد تلتقي بضالات مضلات أخبث من الشيطان الرجيم، كل هذا مرخص فيه وإذا أرادت أن تزور أباها أو أخاها أو زوجها من أجل أن تستحضر ما نصير إليه وهي أولى بأن تستحضر أمور الآخرة من الرجل وأن تدعو لقريبها تمنع سبحان الله؟؟ ثم سبحان الله؟؟ وهنا أمنا عائشة رضي الله عنه والحديث كما قلت في صحيح مسلم وغيره ماذا أقول إذا زرت المقابر وما زجرها وقال إن هذا بدعة وليس من حق النساء أن يزرن [قولي السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وقد وردت أحاديث كثيرة فيما يقوله الزائر عندما يزور القبور منها ما في المسند أيضاً وصحيح مسلم، والحديث رواه ابن ماجة في سننه والبغوي في (شرح السنة) من رواية بريدة رضي الله عنه وأرضاه قال [كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا زاروا القبور أن يقولوا السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين نسأل الله لنا ولكم العافية] هناك كما تقدم معنا [يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وفي رواية الإمام أحمد: [أنتم فرطنا ونحن لكم تبع] وثبت أيضاً الحديث في سنن الترمذي من رواية عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ناقته حتى إذا وصل إلى قبور المدينة توجه إليهم عليه صلوات الله وسلامه ثم قال: [السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم] وهي صيغة ثالثة أنتم سلفنا ونحن بالأثر وثبت أيضاً في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي من رواية أبي(75/22)
هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: [السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] ثم قال فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه [وددنا لو رأينا إخوننا فقال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أو لست إخوانك يا رسول الله] عليه صلوات الله وسلامه [قال بل أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني] يود ويتمنى نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن يرانا ووالله إن رؤيته أحب إلى أنفسنا من كل شيء وليتنا رأيناه بأنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا عليه صلوات الله وسلامه [وددنا لو أنا رأينا إخواننا أو لسنا إخوانك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بل أنتم أصحابي وإخوني الذين يأتون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك فقال عليه الصلاة والسلام أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة] ، الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في قوامها [لو أن رجلاً عنده خيل غر محجلة بين خيل دهم بهم] أي سوداء شديدة السواد لا يخالطها لون آخر، [أما كان يعرف خيله؟ قالوا بلى قال فإن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء] يأتون ووجوههم وأعضاؤهم وأعضاء وضوئهم تتلألأ وأنا أعرفهم وأميزهم من بين سائر الأمم [فإن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ألا ليزادن رجال عن حوض كما يزاد البعير الضال فأقول هلم هلم، فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً] اللهم لا تجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
إخوتي الكرام: هذه الألفاظ التي يقولها الزائر للمزور هل نخاطب جماداً لا يعي ولا يعقل ولا يسمع ولا يشعر؟ يتنزه كلام سيد الحكماء وخاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه أن يأمر أمته بأن يخاطبوا جماداً لا يعي ولا يشعر ولا يسمع ولا يفقه ولا يرد.(75/23)
إخوتي الكرام: وختام الكلام في هذه المسألة، إن النصوص فيها كما قلت صريحة صحيحة كثيرة شهيرة وهي تتعلق في أمر غيبي فإذا كنا نؤمن بالله فينبغي أن نؤمن بالغيب وينبغي ألا نكثر الشكوك والريب، إن الاعتراض على سنة النبي عليه الصلاة والسلام ليس من علامات اتباع السلف، إنما من علامات اتباع الفلاسفة الذي كانوا يدخلون أراءهم في شرع ربهم جل وعلا ويحاكمون المنقول إلى نخريف العقول وعندنا قاعدة ذهبية ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ ألا وهي كل ممكن ورد به السمع الصحيح يجب الإيمان ومن لم يؤمن به فهو ضال مضل كل ممكن أي أمر متصور وجوده وعدمه ورد به السمع الصحيح الذي لا ينطق عن الهوى يجب الإيمان به فسماع الميت وشعوره وإدراكه وعلمه بمن يزوره ممكن ورد به السمع فإذا كنا نؤمن بالرب فينبغي أن نؤمن بالغيب {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (1) .
اللهم اجعل هدانا تبعاً لشرعك بفضلك ورحمتك. أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا وارض اللهم عن الصحابة الطيبين الطاهرين الصادقين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1)) ) سورة آل عمران: 7(75/24)
إخوتي الكرام: هذا الأمر كما قلت مقرر عند علماء الإسلام وقد بوب الإمام السيوطي عليه رحمة الله في شرح الصدور باباً يشير به إلى هذا فقال (باب زيارة القبور وعلم الموتى بمن يزورهم ورؤيتهم مقرر عند أئمة الإسلام) وسأختم الكلام على هذه المسألة بحادثة وقعت في العصر الأول وهي تتعلق بما جرى في البرزخ وأقر الحكم فيها سيد هذه الأمة بعد نبينا على نبينا وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه ووافقه الصحابة الكرام دون منازع، وهذه القصة يرويها الإمام الحاكم في المستدرك والطبراني في معجمه الكبير ويرويها أبو يعلى في مسنده ويرويها الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب وإسنادها صحيح كالشمس عن ابنة ثابت ابن قيس ابن شماس رضي الله عنه وثابت ابن قيس من الصحابة الأنصار وكان خطيبهم وثبت في المستدرك وغيره في ترجمته أنه عندما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة خطب ثابت فقال والله ليمنعنك مما نمنع منه أنفسنا وأولادنا فما لنا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال [الجنة] فقال ثابت ربح البيع، ثابت ابن قيس بشر بالجنة كما في الصحيحين ويرهما بما حضر قتال المرتدين في عهد إمام الصديقين أبي بكر رضي الله عنه وعن سائر الصديقين والمؤمنين سنة اثنتي عشرة للهجرة 12هـ في موقعة اليمامة في بلاد نجد وقد قتل من الصحابة في تلك الموقعة خمسمائة صحابي وقتل معهم أيضاً خمسمائة من المسلمين فالمجموع ألف نصفهم من الصحافة منهم ثابت ابن قيس وقتل من قراء القرآن جمع غفير كثير خمسمائة من الصحابة يتوفون في هذه الموقعة ولما التقى الجمعان وحصل ما حصل قال ثابت ابن قيس رضي الله عنه وأرضاه بئسما تعلمون به أقرانكم هكذا لا تقاتلون بشدة ثم أخذ ثوبين أبيضين فحنطهما وقاتل حتى قتل فكفن في ثوبيه ومعه حنوطه رضي الله عنه وأرضاه، ثابت ابن قيس ابن شماس بعد أن قتل رضي الله عنه وأرضاه مر به بعض المسلمين الضعاف الذين إيمانهم ضعيف وقد يكون بدنهم قوياً(75/25)
فسرق درعه التي كانت عليه ثم ذهب ذاك إلى رحله وإلى خبائه وستره وثابت ابن قيس رضي الله عنه وأرضاه استشهد ودفن فتراءى لبعض الصحابة في تلك الموقعة ممن هم على قيد الحياة وقال يا أخي اذهب إلى خالد ابن الوليد وكان أميراً للجيش رضي الله عنه وأرضاه في قتال المرتدين فقل له إن فلاناً سرق درعي وهو في مكان كذا من الجيش وقد وضع عليه برمة وفوق البرمة رحله وعلامة درعي كذا وكذا فليأخذه خالد منه وإذا رجعت إلى المدينة فأقرأ أبا بكر رضي الله عنهم أجمعين فأقرأه مني السلام وقل له فلان وفلان من عبيدي أحرار لوجه الله وعلى كذا فيقضه عني ولي مال في مكان كذا فليأخذه وليعطيه إلى الورثة ثم قال يا عبد الله إياك أن تقول هذا حلم ولا حقيقة له، أنا ثابت ابن قيس ابن شماس أخبرك اذهب إلى خالد وأخبر أبا بكر بذلك رضي الله عنهم أجمعين فاستيقظ هذا الرجل وذهب إلى خالد فأخبره فذهب خالد بنفسه رضي الله عنه إلى المكان الذي وصف له ورفع الرجل خلفه ثم نقلت هذه الوصية إلى أبي بكر رضي الله عنه فأنفذها قال الإمام ابن عبد البر في كتاب (الاستيعاب) ما نعلم أحداً نفذت وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس ابن شماس.(75/26)
قال الإمام ابن القيم رضي الله عنه معلقاً على هذا في كتاب (الروح) يقول وهذا من فقه الصديق وفقه خالد وفقه الصحابة أجمعين وهذا حكم بالقرائن التي تقوم مقام البينة فالمراد من البينة أن يظهر الحق بأي أمارة وأي دلالة كانت وهنا عندنا بينة كالشمس في رابعة النهار درعي في مكان كذا عند رجل في طرف من الجيش فوقه برمة وفوقه رحله وبعد ذلك فلان وفلان من عبيدي أحرار وعندي مال في مكان كذا فلتأخذه أبو بكر رضي الله عنه، البينات والدلالات تقوم مقام شاهدين، بل أكثر، وللإمام ابن القيم كتاب كبير يزيد على ثلاثمائة صفحة سماه (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) عن طريق الحكم بالقرائن والوصول إلى حقيقة القضية بما يلابسها والظروف التي تحيط بها وهنا يقول هذا من فقهه وهنا عليه الإمام ابن القيم على هذه القصة فقال إذا علم الميت بهذه الجزئيات بدرعه وعن سرقها وماذا وضع فوقها ثم قال اذهب إلى خالد وإلى بكر رضي الله عنهم أجمعين فلأن يعلم الميت بزيارة الحي له وسلامه وبأن يشعر به ولأنه يراه من باب أولى ثم قال والسلف الكرام مجمعون على هذا.(75/27)
وقد تواترت عنهم الآثار بأن الميت يرى من يزوره ويسمعه ويستبشر بزيارته وهذا الكلام يقوله الإمام ابن كثير بالحرف أيضاً فما أعلم هل اتفقت العبارتان أم أخذ الإمام ابن كثير هذا الكلام من شيخ الإسلام الإمام ابن القيم عيهم جميعاً رحمة الله يقول الإمام ابن كثير في تفسيره عند تفسير سورة الروم عند قول الحي القيوم {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ العُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ} (1) ويقرر هذا في الجزء الثالث صفحة ثمان وثلاثين وأربعمائة 3/438 من تفسيره يقول نفس العبارة المتقدمة والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت عنهم الآثار بأن الميت يشعر بمن زاره ويعلمه ويسمع سلامه ويستبشر به ويرد عليه.
إخوتي الكرام: هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
وأما مسألة إهداء الطاعات والقربات إلى الأموات فأرجئ الكلام على ذلك إن شاء الله إلى الموعظة الآتية إن أحيانا الله.
__________
(1)) ) سورة الروم: 52، 53(75/28)
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فتوفه على الإيمان، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، اللهم كره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اجعل حبك وحب رسولك - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ، اللهم اجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا بفضلك وبرحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربوّنا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (1)
__________
(1)) ) سورة الإخلاص: 1 - 4(75/29)
من أسباب سوء الخاتمة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
من أسباب سوء الخاتمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد:
معشر الأخوة المؤمنين، من صفات المهتدين أنهم يخشون رب العالمين، وهم الذين يعمرون بيوت الله جل وعلا في هذه الحياة وقد نعتهم الله بأنهم رجال ووصفهم بأربع خصال:
- لا تلهيهم البيوع والتجارات.
- ويعظمون رب الأرض والسماوات.(76/1)
- ويشفعون على المخلوقات.
- ويخافون الله ويستعدون للقائه في يومٍ تشخص فيه القلوب والأبصار.
{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوِّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
وصفة الخوف فيهم، كنا نتدارسها، وكنا نتدارس أسباب خوفهم من ربهم وقلت إن أسباب خوف المكلفين من رب العالمين كثيرة متعددة يمكن أن نجملها في ثلاثة أسباب:
أولها: إجلال الله وتعظيمه
ثانيها: الخشية من التفريط في حق الله جل وعلا، وقد مضى الكلام على هذين السببين وشرعنا في مدارسة السبب الثالث ألا وهو
ثالثها: خوف سوء الخاتمة، وقلت لسوء الخاتمة أسباب كثيرة أيضاً يمكن أن تجمل في أمرين اثنين.
أولهما: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه سلبه عند موته.
الأمر الثاني: الاغترار بالحالة الحاضرة، والعجب بما يصدر من المرء من طاعات ناقصة قاصرة، والغفلة عما في المكلف من آفات مهلكات وأبرز ذلك ثلاث بلايا مرويات.
أولها: النفاق.
وثانيها: البدعة.
وثالثها: الركون إلى الدنيا.
وقد مضى الكلام على السبب من أسباب سوء الخاتمة، كما مضى الكلام على البلية الأولى من السبب الثاني من أسباب سوء الخاتمة، ألا وهو النفاق في موعظتين ماضيتين وسنتدارس في هذه الموعظة البلية الثانية.
إخوتي الكرام: وسنتدارس هذه الرزية ضمن ثلاثة أمور.
أولها: تعريف البدعة.
وثانيها: التحذير منها والتنفير عنها.
وثالثها: أقسام البدعة.
ثم أبين بعد ذلك وجه كون البدعة سبباً لسوء الخاتمة، إما بأن يختم له على الكفر، نسأل الله تعالى العافية، وإما بأن يختم للإنسان إذا تلبس بالبدعة على الزيغ والضلال.
أما المبحث الأول: من هذه المباحث الثلاثة ألا وهو تعريف البدعة.(76/2)
البدعة في اللغة = إخوتي الكرام، هي ما أحدث على غير مثال، شيءٌ جديد، شيءٌ حادث لا مثيل له في القديم، يقال له بدعة، هذا هو التعريف اللغوي للفظ البدعة، ما أحدث على غير مثال، أي على غير شيء يشبهه، إنما هذا مخترع جديد، سواء كان ذلك المحدث محموداً أو مذموماً يتعلق بأمر الدنيا أو بأمر الدين، فكل حادث لا مثيل له ولا شبيه، في الزمن القديم يقال له "بدعة" ولو جود هذا المعنى في لفظ البدعة، أعني الشيء الذي لا نظير له ولا مثيل، أطلق هذا اللفظ من مادة " بَدَعَ " أطلق هذا اللفظ على الله جل وعلا، وأنه يتسمى بذلك سبحانه وتعالى، فهو الذي لا نظير له ولا مثيل وهو الذي يبتدئ المخلوقات من غير مثال سبق على غير مثال سبق، ولذلك سمي نفسه بأنه {بديع السماوات والأرض} .
قال تعالى: {وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} (1) .
ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبناتٍ بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولدٌ ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيءٍ وهو على بكل شيءٍ عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالقُ كل شيءٍ فاعبدوه وهو على كل شيءٍ وكيل} (2) .
__________
(1) - البقرة (116 – 117) .
(2) - الأنعام (100 – 102) .(76/3)
{بديع السماوات والأرض} هو المنفرد في هذا الكون في سماواته وأرضه بأنه لا مثيل له ولا شبيه، {قل هو الله أحد * الله الصمد} {هل تعلم له سميَّا} (1) هو المنفرد الذي لا مثال له {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير} (2) وهو الذي خلق السماوات والأرض على غير مثال سبق، وعلى غير صورة تقدمت، فهو المنفرد في هذا الكون فلا نظير له، وهو الخالق لهذا الكون من غير مثال سبق، وهو الذي يخلق الشيء من غير مادة، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، إذاً فيه هذا المعنى، ألا وهو الشيء الذي لا مثيل له ولا نظير، فالله لا مثيل له لملاحظة هذا المعنى في لفظ البدعة استعملت مادة هذه الكلمة (بَدَعَ) في النبي عليه السلام قال تعالى {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ وما أنا إلا نذير مبين} (3) .
وقوله {قل ما كنت بدعاً من الرسل} يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد، قل ما كنت بدعاً بمعنى اسم المفعول: أي مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي في هذه الحياة، فالله قد أرسل قبلي رسلاً كثيرين، وما أنا إلا حلقة في سلسلة طويلة عدد أفرادها مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، جمَّاً غفيراً كلهم أنبياء الله ورسله، ويدعونه إلى توحيده جل وعلا، فلست بشيءٍ مخترع، لست بشيءٍ حادث، لا مثيل لي، إنما أنا على شاكلة من سبقني، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - ما هو بأول رسول إلى أهل الأرض، وقد أرسل الله قبله رسلاً كثيرين متعددين.
وقد اخبرنا - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الحقيقة في الحديث الثابت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه من رواية أبي سعيد الخدري، وراه والإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من رواية أبي بن كعب رضي الله عنهم عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:
__________
(1) - مريم (65) .
(2) - الشورى (11)
(3) - الأحقاف (9)(76/4)
[مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجلٍ بنى داراً فأجملها وأحسنها إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها فجعل الناس يدخلون الدار ويقولون ما أجملها وموضع وما أحسنها لولا موضع هذه اللبنة، قال نبينا عليه الصلاة والسلام فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين] {قل ما كنت بدعاً من الرسل} لست بشيءٍ مخترعٍ جديد لا مثيل لي ولا نظير، تقدمني رسل كثيرون يدعون إلى عبادة الحي القيوم.
والمعنى الثاني: {قل ما كنت بدعاً من الرسل} بمعنى بصيغة اسم الفاعل،
قل ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً دعوة ما دعاها أنبياء الله ورسله قبلي، فما دعوتكم إلا لما دعا إليه أنبياء الله ورسله فالله أمرني وأمر من قبلي بتوحيده وعبادته وحده لا شريك له {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (1) .
ففي هذه الدعوة التي بلَّغتها، لست بمبتدع، ولست بمنشئ شيئاً جديداً، إنما أنا أقرر ما أتى به أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا المعنى أيضاً الذي يحتمله الآية أشار إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [الأنبياء إخوة لعلاَّت أمهاتهم شتى ودينهم واحد] : أي هم نحو تبليغ رسالاتهم التي أمروا بتبليغها كالأخوة لأب في انتسابهم، أبوهم واحد ونسبتهم واحدة، وهكذا أنبياء الله دينهم واحد نسبتهم واحدة {إن الدين عند الله الإسلام} (2) .
نعم تختلف بعد ذلك فروع هذه الرسالات كما يختلف الاخوة لأب في الأمهات، فالأمهات متعددة، وفروع أنبياء الله ورسله مختلفة، لكن أصل الدين واحد {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} (3) .
__________
(1) - الأنبياء (25)
(2) - آل عمران (19)
(3) - الشورى (13)(76/5)
{قل ما كنت بدعاً من الرسل،} ما كنت مُبتَدَعاً مخترعاً لا مثيل لي وما كنت مُبتَدَعاً دعوة ما بلَّغها من قبلي {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} وهكذا استعملت هذه المادة أيضاً فيما اخترعه بنو إسرائيل من عبادة لم يأذن بها ربنا الجليل، كما أشار إلى ذلك ربنا المجيد في سورة الحديد فقال جل وعلا: {ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتدٍ وكثيرٌ منهم فاسقون * ثم قفَّينا على آثارهم برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها * فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} (1) .
{ورهبانيةً ابتدعوها} نُصبَت بفعل محذوف يفسره المذكور، وليست معطوفة على محمول قوله {وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً} : أي ما جعل الله هذا في قلوبهم ولا شرعه لهم ولا أمرهم به، إنما جعل في قلوبهم رأفةً ورحمةً، وابتدعوا رهبانيةً ابتدعوها، أي اخترعوها وأنشأوها وما أمروا بها.
{ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن هم اخترعوا تلك الرَّهبانية {ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن هم ابتدعوا ذلك واخترعوه تقرباً إلى الله جل وعلا على حسب زعمهم، {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} لكن {ابتدعوها ابتغاء رضوان الله} ، ثم ما وفوا بما ابتدعوه وبما اخترعوه وبما قصدوه، {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون} .
وهذا أظهر القولين في تفسير هذه الآية، والآية تحتمل قولاً آخر وهو أن يعود {ابتغاء رضوان الله} ، وهذا الكتب كان بعد أن ألزموا أنفسهم بهذه العبادة، فشرعها الله لهم وأجاز لهم الترهب طلباً لرضوانه، ولكن هذا بعد أن شددوا فشدَّد عليهم.
__________
(1) - الحديد (26 – 27)(76/6)
روي في سنن أبي داود عن أنس بن مالك رضي الله عنه، والأثر في إسناده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، وقد انفرد الإمام الترمذي بإخراج حديثه، وهو مقبول كما قال عنه الحافظ في التقريب مقبول، وقد وثقه ابن حبان، ولفظ الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: [لا تشدِّدوا فيشدَّدَ عليكم، فإن من قبلكم شددوا فشدّد عليهم فانظروا على أنفسهم شُدِّد عليهم ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، بعد أن شَدَّدوا على أنفسهم عليهم وكتب ذلك عليهم] .
الشاهد في الآية الكريمة إخوتي الكرام {ورهبانية ابتدعوها} : أي اخترعوها هذا هو معنى البدعة في لغة العرب ما أحدث على غير مثال سبق، سواء كان محموداً أو مذموماً في أمر الدين وفي أمر الدنيا، وأما البدعة في الاصطلاح الشرعي وهي محل بحثنا، فهي: (ما أحد في دين رب العالمين، مما يدل عليه دليل مستقيم) عبارات أئمتنا الكرام المهتدين تدور حول هذا المعنى، أحدث في دين الله تعالى لأجل أن يتقرب به الناس إلى الله، ولا يوجد دليل يدل على هذا.
والإمام الغزالي رحمة الله عليه، في كتابه الإحياء عرف البدعة في عدة أماكن من كتابه بعدة تعريفات تعود إلى هذا، فقال:
البدعة: ما تضاد سنة ثابتة وتراغمها: أي تقابلها وتعارضها وترفعها وتزيلها، هذا هو حد البدعة وهذا هو رسمها، ويمكن أن يقال في تعريف البدعة أيضاً بتعريف جامع فنقول:
البدعة: هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، ولا يدل على ذلك دليل من أدلة الشرع الحسان، ويزعم الإنسان بذلك الحدث التقرب به إلى الرحمن.
وهذه البدعة المخترعة في الدين التي لا يشهد عليها دليل قويم، لا تكون إلا مذمومة باطلة ن والعامل بها مذموم ضالّ مبتدع، وعليها يتنزَّل ما في المسند والسنن الأربعة، إلا سنن النسائي، والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وسيأتينا الحديث بطوله عند التنفير من البدع والتحذير منها.(76/7)
ومحل الشاهد في الحديث من رواية العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة] والحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجة وسنن النسائي، من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فيما كان يقوله نبينا - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة، وسيأتينا لفظ الحديث بطوله أيضاً، ولفظ الحديث كما قلت – من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [وكل محدث بدعة وكل بدعةٍ ضلالة] زاد الإمام النسائي في سننه بإسناد صحيح [وكل ضلالة في النار] .
فالمحدث في دين الله، ليتقرب به الإنسان إلى الله لا يكون إلا ضلالة بالتعريف المتقدم، ما أحدث في دين الله، فما لا يشهد له دليل، مما لا أصل له في الدين.
إخوتي الكرام: نحو تعريف البدعة ينبغي أن نقف وقفة مع فرقتين اثنتين حصل في الأمة منهما بلاء وشر مستطير، أما الفرقة الأولى: فقد وسعت مفهوم البدعة لتدخل فيها ما لا ينطبق عليها، وأما الفرقة الثانية فقد ضيقت مفهوم البدعة وقالت لا بدعة في الإسلام وكل ما يفعله الإنسان ويريد به وجه الرحمن فهو مشروع من الخيرات الحسان، أما الفرقة الأولى: فقد تشدَّدت وغلت وأفرطت، وأما الفرقة الثانية: فقد قصِّرت وأجحفت وفرطت، ودين الله بين الغالي والجافي، وإذا كان الأمر كذلك فلابد إخوتي الكرام من معالجة هذه القضية ومناقضة هاتين الفرقتين اللتين تفسدان في أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، فريق عن طريق الإفراط وفريق عن طريق التفريط.
أما الفرقة الأولى التي أفرطت وأدخلت في البدعة ما لا يدخل فيها ولا ينطبق التعريف عليها، فأفرطت من وجهين اثنين:
أولها: حكمت على أشياء بالبدعة وقد قام عليها الدليل وقال بها إمام جليل وما احتملته أدلته الشريعة المطهرة وقاله أئمتنا البررة لا يحكم عليه بالبدعية والتضليل إلا خبيث ضلّيل،(76/8)
ثانيهما: (من الوجهين اللذين وسعا وأخطأ – كم قلت) الذي وسع هذا الفريق فيه مفهوم البدعة وأخطأ فيه، حكم على أمور بالبدعية، وقد قامت عليها نصوص صريحة شرعية.
1. في الصورة الأولى أدلة شرعية احتملت هذا الفعل فخرج عن كونه بدعة، مع احتمال الدليل له قال به عدد من أئمتنا، لكن ما راعى احتمال الدليل له ولا اعتبر أقوال أئمتنا نحوه، وبدأ يصول ويجول على أمة نبينا عليه الصلاة والسلام ويبدع الكبير والصغير، ويرد على المتقدم والمتأخر.
2. والحالة الثانية أفعال قامت الأدلة الشرعية على مشروعيتها، لكن ذلك الدليل ما قبله صاحب العقل الهزيل لما عمل حوله من قال وقيل، وقال هذا الفعل بدعة ولا بد إخوتي الكرام من التمثيل ليتضح الأمر.
أما الأمر الأول، ما احتمله الدليل الشرعي وقاله أئمتنا ونقل عن سلفنا لا يحكم عليه بالبدعة، من حكم عليه بالبدعة فهو المبتدع الضال المضل، هذا إخوتي الكرام لابد عليه من تمثيل، وليوضح الأمر سأذكر صورتين اثنتين:
صورة وقعت في سلفنا واحتلها الدليل الشرعي واختلفت الصحابة الكرام نحوها، لكن لما احتمل الدليل فهم كل منهم أقر كل واحد منهم صاحبه على فهمه، وقالوا نحن نريد بما نفعل وجه ربنا جل وعلا، فلا داعي أن يرد بعضنا على بعض ولا أن يضلل بعضنا على بعض.
والصورة الثانية وقعت في هذه الحياة في هذه العصور المظلمة، وهي دون تلك بكثير وبدأ بعضنا ينبذ بعضاً بالبدع والضلال من أجلها، فاستمعوا إخوتي الكرام.(76/9)
الصورة الأولى: ثبتت في صحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة] بعد أن انتهت موقعة الأحزاب، وكفى الله المؤمنين القتال وأرسل على المشركين ريحاً وجنوداً لم تروها، وعاد المشركون من قريش إلى مكة المكرمة وبنو قريظة من اليهود في المدينة المنورة قد نكثوا العهد وغدروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبصحبه الكرام، واتفقوا مع المشركين على الانقضاض على الدولة الإسلامية من داخلها ومن خارجها فبعد أن انتهت المعركة وذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيته أتاه جبريل عليه السلام قال [وضعتم أسلحتكم؟ قال نعم، قال لكنا نحن في السماء لم نضع أسلحتنا، إن الله يأمرك أن تتوجه إلى بني قريظة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - منادياً ينادي من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلَّينَّ العصر إلا في بني قريظة] والحديث في الصحيحين فأسرع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إلى اليهود الملعونين ليصفوا الحساب معهم، وهم في الطريق أدركتهم صلاة العصر، فانقسمت الصحابة إلى قسمين: قسم قالوا لم يُرَدْ منا ذلك، لم يرد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: لايصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة لم يُرَدْ منا التأخير، (لم يُرَدْ) ، (لم يُرِدْ) ضبط بصيغة المبني للمجهول والمعلوم وكل منهما صحيح، لم يُرِد’ منا النبي عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة بقوله، إنما أراد منا الإسراع، رد لم يُرَد من ذلك، لم يُرِد منا ذلك] وعليه ينبغي أن نصيلي العصر في الطريق، ثم نواصل سيرنا إلى بني قريظة، وقال الفريق الآخر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة] فلا يضليها إلا في هناك، ولو صلينا بعد المغرب أو بعد العشاء هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فصلَّى فريق منهم في الطريق، وصلَّى فريق منهم بعد غروب الشمس، عندما وصلوا بني(76/10)
قريظة، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة السلام فلم يعنِّف واحداً منهم، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح من رواية كعب بن مالك رضي الله عنه، وفيه أن الصحابة اقتسموا في الطريق، فقال فريق لم يُرد منا ذلك، إنما أريد منا الإسراع، وقال فريق آخر عزمة النبي صلى الله علية وسلم علينا، أى غرم علينا أن لانصلي إلا في بني قريظة فنحن في عزيمته، يقول كعب بن مالك: فصلى فريق منهم في الطريق، وصلى فريق منهم في بني قريظة، بعد غروب الشمس، فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يعنف واحدًا منهم.
إن هذه الصورة لو وقعت في زماننا لأراق بعضنا دماء بعض من أجلها ونحن نزعم أننا نعبد ربنا، تأخير الصلاة عن وقتها من غير سبب من الكبائر، ولا سيما صلاة العصر التي إذا فاتت الإنسان فكأوتر أهله وماله وقد حبط عمله،
ومع ذلك تؤخّر العصر وقوفا عند كلام نبينا عليه الصلاة والسلام [لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة] ، وأولئك يصلونها في الطريق تأويلاً لكلام النبي عليه الصلاة والسلام وفهما للمقصود من كلامه ألا وهو الإسراع، وقدا احتمل الدليل الفعلين فكل من الفعلين هدًى ولا يوصف واحد منهما بروًي.(76/11)
وأنت وأهل الأرض إذا أعملوا عقولهم لا يستطيع أحد أن يقف على الراجح والمرجوح من هذا الفعلين، وفي مناظرة ومدارسة جرت لي مع بعض إخواننا، فذكرت هذا الحديث، وقلت هذا مما يدلّ على أن الحق يتعدّد على حسب مراد فاعله والله رحمته واسعة، فهنا الآن اختلفوا وكل منهم أقره النبي عليه الصلاة والسلام وما أنكر عليه، فأنت في رأيك أي الفرقتين مصيبة؛ قال: من ... (حقيقة غاب عنى قوله لغرابته) من أخر العصر وصلاها في بني قريظة أو لعله قال القول الذي يقابله أي من صلى العصر في الطريق، قلت له يا عبد الله؛ هبط عليك جبريل؟ وأخبرك بذلك أن هذا القول راجح وذاك مرجوح، نزل عليك جبريل؟ قال لا، قلت من أين تتكلم؟ أما تتقي الله في كلامك؟ يعنى ... (غير واضح) أننا نحن بدأنا نحكم على أنفسنا ثم على صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، من أين علمت أن من صلى في الطريق أو في بني قريظة هو المصيب وذاك مخطئ، والله يغفر له خطأه ويثيب على اجتهاده، من أين علمت ونبينا صلى الله عليه وسلم عند ما عرض عليه الأمر أقر الفريقين ولم يعنف واحدا منهم.
نعم أخواتي الكرام: ماذا أراد من صلى في الطريق، وماذا أراد من أخر العصر؟(76/12)
في رواية كعب بن مالك يقول: (فصلى فريق في الطريق إيمانا واحتسابا وأخر فريق صلاة العصر فصلوها بعد غروب الشمس إيمانا واحتسابا) أي هم يؤمنون بالله، وبأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ينطق عن الهوى، وقد بذلوا ما في وسعهم لفهم مراد النبي عليه الصلاة والسلام، وأرادوا بعملهم وجه الله، فمن صلى في الطريق فهو مؤمن محتسب، ومن أخر العصر وصلاها في بني قريظة فهو مؤمن محتسب، {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (1) وهى النبات الخالصة صلى لأنه فهم هذا وأراد به وجه الله، وأخر الصلاة فهم هذا وأراد به وجه الله، فعلام يضلّل بعضنا بعضًا وعلام يكفر بعضنا بعضا، والأمر احتمله الدليل وإذا كنا نريد بفعلنا وجه الله الجليل فعلام الاختلاف وعلام القيل والقال؟
أخوتي الكرام: ذكر الله لنا جل وعلا في كتابه خصومة وقعت وعرضت على نبيين كريمين على نبي الله داود وعلى نبي الله سليمان على نبينا وعليهما الصلاة والسلام وقد حكم النبيان في هذه القضية، فأثنى الله عليهما، ثم أشار إلى فرية الابن على الأب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن لا يعنف ذاك، بل أثنى عليه ومدح وأثيب، يقول الله جل وعلا: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمنها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً} (2) .
__________
(1) - الحج (37)
(2) - الأنبياء (78)(76/13)
والقصة مؤجزة مختصرة، رعت ماشية في حرث إنسان، قيل كان حبة، وقيل عنبا تدلّت عناقيده، رعته ونفشت فيه وأهلكته ليلا، ولم تبق منه شيئا، فرفعت القضية إلى نبي الله داود عليه الصلاة والسلام فقال لصاحب البستان: خذ الغنم مقابل ما أتلفته الغنم من زرعك، خذ الغنم، فعرضت القضية على نبي الله سليمان، فقال: لو كان القضاء لي لقضيت بخلاف هذا، فقال والده بأي شيءٍ تقضي يا بني؟ قال: كنت أعطي البستان لصاحب الغنم ليصلحه إلى السنة الآتية حتى إذا صار فيه الحب أو العنب أعاده صاحب الغنم لصاحب البستان وأخذ غنمه، وأعطى الغنم لصاحب البستان لينتفع بدرها وصوفها ونسلها ولبنها، فبعد ذلك إذا عاد بستانه كما كان أعاد الغنم لصاحب الغنم، فهذا ينتفع بنتاج الغنم مقابل ما فاته من نتاج وثمر بستانه، ذاك لا نضيع الغنم، فقضى داود بهذا بعد ذلك، والله أثنى على عبده سليمان، وعلى نبيه داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام.
{ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكما وعلما} ثبت في صحيح البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن الحسن البصري والأثر وصله الإمام ابن عبد البر في كتاب (جامع بيان العلم وفضله) والإمام أبو نعيم في حلية الأولياء عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال: (لولا هذه الآية لظننت أن القضاة هلكوا) فقد أثنى الله على سليمان بإصابته وعذر داود باجتهاده.(76/14)
هذه الصورة الأولى: وقعت في السلف الأول في زمن الصحابة الكرام، لكن القلوب منورة والصدور منشرحة، والعقول زكية ذكية، فما حصل من جرَّاء هذا الخلاف أي مشكلة ردية، استمع بعد ذلك لمشاكلنا التي لا نهاية لها في عصرنا، وسأعرض نموذجاً صغيراً نحو هذه القضية، ليس فيه تأخير صلاة، إنما فيه هيئة من هيئات الصلاة المستجبات التي هي.. بإجماع.. إن تركتها عمداً لا يضرَّك وإن فعلتها فلا يضرك أيضاً فعلها على جميع الأقوال، سواء قلنا مشروعة أولاً، إن فعلتها لا تبطل صلاتك ولو لم تكن مشروعة عند من لا يقول بمشروعيتها، وإذا تركتها لا تبطل صلاتك ولا إثم عليك عند من يقول بمشروعيتها، ومع ذلك نختلف فيها ويضلل بعضنا بعضا، ونشتد في الكلام على سلفنا الكرام.
هذه القضية إخوتي الكرام قضية العقد، وضع اليمين على الشمال بعد الرفع عنا لركوع، إذا رفع الإنسان من الركوع وقال: (سمع الله لمن حمده) فما الكيفية التي ينبغي أن تكون عليها البدان، هل يرسلهما ويسبل يديه؟ كما هو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمة الله عليهم، أو يعقدهما، كما كان يعقدهما قبل الركوع؟ فيضع اليمين على الشمال ويقبض على الشمال باليمين؟ كما كان قبل الركوع كما هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام احمد خير المصلي وقال: (إن شاء عقد ووضع اليمين على الشمال، وإن شاء أرسل وأسبل يديه) لكن الحنابلة قالوا: العقد أفضل بعد الرفع من الركوع، يعني هذا قيام فيه ذكر مسنون، فيشرع فيه القبض، كما كان قبل الركوع، ولأن هذا آكد لخشوع الإنسان، والقلب هو محل الخشوع، والإنسان إذا أراد أن يحافظ على شيءٍ وضع عليه يديه، وقلبك إذا قمت ينبغي أن تضع يديك على قلبك من أجل المحافظة على خشوعك لئلا يكون في هذا القلب شيء من التسرب والوسوسة وحديث النفس، هذا مشروع وهذا مشروع، والكيفية التي ذكرها الإمام أحمد وقررها الحنابلة الكرام.(76/15)
ورد الحديث محتملاً لها، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه يعني من الركوع وقال سمع الله لمن حمده ينتصب قائماً حتى يعود كل فقار إلى موضعه، كل عظم يعود إلى موضعه، قوله (إلى موضعه) هذا ينبغي أن ترسل اليدين.
1. إلى موضعه الطبيعي وعليه ينبغي أن ترسل اليدين.
2. إلى موضعه الذي كان عليه قبل الركوع فينبغي أن تعقد وأن تضع اليمين على الشمال وأن تقبض الشمال باليمين.
يحتمل هذا، ويحتمل هذا، ولذلك قال الإمام أحمد عليه رحمة الله ورضوان: المصلى مخير إن شاء عقد، وإن شاء أرسل.
وثبت في سنن النسائي بسند صحيح كالشمس من رواية وائل بن حجر رضي الله عنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يصلي وهو قائم بقبض شماله بيمينه، إذا كان يضع يمينه على الشمال ويقبض باليمين على الشمال إذا كان قائماً، وهذا القيام عام، ما خصصه بالقيام الذي فيه قراءة وهو قبل الركوع، وعليه.. عموم هذا اللفظ وإطلاقه يشمل القيام الذي بعد الركوع وقبل الركوع والكيفية احتملها دليل شرعي وقال به إمام من أئمتنا، احتملها دليل وقال به إمام جليل. وهي هيئة من هيئات الصلاة مستحبة عند من قال بها، لو تركتها عند الحنابلة لا يضرك، وعند الجمهور لو فعلتها لا يضرك ولا حرج على صلاتك.. طيب.. إذا كانت المسألة في هذه السهولة علام نضخمها في هذا الوقت، وينبذ بعضنا بعضا بالبدعة والضلال، ونفرق بين أمة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟(76/16)
أريد أن أقول لماذا يقال في هذه الأيام في التعبير عن هذه القضية فيقول: (وأما من قال، إن حديث أبي حميد رضي الله عنه يحتمل العقد والقبض بعد الركوع، فهذا قول باطل، من قال هذا هو قول باطل) ثم يقول: ولست أشك في أن هذه الكيفية أي وضع اليمين على الشمال بعد الرفع من الركوع لست أشك في أنها بدعة ضلالة، وإن قال بها الإمام أحمد، وقول الإمام أحمد بها لا يخرجها عن بدعيتها) .
علام يا عبد الله؟ علام رمي كلام أئمتنا بالتبدع والتضليل وقد احتمله الدليل.. قال به إمام جليل، الأمة من أولها إلى آخرها ستحتكم إلى فهمك، ألا تتقي ربك فيما تقول: لا تشك في أنها بدعة ضلالة لو قلت: إن هذه الكيفية فيما يظهر لي أنها مرجوحة، لقلنا جزاك الله خيراً، هذا ما ظهر لك، ومع ذلك نقول: تأدب مع الأئمة وقل هذا وهذا مقرّر عند أئمتنا ولا حرج على الفاعل بكل منهما، لكن (لا تشك) هي قضية قطعية؟ كأنها لا إله إلا الله محمد رسول الله، ليس هناك شك في المسألة، لا تشك يا عبد الله هذه كلها بنيت على أدلة أستنبط منها هذا الأمر، هي ظنية في القولين.
ثم أقول لهذا القائل، ما الدليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل يديه بعد الرفع من الركوع، لا دليل على ذلك، إذاً بقي هذا فهم من حديث، وذالك فهم من حديث، فعلام يقدَّم أحدُ الفهمين ويحكم له بالسنة والسلفية ويرد الفهم الثاني ويحكم عليه بالخطأ والبدعية، علام، هذه مسألة.. هيئة من هيئات الصلاة نختلف فيها – وكما قلت – لو أن المسألة الأولى وقعت فينا لضرب بعضنا رقاب بعض، تؤخر الصلاة عن وقتها، ولأراق دمك، بسم الله عز وجل، ولا يريق دمك إلا باسم الشيطان، سبحان ربي العظيم: هيئة من هيئات الصلاة على القول بمشروعيتها مستحبة، من أجل تتنابد الأمة بالبدعة والضلال؟ إن هذا والله حقاً من العار وهذا هو الانحطاط الذي تعيشه الأمة في هذه الأوقات.(76/17)
إخوتي الكرام: لابد أن ننتبه لقضية قررها علماء الإسلام، وهذه القضية يذكرها الإمام أبن قدامة في كتابه المغني في المقدمة، وينقلها شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في مجموع فتاويه 30/80 وهي (إن اتفاق أئمتنا وإجماعهم حجة قاطعة وأما اختلاف أئمة الإسلام رحمة واسعة) .
قال الإمام ابن قدامة في مقدمة المغني: (تحيا القلوب بذكرهم، وتحصل الخيرات والبركات باقتفاء آثارهم) .
إجماع أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، قلوبنا تحيا عندما نذكرهم ونترحم عليهم، يحصل لنا السعادات والخيرات والبركات عندما نقتفي آثارهم فالإجماع حجة والأختلاف بين أئمتنا رحمة واسعة تتسع له صدورنا ونقول كل يريد وجه ربنا، وعليه إذا قبضت أو أرسلت فأنت على هدى، كما قرر أئمة الإسلام.
وهذا القول أعني أئمتنا حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة هذا القول تتابع عليه أئمة الإسلام، ولا يُنكره إلا أهل البدع والضلال والهذيان، وقد قرر هذا الأمر شيخ الإسلام الإمام الخطابي (388هـ) في كتابه (أعلام الحديث) 1/220.
فبعد أن نقل هذه المقولة إجماع العلماء حجة واختلافهم رحمة، قال: وهذا القول لم يطعن فيه غير رجلين، رجل مغموص عليه في دينه، ورجل معروف بالسخف والخلاعة في مذهبه.
أما المغموص عليه في دينه فهو الجاحظ عمرو بن بحر والذي هلك سنة 250هـ أو 225هـ هذا الجاحظ الذي قال عنه أئمتنا كما في لسان الميزان لأبن حجر وسير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، يقول: ( ... ما جن في دينه مبتدع) قال ثعلب: (كان يكذب على الله وعلى رسوله وعلى عباده، وهو الجاحظ، يكذب على الله وعلى رسوله وعلى عباده، وختم الإمام الذهبي ترجمته بقوله: فسبحان من أضله الله على علم) .
هذا المخذول يطعن في هذه المقولة ن ويقول: إن اختلاف العلماء ليس برحمة، إنما هذا بدعة، وعند الاختلاف ينبغي أن نأخذ بقولٍ ونردَّ ما عداه وأن نبدَّع المخالف.(76/18)
والثاني هو إسحاق بن إبراهيم الموصلي.. صاحب كتاب الأغاني والذي هلك سنة 235هـ ولم يكتف أن أورد في كتابه الأغاني ما أورد، بل صدَّر كتابه بذم أهل الحديث، وعدم وجود العقل عندهم، عندما يروون الحديث، وهذا هو المعروف – كما قلت – بالسخف والخلاعة في مذهبه، هذان الرجلان طعنا في هذه الجملة، وجاء بعدهما صاحب الشذوذ (ابن حزم) وقال: هذه مقولة باطلة، ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاجتماع عذاباً وهذا هو عين ما قاله الجاحظ وعين ما قاله إسحاق بن إبراهيم الموصلي وهذا كلام باطل، وقد فنده الإمام الخطابي في كتابه أعلام الحديث، فقال: إن الشيء وضده قد يجتمعان في الحكمة ويتفقان في المصلحة ن فإذا كان النهار صلاحاً ومعاشاً لا يلزم أن يكون الليل فساداً وضلالاً، وإذا كانت الحياة سبباً والنعمة لا يلزم أن يكون الموت سبباً للشفاء والنقمة، إنما الموت له حكمة، والحياة لها حكمة، والنهار له حكمة، والليل له حكمة، وإذا كان النهار مصلحة لا يلزم أن يكون الليل مفسدة، فكم لظلام الليل عندي من يد تخبّر أن المانويَّة تكذب.
فالاجتماع رحمة، واختلاف الأئمة فيما يشهد له الدليل رحمة، وما أحد قال إن الاجتماع نقمة، ونحن قلنا في أول المقولة، كما قال أئمتنا: (إجماعهم جحة قاطعة – ومخالف الإجماع ضالّ- واختلافهم رحمة واسعة) .
إخوتي الكرام: هذا الأمر ينبغي أن نعيه في هذه الأيام على وجه التمام، لأن الأمة بدأت تتنابز بالضلال والفسق والبدعة دون بصيرة ولا بينة، والشيطان استحوذ على قلوب الناس إلا ما رحم ربك، وأفعال نقلت عن أئمتنا واحتملها الدليل الشرعي وقررها أئمتنا، في هذا العصر تنبذ بالبدعة ويقال: لا شك في أنها بدعة ضلالة.(76/19)
ولا شك في أن هذا الكلام بدعة وضلالة، قائله ينبغي أن يتقي الله وأن يسكت، وإذا لم يسكت فينبغي أن يحجر عليه وأن يسكِّت، ولا يجوز أن يقال فيما احتمله الدليل وقال به إمام جليل بأنه بدعة ضلالة، هذا النموذج الأول شيء احتمله الدليل انظر لموقف سلفنا نحوه وانظر لموقفنا.
أما الموقف الثاني: شيءٌ شهد له الدليل وقام عليه ثم كثر بعد ذلك حوله القال والقيل، بسبب وجود رأي هزيل، فاستمعوا لهذا إخوتي الكرام.(76/20)
صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك هي قيام لليل، ولم يكن الاجتماع عليها في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام ولا في زمن أبي بكر ولا في صدر خلافة عمر، ونبينا عليه الصلاة والسلام صلاَّها وشرعها وصلاَّها بأصحابه ثلاث ليال، ثم ترك بعد ذلك خشية أن تفرض على الأمة، والأمر كما في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن أبي داود من رواية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته، يدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن تعمله الأمة ثم يفرض بعد ذلك هذا العمل على أمته، فلما كان الناس في عهد عمر رضي الله عنه في النصف الثاني من خلافته يصلون التراويح قيام الليل في المسجد مختلفين متفرقين ويشوش بعضهم على بعض، قال عمر رضي الله عنه: أرى لو جمعناهم، ثم جمع الرجال على أبي بن كعب، كما ثبت هذا في صحيح البخاري ومصنف عبد الرزاق وشرح السنة للإمام البغوي وموطأ الإمام مالك وجمع النساء على تميم الداري رضي الله عنه كما في سعيد بن منصور، وعلى سليمان بن أبي خيثمة كما في كتاب قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي، والتوفيق بين جمع النساء على تميم وعلى سليمان، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لعل ذلك في وقتين، يعنى أحياناً كان يصلي تميم في بعض السنوات وأحياناً سليمان بن أبي خيثمة، تميم صحابي، وأما سليمان بن أبي خيثمة فقد ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن سعيد في الطبقات (له رؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز أسماء الصحابة في الفصل الثاني من حرف السين ليشير إلى أنه ولد في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هناك خلاف حول صحبته، وعل كل حال هو من الصالحين الأبرار، وكان عمر رضي الله عنه يعهد إليه في خلافته بأن يتفقد أحوال السوق، سليمان بن أبي خيثمة يؤم النساء هو وتميم، وأبي بن كعب يؤم الرجال وقد(76/21)
كانت الصلاة في ذلك الوقت عشرين ركعة، ويوترون بثلاث، هذا في فعل الخليفة الراشد الهادي المهدي عمر بن الخطاب، ورد هذا في موطأ الإمام مالك عن يزيد بن رومان قال: كانت الصلاة يعني صلاة القيام في رمضان ثلاثاً وعشرين ركعة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثلاثاً وعشرين، عشرون منها التراويح، ويوترون بثلاث.
وهذا الأثر وإن كان منقطعاً فيزيد بن رومان لم يدرك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وهو من التابعين الكرام (130هـ) وحديثه في الكتب الستة، إمام ثقة عدل فاضل رضي الله عنه، لكن ورد الأثر متصلاً صحيحاً ثابتاً بسندٍ كالشمس وضوحاً، وكالقمر سطوعاً، والأثر في سنن البيهقي من رواية السائب ابن يزيد وهو من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، قال: كنا ننصرف من القيام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد قارب بزوغ الفجر، وكانت الصلاة ثلاثاً وعشرين ركعة، يصلون عشرين ويوترون بثلاث، وهذا الأثر صححه الإمام النووي وصححه الإمام ابن العراقي في كتابه طرح التثريب في شرح التقريب 3/79، وصححه السيوطي وصححه جمٌ غفير من أئمتنا، يصلون التراويح عشرين ويوترون بثلاث، هذا الذي فُعل في عهد عمر رضي الله عنه، وهذا الذي عليه الجمهور، أبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين أن السنة في صلاة التراويح عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات.(76/22)
والإمام مالك أدرك العمل في عهده على خلاف ذلك، فقال بموجبه، فكان أهل المدينة في زمن الإمام مالك يصلون التراويح ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بخمس، فمجموع صلاتهم إحدى وأربعون ركعة، وإنما كان يفعل أهل المدينة هذا بعد عمر اجتهاداً منهم، لأن أهل مكة كانوا يطوفون بعد كل ركعتين سبعة أشواط، فأراد أهل المدينة أن يحصلوا ما يقارب أهل مكة في الفضل، فكانوا بدل الطواف – فليس عندهم كعبة يطوفون حولها بالمدينة المنورة، فكانوا يضاعفون الصلاة، فبدل الطواف يصلون ركعتين، فالعشرون صارت كما قلت إلى واحدة وأربعين، وأولئك يصلون عشرين، هذا كله مقرر في كتبنا عند أئمتنا، ولا قائل بغير ذلك، وعليه صلاة التراويح عند الأئمة الأربعة الكرام البررة عشرون ويوتر بثلاث، وإما ست وثلاثون ويوتر بخمس.
قال الإمام ابن العراقي، ولي الدين، في كتاب طرح التثريب في المكان المشار إليه: ولما صار والدي يعني شيخ الإسلام الحافظ الإمام عبد الرحيم ابن الحسين الأثري العراقي، شيخ الإمام ابن حجر، يقول لما صار والدي إماماً في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كان في القرن الثامن للهجرة – أحيا السنة القديمة مع المحافظة على فعل أهل المدينة، فكان في أول الليل يصلي عشرين ويوتر بثلاث ويقرأ جزءاً فيختم مرتين في رمضان، فبعد منتصف الليل يصلي ست عشرة ركعة أيضاً وخمس ركعات بعدها لأجل أن يكون مجموع الصلاتين كما كان يفعله أهل المدينة في عهد الإمام مالك رضي الله عنه وكما كان في عهد عمر رضي الله عنه، وفي أول الليل يجعل الصلاة على الكيفية التي كانت في عهد عمر عشرين ويوتر بثلاث، ثم يضم في آخر الليل بما يلتحق به ما قرره الإمام مالك محافظة على المقرر في المذاهب الأربعة، وأن لا تجزم به على نفسك، يقول عنه الإمام ابن قدامة في المغني (وهذا كالإجماع) .(76/23)
ويقول عنه ولي الدين العراقي في طرح التثريب: (وهذا كالإجماع) ولإمام الترمذي في سننه (وقد توفي 275هـ أو 279هـ) يقول: (أكثر أهل العلم أن عدد صلاة التراويح.. القيام.. في شهر رمضان ما نقل عن عمر وعلي أنها عشرون ركعة ويوترون بثلاث) ، هذا أكثر أهل العلم، وأي أهل العلم؟ يعني في القرن الأول والثاني من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا موجود في دواوين السنة، أكثر أهل العلم أن صلاة التراويح عشرون ركعة ويوترون بثلاث، كما نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
هذا الفعل المقرر الذي هو سنة ينبغي أن نأخذ بها، يأتيك ضالون في هذا الوقت فيقولون: صلاة التراويح السنة فيها ثمان ركعات ويوتر بثلاث، ومن زاد على ذلك فهو مبتدع، أي بدعة أيها المبتدع فيما يفعله المذاهب الأربعة؟ فعل فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وبعده علي والصحابة الكرام، وهذا الذي استمر في بلاد الإسلام إلى هذا الزمان وهو المقرر عند أئمتنا الكرام، يقال عنه في هذه الأيام هذا بدعة.
ولما جرى لفظ في بعض البلاد حول صلاة التراويح، وألزموا من الجهة المسؤولة بالعشرين والإيثار بثلاث بدأ كثير من طلبة العلم يتأففون ويلعنون ويقولون أمرنا بالبدعة، العشرون بدعة ضلالة لا ينبغي نصليها في المساجد، سبحان ربي العظيم، وصلنا إلى عصر يلعن فيه الآخر الأول، والتأخر المتقدم، هذا فعل منقول عن عمر، أو ليس فعل عمر سنة؟ بلى وربي إنه سنة ثابتة.(76/24)
ثبت في المسند وسنن الترمذي وابن ماجة، والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك ورواه أبو نعيم في الحلية والحميدي في مسنده وهو في كتاب السنة لأبن أبي عاصم، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ورواه البيهقي في السنن الكبرى، والطحاوي في مشكل الأثار والدارقطني في سننه بسندٍ صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر] ، والحديث ثبت من رواية ابن عمر ومن رواية عبد الله ابن مسعود ومن رواية أنس رضي الله عنهم أجمعين.
وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه في عدة أماكن من هذا الكتاب 2/272 و 23/112 و120، يقرر أن الثابت في عهد عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يصلون عشرين ركعة ويوترون بثلاث.
وترى كتباً في هذه الأيام تتطاير هنا وهناك، جائزة 500 ليرة سورية لمن يثبت أن صلاة التراويح عشرون ركعة.
أما ترجع عن سفاهتك وغيَّك أيها الضال المبتدع وأي إثبات تريد بعد أن فعلها هذا الخليفة الراشد، وحكى الإمام الترمذي في سنن هذا القول عن أكثر أهل العلم، وهو الذي قال به الأئمة الثلاثة، والإمام مالك يقول ست وثلاثون ويوترون بخمس، أي دليل تريد أكثر من هذا؟ أي دليل تريد؟ تريد أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام من قبره ليقول لنا التزموا بما فعل عمر رضي الله عنه، صلاة التراويح عشرون ركعة، تريد هذا؟ وأنت تعلم أن هذا غير ممكن – ولذلك تجادل بالباطل وتنشر رسائل هنا وهناك جائزة كذا، وصارت القضايا العلمية في هذا الهزال؟ وكأنها في سوق حراج، القضايا العلمية تبحث، من الكتب الشرعية في دواوين السنة وكتب أئمتنا الفقهاء ومن يقول: إن صلاة التراويح عشرون ركعة، من يقول عنها إنها بدعة فهو المبتدع الضال المخرف، الذي يبدّع ما كان عليه سلفنا، فانتبهوا لهذه القضية.(76/25)
إخوتي الكرام: صلاة التراويح صلاَّها عمر رضي الله عنه بهذه الشاكلة وتناقلها عنه أئمتنا وقال عدد من أئمتنا هي كالإجماع، أي هذه المسألة كأنها مُجمَع عليها، ولا خلاف فيها أنها عشرون ركعة ويوترون بثلاث.
وحقيقة ينبغي على مساجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بلا استثناء أن تتقيد بهذه الكيفية التي فعلها هذا الخليفة الراشد، وتضييع هذا من علامات ضياع الأمة.
نعم لا يلزم أحداً بصلاة عشرين، فمن شاء أن يصلي عشرين أو أربعين أو مائة أو مائتين أو ركعتين أو أن يصلي صلاة القيام فأمره إلى الله، لكن الكيفية المعلنة ينبغي أن تكون على حسب ما هو مقرر في كتب أئمتنا، لا على حسب تخريص المخرصين في هذا الحين ولا في غيره. فلنلتزم بهذه الكيفية في المساجد الشرعية، ثم بعد ذلك أراد الناس أن يصلوا ثماني ركعات أو أربع ركعات أو ركعتين، فهم وما يطيقون، وأما أن يكون هذا شعاراً لبلاد المسلمين أنهم يصلون ثمان ركعات ويوترون بثلاث وكأنما قرره أئمتنا ليس بصحيح ولا ثابت.
إخوتي الكرام: لابد من ضبط هذا الأمر وأن صلاة التراويح عشرون ركعة ونوتر بثلاث، وهذا هو الذي عليه الجمهور كما قلت، والقول الثاني ست وثلاثون ونوتر بخمس كما هو قول الإمام مالك وفعل أهل المدينة هذا بعد عمر رضي الله عنه لعلة ذكرتها، فكونوا على علم بها، لكن أصل الثبوت عشرون وثلاث ركعات وتراً، كيفية شرعية واردة عمن أمرنا خير البرية - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء به وهو عمر رضي الله عنه والأمة كأنها مجمعة على ذلك، يتنابزون الضلال فيما بينهم في هذه الأيام،(76/26)
يا عبد الله، إن صليت ثماني ركعات فمن يمنعك؟ لكن لم ستلزم الأمة برأيك؟ وهل تقدم رأيك على رأي أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد؟ أو لست أنت تدعو وغيرك إلى احترام السلف؟ أي احترام لهم إذا نبذنا أقوالهم وراء ظهورنا وقلنا إن العشرين تعتبر بدعة؟ أي احترام منا لأئمتنا ولسلفنا؟ إذا كنا ننبذ أقوالهم بأنها بدعة وضلال وتخريف؟
هذا مثال، قام الدليل على اعتباره وهو فعل الخليفة الراشد يحكم عليه في هذه الأيام بأنها بدعة ضلالة.(76/27)
وانظروا لفقه أئمتنا ولاجتهادهم فيه، في أمور ديننا، روى الإمام البيهقي في السنن الكبرى والأثر انظروا في الجزء 5/212 أن الإمام الشافعي عندما حج وجلس في فناء زمزم وقال سلوني، لا تسألوني عن شيءٍ إلا أجبتكم عنه من كتاب الله تعالى، فقيل له: ما تقول يا أبا عبد الله في المحرم يقتل الزنبور؟ وهل عليه فدية؟ وهل يباح له أن يقتل الزنبور؟ وهي الحشرة التي تكبر النحلة وتلسع لسعاً قريباً من لسع العقرب، هل عليه حرج بقتل الزنبور؟ وهل هناك دليل على قتل الزنبور؟ هات آية من القرآن على ذلك؟ ما تقول في المحرم يقتل الزنبور هات آية؟ وأنت تقول سلوني لا تسألوني عن شيءٍ إلا أجبتكم عنه من كتاب الله تعالى، فانظر لفقه الشافعي، وانظر لسفاهة المعاصرة في هذا الحين، فقال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله تعالى قال تعالى {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام [اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر] وقد قضى عمر بأن المحرم يقتل الزنبور ولا حرج عليه، إذاً قضاء عمر كأنها آية في كتاب الله، لأن الله أمرنا بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ورسولنا أمرنا باتباع عمر، فما قضى به عمر دل عليه كلام الله وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال هذه آية من القرآن بأن الزنبور لا حرج على المحرم في قتله، والله أمرنا بطاعة النبي عليه الصلاة والسلام، في القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام أمرنا بطاعة هذا الخليفة الراشد رحمة الله ورضوانه عليه، وعليه عندما نطيعه فقد حققنا مدلول القرآن {وما آتاكم الرسول فخذوه} .
أنظر لهذا الفقه، وانظر للسفاهة والفسق في زمننا، يرفع صوته بلا حياء، لا من الله ولا من عباد الله، بأن هذه الكيفية عشرون ركعة بدعة ضلالة، ثم بعد ذلك يشيع في الأمة بأن الأمة بدأت تصحو وتستيقظ من سباتها وبدأ المسلمون يصلون في مساجدهم ثمان ركعات ويوترون بثلاث.(76/28)
والله لو كان عندنا قلوب تخشى علام الغيوب لتفطرت عندما نرى هذه المساجد بيوت ربنا في هذه الحالة، ويكفينا سفاهة وضلالة أنا خرجنا عن هدي أئمتنا، ولم نتبعهم فيما قرروه من أمور ديننا، وجاء بعد ذلك المتأخرون المتطفلون ينبذ هذه الكيفية بأنها ضلال، وأن السنة الثابتة هي كذا، وكأن الأمة الإسلامية منذ عهد عمر إلى من بعده لا تعي السنة ولا تعرفها.
إخوتي الكرام: لابد من وعي هذه القضية.
المثال الثاني: الذي أردت أن أذكره طويل أرجئه – إن شاء الله – أيضاً إلى أول الموعظة الثانية لأذكر هـ ولأذكر أيضاً إن شاء الله الفريق الثاني الذي هوَّن من شأن البدعة وقال: لا بدعة في الإسلام، وحولوا بعد ذلك بيوت الله إلى مراقص ينبحون فيها كما تنبح الكلاب، ويزعمون أنهم يذكرون الكريم الوهاب، وإن قلت لهم كيف تفعلون هذا؟ يقولون نذكر الله بعبادات لم ترد بها شرع الله، يحرِّفون أيضاً ذكر الله ويرقصون في بيوت الله ثم بعد ذلك يقولون: إننا نذكر الله، ولا بدعة في الإسلام، إنما نريد بذلك وجه الله.
ليس من طريق المسلمين التهويل ولا التهوين ولا الإفراط ولا التفريط، إنما طريقنا صراط مستقيم، ودين الله بين الغالي والجافي.
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يرزقنا اتباع أئمتنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء ولمرسلين، وسلم تسليماً كثيرا، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(76/29)
عباد الله: كنت ذكرت أمثلة كثيرة في المواعظ السابقة مما ورد بها دليل شرعي صحيح صريح وكيفية ذلك الأمر ليس مما يحتله الدليل، إنما مما ورد التصريح به في الدليل، ومع ذلك يكثرون حوله اللغط والقال والقيل، ومن تلك الكيفيات التي ذكرتها أمر موجز لابد من التنبيه عليه، موضوع التبرك بالصالحين، وقلت هذا الأمر إخوتي الكرام قرره نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا كلام لمتكلم، وهذا هو المنقول عن سلفنا الكرام وعن أئمة الإسلام، وإذا كان من يدعي في هذه الأيام بأنه لابد من الرجوع إلى الكتاب والسنة وسلف الأمة فعلى الرأس والعين، ولا خير فيمن لم يلتزم بذلك، ولكن أريد أن أعلم كيف تطرح السنة باسم السنة؟
ثبت في معجم الطبراني الأوسط، والحديث انظروه في مجمع الزوائد 1/214، والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وأصله مروي مختصراً في مصنف عبد الرزاق ورجال الحديث موثقون وإسناد الحديث حسن، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين) .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إلى المطاهر – وهي الأمكنة التي يتوضأ منها الصحابة الكرام فيؤتى بالماء الذي يتوضأ منه الصحابة ما فضل من وضوئهم، من الماء الذي توضأوا به، لأن هذه الأيدي عندما امتدت إليه لتباشر هذه العبادة الجليلة صارت لهذه الفضلة بركة ومنزلة وشأن، فيعلِّمنا نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الأمر كان هو يقوم به ويفعله وهو المبارك الذي يتبرك به حياً وميتاً، فكان يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين.(76/30)
والحديث كما قلت حديث صحيح وهو في هذه الكتب التي ذكرتها، وهكذا قرره أئمتنا، والزعم بعد ذلك بأن التبرك بالرجل الصالح عند ما نصافحه ونرجو البركة، عندما نقبل يده مثلاً نرجو البركة، عندما ... عندما ... الزعم بأن هذا شرك، سبحان ربي العظيم، عندما تقبل الحجر الأسود وتلمسه هذا شرك؟ هل أنت تعبد الرجل الصالح؟ وهل أنت تعبد الحجر الأسود؟ أم تعبد رب هذا الرجل، ورب هذا لحجر الأسود؟ إنما أنت تعظم ما عظمه الله، وتحترم ما أمرك الله باحترامه، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} ، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا، فمن المعترض بعد ذلك؟ ينبغي أن تقطع رقبته أو أن يقطع لسانه. بعد أن يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا ويتناقله أئمتنا الكرام، من المعترض؟ وعلام اللغط؟ وإذا أردتم أن تقولوا شيئاً فانسبوه إلى من قال به من أئمة الإسلام، فأما أن تقول: هذا خرافة، وهذا بدعة، وهذا ضلالة، فأخبرونا من الذي قال بقولكم؟ ومن ذكر هذا الحكم الذي تذكرونه؟ فإن كان من بنيات أذهانكم فما أنتم ممن يعوّل عليه في هذا العصر الهابط، وإن كنتم تنقلون عن سلفنا فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين.
إخوتي الكرام تقدم معنا هذه القضية أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه دخل على سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى جوار ربه فأكب عليه وقبله عليه الصلاة والسلام، والحديث كما تقدم معنا في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن النسائي وغير ذلك، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا بالصالحين من الصحابة الكرام عندما يموتون.
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا النسائي وقال الترمذي إسناده حسن صحيح، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن عثمان ابن مظعون لما توفي أكب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه وقبله ثم رفع رأسه والدموع تنهمر من عينيه.(76/31)
قال الشوكاني في نيل الأوطار عند هذين الحديثين في كتاب الجنائز 4/25 وفي هذا الحديث.. في فعل أبي بكر رضي الله عنه مع نبينا عليه الصلاة والسلام ثم بفعل نبينا عليه الصلاة والسلام مع عثمان بن مظعون يقول: وفي هذا الحديث جواز تقبيل الميت تعظيماً وتبركاً، ثم قال الإمام الشوكاني: وهذا اجماع لأنه لم ينتقل أن أحداً أنكر على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
سبحان ربي العظيم، أمر يفعله نبينا عليه الصلاة والسلام نحو الماء ونحو الصحابة رضي اله عنهم أجمعين، وأمر يفعله أبو بكر رضي الله عنه مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ويأتي أئمة الإسلام ويقولون هذا إجماع فلا منكر في هذه المسألة، ثم يأتيك تخريف المخرفين في هذا الحين فيقولون: هذا بدعة، وهذه ضلالة، سبحان ربي العظيم، لا يقنعكم كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ولا يقنعكم كلام السلف الصالح وفعلهم فمن تريدون بعد ذلك؟ أريد أن أقول كما قلت إخوني الكرام من يكثر اللغط حول هذه المسائل قل له سمِّ من قال بقولك هذا من سلفنا لينتهي القيل والقال، وليرتفع الجدال وينتهي المقال.
أسال الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعل هواناً تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(76/32)
اللهم اجعل لنا في قلوبنا نوراً وفي أسماعنا نورا وفي أبصارنا نوراً وفي آذاناً نوراً وعن أيمانناً نوراً وعن شمائلنا نوراً، ومن أمامنا نورا ومن خلفنا نوراً ومن فوقنا نوراً ومن تحتنا نوراً، اللهم اجعل لنا نوراً نمشي به إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم، اللهم رب جبريل وميكائيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرهنا فيه، اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينة في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اجعل حبك وحب رسولك - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميعٌ قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .(76/33)
إجلال الله وعظمته
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
إجلال الله وتعظيمه
الجمعة22/4/94 ... ... ... ... ... ... ... ... 26
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون.
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(77/1)
إن المساجد هي أفضل البقاع وأحبها إلى رب الأرض والسماء ففيها نوره وهداه وإليها يأوي الموحدون والمهتدون وحقيقة حقيقة هم الرجال الذين يتصفون بأطيب الخصال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن طاعة رب الأرض والسماوات وهم الذين يعظمون الله فيسبحونه ويصلون له وهم الذي يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم وهم الذين يخافون من ربهم ويستعدون للقائه في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
نعم إخوتي الكرام هؤلاء هم الرجال حقا أحسنوا صلتهم بربهم عز وجل وأحسنوا صلتهم بعباد الله فعظموا الله جل وعلا والوجل منه وهذا من علامة سعادتهم كما قال العبد الصالح أبو عثمان النيسابوري وهو سعيد بن إسماعيل الذي توفي سنة 298هـ للهجرة يقول هذا العبد الصالح من علامة سعادة الإنسان أن يعمل الصالحات وأن يطيع رب الأرض والسماوات ويخاف أن يكون مردودا مطرودا ومن علامة شقاوة الإنسان أن يعمل السيئات ويرجو بعد ذلك أن يكون مقبولا. وهؤلاء العباد عظموا الله عز وجل وأحسنوا إلى عباد الله وأشفقوا عليهم ومع ذلك يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. إخوتي الكرام وهذه الصفة الرابعة التي نعتهم الله بها في القرآن كنا نتدارسها وقلت سنتدارسها ضمن مبحثين اثنين حول الخوف وحول يوم القيامة أما الخوف فقد ذكرت أننا سنتدارسه أيضا ضمن أربعة مراحل مضى الكلام على ثلاث منها فيما يتعلق بتعريف الخوف ومنزلة الخوف في شريعة الله وثمرة الخوف وما يحصله الخائف من ربه من ثمرات طيبة في العاجل والآجل في الدنيا والآخرة وبقي علينا الأمر الرابع المتعلق بالخوف ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين.
إخوتي الكرام إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة وهي على تعددها أن تحصر في ثلاثة أسباب:
أولها: تعظيم الله جل وعلا وإجلاله.(77/2)
ثانيها: الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقا بفعل الطاعات أو ارتكاب المحظورات.
ثالثها: وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين خشية سوء الخاتمة.
فهذه الأمور الثلاثة تدعوا هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال تعظيم الله جل وعلا وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء وسيختم لهم وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها فلنتدارس في هذه الموعظة:
السبب الأول منها: الخشية من التفريط الذي يتصف به الإنسان نحو ذي الجلال والإكرام سواء كان ذلك التفريط متعلقا بفعل الطاعات أو ارتكاب المحظورات. مثالتها وهو الذي يقطع قلوب الصالحين والصديقين خشية سوء الخاتمة فهذه الأمور الثلاثة تدعوا هؤلاء الرجال إلى الخوف من ذي العزة والجلال تعظيم الله جل وعلا وخشية تفريطهم في جنب ربهم جل وعلا وبعد ذلك لا يعلمون بأي شيء وسيختم لهم وهذه الأسباب الثلاثة سنتدارسها إن شاء الله في هذه الموعظة وفيما بعدها فلنتدارس في هذه الموعظة السبب الأول منها: إجلال الله وتعظيمه.
نعم إخوتي الكرام هؤلاء الرجال يجلون الله جل وعلا ويعظمونه لأنه عظيم لأنه جليل وينبغي لهذا العبد الضعيف الذليل أن يجل مولاه الكبير الجليل سبحانه وتعالى لا لعله سوى ذلك فأنت فقير والله غني وأنت ضعيف والله قوي وأنت ذليل والله جليل وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تجل الله وأن تهابه وأن تخافه وكل من استحضر هذا المعنى لا بد وأن يخاف الله عز وجل.
إخوتي الكرام الخوف من الله تعظيما له وإجلال له لا من أجل ثواب ولا من أجل خشية عقاب إنما هو إله عظيم جليل ينبغي أن نجله وأن نحاف منه وحقيقة من عرف الله جل وعلا وعرف أن ما يجري في هذا الكون من عرشه إلى فرشه ما هو إلا آثار أسماء الله وصفاته آثار صفات الجمال والجلال آثار صفات البر والقهر..(77/3)
"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب".
فمن استحضر صفات الكريم الوهاب وأنها هي التي تعمل في هذا الكون من عرشه إلى فرشه لابد وأن يخاف الله جل وعلا لا بد وأن يجل الله جل وعلا. لابد وأن يهاب الله سبحانه وتعالى وأن يعظمه وهذا النوع هو أعلى أنواع الخوف وقد أمرنا الله بأن نخاف نفسه وأن نخشاه حق خشيته في آيات كثيرة من القرآن فقال جل وعلى في سورة آل عمران لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله شيء إلا أن تتقوا تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. ويحذركم الله نفسه لا طمعا في ثوابه ولا خشية من عقابه ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير. قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد نعم إن هذا الخوف هو أجل وأعلى وأرفع أنواع الخوف وقد أشار إلى هذه المرئية في خوف الله جل وعلا الخوف منه لتعظيمه وإجلاله أئمتنا الكرام كما قال العبد الصالح ذو النون المصري وهو ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض توفي سنة245هـ من العلماء الربانيين الكرام كان مستجاب الدعوة ولما توفي عليه رحمة الله أظلت الطير جنازته حتى دفن ذو النون المصري ومن كلامه العذب المحكم أنه كان يقول من تطأطأ لقط رطبا ومن تعالى لقي عطبا. من تواضع في هذه الحياة لقي رطباً والرطب يجنيها الإنسان عندما يلتقطها من الأرض ومن تعالى وشمخ بأنفه لقي عطبا.(77/4)
ومن كلامه المحكم الذي تناقله أئمتنا عنه وأكثروا من ذكره ومن اللهج به وبخاصة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية عليهم رحمات رب البرية كان يقول هذا العبد الصالح والله ما طابت الدنيا إلا بمعرفة الله وبمحبته وما طابت الآخرة إلا بمغفرة الله ورحمته وما طابت الجنة إلا برؤية الله ومشاهدته.
يقول هذا العبد الصالح ذو النون مشير إلى هذه الرتبة من أنواع خوف الكلفين من رب العالمين خوفهم إجلالا له وتعظيماً يقول خوف النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي.
ويريد بذلك رحمة الله أي أن الرجال الكاملين يخشون من فراق رب العالمين ومن غصبه عليهم أضعاف أضعاف ما يخشونه من نار الجحيم خشية النار الخوف من النار عند خوف الفراق كقطرة في بحر لجي. ويحذركم الله نفسه.
نعم إخوتي الكرام إن هذه الرتبة هي أجل أنواع الخوف أن تخاف من الله إجلالا له وتعظيماً له وهكذا أن تعبده لأنه إله عظيم يستحق العبادة سواء أمرك بالعبادة أولا وسواء سيثيبك على العبادة أولا وسواء نهاك عن مخالفته أولا وسواء سيعذبك على المخالفة أو لا أنت تطيعه وتعبده لأنه إله عظيم فتقوم بحقوق ربك عليك في كل حين ويحذركم الله نفسه وإذا ما أمرنا الله بعبادته هل يصلح منا أن نتخلى عنه وألا نلجأ إليه وإذا ما جعل الله في الآخرة جنة ولا نار هل يصلح منا أن نبتعد عنه:
هب البعث لم تأتنا رسله ... وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحقَّ ... عبادة رب الورى الأكرم
أليس من الواجب المستحِقِّ ... الحياء من الرب المنعم
هب أنه ليس هناك بعث وليس هناك نار تضطرم يوم القيامة وتغلي وتفور أليس من حق الله علينا أن نعبده وأن نعظمه وأن نجله وأن نستحي منه. بلى وعزة ربنا وهذا المعنى قرره أئمتنا الكرام وانظروه موسعا.(77/5)
إخوتي الكرام: في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة للإمام ابن القيم 2/88 وما بعدها وانظروا في مجموع فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد السادس عشر صفحة ثلاث وخمسين ومائتين وما بعدها فهذا هو أجل أنواع الخوف وعبادة الله تعظيماً له أعلى أنواع العبادات والسبب في ذلك أن من يخاف من الله إجلالاً له أعطى الرب حقه وقام بما ينبغي أن يقوم به العبد نحو سيده.
والأمر الثاني أن من عبد الله جل وعلا تعظيماً له وإجلالا له ما جعل الله وسيلة لمنفعته وشهواته ولتنعمه وللذائذه إنما عبد الله لأنه إله عظيم يستحق منا العبادة في كل حين كونه تكرم علينا بعد ذلك بجنات النعيم هذا زيادة إحسان وفضل منه كما أغدق علينا نعمة في هذه الحياة فضلا منه وكرما دون استحقاق للمخلوقات على خالقها وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.
والأمر الثالث أن من عبد الله إجلالا له ومن خافه تعظيماً له لا ينقطع عن العبادة ولا يفتر عن الخوف وإن حصل مطلوبه وإن أسقط الله عنه الأمر والنهي وإن وإن فهو يقول أنا عبد وسيدي رب ولا يصلح للعبد إلا أن يخاف من الرب وأن يتذلل له سبحانه وتعالى.(77/6)
إخوتي الكرام هذا أجل أنواع الخوف ويحذركم الله نفسه وقد أشار الله إليه في آيات القرآن وقدمه على الخوف من وعيده ومن النيران فقال جل وعلا في سورة إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم والآية تقدمت معنا في ثمرات الخوف ولكن انتبهوا لهذه الدلالة التي تطرب لها عقول الرجال يقول ذو العزة والجلال وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد نوعان من أنواع الخوف لمن خاف مقامي وتقدم معنا أن المصدر هنا إما أنه مضاف إلى الفاعل أو إلى المفعول وعلى الأمرين في ذلك دلالة على بحثنا ألا وهو أن الخوف من الله إجلالا له وتعظيما له هو أعلى أنواع الخوف ذلك لمن خاف مقامي ذلك لمن خاف قيام الله عليه بالإطلاع والمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة فأنت في قبضته وجميع من في هذا الكون من عرشه إلى فرشه تحت حكم الله جل وعلا ذلك لمن خاف مقامي قيام الله عليه بالمراقبة والإحاطة والقهر والسيطرة ذلك لمن خاف مقامي المصدر مضاف إلى المفعول إلى من خاف قيامه بين يدي في هذه الحياة وبعد الممات يعلم أنه فقير محتاج إلي في جميع الأوقات ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ذكر الله نوعين من الخوف قدم الخوف منه إجلالا له إلا الخوف من وعيده وعقابه وناره ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد(77/7)
نعم إخوتي الكرام إن هذا النوع من أنواع الخوف هو أجل أنواع الخوف على الإطلاق ويحصل هذا النوع في نفس الإنسان عندما يعرف الإنسان الصلة الحقيقية بينه وبين ربه الرحمن فأنت فقير والله غني وأنت ضعيف والله قوي أنت ذليل والله جل وعلا جليل أنت لا تقوم بنفسك ومحتاج إلى ربك في جميع أحوالك والله هو الغني الحميد هذا أجل أنواع الخوف وكما قلت يترتب على معرفتك بنفسك ومعرفتك بربك ولذلك قال أئمتنا الكرام من عرف نفسه عرف ربه والأثر روى عن العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي الذي توفي سنة 258هـ وهو من العلماء الربانيين الصالحين في هذه الأمة وكان يقول: لا يزال العبد مقروناً بالتواني مادام مقيما على الأماني ومن كلامه المحكم عمل كالسراب يعني لا حقيقة له مشوب بالأخلاط والآفات عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع بالكواعب الأتراب والنظر إلى وجهه الكريم الوهاب هيهات هيهات أنت سكرات من عبر شراب ثم يقول ما أجلّك لو بادرت أجلك ما أقوالك لو خالفت هواك.. يقول هذا العبد الصالح يحيى بن معاذ الرازي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا من عرف نفسه عرف ربه.
وليس هذا بحديث ينسب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما توهم ذلك بعض الأنام وقد حقق أئمتنا الكرام هذا القول وبينوا أنه ينسب إلى هذا العبد الصالح منهم شيخ الإسلام الإمام النووي في فتاواه المشهورة.
ومنهم أيضاً الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي ومنهم ابن قيم الجوزية 1/427 من مدارج السالكين ومنهم الإمام السيوطي وألف رسالة حول هذا الأثر لهذا العبد الصالح سماها القول الأشبه في بيان معنى حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه.
وقد ذكر الإمام السيوطي عشرة أوجه في شرح هذا الأثر وحفظها الإمام ابن القيم عليهم جميعاً رحمة الله إلى ثلاثة معاني خلاصتها:(77/8)
الأمر الأول: هو الذي يتعلق ببحثنا أن معنى هذا الأثر إما أن يكون من باب النفي أو الضدية أو الأولوية أما الضدية من عرف نفسه بصفات النقص والفقر والإحتياج عرف ربه بضد ذلك فإذا عرفت أنك فقير ضعيف محتاج ذليل عرفت أن الله جل وعلا بخلاف ذلك فمن عرف نفسه عرف ربه.
ومن باب تكملة مضى الأثر على حسب المعنيين الآخرين من عرف نفسه من باب الأولوية عرف ربه أي عرف أن يتصف بحياة وعلم وقدرة ورحمة وغير ذلك من صفات الكمال التي تناسب حاله وهي محفوفة بالنقص من عرف أنه يتصف بذلك يعلم تعينا أن الله يتصف بذلك الكمال من باب أولى فالذي منحك حياة ناقصة فيه حياة كاملة والذي منحك علماً قليلا هو بكل شيء عليم والمعنى الثالث للأثر من عرف نفسه عرف ربه من باب النفي كما أنه لا يمكن أن تقف على حقيقة نفسك وإدراك كُنْهِ روحك فلن تقف على إدراك حقيقة ربك جل وعلا فالله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فإذا كنت تعجز عن إدراك حقيقة الروح ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيته من العلم إلا قليلا فأنت أعجز وأعجز عن إدراك حقيقة الرب جل وعلا ومالك إلا أن تؤمن بما أخبرنا الله جل وعلا عن صفاته وأن تُمِدّه حسب ما يليق بذاته ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الشاهد المعنى الأول من عرف نفسه عرف ربه عن طريق الضدية إذا علمت أنك فقير فالله هو الغني فالذي يحقق معرفة الصلة بين الخالق والمخلوق سيخاف من الخالق ويجله ويعظمه وهذا هو خوف الإجلال هذا هو خوف التعظيم لا لتفريط فيك ولا لانتظار خاتمة ستقابلك وتلاقيك لا إنما أنت تجل الله وتعظمه لأنه إله عظيم يستحق من عباده أن يجلوه وأن يخافوه وأن يهابوه وأن يعظموه في كل حين ويحذركم الله نفسه ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد.(77/9)
إخوتي الكرام وإذا استحضر الإنسان ما لله من صفات حسان سيهابه ويخاف منه ويجله ويعظمه ولابد ويستحيل قطعا أن نستعرض ما لله من صفات الكمال في هذه الموعظة لكن سأشير إلى خمسة منها وهذا الصفات الخمس انتبهوا لها إخوتي الكرام وتقدم معنا أن ما في هذا الكون علوية وسفلية لا يتصرف فيه إلا صفات الله جل وعلا وكل ما يقع في هذا الكون من قبض وبسط من نعمة وضر كل هذا أثر صفات الجمال والجلال التي يتصف بها ذو العزة والجلال كل هذا أثر صفات الرحمة والقهر التي يتصف بها ربنا عز وجل الصفة الأولى في الله والتي إذا استحضرها الإنسان مع صفات الله سيخاف من الله ويجله ويعظمه لأنه يستحق ذلك صفة العلم وما أدراك ما صفة العلم يتصف بها ربنا جل وعلا فلا يخفى عليه بهذه الصفة خافية في الأرض ولا في السماء يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ومن استحضر هذا فسيخاف من الله وسيجله.
وقد قرر أئمتنا في كتب التوحيد أن أعظم واعظ أنزله الله من السماء إلى الأرض وأبلغ زاجر نوّه الله به في كتبه التي أنزلها على رسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه أعظم واعظ وأبلغ زاجر إخبار الله لعباده بأنه يعلم سرهم وعنهم ولا تخفى عليه خافية منهم وهذا أعظم واعظ وأبلغ زاجر.
تأمل معي آيات القرآن: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم".(77/10)
هو مع الإثنين والثلاثة والأربعة والخمسة والقليل والكثير معم بعلمه وإحاطته ومراقبته واطلاقه فلا تخفى عليه خافية من شئونهم ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور وهذا المعنى لا يخلو منه ورقة من ورقات المصحف تأمل القرآن من أوله إلى آخره لن تجد ورقة من ورقات القرآن تخلو من إخبار الله لعباده بأنه يعلم سرهم ونجواهم ولا تخفى عليه خافية منهم أينما كانوا سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور..
هذا هو أبلغ واعظ وأعظم زاجر أنزله الله علينا لنزدجر به ولنعظم بسببه ربنا من علم أن الله عليم ولا تخفى عليه خافية من شئون عباده سيستحي من ربه ويهابه ويعظمه ويجله ولا يوجد أحد في الوجود يتصف بصفة العلم بكل شيء إلا الرب المعبود فهو بكل شيء عليم وكل من عداه يصدق عليهم قول ربنا جل وعلا وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.(77/11)
العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلانه يتغمغم ما للتراب وللعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم صفة العلم أنتقل منها إلى الصفة الثانية التي تخلع القلب وتوجب عليك هيبة الرب توجب عليك إجلال ربك والخوف منه جل وعلا تعظيماً لشأنه لا من أجل جنته ولا من أجل ناره تعظيما لشأنه فهو إله عظيم جليل ينبغي أن نهابه وأن نخاف منه في كل وقت صفة القدرة التي يتصف بها وينفذ بها ما شاء وما أراد سبحانه وتعالى لاراد الحكمة ولا معقب لقضائه هو على كل شيء قدير بكل شيء عليم على كل شيء قدير ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والعالم بأسرهم علويهم وسفليهم مشيئتهم مرتبطة بمشيئة ربهم وقد انتهى سعي الخلق والمخلوقات من عرش رب الأرض والسماوات إلى الثرى انتهى عند آيتين من كتاب الله عز وجل الآية في سورة الدهر في سورة الإنسان وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما والآية الثانية في سورة التكوير وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
فمشيئة العباد مقيدة بمشيئة ربهم جل وعلا وإذا أشاءوا الشيء وارادوه وأذن الله لهم في مشيئته وإرادته لا يستطيعون أن ينفذوه إلا إذا أقدرهم الله على ذلك والله جل وعلا مشيئته مطلقة وقدرته كذلك ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن من استحضر هذا في صفات الله جل وعلا وأن الله يتصف به سيهابه ويخافه ويجله ويعظمه مشيئة الله جل وعلا وقدرته عامتان شاملتان لكل شيء سبحانه وتعالى.(77/12)
وأما العباد فحالهم كما قال شيخ الإسلام أبو عبد الله الإمام الشافعي عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات ربنا وهذا الكلام عنه ثابت صحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر في كتاب الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء صفحة ثمانية في ترجمة الإمام الشافعي الذي لا يختلف فيه وهو أصح شيء عنه وأثبت ما قبل في الإيمان بالقدر وهذا الشعر نقله أئمتنا عن هذا العبد الصالح نقله الإمام البيهقي في الأسماء والصفحات وفي السنن الكبرى وفي كتاب الإعتقاد ونقله أيضاً في مجمل اعتقاد السلف عليهم جميعاً رحمة الله ونقله في كتاب البعث والقشور عن الإمام الشافعي ونقله أئمتنا خلاصة ما نقل عنه من أبيات تبين الصلة بين الخالق والمخلوق ويترتب عليها تعظيم المخلوق لخالقه وإجلاله له يقول الإمام الشافعي عليه رحمة الله:
ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم غني ومنهم فقير ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم شقي ومنهم سعيد ... وكل بأعمالهم مرتهن
من استحضر هذا سيهاب الله وسيجله وسيخافه قطعاً وجزما ويحذركم الله نفسه صفة القدرة وبها ينفذ الله ما شاء وما أراد فهو على كل شيء قدير كما أنه بكل شيء عليم.(77/13)
والصفة الثالثة من الصفات الخمس التي سنتدارسها لتكسب قلوبنا الحياء من ربنا والخشية له جل وعلا تعظيما له صفة الغنى سبحانه عليم بكل شيء قدير على كل شيء غني عن كل شيء فما خلق العباد ليتعزز بهم من ذله ولا ليتكثر بهم من قله سبحانه لو أطاعه أهل السماوات والأرض لما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو عصاه أهل السماوات والأرض لما نقص ذلك من ملكه شيئاً سبحانه وتعالى هو الغني وكل من عداه فقير إليه يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز وأخص وصف في ربنا الغنى كما أن أخص وصف فيمن عداه الفقر وعلة احتياج العالم بأسره من عرشه إلى فرشه على احتياج المخلوقات إلى رب الأرض والسماوات فقرها وغنى الرب عنها فنحن الفقراء وليست علة احتياجنا إلى ربنا حدوثنا ولا إمكان حدوثنا كما قرر الفلاسفة والمتكلون لا ثم لا علة احتياج العالم إلى خالقه فقر المخلوقات وغنى رب الأرض والسماوات والفقير لا يستغني عن الغني فنحن نحتاج إليه بأكثر من عدد أنفسنا التي تتنفس بها من أجل ثبوت حياتنا الغنى عن الرب هو الغنى سبحانه وتعالى من استحضر هذه الصفة فيه سيخاف من الله جل وعلا إجلالا وتعظيماً لكن هذا المعنى لا يعرفه الفصل لذوي الفضل إلا ذو الفضل من الذي يهاب من الله عز وجل الأتقياء الأكياس الرجال الذين عظموا الله وأحسنوا إلى خلق الله ومع ذلك يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار غنى الرب جل وعلا هذا إذا استحضره الإنسان سيخاف من الله.
يروي الإمام ابن القيم في مدارج السالكين عن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه أرسل له ورقة في آخر حياته وفيها مقدمة في التفسير وقد كتب على غلافها أبياتاً من الشعر يقول فيها:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده يأتي
ثم يقول عليه رحمة الله:(77/14)
والفقر لي وصف ذات لا زم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذات
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آت
فمن يعني مطلبا من غير خالقه ... فهو الظلوم الجهول المشرك العاتي
...
أخص وصف فينا الفقر وأخص وصف ربنا الغنى
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول:
أنا المكدي وابن المكدي ... وهكذا كان أبي وجدي
هذا حالنا هذه صفتنا وتلك صفة ربنا وحقيقة من استحضر ضعفه وقوة الله ومن استحضر فقره وغنى الله ومن استحضر ذله وعز الله سيهاب من الله وسيخاف منه ولابد وهذا هو خوف الإجلال خوف التعظيم لا سبب آخر.
والصفة الرابعة في صفات ربنا الكريم التي توجب علينا أن نجله وأن نعظمه اعترافا بحقه علينا دون شيء آخر سبحانه غني كريم بكل شيء عليم على كل شيء قدير غني عن العالمين هو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين يجب أن يجود وجوده بغير قيود ولا حدود سبحانه وتعالى من أجل ذلك خلق هذا العالم من أن يجود ويتكرم عليه.
وقد أمرنا الله أن نسأله وأخبرنا أننا إذا لم نسأله فسيغضب علينا لأنه كريم كما أن العباد يغضبون من سؤالك فالله يغضب من عدم سؤالك وقارن بين الأمرين لتعلم عزة الربوبية وذله العبودية إذا سألت العباد غضبوا وضجروا وإن تركت سؤال الرب غضب عليك ومقتك وقال ربكم أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون من عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال ربنا جل وعلا وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا لي لعلهم يرشدون.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الحاكم في مستدركه بسند صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يسأل الله يغضب عليه لم تتعرض لنفحات الله ولجوده ولكرمه من لم يسأل الله يغضب عليه".(77/15)
من استحضر هذه المعاني في ربنا سيجله تعظيما له وحياءاً منه وإجلالا له سواء بعد ذلك أدخلك الجنة أو النار فهذا لا دخل لك فيه ولا ينبغي أن تفكر فيه إنما ينبغي أن تفكر أن تجل الله جل الله جل وعلا وإذا تكرم عليك بالجنة زيادة كرم وفضل وإذا منّ عليك بالنجاة من النار زيادة كرم وفضل أما هو إله عظيم جليل كريم له علينا حق العبادة وينبغي أن نخافه في كل حين.
ويحذركم الله نفسه هذه الصفة الرابعة صفة الغنى..
وأما الصفة الخامسة صفة الجلالة والعظمة سبحانه ما أجله سبحانه ما أعظمه وعظمة الله وجلاله لا يمكن أن نوفيها عشر معشارها إذا أردنا أن نتدارسها إنما سأشير إلى شذرات من جلالة الله من عظمة الله ذكرها الله في سيده أي القرآن وأفضل آياته على الإطلاق وهي آية الكرسي.
ثبت في المسند وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام أبو داود ورواه الحاكم في المستدرك مستدركا به على الصحيحين وهو أهم فهو في صحيح مسلم من رواية أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب أي آية في كتاب الله أعظم فقال أبي بن كعب آية الكرسي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدره وقال ليهنك العلم أبا المنذر هنيئا لك بالتوفيق والسداد والتوفيق للعلم وإصابة الجواب ليهنك العلم أبا المنذر.
الله لا إله إلا هو الحي القيوم تأمل ما في هذه الآية من إشارات إلى عظمة رب الأرض والسماوات وسنتدارس ثلاثة منها في هذه الآية الكريمة.(77/16)
أولها: مطلع الآية. الله لا إله إلا هو الحي القيوم حي قيوم سبحانه وتعالى حي حياة كاملة تامة لا يعتريها نقص ولا زوال ولا فناء ليست كحياة المخلوقات ولذلك أتبعها الله جل وعلا بقوله لا تأخذه سنة ولا نوم هذه حياة ذاتية ما وجدت بعد أن كانت معدومة ولم تطرأ عليها العدم وفي حال إنصاف الله بها وهو متصف بها أزلا وأبداً لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه لا تأخذه سنة ولا نوم وهو القيوم القائم بنفسه المقيم المدبر لأمر شؤون خلقه فلا يوجد شيء في هذا الكون من عرشه إلى فرشه إلا بتدبير ربه وتقديره سبحانه وتعالى حي قيوم وهاتان الصفتان لربنا الرحمن هي أصل سائر صفاته الحسان.
فصفات الله إنما أن تكون ذاتية أو فعلية فجميع الصفات الذاتية أصلها صفة الحياة وجميع الصفات الفعلية أصلها صفة القيومية وبهاتين الصفتين أشار الله إلى جميع كمالاته وصفاته الحسنى العلى الله لا إله إلا هو الحي القيوم وما ذكر الله هذين الاسمين مقترنين إلا في آية الكرسي ومطلع سورة آل عمران. ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي سورة طه وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما الله لا إله إلا هو الحي القيوم.
الإشارة الثانية له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه له ما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتقديرا وتدبيرا ومصيرا كل ما في هذا الكون علوية وسفلية خلقه الله يملكه الله يديره الله سيصير ويؤول إلى الله جل وعلا هو المتصرف في هذا من علم هذا وأنه إذا استحضر نفسه ضمن هذه العوالم أنه أقل من قطرة من بحر في جنب ملك الله وأقل من ذرة رمل من رمال الدنيا حقيقة يهاب من الله ويجله تعظيماً لشأنه له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ملكا تدبيرا مصيرا وهذا العالم بأسره سيصير إلى ربه وانظر إلى الصورة التي سيصير إليها وما ذلك من دلالة على عظمة ربنا جل وعلا.(77/17)
ثبت في صحيح مسلم والحديث رواه البيهقي في الأسماء والصفات ورواه الإمام البغوي في معالم التنزيل وهو في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين فهو حديث صحيح ثابت عن نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يقبضهن بيمينه وفي رواية ثم يأخذهن بيمينه فيهزهن جل وعلا فيهزهن السماوات يطوي الله السماوات يقبض الله السماوات ثم يأخذهن يقبضهن بيمينه جل وعلا ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون انظر لعظمة الرب جل وعلا وجلاله السماوات السبع في كف الرحمن كأنها خردلة يطويها جل وعلا بيمينه والأراضين السبع كذلك من استحضر هذا المعنى سيخاف من الله عز وجل ولا شك.
إخوتي الكرام ما ورد في هذا الحديث الصحيح من وصف الله بيدين مباركتين يتصف بهما إحداهما يمين والأخرى شمال ثبت منا يتصف به ربنا ذو العزة والجلال كما أخبرنا نبينا الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه دون أن ندخل في ذلك بعقولنا متوهمين أو متأولين وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.(77/18)
والعجز عن درك الأدراك إدراك والبحث كنه ذات الله إشراك وإيماننا بصفات ربنا يقوم على دعامتين وكنين متينين اقرار وامرار فمن لم يقرب بالصفات لله الواحد القهار فهو ناطق عن جاحد معطل ومن لم يمر صفات الله جل وعلا فهو مشية ضال ممثل نقر بالصفة كما وردت ولا نقف عندها وقراءتها تفسيرها كما قال سلفنا ولله يدان مباركتان كما أخبر عن ذلك في محكم القرآن. بل يداه مبسوطتان ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وإحداهما يمين والأخرى شمال بالكيفية التي يعرفها الله ولا نعرفها بالكيفية التي تليق بجلال الله وجماله ويجهلها آمنا بالله وبما جاء عن الله على مداد الله وآمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يشكلن عليك أخي الكريم وصف الله في هذا الحديث باليمين والشمال ليديه المباركتين جل وعلا لا يشكلن عليك هذا مع الحديث الصحيح الثابت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي والسنن الكبرى للإمام البيهقي والأسماء والصفات له أيضا وهو حديث صحيح أيضا فهو في صحيح مسلم وغيره من رواية عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. فقوله وكلتا يديه يمين لا يتعارض مع ما ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين من اليمين بمعنى الخيرية والبركة والتمام والكمال فالله له يدان مباركتان يمين وشمال لكن الشمال فيه ليست كالشمال فينا جل وعلا فإذا كانت الشمال فينا أضعف من اليمين وتستعمل كما يمتهن ويستقذر فالله كامل كريم مجيد سبحانه وتعالى لا نقص في شيء من صفاته جل وعلا كلتا يديه يمين من اليمين بمعنى الخيرية والبركة.(77/19)
وأما الحديث الثابت في صحيح مسلم فقد أخبرنا عن وضع وحال صفتي اليدين كما فصل ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام وأما من طعن في ذلك الحديث الذي هو في صحيح مسلم بأنه من رواية عمر بن حمزة عن عمه سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وعمر بن حمزة أخرج حديثه البخاري تعليقا في صحيحه ومسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة إلى سنن الإمام النسائي فمن تكلم في عمر بن حمزة في روايته عن عمه سالم بن عبد الله وهو عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر فعمر بن حمزة روى عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين من طعن في الرواية وقال إنه قالها على حسب المعروف فينا لأن الوارد في رواية المسند والصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ويقبض الله الأراضين بالأخرى ولم يذكرها بوصف الشمال فقال بعض العلماء إن رواية عمر بن حمزة قالها على حسب المعهود والمعروف في الناس فعبر عن اليد الأخرى بوصف الشمال وفتح هذا الباب على الرواة حقيقة قد يسد علينا بعد ذلك باب الرواية وسلفنا أتقى لله وعز وجل من أن يستعملوا عقولهم في صفات الله عز وجل وأن يبدلوا اللفظ بما هو معروف فينا وعليه لفظه ثابتة.
لكنني كما قلت موقفنا نحوها كموقفنا في سائر صفات الله عز وجل إقرار وإمرار ليس كمثله شيء نفى للتشبيه والتمثيل وقوله جل وعلا وهو السميع البصير رد ونفي للنفي والتعطيل فلا تمثيل ولا تعطيل ليس كمثل ربنا شيء وهو السميع البصير.(77/20)
والدلالة الثالثة في آية الكرسي. وسع كرسيه السماوات والأرض. إخوتي الكرام حول لفظ الكرسي وما بعده كلام طويل كان في نيتي أن أتكلم عليه في هذه الموعظة ولكنني أخشى إذا بحثت فيه ودخلت فيه أن يأخذ الكلام منا أكثر من ربع ساعة ولا أريد أن أضل عليكم إنما نقف عند هذه الدلالة لنتدارسها في الموعظة الآتية إن شاء الله وسع كرسيه السماوات والأرض أطاق واحتمل كرسي ربنا السماوات والأرض هذا الكرسي ما هو وما صلته بالعرش وماذا يترتب من ذلك من عظمة لربنا جل وعلا كما قلت أؤجل الكلام في الموعظة الآتية إن شاء الله.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا خشيته في السر والعلن وأن يرزقنا كلمة الحق في الرضا والغضب وأن يرزقنا القصد في الغنى والفقر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.(77/21)
الزجر عن التخنث في الشعر
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الزجر عن التخنث في الشعر
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(78/1)
كنا نتدارس منزلة ذكر الرحمن في الإسلام، وقلت إن منزلة الذكر عظيمة جليلة، ومن أجل ذلك أمرنا الله جل وعلا أن نذكره على الدوام، وبينت أن فوائد الذكر كثيرة تزيد على مائة فائدة، وهذه العيادة الجليلة التي نتدارسها وذكرنا شيئاً من فضائلها فيما مضى، قلت إن المخرفين غيروها وبدلوها ووضعوا شيئاً مكانها، ألا وهو القصائد والأشعار، زعموا أنهم يتقربون بها إلى العزيز القهار.
إخوتي الكرام: وسأتبع في هذه الموعظة الكلام على هذا الأمر تتميماً لما تقدم في الموعظة السابقة.
إخوتي الكرام: إن الذكر كما قلت له منزلة عظيمة جليلة، وكما قلت فوائده كثيرة غزيرة، وسنتدارس في هذه الموعظة فائدة من فوائده فقط ثم نتدارس بقية خطوات البحث إن شاء الله.
إن الذكر قوت للقلب وقوة له، وإن الذكر فيه صلابة للقلب وصلابة له، وإن الذكر فيه ليناً للقلب ورقة له، وأيضاً فيه صفاء للقلب وبهجة له، هو قوت القلب وقوته، وهو فيه قوة للقلب وصلابته، وهو أيضاً بهجة للقلب وصفاء له، وهو أيضاً لينة للقلب ورقة له.(78/2)
إن قلب الذاكر يجمع بين هذه الصفات، يحصل له القوت بذكر الله، يحصل له القوة بذكر الله، يحصل فيه القوة والصلابة بذكر الله، يحصل له البهجة والصفاء بذكر الله، يحصل له اللين والرقة بذكر الله، ولذلك كان قلب الذاكر أطهر القلوب وأحبها عند علام الغيوب، ثبت في معجم الطبراني الكبير من رواية أبي عيينة الخولاني رضي الله عنه وأرضاه، والحديث حسنه الإمام الهيثمي وقال الإمام المنذري في (الترغيب والترهيب) إسناده جيد، والحديث روى من رواية أبي أمامة الباهلي أيضاً في (حلية الأولياء) وروي من رواية سهل بن سعد في الحكيم الترمذي، فهو من رواية أبي عيينة الخولاني، وأبي أمامة الباهلي، وسهل بن سعيد، ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [إن لله آنية في الأرض، قالوا وما آنية الله يا رسول الله في الأرض؟ قال: قلوب عباده الصالحين وأحبها إلى الله أضاها وأرقها] وفي بعض الروايات [إن أحب الآنية إلى الله ما رق منها وصفا] .
وفي بعض الروايات [أحبها وأصفاها] ، فالذي يذكر الله جل وعلا يتصف بهذه الصفات، يصبح لقلبه كما قلت القوت والقوة والشدة والصلابة والبهجة والصفاء، اللين والرقة، وقلبه أحب القلوب إلى علام الغيوب ولا غرو في ذلك ولا عجب فقد تقدم معنا أن من ذكر الله جل وعلا والله مع العبد ما دام العبد يذكر ربه سبحانه وتعالى، وإذا كان معك فستتخلق بأخلاق ربك بأخلاق حبيبك ن فتتصف باللين وتتصف بالشدة والقوة، والله عندما يكون معك، فستضع كل أمر موضعه، هذا هو حال الذكر عندما يكثر الإنسان من ذكر الرحمن سبحانه وتعالى.(78/3)
إخوتي الكرام: وإذا حصل القلب قوته وقوته بذكر الله جل وعلا إن هذه القوة سينتشر أثرها بعد ذلك إلى هذا البدن فيكتسب البدن قوة من قوة القلب، والإنسان عندما يحضر المعركة ينتصر على عدوه بقوة قلبه ويضعف قلب عدوه، فيصبح له عاملات من عوامل النصر هو يرجو أن ينتصر عليه وأن يتمكن منه، بتأييد الله له، وذاك يتحمل أمامه وينهار فيحصل النصر بإذن العزيز القهار.(78/4)
نعم إن ذكر الله قوت للقلب وقوة للبدن، وضياء ونور، وبهجة في الوجه، يذكر الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه (الوابل الصيب) في صفحة خمسة وخمسون صـ55 من حياة شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب العالمين أنه صلى معه الفجر في بعض الأيام فجلس شيخ الإسلام يذكر الله بعد صلاة الفجر حتى انتصف النهار ثم التفت إلى تلميذه البار مثال له هذه غدوتي هذا اليوم، هذا هو طعامي وهذا هو غذائي ولولاها لسقطت قوتي ن فهذه القوة التي حصلت في القلب بذكر الرب انتشرت بعد ذلك إلى هذا البدن فقوى البدن واشتد بإذن الله جل وعلا، وهذا المعنى الذي أشار إليه هذا الإمام الهمام عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الرحمن هو ما أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الحسان منها ما ثبت في الصحيحين وسنن أبي داوود والنسائي من رواية سيدنا على ابن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال كانت فاطمة أحب أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله وقل وتزوجتها فكانت رضي الله عنها وأرضاها حتى أغير ثيابها فعلمت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها بمجيء سبي من الفتائم إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - من العبيد من الأرقاء من الذكور والإناث من الإماء أيضاً فأرادت من علي رضي الله عنه يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أمة تخدمها وتساعدها في أمور البيت فقال علىّ لا أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلميه أنت فهو رسول الله عليه الصلاة والسلام وخير خلق الله وهو أبوك فذهبت هذه البضعة المباركة سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها إلى بيت أمنا عائشة تسأل عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - فلم تجده فقالت سيدتنا فاطمة لأمنا عائشة إذا جاء النبي عليه الصلاة والسلام فأخبريه، فتأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجيء إلى بيته فلما جاء أخبرته أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها فذهب بعد العشاء(78/5)
مباشرة إلى بيت ابنته فاطمة فاستأذن عليه الصلاة والسلام ودخل وقد أخذ علىّ وفاطمة مضجعهما في فراش واحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام مكانكما ثم دخل النبي عليه الصلاة والسلام بيتهما في هذا الفراش ومد رجليه الشريفتين قال عليّ رضي الله عنه توجدت يرد أصابع رجليه في صدري ثم سأل فاطمة رضي الله عنها وأرضاها عما جاء بها تسأل عنه في بيت عائشة رضي الله عنها فأخبرته أنها تطلب خادمة أمة لتساعدها في أمور البيت فقال النبي عليه الصلاة والسلام، ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم. تريدان من الخادم أن يساعدكما في أمور البيت، يقول عليّ رضي الله عنه فغمزتها وقلت لها قولي بلى، تريد لنا من هو خير من خادم فقلنا بلى يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام إذا أخذتما مضجعكما تسبحا الله ثلاثاً وثلاثين وأحمداه ثلاثاً وثلاثين وكبراه أربعاً وثلاثين وهذا تمام المائة فهذا خير لكما من خادم.
قال الإمام ابن تيمية كما نقل عنه هذا تلميذه ابن القيم في (والوابل الصيب) ص102 وهذا الذكر مجرب معروف من حافظ عليه عند نومه في كل ليلة أعطاه الله قوة في بدنه بحيث يستغني عن مساعدة غيره من خادم من أجير من عبد من رقيق من أمة، والإمام ابن حجر في (فتح الباري) عن شرحه لهذا الحديث في الجزء الحادي عشر صفحة خمسة وعشرون ومائتين 11/225 يقول (ولا يلزم من هذا أنه لا يتعب إن الإنسان عندما يزاول الأعمال يصاب بشيء من الإرهاق والتعب لكن الله يتعبه فلا يسأم ويتحمل ولا يصاب بفتور وإعياء عندما يحافظ على هذا الذكر عند النوم.
نعم إن الذكر قوت القلب وقوة له، وإذا قوى القلب تنشط البدن فصار قوياً بإذن الله جل وعلا.(78/6)
إخوتي الكرام: هذا من فوائد الذكر، قال الإمام ابن القيم في المكان المشار إليه صـ102 يقول وقد كان شيخ الإسلام يقول وقوله هذا موجود في (مجموع الفتاوى) الجزء العاشر صفحة ثلاثة وثلاثين 10/33 يقول إن الله تعالى لما خلق حملة العرش قالوا ربنا لم خلقتنا قال لتحملوا عرش قالوا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه جلالك وجمالك ووقارك فقال الله جل وعلا لحملة العرش قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الإمام ابن القيم فبهذه الكلمة المباركة أطاقت ملائكة العرش حمل عرش الرحمن جل وعلا، قال الإمام ابن القيم وهذا الكلام كنت أسمعه منه حتى وقفت على كتاب لأبن أبي الدنيا رواه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال حدثتنا شيختنا أن الله لما خلق حملة العرش قال.. إلى آخر الأثر.
وأنا أقول، وهذا الأثر مروي أيضاً في تفسير الإمام الطبري بنحو الرواية لمتقدمة في تفسير سورة (الحاقة) عن قول الله {ويحمل عرش ربك فوقهم يؤمئذٍ ثمانية} في الجزء التاسع والعشرين صفحة سبعة وثلاثين 29/37 روى الأثر الإمام الطبري في تفسيره عن شيخه يونس عن ابن وهب عن أبي زيد بمعنى الأثر المتقدم أن حملة العرش أطاقوا حمل عرش الله جل وعلا بكلمة لا حول ولا قوة إلا بالله.(78/7)
نعم أنها كلمة من كنوز الجنة كما ثبت هذا في المسند والكتب السنة من رواية أبى موسى الأشعري عبد الله بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلي الله علية وسلم قال له ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قلت بلى يا رسول الله قال لا حول ولا قوة إلا بالله، لا تحول من حال إلا حال من معصية إلى طاعة ومن ذلٍ إلى عز، من فقرٍ إلى غنىً، ولا قوة لنا في هذه الحياة إلا بربنا سبحانه وتعالى، وهذه الوصية التي أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى الأشعري أوحى بها عدداً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أوصى بها أيضاً أبا ذرٍ كما في المسند وسنن أبي ماجة، وصحيح ابن حبان بسندٍ صحيحٍ أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ذرٍ ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قال بلى قال قل لا حول ولا قوة إلا بالله، وأوصى بها أيضاً النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة رضي الله عنهم أجمعين، كما ثبت ذلك أيضاً في مسند الإمام أحمد، والحديث في المستدرك ومسند البزار وإسناده صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعي ألا أدلك على كنز من كنوز العرش ألا أدلك على كنز من تحت العرش وهو كنز من كنوز الجنة؟ قلت بلى يا رسول الله، قال قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قالها العبد قال الله أسلم عبدي لي واستسلم، وأوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام قيس بن سعد أرسلني أبي لأقدم النبي عليه الصلاة والسلام وسعد بن عبادة سيد الخزرج من الأنصار رضي الله عنهم أجمعين فأرسل ولده قيساً ليخدم النبي عليه الصلاة والسلام قال قيس فصليت ركعتين فمر بي النبي عليه الصلاة والسلام فقال لي ألا أدلك عل باب من أبواب الجنة قلت بلى يا رسول الله، قال قل لا حول ولا قوة إلا بالله، وأوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام أبا أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وغيرهما من الصحابة، انظروا الروايات في ذلك في (الترغيب والترهيب) للإمام المنذري(78/8)
في الجزء الثاني صفحة أربعة وأربعين وأربعمائة 2/444.
إخوتي الكرام بهذا الجملة المباركة أطاقت الملائكة حمل عرش الرحمن، نعم إن الذكر قوت للقلب وقوة له، ولذلك يقوى البدن أيضاً، ولذلك قال الإمام المبارك ابن تيمية عندما جلس يذكر الله من صلاة الغداة إلى منتصف النهار قال هذه غدوتي، ولولاها لسقطت قوتي، وهذا الأدب العظيم، وهذه العبادة الفاضلة أعرض عنها كثير من المسلمين، فأصيبوا بوهن في قلوبهم وبضعف في أبدانهم، إن من يحضرون في صلاة الفجر قلة قليلة ومن يذكرون الله بعد صلاة الغداة حتى تطلع الشمس في بيوت رب الأرض والسموات أقل بكثير من يحضرون صلاة الفجر، وما أعلم ما أصاب الأمة في هذه الأيام، والذي يجلس في مصلاه بعد ما يؤدي صلاة الفجر في جماعة يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين له أجر عظيمٌ عظيم جليل كبير عند الله الجليل، ثبت في سنن الترمذي بسندٍ حسن من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من صلى الفجر في جماعة ثم قعد في مصلاه] يعني في المسجد [يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له كأجر حجة وعمرة تامه، تامه، تامه] ، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو في سنن الترمذي، ومروي عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسندٍ جيد.
كما في المجمع والترغيب والترهيب من رواية أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من صلى الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كان بمنزلة حجة وعمرة] انقلب بأجر حجة وعمرة، والحديث رواه الإمام الطبراني أيضاً في معجمه الأوسط وإسناده حسن من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين بمعنى الروايتين المتقدمتين أن [من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كتب له أجر عمرة وحجة متقبلتين] .(78/9)
إخوتي الكرام: هذه بعض ... فوائد الذكر، قوة للقلب، إذا قوى القلب قوى البدن واستعان العبد بالرب سبحانه وتعالى، وإذا كان للذكر هذه الفائدة، فكما تقدم معنا أن أفضل الأذكار كلام العزيز القهار ألا وهو القرآن العظيم الذي أنزله الله علينا ليخرجنا من الظلمات إلى النور، أمرنا الله جل وعلا بتلاوته، وأمرنا بالاستماع والإصغاء إليه، وحذرنا من إهمال تلاوته وعدم سماعه، وجاءت الآيات تقرر هذا بكثرة في كتاب الله عز وجل وقد اعتبر الله عز وجل من أعظم مننه علينا أن أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليتلو علينا آيات الله وليخرجنا من الظلمات إلى النور، قال الله جل وعلا في سورة (آل عمران) {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين} وأخبرنا الله جل وعلا أنه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام وأمر المؤمنين بتلاوة كتابه المبين فقال جل وعلا في سورة (النمل) : {إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيءٍ وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلوَ القرآن} .
وقال الله جل وعلا في سورة (العنكبوت) : {اتلُ ما أوحيَ إليك من الكتاب وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} .
وأخبرنا الله جل وعلا عن عظم الأجر وبركة التجارة التي يحصلها من يتلو كلام الله جل وعلا في هذه الحياة فقال تعالى في سورة (فاطر) : {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارةً لن تبور} .
والآيات في ذلك كثيرة، وكما أمرنا الله جل وعلا بتلاوة كلامه أمرنا بالإصغاء والاستماع إليه فقال جل وعلا في آخر سورة (الأعراف) : {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} .(78/10)
وأخبرنا الله جل وعلا أن من يستمع إلى كتابه ويعمل بموجبه فهو ممن هداهم الله، وهو من أصحاب العقول النيرة الواعية فقال جل وعلا في سورة (الزمر) : {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه * أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} .
وقال ربنا سبحانه وتعالى في نفس السورة بعده بآيات في بيان منزلة كلامه وكتابه وكيف يؤثر في نفوس المستمعين فقال جل وعلا: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد} .
وأخبرنا الله جل وعلا أن هذه الآثار كما تظهر على الظاهر من قشعريرة الجلد، ومن انقباض الجلد ومن انبساطه تظهر أيضاً على القلوب وتكون في القلوب، وما تأثر الظاهر إلا بعد تأثر الباطن، قال الله جل وعلا في سورة (الأنفال) : {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} .
وأخبرنا الله جل وعلا أن المؤمنين عندما يستمعون إلى آيات الذكر الحكيم يبكون ويخرون لله يسجدون فقال جل وعلا في آخر سورة (الإسراء) : {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} .
نعم هذا هو وصف المؤمنين وهو وصف النبيين صلوات الله عليهم وسلامه يقول الله جل وعلا في سورة (مريم) بعد أن ذكر أحوال النبيين والصالحين فقال: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوحٍ ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا} .(78/11)
والآيات في هذا لمعنى كثيرة، أمرنا بتلاوة القرآن، وأمرنا بالاستماع إليه والإصغاء إليه، وحذرنا الله جل وعلا من الإعراض عنه وعدم سماعه وعدم تدبره فقال جل وعلا: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا} ، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها} .
وأخبرنا الله جل وعلا أن من غضب الله عليهم يعرضون عن أيِ الذكر الحكيم ويقبلون بعد ذلك على اللهو الذميم، يقول ربنا الرحمن في سورة (لقمان) : {الم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدىً ورحمةً للمحسنين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون} .
ثم أخبرنا الله جل وعلا عن الصنف الخنيث الخسيس فقال: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنية وقراً فبشره بعذابٍ أليم} ونظير هذه الآية قول الله جل وعلا في أوائل سورة الجاثية: {ويلٌ لكلِ أفاكٍ أثيم * يسمع آيات الله تتلى عليهم ثم يصرُ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذابٍ مهين * من وراءهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذابٌ عظيم} .
وقد أخبرنا الله جل وعلا أن الكفار يتواصون بعدم سماع كلام العزيز الغفار فقال جل وعلا في سورة (حم فصلت) : {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} .
وأخبرنا ربنا جل وعلا أن هذه الأمة إذا أعرضت عن تلاوة كتاب الله وعن سماع كلام الله وعن تدبر كلام الله، فرسولنا - صلى الله عليه وسلم - سيشكو أمره إلى الله: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً} يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا في عرصات الموقف وساحة الحساب عندما أعرضت هذه الأمة عن كلام الكريم الوهاب.(78/12)
إخوتي الكرام: إن الحجة التي أنزلها الله علينا وأمرنا بتلاوتها والاستماع والإصغاء إليها وتدبرها هي كلامه وسيسألنا ربنا عن ذلك يوم القيامة كما قال في سورة (الأنعام) : {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} .
والآيات إخوتي الكرام في ذلك المعنى كثيرة وفيرة كما أن ذكر الله هو أفضل العبادات، فأفضل الأذكار وأعلاها وأجلها تلاوة كلام الله جل وعلا، استماع كلام الله جل وعلا، تدبر كلام الله جل وعلا، وهذا السماع هو الذي كان عليه سلفنا الأتقياء رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، كانوا يسمعون إلى كلام الله، كانوا يقرأون كلام الله، كانوا يتدبرون كلام الله، ما كانوا يعكفون على سماع القصائد والأشعار، ولا على سماع الأبيات، إنما يسمعون الآيات المحكمات، وقد قرر أئمتنا هذا، انظروا اخوتي الكرام كتاب (مدارج السالكين) للإمام ابن القيم صفحة خمسة وثمانين وأربعمائة صـ485 من المجلد الثالث فما بعدها من هذه الصفحة، وانظروا (مجموع الفتاوى) فقد بحث في هذه القضية في ثمانين صفحة متتالية في الجزء الحادي عشر من صفحة خمسة وثلاثين ومائة إلى صفحة عشرة وستمائة 11/135 إلى صـ610 فبين كما بين أئمتنا قاطبة أن سماع السلف الكرام كان مختصراً في سماع كلام الرحمن في تلاوة كلام ذي الجلال والإكرام، ما كانوا يعكفون على سماع القصائد والأشعار.(78/13)
ثبت في طبقات الإمام ابن سعد والأثر في كتاب (الحلية) لأبي نعيم، ورواه الإمام ابن عساكر في (تاريخ دمشق) ، وابن حبان في صحيحه، وإسناده صحيح أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا إذا اجتمعوا يقول سيدنا عمر رضي الله عنهم وأرضاه للصحابي الجليل أبي موسى الأشعري يا أبا موسى ذكرنا ربنا، وفي بعض روايات طبقات الإمام ابن سعد يا أبا موسى شوقنا إلى ربنا فيقرأ القرآن وينصت له الصحابة الكرام، وهذا المسلك أخذوا من نبينا عليه الصلاة والسلام فهو الذي سن لنا استماع القرآن والإصغاء إليه، وهو الذي علمنا تلاوة القرآن فاستمع لحال النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك لتقتدي به فهو أسوتنا وقدوتنا عليه صلوات الله وسلامه ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث في الصحيحين وسنن الترمذي وسنن أبي داود والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له لقد مررت بك البارحة يا أبا موسى وأنت تقرأ القرآن لو رأيتني وقد مررت بك وأنا أستمع إلى قراءتك لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود] أي صوتاً رطباً ندياً عذباً كما كان هو الحال في صوت نبي الله داود، فأوتيت هذه العذوبة في صوتك كأنه صوت من مزامير آل داود، كأنه صوت من حنجرة نبي الله داود، فشبه الصوت هنا بالمزمار بجامع العذوبة في كل، لكن صوت المزمار حرام، وصوت الحنجرة الرطبة الندية حلال فانتبه لهذا، عذوبة هنا حلال وعذوبة هناك حرام لما يترتب عليها من آثام وضلال، وسيأتينا في بحثنا أن آلات المزامير والعازف كلها حرام، والاستماع لها فسق، والتلذذ بها كفر، واستحلالها ردة وخروج عن شريعة الله جل وعلا، ورد في تكملة الحديث في رواية الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه ومعجم الطبراني الكبير قال أبو موسى الأشعري للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله [لو علمت بكائك لحبرته لك تحبيراً] أي لو كنت أعلم أنك تسمع لزدت في(78/14)
تحسن صوتي، وقد أمرنا بتحسن أصواتنا عند تلاوة كلام ربنا.
وهذا المعنى ورد فيه أحاديث كثيرة من هذه الأحاديث حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه بريدة، وحديثه ثابت في المسند وصحيح مسلم وطبقات ابن سعد، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ولفظ الحديث عن بريدة رضي الله عنه أنه كان مع النبي عليه الصلاة والسلام في الليل قمراً على المسجد فإذا بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يصلي ويقرأ القرآن فقام النبي عليه الصلاة والسلام ينصت لتلاوته وستعذب صوته ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لبريدة أتراه مرائياً قلت الله ورسوله أعلم قال بل مؤمن منيب قال بريدة فلما أصبحنا غدوت على أبي موسى وأخبرته يقول النبي عليه الصلاة والسلام فقال له أبو موسى الأشعري أنت لن تزال لي صديقاً، أخبرتني بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لبريدة يا بريدة لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود.(78/15)
وروى هذا الحديث من رواية أمنا عائشة رضي الله عنه في مسند أحمد وسنن النسائي والحديث في طبقات ابن سعد أيضاً عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى أبي موسى الأشعري فقال لقد أوتي عبد الله قيس مزماراً من مزامير آل داود، والحديث رواه أبو هريرة أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى روايته الإمام أحمد في المسند والنسائي، وابن ماجة في السنن، يعني الحديث المتقدم وثبتت الرواية من رواية أنس بن مالك أيضاً رواها الإمام أبو يعلى بسندٍ حسن كما قال الإمام الهيثمي في (المجمع) ورواها مع الإمام أبي يعلى الإمام أبو يعلى في الحلية ورواها محمد ابن نصر في قيام الليل، وروى هذه الرواية أيضاً البراء بن عازب في مسند أبي يعلى، قال الإمام الهيثمي وإسناد الحديث موثقون ورويت هذه الرواية بسندٍ صحيح مرسل في معجم الطبراني الكبير وطبقات ابن سعد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود، فهذا نبينا عليه الصلاة والسلام يستمع إلى قراءة القرآن ويثني على التالي، وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يطلب من الصحابة الكرام أن يقرؤوا القرآن ليسمع وليسن لنا سماع القرآن.(78/16)
ثبت في المسند والحديث في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجة وهو في مصنف ابن أي شيبة ورواه البيهقي في السنن الكبرى وفي دلائل النبوة وهو في تفسير ابن أبي حاتم ورواه عبد ابن حميد في مسنده وكما قلت هو في الكتب الستة فهو في الصحيحين وغيرهما وهو في أعلى درجات الصحة ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه [أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له أقرأ عليّ القرآن فقال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه وأرضاه أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ عبد الله بن مسعود سورة النساء حتى وصل إلى قول الله جل وعلا {فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} قال له النبي عليه الصلاة والسلام حسبك، يقول عبد الله بن مسعود فنظرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فإذا عيناه تزرفان] وقراءة عبد الله بن مسعود على نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام ثابتة في غير هذه الرواية عن طريق طلب النبي منه أن يقرأ عليه، روى الحاكم في المستدرك من رواية عمرو بن حريث عن أبيه وحريث صحابي وولده عمراً صحابي كما أن ولد سعيد بن حريث صحابي، والحديث إسناده صحيح من رواية عمرو بن حريث عن أبيه حريث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن مسعود أقرأ عليّ القرآن فقال أأقرأ عليك وعليك أنزل قال أحب أن أسمعه من غيري فقرأ عليه صدر سورة النساء يقول حتى وصلت إلى قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} قال عبد الله بن مسعود فاستعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي أخذته العبرة والبكاء وبدأت عيناه تزرفان بالدمع عليه صلوات الله وسلامه فقال له توقف فتوقف عبد الله بن مسعود فقال له نبينا صلوات المحمود عليه الصلاة والسلام تلكم فتكلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال رضينا بالله ربا وبالإسلام ديناً، ثم قال عليه(78/17)
الصلاة والسلام وأنا رضيت لكم ما رضيه لكم ابن أم عبد، يعني عبد الله بن مسعود.
إخوتي الكرام: هذا هو سماع سلفنا الكرام الطيبين يستمعون القرآن، يتلون كلام الرحمن إذا سمعوه وجلت قلوبهم، اقشعرت جلودهم، دمعت أعينهم، هذه أوصافهم رضي الله عنهم وأرضاهم، فما الذي حصل بعد ذلك كما تقدم معنا أن الأمر تغير وقد ذكرت كثيراً من بدع المتأخرين من الصوفية كيف عكفوا على القصائد ولأشعار وضموا إليه الرقص وفعلوا هذا في بيوت الله عز وجل وزعموا أنهم يذكرون الله ويعبدونه بهذه العبادات المحدثة المبتدعة، خاب سعيهم وضل علمهم، وقد وضحت بدعتهم وقلت في أخر الموعظة الماضية سنتدارس بدعة جدت في هذه الأيام، وهي بدعة الأشعار الجهادية من قبل من يجاهدون بالكلام عملوا أيضاً أشعاراً وقصائد وقالوا هذه أشعار الجهاد ينبغي أن يعكف عليه العباد من أجل بعث الحماس في قلوبهم أن أشعارهم كأشعار من المتأخرين من الصوفية، وأن أشعار هاتين الفرقتين أشعار المجاهدين في ذلك الحين، وأشعار من خرفوا من الصوفية أن هذه الأشعار كالأشعار المجونية كأشعار أهل الغناء سواء بسواء.(78/18)
نعم إنها قد تختلف عنها في موضوعها فلا تتعرض لفسق وخنا وبذاءة لكنها لا تختلف عنها في صيغة إلقاءها من صيغة الإلقاء تكسر وتخنث وميوعة فما الذي أباح لك هذا، من الذي أباح لك أن تتكسر، وأن تتخنث وأن تتصف بهذه الميوعة المنكرة عندما تقول هذه الأبيات من الذي أباح لك هذا، إنك إن أردف أن تقول أشعار الجهاد فقلها بكلام فصل جزل يبعث الحماس في القلوب لا يحرك بعد ذلك اللذة والطرب والركون إلى الدنيا بهذه الصيغة الماجنة من تكسر وتخنث وميوعة قال رجل لأبي معين الحسن البصري ما تقول في الغناء فقال نعم الشيء هو توصل به الأرحام ويفعل عنده المعروف ويتسلى به المكروب، ويريد رضي الله عنه وأرضاه، من الغناء الشعر الحسن الطيب الذي يقوله الإنسان فيبعث فيه الحمية والنخوة والمروءة والشهامة ليصل رحمه ليفعل المعروف ليتسلى إذا كان حزيناً فقال السائل لا أريد هذا إنما أريد الشعر قال وما الشعر أتعرف شيئاً منه؟ قال: نعم ثم انتدفع الرجل يغني يلوي شدقيه ويلوي منخريه ويكسر عينيه ويتمايل يميناً وشمالاً قال الحسن البصري سبحان الله ما كنت أظنه أنه عاقلاً يبلغ من نفسه هذا، عاقل يفعل هذا وحال الحسن البصري كحال الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل عندما قال له قائل ما تقول في الغناء يا أبا عبد الله، فقال مثل ماذا عن أي أنواع الغناء تسأل؟ قال مثل قول القائل:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني *** وتخفى الذين عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فأخذ الإمام أحمد بلحيته وأخذ يردد البيتين إذا سمي هذا عن الناس بغناء فلا يضر، هذا كما قلت يفعل عنده المعروف يحرك الشهامة والنخوة والمروءة، أشعار الزهد.(78/19)
إذن لأشعار الجهادية الذين يزعمون أحابها أنهم سيقيمون الدولة الإسلامية بتكسر وتخنث وقلة حياءٍ ورقة وميوعة، ويقول هذه أشعار الجهاد ثم بعد ذلك محذور آخر صاحبتها آلات اللهو من دفٍ ومزمارٍ وغير ذلك من الذي أباح لكم آلات اللهو يا عباد الله، إن استحلال آلات الملاهي كفر، ومن يستحل شيئاً منها مهدد بأن ينسخ قرداً أو خنزيراً كما سيأتينا في الموعظة الآتية إن شاء الله، من الذي أباح لك أن تضرب بالدف وهو الذي رخص فيه للنساء فقط، في الأفراح والعرس، فهل جعلت نفسك امرأة، وجعلت أيامك أيضاً كلها عرساً فتضرب بالدف باسم أشعار الجهاد، من الذي رخص لك هذا، ثم بعد ذلك محذور ثالث ألا وهو أن هذه الأشعار عكف عليها الأشرار في هذه الأيام الذين يدعون إقامة دولة الإسلام عكفوا عليها وتركوا كلام الله جل وعلا، أشعار جهاد على زعمهم تكسر وتخنث يصاحبها آلات محرمة يعكفون عليها ويقولون سنقيم دولة الإسلام بذلك.(78/20)
كنت مرة في مكة المكرمة شرفها الله وكرمها وزادها تعظيماً وبركة مع بعض إخواننا في سيارة وهو من فتن بهؤلاء وظن أن هذا يعتبر جهاداً إذا سمعه هذه الأشرطة التي فيها أغاني الجهاد يتكسر وآلات لهو فوضع الشريط في التسجيل وهو في السيارة يقودها وأنا بجوره وبدأ اللحن وقيل أيضاً أن يخرج المغني الماجن المخنث في كلامه وقصيدته شيء من اللحن في البداية وبعد ذلك بالصيغ المعروفة، قلت يا عبد الله عندك لشريط لفلانة من الرقاصات الماجنات، قال سبحان الله تسأل لماذا؟ قلت أسألك عندك شريط لفلانة قال أعوذ بالله، أنا أقتني شريطاً لهذه المفتنة، قلت أنا أنصحك نصيحة إذا كان عندك شري لها فضعه بدل هذا الشريط لتستمع إليه، قال أعوذ بالله، أنت تستمع الغناء، قلت والله ما أستمع، لكن استماعي لفلانه أخف من استماعي لهذا الأشعار، قال وكيف، قلت يا عبد الله إذا استمعنا شريط الغناء تعرف أننا عصينا الله لعلنا نتوب بعد ذلك أما جلسنا نلحد في حرمة الله ونحارب الله ونحن نزعم أننا نجاهد في سبيل الله، يا عبد الله اتق الله في نفسك، من الذي أباح لك هذا الزمر وهذا الضرب، في هذه الأشرطة تسمعها وأنت بجوار بيت الله الحرام، من الذي أباح لك هذا؟
إخوتي الكرام: أشعار جهاد في هذه الأيام حلت محل أشعار المتأخرين من الصوفية تقال بتكسر وتخنث وميوعة يصاحبها آلات اللهو ثم بعد ذلك عكفوا عليها وأعراض عن كلام الله جل وعلا، أي جهادٍ هذا؟(78/21)
إخوتي الكرام: إن جميع آلات العزف وآلات اللهو محرمة، ولا يستثنى من ذلك إلا الدف لصنف واحد وهو النساء في أيام الأفراح والعرس وما عدا هذا فلا يباح شيء من آلات اللهو لا للنساء ولا للرجال في وقت من الأوقات، فالنساء يستعملن الدف في مناسبات حددها خير البريات عليه الصلاة والسلام، كما أباح الشارع لهن أن يصفقن في الصلاة إذا سها الإمام من أجل ألا يسمع صوتهنَّ، وهنا أباح لهن هذا ولا يجوز للرجل أن يصفق ولا يجوز للرجل أن يستعمل شيئاً من آلات اللهو، وإذا استعملها فقد غير رجولته وهو من المخنثين عند أئمتنا، يقول الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) في الجزء الحادي عشر صفحة خمسة وستين وستمائة 11/665 وبالجملة فقد عرف بالأضرار من دين الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع لصالح أمته وعبادهم وزهادهم أن يجمعوا على استماع الأبيات الملحة مع ضرب بالكف وضرب بالقضيب أو الدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته وابتاع ما جاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأرض ولا في ظاهره.
ولا لعاس ولا لخاص ولكن رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح، وأما الرجال على لهذه فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ولا يصفق بكفٍ، بل قد ثبت عنه أنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثاً، ويسمون الرجال المغنيين تخانيثاً، وهذا مشهور في كلامهم إخوتي الكرام، وأما الحديثان اللذان أشار إليهما شيخ الإسلام:(78/22)
الحديث الأول: التصفيق للنساء والتسبيح للرجال، فهو حديث صحيح ثابت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو في المسند والصحيحين ومسند أبي داود وسنن النسائي وفي السنن الكبرى للإمام البيهقي من رواية سهل بن سعد، وثبت أيضاً في سنن ابن ماجة بسندٍ صحيح من رواية عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للنساء التصفيق للصلاة كما رخص للرجال في التسبيح، وهو ثابت من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين في مسند الإمام أحمد ومصنف ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إذا أنساني الشيطان شيئاً من الصلاة فليصفق النساء وليسبح الرجال] ، والحديث إسناده حسن، كما في مجمع الزوائد الجزء الرابع صفحة عشر ومائة 4/110.(78/23)
وأما الحديث الثاني في لعن المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء فهو حديث صحيح رواه أهل الكتب الستة إلا الإمام مسلم من رواية عبد الله بن عباس، وانظروا أحاديث كثيرة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين فيها هذا المعنى في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة ثلاثة ومائة 2/103 في باب الأدب، باب في المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، فالمرأة يباح لها أن تصفق، إذا سها الإمام لتنبيهه لئلا تتكلم لأن صوت المرأة فتنة، وإذا كان صوت المرأة فتنة فما بالكم بوجهها، أنا أعجب غاية العجب كيف انعكست وانقلبت الموازين في هذه الأيام، أمرنا أن نغض طرفنا عن النساء، ونعتقد الآن مؤتمرات عن زعم المؤتمرين أنهم يبحثون في شئون المسلمين فيجلس بعد ذلك شيخ عن اليمين، وشيخ على اليسار وبينهما امرأة تدير الحلقة، تدير المناقشة سبحان ربي العظيم امرأة تكشف عن وجهها وتستقبل الجمهور والناس يستقبلونها، ثم شيخ شيعي وشيخ سني وهي بينهما في الوسط ستتوحد الأمة على النساء، سبحان ربي العظيم، امرأة تجلس لتدير ندوة، أما يوجد رجل ليدير ندوة؟ حصل قحط في الأمة، ما يوجد رجل يدير هذه الندوة، علام هذه المرأة لتدير هذه الندوة، وإذا كانت المرأة تصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام، وسها النبي عليه الصلاة والسلام بحضور الصحابة الكرام، فلا تقل سبحان الله لئلا تحرك قلوب الرجال فلتصفق ولتضرب بظاهر كفها اليمنى على ظاهر كفها اليسرى ولا داعي للتصفيق بعد ذلك بالراحلتين لتمنيه أنه حصل قلل في الصلاة وهي امرأة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة الكرام وهذه امرأة شابة جميلة تجلس بين شيخين، وتقبل على الجمهور ومن يضمن لنا حال الحاضرين، لماذا هل التحلل وهذا التقلب في هذه الأيام.(78/24)
إذاً المرأة في الصلاة تصفق لئلا يسمع صوتها الرجال وأبيح لها ما أبيح في أوقات خاصة، وليس من حق أحد أن يبيح وأن يمنع إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب ما يبلغ عن ذي الجلال والإكرام، وأما الرجل فلم يبح له دف ولا غيره لا في عرسٍ ولا في غيره.
إذاً أشعار بعد ذلك تقال فيها تصاحبها هذه المزامير، هذه الدفوف، ويقال بعد ذلك أشعار جهادية، وأما القول إخوتي الكرام بأن الموسيقى إن لم تكن مثيرة فهي حلال، فغاية ما يقال على التعليق على هذا القول ن هذا رأي بشري والرأي البشري إذ ما خالف ما ثبت عن رسولنا النبي عليه الصلاة والسلام فهو وراء الظهر، وهو تحت الرجل، وكلام النبي عليه الصلاة والسلام لا يعارض بكلام أي كان، وسيأتينا في الموعظة الآتية إن شاء الله أن جميع آلات اللهو من المزامير والمعازف كلها حرام، فالقول بعد ذلك أن الموسيقى إن لم تكن مثيرة فهي حلال، فما الدليل على هذا؟ وما الدليل على التفرقة بين الموسيقى المثيرة وغير المثيرة؟ وما الذي يؤثر في هذا ولا يؤثر في هذا؟ وقد يسمع الإنسان أشنع أنواع الموسيقى على تعبيرك ويقول لا أتأثر فهي حلال، ما الضابط لذلك؟ كل هذا كلام لم يوزن بميزان الشرع فهو كلام مردود، إن هذه الفتيا كما قلت كحال من يقول إن شرب القليل من الخمر إذا لم يؤثر في الإنسان فهو حلال، وقد قال بعض القسس عليهم غضب الله ولعنته عندما قيل لهم إن الخمر عندكم في كتابكم حرام، والله يقول في الإنجيل لا يدخل الجنة سكير ولا زانٍ فقال المراد عن السكر هو الذي يشرب صطلاً من الخمر، وأما إذا شرب زجاجة أو كأساً فلا حرج، صار حالنا أيضاً يشابه أولئك، وسيأتينا نصوص النبي عليه الصلاة والسلام في الموعظة التالية التي تحرم جميع آلات العزف والموسيقى وجميع آلات اللهو.(78/25)
إذاً اخوتي الكرام: هذه الأناشيد التي فشت في هذه الأيام باسم الجهاد محذورة ممنوعة لهذه الأمور، تقال بتكسر وتخنث، يصاحبها آلات محرمة صدت الناس عن آيات الله المحكمة، فإن خلت من هذه المحذورات فهي من المباحات، بل تدخل في دائرة المستحبات إذا خلصت النيات لما فيها من شحذ للعزائم وحث على الفضائل والمكارم، وأما ما يقوله بعض الناس يقول إذاً ما البديل عن الغناء الماجن لابد من بديل؟ الجواب إن البديل ما ينبغي أن يكون بتبديل، بدلتم شرع الله الجليل باسم البديل، هنا غناء معه عزف وخنوثة وميوعة، وهناك غناء معه عزف وخنوثة وميوعة ما اختلف الموضوع. إذاً ما ميزة غنائك عن غناء أولئك، جئت تريد بديلاً فأحضرت لنا شيئاً هزيلاً، البديل أن تعود إلى ما كان عليه سلفنا الكرام عليهم رضوان الله عليهم أجمعين، ولا يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها.
الأمر الثاني: أقول البديل ليسق تروكا للرأي، والأمر إذا أردنا أن نتحدث عن طريق عقولنا وآرائنا دون أن يؤخذ من شريعة ربنا إنه لن يكون له أثر نافع في حياتنا، والله لا يمحو الخبيث بالخبيث، ولا يمحو السيئ بالسيئ، إنما يمحو الخبيث بالطيب، ويمحو السيئ بالحسن، فإذا أردت بديلاً أعكف على أشعار تقال بجزل وفصل ينبعث الحماس في قلوب الناس دون أن يصاحبها لهو، ودون أن يصاحبها بعد ذلك ميوعة وخنوثة، ثم بعد ذلك إقبال على كلام الله عز وجل وسرد أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي تبعث في الأمة معاني الشهامة والنخوة والمروءة والنجدة.(78/26)
والأمر الثالث: وأنا أقول لمن يقولون لابد من بديل، العجب لكم وعجبي لا ينتهي منكم ومتى كانوا أهل اللهو وأهل الطرب يعيشون هم الأمة تريدون أن تحركوا الأمة نحو الجهاد والكفاح ولا تريدون على زعمكم أن يشتغلوا بالتشدق والصياح فما الذي جرى منكم، تسكر وخنوثة وميوعة، فليتكم صحتم ونشدتم بغير هذه الخنوثة والميوعة، تريدون أن تحثوا الناس على الكفاح ثم جئتم بعد ذلك بهذه الأشعار تخنث وميوعة ومعها المزامير، متى كان المغني والرقاص ومن يعكف على اللهو يعيش همَّ الأمة؟ هذا حال الأمة، إن أبا سفيان كما تقدم قيل ذلك في موقفه بدر وقد أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه عندما انتصر المسلمون وقتل من المشركين سبعون، انظر للهم الذي يعيش، حلف أبو سفيان ألا يمس رأسه ماء حتى يثأر لأصحابه وحتى ينتقم من محمد وأصحابه وبقى ستة كاملة لا يصب على بدنه قطرة ماء حتى قاد جموع المشركين في موقعة أحد وكان ما كان، وهذا يريد أن يعيش هموم الأمة ومشاكلها يجلس بعد ذك يغني ويتخنث ويتكسر ويقول هو يعيش همَّ الأمة يا طبال ينبغي أن تبكي دماً لا دمعاً جولت بعد ذلك هذا الشعور إلى غناء والى طرب وإلى لهوٍ وتقول إنك تعيش همَّ الأمة ومشاكلها.(78/27)
إخوتي الكرام: والله لا يحرك الأمة إلا كلام خالقها، فإذا أردنا من الأمة أن تتحرك إلى الكفاح والجهاد فلنسمع قول الله جل وعلا {فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} والله إن العاقل إذا تليت عليه هذه الآية يقول ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، إذا أردت أن تحرك الأمة فحركها بكلام الله عز وجل: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون* يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين *} .
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وفرج كروبنا واقض حوائجنا يا أرحم الراحمين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر الفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب الناس إليك ومن المقربين لديك وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(78/28)
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم احسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لمن جاوره من المؤمنين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات وصل الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.. والحمد لله رب العالمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *} .(78/29)
توضيح الحق
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
توضيح الحق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أما بعد إخوتي الكرام: فهذه الموعظة ستكون أمر طرأ ونسأل الله أن يحفظنا من كل شر في الدنيا والآخرة، وهذا الأمر الذي طرأ إخوتي الكرام ويتحدث به عباد الرحمن في هذه الأيام لعله بلغكم شريط من شيخين يتكلمان فيه حول بعض القضايا وأرى من باب إحقاق الحق وبيان حقيقة الأمر ونصحاً لهما ووضع الأمر في موضعه أن نتدارس هذا على وجه الاختصار في هذه الموعظة وتفصيل المباحث يأتي بعد ذلك إن شاء الله مع أن الكثير من المسائل قد مر الكلام عليها ومن أراد الحق وجده فيها لكن كثيراً من الناس يتصيدون الكلام من هنا وهناك ويضعون الشيء في غير موضعه ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا كلمة الحق في الرضا والغضب إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: كما قلت كلام يتداوله الناس في مواقف حول كلام تدارسناه وذكرناه فيما مضى وهذا الكلام صدر من الشيخ الألباني ومن الشيخ أبي شقرة. وأنا في هذه الموعظة كما قلت سأبين الحق في هذا الأمر إن شاء الله.(79/1)
إخوتي الكرام: تقدم معنا مراراً أن دين الله جل وعلا يقوم على أمرين اثنين تعظيم لله وشفقة على خلق الله جلً وعلا والذي يتأمل هذين الشريطين يرى أنه حقيقة حصل فيهما اعتداء على الله جلّ وعلا كما حصل فيهما ظلم لعباد الله وإذا كان الأمر كذلك فسأقرر هذا بما يدل على الأمر الأول ثم بعد ذلك اتبعه بما يدل على الأمر الثاني من حق العباد الأحياء والأموات وعليه عندنا ثلاثة عناصر حق الله وحق العباد الأموات وحق العباد الأحياء أما حق الله إخوتي الكرام أول كلمة في الشريط إذا سمعتموه يقول الشيخ الألباني أسأل الله أن يغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين (كنت أتمنى أن يكون – ويقصدني بذلك – أن يكون مخلصاً وإن كان مخطئاً) .
يعني يقول: خطأ عبد الرحيم لا شك فيه لكن كنت أتمنى أن يكون مع خطئه مخلصاً لله عز وجل في كلامه لكن لا إخلاص ولا صواب أما الأمر الثاني الذي حكمت به فلك أن تحكم على حسب اجتهادك أنني أصبت أو أخطأتُ اهتديتُ أو ضللتُ والله سيحاسبك وإليه سيؤول العباد جميعاً. أما أن تتدخل في الأمر الأول فحقيقة هذا لا ينبغي لبشر أن يتدخل فيه فما في قلوب العباد لا يعلمه إلا رب العباد فمن الذي أطلعك على قلب هذا المسكين وهل هو مخلص فيما يقول أو منافق لئيم؟ من الذي أطلعك؟ هل أطلعك الله على غيبه لتقول هذا أنت أيها الشيخ تقول: لايمكن أن يُكاشَفَ إنسان بشيء عن طريق الكراهه وتخالف بذلك أهل السنة قاطبة فأهل السنة يقولون: الكرامات تقع في المكاشفات وتقع في القدرة وتقع في الغنى فيُعلِمُ الله بعض عباده بما يخفى على بعض العباد.(79/2)
وهذه مكاشفات يقررها الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابين من كتبه: في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وفي قاعدة في المعجزات والكرامات وهو المقرر عندنا في كتب التوحيد في العلم مكاشفات وفي الغنى وسيأتينا بسط هذا بأدلته والتوسع في أنواع خوارق العادات عند الأمر الثاني الذي يعرف به صدق النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو المعجزات وخوارق العادات فإذا أنت تقول لايمكن أن يعلم الإنسان المغيب عن طريق الكرامة يعني لو كنت ولياً لله تقول أن ما يحصل لي هذا ونسأل الله أن تكون ولياً ومن المقربين لكن أنت تنفي هذا عن كل ولي فإذا ما أطلعك الله عن هذا الأمر بسبب كرامة تحصل للصالحين فمن أين علمتَ أنه مخلص أم لا؟ ولا علاقة على الإطلاق بين الصواب وبين الإخلاص، قد يشرك الإنسان بالله ويكون مخلصاً قد يذهب ويسجد لقبر، سجوده لقبر حرام وشرك، لكن يكون مخلصاً قد قرر أئمتنا كثيراً من عباد القبور يُجابون فيما يسألون لإخلاصهم لا لاستقامة فعلهم فهم على ضلال. وهو عندما يذهب إلى القبر يذل لله وينكسر له فيقضي له حاجته سبحانه وتعالى.
فإذاً لا صلة بين الإخلاص - كما قلت – وبين إصابة الحق قد يكون الإنسان مصيباً [وقد يكون] وهو مخلص أو لا نكون على حق أولا لا صله له كما قلت بالإخلاص. فعندنا إتباع وعندنا إخلاص.
فإذا اتبعت أحسنت، وإذا أخلصت أحسنت، وقد يوجد إخلاص بلا إتباع وقد يوجد إتباع بلا إخلاص. فقولك: (كنت أتمنى أن يكون مخلصاً وإن كان مخطئاً) هل أطلعك الله على غيبه؟ وإذا رجعت عن قولك وقلت إن الله أطلعني عن طريق خرق العادة فليتك بينت هذا من أجل أن نكون على بينة وأسأل الله أن يلطف بأحوالنا إنه أرحم الراحمين.(79/3)
أيها الشيخ الكريم: من المقرر عندنا في كتب الحديث الشريف – حديث نبينا عليه الصلاة والسلام – حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه وهو حديث عظيم وجليل له وقع في الإسلام كبير وهو ثابت في الكتب الستة وغيرها: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولا يطلع على ما في النيات إلا رب البريات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه وقد كان أئمتنا الكرام يستحبون بدأ أعمالهم بهذا الحديث.
قال عبد الرحمن بن مهدي – كما تقدم معنا في أوائل دروس سنن الترمذي – وقد توفي سنة 198 للهجرة من صنف كتابا فليبدأ بحديث عمر وهذا ما فعله البخاري.
أيها الشيخ الكريم: أول شيء مرّ معك في دراسة سنة نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الحديث هلاّ إعتبرت به؟ قال الإمام أبو سليمان الخطابي عليه رحمة الله وقد توفي سنة 388 هـ كان المتقدمون من شيوخنا يستحبون بدء أعمالهم بحديث عمر قبل كل قول وعمل، يتذكر الإنسان خشية الله ليصحح نيته ولئلا بعد ذلك يتهم غيره. إخوتي الكرام، هذا الأمر ينبغي أن نعيه وعليه ما في الشريط أنه ليس بمخلص وأنه مصلحجي وأنه، وأنه فكما قلت إن أطلعكم الله على غيبه فعلى العين والرأس وإن لم يطلعكم الله على غيبه فقد أشركتم بالله جل وعلا لأن هذا منازعة لله في ربوبيته. إخوتي الكرام أنتم تدندنون طول حياتكم حول البدع لا يجوز أن نفعلها وينبغي أن نحذر الناس منها ووصل تشددكم في أمر البدع أن من حمل سبحته قلتم عنه إنه مبتدع. وكلامكم باطل والحكم على السبحة بالبدعة بدعة وقد قرر هذا أئمتنا الكرام كما في مجموع الفتاوي للإمام ابن تيمية 22/506 قال: (إذا أحسنت النية في التسبيح بالخرز فهو حسن غير مكروه) .(79/4)
الذي أريد أن أقوله إذا وصل تنطعكم وتشددكم واحتياطكم أن تقولوا إن السبحة بدعة من باب صيانة جناب التوحيد وعدم فعل شيء ليس في شرع الله على حسب اصطلاحكم. كيف بعد ذلك جئتم تمدون علمكم إلى ما في قلوب العباد؟ حقيقة هذا منازعة لله في توحيد الربوبية وتوحيد الربوبية عندنا أقر به المشركون فضاع عند الموحدين في هذه الأيام.
حقيقة أمر عظيم أمر فظيع ولذلك أنا أرجو من هذا الشيخ الكريم أن يعيد النظر فيما قال وأن يخبرنا إن اطلعه الله على غيبه فنفوض أمرنا إلى الله وما لنا إلا أن نعبده سواء كنا من أهل الجنة أو من أهل النار لكن إن اطلعك الله فهذه حقيقة يعني – كما قلت – بلية في حقي وأفوض أمري إلى الله. وإذا لم يطلعك فأرجو أن يقف كل إنسان عند حده. قُلْ فلان أصاب وأخطأ، اهتدى وظل وقل ما شئت وسيحاسبك الله على ما تقول لكن لا تتدخل بين العباد وبين ربهم فهذا مخلص أو منافق؟ كِلْ سرائرهم إلى الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى وأنا أقول هذا لتعلم أيها الشيخ الكريم وليعلم كل مسلم والله ما أصف نفسي بالإخلاص وما أعلم أنني أخلصت في حياتي وأنا على نفسي بصير والله الذي لا إله إلا هو ما أصف نفسي بهذا وإذا وصفت نفسي بذلك فلا شك في غروري وسفاهتي وقلة عقلي. لكن كما قلت هذا ما يتعلق بحالي مع نفسي أما أنت لا تتجرأ على قلوب العباد، فوِّض أمرهم إلى ربهم جل وعلا.
إخوتي الكرام:
ينبغي أن نتهم أنفسنا وأن نكون على علم بحالنا وقد تقدم معنا في ترجمة العبد الصالح هشام الدستوائي وقلت حديثه مخرج في الكتب الستة وتوفي 152هـ يقول هذا العبد الصالح: (والله ما أستطيع أن أقول إني قد ذهبت يوما قط اطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل) .
فمن أنت أيها الشيخ ومن أنا ومن يوجد في هذا الزمان بجنب أولئك الأئمة الأعلام.(79/5)
ما أستطيع أن أقول أني ذهبت يوماً قط اطلب الحديث أريد به وجه الله. وغالب ظني أنك وأنكم لا يخفى عليكم حال هشام الدستوائي الذي بكى من خشية الله حتى فسدت عينه والذي كان يقول عجبت للعالم كيف يضحك ثم يقول عن نفسه هذا. وكان أكثر أهل البصرة ذكراً للموت وهو الذي يقول فيه أمير المؤمنين شعبة بن الحجاج: (هشام أعلم مني وأحفظ من قتادة) وهو الذي يقول فيه أبو داود الطيالسي: (هشام الدستوائي أمير المؤمنين في الحديث) ومع ذلك يقول (لا أستطيع أن أقول إني ذهبت يوما قط أطلب الحديث أريد به وجه الله عز وجل) فكوني مخلصاً أو لا فدع هذا لي بين وبين ربي. وأنت لا تتدخل بما في قلوب العباد وكل واحد ينبغي أن يتهم نفسه، وأنا على يقين أن كل واحد منا يعرف من عيوب نفسه مالا يعرفه من عيوب غيره، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
قال الإمام الذهبي معلقاً على كلام هشام الدستوائي: (قلت: والله ولا أنا –أي أنا ما أستطيع أن أقول إنني ذهبت اطلب الحديث لله في يوم قط –أبدا- لله مخلص لا يمكن أن أقول هذا. قلت والله ولا أنا فقد كان السلف يطلبون العلم لله فنَبُلُوا وصاروا أئمة يُقْتَدَى بهم وطلبه قوم منهم أولا لا لله فحصلوه ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرّهُمُ العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق كما قال مجاهد وغيره طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية ثم رزقه الله بعد وبعضهم يقول: (طلبنا هذا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) فهذا أيضاً حسن ثم نشروه بنية صالحة رحمهم الله ورضي عنهم والصنف الثالث قوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثني عليهم فلهم ما نَوَوا.(79/6)
قال عليه الصلاة والسلام: (من غزا ولم ينو من غزوته إلا عقالا فليس له إلا ما نوى) والحديث إخوتي الكرام رواه أحمد والنسائي ورواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وترى هذا الصنف لم يستضيئوا بنور العلم ولا لهم وقع في النفوس ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل وإنما العالم من يخشى الله عز وجل.
والصنف الرابع: وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب فظلموا وتركوا التقيد بالعلم وارتكبوا الكبائر والفواحش فتباً لهم فما هؤلاء بعلماء.
والصنف الخامس: وصنف لم يتق الله في علمه بل ركب الحِيَلَ وأفتى بالرخص وروى الشاذ من الأخبار وبعضهم إجترأ على الله ووضع الحديث فهتكه الله وذهب علمه وصار زادة إلى النار. وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئا كبيرا وتضلعوا منه في الجملة ما أظن ينطبق علينا وصف واحد من هؤلاء الأصناف الخمسة مع ما في الأصناف المتأخرة من سوء وقبح ثم يقول: (فخلف من بعدهم خلْفُ بان نقصهم في العلم والعمل وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر ولم يتقنوا منه سوى نذر يسير أوهموا به أنهم علماء فضلاء ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله عز وجل لأنهم ما رأوا شيخا يقتدي به في العلم فصاروا همجا رعاعاً غاية المدرس منهم أن يحصل المدرس منهم كتبا مُثمَنَةً يخزنها وينظر فيها يوماً ما فيصحف ما يورده ولا يقرره فنسأل الله النجاة والعفو كما قال بعضهم: ما أنا عالم ولا رأيت عالماً.(79/7)
وهذا الوصف الأخير أيها الشيخ الكريم ما أراه إلا ينطبق إلا على علماء زماننا إلا من رحم ربك وقليل ما هم فإذا كان هذا حالنا فليتهم كل واحد منا نفسه وليقف عند حدّه إخوتي الكرام: الإخبار بأن ما في القلب يعلمه أحد من البشر وأننا نحكم على هذا بأنه مخلص أو منافق أو مرائي وأطلعنا الله على غيبة فهذا منازعة لله تعالى في الربوبية وهذا من خصائص ربوبية الله جل وعلا هو الذي يعلم السر وأخفى، وإذا كان الأمر كذلك فلنقف عند حدنا لنمسك ألسنتنا ولنتق ربنا (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) .
أما فيما يتعلق بعد ذلك في المخلوق هذا فيما يتعلق بحق الله أردت أن أبدأ به لعظم موقعه وعظم حق الله علينا وأشنع شيء يقوم به الإنسان أن يشرك بالرحمن وأن يدعى خصائص الربوبية لنفسه البشرية وليس بعد هذا الظلم ظلم (إن الشرك لظلم عظيم) .
وأما حق المخلوق فحقيقة المخلوقات على تعددها وتنوعها تنقسم إلى قسمين إما أحياء وإما أموات وقد اتهمت في ذينك الشريطين أنني ما سلم مني الأموات ولا الأحياء وإذا كان كذلك فحقيقة ينبغي أن نذكر واحداً من الأموات وماذا جرى مني ومنهم نحوه ثم نذكر أيضا واحدا من الأحياء واختم الموعظة بذلك أما الأموات فسأبدأ بخير الأموات وأفضلهم ألا وهو خير البريات عليه صلوات الله وسلامه وهو وإن كان ميتاً عليه الصلاة والسلام وانقطع عن الحياة فحياته أكمل حياة عند رب البريات.
إخوتي الكرام:(79/8)
أثاروا لغطاً وأكثروا كلاما حول حديث ذكرته عن نبينا عليه الصلاة والسلام فأعادوا ما عندهم دون الرجوع عما ذكروه ولا يلتفتون إلي ما قرره علماء الأئمة الإسلامية عليهم رحمات رب البرية. والحديث تقدم معنا إخوتي الكرام حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في البزار والمسند وحديث بكر بن عبد الله المزني الذي رواه ابن سعد ورواه كما تقدم معنا الشيخ الصالح المبارك إسماعيل بن اسحق القاضي في كتاب فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام (ت 282هـ) ورواه الحارث بن أبي أسامة وابن النجار في تاريخه وغيرهما عن انس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين. ولفظ الحديث تم تفصيل الكلام عليه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال حياتي خير لكم تحدثون ويُحدَثُ لكم – تحدثون ويُحْدِثُ لكم – تحدثون وتُحْدَث لكم – أي تتكلمون وتسألون فنحدث لكم ويُحدَثُ لكم من قِبَل الله جل وعلا وتَحْدُث لكم أجوبة وبيان مادام النبي عليه الصلاة والسلام باقياً فالوحي ينزل وما انقطع وحي السماء.
تحدثون ويحدث لكم ونُحْدِثُ لكم وتُحْدَثُ لكم (ومماتي خير لكم – عليه صلوات الله وسلامه- تُعْرَض عليّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) .(79/9)
جرى حول هذا الحديث لغط كثير منهم وقالوا أنه ليس بثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام ثم أنا وسعت دائرته وخرّفْتُ نحوه وكنت فصلت الكلام عليه في مباحث النبوة المشرفة على نبينا صلوات الله وسلامه وأراني مضطراً إلى أن أذكر اختصاراً ما ذكرته سابقاً فأقول: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صحيح، صححه عدد من أئمتنا الأبرار بتصحيحهم نأخذ الأحاديث الثابتة عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه فيما يتعلق باعتقادنا نحو ربنا وفيما يتعلق بالأحكام التفصيلية في شريعتنا، والحديث ذكره الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد 9/24 وبوب عليه باب ما يحصل لأمته صلى الله عليه وسلم من استغفاره بعد موته وقال رواه البزار ورجاله رجال صحيح. والإمام الهيثمي ذكره أيضا في كشف الأستار عن زوائد البزار1/397 وبوب عليه بابا فقال باب ما يحصل لأمته عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد وفاته ... هذا إمام أول من الأئمة الكرام الأبرار يصحح الحديث وهو الإمام الهيثمي ...(79/10)
وبعده الإمام السيوطي عليه رحمة الله يصحح الحديث أيضا في الخصائص الكبرى 2/281 رواه البزار بسند صحيح هذا كلام الإمام السيوطي في الخصائص الكبرى وهكذا الإمام الزرقاني في شرحه على المواهب اللدنية 5/337 رواه البزار عن عبد الله بن مسعود ... وإسناده جيد. وهكذا الإمام ولي الدين ابن شيخ الإسلام عبد الرحيم الأثري ولي الدين بن عبد الرحيم العراقي في طرح التثريب شرح التقريب وبُينت قيمته الحديثية في الأحكام الفقهية في أحاديث الأحكام 3/297 يقول: إسناده جيد كم إمام صار؟ أربعة، والخامس والد ولي الدين شيخ الإسلام عبد الرحيم بن الحسين الأثري في تخريج أحاديث الإحياء 4/144 يقول ... حياتي خير لكم ومماتي خير لكم الحديث – البزار من حديث ابن مسعود ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه كثيرون ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف كأن العراقي يقول: رجال الإسناد رجال الصحيح لكن فيه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد أخرج له مسلم وأهل السنن الأربعة وت 206 هـ قال عنه الحافظ بن حجر في التقريب: صدوق يخطئ كثيرا أفرط ابن حبان فيه فقال إنه متروك. وكما قلت في صحيح مسلم والسنن الأربعة. في هذا العبد الصالح عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد. حوله كلام لكن هو من رجال مسلم.
فإذا كان صدوقا حديثه في درجة الحسن لاسيما وقد اعتضد بمرسل ثابت كالشمس سطوعا وظهورا في رابعة النهار ثبت في مرسل بكر بن عبد الله المزني في كتابه فضل الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام وطبقات ابن سعد بسند صحيح بهذا اللفظ لكن هناك مرسل وهنا الإسناد متصل فلو قُدّر أن هذا الحديث فيه شيء من الضعف في رواية ابن مسعود.
10 ينجبر هذا الضعف ويتقوى ويزول بالرواية المرسلة من طريق بكر بن عبد الله المزني كما قرر أئمتنا هذا في كتب المصطلح فقالوا:(79/11)
فإن يُقَلْ يُحْتَجُّ بالضعيف ... فقل إذا كان من الموصوف
رواته بسوء حفظ يجبروا ... بكونه من غير وجه يُذْكَرُ
... ...
يعني إن قيل لنا هل يحتج بالحديث الضعيف؟ نقول نعم متى نحتج بالحديث الضعيف إن كان رواته يوصفون بسوء حفظ نقصوا في الحفظ لكن تعددت الطرق..
وإن يكن كذب أو شذا ... فقوى الضعف لم يُجْبَرْ ذا
ألا ترى المرسل حيث أسندا ... أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا
ألا ترى هذا المرسل إذا جاء مسندا من طريق ضعيف أو جاء مرسلا من طريق آخر يتقوى المرسل ويصبح حسناً أوَ ليس كذلك.
فإذًا عندنا حديث مرسل اسندا أي إذًا مسندا متصلا من طريق ضعيف أو جاء مرسلاً من طريق تقوى وزال ما فيه من ضعف وهذا الذي يقرره أئمتنا الكرام كما قلت هو المقرر في كتب الحديث والمصطلح.
أعادوا ما في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وكنت ذكرتُ هذا وبينت ضعفه وعدم صلاحيته لما فيه. يقول هنا: إذا عرفت ما تقدم فقول الحافظ الهيثمي رواه البزار ورجاله رجال الصحيح يوهم أنه ليس فيهم من هو يتكلم فيه. وهو قال رجاله رجال الصحيح أما بعد ذلك عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد من رجال مسلم وهو حوله كلام والمعتمد في أمره كما قال الحافظ صدوق يخطئ لكن هو من رجال مسلم. -ولعل السيوطي إغتر بهذا –انظر إلى هذا التعبير السيوطي اغتر بكلام الهيثمي. يعني كأن السيوطي من جهله المقلدة – إغتر بكلام الهيثمي فقال في الخصائص الكبرى سنده صحيح – (ولهذا فإنني أقول إن الحافظ العراقي شيخ الهيثمي كان أدق في التعبير عن حقيقة إسناد البزار حيث قال عنه في تخريج الاحياء رجاله رجال الصحيح إلا عبد المجيد بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه النسائي وابن معين فقد ضعف بعضهم قلت: أما قوله هو أو ابنه في طرح التثريب في شرح التقريب إسناده جيد فهو غير جيد عندي.(79/12)
11) انتبه إلى هذا التعبير: السيوطي اغتر بكلام الهيثمي قول ولي الدين العراقي ووالده غير جيد عند الألباني (وكان يكون كذلك لو مخالفة عبد المجيد للثقات على ما سبق بيانه فهي علة الحديث وإن لم أجد من نبه عليها أو لفت النظر إليها أن يكون الحافظ ابن كثير في كلمته التي نقلتها عن كتابه البداية والله أعلم. نعم لقد صح إسناد هذا الحديث عن بكر بن عبد الله المزني مرسلاً وله عنه ثلاث طرق.
إخوتي الكرام:
خلاصة كلام الألباني يقول: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد حوله كلام وانفرد بهذه الزيادة في أصل الحديث فهي شاذة.
يقول: (أصل الحديث: إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام قال: وقال رسول الله صل الله عليه وسلم حياتي خير لكم إلى آخر الحديث قال البزار لم نعرف آخره يروي عن عبد الله إلا من هذا الوجه ذكره ابن كثير في البداية والنهاية ثم قال فهو موجود في كشف الأستار في زوائد البزار ثم يقول بعد ذلك إتفاق جماعة من الثقات على روية الحديث عن سفيان دون آخر الحديث الذي هو حياتي خير لكم ومماتي خير لكم ثم متابعة الأعمش له على ذلك مما يدل عندي على شذوذ هذه الزيادة لتفرد عبد المجيد بن عبد العزيز بها لاسيما وهو متكلم فيه من جهة حفظه مع أنه من رجال مسلم وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون وبين بعضهم السبب في ضعفه فقال:
إخوتي الكرام:(79/13)
لو سلمنا أن عبد العزيز بن أبي رواد حوله كلام وزاد آخر الحديث وخالف الثقات هذه الزيادة هل يحكم عليه بالشذوذ؟ من حكم عليها بالشذوذ فهو لا يعرف معنى الشذوذ. الشذوذ هو ليس أن يزيد الراوي في الرواية إنما أن يروي ما يخالف ما رواه من هو أكثر منه أو أثبت منه. فهذا يثبت وذاك ينفي أو ذاك ينفي وهذا يثبت هذا هو الشذوذ أما أن يروي شيئا مثبوتا عنه وهو إن رواه دون أن يشاركه الحفاظ في الرواية لأخذ منه إذا كانت روايته مقبولة في درجة الحسن وانتبه لتقرير هذا من كلام أئمتنا عليهم رحمة الله يقول الإمام عبد الرحيم الأثري في ألفيته.
12) ...
وذو الشذوذ ما يخالف الثقا ... فيه الملا فالشافعي حققا
والحاكم الخلاف فيه مااشترط ... وللخليل مفرد الراوي فقط
رَدّ ماقالا بفرد الثقة ... وكالنهي عن بيع الولاء والهبة
وقول مسلم روى الزهري ... تسعين فردا كلها قوي
واختار فيما لم يخالف (انتبه) ... أن من يقرب من ضبط فردُه حسن
أو بلغ الضبط فصحح أو بعد ... عنه فما شذ فاطرحه ورد(79/14)
يقول الإمام العراقي في شرح هذه الأبيات في البصرة والتذكرة 1/195 فنقول: إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه فإن كان مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك والضبط كان ما انفرد به شاذا مردوداً وأن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره – هناك (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام وقال عليه الصلاة والسلام (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) . هل بين اللفظين تعارض؟ إنما هنا زيادة على ذلك ليس بينهما تعارض حتى تحكم بالشذوذ – يقول: وإن لم يكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد إن كان عدلا حافظا موثوقاً بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به ولم يقدح الانفراد فيه كما سبق فيما مرّ من الأمثلة وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارما له مزحزحا له عن حيز الصحيح نعم: هو بعد ذلك بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده استحسنا حديثه.
يقول إذا كان ما انفرد به الراوي هو في نفسه في درجات الإتقان والضبط نحكم لإنفراده بأي شيء؟ بالصحة، وإذا كان ما انفرد به هو دون درجة الحافظ الضابط المتقن ننظر إلى حاله فإن كان يُحكم لحديثه بالحسن نحكم لإنفراده بأنه أيضا حسن. إذا استحسنا حديثه لذلك ولم نحطه إلى قِبَلِ الحديث الضعيف وإن كان بعيدا من ذلك رددنا ما انفرد به وكان من قبيل الشاذ المنكر وانتهى. وعليه عندنا ماانفرد به الراوي له ثلاثة أقسام:
1. إذا كان ما انفرد به وهو ضابط حاذق ماهر حافظ متقن انفراده صحيح ولا يقال عنه شذوذ.
2. إذا نزل عن ذلك كمال عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد نستحسن حديثه كما لو روى حديثا دون أن يشاركه غيره في روايته.(79/15)
3. وإذا روى من فحش غلطته ردت روايته لو روى دون رواية شارك فيها الحفاظ ويحكم عليها بالضعف. فنحكم أيضا على شذوذه هنا بالضعف هذا كلام أئمتنا فرواية عبد المجيد ... لو سلمنا أنها شاذة وهو متكلم فيه نقول هذا الشذوذ بمعنى أنه انفرد عنهم لا بمعنى أنه اثبت خلاف ما اتفق الجماعة من هم أعلا منه وأكثر ضبطا وعدلا في الرواية وعليه لا يضر فنحن إذا كنا نحسن حديثه لو لم يشاركه غيره فنحسن حديثه بهذه الزيادة وعليه استدل أن حديثه فيه ضعف – على التنزل – باتفاق المحدثين هذا الضعف يزول بالرواية المرسلة –أوليس كذلك؟ وهذا الكلام يعرض على علماء أهل الأرض قاطبة فلينظروا فيه وليعطونا رأيهم.
أما بعد ذلك قوله شذوذ أي شذوذ إذا انفرد بشيء ما خالف فيه الجماعة. أي ما أثبت شيئا نفته تلك الرواية ولا نفى شيئا اثبتته تلك الرواية صار كما لو روى هذه الزيادة برواية مستقلة لم يشاركه أحد في روايتها. لِمَ نرُدُّ زيادته وهذا كلام أئمتنا وهو الذي قرره أئمتنا قاطبة إخوتي الكرام انظروه أيضا كما قلت في هذا الكتاب وانظروه في تدريب الراوي للإمام السيوطي ... تدريب الراوي ص 149 يقول: وإن لم يخالف الراوي بتفرده غيره وإنما روى أمراً لم يروه غيره فينظر في هذا الراوي المنفرد فإن كان عدلا حافظا موثوقا بضبطه كان تفرده صحيحا وأن لم يوثق بحفظه ولكن لم يبعد عن درجة الضابط كان ما انفرد به حسنا، وإن بعد من ذلك كان شاذا منكرا مردودا. وهل عبد المجيد بعيد؟ أو كما قلنا صدوق إذا والحاصل إن الشاذ المردود هو الفرد المخالف والفرد الذي ليس في روايته من الثقة والضبط ما يُجْبَرُ به تفرده هذا الذي قرره أئمتنا في كتب المصطلح إخوتي الكرام فلو سلمنا أن رواية عبد المجيد ... فيها شيء من الضعف- لو سلمنا – لزال الضعف الذي فيها.(79/16)
برواية بكر بن عبد الله المزني، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن إما لذاته أو لغيره، وهذا ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أما الرواية الثالثة وهي رواية أنس رضي الله عنه فكما قلت رواها الحارث بن أبي أسامة وابن النجار وغيرهم بسند ضعيف.
بسند ضعيف من قال هذا؟ أما نقلت لكم كلام الإمام العراقي: (ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف) هذا كلام من؟ العراقي. أنا قلت فيما سبق حديث أنس إسناده ضعيف وإن لم يُقوِ رواية عبد الله بن مسعود ورواية بكر بن عبد الله لإشتداد الضعف فيه – إن لم يُقَوِّ فلا يضر دعونا منه عندنا مرسل وبعد ذلك حديث إما حسن لذاته وإما لغيره. قالوا بعد ذلك أنت تقول حديث أنس ضعيف يقول وهذا خطأ وبدأ يكثر بعد ذلك من الكلام الذي ينبغي للإنسان أن يعي ما يقول وقال هذا أنا ذكرت في السلسلة أن فيه متهم وأن فيه وأن فيه.
أيها الشيخ الكريم: أنت ذكرت بنفسك هذا الحكم في كتاب ضعيف الجامع الصغير وزياداته. أنت ذكرت هذا ص 405وهو آخر حديث في حرف الحاء. آخر حديث عندك في ضعيف الجامع: (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) رواه الحارث أي ابن أبي أسامة من حديث أنس- ماذا يقول عنه: (ضعيف) فعلام تعيب علينا بما تقول أنت وتكثرون من اللغظ في الأشرطة وتفتنون الأمة علام أنت هنا تقرر بخط يدك أن حديث أنس ضعيف ثم عملتم دندنة لا نهاية لها لأنني قلت إن حديث أنس ضعيف فأنت هنا تقول ضعيف هذا حكمك وأحاديث أخرى تقول موضوع وأحاديث تقول ضعيف جداً أما هذا ماذا حكمت عليه وإذا ذهلت أيها الشيخ ونسيت لكبر سنٍ فيك أسأل الله أن يحسن لك الخاتمة بفضله ورحمته وأن يجعل مأواك جنة النعيم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ولنا ذلك إذا نسيت لكبر السن فأنا أذكرك أن ترجع إلى كتابك ص 405 آخر حديث في حرف الحاء (حياتي خير لكم ومماتي خير لكم) رواه الحارث عن أنس. ضعيف هذا كلامك.(79/17)
فإذا أنت قررت هذا الحكم فإذا عبت غيرك فسيقع العيب بعد ذلك عليك لأنك أنت أصدرت هذا الحكم عليه نعم في السلسلة فيه متهم وفيه وفيه لكن هنا حكمت عليه بخلاف ما في السلسلة فأي الحكمين منك سنأخذ به أيضا؟ على كل حال حديث أنس عندنا في هذا الموضوع لا يقدم ولا يؤخر عندنا رواية عبد الله بن مسعود فيما أرى والعلم عند ربي حسبما قرر أئمتنا انتبهوا له من عندي ولذلك هم عندما يقولون صححت وحسنت هذا افتراء عليّ لا صححت ولا حسنت نقلت التصحيح عن خمسة من الجهابذة الحفاظ وأنا أتحداكم إذا كنتم تنقلون تضعيف هذا الحديث عن حافظ قبلكم فأي الفريقين أهدى سبيلاً.
من يقتدي بأئمة متقدمين من علماء القرن الثامن للهجرة ينقل كلامهم ويعوّل عليه أم من يأتي في القرن الخامس عشر للهجرة ويطرح كلام المتقدمين ويعبر عن كلام السيوطي بأنه اغتر وعن كلام ولي الدين العراقي بأن عنده غير جيد ومن هذا الكلام؟ أريد أن أعلم أي الفريقين أهدى سبيلاً.(79/18)
ولذلك إخوتي الكرام ينبغي أن نتقي ربنا نحو حديث نبينا عليه الصلاة والسلام. هذا الحديث لما ذكرته سابقا علقت عليه أيضا وقلت لا يتنافى مع ما هو ثابت لنبينا عليه الصلاة والسلام حي في قبره ... وما المانع من عرض أعمال أمته عليه ليمتد نفعه إلى الأمة فهو مبارك علينا في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسلام أما ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن النسائي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال (أتيت ليلة أسري بي على نبي الله موسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه وهو قائم في قبره يصلي) والحديث في صحيح مسلم. وهو قائم في قبره يصلي أما تقدم معنا حديث أبي يعلى والبزار وقال عنه الهيثمي رجاله أثبات ثقات 8/211المجمع وقد صححه السيوطي في الخصائص 2/281، والإمام الزرقاني في شرح المواهب اللدنية 5/332 تقدم معنا قول النبي عليه الصلاة والسلام (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) فنبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا أنبياء الله عز وجل لهم هذا الوصف فإذا عرض الله جل وعلا على نبينا عليه الصلاة والسلام أعمال أمته من أجل أن يحصل لهذه الأمة ما يحصل كان ماذا؟
وهذا الحديث كما قلت أُضِيفُ إلى من تقدم ذكرهم ممن صححوه صححه أيضا الإمام الزبيدي في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين 9/177 فهذا جم غفير من أئمتنا صححوا هذا الحديث واعتمدوه وقبلوه والعلم عند الله جل وعلا ولاأريد أن أفيض أكثر من هذا فيما يتعلق بالنواحي الحديثية لعلنا نكمل ما عندنا من مبحث.
إخوتي الكرام:
هذا الأمر لابد لنا أن نعيه قبل أن ننتقل إلى ما بعده أريد أن أقول لهذا الشيخ الكريم أموراً من باب النصح وأنا أرى أن يرسلها كل واحدٍ إليه وأن نتناصح بها فيما بيننا دوما ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا أول هذه الأمور:-(79/19)
1. أيها الشيخ الكريم مع احترامي لك ينبغي أن تعلم أن أقوالك ليست مقدسة وليس عندنا أحد قوله مقدس إلا النبي عليه الصلاة والسلام وكل واحد يخطئ ويصيب وإذا أنت رضيت لنفسك أن ترد أقوال خمسة وستة من الحفاظ الكبار وأنت استسهلت هذا فأنا على يقين أننا عندما نرد قولك ينبغي أن نستسهل هذا من باب أولى. فإذا أنت تجرأت على رد كلام الحفاظ فلا ينبغي أن يضيق عطنك عندما نتجرأ على رد كلامك فأقوالك كما قلت ليست مقدسة وليست معصومة من الخطأ لذلك أصغ لنصح من ينصحك وأصِغْ بسمعك إليه فالحكمة ضالة المؤمن أني وجدها التقطها.(79/20)
2. الأمر الثاني: ينبغي أن تعلم أيها الشيخ الكريم أنت ولا أريد أن أقول وأنا فمن أنا حتى أقول وأنا أنت وكبار العلماء في هذا الزمان لا تأتون قطرة من بحار علمائنا الكرام فليعرف كل منا قدره وليقف عنده يقول الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة الله في تذكرة الحفاظ 2/627 بعد أن انتهى من بيان طبقات معينة وهم الذين قبضوا وتوفوا بين 250و300 يعني في المنتصف الثاني من القرن الثالث للهجرة يقول وليستمع الشيخ الكريم لهذا ولنعرف قدر علمائنا في هذه الأيام بالنسبة لعلمائنا الكرام الذين سبقونا – يقول الإمام الذهبي: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير وما ذكرنا عشرهم هنا وأكثرهم مذكورون في تاريخي تاريخ الإسلام وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفرع وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام الذين مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية ... وظهر في الفقهاء التقليد وتناقض الإجتهاد فسبحان من له الخلق والأمر فبالله عليك أيها الشيخ إرفق بنفسك والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشذر وهو نظر الغضب – والإحتقار الذي يكون بمؤخر العين ولا ترمقنهم بعين النقص ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا حاشا وكلام هذا من يقوله؟ الذهبي الذي هو من علماء القرن الثامن للهجرة يعني بينه وبين عصر النبي عليه الصلاة والسلام كما بيننا وبين عصر الذهبي تماما مدة مضاعفة يقول فما فيمن سميت أحد أي ممن كانوا في هذه الفترة من سنة 250 إلى 300 للهجرة (فما فيمن سميت أحد ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين عالم بسبيل النجاة وليس في كبار محدثي زماننا أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال إن أعوزك المقال من أحمد ومن ابن المديني وأي شيء أبو زرعة وأبو داوود هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه وما أصوله ولا يدرون الرأي ولا يفقهون الرأي(79/21)
ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق ولا يعرفون الله بالدليل ولا هم من فقهاء الملة فاسكت بحلم أو انطق بعلم فالعلم النافع هو ما جاء عن أمثال هؤلاء ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث فلا نحن ولا أنت هذا كلام من؟ لا نحن ولا أنت يخاطب علماء زمانه، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوي الفضل. فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه ومن تكلم بالجاه أو بالجهل أو بالشر والبأو –وهو الترفع على الأقران – فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال.
نسأل الله العفو والسلامة فمع مكانتك واحترامنا لك لا يمكن بحال أن نقدم قولك على قول علمائنا الذين سبقوك ينبغي أن يرسخ هذا في ذهنك وينبغي أن يرسخ هذا في ذهن كل مسلم.(79/22)
3. الأمر الثالث: من باب النصيحة أيها الشيخ أريد أن ترفق بنفسك وأن تشفق على أمة نبيك عليه الصلاة والسلام أرى أن تمنع نفسك من الفتيا وألا تدخل نفسك في أمور الفقه على الإطلاق فعلم الفقه له رجاله فسلم الأمر لأصحابه وإذا سئلت عن مسألة فقهية قل سلوا الفقهاء وقد كان الإمام مالك عليه رحمة الله إذا سُئل عن القراءة قال سلوا نافعا فإنه إمام القراءة في المدينة وينبغي أن يستعان على كل صنعة بصالح أهلها وحقيقة حصل من فُتياك ومن كثرة الشذوذ الذي يقع في فتاويك حقيقة حصل ما حصل من الإضطراب في الأمة والشذوذ وألفت في ذلك الرسائل وتنابذ بألقاب السوء من أجل ذلك. خرقت الإجماع في أن الذهب المحلق لا يباح للنساء وأن النساء لا يباح لهن الذهب المحلق ومن لبست هذا فهي عاصية ووالله إنا ندافع عنك وقد قررت هذه المسألة في رأس الخيمة وقلت الإجماع انعقد على حل الذهب للنساء فقام بعض الحاضرين فقال الشيخ الألباني خالف إذاً مخالف الإجماع كافر قلت اسكت واضبط لسانك واتق ربك إنه لا يسلم بانعقاد الإجماع فله عذر مع ردنا لقوله ونلتمس له عذراً ونسأل الله لنا وله المغفرة والرحمة لكن هذه مسألة قلتها. بعد ذلك أتيت بفتيا غريبة حقيقة أن ما طال عن القبضة بدعة ينبغي قصها من اطلق هذا الحكم قبلك من خلق الله؟ من اطلق من أئمتنا الفقهاء على أن ما طال بدعة ويجب قصه ثم بعد ذلك تطلع بين الحين والحين بهذه الأقوال الشاذة التي يقع فيها الهرج والمرج وكم حصلت الردود عليك وأنت بعد ذلك تقابل الرد بردود وتتجرأ عليهم وقد ألف بعض المعاصرين وغفر الله له ولك ولي وللمسلمين أجمعين كتابا سماه قاموس شتائم الألباني.(79/23)
أي التي نبذ بها العلماء الماضين والحاضرين – كتابا في هذا الأمر- فبالله عليك أيها الشيخ أرفق بنفسك وبأمة نبيك عليه الصلاة والسلام وما بذلته من جهد نسأل الله أن يثيبك عليه وأن يضاعف لك الأجر. لكن جانب الفقه إعزل نفسك عنه ومن أيام كنا نتدارس ما يتعلق بموضوع وجه المرأة وبينت كلامه وقلت لكم اشتد بعض الناس في مناظرته كما فعل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري وتقدم معنا أنه وصف تفسير الألباني للأية ولاستنباطه بعد ذلك هذا الحكم من الشريعة أنه إلحاد ومبني على المغالطة وأنه بعد ذلك لا يقول بهذا الحكم إلا من كان اجهل الناس ثم بعد ذلك يقول فهذا القول سوء لا يصدر من أحد يتمسك بما ثبت في السنة النبوية وإنما يصدر ذلك ممن يتمسك بالتقاليد والسنن الإفرنجية إلى آخر كلامه وقلت لكم قسى عليه للتنفير من قوله لا للوضع من مكانته. وهناك كتب أخرى قست أكثر من هذا وما ذكرتها سابقا وإنما من باب أن تعلم ماذا يجري في الأمة من أجل ما تقوله من أقوال شاذة كتاب آخر نظرات في كتاب حجاب المرأة المسلمة لعبد العزيز بن خلف العبد الله من المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه يصفك حقيقة بأوصاف والله يعز علينا أن توصف بها لكن هذا هو حال الشذوذ الذي ينفرد به الإنسان وبعد ذلك يريد أن يثبت القول كيف ما كان في صفحة 12 (إن الشيخ الألباني عفا الله عنا وعنه مجبول على محبة الظهور والبروز في أسلوب المخالفات والثناء على نفسه فهو يقوم في هذه المهمة حين لا يوجد من يقوم بها كما وكما وكما) ثم بعد ذلك يقول (الغرور يدعو الألباني إلى التحدي) العناوين بارزة في هذا. قلت: هذا كله بسبب الشذوذ الذي تقوله فأنا أطلب منك أن تكفّ فيما بقي من حياتك وأسأل الله أن يمدها على طاعته وأن يحسن لنا ولك الخاتمة. أن تمسك عن الفتيا وأن تحيل على ما في المذاهب الأربعة المتبعة وان تقتصر على نشر سنة نبينا عليه الصلاة والسلام.(79/24)
4. الأمر الرابع: وهذا حقيقة بحثته مع بعض الإخوة الكرام من خواص من لهم صلة بك نسأل الله أن يحفظك وأن يحفظهم ويحفظ المسلمين في مدارسة سبب ما يجري فقال إن سبب ذلك شلة حوله لا يتقون الله في صحبته وإذا كان كذلك فينبغي أن يحترس الإنسان إن الذين كانوا معك حول هذا السؤال أما ظهر لك حالهم أنهم بمظهر العامة ثم من وجّه لك السؤال من أهل هذه البلاد يسألك عن هذه المسائل من أجل إثارة فتنة أما سمعت سؤاله من بداية كلامه يا شيخُنا ثم ما ذكر كلمة صحيحة والشريط موجود وأنت تقول له قل يا شيخنا لكن ما بعدها أنكى وأمر فإذا كان هذا حاله كان الألْيق بك أن تقول له أيها الإنسان إذهب تعلم أحكام الطهارة وكيف تصلي، ولا تشتغل بإيقاع الفتنة بينك وبين العلماء وعندما جئتُ هنا كان بعض الناس يحضر فماذا أقول عنهم حقيقة نسأل الله أن يحسن ختامنا وبعد الخروج من المحاضرة قال يا شيخ إنني أؤلف كتاباً في الرد على فلان من المشايخ المشهورين في هذا الزمان ووالله الذي لا إله إلا هو لا يتقن قراءة جزء عم نظراً لا حفظاً والله الذي لا إله إلا هو ثم حضر لعله كان يظن أن أكون مطية له وكم من يحضر من أجل أغراض ثم بعد ذلك لما رأى الأمر ولى وكان أحيانا يتصل بي عدة أيام وما أعلم إن كان هو السائل يا شيخُنا يا شيخُنا. يا عبد الله بمثل هؤلاء الإنسان يتكثر. فدعك من صحبة هؤلاء وأصحب العلماء الأتقياء الذين هم في هذه الكتب واصحب رب الأرض والسماء فأرى أن تنتبه إلى من حولك ووالله إنهم فتنة وما قالوه لك في هذا الشريط وفي غيره قد يدخل الغرور على الصديقين فضلاً عن أمثالنا في هذا الحين إنك تُقَدَّمُ في كل شريط بأنك محدث العصر وفقيه الزمان وبمثل هذه العبارات.(79/25)
أيها الشيخ: أترضى أن يقال هذا فيك وأنت الذي تنشر سنة النبي عليه الصلاة والسلام أما بلغك حديث الصحيحين من حديث أبي بكر وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم عندما أثنى رجل على رجل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام قال (أهلكتم الرجل قطعتم ظهر الرجل. قطعت عنق صاحبك) عبارات تقال في الإنسان.
فهؤلاء لو ضبطتهم لكفيت شرهم ونسأل الله أن يكفينا شرور أنفسنا وشر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين و ... كما لا ينبغي للإنسان أن يزل ينبغي أن يحذر من أن يُزَل ونعوذ بالله من أن نزل أو نُزَل أو نضِل أو نُضَل أو نظلِم أو نُظْلَم أو نجهل أو يُجهل علينا أيها الشيخ الكريم ولعلك أعلم مني بذلك ثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي من رواية عبد الله بن سخبرة قال قام رجل يثني على بعض الخلفاء فأخذ المقداد بن الأسود رضي الله عنهم أجمعين كفا من حصى – من رمل – ورشقه بها – ونسفه بها – تعلم من الذي أُثْنِيَ عليه؟ هو عثمان بن عفان – أُثْنِيَ على عثمان في حضرة هذا العبد الصالح المقداد بن الأسود فأخذ كفا من حصى ورشق بها المثنى المادح فقال له عثمان ما شأنك؟ قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب) .
وأختم الكلام على هذا بتذكيرك أيها الشيخ الكريم بما جرى من أصحابك المتقدمين معك. كيف حصلت البراءة بينكم وسبّكم من كان يطريكم وما كان لله دام واتصل وما كان (لغير الله) زال وانفصل. فاعتبر بهذا الأمر أيها الشيخ الكريم في هذه الحياة قبل أن يشتد ندمك بعد الممات ولا تكن معبرا لمن حولك وقاني الله وإياك شرور أنفسنا وشر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(79/26)
آخر الأمور: حقيقة أرى لك أيها الشيخ وقد أمضيت ما أمضيت وأسأل الله أن يتقبل منك أن تستعد للقاء الله وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في آخر عمره (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) والله إن المناظرات والمجادلات والقيل منا مذمومة فكيف من الشيخ الكبير الوقور نسأل الله أن يصونك من كل شائبة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. وبالختام أقول لك شئت أم أبيت وشئنا أن أبينا أنت والدنا ولا شك في ذلك ولك أمران.
لا ينكرهما إلا من لا يخاف الرحمن:
1. أولهما: أنت كبير في العمر وليس منا من لم يجل كبيرنا وإذا جهلنا عليك فلسفاهة وطياشة عندنا وما ينبغي أن تشاركنا في الطياشة والسفاهة.
2. والأمر الثاني: الذي لك حق به علينا أمضيت وقتا طويلا في خدمة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام وإذا كان الكلب الذي صحب أصحاب الكهف جعل الله له ذكرا وقدرا فذكره في كتابه فكيف بمن يعيش مع سنة نبينا عليه الصلاة والسلام فترة طويلة من الزمان ووالله الذي لا إله إلا هو ما حصل الرد عليك ولا على غيرك إلا تعظيما لدين الله ومحافظة على ما قرره العلماء الذين هم قبلك لا انتقاصا لقدرك وإن كانت العبارة قاسية ولا يراد من قسوتها الطعن في شخصك ولا في ذاتك وإنما يراد من ذلك التنفير من أقوال تنفرد بها. وقد سبقنا إلى ذلك أئمتنا الكرام وكانوا يسلكون هذا المسلك مع من يشذ في قوله. وسأذكر لك كلاماً يقوله علماؤنا الكرام في بعض علماء الاسلام الكرام لتعلم أن ما يحصل نحوك ونحو غيرك لا يراد منه إلا النصح لدين الله ولا داعي بعد ذلك للطعن بما في القلوب فلا يعلم ذلك إلا علام الغيوب.(79/27)
أما الكلام الذي سأذكره إخوتي الكرام / الكلام في منتهى الشدة والقسوة نحو إمام من أئمة الإسلام لكن كما قلت إذا شذ الإنسان فلا بد من الرد على قوله بما ينفر الناس من أخذه وحقيقة أيها الشيخ عندما أطلقت مثل هذه العبارات فإن وضع اليد اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع بدعة مقيتة – بدعة وإن قال بها الإمام أحمد – ما قلت إنك تبدع الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه وأنت عندما ذكرت هذه العبارة التي لم تسبق إليها واطلقتها أيضاً قام بعد ذلك السفهاء الذين تأثروا بقولك فما اقتصروا على تبديع الإمام أحمد إنما بدّعوا من قبله ومن بعده عندما رأوا وتوهموا أنهم يخالفون شرع الله كما فتحت لهم الباب وقد تقدم معنا أن الحكيم الترمذي عذر ما ألف كتابه خاتم الأولياء صار هذا الكتاب بابا للزندقة التي انتسب إليها بعد ذلك وادعاها من جاء بعده من غلاة الصوفية والزنادقة.
الكلام الذي سأذكره رواه الإمام أبو الخير شيخ القراء وإمام المسلمين في كتابه منجد المقرئين ومرشد الطالبين {ت 833 هـ} يقول في صفحة 62 عند بيان تواتر القراءات يقول: أما من قال إن القراءات متواترة حال اجتماع القراء لا حال افتراقهم فأبو شامة قال في المرشد الوجيز قال في الباب الخامس منه إن القراءات المنسوبة بكل قارئ من السبعة وغيرهم منقسمه إلى المجمع عليه والشاذ غير أن هؤلاء السبعة لشهرتهم وكثرة الصحيح في قراءاتهم تركن النفس إلى ما نقل عنهم فوق ما نقل عن غيرهم ثم حكى قوله فيما يوجد شذوذ في القراءات السبع.(79/28)
وأبو شامة من هو؟ هو حقيقة إمام زمانه رفع الله مقامه ت سنة665 هـ وهو عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي. انظر ماذا علق الإمام ابن الجزري على عبارة أبي شامة قال: أنظر يا أخي إلى هذا الكلام الساقط الذي خرج من غير تأمل المتناقض في غير موضع في هذه الكلمات اليسيرة أوقفت عليها شيخنا الإمام ولي الله أبا محمد بن محمد بن محمد بن محمد الجمالي رضي الله عنه فقال: ينبغي أن يعدم هذا الكتاب من الوجود ولا يظهر البتة فإنه طعن في الدين. قلت: ونحن – يشهد الله – إنا لا نقصد إسقاط الإمام أبو شامة إذ الجواد قد يعثر ولا نجهل قدره إذ الحق أحق أن يتبع ولكن نقصد التنبيه على هذه الزلة المُزلَّة ليحذر منها من لا معرفة له بأقوال الناس ولا اطلاع له على أحوال الأئمة.
ثم بعد ذلك أنا من في تقرير هذا ثم قال وأنا من فرط اعتقادي فيه أكاد أجزم بأنه ليس من كلامه في شيء ربما يكون بعض الجهلة المتعصبين ألحقه بكتابه أو أنه ألف هذا الكتاب في أول أمره كما يقع لكثير من المصنفين ... إلى آخر كلامه.(79/29)
وعند هذا الأمر الأول ألا وهو حق المخلوق وتكلمنا على حق أعظم المخلوقات على نبينا صلوات الله وسلامه على حق المخلوق من الموتى. عند هذا الحق أريد أن أقول أيضا. قلتم أيضا في الشريط الذي يَصُكُّ الآذان ويسمعه المسلمون في البلدان قلتم إنني بنيت على حديث عبد الله بن مسعود علالي وقصوراً فقلتُ إننا ننتفع بالنبي عليه الصلاة والسلام. بعد موته وقُلْتَ بالحرف الواحد إنني وسعت دائرة الحديث كما هو شأني في هذه الأمور وأخرى إنما قلت هذه نعمة من الله بها علينا ألا وهي استغفار نبينا عليه الصلاة والسلام لنا بعد موته وإذا لم نحظى باستغفاره صلى الله عليه وسلم في حياته ولم نحظ برؤية نور وجهه عليه الصلاة والسلام فما حرمنا الله هذه الفضيلة فمن الله علينا باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لنا قلت هذه نعمة ننتفع بها فكيف إذا وسعتُ دائرة الحديث وبنيت عليه علالي وقصوراً. أين العلالي والقصور؟ أليس استغفار النبي عليه الصلاة والسلام لنا نفع لنا فما العلالي وما القصور؟ هل قلت نذهب نسجد له أو لقبره الشريف عليه الصلاة والسلام.(79/30)
ما هي العلالي وما هي القصور؟ ينبغي أن نراقب العزيز الغفور عندما نتكلم. إخوتي الكرام هذا الحديث مع صحته كما تقدم معنا قلت إن بعض الناس في هذه الأيام تجرأ وزعم أنه موضوع أيضا منهم الشيخ أبو بكر جابر الجزائري في كتاب وجاءوا يركضون في صفحة 82 قال حديث حياتي خير لكم ومماتي خير لكم (حديث موضوع) ووالله هذا كلام وضيع وهذا كلام رذيل ولا يجوز أن يقال عن حديث نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام هذا حديث موضوع ثم بعد ذلك أين ردك على مثل هذا الهراء أيها الشيخ فقط جئت تنتقدني في اصطلاح أنت ذكرته فقلت إن حديث أنس ضعيف فقلتُ أنا ضعيف فجئت تقول لا إنه ليس بضعيف إنه فيه متهم يعني موضوع أنت ذكرت ذلك الإصطلاح وهذا الحديث الذي أنت لا تسلم بوضعه كيف ترضى أن يقال هذا الحكم فيه وفي صفحة 149 يتناقض مؤلف الكتاب في كتاب صغير في حديد 150 صفحة فيقول: وما ورد أنه عليه الصلاة والسلام أنه تعرض عليه أعمال أمته فيستغفر لهم فإنه لا يدخل في هذه القضية العينية فإنه كاستغفار الملائكة للمؤمنين التائبين. ويقول معلقا عليه: حديث عرض الأعمال عليه الصلاة والسلام لم يثبت بسند قوي. هناك موضوع وهنا لم يثبت بسند قوي. هذا هو الحال عند ما نريد أن نجعل الحديث يخدم الأغراض ففي ذهن الواحد منا فكرة فسنجعل الحديث يخدم فكرتنا كيفما كان وهذا لا يجوز في شريعة الرحمن.
أترك الشيخ الكريم إلى المعلق الثاني بعد ذلك ولا أزال في الأمر الأول. الشيخ أبو شقرة تولى بعد ذلك الكلام فأثار الشغب والخصام حول هذا الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقد نعت بألفاظ لعلها بمثل نعوت شيخه أو أعلى فهو الخطيب المصقع وهو أسد المنابر ومن هذا الكلام وكيف يقبل هؤلاء هذه العبارات حقيقة ما اعلم.(79/31)
يقول هذا الشيخ الذي يثير الشغب حول هذا الحديث ويقول: لو سلمنا بصحته انظر ماذا يترتب عليه من محذور – أي محذور سيترتب عليه؟ - قال: سيترتب عليه إذا استغفر النبي عليه الصلاة والسلام لنا وقلنا إن الإستغفار عام في سائر الأمة وفي الأمة طائعون وعصاة وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام استغفاره لا يرد وعليه ينبغي أن يلحق العصاة بالأتقياء بل بكبار الصحابة يعني إذا استغفر النبي عليه الصلاة والسلام لأمته استغفاره يكون مقبولا إذاً لن يدخل أحد النار وكلهم سيكونون من أهل الجنة وكلهم سيكونون في درجة الصحابة.
يقول: وتعلم ما يترتب على هذا من ضلال؟!!
سبحان ربي العظيم. سبحان ربي العظيم. سبحان ربي العظيم
والله أيها الشيخ الكريم أنت الثاني أنا أعجب كيف نزلت لهذه الهوة السحيقة المهلكة هي التي أهلكت الجهمية عندما ردوا نصوص صفات رب الأرض والسموات بأقيستهم وآرائهم وضلالاتهم فقالوا لو أثبتنا لله الوجه واليدين وسائر صفاته جل وعلا يلزم من هذا التشبيه فنفوا وهذا هو الذي حدا ودعا الشاذين من النحاة إلى رد القراءات لأنها تتناسب مع قواعدهم النحوية وهذا الذي دعا أهل الآراء إلى نبذ الشريعة الغراء لأنها لا تتناسب مع عقولهم وهذا الذي دعا المحترفين من الصوفية إلى تأويل النصوص الشرعية بما لا يخطر ببال أحد من البرية وهذا الذي دعا أهل السياسة الوضيعة الوضعية لنبذ الشريعة المحكمة الربانية.
يا عبد الله أنت ابحث في الحديث ثبت أم لا؟ إن ثبت إن فهمته أحمِد الله وإن لم تفهمه أحمد الله وقل آمنت برسول الله عليه الصلاة والسلام وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ولا تكثر الشغب حول نصوص نبينا عليه الصلاة والسلام ولا تفتح هذا الباب على الأمة وكفاها هلك تعيش فيها في تأويل الأحاديث وردها. الشغب لا تفتح بابه على حديث.(79/32)
أنت ابحث في الحديث ثبت أم لا إن ثبت وفهمته أحمد الله وقل الحديث ثابت والله أعلم بكيفية استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وماذا يترتب على هذا الإستغفار وكِل هذا إلى الله جل وعلا، ولا تُدخِل نفسك بين الله وبين رسوله عليه الصلاة والسلام ولا تُدخِل نفسك في هذه القضية وقولك إن هذا بعد ذلك سيجر إلى الغلو يقول: وهل تخريف المخرفين إلا مثل هذا الحديث هو الذي دعاهم إلى التخريف. وعندما علموا أن النبي عليه الصلاة والسلام حي في قبره ويستغفر لهم إذا دعاهم للطواف بالقبور والإستغاثة بهم و..و..وسبحان ربي العظيم. هذا الحديث هو الذي دعاهم أو جهلهم بدين الله؟ أما علم هذا الحديث سلفنا وصححوه هل كانوا يطوفون حول قبر النبي عليه الصلاة والسلام وأنت وأنا لا يستطيع أحد منا أن ينكر حياة الأنبياء في قبورهم وأنهم يصلون على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. فهل تنفي هذا أيضاً لئلا يترتب عليه أيضاً محذور؟ نعوذ بالله من هذا القول المرذول وأنا أيضاً أنصحك أيها الشيخ الكريم أن تسمع لي محاضرة ولعلك تتواضع وأسأل الله أن يرفع قدرك وهي محاضرة كانت على مرحلتين وفي كل مرحلة قاربت ثلاث ساعات أو زادت في موقف العقل البشري من الوحي الرباني أنصحك بسماع هذه المحاضرة لئلا تكثر الشغب حول نصوص النبي عليه الصلاة والسلام ...(79/33)
وأقول لك ضع رأيك تحت رجلك ولا تلجأ إلى الشغب نحو سنة نبيك عليه الصلاة والسلام. فو الله ثم والله لن تؤمن بربك الكبير حتى يكون هواك تبعاً لهذا السيد الجليل عليه الصلاة والسلام وإياك إياك أن تبدي إعتراضاً على حديثه بقال أو قيل. إلزم الصمت فتح الله عليك ونوَّر بصيرتك وفهمك فاحمد الله وإلا فسأل أهل الذكر عن معناه ولا تقل يلزم ويلزم ويلزم وتريد أن تكثر الشغب في المناقشة حول هذا الحديث. ليس هذا حال أهل الحديث إنما هذا حال من يعكفون على لهو الحديث. أقول لك ما وجه الملازمة بين استغفار نبينا عليه الصلاة والسلام وبين ما ذكرته أنه إذا استغفر لنا سنكون جميعا من أهل الجنة وسنكون جميعا في درجة الصحابة ما وجه الملازمة والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما استغفر لأناس من المنافقين استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله "والله لا يهدي القوم الفاسقين" آية من القرآن خفيت عليك أيها الشيخ.(79/34)
الأمر الثاني: أذكرك بحديث لتعلم أن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام يكون حسبما يشاء ربنا ويرضى ولا تدخل نفسك بين الله وبين نبيه عليه الصلاة والسلام ثبت في المسند وصحيح مسلم ورواه أبو داوود والنسائي والترمذي عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث نزول القرآن على سبعة أحرف، أتاني جبريل فقال إن الله يقول لك إقرأ القرآن على حرف أن إقرأ القرآن على حرف قال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق ذلك وفي رواية في الحديث إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف قال أسأل الله مغفرته ومعافاته فإن أمتي لا تطيق ذلك فأتاه الثانية قال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين. قال أسأل الله مغفرته ومعافاته فإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثالثة قال على ثلاثة حروف ثم أتاه الرابعة فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ- أي حرف قرأوا به فقد أصابوا وهي الموجودة في القراءآت العشر المتواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام من المدنيين والمكي والشامي والبصريين والكوفيين الأربعة. إذا أنظر لتكملة الحديث: قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام فإن جبريل يقول لك. مده بكل ردة مسألة يعني كل رده أنت قلت أسأل الله فيها مغفرته ومعافاته وجاءك جبريل يقول إقرأ ثانية على حرف ثانٍ على ثالثٍ ورد ثلاث مرات ثم في الرابعة على سبعة يقول لك بكل مسألة تسألينها سَلْ ربك ما شئت فقلت اللهم أمتي اللهم أمتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى فيه الخلق حتى إبراهيم خليل الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه.
فقد دعا نبينا عليه الصلاة والسلام لأمته مرتين وادخر الثالثة ليوم القيامة وهل يعني هذا أننا في درجة الصحابة وأنه لن يدخل عاص في هذه الأمة النار.(79/35)
ما وجه الملازمة بين هذا وذاك أيها الإنسان ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله جل وعلا فيما حكاه عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه. (رب إنهن) أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم قرأ ما حكاه الله جل وعلا عن روحه وكلمته عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) .
فرفع النبي عليه الصلاة والسلام حتى رؤي بياض إبطيه الشريفين ثم قال اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي وبكى عليه صلوات الله وسلامه فأتاه جبريل من قِبَلِ ربنا الجليل يبشره بأنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فهل يعني هذا أننا سنكون في درجة أبو بكر وعمر؟ وهل يعني هذا أنه لن يدخل العاصي النار؟ ما وجه الملازمة بين هذا وذاك؟ على كل حال. أقول من اتضح له معنى الحديث فليحمد الله وإلا فليسلم الأمر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وإلى الله الذي جعل هذا لنبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام والأحاديث في ذلك كثيرة التي تقرر مثل هذا المعنى أريد أن أنتقل إلى الأمر الثاني من الأمرين الأخيرين وهو الأمر الثالث على التفصيل إلى بعض الأحياء الذي أيضاً جرى حوله كلام وكما أخترتُ نموذجا من الأموات وبدأت بأفضلهم وأكملهم وأشرفهم عليه صلوات الله وسلامه.(79/36)
هكذا في حق الأحياء أكثر هذا الشيخ أبو شقرة في شريطه ويكرر بين الحين والحين أنني أصف الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز حفظه الله والمسلمين في خير وعافية أجمعين وتاب علينا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين كرر بأنني أصفه بأنه صاحب تلويث وأنه لوث الدين وحقيقة عندما سمعت هذا الإنسان يعني بشر هل صدر أحياناً مني شيء من هذا وهو لا يدري أجمعت فكري مراراً فما خطر هذا ببالي. ثم زاد في الإفتراء أنني أقلد أحياناً صوت الشيخ مستهزئاً به وأرد عليه وأن أسأل الله أن يمسخني قرداً أو خنزيراً أو خنزيراً إذا خطر ببالي تقليد الشيخ فضلاً عن فعل ذلك ويعلم الله ما سمعت هذا إلا من الشريط أما أنه خطر هذا ببالي أو فعلت لا أقول فعلت ولا أقول خطر ببالي ولما تابعت كلامه وأعدت سماع الشريطين وقفت على وهمه وخطئه ولله الحمد والمنة.
وكل قضية كما يقول أئمتنا من حقق النظر فيها علم أمرها كل مسألة إذا حققت النظر فيها فيها علامة صحتها أو بطلانها والإمام ابن القيم عليه رحمة الله ألف كتابا سماه الطرق الحكمية في السياسة الشرعية فيذكر في صفحة 29 أن الإنسان إذا كان عنده ملكة يعرف المحق من المبطل ويعرف كيف يوصل الحق إلى صاحبه ويعرف كيف يأخذ على يد المبطل فهو عندما يتكلم في الشريط يقول: أنك تقول أن الشيخ عبد العزيز بن باز لما رد على كلام الشيخ ابن عبد الهادي ... وكنت ذكرت كلامه سابقاً في قصة وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية وكيف دخل شيوخ المسلمين وتبركوا بهذا الإمام الصالح وقبلوه تبركا به أو ليس كذلك وتقدم معنا كلامه في صفحة 369 قلت وحضر- كما يقول الشيخ تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول محمد بن أحمد بن عبد الهادي في صفحة 369 وحضر جمع إلى القلعة فأذن لهم في الدخول وجلس جماعة قبل الغسل فقرأوا القرآن وتبركوا برؤيته وتقبيله ثم انصرفوا.(79/37)
قلت – بعد ذلك- انظر إلى هذا التعليق والتلويث ثم قرأت فمن المعلق ومن الملوث؟ إذا كان المعلق على الكتاب هو الشيخ عبد العزيز بن باز حقيقة – هو الذي وُصِفَ بذلك وإذا كان المعلق غيره فقائل هذا القول وناسبه إلى بين أمرين: إما مفترٍ على عمد ويريد أن يخدع الناس وإما لا يعلم من الذي علق على هذا الكتاب فظن أن الشيخ ابن باز هو الذي علق على هذا الكتاب وأنني الذي أحكم عليه بذلك وهو بذلك مخطئ فيما يقول ما صدر هذا وأنا قلت بعد ذلك أنظر إلى هذا التعليق والتلويث. يقول الشيخ محمد بن حامد الفقي- المعلق على الكتاب.(79/38)
سبحان الله لقد كان الشيخ ابن تيمية يجاهد طوال حياته تلك البدع من قراءة القرآن على الموتى والتبرك بالموتى وآثار الصالحين ثم هؤلاء يصنعون به هذا الذي كان يكرهه والذي ما أوذي بأنواع الأذى إلا من أجل إنكاره إلى آخر كلامه. فمن الملوث؟ الملوث هو المعلق على هذا الكتاب ولذلك أيها الشيخ أيضاً أريد أن تتقي الله في عباراتك وأن تراجع كلامك وأن تتحقق وأنا أريد منك حقيقة أن تكون جريئاً في تحققك فانظر فيمن علق على الكتاب فإذا الشيخ عبد العزيز بن باز هو الذي علق على الكتاب فحقيقة كما قلت أنا الذي وصفته بذلك وبعد ذلك يصدر مني ما تريده مني أنت إن شاء الله وما يجب عليّ وإذا كنت أنت تنسب إليّ ذلك وقد لوثت سمعة الشيخ بهذه الأشرطة هنا وهناك والمؤمن مبتلى فأريد منك أن تتبع هذا بشريط آخر وأن تتوب إلى الله عز وجل وأن تقول أنا أخطأت فيما قلت إما عن جهل وتسرعت ولا أعلم من المعلق على هذا الكتاب وإما أن تقول أيضا سوّل الشيطان لي سوء فعلي لكن كُشِفْتَ والحمد لله الذي أظهر الحق والله جل وعلا يقول في كتابه في قصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون..(79/39)
أين الدم الكذب؟ بعد أن ألقو نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه في الجب –بعدها- أخذوا سخلة وذبحوها ولطخوا قميصه بدمها ثم جاءوا إلى أبيهم وقالوا أكله الذئب فنظر يعقوب عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه إلى هذا المشهد الذي يفري الكبد وقال سبحان الله ما أحلم هذا الذئب وما أحكمه ذئب يأكل ولدي ولا يقطع قميصه؟ كيف هذا؟ ولد يؤكل وما باقي منه شيء وليس فيه خرق وجاءوا على قميصه بدم كذب وهنا يقول إنني افتريت على هذا الشيخ وطعنت فيه ووصفته بأنه ملوث والشيخ برئ من ذلك، معاذ الله أن أقول فيه هذا الكلام وليس يعني هذا أيضاً أنني لا أقول إنه أخطأ أو أصاب هذا أمر آخر وكوني كما ذكرت أنه علق على فتح الباري ورد موضوع التبرك فقلتُ إن هذا خطأ وهذا باطل ثم أتبعت هذا بأن قائل هذا من العلماء ونسأل الله أن يتوب علينا جميعاً. لكن شتان بين أن يقال ملوث ويلوث الدين وبين أن يقال رأي الشيخ الآن في رده على ابن حجر وعلى غيره قول باطل. هذا أقول ولا شك ويبقى ما قلناه سابقاُ أئمتنا المتقدمون لا يزاحمهم عندنا أحد لكن من يلزم الإنصاف نعامله إن شاء الله كذلك ونتأدب معه وهذا واجب علينا ومن يشذ ويطلق لسانه لابد أيضاً أن نعطيه عبارات من أجل أن يحذر الناس ذلك التسرع وذلك التهور.
وبما أنه ثبت وهْمُ الشيخ أبي شقرة وخطؤه فيجب عليه أن يتوب منه وأن يقلع عنه واتبع الشيخ هذا الكلام فقال ما سلم منك الأموات فضلاً عن الأحياء ثم اتهمني بأنني أضلل الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة الله وأنا أعجب إخوتي الكرام غاية العجب. والله الذي لا إله إلا هو لو أذن الله لملابسي أو لدابتي أو لذرات جسمي أن تنطق لقالت إن عبد الرحيم هذا العبد المسكين يحب ابن تيمية وابن القيم أكثر من روحه التي بين جنبيه.
أما بعد ذلك تعليقك على هذا بأني عدت كما كنت عليه وذكرت بيتين من الشعر أنا أعيذك بالله من حمية الجاهلية فقال:(79/40)
نزل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل
...
يقول أنت كنت مخرف في بلاد الشام وبعد ذلك جئت إلى مكان فيه شهرة للإمام ابن تيمية وابن القيم فلبست هذا القميص ثم عدت إلى بلاد التخريف فأطلقت لسانك بالتخريف مرة ثانية فما كنت تتستر به. بشعار السلفية هذا مصلحة كما قال في أول الشريط مصلحجية وأنا أتحداك إذا قلت عن نفسي في يوم من الأيام أنني سلفي وكما قلت البارحة لا يعنيني أنني لا ألتزم بطريقة السلف. لكن السلفية التي لها مدرسة الآن خاصة وأفكار معينة ومن كان منها فهو سلفي ومن كان لا فهو ردي والله لست منها ولا أقرها وأنا قلت ليسمع هذا الشيخ وغيره الذي يقول مصلحجية في محاضرة علنية في أبها تكلمت فيها على هذا الأمر وقلت كما يفعل تجار السلفية وإذا أردت أن تتحقق جاء مشايخ من كلية الشريعة الكبار وقال يا شيخ والله الذي لا إله إلا هو ما تقوله حق ونفديك بأرواحنا لكن أهل الباطل يتعلقون بهذا الكلام ويعملون ضجيجاً فلا أريد أن تعيد هذه العبارة مرة ثانية. وإن كان يوجد من يتاجر بهذه الشعارات وما أكثرهم. وكما قلت مراراً لا نقر تخريف الصوفية ولا نقر شذوذ من يدعون أنهم سلفية. ودين الله بين الغالي والجافي. متى ادعيت في يوم من الأيام أنني سلفي؟ متى؟ لكن هل خرجت عن مسلكي الذي أنا عليه؟ هل خرجت؟ وقد قال بعض الإخوة عندما قيل له: يقول عن ابن تيمية وابن القيم ما يقول. قال: سبحان الله!(79/41)
والله ما أحد حببني في هذين الشيخين إلا عبد الرحيم وأقول لما درست لما درَّستُ مادة توحيد رب البريات لأخواتي الطالبات في أبها ثلاث سنوات حصل من الخير ما لا يعلمه إلا رب الأرض والسموات ولما فصلت عن تدريسهن ممن يحسبون أنهم يحسنون صنعاً كتبن رسائل متعددات لكثير من الشيوخ الكرام ووقعن عليها جميعاً بلا استثناء هذا عدا عن الرسائل المتعددة الفردية يقلن فيها إنهن ما ذقن حلاوة الإيمان ولا عرفن قيمة هذه المادة إلا بعد تدريسي لهن ولله الحمد والفضل والمنة لا إله غيره ولا رب سواه.
وكما دَرَّسْتَ أخواتي الطالبات فقد درّست إخوتي الطلاب مادة توحيد الكريم الوهاب بالإضافة إلى غيرها من المواد وكان أثر مادة التوحيد يفوق غيرها في نفسي وفيهم ولله الحمد الذي بنعمته تتم الصالحات. نعم كنت أقرر عقيدة أهل الحق وأحاول ربط القلب بالرب جل وعلا وأعرض عن سفاهة من جعلوا هذه المادة المباركة معبراً لتضليل المسلمين وشن حملات منكرة على مذاهب أئمتنا المهتدين جزاهم الله عنا الخير العميم في هذه الدنيا ويوم الدين فهذا يقول هذه الأبيات يقول: أنت بدأت لتخريفك تعود لأول منزل. ما الحب إلا للحبيب الأول رجعت للتخريف الذي كنت عليه وأنا أقول لك سنجتمع عند من تبلي عنده السرائر.
وإذا كان شيخك في أول الأمر يقول: هو يتمنى أن أكون مخلصاً وإن كنت مخطئاً فأنت تقول ما سبب تغير عبد الرحيم عندما جاء إلى بلاد التخريف السبب أنه رجع إلى خرافاته التي كان عليها. أنا اقول لك أيها الإنسان أنت تسأل وتجيب وسنجتمع عند السميع المجيب.(79/42)
لكنني أريد أن أقول لك الله هو الذي يعلم السر وأخفى يعلم الله الذي لا تخفى عليه خافية وما كان في وجهي شعرة وأنا في ثانية متوسط إعدادي وما أعلم أني كنت في ذاك الوقت كنت محتلماً أم لا كنت أقرأ في كتب الشيخين المباركين بتوجيه من ربي لا بتوجيه من أحد ولا بجهد من نفسي وأذكر أنني كنت في بعض الأماكن ومعي كتاب الحسبة وأنا في هذا السن فرآني بعض الناس فقال ما معك قلت كتاب الحسبة للإمام ابن تيمية كتاب مختصر صغير قال أعوذ بالله أنت تقرأ كتب ابن تيمية في هذا السن؟ قلت: يا رجل ما في هذه الكتب إلا نور وهدى. قال: أعوذ بالله. الحجرة التي فيها كتاب لابن تيمية أنا لا أدخلها.
وأحب أن ألفت نظرك أيضاً إلى هذا الأمر فلا يغيبن عن بالك. إعلم يا عبد الله إذا كنت متقوقعاً وحصرت نفسك في مفاهيم معينة فو الله الذي لا إله إلا هو لقد تلقيت العلم عن مشايخ كرام سادة أعلام في حلب الشام. لو قدر الله أن تراهم لتقربت إلى الله جلا وعلا بخدمتهم ولحملت أحذيتهم فاعرف قدرك ولا تعرض بأولياء الله جل وعلا لئلا يكون الله خصمك ألهمك الله رشدك ووقاك شر نفسك.
أيها العبد المستور. كان يقال العداوة تزيل العدالة فصارت العداوة تزيل الديانة فهل اطلعك الله على غيبه حتى صرت تستدل بهذين البيتين على ما خفى عنك. نعم إن الشعراء يقولون ما لا يفعلون وكما نعتهم بذلك الحي القيوم وهم بلا شك أخف ممن يقولون ما لا يعلمون. ألهمنا الله رشدنا في جميع أحوالنا. وأنا في جميع. وأنا في جميع ما ذكرت كنت أقرر أموراً علمية ودفاعاً عن أئمة الإسلام.(79/43)
ليتكم ذكرتم بعد ذلك قضايا العلم وقلتم إنني خرفت فيها وضللت إنما جئتم بعد ذلك بهذه التحليلات الفارغات والله الموعد سبحانه وتعالى. إخوتي الكرام: يقول في هذا الشريط كنت سلفياً وتتظاهر فيها ثم بعد ذلك واحد آخر يقول يا شيخ – هذا خلال الكلام واللفظ هذا ممن يوجهون المجلس – يقول له يا شيخ أنا من خمس سنين له شهرة وكانوا يعرضون أشرطته ويبيعونها ولكن ما وقع في قلبي. يقول له الشيخ الكبير: الحمد لله لأنه كان مخرفاً.(79/44)
ثم يقول واحد آخر يقول: يا شيخ: نحن تذكر جاءنا منذ ثلاث سنين أو خمسة كتاب في بدع هذا الإنسان عندما كان في تلك البلاد. قال ما أذكر قال لا. جاءنا كتاب في بدعه وأنه ضال يضل الأمة. لكن نسيت اسم المرسل ثم بعد ذلك يشتط في الكلام ويقول مسلكك في الوعظ مسلك القصاص. ثم بعد ذلك يأتي ويثني ويقول عجبت بقوة عارضتك وحسن عرضك وجمع مادتك بما يبهر العقل أريد أن أقول لكم: نحو هذه الأوصاف أنتم مجانين أو عقلاء. أما قال الله جل وعلا: (قُتِلَ الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسألون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون) خرَّاصون.. (إنكم لفي قول مختلف يُؤفَكُ عنه من أُفِكْ قتل الخراصون) قول مختلف ! كيف أعجبك قوة عارضتي وحسن عرفي وجمع مادة علمية غزيرة أعجبت بها شيئاً كثيراً ثم تقول مسلكي مسلك القصاص الذين يريدون أن يخدعوا العامة. كيف ستؤلف بين هذين المتناقضين ثم كان سلفياً وكان يتظاهر وعندكم كتب عنه بأنه مبتدع ضال من سنوات كيف توفقون بين هذه الأمور ألا تتقون الله في أحكامكم على عباد الله وكما قلت هل أطلعكم الله على غيبه أو على ما في قلوب عباده وأنا والله لا أحجر عليكم إذا قلتم أنني أخطأت بل لو زدتم وقلتم أنك ضللت في هذه المسألة وقولوا ما عندكم من أدلة وأنا إخوتي الكرام أريد أن أقول لكم لتعلموا وليعلم المسلمين في كل مكان إذا قلت قولاً من إجتهادي ونسبته إلى نفسي فأجعل في أعناقكم أمانة أحاسبكم عليها أمام الله أن تقوموا وتأخذوا الأحذية وتضربوني على رأسي حتى ألقي على الأرض. إن ذكرت حديثاً وصححته من نفسي، أو إذا ذكرت مسألة علمية من نفسي. أما في مسائل العلم فلا أخرج عما هو في المذاهب الأربعة المتبعة وأما في الحديث فلا أتكلم إلا ما يقوله أئمتنا وأحدد الأجزاء والصفحات.(79/45)
لكن بعد ذلك ينسب الهوس إليّ لم؟ أنت عندما جئت تناقش في موضوع قراءة القرآن على القبور أنا نقلت كلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية وإذا كنت تناقش وسنناقش المسألة مع أنه تقدم الكلام عليها علام تنسب إليّ التخريف؟ هلا نسبته إلى الإمام ابن تيمية الذي لا شك في سلفيته عندي وعندكم؟ هلا نسبت التخريف إليه؟ وأنت نقلت القول عنه. وأن هذا قول معتبر وفعله الإمام ابن عمر وكان يفعله الأنصار وجئت بعد ذلك ترد على أيها الإنسان لم؟! وأنا حقيقة بعض الشباب الطائش في هذه البلدة في وصفي والله أنطقه بالحكمة ولكنه طائش من هذا الشباب الذي قلت لكم يريد أن يؤلف كتبا في الرد على العلماء ولا يتقن قراءة جزء عم قال: لا يغرنكم أمر هذا الإنسان هو جَمَّاعٌ فقط ليس بعالم ولافقيه ووالله إنك صدقت وكثيرا ما تجري الحكمة على ألسنة السفهاء والمجانين. ما عندي شك في هذا.(79/46)
جَمَّاعٌ نعم اجمع من هنا وهناك وأعرض ما أجمعه في دروسي من أجل أن ينتفع الناس به. نعم لست بمتخرص ولست بمجتهد ولست بمتأول ولا مستنبط ووالله الذي لا إله إلا هو وهو على ما أقول شهيد ويعلم مافي القلوب لولا أن الحاجة تدعو إلى التدريس لما دَرَّسْتُ وما عندي شك أن زماننا يتحدث فيه مثلي زمان سوء ما عندي شك فيه. لكن ما أعمل وإلى الله جل وعلا أشكو ضعفي وضعف الأمة في هذه الأيام فيا أيها الإنسان أريد أن ترفق بنفسك فإن قيل وهل يجوز أن ترمي الشيخ محمد بن حامد الفقي بأنه يُلَوِّث أقول نعم كما قلت في عبارات الشيخ الألباني من قال هذا الكلام يحجر عليه أقول أيضاً هنا هذا ليس بتعليق هذا تلويث ممن صدر لأنه شتان شتان بين أن يقول الإنسان رأياً وأن يعلله وأن يأتي عليه بدليل وأن يأتي بشذوذ ما بين الحين والحين هنا وهناك شتان شتان. فالشيخ حامد فقي وقد توفي نسأل الله لنا وله الرحمة. وكما قلت نقول ما نقول تحذيراً من الأقوال الباطلة ونسأل الله للمسلمين أجمعين المغفرة والرحمة. حقيقة لما علق على كتب الإمام ابن القيم لما علق عليها وعلى غيرها من كتب أئمتنا لوثها فاستمع إلى بعض تعليقاته:(79/47)
في صفحة (55) في مدارج السالكين في الجزء الأول استمع ماذا يقول: يأتي الإمام ابن القيم للإستشفاء بالقرآن فيقول: وأما تضَمُّنُها – يعني سورة الفاتحة – لشفاء الأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة. فأما ما دلت عليه السنة في الصحيح من حديث أبي المتوكل من رواية أبي سعيد الخدري أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلما لم يقروهم – يعني لم يضيفوهم – فلدغ سيد الحي إلى آخر الحديث. يقول ابن القيم فقد تضمن حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغْنته عن الدواء وربما بلغت من شفاءه ما لم يبلغه الدواء. هذا حق أو باطل؟! الرقية بالقرآن حق أو باطل؟ استمعوا ماذا يقول المعلق – الشيخ حامد فقي يقول: (لم نجد في الروايات الصحيحة أن أحداً من الصحابة لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده فعل ذلك مرة ثانية ولعله والله أعلم كان هذا الحادث بصنع الله لأولئك الصحابة الذين كانوا في حاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعهم أهل الحي حقهم من الضيافة مع جوعهم وشدة حاجتهم فسلط الله الحشرة على رئيسهم فلدغته ليستخرج لهم بتلك اللدغة والرقية حقهم.
أما هذا لا يجوز وما فعله أحد بعد ذلك. هذا تلويث أو تحقيق. ويقول في تعليقه على فتح المجيد عند مبحث الرقية بآيات الله والأدعية الشرعية في صفحة 28. وبعد أن أورد صاحب كتاب فتح المجيد الخلاف بين السلف في تعليق الرقية إذا كانت من التمائم لكن من آيات القرآن. أورد قولين للسلف يقول هذا المعلق: فعل ذلك إستهزاء بآيات الله ومناقضة لما جاءت به ومحادة لله ولرسوله والله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وإنه لتذكرة للمتقين وإنه لحسرة على الكافرين.(79/48)
ولم ينزل ليتخذ حجباً وتمائم ولا ليتلاعب به المتأكلون الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويقرأونه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن وجرأ الرؤساء على ترك الحكم به
إخوتي الكرام: ما دخل هذا بهذا؟ أن من فعل هذا واسترقى بآيات القرآن. هذا أشد أنواع الإستهزاء بآيات الله جل وعلا؟! هذا تلويث.(79/49)
أنظر إلى تلويث آخر في صفحة (57) لما ذكر تأثير إصابة العين علق عليها الإمام ابن القيم يقول منكر هذا – أي الإصابة بالعين – ليس معدوداً من بني آدم إلا بالصورة والشكل. يقول المعلق: هذا باعتقاد الشيخ رحمة الله وغفر لنا وله ولو كان الأمر كما ذكر لاستطاع كل يهودي ونصراني ومشرك بل وكل عدو أن يؤذي عدد بإرسال تلك السموم التي صورها الشيخ من أشعة عينية فتقتله كمل يقتله لسع الحية ولدغ الثعبان والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين ولما كان مع الشيخ أحمد شاكر – أي الشيخ حامد فقي – يحققان تهذيب السنن للإمام المنذري وعلق عليه ابن القيم واختصما وكل واحد كان يكتب اسمه على التعليقة التي يعلقها وجرى بينهما مباحثة حول دخول الجن في بدن المصروع محمد حامد فقي قال: مستحيل هذا خرافة لايمكن للجني أن يدخل بدن الإنسي وأن يصرعه فقال له الشيخ أحمد شاكر هذا موجود في الأحاديث الصحيحة قال: لايمكن. فذهب وبحث وأحضر له نص الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي على أنه يمكن والإمام ابن تيمية كان يعالج بعض هذه الحالات قال له الإمام ابن تيمية هذا (بتوعنا مش بتوعكم) لا يجوز أن تستدل أنت بكلامه هذا من جماعة السلفية فقط هذا نحن نستدل به هذا ليس من جماعتكم. أعوذ بالله. وهنا كذلك لا يأتي كلمة والله لوث الكتاب من أوله إلى آخره أنظر ماذا يقول في تعليقه على كلام الإمام ابن القيم في صفحة (58) يذكر الإمام ابن القيم أنه عندما كان في مكة المكرمة كان يستشفي بالفاتحة وبماء زمزم ثم يقول بعد ذلك كنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين يعلق يقول: هل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – أو عن خلفاؤه الراشدين فعل شيء من ذلك.(79/50)
تقرأ الفاتحة على ماء زمزم وتشرب في صفحة (118) يقول الإمام ابن القيم: والمستحب النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلماً والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين والوالدين والنظر في آيات الله المشهورة ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته.
يقول المعلق: انظر. النظر والتأمل في آيات الله الكونية أوجب الواجبات إلى أن يقول بعد ذلك: أما النظر إلى المصحف ووجوه العلماء فلا أدري من أين جاء استحبابه. لم النظر إلى المصحف مستحب والنظر إلى العلماء مستحب اللهم إلا إن كان على أنه من سنن الله وآياته فيكون للإعتبار. يعني كما أنك تنظر للقرد تنظر إلى العَالِم لتعتبر هذا مخلوق وهذا مخلوق أما أن هذا نظر مستحب تنظر لترى النور والبهجة في وجهه يقول لا. ما الدليل على استحبابه؟
إهداء القرءان إلى الموتى صفحة (142) يقول الإمام ابن القيم: ما ينفع الميت: ما يهدي إخوانه المسلمون إليه من هدايا الأعمال من الصدقة عنه والحج والصيام وقراءة القرآن الصلاة وجعل ثواب ذلك له وقد أجمع الناس على وصول الصدقة والدعاء. يعلق يقول: (ليس في قراءة القرآن للموتى إلا دعاوي ومنا مات المقلدين الذين يلقون القول على عواهنه بدون تحقيق ولا تمحيص، والقرآن إنما أنزله الله ليتدبره أولو الألباب) .
ومثل هذا كثير وكثير هذا في هذا الجزء وأما بعد ذلك في الجزء الثاني نماذج ففي صفحة (485) أنظر كيف تجرأ بهذه العبارات يقول هنا الإمام ابن القيم (إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون عن طريق الفراسة الصادقة وإلهام الله لهم يقول المعلق (ليس هذا فراسة ولكنه علم بما في الصدور وهذا شرك في الربوبية وهي دعوى كثير من شيوخ الصوفية. وهل أشرك الإمام ابن القيم عندما أورد هذا.(79/51)
يقول هنا بعد ذلك – أي الإمام ابن القيم – على فراسات الصحابة عندما دخل بعض الناس على عثمان وقال (تدخلون علي وفي أعينكم أثر الزنا) .
يقول المعلق: (هذه روايات غير مستندة إلى ما يطمئن قلب المؤمن إليه وبالأخص بالنسبة إلى أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن هذه ليست فراسة وإنما هي معرفة غيب وأنى لعثمان أن يجزم بالزنا هذا الجزم إلا أن يكون وحيا أو دعوى علم غيب وكلها منتفى) صفحة (89) حتى الإمام ابن تيمية ما سلم منه يقول الإمام ابن تيمية حاكيا عن شيخه:
(ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله أمورا عجيبة وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم ووقائع فراسته تستدعي سفراً ضخما) وسأذكر كثيراً منها إن شاء الله عند مبحث خوارق العادات.
يقول ابن القيم أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة 699 هـ وأن جيوش المسلمين تكسر وأن دمشق لا يكون بها قتل عام ولا سبي عام وأن ... الجيش وحدته في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة ثم أخبر الناس والأمراء سنة 702 هـ لما تحرك التتار وقصفوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم وأن الظفر والنصر للمسلمين وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا فيقال قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وسمعته يقول ذلك فلما أكثر عليه قلت لا تكثروا كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم منهزمون في هذه الكرة وأن النصر لجيوش الإسلام هذا كلام من؟ ابن تيمية يحكيه تلميذه ابن القيم فإذا اطلع الله على ذلك عبدا من عباده ما الحرج؟ سيأتينا هذا خارق للعادة كرامة والله يكرم من شاء بما شاء يقول المعلق: (هل أطلع على اللوح المحفوظ ابن تيمية إطلع كيف هذا لعله كان يقصد بتلك الجرأة في القول تشجيعهم وتقوية روحهم المعنوية فإن هذا من أقوى أسباب النصر على الأعداء) .
كيف يقسم ابن تيمية تلك الأيمان والأمر كما يقول حامد فقي – المعلق -(79/52)
يقول بعد ذلك الإمام ابن القيم في آخر مبحث كرامات شيخه الإمام ابن تيمية يقول: (وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل ولم يعين أوقاتها وقد رأيت بعضها وأنا انتظر بقيتها وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدت والله أعلم) .
هذا ينقله عن شيخه وكل هذا يعلق عليه الشيخ حامد فقي بأنه لا قيمة له واستمع إلى ما ختم به تعليقه على ما تقدم.
قال: (مفاتيح الغيب عند الله جل وعلا لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى وغفر الله لنا ولإبن القيم فأين هذا من الفراسة إنما هلك من هلك بالغلو في شيوخهم عفا الله عنا وعنهم. وهذه الأقوال التي يذكرها الشيخ حامد فقي سيأتي معنا إن شاء الله مناقشتها والرد عليها بإذن الله جل وعلا.
بالنسبة لقراءة آيات السكينة (ثم أنزل الله سكينتة على رسوله وعلى المؤمنين ... الأية)
(لا تحزن إن الله معنا ... الأية) للإمام ابن القيم بحث طويل يقول: (سمعت شيخ الإسلام يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها من محاربة أرواح شياطينية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة قال فلما اشتد علي الامر قلت لأقاربي ومن حولي إقرأوا آيات السكينة قال: ثم أقلع عني ذلك الحال وجلست وما بي قلبا يقول ابن القيم وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه فرأيت لها تأثيراً عظيما في سكوني وطمأنينتي.. إلى آخر بحثه) .
يقول المعلق: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهل كان من هديه ومن هدى الخلفاء الراشدين..)
خذ من هذا الكلام ومن هذه التعليقات الباطلة ما لا مثيل له. الجزء الثالث – ما سلم جزء من أجزاءه من تعليقات ملوثة ص 228 تعليق يعجب الإنسان منه يقول ابن القيم (والكشف الرحماني من هذا النوع.(79/53)
ومن الكرامة التي يكرم الله بها عبداً من عباده فيعلمه شيئا مغيبا مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة إن امرأته حامل بأنثى وكشف لعمر رضي الله عنه لما قال يا سارية الجبل وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن.
يقول المعلق: (كان سارية مع قواد جيش عمر في بلاد الشام في بلاد العجم فأخذت عمر وهو على المنبر سنه من النوم كوشف فيها بمجيء مكيدة دبرت لسارية وجيشه فناداه وهو نائم – نائم على أي شيء؟ على المنبر يخطب الجمعة – ناداه وهو نائم كذلك بأن يلجأ للجبل ويجعله وراء ظهره ويلزمه وروى أن سمع ذلك النداء وأطاع الأمر فسلم وسلم جيشه) .(79/54)
أنا أعجب من عقلك إذا رضي أن تقول قال في نومه كيف بلغ سارية القول هي هي بقيت يعني لِمَ أوَّلت الأولى والثانية ما وجدت لها مخرجاً هذا هو التلويث الذي يفعله في هذه الكتب وهذا التلويث كما قلت اتصف به هذا الإنسان ولا بد من التحذير من تلويثه الذي لوث به كتب شيخ الإسلام وتلميذه وكتب أئمة الإسلام فلنحذر هذا وقصة عمر بن الخطاب في مناداته سارية رضي الله عنه وهو يخطب على المنبر ثابتة صحيحة قال الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة ص 474 قال شيخنا يعني الحافظ ابن حجر عليهم جميعا رحمة الله اسنادها حسن وقد رواها الإمام البيهقي في دلائل النبوة كما رواها الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة الكرام وقد رواها الإمام ابن الأعراب أيضا في كتاب كرامات الأولياء وجمع طرقها الإمام القطب الحلبي في جزء مفرد وقد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوي الجزء 11/278 ومثل تلويثه أيضا تلويث زهير الشاويش في تعليق على الأعلام العلية في مناقب الإمام ابن تيمية أنظر مثلا في ص 43 يقول صاحب الكتاب تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الحافظ عمر بن على البزار توفي سنة 749 هو تلميذ الإمام ابن تيمية يعني يروي أشياء جرت له مع شيخه يقول سبحان الله ما أقصر ما كانت يعني مدة صحبتي له – يا ليتها كانت طالت والله ما مر علي إلى الآن زمان كان أحب إليّ من ذلك الحين ولا رأيتني في وقت أحسن حالا مني حينئذٍ وما كان إلا ببركة الشيخ رضي الله عنه.(79/55)
البركة الآن تخريف ابن تيمية وتلاميذه مخرفون استمع للتعليق يقول (أي بتوفيق الله بالاقتداء بأحد العلماء الصالحين وأخذ العلم عنه) وفي ص 58 الفصل التاسع في ذكر بعض كراماته وفراسته بعد أن أورد نماذج كثيرة من فراسة الشيخ وكلامه يقول (الشيخ لم يكاشف بأمر مغيب ثم يُأوِّلُ بعد ذلك حقيقة إخوتي الكرام سأذكر لكم قصة فقط من هذه المكاشفات التي كان يرويها هذا الشيخ الكريم عليه رحمة الله. منها مثلا يقول حدثني الشيخ الصالح المقرئ أحمد أنه سافر إلى دمشق قال: (فاتفق أنه لما قدمت ولم يكن معي شيء من النفقة البتة وأنا لا أعرف أحداً من أهلها فجعلت أمشي في زقاق منها كالحائر فإذا بشيخ قد أقبل نحوي مسرعاً فسلم إليّ وهش في وجهي ووضع في يدي صرة فيها دراهم صالحة وقال لي أنفق هذه الآن وخلِّ خاطرك مما أنت فيه. فإن الله لا يضيعك ثم رُدَّ على أثري- يعني رجع من حيث جاء – كأنه ما جاء إلا من أجلي فدعوت له وفرحت بذلك هذه من ينقلها؟ الإمام الحافظ البزار تلميذ الإمام ابن تيمية وقلت لبعض من رأيته من الناس: من هذا الشيخ قالوا كأنك لا تعرفه؟ وكيف يعرفه وهذا أول دخوله إلى دمشق وجاء للقاء الشيخ قالوا هذا ابن تيمية له مده طويلة لم نره اجتاز بهذا الدرب – هذا الدرب الذي أنت تسلكه ما يسلكه الإمام ابن تيمية – وكان جُلَّ قصدي من سفري إلى دمشق للقائه فتحققت أن الله أظهره علي وعلى حالي فما احتجت بعدها إلى أحدٍ مدة واستدللت فيما بعد عليه وقصدت زيارته والسلام عليه فكان يُكرِمني عن حالي فأحمد الله تعالى إليه. ماذا نقول عن هذا يعني الشيخ ابن تيمية الآن بدأ يخرف؟ لا إله إلا الله ... ومثل هذا كثير.(79/56)
إخوتي الكرام يقول أحمد بن سعيد سافرت إلى مصر حين كان الشيخ مقيما فيها فاتفق أني قدمتها ليلا وأنا مثقل مريض فأنزلت في بعض الأمكنة فلم ألبث أن سمعت من ينادي بإسمي وكنيتي فأجبته وأنا ضعيف فدخل إلى جماعة من أصحاب الشيخ محمد ممن كنت اجتمعت ببعضهم في دمشق فقلت كيف عرفتم بقدومي وأنا قدمت هذه الساعة فذكروا أن الشيخ أخبرنا بأنك قدمت وأنك مريض وأمرنا أن نسرع بنقلك وما رأينا أحدا جاء ولا أخبرنا بشيء هذه الكرامات كلها يعلق عليها ويقول: (كيف يقع هذا ومثل هذا ومثل هذا غيب ولا يطلع عليه إلا الرب) وماذا نعمل الآن؟ يعني نكذب الإمام البزار؟ أو نقول إن الشياطين كانوا يأتون للإمام ابن تيمية فأنا أقول إلى من يدعون الإنتساب إلى السلف أقول: أجِلُّوا علماءكم الذين تنتسبون إليهم واتقوا الله جل وعلا فيهم وإذا رأيتمونا نخرج عن أقوالهم وعن أقوال أئمة الإسلام فلكم بعد ذلك علينا كلام والله ما أحد خرج عن أقوالهم إلا أنتم قبل غيركم وأحضرتم بعد ذلك من التأويلات مالا يخطر ببال إنسان ولذلك اتقوا الله جل وعلا ربكم. واختم الكلام إخوتي الكرام بهذا التنبيه هذا الشيخ كما قلت يقول. إنك من القُصَّاصِ ثم في مستهل حديثه يقول: (كأنك تشبه حال القُصَّاص بحيث من سمع كلامك ينعقد لسانه ولا يتكلم من غرابة ما تأتي به من الكلام كما حصل للإمام أحمد بن حنبل ويحي بن معين عندما قام القاص وافترى عليهم بحضورهما فما استطاعا أن يجيباه) .(79/57)
وخلاصة القصة ولا صحة لها – وأريد أن انبه هذا إلى ألا ينسب إلى الإمامين المباركين الجليلين – أحمد بن حنبل ويحيى بن معين رحمهما الله ورضي عنهما – لا ينسب إليهما ما علم لهما به – خلاصتها كما سأبين وهي موضوعة مكذوبة يقولون كان الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فجاء قاص وقال حدثني أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ثم ساق حديثا إلى نبينا الأمين صلى الله عليه وسلم من طريق الشيخين أن من قال لا إله إلا الله خلق الله من هذه الكلمة طائراً له ريشة من ذهب وريشة من فضة وريشة من زبرجد وبدأ يذكر حديثا في قرابة خمس عشرة صفحة له والإمام أحمد نظر إلى يحيى ابن معين قال أنت حدّثته قال لا فيحيى بن معين قال لأحمد أنت حدثته قال لا فبعد أن انتهى هذا القاص من حديثه جلس على الباب وفرش خرقة من أجل أن يعطيه الناس القطيعات الدراهم فبعد أن انصرف الناس جئنا إليه فمد يديه كأنه ظن أننا سنعطيه – يحيى بن معين وأحمد بن حنبل فقلنا من حدثك بهذا الحديث قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قلنا أيها الشيخ هذا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فكيف تروي عنا ونحن ما حدثناك قال سبحان الله ما يوجد على الأرض أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلا أنتما؟ أنا كتبت عن بضعة عشر رجلا كل واحد يسمى أحمد بن حنبل ويحيى ين معين.
هذه القصة. إخوتي الكرام يعلم الله قرأتها من فترة طويلة طويلة ولعلني في المرحلة الثانوية في تفسير سيد قطب في أوله وقلبي ما ارتاح لها ثم بعد فترة تبين في أنها مكذوبة فهذا الإنسان يرويها ويقول أنا حالي ما الناس كحال ذلك القاص اعقد ألسنتهم وأبهرهم بكلامي فلا يتكلمون وأنا أقول لهذا الإنسان لا ينسب إلى الإمامين المباركين أحمد بن حنبل ويحيى بن معين مالا علم لهما به وتنبه غاية التنبه عندما تنسب الأقوال إلى علماء الإسلام فإذا يحتاط غاية الاحتياط من ينسب الأقوال إلى السلاطين فكيف بمن ينسب الأقوال إلى أئمة المسلمين.(79/58)
ولا يمكن أن يجري ذلك من الإمام أحمد ويحيى بن معين وأن يُترك ذلك الكذاب الوضَّاع ولا يكشف عنه من هو يقول الإمام الذهبي في الميزان (1/47) وفي اللسان (1/79) لسان الميزان لإبن حجر – والكلام ينقله الإمام ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة (1/14) .
يقول الذهبي: في إسنادها إبراهيم بن عبد الواحد البلدي وقيل البكري لا أدري من هذا أتى بحكاية أخاف أن تكون من وضعه وفي بعض النسخ أخاف ألا تكون من وضعه يعني من وضع غيره لكن هي موضوعة.
فأنت تستدل بموضوع ثم تقول عمل القصاص؟ من عمل القُصَّاص؟ ثم أعجب منك تقول عمل القصاص ثم تعيب فتقول أنت أيضاً تعزو إلى الكتب ومن هنا ومن هنا وما فائدة العامة من ذلك. هل رأيتم قاصا على وجه الأرض عندما يروي حديثا يخرجه ويعزوه إلى كتاب ويحدد مكانه؟؟ وبالإضافة إلى تلك الكتب من أجل أيضا أن ترجع إليها وأن تعلم الحكم لئلا تلقي مرة ثانية كلاما دون التحقق منه.(79/59)
فالكلام لا صحة له كما قلت إنما أزيدك أنظر أيضا ذلك الأثر بالسند الذي فيه ذلك – إبراهيم بن عبد الواحد – الذي يقول عنه الذهبي لا أدري من هو ذا أتى بحكاية منكرة أخاف أن تكون من وضعه انظر ذلك في الموضوعات للإمام ابن الجوزي (1/46) وأنظرها أيضا في كتاب القصاص والمذكرين للإمام ابن الجوزي أيضا ص (305) ، وأنظرها أيضا في اللآلئ المصنوعة في الأخبار الموضوعة (2/346) ، وأنظرها في كتاب الإمام السيوطي تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ص (195) وأنظرها في كتاب المجروحين لابن حبان (1/85) وأنظرها في كتاب الباعث الحثيث في تعليق الشيخ أحمد شاكر على علوم الحديث للإمام ابن كثير ص (85) وأنظرها في الأسرار المرفوعة للإمام على القاري ص (37) وأنظرها في أول كتاب قرأت هذه القصة فيه ولم يبين أنها منكرة تفسير القرطبي (1/79) كما قلت فالقصة منكرة وأنت تستدل بها وترويها عن أئمتنا البررة وينبغي أن تتنزه عن ذلك الفعل فهذا لا يليق بعباد الله الذين يحققون ما يقولون ويتقون الحي القيوم وبالختام أيها الاخوة الكرام أسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يجمع أمة نبينا صلى الله عليه وسلم على الهدى وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
والحمد لله رب العالمين..(79/60)
حديث الجفاء
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
حديث الجفاء
769 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ نُبَيْهِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ أَرَادَ ابْنُ مَعْمَرٍ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ فَبَعَثَنِي إِلَى أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ بِمَكَّةَ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ أَخَاكَ يُرِيدُ أَنْ يُنْكِحَ ابْنَهُ فَأَحَبَّ أَنْ يُشْهِدَكَ ذَلِكَ قَالَ لَا أُرَاهُ إِلَّا أَعْرَابِيًّا جَافِيًا إِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ أَوْ كَمَا قَالَ ثُمَّ حَدَّثَ عَنْ عُثْمَانَ مِثْلَهُ يَرْفَعُهُ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَمَيْمُونَةَ قَالَ أَبمو عِيسَى حَدِيثُ عُثْمَانَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَقُ لَا يَرَوْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ قَالُوا فَإِنْ نَكَحَ فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ *
2182 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ وَمَنْ أَتَى أَبْوَابَ السُّلْطَانِ افْتَتَنَ قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ *(80/1)
6596 حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ الْقَاضِي أَبُو سَهْلٍ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ رَافِعٍ عَنِ الْفَرَزْدَقِ بْنِ حَنَانٍ الْقَاصِّ قَالَ أَلَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ خَرَجْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ حَيْدَةَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ فَمَرَرْنَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكُمَا أَعْرَابِيٌّ جَافٍ جَرِيءٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ الْهِجْرَةُ إِلَيْكَ حَيْثُمَا كُنْتَ أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْهِجْرَةِ قَالَ هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضْرَمَةِ قَالَ يَعْنِي أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ قَالَ ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ ثِيَابَ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَتُنْسَجُ نَسْجًا أَمْ تُشَقَّقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ قَالَ فَكَأَنَّ الْقَوْمَ تَعَجَّبُوا مِنْ مَسْأَلَةِ الْأَعْرَابِيِّ فَقَالَ مَا تَعْجَبُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا قَالَ فَسَكَتَ هُنَيَّةً ثُمَّ قَالَ أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ قَالَ أَنَا قَالَ لَا بَلْ تُشَقَّقُ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ *(80/2)
7192 حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عَقِيلُ بْنُ مَعْقِلٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَرَأَيْتُ حَلْقَةً عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُ فَقِيلَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ فَسَأَلْتُ فَقَالَ لِي مِمَّنْ أَنْتَ قُلْتُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ سَمِعْتُ حِبِّي أَوْ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا وَالْجَفَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ أَصْحَابِ الْوَبَرِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ *
7577 حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكْرَةً فَعَوَّضَهُ سِتَّ بَكَرَاتٍ فَتَسَخَّطَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ فُلَانًا أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً وَهِيَ نَاقَتِي أَعْرِفُهَا كَمَا أَعْرِفُ بَعْضَ أَهْلِي ذَهَبَتْ مِنِّي يَوْمَ زَغَابَاتٍ فَعَوَّضْتُهُ سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ سَاخِطًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ *(80/3)
19717 حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا يُونُسُ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ الْهُجَيْمِيُّ عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ الْهُجَيْمِيِّ عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْتَبٍ بِشَمْلَةٍ لَهُ وَقَدْ وَقَعَ هُدْبُهَا عَلَى قَدَمَيْهِ فَقُلْتُ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ أَوْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَفْسِهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَفِيَّ جَفَاؤُهُمْ فَأَوْصِنِي فَقَالَ لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ فَلَا تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَكَ أَجْرُهُ وَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّ إِسْبَالَ الْإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ وَلَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ أَحَدًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا *
20391 حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذْ قَامَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ فِيهِ جَفَاءٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَنَا الضَّبُعُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ أَخْوَفُ لِي عَلَيْكُمْ حِينَ تُصَبُّ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا صَبًّا فَيَا لَيْتَ أُمَّتِي لَا يَتَحَلَّوْنَ الذَّهَبَ *(80/4)
21428 حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ جَاءَ رِعْيَةُ السُّحَيْمِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أُغِيرَ عَلَى وَلَدِي وَمَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الْمَالُ فَقَدِ اقْتُسِمَ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَاذْهَبْ مَعَهُ يَا بِلَالُ فَإِنْ عَرَفَ وَلَدَهُ فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ قَالَ فَذَهَبَ مَعَهُ فَأَرَاهُ إِيَّاهُ فَقَالَ تَعْرِفُهُ قَالَ نَعَمْ فَدَفَعَهُ فَذَهَبَ إِلَيْهِ قَالَ سُفْيَانُ يَرَوْنَ أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُغَارَ عَلَيْهِ *(80/5)
21429 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ رِعْيَةَ السُّحَيْمِيِّ قَالَ كَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدِيمٍ أَحْمَرَ فَأَخَذَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَعَ بِهِ دَلْوَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً فَلَمْ يَدَعُوا لَهُ رَائِحَةً وَلَا سَارِحَةً وَلَا أَهْلًا وَلَا مَالًا إِلَّا أَخَذُوهُ وَانْفَلَتَ عُرْيَانًا عَلَى فَرَسٍ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى ابْنَتِهِ وَهِيَ مُتَزَوِّجَةٌ فِي بَنِي هِلَالٍ وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ أَهْلُهَا وَكَانَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ بِفِنَاءِ بَيْتِهَا فَدَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْبَيْتِ قَالَ فَلَمَّا رَأَتْهُ أَلْقَتْ عَلَيْهِ ثَوْبًا قَالَتْ مَا لَكَ قَالَ كُلُّ الشَّرِّ نَزَلَ بِأَبِيكِ مَا تُرِكَ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا سَارِحَةٌ وَلَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ قَالَتْ دُعِيتَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ أَيْنَ بَعْلُكِ قَالَتْ فِي الْإِبِلِ قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ مَا لَكَ قَالَ كُلُّ الشَّرِّ قَدْ نَزَلَ بِهِ مَا تُرِكَتْ لَهُ رَائِحَةٌ وَلَا سَارِحَةٌ وَلَا أَهْلٌ وَلَا مَالٌ إِلَّا وَقَدْ أُخِذَ وَأَنَا أُرِيدُ مُحَمَّدًا أُبَادِرُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسِّمَ أَهْلِي وَمَالِي قَالَ فَخُذْ رَاحِلَتِي بِرَحْلِهَا قَالَ لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا قَالَ فَأَخَذَ قَعُودَ الرَّاعِي وَزَوَّدَهُ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ قَالَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ إِذَا غَطَّى بِهِ وَجْهَهُ خَرَجَتِ اسْتُهُ وَإِذَا غَطَّى اسْتَهُ خَرَجَ وَجْهُهُ وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يُعْرَفَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَدِينَةِ فَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ(80/6)
ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ بِحِذَائِهِ حَيْثُ يُصَلِّي فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْسُطْ يَدَيْكَ فَلْأُبَايِعْكَ فَبَسَطَهَا فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهَا قَبَضَهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَفَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثًا قَبَضَهَا إِلَيْهِ وَيَفْعَلُهُ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ مَنْ أَنْتَ قَالَ رِعْيَةُ السُّحَيْمِيُّ قَالَ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَضُدَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رِعْيَةُ السُّحَيْمِيُّ الَّذِي كَتَبْتُ إِلَيْهِ فَأَخَذَ كِتَابِي فَرَقَعَ بِهِ دَلْوَهُ فَأَخَذَ يَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلِي وَمَالِي قَالَ أَمَّا مَالُكَ فَقَدْ قُسِّمَ وَأَمَّا أَهْلُكَ فَمَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ فَخَرَجَ فَإِذَا ابْنُهُ قَدْ عَرَفَ الرَّاحِلَةَ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَهَا فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَذَا ابْنِي فَقَالَ يَا بِلَالُ اخْرُجْ مَعَهُ فَسَلْهُ أَبُوكَ هَذَا فَإِنْ قَالَ نَعَمْ فَادْفَعْهُ إِلَيْهِ فَخَرَجَ بِلَالٌ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبُوكَ هَذَا قَالَ نَعَمْ فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا اسْتَعْبَرَ إِلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ ذَاكَ جَفَاءُ الْأَعْرَابِ *(80/7)
80 وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ*
6292 حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عَلِيٍّ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ *
6316 حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَلَا أَجِدُ قَلْبِي يَعْقِلُ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ قَلْبَكَ حُشِيَ الْإِيمَانَ وَإِنَّ الْإِيمَانَ يُعْطَى الْعَبْدَ قَبْلَ الْقُرْآنِ *
8657 حَدَّثَنَا بَهْزٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ امْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ *(80/8)
10108 حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ *
14031 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ *
14031 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْإِيمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ وَغِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ فِي الْفَدَّادِينَ فِي أَهْلِ الْمَشْرِقِ *
14188 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ *
14188 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ *(80/9)
14188 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ *
14188 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ غِلَظُ الْقُلُوبِ وَالْجَفَاءُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْإِيمَانُ وَالسَّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ *
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ} القسوة: الصلابة والشدّة واليُبْس. وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل؛ لأنهم حين حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كَذَب؛ بعد ما رأوا هذه الآية العظمى؛ فلم يكونوا قط أعمى قلوباً، ولا أشدّ تكذيباً لنبيّهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبد اللَّه بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» . وفي مسند البزار عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا» .
قوله تعالى: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} «أو» قيل: هي بمعنى الواو، كما قال: {آثِماً أَوْ كَفُوراً} (الإنسان: 24) . {عُذْراً أَوْ نُذْراً} (المرسلات: 6) .
وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا(80/10)
أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل؛ كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) المعنى بل يزيدون.
وقال الشاعر:
بَدتْ مِثل قَرْن الشمس في رَوْنق الضحى ... وصورتِها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت. وقيل: معناها الإبهام على المخاطب؛ ومنه قول أبي الأسود الدُّؤَلِيّ:
أحبّ محمداً حبًّا شديداً ... وعبّاساً وحمزة أو علِيّا
فإن يك حبّهم رشداً أصِبْه ... ولستُ بمخطىء إن كان غيّا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت! قال: كلا؛ ثم استشهد بقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) وقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا؛ وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلّم الفقه أو الحديث أو النحو.
وقيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشدّ من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قولهجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) . وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم مَن قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشدّ من الحجر. فالمعنى: هم فرقتان.
قوله تعالى: {أَوْ أَشَدُّ} «أشدّ» مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله «كالحِجَارَة» ؛ لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشدّ. ويجوز أو «أشدَّ» عطف على الحجارة. و {قَسْوَةً} نصب على التمييز. وقرأ أبو حَيْوَةَ «قساوة» والمعنى واحد.(80/11)
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّق} معنى الانفجار. ويشقّق أصله يتشقّق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تَعْظُم حتى تكون أنهاراً، أو عن الحجارة التي تتشقّق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مُصَرِّف «ينشقق» بالنون، وقرأ «لمّا يتفجر» «لمّا يتشقّق» بتشديد «لما» في الموضعين. وهي قراءة غير متّجهة. وقرأ مالك بن دينار «ينفجِر» بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذِر شقيّ بني آدم.
قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء؛ لأنه إذا قال تتفجر أنّثه بتأنيث الأنهار؛ وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى؛ لأن المعنى وإن منها لحجارةً تتشقق؛ وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشَّق واحد الشُّقوق؛ فهو في الأصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق؛ إنما الشُّقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقّق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها؛ عن يعقوب. والشَّق: الصبح.
و «ما» في قوله: {لَمَا يَتَفَجَّرُ} في موضع نصب؛ لأنها اسم إنّ واللام للتأكيد. «منه» على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى؛ {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ} . وقرأ قتادة «وإنْ» في الموضعين، مخففة من الثقيلة. قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} يقول: إنّ من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم؛ لخروج الماء منها وتردّيها. قال مجاهد: ما تردّى حجر من رأس جبل، ولا تفجّر نهر من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله؛ نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جُرَيج.(80/12)
وقال بعض المتكلمين في قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} : البَرَد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز؛ وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها؛ كما قالت العرب: ناقة تاجرة؛ أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبريّ عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة؛ كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: {يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} (الكهف: 77) ،
وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سورُ المدينة والجبالُ لخُشّعُ
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا} راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة؛ أي من القلوب لما يخضع من خشية الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأوّل صحيح؛ فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي. «رُوِيَ عن الجِذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحوّل عنه حنّ» وثبت عنه أنه قال: «إن حجراً كان يسلّم عليّ في الجاهلية إني لأعرفه الآن» .
وكما روي (أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «قال لي ثَبِير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله» . فناداه حراء: إليّ يا رسول الله) . وفي التنزيل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} (الأحزاب: 72) الآية. وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر:21) يعني تذلُّلاً وخضوعاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة «سبحان» إن شاء الله تعالى.(80/13)
قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} «بغافل» في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد. {عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم؛ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة: 7 ـ 8) .
ولا تحتاج «ما» إلى عائد إلا أن يجعلها بمع بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم؛ أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كَثير {يعملون} بالياء؛ والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.(80/14)
صلاة التسابيح
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
صلاة التسابيح
سميت بذلك لوقوع تسبيحات فيها زائدة على التسبيحات المعروفة في الصلاة فينبغي للإنسان أن يأتي بثلاث مائة تسبيحة فيها زيادة على ما يأتي به من تسبيحات الركوع والسجود فيصلي صلاة عادية من أربع ركعات وإذا كانت الصلاة في الليل فالأحسن أن يفصل ركعتين عن ركعتين وإذا كانت في النهار فهو مخير والأولى الإتمام كما قال أئمتنا أن تكون صلاة النهار أربع ركعات بتسليمة واحدة في آخرها ثم بعد ذلك يقول ثلاثمائة تسبيحة زائدة على ما يأتي به من تسبيحات الركوع والسجود – سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله وأكبر. (ولا حول ولا قوة إلا بالله) وردت زيادة في مستدرك الحاكم في بعض أحاديثها وعليه صيغة التسبيح الزائدة (75) هذه يفرقها على ركعات الصلاة الأربعة وتفريقها يكون على كيفيتين اثنتين كل منهما ورد به حديث وأفتى بموجب هاتين الكيفيتين أئمة الإسلام:
الكيفية الأولى:(81/1)
ورد الحديث في سنن البيهقي كما سيأتينا في سرد روايات الحديث وأفتى بها شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وهي أن يقول بعد دعاء الاستفتاح قبل قراءة الفاتحة (15) مرة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم يقرأ الفاتحة وسورة قبل أن يركع يقول أيضا (10) مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فإذا ركع يقول تسبيحات الركوع ويزيد عليها (10) تسبيحات زائدة سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فإذا رفع من الركوع يقول الدعاء ثم يقول عشر مرات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فإذا سجد قال في السجدة الأولى (10) مرات أيضا مع تسبيحات السجود فإذا رفع من السجود قال عشر مرات بين السجدتين فإذا سجد السجدة الثانية قال عشر مرات فأكمل (75) تسبيحة ويفعل في الركعة الثانية والثالثة والرابعة كما فعل في الأولى.
الكيفية الثانية:
أنه إذا ابتدأ الصلاة يقرأ الفاتحة وسورة وقبل الركوع يقول التسبيحات (15) مرة فإذا ركع قالها (10) مرات فإذا رفع من الركوع قالها عشر مرات فإذا سجد قالها عشر مرات فإذا رفع من السجود قالها عشر مرات فإذا سجد الثانية قالها عشر مرات فإذا رفع من السجدة الثانية قبل أن يقوم يجلس "التي هي جلسة الاستراحة" ويضم إليها عشر تسبيحات أخرى ويكون بذلك (75) تسبيحة هاتان الكيفيتان واردتان وكما قلت أفتى بموجبها أئمة الإسلام لكن ما درجه الحديث الذي ورد بصلاة التسبيح وما حكم صلاة التسبيح وهل هي سنة أو بدعة، حقيقة كثر الكلام في ذلك حولها.(81/2)
وقد أفتى كثير من المشايخ الكرام في هذا العصر ببدعية صلاة التسابيح وان الحديث الوارد فيها غير صحيح أفتى كما قلت بذلك عدد من المشايخ المعاصرين لهذا الأمر وامتنع بعض من كانوا يفعلونها عن فعلها بناءً على هذه الفتيا وكثر الكلام وكان بعض المشايخ الكرام المعاصرين قد كتب بحثاً ونشر في الصحف الإسلامية ومجمله يدور حول إختلاف العلماء فمال إلى هذا القول أيضاً وهو أن صلاة التسابيح بدعة وتكلم عن أسباب الخلاف بين العلماء وموقفنا منه وذكر في السبب السادس أن يأخذ العالم بحديث ضعيف ويستدل استدلالاً ضعيفاً وهو كثير جداً فمن أمثلته ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسابيح وهو أن يصلى الإنسان ركعتين يقرأ فيهما بالفاتحة ويسبح (15) تسبيحة كذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها لأنني لا أعتقد صحتها من حيث الشرع ويرى آخرون أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة وأن حديثها لم يصح ومن هؤلاء الإمام أحمد رحمه الله – نعم كان يقول بذلك ورجع عنه كما سيأتينا تقرير ذلك في هذا المبحث إن شاء الله –وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – إن حديثها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة إما أن تكون نافعة للقلب ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة هذا لا نظير له في الشرع فدل على شذوذها سنداً ومتناً وأن من قال إنها كذب كشيخ الإسلام فإنه مصيب ولذا قال شيخ الإسلام أنه لم يستحبها أحد من الأئمة وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً وإنما أقول بدعة.(81/3)
أقولها وإن كانت ثقيلة على بعض الناس لأننا نعتقد أن كل من دان الله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام فإنه بدعة وكون كما قلت الشيخ الكريم يذهب إلى أن الحديث لا يصح وأنها بدعة قد سبق بذلك ولا شك ولكن ليس هذا طريق البحث. وكونه يقول لا أضبطها ولا أعرفها فكيف تبحث في شيء وتصدر الحكم عليه دون الوقوف عليه من جميع أحواله والأصل أن تحيط بكيفيتها وبالأدلة الواردة فيها ثم بعد ذلك تصدر الحكم عليها.
إذاً القول الذي يقول به أنها بدعة وأن الحديث فيها لا يصح سبق به وهو في ذلك مقلد غيره أما أنه بعد ذلك يقول لا تصح وأنا لا أضبطها ولا أعرفها ويحكم عليها بالشذوذ سنداً ومتناً فهذا فيه مافية وأما تعليله بعد ذلك بشذوذها بأن هذه لا نظير لها في الشرع هذا سيأتينا عليه الجواب إن شاء الله: إذن مثل هذا يقع في هذا الوقت ويسأل طلبة العلم عن هذه الصلاة بكثرة فلا بد إذن من تحقيق الكلام فيها وإليكم إن شاء الله الخبر عن صلاة التسابيح.
حديث
صلاة التسبيح والتسابيح(81/4)
ورد في السنن رواه الإمام أبو داود في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً والحاكم في مستدركه وأقره عليه الذهبي ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال في القلب من إسناده شيء ورواه البغوي في شرح السنة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ورواه الترمذي في السنن والبيهقي في السنن الكبرى والدار اقطني في السنن وابن أبي شيبة في المصنف من رواية أبي رافع رضي الله عنهم أجمعين وهذان الطريقان مع طريق ثالث سأذكره إن شاء الله عن قريب وهو طريق عبد الله بن عمر أصح طرق حديث صلاة التسبيح نعم رويت من طرق كثيرة زادت عن عشرة من الصحابة كما سيأتينا كلام الحافظ بن حجر في ذلك لكن أمثل الطرق وأقواها هو طريق ابن عباس وأبي رافع وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: يا عباس يا عماه ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أجيزك ألا أفعل بك عشرة خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده صغيره وكبيره سره وعلانيته عشرة خصال: أن تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا ثم تهوي ساجداً فتقولها عشرا ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا ثم تسجد فتقولها عشرا ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا فذلك خمس وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة فإن لم تفعل ففي كل عمرك مرة. وهذه رواية أبي داود عن ابن عباس.(81/5)
والحديث كما قلت مروي في هذه الكتب وفي رواية الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع زيادة وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: فلو كانت ذنوبه كمثل زبد البحر أو مثل رمل عالج- وهي رمال متراكمة في جانب من البادية -. غفر الله له.
وهذا الحديث اختلف فيه أئمتنا تبعاً لمنزلة هذا الحديث وبناءاً على اختلافهم فيه بنوا حكمهم على صلاة التسبيح فعلها هل هو مستحب أو لا فانتبهوا لما سأذكره في خطوات متتابعة إن شاء الله.(81/6)
ذهب الجم الغفير من علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين إلى تصحيح هذا الحديث وإلى استحباب صلاة التسابيح فمن جملة من صحح الحديث الحاكم في المستدرك وأقره عليه الذهبي 1/319 وبعد أن روى الحديث المتقدم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال وقد صحت الرواية أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ابن عمه هذه الصلاة وهو جعفر بن أبي طالب قال الحاكم إسناد الحديث صحيح لا غبار عليه وأقره الإمام الذهبي-وقد توفي الحاكم سنة 400هـ - وجاء بعده شيخ الإسلام الإمام المنذري ففي الترغيب ذهب إلى تصحيح هذا الحديث ونقله عن جمع غفير من أئمة المسلمين والحفاظ الكبار الراسخين 1 /468 قال وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة ومن جماعة من الصحابة وأمثلها حديث عكرمة وقد صححه جماعة منهم الحافظ أبو بكر الآجري وشيخنا أبو محمد عبد الرحيم المصري وشيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي رحمهم الله تعالى وقال أبو بكر بن أبي داود سمعت أبي يقول ليست في صلاة التسبيح حديث صحيح غير هذا وقال مسلم ابن الحجاج رحمه الله لا يروى في هذا الحديث إسناد أحسن من هذا يعني إسناد حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وقال الحاكم قد صحت الرواية عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ابن عمه هذه الصلاة ثم بدأ يسرد بقية الروايات الواردة لصلاة التسبيح –هذا كما قلت إمام آخر من أئمتنا يحكي تصحيح صلاة التسبيح عن عدد من الحفاظ الكرام الراسخين.(81/7)
وممن ذهب أيضا إلى تصحيح الحديث الإمام ابن عرّاق في كتابه تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة 2/107 وابن عراق أورد هذا في الفصل الثاني من كتاب الصلاة ولكتابة اصطلاح خاص ينبغي أن يعيه طلبة العلم فقد جعل الكتاب مقسم على كتب كتاب الصلاة، كتاب الصيام ... وكل كتاب مقسم إلى ثلاثة فصول الفصل الأول يقصد به ما رواه ابن الجوزي في الموضوعات وحكم عليه بالوضع ولم ينازع فيه فهو موضوع بالاتفاق والفصل الثاني ما رواه ابن الجوزي في الموضوعات ونوزع وخولف فيه- وهذا الإمام الحافظ توفي سنة 963هـ – فحقق الكلام هل الصواب مع ابن الجوزي أو مع المعارض والفصل الثالث أحاديث ادعى عليها الوضع ولم يذكرها ابن الجوزي في الموضوعات فذكرها وبين قيمتها. فأورد هذا في كتاب الصلاة في الفصل الثاني وبعد أن حكي كلام ابن الجوزي وأن الحديث موضوع وسرد كلامه باختصار قال تعقب بأن حديث ابن عباس أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم وحديث أبي رافع أخرجه الترمذي وابن ماجة وقد رد الحفاظ على ابن الجوزي في إيراده الأحاديث الثلاثة الموضوعات.(81/8)
وأورد الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس في كتاب الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة وهو جزء صغير لطيف ضمن هذا الكتاب. ص97 يقول حديث صلاة التسبيح ثم رواه فهنا يقول ابن عراق: وأورد الحافظ ابن حجر حديث ابن عباس وقال رجال إسناده لابأس بهم وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات ثم بدأ الإمام ابن عراق يحقق الكلام إلى أن قال وممن صح هذا الحديث أو حسنه غير من تقدم الإمام بن مندة ألف بها كتاباً والأجري والخطيب البغدادي وأبو سعدية والسمعاني وأبو موسى وأبو الحسن بن المفضل والمنذري وبن الصلاح والنووي في تهذيب الأسماء واللغات والسبكي وآخرون. هؤلاء كلهم صححوا حديث صلاة التسابيح ثم بعد أن انتقل إلى الصفحة الثانية هو لازال يقرر تصحيح الحديث ويرد على ابن الجوزي قال وممن صحح حديثها أو حسنه غير من تقدم أيضاً الحافظ العلاني وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني والشيخ بدر الدين الزركشي فالإمام بن عراق في هذا الكتاب يرى أن الحديث صحيح وهكذا الحافظ محمد بن عبد الله بن محمد الدمشقي المعروف بابن ناصر الدين كان كشيخ دار الحديث الأشرفية في زمنه سنة 842هـ ألف جزءاً خاصاً في تصحيح أحاديث صلاة التسبيح سماه الترجيح لحديث صلاة التسبيح وختم الكتاب بقوله ينبغي لكلك ذي ميز صحيح أن لا يغفل عن صلاة التسابيح وأن يصليها ولو في عمره مرة ويجعلها ليوم فاقته ذخراً فلا ينفع إمرءاً بعد مماته إلا ما قدمه من صالح في حياته والموفق هو الله الجليل وهو حسبنا ونعم الوكيل ولما انتهى ما أمليناه قلت أبياتاً في معناه وهي:-
إن أردت الثواب بالترجيح ... صل لله سبحه التسبيح
إن فيها رغايباً وأجوراً ... ودواءاً لكل قلب جريح
فتقرب بفعلها تعطى نيلاً ... وثواباً يجل عن التصريح
مع زوال لكل ذنب قديم ... وحديث جنيته وقبيح
لا تدعها فإن فيها حديثاً ... من وجوه مقارباً للصحيح
والذي وهن الحديث بوضع ... قوله ذاهب مع المرجوح
فتمسك بستة كيف جاءت ... عن تقاة عن الحبيب المليح
...(81/9)
فالإمام محمد بن ناصر الدين الدمشقي توفي سنة 842هـ يرى أن حديث صلاة التسابيح حديث صحيح وألف في ذلك كتاباً مستقلاً تتبع طرق هذا الحديث وبين صحته وختم بهذا الشعر. ومنهم الحافظ بن حجر سنة 852هفي كتابه تعليقه على المشكاة – مشكاة المصابيح رد الاعتراضات التي وجهت لأحاديث في المشكاة بين أن حديث صلاة التسابيح لا ينزل عن الحسن 4/1779 يقول الحديث الثالث حديث صلاة التسابيح.
أما ما نقله عن الإمام أحمد ففيه نظر لأن النقل عنه اختلف ولم يصرح أحد عنه بإطلاق الوضع مع هذا الحديث وقد نقل الشيخ ابن قدامه عن أبي بكر الأثرم قال سألت أحمد عن صلاة التسابيح قال لا يعجبني ليس فيها شيخ صحيح ونفض يده كالمنكر ص768 المفتي وقد روى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له – الحديث رواه أبو داود والترمذي ولم يثبت أحمد الحديث المروي فيها ولم يرها مستحية – آتية لكلام ابن قدامة – وإن فعلها إنسان فلا بأس إن النوافل والفضائل لا يشترط صحة الحديث فيها قال الإمام ابن حجر قال الموفق ابن قدامة ... ..قلت وقد جاء عن أحمد أنه رجع عن ذلك أي عن القول بأنها بدعة والحديث فيها لا يصح فقال على بن سعيد النسائي سألت أحمد عن صلاة التسابيح فقال لا يصح فيها عندي شيء قلت المستمدين الربان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن عمر بن العاص قال من حدثك قلت مسلم بن إبراهيم قال المستمر ثقة وكأنه أعجبه. هـ. قال الحافظ بن حجر فهذا النقل عن أحمد يقتضي أنه رجع إلى استحبابها وأما ما نقل عنه غيره فهو معارض بمن قوي الخبر فيها وعمل بها وقد اتفقوا على أنه لا يعمل بالموضوع وإنما يعمل بالضعيف في الفضائل وفي الترغيب والترهيب. قال الحافظ وقد أخرج حديثها أئمة الإسلام وحفاظه أبو داود في السنن والترمذي في الجامع وابن خزيمة في صحيحه لكن قال إن ثبت الخبر والحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد والدارقطني أفردها بجميع طرقها في جزء ثم فعل ذلك الخطيب البغدادي.(81/10)
ثم جمع طرفها الحافظ أبو موسى في جزء سماه صلاة التسابيح وقد تحصل عندي من مجموع طرقها عن عشرة من الصحابة من طرق موصولة وعن عدة من التابعين من طرق مرسلة قال الترمذي في الجامع باب ما جاء في صلاة التسابيح فأطلق حديثاً لأنس في مطلق التسبيح في الصلاة زائداً على أحاديث ذكره في الركوع والسجود ثم قال وفي الباب عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والفضل بن عباس وأبي رافع وزاد شيخنا أبو الفضل العراقي الحافظ أنه ورد أيضاً من حديث عبد الله بن عمر هذه خمسة وزدت عليها فيما أمليته من تخريج الأحاديث الواردة في الأذكار للشيخ محي الدين النووي عن العباس بن عبد المطلب وعن علي بن أبي طالب وعن أخيه جعفر وعن ابنه عباس بن جعفر وعن أم المؤمنين أم سلمة وعن الأنصاري وهو غير مسمى وقال الحافظ إنه جابر فهؤلاء عشرة أنفس وزيادة أم سلمة والأنصاري وسوى حديث أنس الذي أخرجه الترمذي ثم ساق الحافظ هذه الروايات كلها من أخرجها ثم وأما من رواه مرسلاً فجاء عن محمد بن كعب القرضي وأبي الجوزاء ومجاهد وإسماعيل بن رافع وعروة بن روين ثم رد عنه وسلا كما روى عن بعضهم موصولاً أما حديث بن عباس.. بدأ كل حديث يخرجه عمن أخرجه أهل الكتب المصنفة ثم بعد هذه الروايات ومن روى هذه الأحاديث عن هؤلاء والصحابة الكرام قال وقد جمعت طرفة مع بيان عللها وتفصيل أحوال رواتها في جزء مفرد وقد وقع فيه مثال ما تناقص فيه المتأولان يقصد عالمان تناقضا فيه في التصحيح والتضعيف وهي الحاكم وابن الجوزي فإن الحاكم كشهور بالتساهل في التصحيح وابن الجوزي مشهور في التساهل في دعوى الوضع كل منهما روى هذا الحديث فصرح الحاكم بأنه صحح.(81/11)
وصرح ابن الجوزي بأنه موضوع والحق أنه في درجة الحسن لكثرة طرقه التي يقوى بها والعلم عند الله جل وعلا هذا كلامه في آخر مشكاة المصابيح الحافظ بن حجر ممن يذهب إلى تصحيح الحديث التحسين والتصحيح في درجة واحدة لا يضر المقصود وأن الحديث ثابت يعمل به وهو حجة بلا نزاع وممن ذهب إلى تصحيح الحديث واعتباره وقبوله الإمام الزبيدي – ت سنة 1205هـ - بحيث أخذ قرابة صفحتين أذكر مختصراً من كلامه شيئاً يقول بعد أن ذكره هذا حديث صحيح غريب جيد الإسناد والمتن ثم قال أخرجه ... وعد من أخرجوه ثم رد على ابن الجوزي بالوضع وقال طريق هؤلاء ليست ضعيفة فضلاً عن أن يقال موضوعه ثم بعد أن رد على من طعن في بعض رجال الإسناد بأن طعنه في غير محله ثم قال وهذا إسناد حسن ثم بين أن الأئمة عملوا بهذا وقالوا به.
وهذا سيأتينا في نهاية البحث إن شاء الله. الحفاظ بأجزاء مستقلة وصححوها منهم الدار اقطني سنة 385 هـ الخطيب سنة463 هـ أبو سعد السمعاني سنة 562 هـ أبو موسى المديني سنة 581 هـ ألف جزءاً سماه تصحيح صلاة التسابيح من الحجج الواضحة والكلام الفصيح. ومنهم الحافظ بن حجر والإمام السيوطي وألف جزء في تصحيحه وغيرهم كثير.(81/12)
فإن قال لنا قائل هؤلاء صححوا ألا يوجد من ضعف بلى ونحن نكتب ما لنا وما علينا ولا نقول كما يفعله بعض الناس حديثها شاذ متنا وإسنادا وما شاكل هذا وهي بدعة ولا أعرف القارئ يكون صار عنده مجال للنظر وهل رأيك مقبول معتبراً أم مردود أما أن تعطيه الحكم ليكون مقلداً لك كيف ما كنت هذا غلط في البحث لا سيما إن كان في كتابه فشتان بين أن تسأل وتجيب وبين أن تكتب لتحقق ولينشر هذا على المسلمين وممن ضعف الإمام بن الجوزي في الموضوعات فحكم بوضعها 1/145 ذهب إلى أن الحديث موضوع ثم بعج أن روى طرقة حكم عليه بالوضع يقول هنا آخر شيء لقد اتفق علماء الحديث على تضعيف إسحاق ثم يقول قال العقيلي ليس في صلاة التسابيح حديث يثبت سنة 597هـ أبو شامة الإمام رحمة الله ورفع مقامه ذهب إلى أن صلاة التسبيح لا حديثها قال لم تصح على كثرة طرقها لم يصف منها طريق ولا تغتر بإخراجها سنن أبي داود وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة ثم في مستدرك الحاكم وسنن البيهقي وبأنه قد حقق فيها الحافظ أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب جزءاً جمع فيه طرقها وتسمية من رواها من الصحابة.
وقد قال إمام الأمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في صحيحه باب صلاة التسبيح إن صح الخبر فإن في القلب منه شيء وقال الحافظ أبو جعفر العقيلي ليس في صلاة التسبيح حديث يثبت نعم قال هذا وأخرجها الشيخ أبو الفرج في كتابه الموضوعات وقال طرقها كلها لا تخلوا من وقف وإرسال أو ضعف رجال والله أعلم هذا أيضاً من جملة من ضعفوها أبو شامة.(81/13)
ومنهم أيضاً الإمام بن تيمية في منهاج السنة النبوية 7/434 في الصيغة المحققة الجديدة، وهي مع أنها محققة لكنها أيضاً رديئة وفيها تصحيف وما أعلم ما قيمة هذا التحقيق الذي سنقرأ نموذجاً منه لتعرف بعد ذلك من حقق كيف حقق، يقول ص 434 كل صلاة فيها الأمر بتقديم عدد الآيات أو السور أو التسبيح فهي كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث – غفر الله له – إلا صلاة التسبيح فإن فيها قولين لهم وأظهر القولين أنها كذب وإن كان قد إعتقد صدقها طائفة من أهل العلم ولهذا لم يأخذها أخذ من أئمة المسلمين بل أحمد بن حنبل وأئمة الصحابة كرهوها وطعنوا في حديثها وتقدم معنا كلام الإمام أحمد بشقيه.
وأما مالك والشافعي وأبو حنيفة فلم يسمعوها بالكلية من يستحبها من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما فإنما هو إختيار منهم لا نقلاً عن الأئمة وأما ابن المبارك فلم يستحب الصفة المذكورة المأثورة "ليس بصحيح قطعاً وجزماً كما سأذكر لكم الإمام ابن المبارك ما استحب إلا هذه الصفة التي ذكرها لكم بسند صحيح عنه كالشمس في رابعة النهار" التي فيها التسبيح قبل القيام – لعله يقصد قبل القراء ما معنى قبل القيام – بل استحب صفة أخرى توافق المشروع حتى لا تثبت سنة بحديث لا أصل له.(81/14)
أين الكلام عن التحقيق في هذا! الإمام ابن تيمية يذهب أيضاً إلى أن الحديث لا يصح والإمام الشوكاني يرى أن الحديث لا يصح بقول في السيل الجرار 1/328 اختلق الناس في الحديث الوارد فيها حتى قال من قال من الأئمة أنه موضوع وقال جماعة أنه ضعيف لا يحل العمل به وكل من له ممارسة لكلام النبوة لا بد أن يجد في نفسه من هذا الحديث ما يجد هذه الإطلاقات لا داعي لها فلست أكثر ممارسةً لكلام النبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء الحفاظ الجهابذة الذين صححوا الحديث وقد جعل الله في الأمر سعة عن الوقوع فيما هو متردد بين الصحة والضعف والوضع في ذلك بملازمة ما صح فعله أو الترغيب في فعله صحة لا شك فيها ولا شبهة وهو الكثير الطيب وقرر نحو هذا أيضاً في كتابه تحفة الذاكرين ص141 لكن هناك نقل كلام الأئمة المصححين وهم أعلى منزلة منه في علم الحديث وعلم الفقه وسائر علوم الشريعة المطهرة يقول هنا صلاة التسابيح قال بن حجر رحمه الله لابأس بإسناد حديث ابن عباس وهو من شرط الحسن فإن له شواهد تقويه وقد أساء ابن الجوزي بذكره في الموضوعات قد رواه أبو داود من حديث ابن عمر بإسناد ولا بأس به والحاكم من حديث ابن عمر وقال ابن المعرى في شرح الترمذي في حديث أبي رافع إنه حديث ضعيف ليس له أصل في الصحة ولا في الحسن ثم بدأ يورد كلام العلماء يقول وقد صحح هذا الحديث أو حسنه جماعة من العلماء الحفاظ منهم من تقدم ذكره ومنهم ابن منده والخطيب وابن الصلاح والسبكي والحافظ العلائي قال السبكي صلاة التسبيح من مهمات مسائل الدين ولا تغتر بما فهم من النووي في الأذكار من ردها فإنه اقتصر على رواية الترمذي وابن ماجه ورأى قول العقيلي ليس فيها حديث يثبت صحيح ولا حسن والظن به لو إستحضر ترجيح ألو داود لحديثها وتصحيح ابن خزيمة والحاكم لما قال ذلك وقد استوفينا الكلام على صلاة التسبيح في كتابنا الموضوعات – هذا كلام الشوكاني – الذي سميناه الفوائد المجموعة في(81/15)
الأحاديث الموضوعة أنظره ص38 فقرر هناك أيضاً أن الحديث لا يثبت يقول ولاشك ولا ريب أن هذه الصلاة في صفتها وهيئتها نكارة شديدة مخالفة لما جرت عليه التعليمات النبوية ليس كذلك والذوق يشهد القلب بصدق وعندي أن ابن الجوزي قد أصاب بذكره لهذا الحديث في الموضوعات.
وما أحسن قال السيوطي في كتابه اللآلئ الذي جعله على موضوعات ابن الجوزي بعد ذكره لطرق هذا الحديث – هذا الكلام ليس للسيوطي هذا الكلام ينقله السيوطي عن الحافظ بن حجر وهو قول له كما سيأتينا خلال البحث انظروا هذا الكلام في التلخيص 2/7 يقول والحق أن طرقه كلها ضعيفة وأن حديث ابن عباس يقرب من الحسن إلا أنه شاذ لشده الفردية فيه وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلاة هـ- ونقله الإمام السيوطي 2/45
هؤلاء عدد من الأئمة الحفاظ الجهابذه مشايخ الإسلام يضعفون حديث صلاة التسابيح وبعضهم يجاذف كابن الجوزي فيرى أن الحديث موضوع ولا يثبت ولا يصح وإذا كان الأمر كذلك مما هو الموقف نحو هذين القولين وقف بعض أئمة الإسلام نحو هذين الموقفين موقفاً مضطربا فمرةً قبلها ومرة توقف فيها وقال لا تثبت منهم الإمام أحمد عليه رحمة الله ومنهم الإمام النووي ذاك يعرف ولكن لقوة الخلاف إضطرب قوله في هذه المسألة غاية الإضطراب.
أنظر ماذا يقول هذا الإمام المبارك شيخ الإسلام 2/144 من تهذيب الأسماء واللغات يقول وأما صلاة التسبيح المعروفة فسميت بذلك لكثرة التسبيح فيها على خلاف العادة في غيرها وقد جاء فيها حديث حسن في كتاب الترمذي وغيره وذكرها المحاملي وصاحت التتمة وغيرها من أصحابنا وهي سنة حسنة وقد أوضحتها أكمل إيضاح سأزيدها إيضاحاً في شرح المهذب إن شاء الله تعالى قالت هذا في كتابين في الأذكار وفي المجموع الذي أشار إليه.(81/16)
أما في الأذكار ص158 يقول باب أذكار صلاة التسبيح ثم بعد أن أوردها يقول هذا الإمام المبارك وبلغتنا عن الإمام الحافظ أبي الحسن الداراقطي رحمه الله أنه قال أصح شيء في فضائل السور فضل قل هو الله أحد وأصح شيء في فضائل الصلوات فضل صلاة التسبيح وقد هذا الكلام مسنداً في كتابي طبقات الفقهاء في ترجمة أبي الحسن علي بن عمر الداراقطي ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون حديث صلاة التسبيح صحيحاً. فإنهم يقولون هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفاً ومرادهم أرجحه وأقله ضعفاً قلت أو قد نص جماعة من أئمة أصحابنا على استحباب صلاة التسبيح هذه منهم أبو محمد البغوي وأبو المحاسن الروياني قال الروياني في كتابه البحر في آخر كتابه الجنائز: اعلم أن صلاة التسبيح مرغب فيها يستحب أن يعتادها المسلم في كل حين ولا يتغافل عنها قال هكذا قال عبد الله بن المبارك وجماعة من العلماء قال وقد قيل لعبد الله بن المبارك إن سها في صلاة التسبيح أيسبح في سجدتي السهو عشراً، عشراً قال لا فإنما هي ثلاثمائة تسبيحة وإنما ذكرت هذا الكلام في سجود السهو وإن كان قد تقدم لفائدة لطيفة وهي إن مثل هذا الإمام إذا حكى هذا ولم ينكره أشعر بذلك بأنه يوافقه فيكثر القائل بهذا الحكم وهذا الروياني من فضلاء أصحابنا المطليعن والله أعلم.(81/17)
كأن الإمام النووي هنا وقف وما أصدر راية صراحة أما في المجوع فقد أصدر رأيه صراحة بأن الحديث ضعيف وما ينبغي أن نصلي صلاة التسبيح – سبحان الله – أنت قررت هذا بكلامك وخط يدك بأنه حين وهذه سنه مستحبة – قلت والسبب في ذلك قوة الخلاف في هذه المسألة وجلالة القائلين بعدم صحة الحديث لكن على حسب قواعد علم الحديث، الحديث صحيح كما سيأتينا من ناحية الإسناد وأما من ناحية المعنى فلا غبار عليه كما سأقرر بعد حكاية هذا القول المتوسط الذي لم يجزم بالتصحيح ولا بالرد الإمام النووي عليه رحمة الله في المجموع 4/54 تعرض لهذه كما وعد فقال المسألة الخامسة قال القاضي حسين وصاحبا التهذيب والتتمه والإمام والروياني في أواخر كتاب الجنائز من كتابه البحر يستحب صلاة التسبيح للحديث الوارد فيها وفي هذا الاستحباب نظر لأن حديثها ضعيف وفيها تغيير لنظم الصلاة المعروفة فينبغي أن لا يفعل بغير حديث أي صحح وليس حديثها بثابت وهو ما رواه ابن عباس رضي الله عنه ثم روى الحديث المتقدم رواه أبو داود وابن ماجه وبن خزيمة في صحيحه وغيرهم رواه الترمذي من رواية أبي رافع بمعناه قال الترمذي روى عن النبي في صلاة التسبيح غير حديث وهو لا يصح منه كبير شيء.(81/18)
قال وقد رأى بن المبارك وغير واحد من أهل العلم صلاة التسبيح وذكروا الفضل فيه وكذا قال العقيلي ليس في صلاة التسبيح حيث يثبت وكذا ذكر أبو بكر بن العربي وآخرون أنه ليس فيها حديث صحح ولا حسن والله أعلم وختم الكلام بهذا. إذن هنا يرى أن الحديث ضعيف وأن الكيفية ما ينبغي أن تقوم بها ولا نصليها. إذن صحح وحسن وقوي وهذا هو الجم الغفير أضعف بعضهم زاد فقال موضوع قلة قليلة من علماء الإسلام فريق بعد ذلك وقف موقفين متباينين إما لعدم علمه بالحديث فلما علمه رجع وإما لأنه يعلم ويقول سأبين هذا في المجموع وهنا حسن ثم في المجموع تراجع كما قلت لقوة المخالف لكن دون أن ينقل علة في الإسناد كل هذا يقول قال العقيلي وقال ابن الجوزي: إذا درسنا الإسناد من أوله لآخره ليس في الإسناد آفة من أجلها يرد الحديث على الإطلاق إذن الصواب في هذه المسألة أخوتي الكرام أن الحديث صحيح وصلاة التسبيح سنة مستحبة يدل على هذا ثلاثة أمور:-
1. الحديث صححه أئمتنا عليهم رحمة الله وقد نص على التصحيح كما تقدم عدد من الحفاظ الجهابذة وما اعترض به على هذا الحديث جميع هذه الاعتراضات لا تثبت ولا تقوى ولا يوجد راو تكلم فيه في رجال إسناد ابن عباس إلا وأقل ما نعت بأنه صدوق حديثه في درجة الحسن. هذا أقل راوي. إذن لا يوجد من تكلم فيه بقادح بحيث ينزل عن الحسن يضاف إلى هذا طرق متعددة زادت على العشرة كما قال الحافظ. أما يقتضي ذلك تصحيح الحديث وتحسينه بلى ثم بلى ولذلك الذين نظروا في الإسناد على حسب الصناعة الحديثية وما ترددوا في تصحيح الحديث أو تحسينه. أما بعد ذلك كما قلت قد يتأمل طريقاً من الطرق فيرى فيها كلام فيقدح بناءاً على هذه الطريقة المفردة أما الحديث إذا أردت أن تبحث فيه بطرقه ليس في إسناده كلام ينزله عن درجة الحسن والعلم عند الله جل وعلا. يضاف إلى هذا كثرة الطرق التي روى بها الحديث.(81/19)
2. صلاة التسبيح عمل بها التابعون ومن بعدهم وهي سنة مشهورة منتشرة في هذه الأمة فِإن قيل لما قلت عمل بها التابعون ولم تقل عمل بها الصحابة نقول الصحابة عملوها فعلمها النبي للعباس ولجعفر ولابن عباس وصحابة متعددين عملوا بها لكن الكلام الآن حول تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لهم هل هو ثابت أم لا هذا هو الكلام فإذا ثبتت الآثار فقد عمل بها الصحابة الأبرار رضي الله عنهم. لكن نحن لنوضح هذا بجلاء ووضوح نقول هذا الفعل الذي علمه النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة تنوقل إلى التابعين فعملوا بها وهذا ثابت بأسانيد صحيحة كالشمس من أئمتنا الأبرار الذين عملوا بصلاة التسابيح واستحبوها وكانوا يوصون بها ويعلمونها المسلمين أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي البصري ثقة توفي سنة 83هـ حديثه في الكتب الستة وقد روى عن كل من أمنا عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. وهو من العباد الصالحين في هذه الأمة كان يقول ما لعنت شيئاً قط ولا أكلت طعاماً ملعوناً قط ولا آذيت أحد قط ولا ماريت أحداً قط وكان يقول كما في طبقات ابن سعد لأن أصحب الخنازير أحب إلي من أصحب أهل الأهواء. كان قوياً كما يقول الذهبي في السير4/471 قوياً بالمرة حيث أنه كان يواصل أسبوعاً فلا يأكل ولا يشرب فإذا مسك ساعد الإنسان الشاب يكاد أن يكسره قال الإمام الذهبي بعد أن سرد بعض الأخبار عنه أنظر إلى هذا السيد واقتدي به. نقل الداراقطي في جزء صلاة التسبيح أنه كان يستحب صلاة التسبيح ويأمر بها. بسند صحيح.(81/20)
ومن أتباع التابعين عبد العزيز بن أبي رواد وأبو رواد ميمون وقيل أيمن قال عنه الحافظ في التغريب صدوق عابد ربما وهم ورمى بالإرجاء – وبدعة الإرجاء كما سيأتينا تحمل على بدعة مقيتة وعلى بدعة لفظية لا تضر من نعت بها كما سأذكر إن شاء الله- أخرج حديثه البخاري في صحيحه تعليقاً وأهل السنن الأربعة توفي سنة 159هـ كان يقول من أراد الجنة فعليه بصلاة التسبيح وهو إمام من أئمة الإسلام الكبار نعته الذهبي بأنه شيخ الحرم المكي في زمانه. قال عنه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك كان من أعبد الناس بقي أربعين سنه لم يرفع طرفه للسماء حياءاً من ربه جل وعلا فكان مرة يطوف حول بيت الله الحرام ورآه أبو جعفر المنصور فنخسه بإصبعه فالتفت فقال علمت أنها طعنة جبار. قال الذهبي ذهب بصره عشرين سنه ولم يعلم أهله ولا ولده به. قال الإمام أحمد كان مرجئا رجلا صالحاً قال الذهبي قلت كان كثير المحاسن لكنه كان مرجئاً. أما الإرجاء الذي نعت به فلا ضير عليه فيه إن شاء الله وإن كنا نرى أنه لو تنزه عن كذلك لكان خيراً له وأحسن.(81/21)
الإرجاء معناه التأخير وهناك إرجاء بدعي القائل به ضال وهو الذي يقول: العمل ليس من الإيمان بمعنى أنك إن فعلته لاتنتفع وإن تركته لا تضرر وإذا قلت لا إله إلا الله محمد رسول الله واعتقدت هذا بقلبك فأنت من أهل الجنة والنار محرمة عليك وسيختم لك بالإيمان. وانتهى الأمر وأما العمل هذا ليس من الإيمان هذا إرجاء البدعة وحاشا أئمتنا الكرام من هذا الإرجاء – أبو حنيفة في ترجمته كان مرجئاً أي يرى أن الإيمان إقرار باللسان واعتقاد بالجنان وأما العمل يقول هذا ليس من الإيمان حتماً هذا خلاف ما عليه جمهور أهل السنة الكرام لكن خلاف لفظي أبو حنيفة يقول: إن عمل صار صديقاً وإن لم يعمل صار فاسقاً. ومعشر أهل السنة يقولون نفس هذا الكلام فما بينهم إلا خلاف في اللفظ فقط وهؤلاء الذين قالوا هذا القول حتى لا يرد عليهم شبهه أخذ بها المعتزلة والخوارج ومن فروخهم الإباضية فقالوا: إذا قلتم العمل من الإيمان فإذا تخلف العمل ينبغي أن تخرجوا العاصي من الإيمان فإن تقولوا أنه كافر كما قال الخوارج أوأن تقولوا ليس بكافر ولا مؤمن كما قال المعتزلة والاباضية تتبعوا في هذا القول المعتزلة ولم يتبعوا أصلهم وهو الخوارج فهؤلاء قالوا نقول العمل ليس من مسمى الإيمان لكن فعله قربة وتقى وتركه معصية وفسق. إذن خلاف لفظي لا يضير وهذا الذي حققه أئمتنا في كتب التوحيد. إرجاء في اللفظ وهذه مسائل القول الحق أن العمل من الإيمان لكن تخلف العمل ليس كتخلف الإقرار والاعتقاد لكن هذا قول حق شيء والذي يقول بذلك لا تقول عنه ضال.(81/22)
يقول الإمام الذهبي 9/435 في السير في ترجمة عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد وكأن الذهبي ما أراد أن يذكر هذه التعليقة في ترجمة الوالد عبد العزيز لجلالة قدره فجاء للولد فذكر هذه: فقال: قال: هارون بن عبد الله الحمال ما رأيت أخشع لله من وكيع وكان عبد المجيد أخشع منه قلت: خشوع وكيع مع إمامته في السنة جعلته مقدما بخلاف خشوع هذا المرجئي عفا الله عنه أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة وقد كان على الإرجاء عدد كبير من علماء الأمة فهلاعدّ مذهبا وهو قولهم أنا مؤمن حقاً عند الله الساعة –يعني في هذه الساعة- مع اعترافهم أنهم لا يدرون ما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان وهذه قوله خفيفة وإنما الصعب من قول غلاة المرجئة: أن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة وأن تارك الصلاة والزكاة وشارب الخمر وقاتل النفس والزاني وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان ولا يدخلون النار ولا يعذبون أبداً. (ردوا أحاديث الشفاعة المتواترة وجسروا كل قاطع طريق فاسق على الموبقات نعوذ بالله من الخذلان) .
ومنهم جاء بعده شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك توفي سنة 181هـ كان يستحب صلاة التسبيح ويفعلها ويوصي أتباعه بها وهو كما نعته أئمتنا هذا كلام الحافظ في التقريب على اختصار: ثقة ثبت فقيه عالم جواد مجاهد جمعت فيه خصال الخير قال الذهبي في السير في ترجمته هو الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته الحافظ الغازي أحد الأعلام حديثه حجة بالإجماع. قيل له: وكان يكثر القعود في بيته وخلوته: ألا تستوحش قال كيف أستوحش ومعي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه – أي عندما يقرأ علمهم وحديثهم وسيرهم – وإذا نام رآه صلى الله عليه وسلم. ولما تبعه أهل بغداد وأهل مرو ونظر هارون إلى تبعية الناس له قال هذا هو الملك- وكان إذا دخل إلى السوق يغلق أهل السوق سوقهم ويمشون وراءه – وهذا هو الملك وأما نحن لا نجمعهم إلا بأعوان وشرطة.(81/23)
وكان على غاية الأدب مع شيوخه ومع كبار العلماء في زمانه سأل عن مسألة في حضرة سفيان بن عينية وهو أعمل من شيخه لكن أنظر للأدب والتوقير قال: نهينا أن نتكلم بحضرة أكابرنا استمعوا للرد على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عندما يقول هذه الكيفية ما كان يوصي بها عبد الله بن المبارك يقول الحاكم في المستدرك 1/319 مما يستدل به على صحة هذا الحديث استعمال الأئمة من أتباع التابعين –العبارة لو صحت من التابعين – ممن بعدهم إلى عصرنا هذا، هذا كلام الحاكم توفي سنة 405هـ إياه ومواظبتهم عليه وتعليمهم الناس منهم شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه – هذا كلام الحافظ الحاكم في المستدرك وقد سأله أبو وهب محمد بن مزاحم وهو صدوق توفي سنة 209هـ وهو من رجال الإمام الترمذي سأل شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عن صلاة التسابيح فنعتها بالكيفية التي ذكرتها على أن يكون التسبيح قبل القراءة وهذا ثابت في حيث رواه هق في3/52 عن عبد الله بن عمرو مرفوعاَ. يقول الحاكم بعد أن روى هذا السؤال وهذا موجود في سنن الترمذي وسنن البيهقي وفي شرح السنة للبغوي 4/158 قال الحاكم رواة هذا الحديث عن ابن المبارك ثقاة أثبات ولا يتهم عبد الله أن يعلمه ما لم يصح عنده سنده.(81/24)
الإمام الرابع أبو عثمان الحيري وهو سعيد بن إسماعيل كان يقول من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ومن أمّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة ثم تلى قول الله:"وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين" قال الإمام الذهبي معلقاً على قوله قلت: "ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " يقول الذهبي في ترجمته هو الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام الأستاذ أبو عثمان الحيري الصوفي أما كلمة الصوفي فأرجو ألا يتأثر أحد منكم بهذا الاصطلاح وسيأتينا إن شاء الله كلام على الصوفية وتحقيق الكلام فيهم بعون رب البرية ننصفهم فلا نحملهم وزر من ضل منهم ولا نبرأ من إشتط منهم وينبغي أن نزن بالقسطاس المستقيم إنما هذا كلام الإمام الذهبي شيخ الإسلام كان إذا بلغته سنة كما في الحلية وغيرها لم يعمل بها يقف حتى يعمل بها إذن متسنن إذا سنة بلغته وما عمل بها ولم يستعملها يتوقف عن كل عمل حتى ينفذ هذه السنة ويقوم بها ومن صفاته الطيبة في تاريخ بغداد 9/99 المنتظم لإبن الجوزي في 6/106 وصفة الصفوة له 4/105 وفي البداية والنهاية 11/115 في حوادث سنة298 هـ – قصة المرأة العوراء العرجاء القرعاء ومشوهة الخلق التي جاءت إليه وهو في معتكفه في المسجد وقالت أبا عثمان الله الله فيّ فإن قلبي متعلق بك قال لها وماذا تريدين يا أمة الله قالت أريد أن تتزوجني قال: ومن والدك قالت: فلان البقال. قال: يكون خيراً إذهبي. ثم خر ج من معتكفه إلى والدها وخطبها منه فذاك طار فرحاً عرجاء فرعاء عوراء مشوهة الخلق يخطبها شيخ الإسلام في زمانه فزوجه فلما دخل عليها قال: اللهم لك الحمد على ما قدرت لي.(81/25)
يقول فكان أهلي يلومونني يقولون لي نزوجك ونزوجك فكنت أخالفهم وأزيد في إكرامها وبرها وهي أثقل على قلبي من الجبل – هذا ما حدث به إلا بعد أن توفيت – يقول وكنت إذا ذهبت إلى الدرس توقفني على الباب تقول أبا عثمان قلبي متعلق بك فأترك درسك من أجلي يقول: فأطيعها جبراً لخاطرها يقول: بقيت عندي ثمان عشرة سنة ثم توفيت فلما احتضر قيل له حسن ظنك بربك رحمة الله واسعة قال: أرجو أن يغفر الله لي بما جرى لي مع زوجتي.(81/26)
كان يقول ما رأيت للشدائد والهموم والغموم مثل صلاة التسبيح قال الإمام الذهبي في ترجمته نقلاً عن الحاكم في كتاب تاريخ نيسابور لم يختلف مشايخنا أنه كان مجاب الدعوة وكان مجمع العباد والزهاد ولم يزل يسمع الحديث ويجل العلماء ويعظمهم قلت: " الذهبي" كان للخرسانيين مثل الجنيد للعراقيين ... والجنيد توفي قبله بسنة 297هـ، 298هـ ومن مناقبه ومن منزلته عند ربه جل وعلا مجاب الدعوة قال الحاكم لما قتل أحمد بن عبد الله السجستاني " وكان أميراً في بلاد نيسابور " الإمام حيكان " يحيى بن محمد الذهلي" ثقة حافظ من رجال ابن ماجه قتله الأمير ظلما وعسفاً وجوراً وكان حيكان من أئمتنا الصالحين يقول عنه ابن حجر في التقريب ثقة حافظ مات شهيداً مقتولاً على يد هذا الأمير الظالم. أخذ في الظلم والعسف وأمر بحربة فركزت على خشبة ثم جاء وجمع أعيان البلدة وقال ينبغي أن تصبوا عليها الدراهم والدنانير حتى لا تظهر الحربة وإلا فقد أحللت دمائكم قال فاجتمع أعيان البلدة وفرضوا على أنفسهم مبلغاً من أجل أن يحفظوا رقابهم ودماءهم ففرضوا على بعض التجار ثلاثين ألف درهم فما استطاع أن يحصل إلا ثلاثة آلاف درهم فجاء بها إلى أبي عثمان النيسابوري وقال علمت ما جرى من هذا الأمير والله ليس عندي غيرها فقال له أبو عثمان تأذن لي أن أتصرف في هذا المال كما أريد قال نعم: قال ولك نفع وأجر فتصدق أبو عثمان بها وقال ابق عندي ولا تخرج من بيتي ثم بعد ذلك بدأ في الليلة يخرج من بيته إلى المسجد ويعود يخرج إلى المسجد ويعود مراراً يذهب يصلي ويعود إلى البيت إلى أن أذن الفجر فلما أذن الفجر قال للمؤذن إذهب إلى السوق وإلى المحلة فاستمع ما الخبر فقال ما الخبر قال: إذهب واستمع فذهب وعاد قال ما سمعت شيئاً والناس كما هي قال أأقم الصلاة؟ قال لا تقم أذهب إلى السوق ثانية وتحقق ما الخبر.(81/27)
ثم بعد ذلك لما ذهب المؤذن مرة ثانية قال أبو عثمان: وحققك يارب لا أقمت الصلاة مالم تفرج عن المكروبين – فعاد المؤذن مسرعاً وقال أبو عثمان ذبح الأمير غلمانه وهو سكران ذبحوه وشقوا بطنه. أنظرها في السير وينقلها عن الحاكم في تاريخ نيسابور. نعم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه يقول أبو عثمان ما رأيت للشدائد والهموم والغموم مثل صلاة التسابيح قال الحافظ الذهبي: قلت بمثل هذا يعظم مشايخ الوقت.
حقيقة إذا كان العالم على هذه الحالة بحيث يكون بينه وبين الله صلة إذا لزم أن يستعمل –كما يقال في مجلس الخيانة والغدر حق الفيتو -هنا حق الفيتو لكن في ابطال فعل المخلوق من جهة الخالق إذا لزم أن يستعمل هذا الحق يستعمله حقيقه هذا هو الشيخ. بمثل هذا يعظم مشايخ الوقت وحقك لا أقمت الصلاة مالم تفرج عن المكروبين. ثم قال للتاجر كفاك الله شره وثلاثة آلاف صدقة لك مدخرة عند الله.
أخوتي الكرام:
كان هذا العبد الصالح يقول: ما رأيت للشدائد والهموم والغموم مثل صلاة التسابيح وأنا أرجو وآمل إذا وصل هذا الكلام حول صلاة التسبيح إلى من يفتون أنها بدعة وأن الحديث ليس صحيح أرجو وآمل أن يحصل شيء من التراجع إذا بلغتهم هذه الحجج عن أئمتنا الكرام البررة وقد سمعت بعض المشايخ ممن هو على قيد الحياة يقول: إن حج التمتع ليس هو الأفضل بل لا يصح نسك إلا هو ولما ألف شيخنا أضواء البيان وبين أن أفضل الأنساك الثلاثة حج الإفراد رجع الشيخ عن قوله وقال أفضل الأنساك حج الإفراد.(81/28)
فلعل هذه الموعظة إذا بلغت المشايخ الكرام الذين أخذوا شيئاً تقليداً لعالم متقدم دون تمحيص وأطلقوا الحكم بأنها بدعة ليست ببدعة إنما هي سنة والحديث فيها صحيح وعمل بها السلف قولهم صفة صلاة التسبيح تخالف الكيفية المعروفة للصلوات وعليه لا تثبت لأنها صفة مخالفة قلنا: هذا الكلام لا ينبغي أن يقوله عالم لان الحديث حجة بنفسه إذا صح الحديث يثبت كيفية شرعية. صلاة الكسوف هل هي على حسب الصلاة المعروفة أم على خلاف الصلاة المعروفة إذا صح الحديث انتهى. وما أحد أنكر صلاة الكسوف وعمدة من يردها. يقول تخالف الكيفية المعروفة وهذا كلام النووي وابن تيمية وهذا الشيخ في هذا الكتاب. يا عبد الله ما هكذا تورد الإبل الأصل ابحث في الحديث هل صح أم لا إذا صح فهو حجة بنفسه وإذا لم يصح دعنا منه. معروفة أو غير معروفة.
صلاة الكسوف:
ثبت في كتب السنة عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن فيها ركوعين في كل ركعة.
عن جابر زيادة ثلاث ركوعات في كل ركعة وعليه يصبح ست ركوعات مع أربع سجدات في ركعتين.
وثبت حم. م – د – ن – عن ابن عباس أربع ركوعات في كل ركعة يصبح ثمان ركوعات في أربع سجدات والحديث في صحيح مسلم وتضعيف الألباني له مرود فهو في صحيح مسلم وحبيب بن أبي ثابت مدلس وقد روى عن طاووس. نقول المدلسون في الصحيحين عرف سماعهم لاشتراط أصحاب الصحيح ذلك والحديث ثابت في م يقول ضعيف وان أخرجه مسلم.
وثبت ما هو أكثر من ذلك.(81/29)
حم. د. ك – هق. عن أبي بن كعب خمس ركوعات في كل ركعة يصبح عشر ركوعات في ركعتين وأربع سجدات قال 6/199 شرح مسلم. قال بكل نوع من الأنواع بعض الصحابة وقد ذهب اسحاق بن راهويه والإمام الطبراني وابن المنذر إلى جواز هذه الكيفية والكيفيات كلها ركوع واحد هو قول الحنفية ركوعان وهو قول الجمهور – ثلاث ركوعات – أربع ركوعات – خمس ركوعات في كل ركعة قال النووي: وهذا قول قوي وهذا هو محض التحقيق والورع والإخلاص لله تعالى. روايات ثابتة لما بعد ذلك تأتي وتقول شذوذ ومخالفة وضعيف وترد كيفية صلاة التسابيح وإذا كان الحديث صحيح فهو حجة بنفسه. صلاة الجنازة على كيفية الصلاة المعروفة لا إذا صح الحديث فهو حجة بنفسه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً.(81/30)
الاستغاثة بغير الله
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستغاثة بغير الله
7/10/94
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا..
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير..
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم”فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين".
"يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوب غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاُ كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد:
معاشر الأخوة الكرام.. تقدم معنا البدعة شنيعة وخيمة في الإسلام وليتسبب عنها سوء خاتمة الإنسان وقد تدارسنا تعريفها فهي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن وذلك الحدث وذلك الأمر الحادث المخترع لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.(82/1)
إخوتي الكرام ولا زلنا في هذا المبحث الأول من مباحث البدعة وقلت عند هذا المبحث خل فريقان من الأنام: فريق أفرط وسع دائرة البدعة، وأدخل فيها ما ليس منها وقد مضى التحذير من هؤلاء بالمواعظ السابقة واتبعته بثلاث معالم ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ أولها: المشرع هو الله وحده لا شريك له ولهداية الإنسان كنان: 1) شرع قديم. 2) وعقل سليم.
وبينت بعد ذلك في المَعلم الثالث منزلة الاجتهاد في الإسلام. وسننتقل في هذه الموعظة إخوتي الكرام إلى الفرقة الثانية التي ضلت في تعريف البدعة حيث فركت كما أن تلك أفرطت منذ ألفت البدعة من الإسلام كُلاً أو بعضاً واخترعت في دين الله مالم يأذن به الله وزعمت أنها تتقرب بذلك إلى الله جل وعلا وسنتدارس أحوال هذه الفرقة لنحذر منها ولنُحذر الناس منها في هذه الموعظة وفي مواعظ بعدها.
إخوتي الكرام سنتدارس في هذه الموعظة تحريف المحرفين من أهل هذا الصنف الثاني اللذين ألغَوا البدعة في الدين سنتدارس تحريفهم فيما يتعلق بدعاء الله عز وجل والالتجاء إليه في السراء والضراء سبحانه وتعالى ولبيان تحريفهم لا بد من منزلة هذه العبادة ومكانتها في شرع الله المطهر ثم أُتبِّعها بعد ذلك بالبدع التي حصلت نحو هذه العبادة من اللجوء إلى غير الله.
إخوتي الكرام: إن الدعاء عبادة عظيمة لا ينبغي أن يصرفها الإنسان إلا لمن بيده مقادير الأمور وهو على كل شيء قدير، الذي خلقك وخلق كل شيء وهو الله العلي الكبير سبحانه وتعالى وقد أمرنا ربنا بذلك وأمرنا أن ندعوه وأن نلجأ إليه في جميع أحوالنا قال سبحانه وتعالى في سورة غافر: "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم..الآية. إن الذين يستكبرون عن عبادتي عن دعائي والالتجاء إليّ والتذلل في جميع أهوالهم سيدخلون جهنم داخرين.(82/2)
نعم إخوتي الكرام: إن الدعاء هو العبادة كما بين ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة والحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأدب المفرد وهو في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وفي شرح السنة للإمام البغوي وإسناده صحيح كالشمس من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدعاء هو العبادة ثم تلاه فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ربكم إدعوني أستجب لكم..الآية.
وروى في سنن الترمذي من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه وأرضاه وقال الترمذي هذا حديث غريب ويشهد له حديث النعمان بن بشير ولفظ حديث أنس رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدعاء مخ العبادة".
خُلاصتها وغايتها وسيأتينا إيضاح ذلك وتحقيقه فإن كان هذا السند ضعيفاً يشهد له ما تقدم ويوضحه ما سيأتي معنا من منزلة الدعاء في شريعة رب الأرض والسماء.
أمرنا الله أن ندعوه وأن نلجأ إليه سبحانه وتعالى في جميع أحوالنا فقال في سورة الأعراف الآية (55-56) ”ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين "تضرعاً" تذللن واستعانة فأنتم مربوبون للحي القيوم وخفية سراً إنه لا يحب المعدين اللذين يتجاوزن في الدعاء ويجهرون ويرفعون أصواتهم بالصياح.
ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً راغبين راهبين إن رحمة الله قريب من المحسنين.
والآيات في ذلك كثيرة وفيرة تحضنا على الدعاء وتأمرنا به بل أخبرنا ربنا جل وعلا أنه لولا دعائنا لربنا لما بال بنا ولعاجل عقابنا فقال جل وعلا في آخر سورة الفرقان”قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعائكم”ودعاء مصدر إما أن يكون مضاف هنا إلى الفاعل أي لولا دعائكم ربكم والتجائكم إليه في سرائركم وضرائكم لما بال بكم وعذبكم عذاباً أليماً.(82/3)
"قل ما يعبء بكم ربي لولا دعائكم" لولا دعائكم الله والتجائكم إليه فإذا أعرضتم عن دعائه واستكبرتم عن عبادته فسوف يكون العذاب لازماً حالاً بكم فقد كذبتم فسوف يكون لازماً وإما أن يكون المصدر مضافاً إلى المفعول والمعينان متلازمان لا ينفعك أحدهما عن الآخر لولا دعائكم فأنتم مدعون لا داعون. لولا دعاء الله لكم لتعبدوه ولتوحدوه سبحانه وتعالى لا يعبأ بكم ربي وليس لكم عنده أي شأن لولا أنه خلقكم لعبادته وتوحيده وتعظيمه سبحانه وتعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" الآية.
والأمران متلازمان لولا أن الله خلقنا لعبادته وأمرنا بتوحيده وامتثلنا وقمنا بما أراد الله منا لما بال بنا ولما كان لنا أي شأن عند سبحانه وتعالى”قل ما يعبؤا بكم ربي..”الآية لولا دعاء الله لكم لتوحدوه لولا دعاؤكم الله جل وعلا في جميع أحوالكم والتجائكم إليه في سرائكم وضرائكم”قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما”فالدعاء له شأن عظيم في شريعة الله الغراء.
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء".(82/4)
أعظم العبادات وأكرمها دعاء الله والالتجاء إليه في كل وقت في السراء والضراء "ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء" وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من أعرض عن هذه العبادة ولم يسأل ربه ولم يدعه فقد غضب الله عليه وسخط عليه وقد ثبت في المسند أيضاً وسنن الترمذي وابن ماجه والحديث في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري أيضاً ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والحاكم في مستدركه والبغوي في شرح السنة والإمام البزار في مسنده وإسناده صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال”من لم يسأل الله غضب غضب عليه ومن لم يدع الله يغضب عليه كلام نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا تقرير قول ذي الجلال والإكرام "قل ما يعبؤا بكم ربي"..الآية.
فأكرم شيء على الله الدعاء ومن أعرض عن هذه العبادات غضب عليه رب الأرض والسماوات.
إخوتي الكرام: أمرنا ربنا جل وعلا أن نلجأ إليه في جميع أحوالنا وأن ننزل حاجاتنا به سبحانه وتعالى فهو ربنا لا إله غيره ولا رب سواه.
وقد ثبت في سنن الترمذي وغيره بسند جيد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع”هذا الخيط الذي يربط به النعل سلهُ من ربك وسل كل صغيرة وكبيرة وفي سنن الترمذي عند هذه الرواية من مرسل ثابت بن أسلم البلاني عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله وحتى ملح عجينه".(82/5)
نعم ينبغي أن نسأل ربنا جل وعلا جميع أمورنا وإذا سألناه فلنجزم بالسؤال ولنُلح في طلب العطاء الله كريم لا يتعاظمه شيء سبحانه وتعالى ثبت في المسند والصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم إن شئت فاعطني ولكن ليعزم في المسألة فإن الله لا مكره له، فإن الله لا مكره له لا مضاد له ولا يستطيع أحد أن يكرهه وأن يعرضن فعله فعلى تقيد أنت إجابة دعائك على المشيئة إن شئت فاعطني، قل اللهم أعطني اللهم ارزقني اللهم أغفر لي وارحمني اجزم بذلك ولا تتردد ليعزم في المسألة ولا يقل اللهم إن شئت فأعطني فإن الله لا مكره له.
وثبت في الصحيحين أيضاً وفي سنن الترمذي وأبي داود والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال”إذا دعا أحدكم فلا يقولن اللهم ارحمني إن شئت اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارزقني إن شئت ولكن ليعزم المسألة، ليعزم المسألة فإن الله صانع ما شاء لا مكره له، وفي رواية فإن الله يفعل ما يشاء لا مستكره له. إذاً ينبغي أن ننزل جميع حاجاتنا بربنا وأن نلتجئ إليه في جميع أمورنا سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام:(82/6)
إن الدعاء له قسمان كما قرر ذلك أئمة الإسلام: القسم الأول: دعاء عبادة وهو تعظيم الله والثناء عليه والتعلق به واللهج بذكره دون أن تطلب حاجة من حاجات الدنيا الآخرة فهذا دعاء ولكن دعاء عبادة عندما تسبح وتهلل، عندما تذكر الله عندما تصلي عندما تقوم بأي عبادة أنت داعي ولكن دعائك دعاء عبادة كما قلت والإنسان عندما يلتجئ إلى الله بعبادة الله فهو سائل كما قال أئمتنا بالحال لا بالمقال لأن من عبد ذي العزة والجلال فكان لسان حاله يقول ربي أنت سيدي وأنا عبدك وأنا عبدتك وحدك لا شريك لك فيلزم من هذا أن تتولاني وأن تجعل لي من ضيق مخرجا ومن كل هم فرجا، وأن ترزقني من حيث لا أحتسب دعاء عبادة وهذا من العبادات العظيمة ومن أنواع الأدعية الجليلة الفخيمة.
وقد أشار إلى هذا النوع من العبادة نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه أهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وشرح السنة للإمام البغوي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله".(82/7)
والإنسان عندما يحمد الله يدعوا ربه دعاء عبادة وكما قلت دعاء العبادة فيه دعاء المسألة لكن عن طريق الحال لا عن طريق المقال وأفضل الدعاء الحمد لله ولما سأل سيد المسلمين أبو محمد سفيان بن عيينة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا عن هذا الحديث وعن ما يشبهه كيف أعتبر هذا الذكر أفضل أنواع الدعاء فانشد قول أمية بن أبي الصلت الذي يمدح فيه عبد الله بن جدعان وقد هلك في الجاهلية وتقدم معنا أنه كان يطعم الطعام وكان يصل الأرحام لكنه هلك في الجاهلية ولما سألت أمنا عائشة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عن عبد الله بن جدعان وأنه كان يطعم المساكين ويصل الرحم هل ينفعه ذلك عند الله فقال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في المسند وصحيح مسلم لا إنه لم يقل يوماً ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
وتقدم معنا هذا الحديث فيه مواعظ قريبة ماضية إذاً لما سُئل سيد المسلمين أبو محمد سفيان بن عيينة عن هذا الحديث وعما يشبهه كيف اعتبر هذا من الدعاء”أفضل الدعاء الحمد لله أنشد قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان قال:
أأذكر حاجتي ام قد كفاني ... حبائك إن شيمتك الحباءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناءُ
حبائك: عطائك وكرمك وجدك إن شيمتك الحباءُ، إذا جاء أحد يثني على عبد الله بن جدعان فيكفيه الثناء عن السؤال فهذا الثناء يبرر قضاء حاجته عند هذا الكريم الجواد الذي هو بشر من الخلق فكيف بالكريم الجواد، بالخالق سبحانه وتعالى وأفضل الدعاء الحمد لله وافضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله هذا دعاء كما قلت دعاء عبادة والإنسان يسأل بحاله لا بمقاله.(82/8)
الدعاء الثاني: دعاء مسألة وهو أن تسأل ربك بلسانك قضاء حوائجك وأن تطلب منه الخيرات في العاجل والآجل في الدنيا وفي الآخرة هذا دعاء مسألة وقد أمرنا الله به، كما أمرنا أيضاً بدعاء العبادة سبحانه وتعالى أمرنا أن نسأله فقال جل وعلا كما في سورة النساء”ولا تتمنوا ما فضل الله به ... وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما”الآية32 وقد ثبت في سنن الترمذي ومعجم الطبراني الكبير بسند حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسئل وأعظم العبادة انتظار الفرج، وسلوا الله من فضله فإن الله كان بكل شيء عليما".
إخوتي الكرام:
إن الله يحب أن يسئل كما تقدم معنا من ترك له سؤاله فقد غضب الله عليه وما ذلك إلا لأن هذا السؤال، لأن هذا الدعاء هو العبادة بل مخ العبادة وروحها وغايتها وغاية العبادة تعظيم الله جل وعلا هذا حصل في الدعاء المراد من العبادة أن يتذلل المخلوق لخالقه وهذا موجود في الدعاء، إن الإنسان عندما يدع ربه يتعرض لنفحات الله فهذا الدعاء مفتاح لقضاء الحوائج والله كريم يحب أن يجود ويحب أن تعطي فبالدعاء تعظم الله وبالدعاء نتذلل لله وبالدعاء نتعرض لنفحات الله ولذلك كان الدعاء هو العبادة وكان الدعاء مخ العبادة.
نعم إخوتي الكرام: إن الدعاء فيه تعظيم عظيم لربنا العظيم سبحانه وتعالى وكيف لأن من يسأل ومن يدعوا يدعُ موجود ولا يدعُ مفقود فأنت عندما تسأل الله تقر بوجوده سبحانه وتعالى وأنه هو خالق كل شيء وربه ومليكه وعندما تسأل الله تقر بغناه فالإنسان لا يسأل فقيراً معدوماً وعندما تسأل الله تقر بكرمه فالإنسان لا يسأل بخيل شحيح وعندما تسأل الله تقر بثبوت السمع له فهو يسمعك سبحانه وتعالى من سمعه الأصوات سبحانه وتعالى عندما تسأل الله تقر أيضاً برحمة الله جل وعلا ورأفته ورحمته فهو الذي يعطف عليك ويحسن إليك ويجيب سؤالك.(82/9)
وعندما تسأل الله تقر بقدرة الله جل وعلا فهو قادر على أن يصرف عنك السوء وأن يجلب إليك الخيرات والبركات هو رب الأرض والسموات في الدعاء تعظيم الله في الدعاء تذلل لله هذا الدعاء مفتاح الحوائج فينبغي أن نكثر منه.
إخوتي الكرام:
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن تعرف هاتين العبادتين: دعاء العبادة ودعاء المسألة لمن يستحقها وهو الله الذي بيده مقاليد كل شيء وهو الله الذي خلق كل شيء أما العبادة فلا يجوز أن يعرف لغير ربنا”فمن يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد”إن العبادة من مقتضى الألوهية، ألوهية الله جل وعلا فإن كان الله إلهاً ينبغي أن يُعبد وحده لا شريك له وأما الدعاء والمسألة فينبغي أن تعرف إلى الله "الذي بيده مقاليد كل الأمور وهو على كل شيء قدير وهذا من مقتضى ربوبيته" إياك نعبد وإياك نستعين فنستعين بالله ونلجأ إليه بسؤالنا ودعائنا وقضاء حاجاتنا ونعبده وحده لا شريك له والدين كله تحت لفظ الدعاء من دعاء العبادة ودعاء المسألة "إياك نعبد وإياك نستعين".
نعم لا نصرف سؤالنا إلى غير ربنا كما نصرف عبادتنا لغير ربنا وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من أن نعرف شيء من الدعاء إلى غير رب الأرض والسماء وأمرنا أن نلجأ إلى الله جل وعلا في جميع الأحوال في السراء والضراء.
ثبت في المسند وسنن الترمذي والحديث رواه ابن حبان في المستدرك والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة ورواه الإمام الطبراني في مسنده وأبو يعلى في مسنده والحديث رواه أبي عاصم في السنة ورواه الإمام أبو نعيم في دلائل النبوة وهو صحيح وإسناده ثابت كثبوت الشمس في رابعة النهار من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا غلام إني أعلمك بكلمات ... .الحديث.(82/10)
نعم إخوتي الكرام: إن المخلوق إذا أنزل حاجته لمخلوق، إن المخلوق إذا سأل مخلوق فقد خرج عن صراط الله المستقيم وسؤاله هذا له عدة أحوال: الحالة الأولى سؤال المخلوق مخلوقاً يكون تارة شركاً يخرجه من الملة وهو من الكافرين المخلدين في نار الجحيم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ويكون إذا التجأ مخلوق إلى مخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله فطلب من مخلوق أن ينزل الغيث وطلب من المخلوق أن يرزق زوجته ولداً ذكراً وطلب من المخلوق أن ينجيه من النار وطلب من المخلوق أن يؤجل عنه الموت إذا حضر وطلب، وطلب كل هذا كما قلت سؤال غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فيما هو من خصائص الله إن هذا يعتبر تركاً بالله جل وعلا.
وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا في كتابه في آخر سورة يونس فقال: "ولا تدعو من دون الله ... الآية" فإنك إذا من الظالمين: والمراد بالظلم هنا الشرك إن الشرك لظلم عظيم ولا تدعو من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ولا تدعه في كشف ضر وكرب لايمكن أن يكشفه إلا الله ولا تدعوا من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يرك بخير فلا راد لفضله ... .(82/11)
وقد أشار ربنا جل وعلا إلى حماقة وتفاهة من يلجأ إلى غير الله ويدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فأخبر أن من يدعو من دون الله من الملائكة والنبيين والصالحين إن هؤلاء ينافسون في طاعة رب العالمين ولا يملك كل واحد منهم لنفسه نفعاً ولا ضراً إنما هم في قبضة رب العالمين يقول الله جل وعلا مقرراً هذه الحقيقة في سورة الإسراء”قل ادعو الذين زعمتم من دونه..الخ أولئك الذين يدعون يعبدهم الخلق من دون الحي القيوم هؤلاء الذين يعبدونهم من أهالي البشر ومن الملائكة الأطهار على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله وملائكته صلواته وسلامه هؤلاء الذين تعبدون من دون الله لصلاحهم هم يعبدون الله ويتنافسون الحضوة لديه وحصول المنزلة عنده سبحانه وتعالى "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة..الآية".
والآية نازلة في فريق من الإنس كانوا يعبدون فريق من الإنس كانوا يعبدون فريق من الجن في الجاهلية فلما بُعث نبينا خير البرية عليه صلاة الله وسلامه أمن أولئك الجن فبقي الإنس على عبادتهم فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بمسلكهم ويذم فعلهم.
كما ثبت في صحيح البخاري ومستدرك الحاكم والأثر كما قلت في صحيح البخاري وهو في تفسير الطبري وسنن سعيد بن منصور ومصنف ابن أبي شيبة وراه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في تفسيره وابن مردوية في تفسيره وهو في معجم الطبراني الكبير ودلائل النبوة للإمام البيهقي وكما قلت إن الحديث في صحيح البخاري فهو صحيحٌ صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها فقال أولئك الفريق يدعون ... الآية.(82/12)
خلاصة الكلام أن من لجأ إلى إنسان في دفع ضر لا يقدر عليه إلا الرحمن لجأ إلى إنسان في جلب نفع لا يقدر عليه إلا الرحمن وليس هذا في وسع الإنسان فطلب منه ما ليس في وسعه ولم يجعل الله للبشر قدرة عليه من لجأ إليه في ذلك فقد أشرك بالله، لجأ إليه في مغفرة دنب في إنزال غيث في إخراجه من النار في، في..من لجأ إلى مخلوق في ذلك فقد حرف حق الخالق إلى المخلوق وأشرك بالله جل وعلا وهذا النوع الأول من أنواع سؤال المخلوق.
النوع الثاني: أن يسأل المخلوق في إمكان المخلوق أن يفضي حاجته وذلك المطلوب فيما هو في وسعه ومما أقدره الله على فعله فما حكم السؤال في هذا الحالة لذلك حالتان إخوتي الكرام الحالة الأولى: أن تلجأ إلى مخلوق فيما يقدر عليه مما أمرت باللجوء إليه وأمر هو أيضاً بأن يقضي حاجتك فهذا اللجوء محمود وإن كان في ظاهرة الذل ولكنه محمود وأمرنا به وهذا يكون في حالة واحدة إذا لجأت إلى مخلوق تطلب منه نفعاً فيما يتعلق بأمر الآخرة ليرشدك إلى علم نافع تعبد به ربك على بصيره فعندما تسأل أهل الذكر عن أمور الحلال الحرام هذا السؤال قد سأل المخلوق مخلوق والسؤال ذل ولو إلى أين الطريق لكن هذا الذل ينتج عنه العز ولا خير عليك في سؤال هذا المخلوق وليس هذا من باب الذل لذلك المسؤول عندما يجيب ولا يتضرر ولا ينقص ما عنده فأنت لا تضجره ولا تلح عليه بذلك ولا تؤذيه بل إنك تنفعه عن طريق تحصيل الأجر وعن طريق تثبيت العلم في نفسه فالمال ينقص بالإنفاق والعلم يزكوا بالإنفاق وعليه لا معرة ولا مفرة عليك في هذا السؤال بل أمرنا به وهذا ما أجمع عليه أئمتنا ونص عليه ربنا في كتابه فقال سبحانه: "فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".(82/13)
وثبت في المسند والسنن الأربعة ومستدرك الحاكم من رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار والحديث صحيح وروى من طريق متعددة عن عدة من الصحابة الكرام رواه الإمام ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري ورواه الحاكم عن عبد الله بن عمرو ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وغيره من طريق عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سُئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار. هذا سؤال المخلوق مخلوقاً لا مضرة فيه عند المسؤول ولا ينقص ما عند المسؤول وأنت أمرت بهذا السؤال فهذا مما يقدر عليه المسؤول ومما أمرت به أن تفعله ولا خير عليك في فعله بل أنت تثاب على القيام به، فهذا مما يقدر عليه المخلوق ولا يتضرر به المسؤول فينبغي أن نقوم به وأن نسأل أهل الذكر كما أمرنا ربنا جل وعلا سؤال المخلوق مخلوقاً فيما يقدر عليه ولا يتضرر بالإجابة عليه ولا يتضرر بقضاء حاجته السائل ولا ينقص المسؤول ما عنده فسئل فأنت تتسبب في تحصيل الخير لك وللمسؤول وعلمه بعد ذلك يتثبت عندما يجيب مع ما يحصل له من الأجر عند الله القريب المجيب.
الأمر الثاني: أن يسأل المخلوق مخلوقاً فيما يقدر عليه لكن المسؤول يتضرر لأنه سيُخرج ما عنده وما بين يديه وهذا يكون في الأمور الدنيوية فالسؤال في هذه الحالة له حالتان:
1) أن تسأل مخلوقاً مثلك عرضا من عروض الدنيا ومتاعاً من متاعها وشيء من حاجتها وأنت في غنى وفي كفاية وفي ستر وفي صيانة فهذا السؤال حرام وإن لم يكن شرك بالرحمن لكنه حرام، حرام وسيأتي يوم القيامة وليس في وجهه نزعة لحم إذا سألت وعندك ما يكفيك كما أجبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.(82/14)
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان صحيح ابن خزيمة من رواية سهل بن الربيع الحنضلية من الأنصار الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين والحديث صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من جمر جهنم فقال الصحابة الكرام يا رسول الله وما يغنيه ما المقدار الذي لا يجوز أن يسأل إذا كان عنده ذلك المقدار قال قدر ما يفديه ويُعشيه. فإذا ملكت غذائك وعشائك فلا يجوز أن تسأل غير الله شيء يتضرر المسؤول عنه وإذا سألت فإنما تستكثر من جمر جهنم هل تملك حياتك إلى الغد يا عبد الله؟ عندك ما يغديك، عندك ما يعشيك احمد الله، ورزق غداً سيأتي به رب الغد سبحانه وتعالى وهو رب الزمن الماضي والمستقبل والحاضر ورب كل شيء.(82/15)
وثبت في الصحيح وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه نزعة لحم أي قطعة لحم يحشر يوم القيامة عظاما لا يكسى وجهه بجلد ولا بلحم من أجل أن يفتضح ويظهر قلة حياءه أمام العباد عندما أراق ماء وجهه إلى مخلوق مثله وأنزل حاجته بهذا العبد الضعيف ولم ينزل حاجته بالله الغني اللطيف سبحانه وتعالى. الحالة الثانية: أن يسأل المخلوق مخلوقاً في وسع ذلك المخلوق قضاء حاجته كما قلت والمسؤول ينقص ما عنده عندما يخرج ما بين يديه لكن السائل بحاجة فإذا ما سئل سيهلك ويتلف ويعطب فيباح له السؤال وتركه أولى ليموت ولا يسأل مخلوق فهذا أعزله في الدنيا وفي الآخرة لكن إن سأل في هذه الحالة وما عنده كسرة خبز يسد بها جوعته فهل يباح له السؤال وليس عنده ما يغديه ولا ما يعشيه لكن لو صبر حتى مات وما أراق ماء وجهه لغير ربه لكان أعز له في الدنيا والآخرة إنه إذا صبر في هذه الحالة فهو خير له لماذا لأن وصف السؤال مذموم إلا في الحالة الأولى التي تقدمت معنا أن تسأل مخلوق لا يتضرر في إعطاء سؤالك ولا ينقص ما عنده وقد أمر بأن يجيبك وقد أمرت أن تسأل فيما يتعلق بالإرشاد لأمر الآخرة وأما في أمر الدنيا فهذا في الحقيقة فيه امتهان للإنسان لا ينبغي أن يسلكه لثلاثة أمور كما قررها أئمتنا الكرام أنظروها في مدارج السالكين للإمام ابن القيم المجلد الثاني ص232 فما بعده وأنظروها في فتاوي ابن تيمية الجزء الأول ص92 فما بعده ونعم ما قالاه وهذا الذي يقرره أئمة الإسلام سؤال المخلوق مخلوقاً مع حالة الاحتياج مباح وتركه أولى لثلاثة أمور:(82/16)
الأمر الأول: أنت عندما تسأل مخلوق مثلك تعتدي على حق الله جل وعلا فالله أمرنا أن نسأله وتقدم معنا ما في السؤال من معنى يدل على أنه موجود، يدل على أنه غني يدل على أنه كريم على أنه سميع على أنه رحيم على أنه سبحانه وتعالى كريم قادر هذه كلها المعاني لا يجوز أن تعرف لغير الله، فينبغي أن ينزل المخلوق حاجاته بخالقه فإذا سألت مخلوق مثلك اعتديت على حق الله جل وعلا لكن بما أنه رخص لك السؤال فلا إثم عليك لكن ترك هذا أولى.
الأمر الثاني: اعتديت على هذا المسؤول من المخلوقين لأن ما يملكه المخلوق عزيز عنده ومحبوب لديه وأنت تريد أن تنزع هذا من بين يديه فقد أضجرته وآيته بسؤالك وأما أن يعطيك فيتضرر بخروج ما عنده وأما أن يعتذر فيقع في يوم العتاب وأنت أضجرت المخلوق فهذا فيه ظلم لهذا المخلوق وأنت أيضاً امتهنت نفسك ودسستها عندما سألت مخلوق لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراء فكيف لجأت إلى غير الله الذي بيده خزائن السماوات والأرض كيف لجأت إلى غير هذا الغني الكريم الوهاب سبحانه وتعالى لكن كما قلت إذا سأل في هذه الحالة إذا سأل فلا حرج إذ أن سؤال المخلوق مخلوقاً له هذه الأحوال على التفصيل تنقسم إلى أربعة أمور:
الأمر الأول: أن يسأل المخلوق مخلوقاً فيما لا يقدر عليه إلا الخالق هذا شرك وخروج من حضيرة الإسلام.
الأمر الثاني: أن يسأل المخلوق مخلوقاً فيما يقدر عليه المخلوق ولا يتضرر المسؤول في إجابة السائل وهذا يكون كما قلت في تعليم العلم فهذا محمود ومطلوب من السائل والمسؤول أن يشتركا في هذا الأمر.
الأمر الثالث: أن يسأل المخلوق مخلوقاً مثله فيما يقدر عليه ولكنه في غنى عن سؤاله فهذا حرام وإن لم يكن شركاً بالرحمن.(82/17)
الأمر الرابع: أن يسأل المخلوق مخلوقاً فيما يقدر عليه لكنه بحاجة لسؤاله فيباح له السؤال والتعفف أولى وهذا ما كان يرشد إليه نبينا صلى الله عليه وسلم ويعلمه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي والحديث كما قلت في صحيح مسلم من رواية عوف ابن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال:”بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن ستة أو سبعة أو ثمانية وفي رواية المسند وفي صحيح مسلم ونحن سبعة أو ثمانية أو تسعة بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال في نفس المجلس ألا تبايعون؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله فقال ألا تبايعون الثانية قلنا قلنا قد بايعناك يا رسول الله على ما نبايعك قال ألا تبايعون الثالثة قال فمددنا أيدينا وقلنا نبايعك يا رسول الله على ماذا قال على أن تعبدوا الله وحده لا شريك له (يقرر أمر البيعة الثانية) وأن وأسر كلما قالها حفية من أجل ينبهوا لها ولمدلولها ولأثرها وأسر كلمة فقال وأن لا تسألوا الناس شيئاً قال عوف ابن مالك فلقد رأيت أولئك النفر سقط السوط من أحدهم من يده فلا يقول لصاحبه ناولني إياه لا يقول ناولنيه. فإذا أخذ أحد ذلك السوط وناوله لمن سقط منهلا يأخذه منه حتى يضعه في الأرض فيأخذه مرة ثانية لأجل أن لا يستعين أحداً بغير الله جل وعلا وألا تسألوا الناس شيئاً.(82/18)
وثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك أبي عبد الله الحاكم والحديث في السنن الأربعة إلا سنن الترمذي من رواية ثوبان مولى نبينا وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال من يقبل لي بواحدة أقبل له بالجنة وفي رواية من يتكفل لي بواحدة أتكفل له بالجنة ويقبل من القَبَالة والقُبالة بضم القاف وفتحها بمعنى الكفالة فعليه الرواية الأولى بمعنى الثانية من يكفل لي بخصلة أتكفل له بالجنة قال ثوبان أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تسأل الناس شيئاً انتبه لهذه الخصلة فما سئل ثوبان أحداً بعد هذا الكلام من نبينا عليه الصلاة والسلام حتى كان إذا سقط صوته لا يقول لأقرب الناس إليه ناولنيه.(82/19)
وثبت في مسند الإمام أحمد عن ابن أبي مليكة تقدم معنا حالة في مواعظ سابقة وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ثقة. ثبت إمام عدل صالح ورع عابد توفي سنة 118هـ يقول ابن أبي مليكة كان أبو بكر رضي الله عنه على ناقته فانفلت خطام الناقة من يده فأناخ الناقة ونزل فأخذه الخطام فقال له الصحابة الكرام هلا أمرتنا يا خليفة رسول الله أن تناولك هذا الخطام قال إن حبي إن خليلي يعني نبينا صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أسأل الناس شيئاً والأثر كما قال الإمام الهيثمي في المجمع رجاله ثقات أثبات لكن ابن أبي مليكة لم يدرك أبا بكر الصديق وأدرك غيره من الصحابة كما قلت أدرك ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت هذا المعنى في المسند بسند جيد رجاله ثقات عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن لا يسأل الناس شيئاً فكان إذا سقط السوط من يده لا يقول لصاحبه ناولنيه. إذاً فهناك جماعة بويعوا وهذا ثوبان وهذا أبو بكر وهذا أبو ذر كلهم يأخذ عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم العهد ألا تسألوا الناس شيئاً وأن احتاجوا فالصبر أنفع للإنسان في العاجل والآجل ولو أنه مات كان ماذا لو أن إنسان نزل به الضر ثم ما سأل بعد ذلك حتى مات كان ماذا ولا شيء عليه ولا حرج. نعم إذا كان عنده طعام وامتنع عن أكله دخل النار لكن ليس عنده طعام ولا يريد أن يريق ماء وجهه ولا يريد أن يتذلل لغير ربه قال أصبر حتى أموت، نعم مافعل وهذا خير له في الدنيا والآخرة.(82/20)
إخوتي الكرام: هذا هو منزلة الدعاء وهذا هو شأن هذه العبادة في الإسلام وكما قلت عند النوع الأول صرف عبادة الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله إلى مخلوق صرف هذا يعتبر شركاً بعد هذا ينبغي أن نعود إلى تحريف المحرفين وهوس المهوسين في هذا الحين الذين ألغو البدعة من الدين وعبدوا الله على آرائهم وهم يعبدون أنفسهم والشياطين ويزعمون أنهم يعبدون رب العالمين يقول هذا الفريق الذي انتشر في هذا الوقت في أمكنة كثيرة إن الصالحين لهم شأن عظيم عند رب العالمين في حال حياتهم وفي حال موتهم ولا نزاع في هذا الأمر ولكن أنظر لتلبس الشيطان عليهم وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نلجأ إليهم في قضاء الحاجات ودفع الكربات وإنجاب الأولاد وإنزال الغيث وغير ذلك سواء كانوا في حال الحياة أو في حال الممات بل تقول بعض هؤلاء السفهاء من المنحرفين إن اللجوء إلى الأموات هذا أعظم حتى من اللجوء إلى الحي لأن الميت صار لروحه سلطان مطلق ثم زوّار وما شاء لهم الشيطان وزين لهم أن يُزوّرو. وبسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا روي في الحديث وفي الأثر "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور" وهذا بلا شك من كلام أهل الزيغ والضلال والثبور وهذا كلام كذب وزور ولم يقله رسول الله الطيب المبرور إنما الحق المزبور أن يقال إذا أعيتكم الأمور فالجأوا إلى العزيز الغفور الذي بيده مقاليد الأمور.
وقال بعض هؤلاء السفهاء ممن ينسبون أنفسهم إلى الصوفية: "قال الناس يلجأون إلى الحي وأنا ألجأ إلى الميت وإذا خذلك الله ولعنك وغضب عليك كان ماذا!! وهل أنت حجة في دين الله وعلى عباده وألجأ إلى الأموات لأن هؤلاء لهم تصرف وأرواحهم سلطان مطلق وقال من ينتمي إلى هذا الأمر".(82/21)
عبد القادر يا جيلاني..يا متصرف في الأكواني..أنا جيتك لا تنساني. أما الشيخ عبد القادر والله نتبرك بذكر اسمه ونتقرب إلى الله جل وعلا بحبه نسأل الله أن يشفعه فينا يوم الدين وأن يجمعنا معه وعبادة الصالحين فهو شيخ الإسلام وسنتكلم في هذا فيما بعد إنما نقول لهؤلاء الغوغاء من مخرفي الصوفية ولا أعني أن كل من ينتسب إلى التصوف كذلك ففيهم صالحون سابقون مقربون وفيهم مقتصدون ينتسب إلى التصوف كذلك ففيهم صالحون سابقون مقربون وفيهم مقتصدون ينتسب إلى التصوف كذلك ففيهم صالحون سابقون مقربون وفيهم مقتصدون على الطريق الميمون فيهم ظالم لنفسه عاصٍ لربه انتسب إليهم أناس من أهل البدع والزندقة والإلحاد فينبغي أن نضع كل واحد في موضعه. إن الشيخ عبد القادر الذي توفي سنة561هـ من سيد في الإسلام بلا نزاع.(82/22)
ويكفي أن ابن قدامة يقول إن الشيخ عبد القادر يكفي طالب العلم من قصد غيره مما اجتمع عنده من العلوم وسأذكر شيء من أحوال هذا العبد الصالح لكن إذا كان هذا العبد صالحاً تقياً ولياً لا يجوز أن نجعله نداً لله ولا يجوز أن نُشرك بينه وبين الله لله حق إياك أن تصرفه إلى غيره ولأنبياء الله حق إياك أن تصرفه إلى غيرهم ولأولياء الله الصالحين حتى نعطى كل ذي حق حقه. السؤال فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يُصرف إلا إلى الله أما عبد القادر يا جيلاني ... يا متصرف في الأكوان ... من الذي صرفه في الأكوان من..الله يقول لخير رسله محمد ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون. فلا بد من بيان مرحلة ومكانة الربوبية والألوهية ومنزلة النبوة ومنزلة الولاية وأن لا نصرف حق واحد من هؤلاء لغيره. أنا جيتك لا تنساني يا عبد الله هلا قلت يا رب العالمين أنا عبدك أسألك أن تفرج كربي وأن تقضي حاجتي وهكذا ما يقال أيضاً في حق الشيخ الصالح أحمد الرفاعي وهو شيخ صالح نتقرب إلى الله بحبه وقد توفي سنة578هـ بع الشيخ المبارك شيخ الإسلام عبد القادر بقرابة 16سنة وهو من شيوخ الإسلام. لكن الغلو فيه من قِبل من ينسب إليه حرام في الدين وشرك رب العالمين وعليه مايعد له هؤلاء المهوسون مدد مدد يا رفاعي ثم بعد ذلك يقول راع المدد يا أحمد..حين الطلب لبيّني ومن هذا الكلام. اتق الله أيها الإنسان الشيخ أحمد الرفاعي سيحدك ويراعي المدد ولا يغفل عنك ويلبيك حين طلبك هلا لجأت إلى الله من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
إخوتي الكرام:(82/23)
لابد من وضع الأمر في موضعه فالجأوا إلى هذا العبد الصالح وإلى ذاك أو إلى غيرهم وطلب المدد منهم وطلب تفريج الكروب منهم شرك بالله وخروج من دين الله لا بد من وضع الأمر في موضعه كنت مرة في بلاد مصر فضاقت عليّ بعض الأمور فجاءني بعض أهل الزيغ والثبور وإذا رأيته تقول لعله بشرا كحافي أو سفيان الثوري قال أنا أرشدك إلى طريق الفرج قلت وما هو قال تذهب إلى قبر الحسين الذي هو في مصر وما الذي أخذ الحسين إلى مصر إذ قتل في كربلاء وأخذ رأسه إلى بلاد الشام وقيل أعيد بعد ذلك ودفن في البقيع الطاهر المبارك فما الذي أخذه إلى مصر والقاهرة كلها ما وجدت إلا في القرن الثالث الهجري ما كان هناك شيء يسمى القاهرة كل هذا مما حصل وبني بعد ذلك فما الذي أخذ سيدنا الحسين إلى هناك. وعلى التسليم بأنه هناك هل يجوز أن تطوف بقبره وأن تلجأ إليه في كشف ضرنا وقضاء حاجاتنا هل يجوز؟ قال تذهب إلى قبر الحسين وتطوف سبع سبعات يعني 49 شوط هذا لازم وتكرر في طوافك. من أمكم في حاجة فيكم جُبر ... .ومن تكونوا ناصريه ينتصر وقل لا نتهي من الأشواط إلا تقضي حاجتك.
إخوتي الكرام:(82/24)
المعتمد أن الذي في ذلك المكان وهو في المشهد الحسيني قبر يهودي وتلك الحارة يقال لها الآن حارة اليهود والدولة الفاطمية الملحدة المجوسية اليهودية تنبت ذلك المشهد على غير يهودي ثم قالت هذا قبر الحسين. لكن على التسليم أنه هناك هل يجوز أن نلجأ إليه في كشف الضر، هو الله رب العالمين قلت يا عبد الله قل ما حدث في مشكلة مادية لا يراد منها إلا منفعة دنيوية في موضوع شهادات ومناقشات وما شابه هذا. يا عبد الله يعني كون الإنسان لجأ إلى مخلوق من أجل قضاء هذه الحاجة الدنيوية يعني لكان ذلك مذلة فكيف بعد ذلك تلجأ إلى ميت تطلب منه تفريج هذا الكرب وتستغيث به في قضاء هذه الحاجة يا عبد الله أنت ما عندك دين يردعك تريد مني أن أشرك بالله فما كان منه إلا أن قال أنتم لا تحبون الأولياء أنتم لا تسلمون بكرامات الأولياء فقلت له والله لا يقر ويعترف بكرامات الأولياء إلا أهل السنة الكرام أما الحب فحقيقة نحبهم لكن نقصر في حبهم تقصيراً لا يعلمه إلا الله أما غنا لا نحب ولا نقر بكراماتهم هذا افتراء وليس هذا من حبهم والإقرار بكراماتهم أن نطوف بالقبر وأن نلجأ إليه في كشف الضر إن هذا لا يجوز يا عبد الله اتق الله في نفسك.(82/25)
إخوتي الكرام: وقد اشتط بعض المتأخرين من الصوفية شططا لعلهم ساروا فيه شطط النصرانية إن لم يزيدوا فقالوا يوجد هناك دولة حنفية محمدية كما يوجد دولة ظاهرة إسلامية فعندنا خليفة ظاهري وهو السلطان والإمام وعندنا خليفة خفي وهو القطب والغوث وهذا القطب والغوث خليفة الله جل وعلا وإن أردت أن تذكر ما يساويه عند النصارى فهو (البابا تمن أو تمام) هذا القطب أو الغوث مسكنة مكة أو اليمن. يخرفون فكل واحد يقول ما شاء يقول وله بعد ذلك أربعة هؤلاء الأربعة هم أوتاد في كل زاوية من زوايا الأرض واحد وله بعد ذلك ثلاثون يقال لهم أبدال. يتبدلون من حال إلى حال ومن ذكورة إلى أنوثة ومن وجوده في قطر إلى وجوده في بلاد الشام إلى الصين إلى الهند في لمح البصر يتبدل إبدال ثلاثون وبعد ذلك يلي هؤلاء خمسمائة هم أفراد الدائرة هؤلاء الخمسمائة وثلاثون وأربعة هؤلاء يجتمعون في الصلوات الخمس في غار حراء ويصلي فيهم القطب الغوث الذي هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم خلافة كاملة فإذا حان وقت الصلاة تطاير هؤلاء من أرجاء الأرض وصلى بهم هذا القطب الغوث في غار حراء وإذا سأل العباد ربهم حاجة من الحوائج تُرفع إلى الخمسمائة فإن رأو فيها صلاحاً رفعوها إلى الثلاثين فإن رأو فيها صلاحاً رفعوها إلى السبعة فإن رأو فيها صلاحاً رفعوها إلى الأربعة فإني رأو فيها صلاحاً رفعوها إلى القطب الغوث فلا يحرك الغوث القطب رأسه حتى تقضي حاجة العباد نعوذ بالله من هذا الضلال ومن الذي نص على هذه الوسائط بيننا وبين من هو أقرب إلينا من أرواحنا التي تسري في ذراتنا سبحانه هو معنا حيثما كنا هل يحتاج إلى خمسمائة ينوبون عنه يوصلون إلى الثلاثين إلى سبعة إلى أربعة إلى الواحد. أمر العباد موقوف على هذا الواحد.(82/26)
إخوتي الكرام: وهذه المصطلحات الباطلة من القطب والغوث ومن الأوتاد ومن الإبدال ومنهم أفراد الدائرة وهم الذين يسمونهم بالأفراد والنجباء كل هذا لم يرد له ذكر في شريعة ربنا شريعة الله المطهرة إلا لفظ الإبدال لكن على غير المفهوم عند هؤلاء الضُلال وسأذكر إن شاء الله ما يتعلق بلفظ البدل وما المراد منه لأنه وردت الإشارة إلى الإبدال في الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أبين هذا بعون الله في الموعظة الآتية وأُكمل خطوات البحث إن أحيانا الله نسأل الله إن أحيانا أن يُحيينا على الإسلام وإن أماتنا أن يُمتنا على الإيمان إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله. الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير خلقه اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله إننا نعيش في زمن غربة نشكو فيه حالنا إلى ربنا جل وعلا إذا كان العبد الصالح شيخ الإسلام يونس بن عبيد صاحب الدعاء المستجاب الذي توفي سنة139هـ من رجال الكتب الستة.(82/27)
إذا كان هذا العبد يقول والله لو أدرك الصالحين فينا لقال الصالحون الذي هم قبلنا عن الصالحين الذين في القرن الثاني لقالا ما عند هؤلاء من الخلاف يقول ولو أدركوا شرارنا لقالوا إنهم لا يؤمنون بيوم الحساب فماذا يقول يونس بن عبيد لو رأى من ينتسب إلى الصلاح منا ومن يعترف بالشر فينا إذا كان الصالح في زمانهم إذا رأي الصالح المتقدم في زمن الصحابة يقول هذا ما عنده من خلاق والشرير يقولون هذا لا يؤمن بيوم الحساب يقول هذا العبد الصالح في القرن الثاني يقول في زمن من عرف السنة إذا عرفته بها فهو غريب يجهل السنة بجهل الحق يجهل الهدى إذا عرفته به فعرفه فهو غريب لكن هذا الغريب فمن الأغرب يقول الأغرب منه الذي يدعوا إلى السنة وحقيقة من تأمل أحوال الناس وإلى الله نشكو أمورنا من تأمل أحوالنا يرى وضع الناس وأهوائهم فإذا تكلمت عن قضية من القضايا وهي حق وما راقت لذاك الإنسان يولي ويعرض وتتكلم بعد ذلك بلسانه ولا يراقب ربه وإذا تكلمت عن قضية أخرى ما راقت لصنف آخر لاختلاف المشرب عاملك كمعاملة الأول وولاي واعرض وتكلم كلاماً أشنع من كلام الأول وكأن دين الله ينبغي أن يتبع الهوى هوى فلان وفلان. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.(82/28)
كنت مرة في بلاد الشام وجرى بيني وبين بعض الإخوة الكرام كلام في قضية من القضايا وظاهرة من أهل الخير وممن له شأن وكما قال يحمل الشهادات التي هي في أرفع المستويات يحكي لي قصة وقال أنا على يقين أنك لن تؤمن بها قلت وما هي قال أنا على علم أنك لن تقر بكرامات الأولياء قلت لعنة الله على من ينكر كرامات الأولياء لكن حدد لي الأمر الذي ستذكره هل هو كرامة أم افتراء. فحكى لي القصة إن لم تكن مكذوبة ففيها تأويل ثاني أذكره بعد سردها خلاصتها يقول كان بعض الناس يقود باص يسع 60 راكب وزيادة يقول وهو نازل في منحدر من جبل مرتفع إلى الوادي وما بقي في السيارة فرامل وبدأت السيارة تهوي كالريح فبدأ ينادي يا رب يا الله يا حي يا ستار قال فما أجابه قال بعد ذلك يا شيخ عبد القادر أنا في حماك يا شيخ أنا في جدارك يا شيخ عبد القادر أغثني يا شيخ عبد القادر يا سيخ عبد القادر خلصني قال فأُمسك الأوتوبيس (الباص) فوقف قال انظروا إلى كرامات الأولياء.(82/29)
قلت كيف تقول هناك لجأت إلى الله فما أجابك قال نعم لا ينبغي أن يلجأ كل واحد منا إلى الله ليس لأن الله لا يجيب ولكن هناك طرق ينبغي أن نلجأ إلى الله عن طريق الطرق التي شرعها وسمعت شريط عندي وهو لبعض الضالين من بعض الأماكن المجاورة هنا وهو مسؤول عن المساجد في بعض الأماكن يقول في هذا الشريط في تفسير قول الله في بيت من بيوت الله”إذا سألك عبادي عني فإني قريب”فليستجيبوا بدعاء أوليائي فليدعوني ولا يقولون يا عبد القادر نعوذ بالله من هذا الافتراء ومن هذا الكفر الذي زاد عن كفر المشركين نعوذ بالله من هذا الظلال ومن هذا العمى وهذا قلت كيف هنا ترك الله وما أجابه الله ولجأ إلى مخلوق قال ما عندنا نحن أهلية أن نلجأ إلى الله قلت يا عبد الله المحبب بيننا وبين الله هل رحمة عبد القادر زادت على رحمة الله قال أنت لا تصدق هذه القصة قلت القصة بين أمرين لا ثالث لهما إما كذب وافتراء ومما يتناقله الناس ولا حقيقة له. وهذا هو الغالب لكن أنا اعجب لعقولهم كيف انحطت إلى هذا المستوى وعلى التسليم بأنها واقعة يا عبد الله يمكن أن يقع أنه استغاث بالله فما أجابه واستغاث بالشيخ عبد القادر فأجابه تدري من قبل أن أجيب من قِبل الشياطين. اجتمعت الشياطين وأمسكت هذا الباص لتفتن الناس بهذا الشيخ الصالح قلت وهذا له قصة جرت مع الشيخ عبد القادر عليه رحمة الله فيها ما يشبه هذا أرجئ الكلام عليه إلى الموعظة الآتية إن شاء الله.(82/30)
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا اللهم لا تضلنا بعد الهدى اللهم اهلك من علينا اعتدى اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم اغفر لميتنا ولمن علمنا ولمن تعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم
"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد".(82/31)
الاجتهاد في الإسلام
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
الاجتهاد في الإسلام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا..
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير..
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم "فما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين"، "يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صما وقلوباً غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً من أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلي يوم الدين..
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد معشر إخوتي الكرام: ـ
تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء خاتمة الإنسان وقلت إننا سنتدارس هذا المبحث الخطير ضمن ثلاثة أمور:
أولها: في تعريف البدعة.
وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.
وثالثها: في أقسام البدعة.(83/1)
ولازلنا إخوتي الكرام في المبحث الأول في أول هذه الأمور الثلاثة وتقدم معنا أن البدعة هي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان مع الزعم بذلك إلى التقرب إلى الرحمن ولا تشهد لذلك نصوص الشرح الحسان ولا تحتمل هذا الحدث قواعد الإسلام هذا هو تعريف البدعة وتقدم معنا إخوتي الكرام أن التعريف السديد الرشيد ظل نحوه فرقتان من الإذام فرقة غلت وأفرطت ووسعت مفهوم البدعة فأدخلت فيها ما ليس منها فحكمت بالبدعة والتضليل على ما احتمله الدليل وقام به إمام جليل والفرقة الثانية فرطت وقصرت فألغت البدعة من الدين كلًا أو بعضاً والفريقان كما تقدم معنا على ضلال ودين الله بيَن الغالي والجافي..
إخوتي الكرام..
وقد ناقشنا الفرقة الأولى وبينت شططها وانحرافها وغلوها بأمثلة حكموا عليها بالبدعة وهي مقررة عندنا في الشريعة الإسلامية وكان كما قلت في الموعظة الماضية كان ينبغي أن ننتقل إلى الصنف الثاني لنتدارس أيضا تفريطه وتقصيره لنحذره لكنني قلت سأضع المعالم بعد دراسة الفرقة الأولى وانحرافها تنوعها بالرد على الفرقتين وهذه المعالم كما ذكرت في الموعظة الماضية إخوتي الكرام.. هي ثلاثة معالم..
المعلَم الأول منها: إن تشريع الشرائع من اختصاص الإله الخالق سبحانه وتعالى.
وثاني هذه المعالم: إن أركان هداية الإنسان ركنان متينان شرعاً قويم وعقلٌ سليم وتقدم معنا أنه لا يتعارض عقلٌ صريح مع نقل صحيح.
والمعلَم الثالث الذي ينبغي أن نعيه: منزلة الاجتهاد في الإسلام.
إخوتي الكرام.. وقد تقدم الكلام على الأمرين المتقدمين الأوليين على أن الشرائع من اختصاص الله جل وعلا فهو الذي لا يشرك في حكمه أحدا وعلى موقف العقل من النقل وختمت الكلام بأن أهل السنة الكرام أسسوا دينهم على المنقول وجعلوا المعقول تبعاً وقد عكس أهل البدع في هذا الأمر فأسسوا دينهم على المعقول وجعلوا المنقول تبعاً وبينت فساد طريقتهم في الموعظة الماضية.
إخوتي الكرام..(83/2)
إن العقل مع النقل كالجاهل مع العالم، كالعامّي مع المفتي، ولذلك إذا توهم معارضة بين عقل الإنسان وشرع الرحمن فالواجب على الإنسان أن يطرح عقله وأن يُقدِّم شرع ربه نعم إن العقل إذا كان العقل ذكياً لا يمكن أن يتعارض مع شرع الله جل وعلا فالله قد ضمن العصمة لشرعه ووحيه ولم يضمن العصمة لعقولنا وقلت أن هذا الأمر ليس من باب ازدراء العقل واحتقاره وإنما هذا من باب حفظ العقل وضبطه لئلا يشتط الإنسان ولئلا يبتعد عن الحق والصواب.
إخوتي الكرام..
نعم إن العقل مع النقل كالجاهل مع العالم وأما الميادين التي يسرح فيها العقل ويمرح ويصول ويجول والله جل وعلا ترك له حرية التقرير ليثبت ما يشاء وليقرر ما يشاء هذا يكون في المسائل المادية البحتة الخالصة كما هو الحال في علم البيولوجيا وفي علم الفلك وفي علم الكيمياء وفي علم الرياضيات وفي علم الفيزياء وفي علم الطب وفي غير ذلك من الأمور، العقل هذا معلّفٌ بأن يبحث ويجد وهو يقرر ما يتوصل إليه ولا حجر عليه في ذلك.
إن الأمور المادية هي مجال بحث العقل ليقرر ما يشاء وليثبت ما شاء لكنه عندما يبحث في هذه الأشياء غاية ما عند العقل أنه يثبت المشاهدات ويستطيع أن يقف على كيفية عمل الأشياء لكن حقيقة هذه الأشياء وكننها لا يعلمها إلا الذي خلقها سبحانه وتعالى ويبقى قول الله جل وعلا لن يتخفف فينا "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" العلم للرحمن جل جلاله وسواه في جهلانه يتغمغم ما للتراب والمعلوم وإنما يسعى ليعلم أنه لا يعلم نعم ابحث ما شئت في هذه الأمور المادية وقرر ما شئت فلا حضر عليك ولا حجر لكن مع ذلك أنت غاية ما تستطيع أن تثبته من مشاهدات وكيف تعمل الأشياء لكن حقيقة هذه الأشياء لا يعلمها إلا رب الأرض والسماء.(83/3)
"ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" والواجب علينا عندما تبحث عقولنا في هذه الأمور المادية البحتة التي لا تتدخل فيها شرائع الله المطهرة الواجب علينا أيضاً إذا بحثنا فيها أن نبحثها بطريقة شرعية لأن هذا الكون هو خلق الله ونحن عبيد الله ولا يجوز أن نتصرف في هذا الكون إلا بمشيئة الله وبإسمه ونطلب المعونة منه في جميع أمورنا.
ولذلك إذا أراد الإنسان أن يبحث في هذه الأمور المادية فليفتتح بحثه بإسم خالقها وخالقه وخالق كل شيء وكل أمر لا يبدأ فيه بإسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتراً أجذماً ممحوق البركة ثم بعد ذلك ينبغي أن تكون الطريقة التي يحصن الإنسان فيها هذه العلوم المادية ينبغي أن تكون طريقة شرعية فليس هناك اختلاط بين الرجال والنساء عندما نتلقى هذه العلوم المادية وعندما نبحث فيها فمن أشنع الأشياء في شريعتنا الغراء أن يختلط الرجال بالنساء وخِلطة النساء بالرجال في شرعنا من أقبح الخصال وسمة الفساق والجهال في كل وقت وبكل حال ومن أجل موجبات الطرد.
والأمر الثالث: نفتتح هذه العلوم باسم الله بطريقة شرعية يرضاها الله والأمر الثالث نجعل هذه العلوم وسيلة لخدمة الشرع المطهر فالرياضيات وغيرها عندما ندرسها لخدمة الدين وخدمة المسلمين.
والأمر الرابع: نعتبر من هذه العلوم التي نتعلمها فإذا درسنا الفلك ودرسنا الجيولوجيا، درسنا التشريح كل هذا عندما ندرسه ونقوم به ينبغي أن نعتبر بما جعل الله فيه في هذا الكون وفي هذه المخلوقات من أسرار عظيمة تدل على عظيم قدرته سبحانه وتعالى.(83/4)
أخي الكريم: إذا كنت تبحث في الطب وهو علم مادي بحت تقرر بعد ذلك عما يتعلق ببدن الإنسان عن طريق التجارب التي تجريها عندما تبحث في هذا وغيره من العلوم تأمل الأسرار التي أودعها الله في بدن هذا الإنسان فإذا كنت تبحث في الطب..في طب الأسنان مثلا ما ينبغي أن تمر على الأسنان كما يقال مرور الكرام لا..ثم لا..ثم لا أنظر ما في هذه الأسنان من عبر عظيمة تدل على عظيم قدرة ذي الجلال والإكرام جعل الله جل وعلا في فم الإنسان اثنين وثلاثين ما بين سناً وضرس اثنا عشر سناً وعشرون ضرساً وهي موزعة كالآتي ثنايا أربعة اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل ثنايا ثم يليها بعد ذلك الرباعيات وهي أربعة أيضاً اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل يليها الأنياب وهي أربعة أيضاً اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل يليها بعد ذلك الضواحك وإذا تبسم الإنسان ظهرت وهي أول الأضراس تلي الأنياب أربعة أيضاً اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل يليها الطواحين وهي اثنا عشر طاحناً جعلها الله لتطحن الطعام بعد أن قطّعته الأسنان وآخر شيئاً النواجذ وهي أربعة اثنان في الفك الأعلى واثنان في الفك الأسفل تأمّل يا عبد الله ما في هذه الأسنان من عظيم العجائب التي تحار فيها الأذهان فالأسنان جعلها الله محددة تقطع كالسكاكين الحادة وشد أصولها سبحانه وتعالى والأضراس جعلها الله جل وعلا أرحاء جمع رحى أرحاء وأرحية تطحن هذا الطعام بعد أن قطعته الأسنان ثم أنظر لعظيم التركيب وبهي المنظر وجميل الصنعة في هذه الأسنان زيّن الله بها فم الإنسان جعلها منظومة مرتبة بيضاء مشرقة كأنها عقد من اللؤلؤ..(83/5)
كأنها لؤلؤاً منظوم ثم أنظر يا عبد الله في هذه الأسنان عندما تطحن هذا الطعام بعد أن يُقطع أنظر إلى هذه الأسنان جعل الله جل وعلا الأسنان في الفكين جعل الفك الذي يتحرك هو الفك الأسفل ولا يوجد رحى على وجه الأرض يتحرك أسفلها ويثبت أعلاها إنما الرحى، الرحى التي تطحن هي العليا والسفلى ثابتة وهذه الرحى هذه الطاحون على العكس مما يصنعه بني آدم فالفك الأسفل هو الذي يتحرك وهو الذي يقطع الطعام ويطحنه والفك الأعلى ثابتاً لا يتحرك لأسباب عظيمة وأولها هذا أجمل بحال الإنسان عندما يأكل الطعام وثانيها: إن الفك الأعلى يكون فوقه ويكون في أعلاه أعضاءٌ خطرة شريفة جليلة لو تحرك الفك الأعلى أدى ذلك إلى وقوع خطراً عليها فيلي الفك الأعلى حاسة الشم، العين، الدماغ، السمع هذا كله يكون فوق في الفك الأعلى فلو أن الفك الأعلى يتحرك لحصل ارتجاج لهذه الأعضاء وربما تأثرت..
ألا تعتبر بهذا عندما تدرس هذه العلوم.. من الذي جعل الأسنان بهذه الكيفية ويليها الأضراس وبعد ذلك فكاً أسفل يتحرك وفك أعلى ثابت على خلاف المعروف في أرحاء وأرحية بني آدم ثم أنظر يا عبد الله إلى هذه الأسنان كيف جعل الله عليها حائطين طبقتين يغطيانها شفتان شفة سفلى وشفة عليا وانظر لحكمة الحكيم العليم شفتان لا عصب فيهما ولا عظم ليسهل إنطباقهما وانفتاحهما وليسهل مص الماء وشربه بهما هذا تقدير العزيز العليم فيا عجباً. كيف يعصي الإله أو يحمده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.(83/6)
"وفي أنفسكم أفلا تبصرون" سبحانه وتعالى هو الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين فميادين العقل ومجالاته التي يسرح فيها ويمرح ويصول ويجول ميادين الأمور المادية الخالصة البحتة وكما قلت يبحث فيها ما شاء وليقرر ما شاء بعد أن يحقق هذه الأمور الأربعة ويفتتحها بإسم الله الذي خلقها وخلق كل شيء يدرسها ويجعلك بطريقة شرعية يجعلها مطية للعلوم الشرعية ولخدمة المسلمين يعتبر بما جعل الله فيها من أسرار تدل على أن موجدها إله عظيم سبحانه وتعالى.
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ولذلك إخوتي الكرام عندما جعل الشرع العقل تابعاً له جعل الله بعد ذلك للعقل ميادناً يسرح فيه ويمرح ألا وهو الأمور المادية البحتة الخالصة وأما ما يتعلق بسلوك الإنسان كما تقدم معنا من حلال وحرام وفضيلة ورذيلة وخيراً وشراً ومعروف ومنكر فمرد ذلك إلى الله سبحانه وتعالى له الحكم ولا يشرك في حكمه أحدا..
إخوتي الكرام: هذا كله يتعلق بالأمرين المتقدمين تشريع الشرائع من خصائص الله الخالق لا بد لهداية الإنسان من شرعاً قويم وعقل سليم ولا يتعارض عقلا صريح مع نقل صحيح.
وأما الأمر الثالث: وهو الاجتهاد في الإسلام وإنما ذكرته إخوتي الكرام لأنه قد يقول قائل إن النصوص الشرعية لم تنص على كل جزئية وقضية في هذه الحياة وقلنا نحن إن العقل ينبغي أن يكون تابعاً للشرع فما لا نص فيه ما هو الحكم فيه وما هو الموقف نحوه يأتي معنا منزلة الاجتهاد ولا بد من البحث في هذه القضية كي نكن على علم بها.(83/7)
إخوتي الكرام: الاجتهاد معناه كما قرر علماؤنا اللغويون: إفتعالا من الجهد وهو الوسعُ والطاقة ويعرف في اللغة بأنه بذل الوسع وبذل الطاقة بذل الجهد لتحصيل أمراً ما وفي الغالب لا يقال اجتهد إلا إذا بذل جهداً شاقاً مضنياً في تحصيل أمراً صعب اجتهد هذا معنى اللفظ في اللغة والاجتهاد معناه عندما في شريعة الله المطهرة بذل الجهد والوسع في النظر في الأدلة الشرعية المعتبرة للوصول إلى القطع أو الظن بحكم شرعية في شرعية الله المطهرة يبذل الإنسان جهده في الأدلة الشرعية ليقبس النظير على النظير المثيل على المثيل والشبيه على الشبيه ليصل بعد ذلك إلى قطعاً جزم أو غلبه ظن بحكم من الأحكام أن هذا الحكم ثابتاً في شريعة الرحمن يبذل الإنسان جهده وسعة جدَّه واجتهاده في النظر في أدلة الشرع المطهر ليصل إلى حكماً قطعي أو غلبه ظن بأن هذا الحكم ثابت في شريعة الله المطهرة هذا معنى الاجتهاد أن يبذل الإنسان ما في وسعه وجدَّه وطاقته بحثاً في الأدلة الشرعية المعتبرة ليصل إلى حكماً عن طريق القطع أو الظن بحكماً شرعي مقرراً في شريعة الله المطهرة.
إخوتي الكرام: هذا الاجتهاد أئمتنا الكرام جعلوا الاجتهاد ثلاثة أقسام ولا بد من وعي هذا إخوتي الكرام لا سيما في هذه الأيام لنرى موقعنا وكيف نتعامل مع الكرام أئمتنا.. الاجتهاد يُطلق على صنف من المجتهدين وهو يقال له المجتهد المطلق وهو الذي يستقل لوحده في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية هذا يقال له مجتهد مطلق ولابد من أن توجد فيه ستة شروط بعد وجود مناط التكليف فيه أعني ركني التكليف العقلي والبلوغ فإذا كان عاقلا بالغاً ينبغي أن توجد فيه ستة شروط ليكون مجتهداً مطلقا لينظر في أدلة الشرع ويستنتج منها حُكما شرعياً لواقعة من الوقائع هذا هو المجتهد المطلق وهذه هي الشروط الستة هي:(83/8)
أولها: أن يحيط بالنصوص الشرعية من الآيات القرآنية وأحاديث نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام وما بني على هذين الأمرين من إجماعاً حق وقياس صدق أحاط بهذا علم النصوص علم مسائل الإجماع علم طريقة وكيفية القياس هذا شرطاً أول.
الشرط الثاني: أن يعلم أقوال السلف الطيبين من صحابة ومن تابعين رضوان الله عليهم أجمعين في هذه القضية ومسائل الدين ينبغي أن يعلم بذلك لأن خير من فهم القرآن وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام عمل بعمل سلفنا الكرام من صحابة وتابعين عليهم جميعا رحمات ورضوان من رب العالمين.
والأمر الثالث: الذي ينبغي أن يكون في هذا المجتهد المطلق أن يكون على إلمام واسعاً بلغة العرب فيغرف مدلول الكلام ويعلم ما يتعلق باللغة من نحواً وبلاغة وصرف.
والشرط الرابع فيه: في المجتهد المطلق أن يكون على علماً تاماً بعلم الأصول وأريد بالأصول هنا الأصول الثلاثة بعلم أصول الدين وأصول الفقه وأصول الحديث أعني علم المصطلح وهذا كما قلت شرطاً رابع.
الشرط الخامس: في هذا المجتهد أن يكون على فطنة وذكاء فالله جل وعلا خصّه بذلك وإذا نظر إلى اللفظ الشعري يعلم ما وراءه من دلالة شرعية معتبرة ويعرف مراد المتكلم من كلامه لما وهبه الله من ذكاء لا يوجد عند كثيراً من الناس.(83/9)
والصفة السادسة: في هذا المجتهد المطلق أن يكون في المجتهد فيه صفة الطهارة والصدق والذكاء بعد أن وُجد فيه الذكاء والألمعية ينبغي أن يوجد فيه الإخلاص لرب البرية سبحانه وتعالى فإذا اجتمعت هذه الأمور الستة هذا هو المجتهد المطلق الذي كما قلت ينظر في الأدلة التفصيلية فيستنبط منها الأحكام الشرعية وهو على هدى في جميع أحواله كما سيأتينا ضمن مراحل البحث مجتهداً مطلق أحاط بالنصوص الشرعية علم بعد ذلك كما قلت أقوال السلف الكرام ليستضيء بأقوالهم وليعلم محل الإجماع لئلا يخالفه لأن مخالف الإجماع ضال علم بعد ذلك لغة العرب وكيف سيتسوّر على نصوص الشرع وهما بلغة العرب إذا كان لا يستطيع أن يفهم لغة العرب ولا يميز بين الفاعل والمفعول وهو حاله في عداد الأعاجم ثم بعد ذلك يريد أن يتسوّر على كلام الله جل وعلا..لا ثم لا وحال من أراد أن يستنبط أحكاماً شرعية من النصوص الشرعية دون أن يحيط علماً باللغة العربية حاله كما قال الإمام الواحدي يقول من أراد أن يُفسر كلام الله ويشرح حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ويستنبط الأحكام منها دون علماً بلغة العرب كحال من شهد الهيجاء بغير سلاح وكحال من راح أن يطير في الهواء بغير جناح شهد المعركة ولا سلاح عنده أراد يطير ولا جناح له وهنا أراد أن يستنبط أحكاماً شرعية من هذه النصوص الحقة الثابتة الشرعية وليس عنده علماً باللغة العربية.(83/10)
والإمام الشافعي عليه رحمة الله في كتابه الرسالة أفاض في بيان هذا الشرط وبيّن أن جُمل القرآن وأحكامه لا تُفهم إذا لم يُحط الإنسان علماً بلغة العرب وأساليب إستعمالهم رحمة الله على الإمام الأصمعي عندما يقول: تعلّموا العربية فإن النصارى كفروا بسبب خطأهم في حرفاً واحداً قال الله لنبيه وروحه وكلمته عيسى على نبينا وعلى آله الصلاة والسلام " يا عيسى أنت نبياً وأنا ولّدتُك " يعني أخرجتك من بطن أمك والله جل وعلا على كل شيء قدير وكوّنه في بطن أمه دون أن يحصل إتصالاً عادي كاللهو المعروف بين البشر أنت نبي وأنا ولّدتُك قال الأصمعي فخففوها أنت نبي وأنا ولدتك يعني أنت نبي وأنت ولدي أنت نبي وأنا ولدتُك كفروا بحرفاً واحد ولذلك لابد من إدراك لغة العرب.
والأمر الثالث كما قلت إخوتي الكرام:
أن يحيط بعلم أصول الدين أمراً رابع بعلم أصول الدين وأصول الفقه وأصول الحديث والخامس أن يكون على ذكاء وألمعية والناس لا يستوون في هذا والله جعل للحديث رجال وجعل للفقه رجال وجعل للصنفين رجالا تحل واحداً ينبغي أن يقف عند حدِّه وإذا كان الإنسان يُعنى بالحديث وما عنده ملكة فقهية ينبغي له أن يقف عند حدِّه وإلا سيخبط بعد ذلك في دين ربه ولذلك إخوتي الكرام كان للمحدِّثين منزلة وكان للفقهاء منزلة ومنزلة الفقهاء كمنزلة الأطباء كما أن منزلة المحدثين كمنزلة الصيادلة وهذا يقول أئمة الحديث أنفسهم عندما كانوا يجتمعون مع فقهاء هذه الأمة المباركة المرحومة وما يقوله بعض الناس في هذه الأيام كيف يعلم الإنسان الحديث وهو لا يعلم الفقه وأي غربة في ذلك لو علمت الحديث لما وردت هذا الكلام فهو من لهو الحديث.(83/11)
أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام "رب حامل فقه ليس بفقيه" أما بلغك قول النبي عليه الصلاة والسلام "رُبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" والحديث صحيحاً متواتر رواه الإمام أحمد في المسند والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه وابن حِبان في صحيحه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورواه الإمام أبو داود في سننه والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً وان حبان في صحيحه ورواه الضياء المقدسي في أحاديث الجياد المختارة من رواية زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه والحاكم في مستدركه من رواية جُبير بن مُطعم والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه من رواية أنس بن مالك وروى عن أبي هريرة وغيره وقد نص أئمتنا على تواتره كما بين هذا في محاضرات الحديث.
ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال " نظّر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرُبّ مُبلِّغاً أوعى من سامع " ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" نعم قد يكون الإنسان محدثاً ويحمل الحديث وليس عنده ملكة الفقه وليس عنده درجة الاستنباط فليقف عند حدِّه.
واستمعوا إخوتي الكرام: إلى ثلاث قصص وقعت في الزمان القديم بني الفقهاء والمحدِّثين رضوان الله عليهم أجمعين وكيف فيها هذه الدلالة وهي أن حامل الفقه قد لا يكون فقيهاً وأن من يحمل الحديث قد لا يكون بعد ذلك عالما بمدلوله وبمراد نبينا صلى الله عليه وسلم منه..(83/12)
الحادثة الأولى: يذكرها شيخ الإسلام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمل في 2/31 حرث بين إمامين بين شيخ الإسلام في زمنه في الحديث بلا نزاع ألا وهو الإمام الأعمش سليمان بن نهران الذي توفي سنة 147هـ والإمام الثاني فقيه هذه الأمة وهو أول فقهاء الأربعة وهو الإمام المبجل المبارك أ [وحنيفة النعمان بن ثابت رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين إجتمعا فسُئل الإمام الأعمش عن مسألة فأحال على أبي حنيفة فأجاب فيها فقال من أين لك هذا يا نعمان قال مما حدثتنا أنت ثم روى له الحديث قال أنتم الأطباء ونحن الصيادلة وأبو حنيفة يقول للأعمش أنت حدثتني بحديث يدل على هذه القضية فقال أنتم الأطباء ونحن الصيادلة وقبل هذه القصة يذكر الإمام عبد البر أيضاً في الكتاب المشار إليه في نفس الصفحة أنه جرى نظير هذه القصة مع الإمام الأعمش وتلميذ أبي حنيفة أبي يوسف يعقوب رحمة الله ورضوانه عليه وعليهم أجمعين عندما أجاب أبو يوسف قال له من أين لك هذا يايعقوب قال مما حدثتني أنت فقال والله إنني أعلم هذا الحديث قبل أن يجتمع أبواك أعلم هذا الحديث لكن هذه الدلالة مالاحت لي ولا ظهرت لي نعم إن المحدِّثين كانوا يقرّون بهذا فلابد من ملك فقيه والله يعطى الحكمة لمن يشاء سبحانه وتعالى.
قصة ثانية يذكرها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 16/440 وهي مذكورة في تذكرة الحفاظ في ترجمة العبد الصالح لسليمان الدمشقي وتوفي سنة 379هـ وهو محمد بن عبد الله ابن أحمد أبو سليمان الدمشقي إجتمع مع إمام الفقهاء الحنفية في زمنه الامام أبي جعفر الطحاوي واستعار منه كتب الحديث ونظر فيها وأُعجب فيها أبو جعفرثم قال لهم أنتم معشر المحدثين صيادلة ونحن معشر الفقهاء أطباء وهذا ما أقر به كما قلت جهابذة المحدثين.(83/13)
أختم هذه القصص كما قلت بالقصة الثالثة: يرويها الإمام الرماهرمزي المتوفي سنة 360هـ في كتابه المحدث الفاصل بين الراوي والواعي في صفحة 250 وخلاصتها أن امرأة كانت تغسل الموتى من مات من نساء المسلمين فجاءت إلى مجلس أبي زكريا يحيى ابن معين إمام الجرح والتعديل في هذه الأمة وهو قرين وصاحب الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين وتوفي سنة 233هـ فجاءت هذه المرأة إلى مجلس أبي زكريا يحيى ابن معين وقالت: يا أبا زكريا هل يجوز للحائض أن تُغسِّل الموتى إذا ماتت امرأة مسلمة وهذه المُغسِّل حائض هل يجوز لها أن تغسِّلها قال: لا أدري لكن عليك بهذا الرجل ويردي به أبي ثور إبراهيم أبا خالد الذي توفي سنة 240هـ وهو من أبرز تلاميذ الإمام الشافعي ومن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين عليك بهذا الرجل ثم عودي إليّ فأخبريني فذهبت إلى أبي ثور فقالت يا أبا ثور يجوز للحائض أن تغسل الموتى قال: نعم يجوز.(83/14)
قالت: وما دليلك قال: حديثان عن نبينا عليه الصلاة والسلام الحديث الأول: ثابت في المسند ورواه أهل الكتب الستة إلا سنن الإمام الترمذي وهو في موطأ الإمام مالك ومسند الدارمي وهو أيضا في السنن الكبرى للإمام البيهقي وهو حديث صحيحٌ صحيح كما قلت في صحيح مسلم وغيره وفي الكتب الستة إلا سنن الإمام الترمذي وهو في صحيح مسلم وفي صحيح البخاري ولفظ الحدي عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها " ناوليني الخمرة وهي شيء صغير بحجم الكف يظفر من خوصاً أو خرق يضع الإنسان جبهته عليه عندما يسجد في الأيام الحارة ومن المعروف أن مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام في العصر الأول ومساجد المسلمين منها ما كانت تفرش وكانوا يُصلّون على البطحاء وعلى الحصى وإذا اشتد الحر يؤذي الجبهة غاية الأذى فكانوا أحياناً يسجدون على هذه الخَمِرة فقط ليقوا الجبهة من الحر كما قلت قطعة بحجم الكف من خويصا من خِرقا ناوليني الخُمرة فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها إنني حائض فقال عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك ولفظ الحيضة هنا بالفتح وهو المعتمد وهو الدفعة من الحيض الدم وليس المراد كما قال بعض علماء اللغة إن حيضتك وهي الحالة التي تعتري الحائض لا إن هذا الدم الذي يخرج ليس في يدك وإذا أنت مُنعت بعد ذلك من الصلاة أو الصيام لأمرا شاءه الرحمن ليس معنى هذا أنك نجسة إن حيضتك ليست في يدك".(83/15)
والحديث الثاني رواه الإمام أحمد أيضا في المسند وأهل الكتب الستة الصحيحان وأهل السنن الأربعة ورواه أيضا الإمام مالك في الموطأ والإمام الدارمي في سننه والبيهقي في سننه ورواه أبو داو الطيالسي في مسنده أيضا عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكأ في حجري فكنت أرجل رأسه وأنا حائض فقال / أبو ثور/ الحيضة ليست في اليد وإذا أبيح للحائض أن تُرجل وتسرح شعر الحي فيباح لها أن تغسل بدن الميت قالت جزاك الله خيراً أبا ثور ثم ذهبت إلى أبي زكريا إمام الجرح والتعديل في هذه الأمة فقال لها ماذا قال لك هذا الرجل الإمام. قالت: يجوز لهذين الحديثين قال أحفظ كل من هذين الحديثين من كذا وكذا تطبيقا وقد بدأ يورد الطرق وهو وأصحابه لهذين الحديثين فلما انتهوا من سرد الطرق ومن يعني من استحضار حفظهم نحو هذين الحديثين قالت المرأة: فأين كنتم أيضا عندما سألتكم.. سألتكم وبدأت بكم أين كنتم تحفظون هذه الروايات ولا تستنبطون منها هذه الأحكام.(83/16)
هذه منزلة الإمام الشافعي ليست منزلة يحيى ابن معين وانظر لشهادة الإمام المبجل شيخ أهل السنة في هذه الأمة الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليهم وهو أخبر الناس بقرينة أبي زكريا يحيى ابن معين وهو أخبر الناس بشيخ عبد الله الإمام الشافعي رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين قيل للإمام أحمد إن ابن معين ينال هذا الشافعي ويقول إن الشافعي ليس بثقة فقال الإمام أحمد إن ابن معين لا يعرف الشافعي ولا يفقه ما يقول الشافعي لا يفهم إذا أعلم الإمام الشافعي في الفقه وابن معين لا يعي هذا ولا يدركه فهل يؤخذ بكلامه هذا الإمام العظيم المبارك قال الإمام ابن عبد البر معلقاً على هذا في جامع بيان العلم وفضله وقد سئل ابن معين عن مسألة في التيمم فلم يعرفها هذه منزلة الفقهاء ولذلك قال الإمام ابن عبد البر وما مثال من يقع في الإمام الشافعي ومالك أبي حنيفة وأحمد إلا عما قال الأعشى كنا مع صخرة يوماً ليوهنها فلن يضرها وأوهى قرنه وعلوا الوعل: إذا جاء إلى صخرة من أجل أن يُفتِّتها وضربها بقرونه لينكسر قرنه والصخر هي يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس ولا تشفق على الجبل والله لو اجتمع أهل الحدين قاطبة على القص من الإمام الشافعي مازاده إلا رفعة وقدراً فإذا كانوا لا يعلمون الفقه فليقفوا عند حدهم فالإمام ابن معين عندما جرى عنده ماجرى وهو مقدوراً ونسأل الله أن يغفر لنا وله يقول قرينه تلميذ الإمام الشافعي الأمام أحمد يقول اعذروه فهو لا يعرف الشافعي ولا يفقه ما يقول الشافعي وعليه كلامه في هذا الإمام العظيم لا قيمة له نعم اخوتي الكرام لا بد كما قلت من فطنة لا بد من ذكاء لابد من ملكة فالله فاوت بين هذه الأمور كما فاوت بين أبدانهم فاوت بين عقولهم فينبغي أن نضع الأمر في موضعه الشرعي هناك أطباء وهناك صيادلة ولا يجوز أن تذهب إلى الصيدلي ليعالجك وليجري لك عملية جراحية فلن تُحصِّل بعد ذلك إلا السقم والموت إن هذا اختصاص الطبيب(83/17)
وينبغي أن يستعان على كل صنعة بصالح أهلها.
إخوتي الكرام:
هذا كما قلت هو المجتهد المطلق والذي يستقل بنفسه في معرفة الأحكام الشرعية وإن أدلتها التفصيلية لأنه أحاط بالنصوص الشرعية وما بُني عليها من إجماعاً حقا وقياساً صدق لأنه أحاط بقول السلف الكرام من صحابة وتابعين رضوان الله عليهم أجمعين علم اللغة وأساليبها واستعمالاتها علم أصول الدين أصول الفقه أصول الحديث وأهداه الله الذكاء وفطنة ليعلموا ما وراء اللفظ من معنى فإذا كانت أمنا عائشة رضي الله عنها تُرجل رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض فيجوز للحائض أن تُغسّل الموتى والأمر الخامس والأمر السادس في هذا الفقيه وهو مجتهد مطلق كما قلت فيه طهارة وذكاء بعد أن كان فيه الذكاء فيه طهارة فيه صدقاً فيه ذكاء وإخلاصاً لرب الأرض والسماء هذا المجتهد المطلق.(83/18)
وأول من يدخل في هذا التعريف أئمتنا الكرام سادتنا رضوان الله عليهم أجمعين الفقهاء الأربعة أولهم وفقيه هذه الأمة لا نزاع وكل من تفقه بعده عيالا عليه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين هذا مجتهداً مطلق والمجتهد الثاني مجتهد المذهب وهو دون المجتهد المطلق فلا ينتقل بنفسه من إدراك الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية إنما أحاط علماً بنصوص إمام المذهب وفي وسعِه أن يُخرج غير المنصوص على المنصوص ولا يستطيع أن يستقل بنفسه كما قلت في استنباط حكم ولكن مأخذ إمامه وطرق استنباط الإمام أحاطها وهضمها فإذا عُرضت عليه قضية يستطيع أن يُخرَجها على أصول الإمام التي وضعها للإجتهاد والاستنباط أما ان يضع هو طريقة للإستنباط ليستنبط لا ثم لا هذا يقال له مجتهد المذهب وهو دون الأول قطعاً والنوع الثالث مجتهداً فتوى والترجيح دون الثاني فما أحاط علماً بمأخذ إمامه ولا يستطيع أن يخرّج غير المنصوص على ما نص عليه إمامه إنما هو علم بهذا المذهب ويستطيع أن يرجّح بين نصوص المذاهب إذا وجد للإمام قولان أو أكثر فعنده قدرة على الترجيح لأنه أحاط بهذا المذهب وعرف مراد الإمام هؤلاء الثلاثة هم الذي ينبغي أن يُستفتوا من قبل من عداهم.. المجتهد المطلق ومجتهد المذهب ومجتهد الفتوى والترجيح من عداهم ينطبق عليهم ما قال الله تعالى في سورة النحل "وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتُبيّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلهم يتفكرون".
ونظير هذه الآية يقول الله جل وعلا في سورة الأنبياء "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
من عندهم الفتوى كما قلت مجتهداً مطلق مجتهد المذهب..مجتهد الفتوى والترجيح.(83/19)
قال الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين 4/212-215 في أربع صفحات يقرر هذا الكلام وهكذا قرر هذا سائر أئمتنا الكرام أيضاً نظير هذا القول مذكوراً في جمع الجوامع للإمام السبكي تاج الدين عبد الوهاب ابن السبكي عليهم جميعاً رحمة الله وفي شرحه للجلال المحلي وفي حاشية العطّار عليه انظروا 2/424-425
وخلاصة كلام الإمام ابن القيم وما في هذه الكتب من حاشية العطار وشرح الجلال للمحلّي على جمع الجوامع للإمام السبكي عليهم جميعاً رحمة الله خلاصتهم هؤلاء الثلاثة الذي هو مجتهداً مطلق ومجتهد المذهب ومجتهد الفتوى والترجيح قال الإمام ابن القيم وهكذا سائر أئمة كتب أصول الفقه مثال هؤلاء مثال ثلاث توقيعات تقع من العباد فالمفتي الذي هو مجتهداً مطلق توقيعه كتوقيع الملوك والمفتي الذي هو مجتهد المذهب توقيعه كتوقيع نواب الملوك والمفتي الذي هو مجتهد الفتوى والترجيح توقيعه أي فتواه كتوقيع نواب نوّاب الملوك الأول كما قلت كأنه ملك لكن يوقع نيابة عن الملك الحق جل وعلا نعم إن الإنسان عندما يُفتي في قضية ينوب بذلك عن رب البرية.
وهذا ما أشار إليه الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين وعباده المرسلين أن عندما تُفتي وتقول هذا حلال وهذا حرام توقع عن ذي الجلال والإكرام فمن الذي يتأهل للفُتيا مجتهداً مطلق، ومجتهد المذهب، مجتهد الفتوى والترجيح " فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ".(83/20)
إخوتي الكرام: الشروط المتقدمة في المجتهد المطلق وما يتبعه من مجتهد المذهب عما قلت ومجتهد الفتوى والترجيح هؤلاء كما قلت من وُجدت فيهم هذه الصفات يحق له أن يُفتوا وهؤلاء هم الذين يُسئلون وعندما يبذلون جُهداً واجتهاداً للوصول إلى حُكم الله في قضية يُثابون ويُأجرون في جميع الأحوال لوجود الشروط المتقدمة فيهم فتلك الشروط هي الحَكَم الفيصل بين الاجتهاد المقبول والاجتهاد المرذول وهي الحَكَم الفارق بين كون المجتهد يُثاب أو يُعاقب فإن وُجدت فيه يُثاب على جميع أحواله أصاب أم أخطأ كما سيأتينا وإذا لم توجد فيه يُعاقب على جميع أحواله أصاب أم أخطأ..
إن الذي يتكلم دون أن يُعد العُدّة هو على ضلال وعليه غضب ذي العزة والجلال أصاب الحُكم الشرعي أو..لا.. لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله إلا بعد أن يُعد العُدة التي تُأهله لذلك وهذا ما أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم فاستمعوا لتقرير هذا إخوتي الكرام: لأننا نشهد هذه الأيام فوضى لا نهاية لها تحت ستار العود إلى الكتاب والسنة.. تحت ستار عدم التقيد بمذاهب الأئمة ثم كل واحد يعرف بما لا يعرف ويقول إنني مجتهد وضمن الله لي الأجر إن أصبت لي أجرا وإن أخطأت لي أجر أنت عليك إثم الضال المضل في جميع أحوالك فانتبهوا لذل إخوتي الكرام بإشارة نبينا عليه الصلاة والسلام لأن لا يُسند الأمر إلى غير أهله.(83/21)
ثبت في المسند والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى ورواه الإمام الطبراني في معجمه ورواه سعيد بن منصور في سننه والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة بسند صحيح كالشمس وضوحاً من رواية بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم يقول: " القضاة ثلاثة فقاضٍ في الجنة وقاضيان في النار " ولا يراد إخوتي الكرام من هذا الحديث نسبته بين القضاة بمعنى ثلث إلى الجنة وثلثان إلى النار..لا.. لعل نسبته من يدخلون النار من القضاة تزيد على تسعين بالمائة فليس المراد نسبة وتناسب وثلث أو ثلثان وإنما هنا وصفاً وهنا وصف فقد لا يتصف بالصنف الأول إلا واحد من مائة قد.. وقد يتصف بالوصف الأول مائة بالمائة ليس أن القضاة سيجمعون عند الله ثلثهم إلى الجنة وثلثان إلى النار..لا..ثم لا.. فاستمع لإشارة النبي عليه الصلاة والسلام بتوضيحاً لهذا الذي يدخل الجنة عندما سيقضي ولذلك كيف سيدخل النار عندما يقضي.
قال عليه الصلاة والسلام "رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة" عرف الحق قضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فجار أي انحرف عنه وتبع الهوى فهو في النار ورجل قضى على جهل فهو في النار ماعنده عدة القضاء ولا عنده شروط الفتية فاقتحم هذا الطريق ونصب نفسه قاضياً ومفتياً لعباد الله فضلّ وأضلّ فهو في النار أصاب أو أخطأ فهو في النار من قضى على جهل فهو في النار من عرف الحق فانحرف عنه فهو في النار عرف الحق وقضى به فهو في الجنة والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والأوسط ورواه أبو يعلى بسند بيّن من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام بلفظ قريباً من اللفظ المتقدم ولفظ الحديث " القضاة ثلاثة.(83/22)
القناعة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
القناعة
11
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2)) ) سورة النساء: 1
(3)) ) آل عمران: 102(84/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد معشر الأخوة المؤمنين:
إن أشرف البقاع في الأرض وأحبها إلى الله -جل وعلا- - المساجد، فهي بيوته، وفيها نوره وهداه، وقد نعت الله عباده الطيبين الذين يعظمونه في هذه البيوت بأنهم رجال، ثم وصفهم بأربع خصال: لا تلهيهم البيوع ولا التجارات، ويقيمون الصلاة، ويذكرون الله، ويؤتون الزكاة، ويحسنون إلى عباد الله، ثم بعد ذلك يستعدون للقاء الله، ليوم تشخص فيه الأبصار {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
فالصفة الأولى من صفاتهم: أنهم لا يلتهون بعرض بما فيها من بيوع وتجارات، ولايشغلون بذلك عن طاعة رب الأرض والسموات، وكيف يُشغل هؤلاء الرجال، هؤلاء الأخيار الأبرار بعرض من الدنيا. حقيراً مهين لا يعدل عند الله جناح بعوضة.
إن هؤلاء العباد يعلمون حق العلم أن الرزق مقسوم كما أن العمر محتوم ولا يمكن أن يزاد في شيء منهما ولا ينقص ولذلك استراحت أبدان هؤلاء الرجال وتعلقت قلوبهم بذي العزة والجلال وما قدر لهم سيأتيهم كما أشار نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى حالهم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام الترمذي، وابن ماجه في السنن.
__________
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71
(2)) ) سورة النور: 36، 37(84/2)
والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه عن الخليفة الراشد المهدي المهتدي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: [لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا] والتوكل على الله هو ثقة القلب بالرب وأن يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطئه لم يكن ليصيبه فهم تعلقت قلوبهم بالله -جل وعلا- وتبع ذلك راحة الأبدان فمشو في مناكب الأرض وتعرضوا لنفحات الله وفضله دون إرهاق لأبدانهم ودون غم في قلوبهم لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا تذهب في الصباح وهي جياع ضامرة البطون ثم تعود بعد ذلك في المساء إلى أوكارها وقد امتلأت بطونها من فضل ربها تغدو خماصاً وتروح بطاناً عباد الله فهؤلاء الأخيار الذين يعبدون الله في هذه المساجد في بيوت الله في أرضه هؤلاء لا تلهيهم تجارة ولا بيع وكيف يتحقق عدم الإلتهاء بما في الدنيا من البيوع والتجارات يتحقق هذا -إخوتي الكرام- بأمور كثيرة سأجملها في خمسة أمور بعد أن بينت في الموعظة الماضية إلا أن هؤلاء الأخيار لا يلتهون بعرض الدنيا ولا يشتغلون به كيف يتحقق هذا بوجود القناعة في قلوبهم ويتحقق هذا بعدم حب الدنيا والميل إليها ويتحقق هذا بعدم البخل بها بعد إحرازها وحيازتها ويتحقق هذا بعدم الحرص عليها ويتحقق هذا بعد ذلك بأمر خامس أنهم لا يلتهون ولا يشغلون بهذه الدنيا بحال من الأحوال إنما يتقربون في كل وقت إلى ذي العزة والجلال فمن اتصف بذلك فهو حقيقٌ بأن يكون من أهل هذه الآية رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع.(84/3)
أما الأمر الأول وهو القناعة أحسن ما قيل -إخوتي الكرام- في بيان حد القناعة وضبطها أن ترضى بما يكفيك وأن لا تكثر من تطلعاتك وأمانيك فما قدر لك سيأتيك فإذا كنت في كفاية فاحمد الله -جل وعلا- ولا داعي للهم والحُزن والغم والقلق والتطلع إلى مالم يقدر لك وهذه الحالة حالة طيبة إذا وجدت في الإنسان كفاف وقنع به رضي به أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الحالة الحسنة الطيبة لهؤلاء العباد الأخيار في الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سنته ورواه ابن ماجه في سننه ورواه البخاري في الأدب المفرد والخطيب في تاريخ بغداد وإسناد الحديث حسن عن عبيد الله بن مِحْصَن ويقال عبد الله بن مِحْصَن والتصغير أصح وهو من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.
والحديث رواه ابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه والخطيب في تاريخ بغداد أيضاً عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- ورواه ابن أبي الدنيا عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم أجمعين- فالحديث من رواية عبيد الله بن محصن، ومن رواية أبي الدرداء، ومن رواية أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنهم أجمعين- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: [من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] والحديث إسناده صحيح كالشمس من أصبح منكم آمنا في سربه أي في نفسه يقال فلان واسع السِرب أي رخى البال هادئ النفس وضبط بفتح السين والراء [من أصبح منكم آمنا في سربه] أي في مذهبه وطريقه ومسلكه آمن في نفسه آمن في طريقه عنده بعد ذلك قوت يومه وعنده صحته وعافيته فقد ملك الدنيا بأسرها [من أصبح منكم آمنا في سِربه آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] .(84/4)
نعم إذا كان يأتيك القوت والصحة والأمن ثم أصبحت أخا حُزت فلا فارقك الحزن أنت في نعمة في بدنك تأمن بعد ذلك في طريقك وفي نفسك وأنت بعد ذلك في كفاية وعندك ما يكفيك فلا تحتاج إلى أحدٍ من خلق الله إذاً ينبغي أن تشكر الله على هذه النعمة [من أصبح منكم آمنا في سِرِبه في سَرَبه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها] وهذه الحالة هي التي كان يتطلع إليها نبينا -عليه الصلاة والسلام- ويسألها الله لنفسه وأهل بيته.
كما ثبت في الصحيحين والحديث في المسند، وسنن الترمذي، وابن ماجه وهو في أعلى درجات الصحة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: [اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا]-على نبينا وآل بيته والصحابة صلوات الله وسلامه- وفي رواية: [اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً] . والقوت هو مقدار الضرورة، بحيث لا تجوع ولا تفتر. والكفاف هو ما كفك عن سؤال الناس وكان بمقدار كفاتيك وحاجتك، فإذا حصلت هذا فاحمد الله، فقد كان خير خلق الله يسأل ربه هذا، فإن المال إذا زاد وكثر يؤدي إلى البطر، والحاجة إذا لم تتيسر يتشوش البال، فإذا رزقت الكفاف وكان عندك ما يكفيك فاحمد الله واقنع بما قسم الله.
هي القناعة فالزمها تعش ملكا ... لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن
هذا هو الأمر الأول.
والأمر الثاني من صفتهم: أنهم لا يتعلقون بالدنيا لأن من أحبها صار أسيراً لها وعبداً لها وقد أخبر نبينا – صل الله عليه وسلم- عن هذا، الحقيقة أن من أحب الدنيا سيعرض عن الآخرة ففي مسند الإمام أحمد وبن حيان والحاكم والطبراني في الكبير والبزار في مسنده وإسناده حسن عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صل الله عليه وسلم- يقول: [من أحب دنياه أخر بآخرته من أحب آخرته أخر بدنياه] .(84/5)
فآثروا ما يبقى على ما يفنى من أحب دنياه أضر آخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فأثروا ما يبقى على ما يفنى إذاً لا يحب هذه الدنيا ولا يتعلق بها ولا يميل إليها، وهذا الحديث -إخوتي الكرام- كما قلت إسناده حسن وقد كان الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- يُحَذِّرون من جاء بعدهم من التابعين من الركون إلى الدنيا والانهماك فيها.
ففي مسند الإمام أحمد أيضاً، لحديث في صحيح ابن حبان، ستدرك الحاكم، عجم الطبراني الكبير، رواه بدل الإمام البزار في الرواية المتقدمة الإمام أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال للتابعين الذين جاءوا بعد الصحابة الطيبين فقال ما أبعد هديكم من هدى نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أزهد شيء في الدنيا وأنتم أحرص شيء عليها وهكذا قال العبد الصالح إبراهيم التيمي الذي توفي 92 هـ وهو من أئمة التابعين ومن أهل الخير الطيبين وكان يقول إذا كان الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه أي لا يسارع إلى تكبيرة الإحرام يقول هذا العبد الصالح للتابعين الذين عاصرهم إن من قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ولهم من المنزلة مالهم وأنتم تقبلون عليها وهي مدبرة عنكم وعندكم من الأحداث ما عندكم فقسموا أمركم من إلى أمر من سبقكم.(84/6)
إذاً الصفة الثانية من صفاتهم التي يتحقق بها عدم الإلتهاء والاشتغال أنهم لا يحبون هذه الدنيا ولا تسكن في قلوبهم إنما هي عرضٌ بين أيديهم بالإستعانة به على طاعة ربهم -جل وعلا- والصفة الثانية إذا جاءت الدنيا إليهم واكتسبوها من طريق حلال وضعوها في مصارفها الشرعية وما بخلوا بها فما يبخلون بهذا المال والله -جل وعلا- حذرنا من البخل بالمال ومن عدم إعطاء الحق من المال وأخبرنا أن فريقاً من الناس عاهدوا الله أنه إذا جاءتهم الأموال سيخرجون منها ذات اليمين وذات الشمال ثم بخلوا فأعقبهم الله نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه قال -جل وعلا- {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِين * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) فهذا المال ينبغي أن تخرج الحق الواجب منه وأن تنفق منه في سبيل الله في كل جهة ممن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك وهذا المال إذا أنفقت شيئا منه فهو الذي يبقى لك وما تتركه فلن تملكه [أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك] .
__________
(1)) ) التوبة: 75- 78(84/7)
وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الحقيقة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، والحديث في سنن الترمذي، وابن ماجه من رواية عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ قول الله [ألهاكم التكاثر] ثم قال: النبي -صلى الله عليه وسلم-: [يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت أي أمضيته وقدمته بين يديك ليبقى عند ربك -جل وعلا- أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فأنت ذاهبٌ وتاركه] .
وفي رواية في المسند وصحيح مسلم من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [يقول العبد مالي. مالي وهل له من ماله إلا ما أكل فأفنى أو لبس فأبلى أو أعطى فأقنى _ أي اتخذه قنية له ومُدّخراً له عند الله -جل وعلا- ليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت. أمضيته ليكون بين يديك لتجده عند ربك -جلا وعلا- ليس لك من مالك إلا ما أعطيته لمن يستحقه في هذه الحياة في سبيل الله وتقرباً إليه ليكون لك قِنية مُدّخراً عند الله -جل وعلا- عباد الله فهؤلاء لا يبخلون وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ينزل ملكان في كل يومٍ تطلع فيه الشمس فيدعوان للمنفق بالخَلَف وللمسك بالتلف ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: [ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وينزل ملكان من السماء فيناديان فيقولان اللهم أعطي ممسكاً تلفا ويقول الآخر اللهم أعطي منفقاً خلفا] .(84/8)
والحديث -إخوتي الكرام- رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والإمام البيهقي من رواية أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان فيقولان يا أيها الناس هلموا إلى ربكم ما قل وكفى خيرٌ مما كثير وألهى وما من يوم تغرب فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان اللهم عجّل لمنفق خلفا وعجّل لممسك تلفا ولذلك خشي علينا نبينا -صلى الله عليه وسلم- إمساك المال والبخل به والشح به وعدم الإنفاق منه ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح بن حبان، ومستدرك الحاكم، والحديث صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: [لا أخشى عليكم الفقر إنما أخشى عليكم التكاثر] أن تتكاثر في الأموال وإلا تخرجوا منها في سبيل ذي العزة والجلال لا أخشى عليكم الفقر إنما أخشى عليكم التكاثر [ولا أخشى عليكم الخطأ إنما أخشى عليكم التعمد] فهؤلاء العباد يقنعون ولا يحبون هذا المال ولا يتعلقون به ولا يبخلون به إذا صار عندهم وهم كذلك لا يحرصون عليه فالحرص على المال يذهب دين الإنسان ويجعل الإنسان عبداً لهذا المال لهذا العرض الفاني الذي لا يسوى عند الله جناح بعوضة وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن أثر الحرص على المال وما يخلفه هذا الأثر من آثار سيئة في نفس الإنسان ففي مسند الإمام أحمد، والحديث رواه الترمذي في سننه، والإمام الدارمي في مسنده من رواية كعب بن مالك -رضي الله عنه-، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية، وابن حبان في صحيحه من رواية أبي هريرة -رضي الله عنهم أجمعين-، وروى الحديث من عدة من الصحابة الكرام روى عن ابن عباس، وعن ابن عمر، وعن أسامة بن زيد، وعن أبي سعيد الخدري، وعن عاصم بن عدي -رضي الله عنهم أجمعين- ولفظ الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [ما(84/9)
ذئبان جائعان ضاريان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه] ومعنى الحديث إذا حَرِص الإنسان على المال وعلى الشرف وهو الجاه والمنزلة بين الناس من يجعل هذا همه في الحياة يفسد دينه أشد من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين في زريبة الغنم ما ذئبان جائعان ضاريان أرسل في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه] ، أي الجاه والمنزلة لدينه فمن حرص على هذا يفسد دينه وقد سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحريص على المال الذي يتفانى في جمعه ويعبده سماه عبدً له.(84/10)
ثبت في صحيح البخاري وسنن ابن ماجه والحديث صحيح صحيح فهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، ولم يقل تعس مالك المال ولم يقل تعس جامع المال ليس في ملك المال منقصة وليس في جمع المال منقصة وليس في إحراز المال منقصة إنما المنقصة أن تكون أسيراً له أن تكون عبداً له ألا تتصرف إلا من أجل هذا المال وهذا الريال تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة وهي الثياب الحسنة المزركشة الملونة تعس بمعنى سقط بمعنى هلك بمعنى بَعُد بمعنى أصابه شر بفتح العين وكسرها وتعس تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة تعس وانتكس أي عاوده السقوط مرة بعد أخرى تعس وانتكس سقط على رأسه بعد أن يسقط في أول الأمر سقوطاً عادياً يدعوا عليه بهذه الأمور الشنيعة التي تناسب حال هذا العبد الذي جعل نفسه عرضاً لمال حقير ليس له عند الله أي وزن وتقدير تعس عبد الدينار عبد الدرهم عبد الخميصة تعس وانتكس سقط مرة بعد أخرى سقط على رأسه بعد أن سقط سقوطاً عادياً وإذا شيك فلا انتقش أي إذا دخلت شوكة في بدنه دعى عليه من قبل نبينا -عليه الصلاة والسلام- ألا يتسهل عليه إخراج هذه الشوكة بالمنقاش بالملقط الذي تُخْرَج به هذه الشوكة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش هذا عبدٌ ذليل حقير وضع نفسه عندما عبد المال من دون ذي العزة والجلال تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وإذا دُعي عليه بألا تخرج الشوكة من بدنه إذا دخلت فيه فإن الدعاء لما هو أعظم من باب أولى أي هذا الأمر اليسير إن أصابه يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ألا يخرج هذا الأمر اليسير من بدن عابد الدنيا وعابد المال ومحب المال وإذا وقع في ورطة أخرى فهذا من باب أولى لا يخرج منها ولا يتيسر الفرج عنه تعس وانتكس وإذا شيك فلا نتقش.(84/11)
والحديث رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- بلفظ لعن عبد الدينار وعبد الدرهم. وتقدم معنا حديث: [الدنيا ملعونة ملعون كل ما فيها إلا ما كان لله منها] . فهؤلاء إذا لا يحرصون على هذا المال ولا يكونون عبيد له وقد أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن كثيراً من أفراد هذه الأمة سيهلكهم الدرهم والدينار وسيبعدهم جمع الريال عن ذي العزة والجلال ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير، ومسند البزار، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، وإسناده صحيح جيد عن عبد الله بن مسعود، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن ابن موسى الأشعري -رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار وهما مهلكاكم] .(84/12)
وفي رواية مسند البزار أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عندما كان أميراً على الكوفة من قبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم أجمعين- فجاءه بعض الناس فأعطاه عطائه في الشهر ألف درهم ثم قال له خذ سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: [إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار وهما مهلكاكم] فهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض لا تلهيهم تجارة ولا بيع. لا يلهيهم عرض الدنيا فيقنعون بما قسم الحي القيوم ولا يحبون الدنيا ولا يبخلون بها ولا يحرصون عليها وآخر الصفات فيهم، أن هذه الدنيا إذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله -جل وعلا- في حالٍ من الأحوال ويتقربون بهذا المال إلى ذي العزة والجلال فقلوبهم مع الله وهي واثقة بأن ما قُسم لهم سيأتيهم ثبت في مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، وابن ماجه، والحديث رواه الحاكم في مستدركه، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في الزهد وإسناده صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فتلا قول الله تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيب} (1) ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: قال الله -عز وجل-: [ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غناً وأسُد فقرك وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك] . فهذه الدنيا لا تلهيهم عن الله طرفة عين في حالٍ من الأحوال.
__________
(1)) ) الشورى: 20(84/13)
والحديث رواه الحاكم في مستدركه، والإمام الطبراني في معجمه الكبير عن معقل بن يسار عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: قال الرب عز وجل: [ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأملأ يديك رزقاً وإلا تفعل ملأت صدرك فقراً وملأت يديك شغلاً] فيتعب وهو فقير القلب، ينصب وكلما حصل عرضاً من الدنيا كلما ازداد حرصاً وجشعاً وطمعاً ومحب الدنيا كمن يشرب من البحر. كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً والغنى غنى النفس فهؤلاء العباد إذا جاءتهم هذه الدنيا لا تلهيهم عن الله -جل وعلا- وقلوبهم متعلقة بالله وإذا حلت الدنيا في أيديهم أنفقوا من جميع جهاتهم.
كما ثبت في المسند والصحيحين والحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه من رواية أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: [إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا أي عن يمينه وعن شماله ومن خلفه كما وضح هذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- والحديث روى عن ابن عباس وابن مسعود وعن أبي هريرة -رضي الله عنهم أجمعين- بزيادة الجهة الأمامية إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وأنفق من جميع جهاته فمن فعل في المال هذا الفعل فقد حقق قول الله -جل وعلا- (لا تلهيهم تجارة ولا بيع) .
وخلاصة الكلام -إخوتي الكرام- هؤلاء العباد عباد الرحمن الذين يكونوا في بيوت ذي الجلال والإكرام يقنعون بما قسم لهم ولا يحبون الدنيا ولا يبخلون بها ولا يحرصون عليها وإذا جاءتهم لا تشغلهم عن الله طرفة عين وينفقون منها في جميع جهاتهم أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرزقنا من فضله وأن يجعل ذلك عوناً على طاعته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:(84/14)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه المباركين وأرض اللهم عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
إذا امتدت الحياة بالأمة الإسلامية تبتعد عن الفهم السليم الذي ينبغي أن تتحلى به في كل حين وليست المشكلة عند المسلمين في إثبات النص ووجوده والعثور عليه ومعرفته إنما المشكلة تكون في فهم ذلك النص وتدبيره ومعرفة ما يراد به وحقيقة مما يُزعج الآذان ما سمعته في كثير من البلدان وآخر السماع ما نقل لي بعض -الأخوة الكرام- من أيام أن بعض طلبة العلم يوردون شيئاً من الشبه في الفهم حول بعض أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذه الشبه تتعلق بموضوع الذهاب إلى بيت من بيوت الله لسماع موعظة ولحضور درس فقال هؤلاء المتفقهون الجدد إن هذا يكون من باب شد الرّحل.. فإذا خرج الإنسان من حي إلى حي ليصلي في ذلك الحي وليسمع هناك خطبة أو موعظة أو يحضر درساً فقد شد الرّحل إلى غير المساجد التي أمرنا بشد الرحال إليها وهذا حرم لا يجوز وأن أعجب غاية العجب أن تنعكس المفاهيم وأن تُقلب الموازين في هذا الحين في هذا العصر الذي نعيش فيه فنجعل القربة والطاعة معصية (إنا لله وإنا إليه راجعون) .
إخوتي الكرام: نعم نهانا نبينا -عليه الصلاة والسلام- عن شد الرحال إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد ثبت في المسند، والحديث في الصحيحين، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- فهو في الكتب الستة مع المسند إلا سنن الإمام الترمذي من رواية أبي هريرة.(84/15)
والحديث في المسند، والصحيحين أيضاً، وسنن الترمذي، وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري قال أبو هريرة وأبو سعيد -رضي الله عنهم أجمعين-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: [لا تشد الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى] ومعنى الحديث حسبما قرر أئمتنا وما ينبغي أن يختلف اثنان في هذا الفهم لا تشد الرّحال إلى مسجد في الأرض من أجل مضاعفة الصلاة فيه وحصول الخير الكثير فيه والبركة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة فالمسجد الحرام الصلاة تضاعف فيه بمائة ألف ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام بألف صلاة والمسجد الأقصى بخمس مائة صلاة والمساجد الأخرى بعد ذلك تستوي في الفضيلة فليس إذا من المشروع إذا أردت أن تصلي الظهر في مسجد حيك وتترك هذا المسجد وتشد الرحل إلى مسافة مائة كيلو أو مائتين كيلو في حيٍ آخر من أجل حضور الصلاة فقط فالصلاة في هذا المسجد تعدل الصلاة في ذلك المسجد.(84/16)
هذا معنى الحديث ولا يفهم منه إلا هذا وأما أن تشد الرّحل بعد ذلك لزيارة أخ في الله في مكان من الأمكنة أو أن تشد الرحل إلى مسجد من المساجد وبيت من بيوت الله لتحضر فيه موعظةً درس علم تتلقى فيه حديثاً عن النبي -عليه الصلاة والسلام- فهذا من القربة والطاعة وأنت ما شددت الرّحل إلى المكان إنما شددت الرّحل لما سيكون في ذلك المكان وشتان شتان بين الأمرين أنت ما شددت الرحل من أجل تعظيم تلك البقعة وأن لها ميزة خاصة على البقعة التي بجوارك إنما شددت الرحل وركبت الدابة ووسيلة السفر من أجل أن تُحِّصل طاعة وفائدة وعلم لا يكون في جهتك فهذا قربة وكان سلفنا الكرام -رضوان الله عليهم- يتنافسون فيه وقد قص الله علينا في كتابه في سورة الكهف قصة نبي الله وكليمه -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- كيف ذهب مع العبد الصالح الخضر قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} (1) وشد الحل إليه مع غلامه وتذود مع غلامه ويمشي مسافة بعيدة للقاء هذا العبد الصالح وبعد ذلك تبعه من أجل أن يتعلم منه وقصته طويلة مذكورة في القرآن الكريم ومع ذلك ودَّ نبينا -عليه الصلاة والسلام- لو أن نبي الله موسى -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- صبر ليقُص علينا من أمره مع هذا العبد الصالح العجب والعجائب والحديث ثابت في صحيح البخاري وغيره فالرحلة لأجل درس وموعظة وزيارة أخٍ وصلة رحم هذه مشروعة تثاب عليها لا يَصْلُح بحال أن تستدل بهذا الحديث على تحريمها وإذا كان من يكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- فليتبوأ مقعده من النار له هذا الجزاء فليوطن نفسه على هذه العقوبة من يُحَمِّل كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- ما لا يحتمله وإذا لم تكن من أهل الإستدلال والنظر فقف عند حدك ولا داعي للتطاول وأنا أقول لهذا الصنف الذي كثر في بلاد المسلمين ويستدل بحديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام على ما لا
__________
(1)) ) الكهف: 66(84/17)
يدل عليه أقول لمن يتشككون في هذا الأمر أرجعوا إلى كتاب من كتب أئمتنا لحافظ الدنيا في زمانه الإمام الخطيب البغدادي الذي توفي سنة 463هـ ألف كتاب سماه الرحلة في طلب الحديث ولا يقصد بالرحلة الترغيب في الرحلة فهذا معلوم من الدين بالضرورة إنما قرر في هذا الكتاب من رحل من الصحابة الكرام فمن بعدهم في طلب حديث واحد. أما أنهم رحل في طلب العلم وفي طلب أكثر من حديث فهؤلاء لا يحصون كتابا بكامله رحل عدد من سلف الكرام منهم جابر بن عبد الله وغيره -رضي الله عنهم أجمعين- كما في هذا الكتاب من أجل طلب حديث واحد يشد رحله من بلاد العراق إلى مصر من المدينة المنورة إلى مصر من أجل أن يلتقي بالصحابي الذي حمل الحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- ليسمعه منه مباشرة لئلا يأخذه عنه بواسطة مسافات في تلك العصور وفي ذلك تعب كثير ثم إذا سمع الحديث يَكُّر راجعاً فلا يستقر في ذلك المكان ولا لأجل تناول ضيافة حديث واحد – الرحلة في طلب الحديث. ولذلك قال أئمتنا كما هذا هو نظم الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري عليه رحمة الله في منظومته في قواعد علوم الحديث والمصطلح يقول:
وأخلص النية في طلبك ... وجدّ وأبدأ بعوالي مصرك
وما يَهمُ ثم شد الرحل ... لغيره ولا تساهل حملا
واعمل بما تسمع في الفضائل ... والشيخ بجله ولا تتثاقل
عليه تطويلا بحيث يضجر ... ولا تكن يمنعك التكبر
أو الحيا عن طلب واحتسب ... كتم السمع فهو لئم(84/18)
هذا هو ما يقرره أئمتنا وهذا هو الأدب والفهم والحكمة التي كانت عند سلفنا فيأتيك إنسان في هذه الأيام فيقول ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لا تشد الرحال إلى المساجد الثلاثة وأنتم تتمرحون من حي إلى حي لسماع موعظة أو درس فقد شددخم الرحل سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم على هذا الفهم السقيم إذا ما كان هذا الإنسان عالماً أو طالب علم ألا سكت واستحى شفاء الجاهل السؤال إلا أن يتطاول ويعد نفسه من أهل الاستدلال نسأل الله أن يلهمنا رشدنا وأن يبصرنا بعواقب أمورنا اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
الدعاء..(84/19)
المعتمد
في بدعية الذكر بالاسم المفرد
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
المعتمد في بدعية الذكر بالاسم المفرد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(85/1)
لازلنا نتدارس شناعة البدعة في الإسلام، وأنها توجب للإنسان سوء الخاتمة، وتقدم معنا أن البدعة هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك الحدث إلى الرحمن، وذلك الحدث لا تشهد له نصوص الشرع الحسان.
إخوتي الكرام: وقد استعرضنا نماذج من البدع التي وجدت في هذه الأيام، منها بدع حول الدعاء، حيث انحرف كثير من الناس عن الالتجاء إلى رب الأرض والسماء، والتجئوا إلى الأموات والأحياء، ومنها ما يتعلق بعبادة الذكر، حيث انحرفوا عن الأذكار الشرعية، ثم عكفوا بعد على الأشعار الصوفية أو الجهادية، وفي هذه الموعظة المباركة سنتدارس بدعة من البدع التي انتشرت أيضاً ألا وهي تغيير الأذكار الشرعية المأثورة عن نبينا خير البرية - صلى الله عليه وسلم -، أي تغيير صيغتها والتلاعب بألفاظها إلى صورة لم يأذن بها رب العالمين، ولم تنقل عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.
وكما هي عادتنا إخوتي الكرام، نفتتح الموعظة بتقرير الحق ليرسخ في الذهن وليتمكن من القلب، ثم نكر بعد ذلك على الباطل لتدمغه.(85/2)
إخوتي الكرام: تقدم معنا منزلة ذكر الرحمن في الإسلام، وأن هذه العبادة هي أفضل العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه بعد أداء الفرائض والواجبات، وإذا كان لهذه العبادة أعني ذكر الله جل وعلا هذه المنزلة في الإسلام، فإن صيغها تتفاوت في الأجر والرتبة والحظوة والمنزلة، فأعلى صيغ الأذكار كلمة التوحيد، التي من أجلها خلق الله الخليقة، وأسس الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، كلمة لا إله إلا الله، فهذه أفضل الأذكار، وهي أفضل الطاعات التي يتقرب بها العبد إلى العزيز الغفار، وقد قرر هذا نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة، والحديث في (الأدب المفرد) للإمام البخاري أيضاً، ورواه الإمام أبو عيين في كتاب (الإيمان) ، وهو في أعلى درجات الصحة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان] .
[الإيمان بضع وستون شعبة] ولا تعارض بين الروايتين، كما قرر أئمتنا لدخول القليل في الكثير.(85/3)
نعم إخوتي الكرام، أفضل الطاعات وأعلى الأذكار وأعظم الحسنات كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه [أنه قال لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أوصني فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أسأت فاعمل بعدها حسنة تمحها] قال أبو ذر يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هي أفضل الحسنات] ، والحديث كما قال الإمام الهيثمي في المجمع رجاله ثقات لكن في إسناد الحديث شمر بن عطية الكاهلي الأسدي، وهي ثقة كما قال الهيثمي وهو من رجال الغمام النسائي في (السنة) ، والإمام الترمذي في (السنن) ، وأخرج له أبو داود في (مراسيله) ، وحكم عليه الحافظ في (التقريب) بأنه صدوق، وهذا العبد الصالح شمر بن عطية روى الحديث عن اشياخه ولم يسم أحداً منهم عن أبي ذر رضي الله عنهم أجمعين، والحديث تشهد له نصوص كثيرة سيأتي بعضها إن شاء الله.(85/4)
نعم إخوتي الكرام، أفضل الحسنات وأعلى شعب الإيمان وأفضل الطاعات وأفضل الأذكار كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقد ثبت في سنن الإمام أحمد والسنة الأربعة إلا سنن أبي داود، والحديث في صحيح ابن حبان، والمستدرك للحاكم، وإسناده صحيح كالشمس، من رواية جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله] وقد تقدم معنا في موعظة سابقة توجيه الشق الثاني من هذا الحديث الثابت [أفضل الدعاء الحمد لله] قلت لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين، إلى دعاء مسألة، وإلى دعاء عبادة، وهذه من صيغ دعاء العبادة، وهي من أعظم الصيغ [الحمد لله] وإذا أثنى السائل على المسؤول فقد تعرض لإجابة سؤله وإن لم يسأله حاجته كما تقدم تقرير هذا من كلام العبد الصالح ابن محمد سفيان ابن عيينة سيد المسلمين في زمانه عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أنه قال (إذا كان مخلوق يقول لمخلوق، إذا كان أمية ابن أبي الصلت يقول لعبد الله بن جدعان عندما يصرحه أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياءك، إن شيمتك الحياء إذا آتنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الشتماء) .(85/5)
أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله، فأعظم الطاعات وأفضل الأذكار التي يتقرب بها المخلوق إلى خالقه، كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل كلمة خرجت من بين شفتين الطاهرتين الكريمتين ومن بين شفاه أنبياء الله ورسله منذ أن أرسل الله آدم إلى أن ختم رسله بنبينا محمد على نبينا وعل جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه أن أفضل كلمة خرجت من تلك الأفواه الطيبة المباركة من أفواه أنبياء الله ورسله هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ثبت الحديث بذلك في موطأ الإمام مالك من رواية طلحة بن عبيد الله بن كريب بغير التصغير وهو ثقة من أئمة التابعين الطيبين ومن رجال صحيح مسلم وسنن أبي داود مرسلاً إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
والحديث رواه الإمام الترمذي في سننه من رواية عمرو بن شعيب عن أمية عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أفضل الدعاء دعاء يوم عرفه، وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير] .
إخوتي الكرام: وسأستعرض في هذه الموعظة المباركة شيئاً من الأجور التي يحصلها الذاكر لله جل وعلا بهذه الصيغة، أعني كلمة التوحيد لا إله إلا الله وسأذكر الأجور التي يحصلها الإنسان على قول هذه الصيغة إذا قالها مطلقاً دون أن يتحدد ذلك بوقت أو مكان، ودون أن أتحدث عن فضائلها الحسان وأحكامها العظام، كما سأقص شيئاً من الحديث على فضل النطق بها، من نطق هذه الكلمة مرة أو عشر مرات أو مائة أو مائتين أو أكثر دون أن يتحدد ذلك بوقت أو مكان ودون أن أبحث في بقية أحكامها الحسان، ما أجر من نطق بها؟ ما أجر من كررها؟ ما أجر من عبد الله بها، كلمة التوحيد، إخوتي الكرام لذلك أجور كثيرة وقربات وبركات، فالكلمة الواحدة من هذه الصيغة إذا قلتها تعدل عدل رقبة عند الله جل وعلا.(85/6)
ثبت ذلك في سنن الإمام أحمد والحديث رواته رواه الصحيح كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، والحديث صححه الإمام المنذري وغيرهما من أئمتنا عليهم جميعاً رحمة الله، والحديث من رواية البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من منح منحة ورق أو منحة لبنٍ أو هدى زقاق كان كعتاق رقبة ومن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلي شيء قدير كان كعتق رقبة] .
والورق هي القرضة والمال أي من أقرض إنساناً ومنحه مساعدة وليس المراد هنا العطية بلا مقابل، إنما عطية لتستردها فهو في حاجة فأقرضه إن أقرضته مالاً فلك عند الله أجر عتق رقبة، وسيأتينا ما في عتق الرقبة من أجور، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وهكذا من منح منحة لبنٍ فكأنه أعتق رقبة، أعطيته ناقة أو شاة أو بقرة لينتفع بدرها وتستردها بعد ذلك فلك أجر عتق رقبة، ومن هدى زقاقاً والزقاق هو الشارع والطريق، إنسان ضال تائه ضائع فسرت معه وأوصلته إلى مكان حاجته فلك عند الله أجر عتق رقبة، وهذه الأمور الثلاثة كلها فيها شفقة على المخلوق وديننا كما تقدم معنا يقوم على دعامتين، تعظيم للخالق وشفقة على المخلوق، فإذا أشفقنا على المخلوق لنا هذا الأجر العظيم عند ربنا الكريم، فماذا تحصل من أجر إذا عظمنا الخالق واثنينا عليه بما هو أهله، فمن قال مرة واحدة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كعتق رقبة.(85/7)
والحديث في المسند كما قلت ورواته في الصحيح، فرجاله رجال الصحيح، والحديث صحيح، نعم رواه الإمام أحمد في رواية ثانية وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، وهكذا ابن أبي شيبة، ورواه الإمام الطبراني في الكبير بلفظ عشر مرات بدل مرة [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كعتق رقبة] وسيأتينا إن شاء الله توجيه الاختلاف بين الروايات التي نقلت عن نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام من قال مرة كان كمن عتق رقبة وهذا المعنى ثبت أيضاً في معجم الطبراني الكبير بسند صحيح كما نص عليه الإمام الهيثمي والمنذري، من رواية سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مرة واحدة كان كعدل محررين] أي كمن حرر عبداً أو أمةً أو حرر عبدين أو أمتين، وفي رواية أيضاً في معجم الطبراني وإسنادها صحيح أيضاً من رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل] هذا الأجر لمن يقول هذه الصيغة مرة واحدة، وإذا قلتها أكثر من ذلك إلى عشر مرات فاستمع للأجر العظيم الذي نص عليه نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام.
ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير ورواه البيهقي في كتابه (الدعوات) الكبير وهو في أعلى درجات الصحة، من رواية أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل] .(85/8)
كان كمن أعتق أربعة أنفس من خير أنواع العبيد، من العرب إذا استرقوا، وهم من نسل هذا النبي المبارك، فكم تنال أجراً في تحريرهم إذا قلت هذه الكلمة عشر مرات لك هذا الأجر العظيم عند رب الأرض والسماوات.
والحديث كما قلت في الصحيحين ورواه الإمام البخاري وابن أبي شيبة في مصنفه والنسائي في كتابه (عمل اليوم والليلة) ، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه موقوفاً عليه من قوله أنه قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل] .
وهذا الكلام له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قطعاً وجزماً فمثله لا يقال من قبل الرأي وعليه هو مرفوع من رواية هذين الصحابيين المباركين من رواية أبي أيوب، ومن رواية عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاهم وفي بعض روايات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال [لأن أقول عشر مرات لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير أحب إليَّ من أن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل] .
وإذا زدت في العدد والمقدار وقلت هذه الصيغة مائة مرة فلك من الأجر الشيء الكثير كما جاء عن نبينا البشير النذير عليه صلوات الله وسلامه.(85/9)
ثبت في موطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد، والحديث في الصحيحين وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة ورواه الإمام النسائي في (عمل اليوم والليلة) ورواه الإمام البغوي في (شرح السنن) والإمام ابن حبان في صحيحه كما رواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كان كعدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت منه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا من عمل أفضل منه] .
وتوجيه هذه الروايات في الأختلاف في الأجور التي يحصلها الإنسان عند النطق بهذه الكلمة فإذا قالها مرة له رقبة أو أربعة رقاب أو أجر محرر أو محررين، وهكذا إذا قالها عشر مرات له عتق أربع رقاب، فما هو الجمع بين هذه الروايات ذلك عدة أقوال أذكر ثلاثة منها باختصار، الذي مال إليه الحافظ ابن حجر في الترجيح بين هذه الروايات وهو فيما يظهر فيه بعد، والقول الثاني مال إليه الإمام القرطبي في كتابه (المفهم في شرح صحيح مسلم) وهو من أحسن الأجوبة.(85/10)
وأحسن منه الجواب الثالث ألا وهو أن ذلك يختلف باختلاف حال الذاكرين، فمن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وقد امتلأ قلبه بتعظيم الله جل وعلا وكأنه حاضر بين يديه كأنه أعتق بهذه الجملة الواحدة أربعة أنفس من ولد إسماعيل عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه، وإذا خف حضوره بين يدي الله خف من أجره لكنه لا ينقص عن أجر إعتاق رقبة مؤمنة، وتقدم معنا مثل هذا التوجيه في الأجور التي يحصلها الإنسان عندما يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام وتقدم معنا رواية المسند بإسناد صحيح من رواية ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة] وقلت لا تعارض بين هذا وبين الروايات الثانية الصحيحة التي أظهرت أن الله يصلي على من يصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام، يصلي عشر مرات على من يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام واحدة، قلت هذا على حسب ما يقوم بالقلب من تعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وسبيل إليه ومحبة له عليه صلوات الله وسلامه وفداه أنفسنا وآباءنا وأمهاتنا، والأمر هنا كذلك، والأمر هنا كذلك، وهذا كما قلت جواب الإمام أبي العباس القرطبي وهو جواب معتبر قوي، وأحسن منه فيما يظهر لي وهو الذي يفحم من كلام النووي رحمه الله أنه لا منافاة بين هذه الأجور لدخول القليل في الكثير كما يقرر هذا بكثرة في شرح صحيح مسلم والعدد لا، وعليه إذا بهذه الصيغة أجر إعتاق رقبة، لا يتنافى مع أجر محررين أو مع أجر أربعة رقاب، والعلم عند الكريم الوهاب.
إخوتي الكرام: إذا قال الإنسان هذه الصيغ مرة أو عشر مرات أو مائة مرة ينال هذه الأجور، منها عتق الرقاب وأجور أخرى كثيرة تصاحبها.(85/11)
وعتق الرقاب وما أدراكم ما عتق الرقاب؟ له أجر عظيم عند الكريم الوهاب سبحانه وتعالى، فمن أعتق رقبة في هذه الحياة فهي فكاكه من النار كما أخبر عن ذلك نبينا المختار عليه الصلاة والسلام.
ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين والحديث في سنن الترمذي ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى وفي كتاب (الدعوات) الكبير كما رواه الإمام البغوي في شرح السنة، ورواة الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه مضواً منه من النار حتى فرجه بفرج] وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي صحيح من رواية عمرو بن عيشة أبي نجيح رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من أعتق رقبة مؤمنة كانت فكاكه من النار] سبحان الله، إذا قلت لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير يكتب لك كعتق رقبة، كعتق محرر أو محررين كعتق أربعة رقاب، فما هذا الأجر العظيم الذي يغدقه ربنا الكريم على عباده المؤمنين، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وإذا زدت في العدد فقلت هذه الصيغة مائتين فلك أجر عظيمٌ عظيم لا يسبقك من تتقدمك ولا يدركك من لحقك إلا إذا قالوا أكثر منك، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد، ومعجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح من رواية عبد الله بن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائتي مرة لا يسبق من كان قبله ولا يدركه من يأتي بعده إلا من عمل بأفضل من عمله] نعم رواه الحاكم وضبط العج بمائة وهل هذا في طباعة المستدرك أو أن الرواية مائة ومائتين العلم عند الله جل وعلا لكن رواية رواية الإمام أحمد ورواية الطبراني العدد فيهما مائتان.(85/12)
قال الإمام الهيثمي في الجمع في كتاب (الأذكار) باب التسهيل بمائة أو أكثر، وكما قلت إسناد الحديث صحيح وقد حسنه الإمام المنذري عليه رحمة الله في كتاب (الترغيب والترهيب) ، وهذه الأجور يحصلها كلام الله جل وعلا، وإذا كان في صيغ الأذكار صيغة هي أفضل الأذكار كلام الله جل وعلا أيضاً سورة هي أعظم السور عندما تتلوها ولك عليها أجر عظيم عند ربنا الكريم سبحانه وتعالى، وكما تقدم معنا الأجور المطلقة التي يحصلها الإنسان عند قراءة كلام الرحمن دون تحديد السورة منه، أجور كثيرة وتنال أجور كثيرة معنا، عنه لبعض السور إذا قرأت يزداد أجرك كما أن هناك الأذكار إذا قلتها لك أجر عند ربنا سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام: كل حرف من القرآن تؤجر عليه بعشر حسنات ولا ينقص الأجر والثواب عن هذا الحد، كما أخبر عن ذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - والحديث في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب ورواه الإمام البخاري في (التاريخ) الكبير كما رواه الإمام الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) والحديث رواه الإمام ابن الضريس في كتابه (فضائل القرآن) ورواه الإمام البيهقي في (شعب الإيمان) وكما قلت إسناده صحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف] فلك على النطق بهذه الحروف الثلاثة ثلاثون حسنة وعند الله مزيد، لكن بعض السور لها أجور مضاعفة كما أن صيغ الأذكار لها منزلة وأجور مضاعفة، وأفضل السور التي تحصل عليها أجراً كبيراً عند قراءتها سورة الإخلاص.(85/13)
كما أن أفضل الأذكار كلمة الإخلاص، وسورة الإخلاص هي سور الرحمن {قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد *} فهذه السورة تعدل ثلث القرآن عند ربنا الرحمن، وإذا قرأتها عشر مرات بنى الله لك قصراً في الجنة وإذا زدت فالله جل وعلا أكثر وأطيب وأوسع سبحانه وتعالى، وهذه المعاني كلها ثابتة عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث في صحيح البخاري وسنن أبي داود والنسائي ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى وابن الضريس في فضائل القرآن من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال مر رجل على رجل في الليل وهو يصلي يقرأ سورة الإخلاص ويرددها فلما طلع الصبح جاء هذا الرجل الذي سمع رجلاً يردد سورة الإخلاص جاء ليخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عما رأى وسمع وشاهد وكأنه أي المخبر من الصحابة يتقال هذه السورة وستقل أجرها فقال النبي عليه الصلاة والسلام [والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن] وهذا المعنى متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أجزم بذلك وأقطع به وأسأل عنه أمام الله عز وجل، وقد روى هذا المعنى عن أكثر من عشرة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي هذه الروايات التصريح بأن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن فمن هذه الروايات رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، وهي في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم، وفي كتاب (فضائل القرآن) لأبن الضريس وفي سنن النسائي ورواها الإمام أبو عيينة في كتاب (فضائل القرآن) ومثلها رواية أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وهي أيضاً في سنن الإمام أحمد وسنن الترمذي وسنن النسائي ورواها أبو عيينة في (فضائل القرآن) ، وابن الضريس في (فضائل القرآن) والبخاري في (التاريخ الكبير) ورواها البيهقي في (شعب الإيمان) ولفظ روايتي أبي الدرداء وأبي أيوب رضي الله عنهم وأرضاهم والروايتان صحيحتان ثابتتان(85/14)
عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن نبينا قال للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين [أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فقالوا يا رسول الله نحن أضعف من ذلك وأعجز فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده إن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن] فإذا جن عليك الليل فاقرأ هذه السورة مرة واحدة كأنك قرأت ثلث القرآن.
وثبت في سنن الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [احشدوا حشد] أي اجتمعوا جموعاً كثيرة نفيرة ومثيرة فلما اجتمع الصحابة الكرام خرج عليهم النبي عليه الصلاة والسلام وقال سأقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ سورة الإخلاص ثم دخل حجرته فقال الصحابة ما ذهب النبي عليه الصلاة والسلام، ودخل حجرته إلا لأمرٍ طرأ من السماء ثم خرج النبي عليه الصلاة السلام وهم جموع لا زالوا مكانهم قال ما لكم قالوا قلت لنا ستقرأ علينا ثلث القرآن وقرأت سورة الإخلاص ثم دخلت إلى بيتك المبارك فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن] من رواية أبي سعيد وأبي الدرداء وأبي أيوب وأبي هريرة، وروى هذا المعنى من رواية عدة من الصحابة الكرام، انظروها في كتب السنة الشريفة، روى من رواية ابن أنس وأبي ابن كعب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ومن رواية معاذ بن جبل والنعمان بن بشير ومن رواية أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنهم أجمعين، فبها هذا المعنى أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن وقد اختلفت أنظار أئمتنا في توجيه المراد بهذا الحديث وابرز ما قيل في ذلك قولان:
الأول: تعدل ثلث القرآن من حيث الثواب والأجر والله يختص ما يشاء بما يشاء سبحانه وتعالى، فمن قرأ سورة الإخلاص له كأجر من قرأ عشرة أجزاء من القرآن الكريم.(85/15)
والثاني: هي ثلث القرآن من حيث الموضوع، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله وألف كتاباً في ذلك سماه (جواب أهل العلم والإيمان بتحقيق ما أخبر به رسول الرحمن من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن) وحاصل كلامه وكلام غيره في هذا الشأن أن القرآن من حيث الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام توحيد، وأحكام شرعية من عبادات ومعاملات وغير ذلك، قصص والقصص جاء لتقرير هذين الأمرين وتوكيدهما وإثباتهما، لتقرير التوحيد وإثبات الأحكام الشرعية، فالقرآن لما كان ينقسم إلى ثلاثة أمور توحيد، وأحكام شرعية، وقصص، سورة الإخلاص تمحصت في توحيد الخالق جل وعلا حتى ثلث القرآن من هذا الاعتبار.
وأنا أقول لا مانع من الجمع بين الأمرين هي ثلث القرآن من حيث موضوعها، وهي ثلث القرآن من حيث ثوابها والأجر على قراءتها والله ذو الفضل العظيم.
إخوتي الكرام: هذه السورة لها شأن عظيم من قرأها عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير (وعمل اليوم والليلة) لأبن السني من رواية معاذ بن أنس الجهني ورواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه ورواه الإمام الدرامي في سننه من رواية أبي عقيل زهرة بن معين عن سعيد ين المسيب مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن من قرأ سورة الإخلاص عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة] وفي رواية أبي هريرة والرواية المرسلة لسعيد بن المسيب [من قرأها عشرين مرة بني له قصران، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاثة قصوراً فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، إذاً نستكثر قصوراً يا رسول الله.
سبحان ربي العظيم وقصر في أي دار في دار باقية لا تفنى ولا تزول.(85/16)
إخوتي الكرام: كم نتنافس ونشقى ونتعب وننحني في تحصيل كوخ في هذه الحياة، ثم نزهد بعد ذلك في قصور الجنات، إن هذه هي السفاهة والحماقة بعينها [إذاً نستكثر قصوراً فقال النبي عليه الصلاة والسلام الله أكثر وأطيب] وفي رواية الدارمي [الله أوسع] وملكه سبحانه وتعالى لا ينقضي ولا يحيط به إلا هو سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام: وهذه الروايات لا تنزل عن درجة الحسن بحال.
أما رواية سعيد بن المسيب فهي مع إرسالها حكم عليها الإمام ابن كثير بأن هذا المسند حسن الإسناد ومن بحث في رجال إسنادها يرى أن جميع رجال الإسناد رجال أئمة ثقات إثبات من رجال الصحيحين إلا عبداً واحداً صالحاً ولياً وهو أبو عقيل زهرة بن معين فهذا خرج له النبلاء فقط وأهل السنن الأربعة ولم يخرج له الإمام مسلم وقد توفي 135هـ قال الإمام الدارمي بعد أن روى الحديث من طريقه إلى سعيد بن المسيب في (التقريب) قال ثقة عاين ولما ترجمه الإمام الذهبي في (الكاشف) قال كان من الأولياء وتقدم معنا ما يتعلق بتعريف الإبدال والأحاديث الواردة فبهم فلا يتعين ذلك عن أذهانكم ورواية أبي هريرة رضي الله عنه فيها ضعف من حيث الإسناد ورواية معاذ بن أنس الجهني لكن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن بحال، وهذا ثابت من كلام نبينا المختار عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام:
هذه هي الأجور والمقام التي يحصلها من يذكر الله بأعظم صيغ الذكر بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، وبكلامه في السورة التي نزلها في بيان النسبة ونسبها سبحانه وتعالى وهي سورة الإخلاص.
وإذا كان ال بكلمة التوحيد ويكثر من قراءة هذه السورة المباركة وهي سورة الإخلاص.
ما الذي حصل بعد ذلك؟ إن الأمر تغير بانتكاس العقول وعبد الناس أنفسهم وهم يظنون أنهم يعبدون ربهم.
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا} .(85/17)
{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم سمعه وفله وجل على بحر غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} .
إخوتي الكرام: حصل في هذه الأمة فرقة ضالة وثبتت فيها ثابتة حرفت وغيرت الأذكار الشرعية المأثورة عن خير البرية عليه الصلاة والسلام، وعكفوا على أذكار مبتدعة زعموا أن شريعة الله المطهرة تدل عليها ولا يشهد لذلك كتاب ولا سنة ولا قول عالم من هذه الأذكار باللفظ المفرد بكلمة (الله، الله،) ، (حي، حي) ، (قهار، قهار) (سميع، سميع) (أحد، أحد) ومنها الله بالإسم المفرد مضراً (هو، هو، هو، هو) تراهم يعكفون على هذه الصيغ (الله، الله، الله) ثم يحرفون الصيغة أيضاً بحيث يسقط الألف واللام أحياناً والهاء يبدلها إلى حا فتراهم من سرعة كلامه اح أح عندما يتكلم وبعد ذلك (هو، هو) يعوي ويمد هذه الكلمة، يا عبد الله علام هذا علام هذا؟
ألا ذكرت الله بأفضل كلمة نطق بها خير خلق الله عليه الصلاة والسلام ونطق بها أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه (لا إله إلا الله) علام هذا التكلف (حي، حي، قهار، قهار، أحد، أحد، هو، هو) علام هذا، واشتط هؤلاء ففريق قال إن هذا جائز وفريق قال هذا أفضل الأذكار، فلا إله إلا الله ذكر العوام، والله، الله بالاسم المفرد مظهراً ذكر الخواص، هو، هو بالاسم المفرد مضمراً ذكر خواص الخواص، من هؤلاء خواص الخواص؟(85/18)
أنا أريد أن أعلم، إذا ما كان نبينا عليه الصلاة والسلام خير خلق الله هو خاصة الخاصة وهو أحب الخلق إلى الله، فمن هو خاصة الخاصة؟ الذي يذكر الله بهذه الصيغة هو، هو؟ وأعرف بعض الناس يجلس كل يوم قبيل الفجر فيذكر الله عشر آلاف مرة بصيغة الله، الله، وهو، هو في كل يوم صيغة فقلت يا عبد الله والله ما أشك إن شاء الله من حسب ما يبدو من حالك إنك تريد ذكر الله وعبادة الله وتحب الله على حسب ما يظهر لكم هذا لذكر المبتدع المحدث ما أعلم هل ستخرج رأساً برأسي فلا أجراً ولا ترتكب وزراً أم سترتكب وزراً بهذا، ألا قلت بدل هذا صيغة منقولة عن حبيبك عن رسولك عن نبيك عليه الصلاة والسلام، الكف عن كلمة التوحيد، على التسبيح، على التحميد، على الحوقلة، على أي صيغة من صيغ الأذكار عشر آلاف مرة قبيل الفجر كل يوم يقول هذا بقراءة ساعتين إلى ثلاث ساعات.
عجباً من جد أهل الباطل وأهل البدع في باطلهم وبدعهم وعجزنا عن حقنا والذي يطنطن صباح مساء في التوحيد ما أظن أنه يقوم قبل الفجر الربع ساعة ليقول هذه الصيغة المباركة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، ألا من رحمة ربك، وانظر إلى أهل البدع وجدهم في ضلالهم وبدعهم وعجزنا وضعفنا وخورنا عن حقنا وعن الهدى الذي جاء نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
إخوتي الكرام:
أذكار مبتدعة الله، ثم تغيير في الصيغة ثم هو، هو عكفوا على هذا في خاصة أنفسهم وفي بيوت ربهم وحولوا بيوت إلى مكان للذكر المبتدع من قبل أنفسهم كما حولها الصوفية إلى مكان للقصائد والأشعار والرقص مع تبرير فعلهم ووجد أيضاً في هذا الوقت من يبرر هذا النقل وله أدلة من هنا ومن هناك وغاية ما أيدوا به هذا ثلاثة أمور.(85/19)
أولها: قالوا إن هذا يدل على جوازه كتاب وسنة رسول عليه الصلاة والسلام والتعليلات العقلية، أما القرآن قالوا إن الله تعالى نص على جواز الذكر بالاسم المفرد بكلمة الله في كتابه فقال جل وعلا في سورة الأنعام {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} والآية إخوتي الكرام في بدايتها {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشرٍ من شيءٍ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباءكم قل الله} أي الله هو الذي أنزل ذلك الكتاب والكتب السماوية، قل الله أنزله، {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} ليس {قل الله} أي أذكر الله بهذه الصيغة قل (الله، الله، الله، قهار، قهار، قهار) قل الله واستمع إلى الآية {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدىً للناس تجعلونه قراطيس} والقراطيس هي الصحف المفرقة وكان أهل الكتاب عليهم لعنات الكريم الوهاب يكتبون التوراة والإنجيل في صحف مفرقة ليظهروا ما أرادوا وليكتموا ما أرادوا، فإذا التي لم يوافق أهوائهم كتموا الصحيفة التي فيها هذا الأمر، ومن أجل هذا كره من أئمتنا تجزئة القرآن وأمروا بأن يطبع كاملاً ويتبع آخره أوله من أجل ألا نتشبه بأهل الكتاب الذين كانوا يقطعون كتبهم وإذا حصل هذا من باب التيسير على النشء فلا حرج، إنما من أجل ألا نتصف بهذه الصفة، كان أئمتنا يكرهون تجزئة القرآن، {تجعلونه قراطيس} تكتبونه على أوراق متفرقة فإذا أردتم أن تستدلوا بشيء لكم أخرجتم هذه الصحيفة، وإذا الشيء فيه حجة عليكم كتمتم تلك الصحيفة وقلتم هذه الصحف ليس فيها ذلك الكلام {تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباءكم} من أنزل الكتاب؟ {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يعلبون} أي الله أنزل مبدأ والخبر محذوف مقدر لا تخفي على أحد، وأئمتنا يقولون المحذوف إذا دل عليه مذكور كان في حكم الملفوظ {قل الله} .(85/20)
وكان رؤية بن الحجاج عليه رحمة الله إذا سأل كيف أصبحت قال خير ما قال (الله) أي أصبحت بخير ما قال الله حرف الجر يحذفه.
وأما أن تقول {قل الله} يعني أذكر الله بهذا الاسم المبارك (الله، الله، الله) فهذا من باب التلاعب بكلام الله جل وعلا، ولما مر بعض الأعراب على مؤذن يؤذن فنصب لفظ الرسالة في الآذان فقال (أشهد أن محمداً رسول الله) فوقف الأعرابي فلما انتقل المؤذن إلى الجملة الثانية (حي على الصلاة) نادى الأعرابي بأعلى صوته أيها المؤذن أمجنون أنت قف. أين الخبر (أشهد أن محمداً رسول الله) بأي شيء ستخبر عنه، صادق؟ كاذب؟ رسول الله حقاً وصدقاً؟ أخبر عنه، فجعل الرسول بدلاً من محمد أين الخبر، إنما الخبر رسول الله، فاخبر حصل بصفة الرسالة، أجزت بكلام تام القائدة يحسن السكوت عليه.
لو قال الشيوعي هذه الكلمة (الله) مليار مرة لما صار من عداد الموحدين حتى يقول لا إله إلا الله، (الله، الله) ماذا تقص، الله جليل كريم أم بخلاف ذلك، الله حق أو باطل، أخبر وتكلم بلام يحسن السكوت عليه، ويفيد قائدة معلومة واضحة، أما الله، الله، الله، ثم إذا طرأ عليه تحريف فهو أشنع وأشنع فالآية لا تدل على ذلك بوجه من الوجوه.(85/21)
ومرة ناقشت بعض الزائرين في بلاد مصر من الذين لهم شأن وقال هذا مذكور في كتاب الله، قلت الذكر بالاسم المفرد مذكور في كتاب الله؟ قال نعم الله هو؟ قال {فسبح باسم ربك العظيم} واسم الله، الله فتقول الله، الله وقال جل وعلا في سورة الأعلى {سبح اسم ربك الأعلى} ، {واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا} ، قلت يا عبد الله سنفسر كلام الله جل وعلا على حسب أهوائنا وكما نريد أم عندنا طريق سديد لنا نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام، قال كما نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن أئمتنا، قلت لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم، والحديث في المسند وسنن ابن ماجة وأبي داود والدارمي وابن مردويه في تفسيره وابن المنذر في تفسيره وإسناد الحديث صحيح كالشمس من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه قال [لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} قال اجعلوها في ركوعكم] ماذا نقول في ركوعنا؟ (الله، الله) أم نقول سبحان ربي العظيم، [ولما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} قال نبينا عليه الصلاة والسلام اجعلوها في سجودكم] ماذا نقول في سجودنا (الله، الله) أم نقول سبحان ربي الأعلى.
أما أن نذكر الله بكلمة لا تدل على شيء لا على إيمان ولا على كفران، لا على حب ولا على بغض، لا على تكريم ولا على تحقير، فهذا ليس بذكر لله الجليل سبحانه وتعالى، وأشنع من هذين المسلكية ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره عن تفسير سورة الصمد في الجزء 32/179 قال في هذه الآية فائدة معتبرة أشير بها إلى المقامات الثلاثة.(85/22)
{قل هو الله أحد} قال هو هذه للمقربين، الله لأصحاب اليقين، أحد لأصحاب الشمال، الذكر بهو يقول هذا للمقربين، قال لا تهم لا يتصورون الله بكيفية فلا يعرف كيف الله إلا الله فهم يقولون هو، هو، هو، ولا يشهدون غيره، وأما الذين شاهدوه وشاهدوا الأخيار وعظموه فهم يقولون الله، الله، الله، وأما أهل الشمال فهؤلاء الذين جعلوا التعدد لله جل وعلا، والشركاء فيقال لهم أحد.
والله هذا من تفسيرات الباطنية والتلاعب بكلام رب البرية.
والإمام الرازي عليه رحمة الله صاحب كتاب مفاتيح الغيب والتفسير الكبير توفي سنة 606هـ نحبه ونكن له ولأئمتنا كل احترام وتقدير لكن الحق أحق بالإتباع، وهذا الكلام لابد أن ينزه عنه كلام الله جل وعلا من باب تفكيك كلام الله والتلاعب بمدلوله.
{قل هو الله أحد} تأتي تفكك هذه الجملة وتقول هو لصنف والله لصنف واحد لصنف ما هو الدليل على هذا يا عبد الله؟
إخوتي الكرام بحث شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى في الجزء 10/226 إلى صـ236 وعاد المبحث في صـ556 إلى صـ566 في هذه القضية في عشرين صفحة وبين بأن الذكر بالاسم المفرد لم ترد شريعة الله المطهرة سواء سمات مظهراً أم مضمراً فارجعوا إلى تفصيل الكلام على ذلك في هذين المكانين المشار إليهما.
إخوتي الكرام:
هذا ما استدل به من آيات القرآن على زعم الزاعمين أنه هناك أدلة من كلام رب العالمين تدل على جواز الذكر بالاسم المفرد وأما أدلة السنة فقد استدلوا على ذلك بأدلة كثيرة أبرزها دليلان، دليل مكذوب بإجماع أئمتنا، ودليل صحيح باتفاق أئمتنا، ولا دلالة فيه على ما يقولون.(85/23)
أما الحديث المكذوب فقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقن علياً الذكر بالاسم المفرد أن يقول الله، الله، الله، الله، قال أئمتنا كما في (مجموع الفتاوى) في المكانين المشار إليهما وهذا ما قرره أئمتنا رحمة الله عليهم أجمعين، قالوا هذا حديث مكذوب باتفاق أهل العلم بالحديث لا يوجد في دواوين الإسلام.
والحديث الثاني صحيح لكن لا دلالة فيه على المطلوب وقد استدل به كثير من الناس وقابلني بعضهم بهذا الدليل وقال ما تقول فيه قلت ما أقول فيه إلا كما يقول أئمتنا فاستمع.
الحديث إخوتي الكرام في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ورواه الإمام الترمذي في سننه، وهو في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ورواه عبد بن حميد في مسنده ورواه أبو يعلى في مسنده والإمام أبو نعيم في حليته، (حلية الأولياء) من رواية سيدنا أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول [لا تقوم الساعة على رجل يقول الله، الله] بالضبطتين وسيأتي توجبها إن شاء الله.(85/24)
وفي رواية [لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله، الله] إذا حصل هذا تقوم الساعة فقال الرجل هذا الحديث ثابت، يقول الله قلت يقول الله، معناها يذكر الله قال لا قلت استمع إلى رواية الحديث، الحديث رواه الحاكم في المستدرك بسند صحيح أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا تقوم الساعة حتى لا يقال الله، الله] والحديث رواه أبو تميم في (حلية الأولياء) في الجزء 3/35 من رواية أنس ثم نقله عن مجاهد من رواية ثلاثة من الصحابة آخرين من رواية عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين وقال رواية هؤلاء عن مجاهد مجموعه غريبة والرواية الصحيحة الثابتة عن أنس وأننا أقوله ورواية أيضاً عبد الله بن مسعود صحيحة ثابتة في المستدرك، وهذا الرواية إخوتي الكرام المراد منها ما وضحته الروايات الأخرى وهو الذي فهمه أئمتنا، الأمام النووي في صحيح مسلم في شرح صحيح مسلم في الجزء الثاني صـ178 في كتاب (الإيمان) بوب على هذا فقال (باب ذهاب الإيمان في أخر الزمان) وليس الحديث مسوقاً لأثبات الذكر بهذه الصيغة أو بغيرها، أي خروج ناس من الذين تعش الزمان عدم وجود أحد من الموحدين، وهذا يكون عند مجيء الريح اللينة الطيبة من بلاد اليمن عندما تأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة ولا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة.
فإذاً هذا هو المراد من الحديث، ويدل على هذا رواية ابن حبان والحاكم في المستدرك وعن بن حميد [لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد لا إله إلا الله] وفي رواية [حتى لا يقال لا إله إلا الله] زاد الحاكم في بعض الروايات والخطيب البغدادي في كتاب (تاريخ بغداد) من رواية أبي هريرة أيضاً، ورواية الحاكم من رواية أنس رضي الله عنهم أجمعين [حتى لا يقال لا إله إلا الله ولا يؤمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر] والحديث ورد ما يقرر هذا المعنى له في كتاب(85/25)
(تهذيب الآثار) للإمام الطبري، (وتاريخ نيسابور) للإمام الحاكم من رواية بريدة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا تقوم الساعة حتى لا يعبد الله في الأرض قبل مائة سنة] يبقى الناس من يأذن الله ويشركون ولا يوجد عابد لله مائة سنة ثم بعد ذلك تقوم الساعة وعليه لا يقول الله ليس المراد لا بذكر الله بهذه الصيغة إنما لا يوجد من يوحد الله ولذلك قال أئمتنا (الله، الله) إما أن تكون خبراً والمبني محذوف الله ربنا الله إلهنا، وإما أن تقول منصوب على التقدير كما تقول الأسد، الأسد، وعليه لا يقال الله، الله، أي لا يقول أحد اتقوا الله، خافوا الله، لا يقول أحد الله ربنا، أي لا يوجد مؤمن موحد في ذلك الزمن، وليس المراد من الحديث ذكر الله بهذه الصيغة (الله، الله) فكل هذا كما قلت إخوتي الكرام، استدلال على المطلوب وليس في الحديث دلالة على ذلك بوجه من الوجوه.
إخوتي الكرام:
هذه كما قلت أدلة تعلقوا بها من السنة، وأما أدلة عقلية فحقيقة هي كثيرة حول الذكر بالاسم المفرد المظهر (الله، الله) والاسم المضمر (هو) أذكر بعض هذه التعليلات العقلية العليلة التي ذكروهما ويقين التعليلات عندهم خاصة مني يتعلق بلفظ (هو) أذكرهما مقدمة لفضل ذكر الله بكلمة الإخلاص وسورة الإخلاص في الموعظة الآتية إن شاء الله.
نقل عن بعض من يقولون بالذكر بالاسم المفرد كالشبلي وهو دلف بن جحدر أبو بكر الشبلي كان شيخ ال والصوفية في زمنه وقد توفي سنة 334هـ كان يعكف على ذكر الله بهذه الصيغة (الله، الله) فقيل له ألا تقول لا إله إلا الله، فانظر إلى التعليل البلل والفلسفة ال قال(85/26)
(أخشى أن أموت بين النفي والإثبات) يعني أخشى إن قلت لا إله أموت فأكون قد كفرت، سبحان الله العظيم، وإذا حصل هذا ماذا جرى، إنما الأعمال بالنيات، أفرض لو أن لسانك أخطأ وقلت اللهم أنت عبدي وأنا ربك كما نقل صاحب الراحلة أخطأ من شدة الفرح ماذا جرى الله هو الذي يعلم ما في القلوب سبحانه وتعالى، فهل أنت تريد تنفي الألوهية عن رب البرية، حتى يلزم من ذلك محذور إذا مت بين النفي والإثبات، وهذا كلام باطل والإمام الشبلي كان يعتريه شيء أحياناً من جفاف الدماغ لشدة مجاهدته فأئمتنا قالوا ما حصل منه هو من باب الخطأ المقدور لا من باب السعي المشكور فلا يقتدى به في هذا الأمر ونلتمس له عذراً ونرد قوله وقول كل قائل إذا لم يكن القول له مستنداً من نبينا عليه الصلاة والسلام، والإمام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى) في المكانين المشار إليهما آنفا قال (يغفر للإمام الشبلي لقوة إيمانه بربه وكثرة مجاهدته ووقوع هذا الكلام منه في حال سكره ووجده) ويراد بالسكر الهيمام الذي يعتريه عند ذكر الرحمن يغفر له لهذا، لكن هذا من باب الخطأ المقدور لا من باب السعي المشكور قال وقد وافقه على ذلك أبو يزيد البسطاسي وهو عيسى بن تيفور وتوفي سنة 261هـ وافقه على ذلك وهو على شاكلته في ذلك ثم قال (والمشايخ الذين هم أصح حالاً من هؤلاء ما كان يذكرون الله بهذه الصيغة لا مظهرةً ولا مضمرة ثم قال وإذا تنازع الناس فيتبقى رد الأمر إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، هل ورد عنه أم لا.
إخوتي الكرام:(85/27)
انظروا ترجمة الشبلي أن شئتم في (سير أعلام النبلاء) في الجزء 15/367 وقد أنصفه الإمام الذهبي ونقل شيئاً من كلامه الحسن أنه عندما سئل عن العارف الموحد الصادق فقال له صدر مشروح وقلب مجروح وجسم بين يدي الله مطروح، وهو من الكلام الحسن الذي نقل عن هذا العبد الصالح وهكذا العبد الصالح أيضاً أبو يزيد البسطاسي وأن نقل عنه ما نقل فيرد ما خالف السنة، ولا نحتكم إلا إلى سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، انظروا أيضاً إلى ترجمته في (سير أعلام النبلاء) في الجزء 13/88، ونقل من كلامه شيئاً كثيراً يعد ما نعته بأنه سلطان العافين، ومن كلامه الطيب العذب أنه كان يناجي الله جل وعلا فيقول ليس العجيب من حبي لك وأنا عبد فقير، إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير، وكان يقول لله جل وعلا هذا فرحي بك في حال خوفي منك، فكيف يكون فرحي بك إذا أمنتك، سبحان ربي العظيم، كلام حق يقوله هذا العبد الصالح ومن كلامه وحكم به الإمام الذهبي ترجمته أنه كان يقول لو حقت لي تهليله ما باليت بعدها، فاجرى من هذا وذاك من أمثالها في حال غيبوبة العقل عنهما فكما قلت خطأ مقدر إن شاء الله فاعله، ولا يجوز الإقتداء به.
إخوتي الكرام: ينبغي أن نذكر الله بما اثر عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نكثر من قول لا إله إلا الله وأخبرنا بأن من قالها وكانت آخر كلامه دخل الجنة، كما ثبت في المسند وسنن أبي داود ومستدرك الحاكم، والحديث إسناده صحيح كالشمس من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة] .(85/28)
وقد أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نلقن الموتى كلمة التوحيد لا إله إلا الله وما أمرنا أن نلقنهم الله، ولا هو، لئلا يموتوا بين النفي والإثبات على زعم الزاعم والأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة ومتواترة أيضاً أقطع وأسأل أما الله أن أحاديث تقين الميت كلمة التوحيد لا إله إلا الله متواترة منقولة عن عشرة من الصحابة الكرام أو أثرين رضي الله عنهم وأرضاهم.
فمن هذه الروايات ما في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة، والحديث رواه ابن حبان والسنن الكبرى للبيهقي والمصنف لأبن أبي شيبة من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لقنوا موتاكم لا إله إلا الله] والحديث في صحيح مسلم أيضاً وسنن بن ماجة ورواه ابن حبان والبيهقي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لقنوا موتاكم لا إله إلا الله] وروى هذا المعنى الإمام النسائي عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها والطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن مسعود والروايات كلها مرفوعة إلى نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام.
وروى أيضاً حديث التلقين من رواية عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وروي من رواية حذيفة بن اليمان، وروي من رواية عروة بن مسعود الثقفي وغير هؤلاء انظروا مجمع الزوائد جزء 2/322 في كتاب (الجنائز) باب (في تلقين الميت لا إله إلا الله) .
إخوتي الكرام: فلابد من العكوف على الأذكار الشرعية المنقولة عن نبينا خير البرية عليه الصلاة والسلام.
أما هذه الأذكار المبتدعة (الله، وهو) والتغيير بعد ذلك في صيغ هاتين اللفظيين فهذا زيادة ضلال وبدع إلى ضلال وبدع والصالحون من أهل السلوك ينكرون هذا، ينقل الإمام الأخيري في منظومته التي ألفها في التصوف وقد توفي سنة 983هـ عن أئمة التصوف الصادقين إنكار هذا فيقول، وقال:
وقال بعض السادة المتبعة ... في رجز بهجوية المبتدعة(85/29)
ويذكرون الله بالتغيير ... وينهقون النهق كالحسير
وينجون النيج كالكلاب ... طريقهم ليست على الصواب
وليس فيهم من فتى مطيع ... فلعنة الله على الجميع
أي من انحرف عن شريعة النبي عليه الصلاة والسلام وابتدع من البدع ما لم يأذن به الله، فيستحق هذه العقوبة عند الله.
أسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرعه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(85/30)
إخوتي الكرام: ما تقدم معنا من أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله وحده لا شيك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لقولها أجور كثيرة إذا قالها الإنسان مرة أو عشر مرات أو مائة مرة أو مائتين مرة في هذا دلالة واضحة على أن الأذكار الشرعية ورد لها قدر وحد عن خير البرية عليه الصلاة والسلام بما يزيد على مائة وما قاله بعض الناس في هذه الأيام أنه ما وقف على رواية فيها ذكر الله بعدد يزيد على مائة فالرواية التي تقدمت من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ترد هذا القول وتبطله ثم رتب على هذا فقال، فما يقوله بعض الناس من أنه لابد من اتخاذ سبحة لعد التسبيح بها لأنه يصعب علينا أن نعد بأصابعنا قال هذا جاء من بدعة أخرى وهي أنهم أرادوا أن يذكروا الله بعدد معين ما ورد في الشرع أخباره، وغاية ما ورد في الشرع الذكر بعدد مائة وما ورد أكثر من هذا ومائة يمكن أن ت الأصابع وعليه اتخاذ السبحة باطل وهو بدعة، وخير الكلام بأنه إلى هذا من قبل بعض السلف الكرام كإبراهيم النخعي بأن السبحة بدعة، ثم بعد ذلك قال مفاسد السبحة لا تحصى وذكر هذا في سلسلة الأحاديث الضعيفة في الجزء 1/110 وطول الكلام ولم يأت بطائل فذكر في ذلك سبع صفحات وما تقدم معنا إخوتي الكرام نص صريح من أنه ورد من الأذكار ما يقدر ما يزيد على مائة كما تقدم معنا.
الأمر الثاني، القول بأن السبحة بدعة ما أعلم أحداً من سلفنا الكرام المتقدمين قال هذا ونسبة هذا إلى الإمام النخعي وهو حدد المكان سأذكر المكان وأشير إلى نسبة حقيقة فيها شيء من التخريف في المفر كما ستسمعون، وأما اتخاذ السبحة فكما قلت سابقاً هي تدخل في دائرة الإباحة فحذار أن نفتري على سنة النبي عليه الصلاة والسلام فنقول سنة ولها شأن.(85/31)
وحذر أيضاً أن تقول على النبي عليه الصلاة والسلام فتقول أنها بدعة خلاف سنته وخلاف هديه اتق ربك إنا تدخل في دائرة الإباحة، وهي شكل من أشكال العد فإن عد بالحصى أو بالنوى أو بالسبحة أو بالأصابع، بأي ذلك حصل منه، أجزأ وإن كان العد بالأصابع أفضل.
وهذا ما قرره أئمتنا وكنت قد بينت أن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية قرر هذا في مجموع الفتاوى جزء 22/507 فقال والتسبيح بالخرز لا بأس به بل هو مستحب إن أحسنت النية فيه، والاستحباب لا يقصد منه أنه استحباب لدليل ثابت بالخرز إنما يقصد منه أن هذا مشروع بالجملة ولا حرج فيه وهذا ما قرره أئمتنا، انظروا في (بذل المجهود في شرح سنن أب داود) في الجزء 7/351 وانظروه أيضاً في (عون المعبود في شرح سنن أبي داود) في الجزء 1/555 والإمام السيوطي ألقى رسالة في ذلك في أول المجلد الثاني 2/2 فبما سماها المنحة في السبحة، وأما أثر الإمام النخعي الذي استدل به على كراهة السبحة ولا دليل فيه كما قلت على ذلك هو موجود في المصنف 2/ 391 ونحن إخوتي الكرام عندما ننقل عن بعض سلفنا، نحن واسطة بيننا وبين القراء فينبغي أن نتقي الله أولاً في الصدق في النقل، ثم في الصدق في بيان المراد بهذا النقل وكل من انحرف عن هذين الأمرين فيتصف بصفة الخيانة عند رب الكونيين، الإمام ابن أبي شيبة في كتابه المصنف عقد بابين لذلك.
الباب الأول قال (باب في عقد التسبيح وعدد الحصى) بعقد بالتسبيح وبعد أيضاً بالحصى وبعد بهما وأورد هذا في صفحتين متتاليتين عن عدد من السلف من صحابة وتابعين كانوا يعدون بالتسبيح والنوى والخرز وغير ذلك ثم قال (باب من كره عقد التسبيح) ولا يريد من ذلك اتخاذ سبحة إنما يريد عد التسبيح، فاسمعوا لما ترجم به الإمام ابن أبي شيبة والآثار التي أوردها.(85/32)
الأثر الأول نقله عن إبراهيم النخعي قال كان عبد الله بن بي مسعود يكره العدد ويقول أيمن الله حسناته فما كان إذاً يكره السبحة لأجل السبحة ولا يكره العد بالأصابع لأجل الأصابع ولا يكره العد بالحصى لأجل الحصى إنما سلفنا الكرام يريدون من الذاكرين أن يكونوا على همة عظيمة، أن يذكر كل واحد منهم ربه آناء الليل وأطراف النهار وإلا يقتصر على عدد معين، ثم يقول أنت تعد حسناتك على الله جل وعلا، المقصود أذكر الله كثيراً دون أن تعد لذلك قدراً، نعم هذا همم الصحابة وأما نحن فضعفنا لا يعلمه إلا ربنا ولابد من أن ننظم أمورنا مع ربنا لئلا يلبس الشيطان علينا، فإذا أردنا أن نذكر دون عدد معين قد يأتي الواحد منا بذكر ربه عشر مرات يقول ذكرت ربك مائة ألف قم يكفيك لذلك لابد من أن نضبط الأمر لما حصل فينا ما حصل من نقص وتفلت.
الأمر الثاني يورده بعد ذلك فيقول سألت بن عمر عن الرجل يذكر الله ويعقد فقال تحاسبون الله؟ فليس موضوع سبحة أو حصى أو يد، تحاسبون الله؟ يعني أنت تجلس تقول أن ذكرت الله خمسة آلاف مرة تريد أن تحاسب الله، تعدون حسناتكم.
ثم آخر الآثار وهو الذي ذكره قال كان إبراهيم النخعي ينهي ابنته إن تعين العشاء على فتل خيوط التسابيح التي يسبح بها، لم من أجل كراهية العد لئلا يمن الإنسان بحسناته ولئلا يحاسب ربه على طاعاته، وهذا ما عقد عليه الإمام ابن أبي شيبة باباً فقال (باب من كره عقد التسبيح) .
وليس الكلام كما قلت في سبحة أو في عد بأصابع يد أو عد بحصى، إنما كان سلفنا يريدون من المؤمنين أن يكونوا على همة عالية وأن يستغرق الإنسان في ذكر ربه آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم صل على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا.(85/33)
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق العصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اجعل حبك وحب رسولك - صلى الله عليه وسلم - أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، أحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائظ.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، الله أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض بفضلك ورحمتك.(85/34)
المساجد
(أحاديث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
المساجد
البخاري:
بَاب وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ:
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ *
بَاب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلَانٍ:
403 حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا *
بَاب الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ الْبَابُ:(86/1)
461 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ رَأَيْتُ سَالِمَ ابْنَ عَبْدِاللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الْأَمْكِنَةِ وَسَأَلْتُ سَالِمًا فَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا وَافَقَ نَافِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلَّا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ *(86/2)
462 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَاللَّهِ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ يَعْتَمِرُ وَفِي حَجَّتِهِ حِينَ حَجَّ تَحْتَ سَمُرَةٍ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ إِذَا رَجَعَ مِنْ غَزْوٍ كَانَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ هَبَطَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي الشَّرْقِيَّةِ فَعَرَّسَ ثَمَّ حَتَّى يُصْبِحَ لَيْسَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِحِجَارَةٍ وَلَا عَلَى الْأَكَمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَسْجِدُ كَانَ ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُاللَّهِ عِنْدَهُ فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَّ يُصَلِّي فَدَحَا السَّيْلُ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى دَفَنَ ذَلِكَ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ عَبْدُاللَّهِ يُصَلِّي فِيهِ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى حَيْثُ الْمَسْجِدُ الصَّغِيرُ الَّذِي دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ وَقَدْ كَانَ عَبْدُاللَّهِ يَعْلَمُ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ تُصَلِّي وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ الْيُمْنَى وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْأَكْبَرِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ(86/3)
الَّذِي عِنْدَ مُنْصَرَفِ الرَّوْحَاءِ وَذَلِكَ الْعِرْقُ انْتِهَاءُ طَرَفِهِ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ دُونَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُنْصَرَفِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ وَقَدِ ابْتُنِيَ ثَمَّ مَسْجِدٌ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ كَانَ يَتْرُكُهُ عَنْ يَسَارِهِ وَوَرَاءَهُ وَيُصَلِّي أَمَامَهُ إِلَى الْعِرْقِ نَفْسِهِ وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يَرُوحُ مِنَ الرَّوْحَاءِ فَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ وَإِذَا أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ مَرَّ بِهِ قَبْلَ الصُّبْحِ بِسَاعَةٍ أَوْ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ تَحْتَ سَرْحَةٍ ضَخْمَةٍ دُونَ الرُّوَيْثَةِ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ فِي مَكَانٍ بَطْحٍ سَهْلٍ حَتَّى يُفْضِيَ مِنْ أَكَمَةٍ دُوَيْنَ بَرِيدِ الرُّوَيْثَةِ بِمِيلَيْنِ وَقَدِ انْكَسَرَ أَعْلَاهَا فَانْثَنَى فِي جَوْفِهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى سَاقٍ وَفِي سَاقِهَا كُثُبٌ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي طَرَفِ تَلْعَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْعَرْجِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ قَبْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْقُبُورِ رَضَمٌ مِنْ حِجَارَةٍ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ سَلَمَاتِ الطَّرِيقِ بَيْنَ أُولَئِكَ السَّلَمَاتِ كَانَ عَبْدُاللَّهِ يَرُوحُ مِنَ الْعَرْجِ بَعْدَ أَنْ تَمِيلَ الشَّمْسُ بِالْهَاجِرَةِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ(86/4)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عِنْدَ سَرَحَاتٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ فِي مَسِيلٍ دُونَ هَرْشَى ذَلِكَ الْمَسِيلُ لَاصِقٌ بِكُرَاعِ هَرْشَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ قَرِيبٌ مِنْ غَلْوَةٍ وَكَانَ عَبْدُاللَّهِ يُصَلِّي إِلَى سَرْحَةٍ هِيَ أَقْرَبُ السَّرَحَاتِ إِلَى الطَّرِيقِ وَهِيَ أَطْوَلُهُنَّ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ فِي الْمَسِيلِ الَّذِي فِي أَدْنَى مَرِّ الظَّهْرَانِ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ يَهْبِطُ مِنَ الصَّفْرَاوَاتِ يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْمَسِيلِ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ إِلَّا رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَّى يُصْبِحَ يُصَلِّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ وَمُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ لَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ وَلَكِنْ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَكَمَةٍ غَلِيظَةٍ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ فُرْضَتَيِ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَبَلِ الطَّوِيلِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَجَعَلَ الْمَسْجِدَ الَّذِي بُنِيَ ثَمَّ يَسَارَ الْمَسْجِدِ بِطَرَفِ الْأَكَمَةِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْفَلَ مِنْهُ عَلَى الْأَكَمَةِ السَّوْدَاءِ تَدَعُ مِنَ الْأَكَمَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا ثُمَّ تُصَلِّي(86/5)
مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ *
بَاب فَضْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَكَانَ الْأَسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً:
795 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ*(86/6)
843 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ *(86/7)
1113 حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِهِ مِنْ بِئْرٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ فَزَعَمَ مَحْمُودٌ أَنَّهُ سَمِعَ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ رَضِي اللَّهم عَنْهم وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بِبَنِي سَالِمٍ وَكَانَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ وَادٍ إِذَا جَاءَتِ الْأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ قِبَلَ مَسْجِدِهِمْ فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ الْوَادِيَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي يَسِيلُ إِذَا جَاءَتِ الْأَمْطَارُ فَيَشُقُّ عَلَيَّ اجْتِيَازُهُ فَوَدِدْتُ أَنَّكَ تَأْتِي فَتُصَلِّي مِنْ بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَفْعَلُ فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ فَحَبَسْتُهُ عَلَى خَزِيرٍ يُصْنَعُ لَهُ فَسَمِعَ أَهْلُ الدَّارِ رَسُولَ(86/8)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَثَابَ رِجَالٌ مِنْهُمْ حَتَّى كَثُرَ الرِّجَالُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مَا فَعَلَ مَالِكٌ لَا أَرَاهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَقُلْ ذَاكَ أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فَقَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ أَمَّا نَحْنُ فَوَاللَّهِ لَا نَرَى وُدَّهُ وَلَا حَدِيثَهُ إِلَّا إِلَى الْمُنَافِقِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ فَحَدَّثْتُهَا قَوْمًا فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَيْهِمْ بِأَرْضِ الرُّومِ فَأَنْكَرَهَا عَلَيَّ أَبُو أَيُّوبَ قَالَ وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا قُلْتَ قَطُّ فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَيَّ فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِي حَتَّى أَقْفُلَ مِنْ غَزْوَتِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم إِنْ وَجَدْتُهُ حَيًّا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهِ فَقَفَلْتُ فَأَهْلَلْتُ بِحَجَّةٍ أَوْ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ سِرْتُ حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَأَتَيْتُ بَنِي سَالِمٍ فَإِذَا عِتْبَانُ شَيْخٌ أَعْمَى يُصَلِّي لِقَوْمِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ مَنْ أَنَا ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَنِيهِ كَمَا حَدَّثَنِيهِ(86/9)
أَوَّلَ مَرَّةٍ *
بَاب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ:
وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا قَالَ الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ يُحَدِّثُ مِثْلَ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ*
2653 حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهممَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ قَائِمَةً أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ*(86/10)
2656 حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهممَا قَالَ أَجْرَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى قَالَ عَبْدُاللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي عُبَيْدُاللَّهِ قَالَ سُفْيَانُ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ وَبَيْنَ ثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ مِيلٌ*
2657 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللَّهِ رَضِي اللَّهم عَنْهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا قَالَ أَبمو عَبْد اللَّهِ أَمَدًا غَايَةً (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) *
3115 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُالْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ*(86/11)
4023 حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُالْمَلِكِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ هُوَ ابْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهممَا قَالَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِالْقَيْسِ بِجُوَاثَى يَعْنِي قَرْيَةً مِنَ الْبَحْرَيْنِ*
بَاب الْهَدِيَّةِ لِلْعَرُوسِ:(86/12)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ واسْمُهُ الْجَعْدُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَرَّ بِنَا فِي مَسْجِدِ بَنِي رِفَاعَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرَّ بِجَنَبَاتِ أُمِّ سُلَيْمٍ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَلَّمَ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا بِزَيْنَبَ فَقَالَتْ لِي أُمُّ سُلَيْمٍ لَوْ أَهْدَيْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً فَقُلْتُ لَهَا افْعَلِي فَعَمَدَتْ إِلَى تَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ فَاتَّخَذَتْ حَيْسَةً فِي بُرْمَةٍ فَأَرْسَلَتْ بِهَا مَعِي إِلَيْهِ فَانْطَلَقْتُ بِهَا إِلَيْهِ فَقَالَ لِي ضَعْهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَالَ ادْعُ لِي رِجَالًا سَمَّاهُمْ وَادْعُ لِي مَنْ لَقِيتَ قَالَ فَفَعَلْتُ الَّذِي أَمَرَنِي فَرَجَعْتُ فَإِذَا الْبَيْتُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى تِلْكَ الْحَيْسَةِ وَتَكَلَّمَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ جَعَلَ يَدْعُو عَشَرَةً عَشَرَةً يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَقُولُ لَهُمُ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ حَتَّى تَصَدَّعُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَخَرَجَ مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ وَبَقِيَ نَفَرٌ يَتَحَدَّثُونَ قَالَ وَجَعَلْتُ أَغْتَمُّ ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ الْحُجُرَاتِ وَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ فَقُلْتُ إِنَّهُمْ قَدْ ذَهَبُوا فَرَجَعَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ وَأَرْخَى السِّتْرَ وَإِنِّي لَفِي الْحُجْرَةِ وَهُوَ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا(86/13)
دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) قَالَ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ*
6796 حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَلَقِيَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ لِي انْطَلِقْ إِلَى الْمَنْزِلِ فَأَسْقِيَكَ فِي قَدَحٍ شَرِبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَسَقَانِي سَوِيقًا وَأَطْعَمَنِي تَمْرًا وَصَلَّيْتُ فِي مَسْجِدِهِ*(86/14)
1046 حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ*
بَاب الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ ذِي الحُلَيْفَةِ *
بَاب فَضْلِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَتِهِ *(86/15)
4587 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ مِنْ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ قَالَ وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا قَالَ وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَعِيلَ وحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهَا فِيهِمْ فَذَكَرَ مِثْلَهُ وحَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنِيُّ إِمَامُ مَسْجِدِ دَاوُدَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ثَلَاثُ خِصَالٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي تَمِيمٍ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُمْ بَعْدُ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قِتَالًا فِي الْمَلَاحِمِ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّجَّالَ *
بَاب أَمْرِ مَنْ مَرَّ بِسِلَاحٍ فِي مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْجَامِعَةِ لِلنَّاسِ أَنْ يُمْسِكَ بِنِصَالِهَا:
بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) *(86/16)
5353 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ح وحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ فَتَقُولُ مَنْ يُعِيرُنِي تِطْوَافًا تَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) *(86/17)
80 حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ أَبِي السَّفَرِ وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ الْكُوفِيُّ وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ حَدَّثَنَا وَقَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَأَفْطَرَ فَتَوَضَّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ قَالَ أَبمو عِيسَى وقَالَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ مَعْدَانُ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ أَبمو عِيسَى وَابْنُ أَبِي طَلْحَةَ أَصَحُّ قَالَ أَبمو عِيسَى وَقَدْ رَأَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ الْوُضُوءَ مِنَ الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَيْسَ فِي الْقَيْءِ وَالرُّعَافِ وُضُوءٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ جَوَّدَ حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ حُسَيْنٍ أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَوَى مَعْمَرٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فَأَخْطَأَ فِيهِ فَقَالَ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَوْزَاعِيَّ وَقَالَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْدَانُ بْنُ(86/18)
أَبِي طَلْحَةَ *
بَاب مَا جَاءَ أَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ *
291 حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَأَبُو عَمَّارٍ الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ قَالَ أَبمو عِيسَى وَفِي الْبَاب عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَأَنَسٍ وَأَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي ذَرٍّ قَالُوا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا قَالَ أَبمو عِيسَى حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَهَذَا حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلٌ وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَكَانَ عَامَّةُ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَأَنَّ رِوَايَةَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(86/19)
أَثْبَتُ وَأَصَحُّ مُرْسَلًا *
336 حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ قَالَ كَانَ يُشِيرُ بِيَدِهِ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ صُهَيْبٍ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ عَنْ بُكَيْرٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قُلْتُ لِبِلَالٍ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ حَيْثُ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ كَانَ يَرُدُّ إِشَارَةً وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ عِنْدِي صَحِيحٌ لِأَنَّ قِصَّةَ حَدِيثِ صُهَيْبٍ غَيْرُ قِصَّةِ حَدِيثِ بِلَالٍ وَإِنْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَوَى عَنْهُمَا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْهُمَا جَمِيعًا *(86/20)
549 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ الْبَصْرِيُّ ثِقَة حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَقَ ابْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ الْمَغْرِبَ فَقَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ قَالَ أَبمو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي بَيْتِهِ قَالَ أَبمو عِيسَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَمَا زَالَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَفِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ *(86/21)
2869 حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ أَخِيهِ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا قَعَدَ قَوْمٌ فِي مَسْجِدٍ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ قَالَ أَبمو عِيسَى هَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَرَوَى أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ *(86/22)
608 أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ وَعَمْرُو بْنُ يَزِيدَ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَسْجِدِ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاة فَجُعِلُوا يُنْتَظَرُونَهُ فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أُوتِرُ قَال وَسُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ هَلْ بَعْدَ الْأَذَانِ وِتْرٌ قَالَ نَعَمْ وَبَعْدَ الْإِقَامَةِ وَحَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى *
835 أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودٍ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ السُّيُولَ لَتَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَأُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلِّيَ فِي مَكَانٍ مِنْ بَيْتِي أَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَفْعَلُ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ فَأَشَرْتُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ *(86/23)
840 أَخْبَرَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْأَقْمَرِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَإِنِّي لَا أَحْسَبُ مِنْكُمْ أَحَدًا إِلَّا لَهُ مَسْجِدٌ يُصَلِّي فِيهِ فِي بَيْتِهِ فَلَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ وَمَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَمْشِي إِلَى صَلَاةٍ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً أَوْ يَرْفَعُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ يُكَفِّرُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نُقَارِبُ بَيْنَ الْخُطَا وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومٌ نِفَاقُهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ الرَّجُلَ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ *
873 أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَمْعَانَ قَالَ جَاءَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقَالَ ثَلَاثٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِنَّ تَرَكَهُنَّ النَّاسُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الصَّلَاةِ مَدًّا وَيَسْكُتُ هُنَيْهَةً وَيُكَبِّرُ إِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ *(86/24)
1582 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْوَزِيرِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْفِطْرِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فِي مَسْجِدِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمَّا صَلَّى قَامَ نَاسٌ يَتَنَفَّلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ *
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) *
2907 أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُسْلِمًا الْبَطِينَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ تَقُولُ الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ قَالَ فَنَزَلَتْ (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) *
409 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ رَأَيْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ بَصَقَ عَلَى الْبُورِيِّ ثُمَّ مَسَحَهُ بِرِجْلِهِ فَقِيلَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لِأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ *(86/25)
737 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا الْمَقْبَرَةَ وَالْحَمَّامَ *
790 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لَا تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا عِتْقًا مِنَ النَّارِ *
1403 حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا رُزَيْقٌ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَلْهَانِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ *(86/26)
621 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ قَالَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا وَنَحْنُ عِنْدَهَا جُلُوسٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقِ لَيَالِيَ قُتِلَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّهم عَنْهم فَقَالَتْ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ وَمَا لِي لَا أَصْدُقُكِ قَالَتْ فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ قَالَ فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّهم عَنْهم لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا حَرُورَاءُ مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ وَإِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاسْمٍ سَمَّاكَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ فَلَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا رَضِي اللَّهم عَنْهم مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ مُؤَذِّنًا فَأَذَّنَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا أَنِ امْتَلَأَتِ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ دَعَا بِمُصْحَفٍ إِمَامٍ عَظِيمٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَصُكُّهُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ أَيُّهَا الْمُصْحَفُ حَدِّثِ النَّاسَ فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ وَنَحْنُ(86/27)
نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِينَا مِنْهُ فَمَاذَا تُرِيدُ قَالَ أَصْحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ وَنَقَمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَا تَكْتُبْ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ كَيْفَ نَكْتُبُ فَقَالَ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاكْتُبْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أُخَالِفْكَ فَكَتَبَ هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم فَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا تَوَسَّطْنَا عَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ إِنَّ هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا(86/28)
أُعَرِّفُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا يَعْرِفُهُ بِهِ هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ (قَوْمٌ خَصِمُونَ) فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ فَقَامَ خُطَبَاؤُهُمْ فَقَالُوا وَاللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ كِتَابَ اللَّهِ فَإِنْ جَاءَ بِحَقٍّ نَعْرِفُهُ لَنَتَّبِعَنَّهُ وَإِنْ جَاءَ بِبَاطِلٍ لَنُبَكِّتَنَّهُ بِبَاطِلِهِ فَوَاضَعُوا عَبْدَ اللَّهِ الْكِتَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ كُلُّهُمْ تَائِبٌ فِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ الْكُوفَةَ فَبَعَثَ عَلِيٌّ رَضِي اللَّهم عَنْهم إِلَى بَقِيَّتِهِمْ فَقَالَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ النَّاسِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ فَقِفُوا حَيْثُ شِئْتُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمُ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ رَضِي اللَّهم عَنْهَا يَا ابْنَ شَدَّادٍ فَقَدْ قَتَلَهُمْ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَطَعُوا السَّبِيلَ وَسَفَكُوا الدَّمَ وَاسْتَحَلُّوا أَهْلَ الذِّمَّةِ فَقَالَتْ أَاللَّهِ قَالَ أَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كَانَ قَالَتْ فَمَا شَيْءٌ بَلَغَنِي عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَتَحَدَّثُونَهُ يَقُولُونَ ذُو الثُّدَيِّ وَذُو الثُّدَيِّ قَالَ قَدْ رَأَيْتُهُ وَقُمْتُ مَعَ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهم عَنْهم عَلَيْهِ فِي الْقَتْلَى فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ أَتَعْرِفُونَ هَذَا فَمَا أَكْثَرَ مَنْ جَاءَ يَقُولُ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ(86/29)
يُصَلِّي وَرَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي وَلَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِثَبَتٍ يُعْرَفُ إِلَّا ذَلِكَ قَالَتْ فَمَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِي اللَّهم عَنْهم حِينَ قَامَ عَلَيْهِ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَتْ هَلْ سَمِعْتَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُمَّ لَا قَالَتْ أَجَلْ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَرْحَمُ اللَّهُ عَلِيًّا رَضِي اللَّهم عَنْهم إِنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِهِ لَا يَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ إِلَّا قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَذْهَبُ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ *(86/30)
2112 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُعَلَّى الْعَطَّارُ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ قَالَ ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ قَالَ بِئْسَمَا عَدَلْتُمْ بِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ كَلْبًا وَحِمَارًا لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقْبَلْتُ عَلَى حِمَارٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ حَتَّى إِذَا كُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُ مُسْتَقْبِلَهُ نَزَلْتُ عَنْهُ وَخَلَّيْتُ عَنْهُ وَدَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ فَمَا أَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ وَلَا نَهَانِي عَمَّا صَنَعْتُ وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَجَاءَتْ وَلِيدَةٌ تَخَلَّلُ الصُّفُوفَ حَتَّى عَاذَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ وَلَا نَهَاهَا عَمَّا صَنَعَتْ وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ فَخَرَجَ جَدْيٌ مِنْ بَعْضِ حُجُرَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ يَجْتَازُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَفَلَا تَقُولُونَ الْجَدْيُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ *(86/31)
5727 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ أَقْبَلْتُ مِنْ مَسْجِدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ لِي قَدْ صَلَّيْتُ فِيهِ فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ مَاشِيًا فَلَمَّا رَأَيْتُهُ نَزَلْتُ عَنْ بَغْلَتِي ثُمَّ قُلْتُ ارْكَبْ أَيْ عَمِّ قَالَ أَيِ ابْنَ أَخِي لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَرْكَبَ الدَّوَابَّ لَرَكِبْتُ وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ حَتَّى يَأْتِيَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَمْشِيَ إِلَيْهِ كَمَا رَأَيْتُهُ يَمْشِي قَالَ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ وَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ *(86/32)
المذاهب الأربعة
(بحث)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
النظرة الواعية
المحكمة للمذاهب السديدة المتقنة
سأتكلم عنها ضمن ثلاثة أمور:
1. معالم ضرورية لابد من الاعتناء بها تقوم على عشرة أمور.
2. ما موقفنا من مسائل الاتفاق والاقتران مما نقل عن أئمتنا الكرام.
3. بيان سبب الاقتصار على المذاهب الأربعة المتبعة عن العقول النيرة المشرقة.
... دين الله تعالى يقوم على أمرين اثنين عبادة الله جل وعلا والإخلاص له في جميع شؤون الحياة واتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.
... وهذان الأمران مدلول كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله إياك أريد بما تريد وتقدم أن اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم يحصل بثلاثة أمور حسان.
أولهما: التمسك بسنته على التمام.
وثانيها: أن يكون التمسك حسب فهم سلفنا الكرام.
وثالثها: كل علم يؤخذ ممن برَّز فيه وشهد له بالتحقيق والإتقان من قبل أصحابه والأقران تقدم هذا بأدلته، وانحرف عن هذا فرق من أهل الزيغ والضلال. وذكرت نماذج منهم ومن آرائهم وقلت ينبغي أن نحصن أنفسنا منهم ومن بلائهم وآخر ما ذكرته في الموعظة الماضية قلت هناك أمر يتعرض له المسلم في هذه الحياة في جميع الأوقات ينبغي أن نكون على حذر منه وقلت إننا في هذه الأيام نخير بين العجز والفجور وبين عرض الدنيا ومعصية الرحمن. وبين العجز والامتهان فقلت إن العاقل يختار الأمر الأول وقررت ذلك من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنه شاء الله أن تمتد الموعظة إلى هذه الموعظة ذلك الأمر الذي قلت ينبغي أن نعتني به وهو أننا سنخير بين العجز والفجور أزيده إيضاحاً ثم الكلام على المذاهب الأربعة.(87/1)
.. إن العاقل في هذه الأيام يختار العجز على الفجور في هذه الأيام القلائل وهي في حقيقة الأمر ظل زائل وقد كان أئمتنا الكرام الأفاضل رضوان الله عليهم أجمعين يحذرون كل باطل ويحترزون مما يشغلهم عن الله القوي القادر سبحانه وتعالى ولاشك أن همة العاقل يجب أن تكون منصرفة إلى التزود للآخرة من هذا الوقت الحاضر. هذا العبد الصالح القانت الإمام الرباني الزاهد حيوة بن شريح المصري وهو حيوة بن شريح بن صفوان أبو زرعة المصري ثقة ثبت فقيه زاهد كما ترجمه بهذه النعوت الموجزة الحافظ ابن حجر في كتابه الموجز التقريب وقد خرج حديثه أهل الكتب الستة وقد توفي سنة ثمان وخمسين أو تسع وخمسين بعد المائة عليه رحمة الله (وانتبهوا إخوتي الكرام إلى الفرق بينه وبين إمام رباني آخر ذاك حمصي وهذا مصري وذاك حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي الحمصي ثقة إمام مبارك توفي سنة أربع وعشرين ومائتين روى له البخاري وحديثه في السنن الأربعة إلا سنن النسائي ويكنى بأبي العباس وعليه الفارق بينهما أمران الجد والكنية مع البلد) .(87/2)
.. وحيوة بن شريح أبو زرعة المصري لم يترجم له أبو نعيم في الحلية والسبب في ذلك كما قال الإمام الذهبي في السير 6/404 وأورد ترجمة حيوة بعد ترجمة سيدنا أبي حنيفة رضوان الله عليهم أجمعين قال: لم يترجم له أبو نعيم في الحلية قال ما عرف كثيرا من صلحاء المصريين فله عذر في ذلك لبعد الأوطان وصعوبة الاتصال في ذلك الزمان وإلا لو عرفه أبو نعيم لقدم ترجمته على غيره ففيه من الصلاح والخشوع والإخبات ما ليس في كثير ممن ترجمهم في الحلية يقول الذهبي: من لم يورده ولا سائر صلحاء المصريين في الحلية لأنه ما 1) عرفهم حيوة ين شريح أبو زرعة المصري يقول في السير هو الإمام الرباني الفقيه شيخ الديار المصرية قال شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ما نعت لي أحداً إلا كانت رؤيته دون نعته إلا حيوة بن شريح فكانت رؤيته فوق نعته. هو أكثر مما وصف لي بكثير هذا يقوله عبد الله بن المبارك عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وتواثرت الكرامات عن هذا العبد الصالح القانت يقول خالد بن العذر – بفتح العين وكسرها – من تلاميذ حيوة بن شريح قال: كنت في مجلسه وكنت معه على انفراد فوقع في قلبي قلت إن الشيخ في حالة رثه في حالة فقر مدقع لو دعي ربه ليغدق عليه من نعمه وفضله قال فالتفت حيوة بن شريح يمينا وشمالا فلما لم ير أحداً أخذ مدرة من الأرض ونبذها إليَّ فقلبها الله تبراً خالصا في يدي ثم قال لي ما خير في الحياة إلا للآخرة والله أعلم بما يصلح عباده قلت فماذا أفعل فيها قال: استنفقها على نفسك قال فهبته والله أن أردها إليه – بعد ذلك تقول لم لا يدعو- يا عبد الله أعلم بما يصلح عباده وهو راض بما قسمه الله له ولا تظن أن هذا لهوان من الله على هذا الإنسان لهوان هذا الإنسان على الرحمن لا ثم لا ولذلك أنظر ماذا حصل عندما أخذ هذه المدرة وقلبها الله تبراً خالصاً والكرامات كثيرة في هذا الأمر متواترة.(87/3)
.. يقول الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب 3/70 في ترجمته: قال ابن حبان كان مستجاب الدعاء يقال كان يأخذ الحصاة فتتحول في يده إلى تمرة والذي يظهر لي أنه تصحيف والصحيح إلى تبرة كأنه يقول فهذا مشتهر معروف بين الناس. جاءه مرة كما في السير وتذكرة الحفاظ 1/185 جاءه بعض الناس بعد رؤية رآها وكان عليه دين كثير وعطاء العالم في السنة ستون دينار وهذا الرجل عليه دين ثلاثمائة دينار يعني مثل عطاء العالم في خمس سنين يقول: فنمت وأنا مغموم فسألت ربي أن يفرج عني فقيل لي إذا أردت أن تقضى حاجتك إذهب إلى حيوة بن شريح فغلست ثم ذهبت إليه فوجدت حوله دنانير مصبوبة فقال ويحك لا تأخذ إلا بمقدار دينك قال فعددت ما عليَّ فأخذته وانصرفت هذا في كتب أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين أنت سألت والله أطلعني على ذلك وهو العليم الخبير وهذه الدنانير صبت من حيث لا أحتسب قال ابن كثير معلقا على مثل هذه الحوادث 3/399 عند قوله تعالى " قال إنما أوتيته على علم عندي.. الآية".
... يقول: ما يجريه الله من خلق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبا أو فضة أو غير ذلك فهذا لا ينكره مسلم ولا يرده مؤمن ولكن ليس هذا من قبيل الصناعات ولكن عن مشيئة رب الأرض والسماوات واختياره وفعله كما جرى لحيوة بن شريح المصري سأله سائل وعلم حاجته ولم يكن عنده ما يعطيه فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في يده ثم وضعها في يد السائل فقلبها الله ذهباً أحمر. هذا في تفسير ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا الجليل.(87/4)
.. هذا العبد الصالح كما قلت كان يبتعد عن كل ما يشغله عن الله تعالى فإذا خيرنا بين العجز والفجور نختار العجز كما كان يختاره هذا العبد الصالح يقول شيخ الإسلام عبد الله بن وهب وتقدم حاله وهو الذي يقول: لولا مالك والليث لضل الناس وقال لولا مالك والليث وعمرو بن الحارث لما اهتدينا. عبد الله بن وهب من شيوخ الإسلام قال: كنا نأتي حيوة بن شريح فنتعلم منه الفقه فكان يقول لنا أبدلني الله بكم عمودا أقوم وراءه يقول: أسأل الله أن يبدلني بكم عمودا أقوم وراءه. قال عبد الله: فأجاب الله دعاءه وحقق أمنيته فاعتزلنا في آخر الأمر وتفرغ لعبادة الله عز وجل انظروا لحال سلفنا.
... وتقدم معنا عدد من شيوخ الإسلام امتنعوا عن التحديث وعن نشر كلام نبينا النفيس عليه الصلاة والسلام لما رأوا أن النيات تكدرت فأثروا الإشتغال بأمر الآخرة لئلا يضيع الوقت لما تكدرت النيات فكيف نحن إذا خيرنا بين العجز والفجور أولئك في طاعة لما رأوا أن غيرها أعظم منها وأنفع لقلوبهم وأصلح لشأنهم تركوا المفضول وأخذوا الفاضل ونحن كما قلت مراراً نسأل الله العافية نختار أخف الضررين في هذا الوقت فلنحذر من بيع الدين بالدنيا في هذه الأيام.
... نعم إخوتي الكرام أن همة النجباء منصرفة إلى إرضاء رب الأرض والسماء همة النجباء تنصرف إلى إرضاء رب الأرض والسماء وبذلك يتميز العقلاء عن الغوغاء وما أكثرهم في هذه الأيام: والغوغاء في الأصل يطلق على الجراد إذا ماج بعض في بعض واختلط بعضه في بعض ويراد عندنا من الغوغاء في شريعة الله المطهرة هو من يتلهى في هذه الدنيا ولا يتزود منها للممات ومن يشتغل بما لا ينفعه بعد موته فالعاقل يحترز عما لا منفعة فيه في الدنيا والآخرة.(87/5)
.. روى الخطاب في العزلة بسنده عن الإمام المبارك أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد. ثقة ثبت مبارك من شيوخ الإسلام الكبار ت212 أو214هـ، السير9/480 وكان يقول ما اغتبت أحداً منذ أن عقلت وعلمت أن الغيبة حرام. ونعت بالنبل لأنه كان في مجلس شيخه شيخ المسلمين ابن جريح فجاء فيل عظيم إلى البلدة فسارع من في المجلس لرؤيته فبقي هو في مجلس شيخه قال لِمَ لَمْ تخرج؟ قال إجلالاً لك وهيبة منك واحتراما لك فقال أنت كيس نبيل فصار هذا اللقب عليه ولا يترجم إلا به. كان الإمام أحمد إذا جاءه طلبة العلم ليتلقوا منه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم أخرجوا عني عندكم أبو عاصم وتأتون إليَّ. هذا الإمام المبارك جاءه رجل كما في كتاب العزلة فقال جرى بيني وبين زوجتي مشادة فقالت لي أنت من الغوغاء فقلت لها: إن كنت من الغوغاء فأنت طالق ثلاثاً وعلى مذهبنا ومذهب أئمتنا المعتمد أن الطلاقات الثلاثة تقع إذا حنث الإنسان وهذه فتيا سيدنا أبي عاصم النبيل فقال أفتني أبا عاصم هل طلقت مني الزوجة وبانت البينونة الكبرى ماذا الأمر قال: لا بد من امتحان نتبين هل أنت من الغوغاء أم من العقلاء ثم أورد عليه ثلاثة أسئلة – طبقوها على الناس في هذه الأيام – قال له:
... هل أنت ممن يحضرون المناطحة بين الكباش والمناقرة بين الديوك؟ قال: لا.
... هل أنت ممن يحضرون السلطان إذا عرض أهل السجون وقال هذا يستحق كذا وهذا يستحق كذا وهذا أجلد من ثلاث يعرضهم ويذكر ما فعلوا؟ قال لا.
... هل أنت ممن يقف على الطريق يوم الجمعة ليرى الأمير إذا خرج موكبه ليذهب إلى الصلاة؟ قال لا.
... قال زوجتك في عصمتك بارك الله فيك وأنت ما حنثت ولست من الغوغاء.(87/6)
.. رئيس محكمة للتمييز في بعض البلاد عندما سيأتي المسؤول الأكبر في ذلك المكان خرج بنفسه يضرب بالدف ويرقص في الشارع العام. إذا كان هذا رئيس محكمة التمييز التي هي أعلى المحاكم وليس بعد حكمها حكم، يخرج يطبل ويرقص في وسط الشارع من أجل العرض الحرام واستمع لكلام أبو عاصم عندما يفتي العوام. أخبرني بعض إخواننا الكرام ونعم ما عبر به في بعض البلاد وليس من عاداتهم هذا قال لي كيف نحط الناس بين عشية وضحاها قال ما كنا نألف هذا. عندما يأتي مسؤول يجتمعون للقائه وهو في قصره وهم في الساحة في منتهى الامتهان وهذا العاتي كل ربع ساعة ونصف ساعة يفتح النافذة وينظر إليهم يلوحون بأيديهم ويصيحون ويصفقون ويصرخون – هؤلاء عندهم كرامة عندهم مروءة عندهم شهامة أنتم في الشارع الشمس تطلع على رؤوسكم في منتهى البهدلة وذلك الذي في قصره يلوح بيده – دخلتم الجنة من أبوابها الثمانية هذا انحطاط الأمة وهذه هي الغوغائية التي تعيشها البشرية فالعاقل يأبى بنفسه أن يكون من هذا الصنف الخبيث الخسيس الذي يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
... قيل لسيد المسلمين عبد الله بن المبارك كما في السير 8/399: مَنْ الناس؟ قال: "العلماء. قيل له فمن الملوك؟ قال: الزهاد قيل له فمن السفلة؟ قال: الذين يعيشون بدينهم يأكلون بدينهم قيل له فمن الغوغاء؟ قال: أصحاب السلطان الذين يخرجون في الحفلات ... .
... نعم العقلاء يترفعون عن أوصاف الغوغاء ونحن في زمن كما قلت نخير بين العجز والفجور وقد أخبرنا نبينا المبرور صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستنحط وتصاب بهذا الأمر فلنحصن أنفسنا ونسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا.(87/7)
.. روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير، المجمع 5/238 والأثر في معجم الطبراني الصغير 2/42، ورواه أبو نعيم في الحلية في ترجمة التابعي راوي الحديث كما سيأتيكم 5/165 يزيد ابن مرثد من العلماء العباد القانتين والحديث رواه الخطيب في تاريخ. بغداد 3/298 ولفظ الحديث من رواية سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خذوا العطاء ما دام عطاءاً " وهي الأعطيات من بيت المال وكان عطاء سيدنا حيوة بن شريح ستين ديناراً في السنة وكان إذا أخذها تصدق بها قبل أن يصل إلى بيته. ثم بعد ذلك إذا نام واستيقظ يجد الدنانير تحت الفراش فعلم قريب له بذلك فأخذ عطاءه وتصدق به فلما رجع إلى بيته قلب الفراش فما وجد شيئاً ونظر إلى البساط الذي تحت الفراش ما وجد شيئا فجاء إلى حيوة وقال: ضيعت عليّ فلوسي. قال ماذا؟ قال أنت تعطي عطاءك تراه تحت فراشك وأنا أعطيت العطاء فما رأيت شيئا قال ويحك أنا أعطي ثقة وأنت تعطي تجربة والله لا يجرب. والكرامة ثابتة في سائر الكتب التي ترجمت لسيدنا حيوة بن شريح.(87/8)
.. ولفظ الحديث " خذوا العطاء ما دام عطاءاً فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه". وصار يعطى العالم من أجل أن يسكت ثم ينظرون لوزن العالم ويعطى على حسب وزنه. "ولستم بتاركيه يمنعكم الحاجة والفقر ثم قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار ألا وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فكونوا مع الكتاب - فكونوا مع القرآن- ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم فإن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم. قالوا يا رسول الله: فكيف نصنع قال: اصنعوا كما صنع أصحاب نبي الله عيسى نشروا بالمناشير وحملوا على الخُشُب موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله". الحديث قال عنه الإمام أبو نعيم في الحيلة غريب من حديث معاذ وقال الإمام الهيثمي في المجمع يزيد بن مرثد وهو تابعي جليل مبارك لم يسمع من معاذ والوضين بن عطاء وهو الراوي عن يزيد بن مرثد وثقة ابن حبان وغيره وضعفه جماعة وبقية رجال ثقات والذي يظهر أنه ليس في الحديث إلا علة الانقطاع كما ستسمعون وله شاهدان يتقوى بهما. أما يزيد بن مرثد فهو أبو عثمان الهمداني الصنعاني من صنعاء دمشق ثقة إمام مبارك له مراسيل لم يخرج له إلا أبو داود لكن في مراسيله لا في سننه انظروا ترجمته الطيبة في التهذيب 11/359، الحلية 5/165 قال في أول ترجمته البكاء الموجد يزيد بن مرثد. طلب ليولى القضاء في عهد الوليد بن عبد الملك فامتنع فما قبل إمتناعه فلبس فروة مقلوبه وخرج حافياً حاسراً وبيده رغيف خبز وعرق يأكله في وسط الطريق. وعلى الاصطلاح الشرعي المروءة ستضيع ولا يصلح للقضاء. فذهب الناس إلى الوليد وقالوا يا أمير المؤمنين أن يزيد بن مرثد قد اختلط عقله فأعفاه فتخلص من الإكراه على القضاء بهذه الحالة التي حصلت له مثل مسعر بن كدام تجانن حتى أعفي من القضاء.(87/9)
.. في الحلية في ترجمته قال له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ومالي أرى عينيك لا تجفان قال وما مسألتك وكما قال سلفنا ليس البكاء من كثرة الذنوب إنما البكاء من صفاء القلوب – وما مسألتك قال لعل الله ينفعني قال يا هذا لو أن الله توعدني أن يحبسني في حمام إذا عصيته فكان يحق لي أن أبكي فكيف هذا وقد توعدني أن يحبسني في نار جهنم (سنفرغ لكم أيها الثقلان) .
... وكما قال بعض السلف لو أن شرطي تهددني ما استطعت أن أنام. فقال عبد الرحمن بن يزيد هذه الحالة تعرض لك في خلواتك قال ما مسألتك. قال لعل الله ينفعني قال ياهذا والله عندما أكون مع أهلي وأريد أن أفضي إليها أبكي وتبكي إلى الصباح وعندما يوضع الطعام تعتريني هذه الحالة فإذا مددت يدي بكيت وبكت الزوجة. فتقول الزوجة يا ويحها إنها معي في نصب عظيم يزيد بن مرثد من العلماء القانتين الربانيين وهو من التابعين لكن لم يثبت سماعه من سيدنا معاذ بن جبل وسيأتينا للحديث شواهد بعون الله وتوفيقه أما الوضين بن عطاء وهو الراوي عن مرثد هو أبو عبد الله أو أبو كنانة الخزاعي الدمشقي صدوق كما حكم عليه الحافظ في التقريب صدوق سيئ الحفظ رمي بالقدر. روى الإمام أبو داود وبن ماجه والنسائي في فضائل سيدنا علي. وعليه الوضين بن عطاء إن شاء الله حديثه في درجة القبول ويزيد بن مرثد ثقة إمام مبارك لكن الحديث فقط فيه علة الانقطاع وله شاهدان.
... الأول رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في جمع الجوامع 1/507 من رواية الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه باللفظ المتقدم تماما وليس عندي تاريخ دمشق للنظر والإسناد وإنما عزاه السيوطي إلى تاريخ دمشق لابن عساكر عن ابن مسعود.(87/10)
.. والشاهد الثاني: في سنن أبي داود كتاب الخراج والإمارة باب في كراهية الافتراض في آخر الزمان يعني يكون للإنسان فرض عطاء ثابت من بيت المال في آخر الزمان لأن هذا سيكون من قبل الدنس والحطام – والحديث في الحلية 10/27 أسد الغابة 6/123 رواه بسنده إلى الصحابي الجليل ذي الزوائد – قال الإمام المنذري في تهذيب السنن 4/207 له صحبة ولا يعرف اسمه معدود في أهل المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه. ولفظ حديثه: "يا أيها الناس خذوا العطاء ما دام عطاءاً فإذا تجاحفت قريش على الملك وعاد العطاء رشى جمع رشوة- تجاحفت أي أجحف بعضها ببعض وظلم بعضها بعضا وأخذت الامارة بالإكراه والغصب وظلم الأمراء.
... فالعطاء لن يكون عند ذلك تنفيذا للشريعة الغراء إنما سيكون شراء للذمم – وصار العطاء رشى على الدين فلا تأخذوه " وتكملة الحديث ألا وإن رحى الإسلام دائرة. الحديث في سنن أبي داود ضعيف الإسناد ومع هناك إنقطاع لعل كل واحد منها يتقوى بالآخر والعلم عند الله تعالى: ضعيف الإسناد رواه سليم بن مطير عن أبيه مطير بن سليم والابن سليم بن مطير لين الحديث لم يخرج إلا أبو داود كما حكم عليه الحافظ في التقريب وأما والده مطير بن سليم مجهول الحال في التقريب وخرج له أبو داود أنظر ترجمة مطير بن سليم في المغنى للذهبي 2/663 قال: قال البخاري لم يثبت حديثه. والمعنى ثابت فروى عن سيدنا عبد الله بن مسعود وسيدنا معاذ وسيدنا ذي الزوائد وفي كل طريق ما تقدم من الكلام ما عدا طريق ابن عساكر والأول فيه انقطاع والثالث فيه ضعف والمعنى ثابت.(87/11)
.. والحديث "خذوا العطاء مادام عطاءاً فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه ولستم بتاركيه يمنعكم الحاجة والفقر ألا وان رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار ألا وإن الكتاب والسلطان سيفترقان فكونوا مع الكتاب ألا وإنه سيكون عليكم أمراء يقضون عليكم لأنفسهم مالا يقضون لكم فإن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم قالوا فكيف نضع يا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال كما صنع أصحاب نبي الله عيسى – على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب " - أي صلبوا وسمروا عليه وثبتوا وما تركوا دينهم ولا اختاروا الفجور على العجز فاختاروا العجز على الفجور كما فعل قبلهم أهل الرشد والعقول هذه الحالة التي تعرض علينا وعلى كل مسلم ولا يشترط أنه يعرض من السلطة الحاكمة لا بل يعرض عليك في كل شيء من الحياة.(87/12)
.. كثير من المعاملات لا تتم إلا بدنس وعليه الإنسان سيتقيد ما يمكن إلا عن طريق بنك ربوي- يا عبد الله اختر العجز على الفجور. كثير من المعاملات ما يمتنع المسلم إلا لما يرى فيها من مخالفة رب الأرض والسموات قد يحصل مصلحة ولكن ولنفرض أحيانا أنه بعد أن يشتري بيتاً من أجل أن يسكن فيه إنسان ثم بعد ذلك يرى الدنس الذي حصل عند الأنام سيستعمل فيه ما حرم الله فيقول أنا الآن سأكون مشارك لمن يسكن في البيت إذا لا أفعل هذا. مع أنه سيحصل مغنما وعرضا. فاختار العجز على الفجور. عنده مال وبإمكانه أن ينميه ولكن كيف سيتحرك أينما تحرك سيقع في معصية الله عز وجل. فيختار العجز على الفجور. فالأمر ليس قاصرا بين الإنسان وبين السلطان. كل من في بيته تلفاز فهو غوغائي فقال بعض الأخوة إما أن يطلق وإما أن يكون التلفاز قلت والله إذا تعين الأمر فطلاق نساء الدنيا كلهن أيسر من إقتناء هذا الجهاز الملعون ويغن الله كلا من سعته. لا يا عبد الله إذا أصرت حقيقة التنازل عنها أيسر من التنازل عن الدين فالعجز أو الفجور هذا في جميع شؤون الحياة لا تظن أنه في عطاء سلطان فقط آخذ أو لا آخذ ونسأل الله العافية والثبات. في هذا الزمان الذي نعيش فيه حقيقتان يقابل الإنسان من الشدائد والصعاب عندما يختار العجز على الفجور – مع ذلك سيقابل الصعاب – فما الذي يسهل عليه أن يختار العجز على الفجور أمران هما من أعظم الأمور التي يستعين الإنسان بها على اختيار العجز على الفجور.
1. أن يتصف بصفة القناعة والقناعة كما قال أئمتنا راحة:
هي القناعة فالزمها تعش ملكا ... لو لم يكن فيها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها سوى بالقطن والكفن(87/13)
.. وكثيرا ما كانت تعرض الأعطيات على سيدنا الإمام المبجل أحمد بن حنبل فيرفضها ثم يذكرها أولاده بعد سنين ويقولون عرض علينا وعرض فيقول يا أولادي لو أخذناها لنفذت هي كنا أنفقناها ونحاسب عليها قليل يكفي خير من كثير يلهي ويطغى. والإنسان في هذه الحياة مهما اشتدت به الكربات لن يموت جوعا. والقناعة ضابطها كما قال أئمتنا قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك هذه هي القناعة لا تتمنى ولو كان لك وادياً من ذهب لأردت ثانيا ولو كان لك واديين لأردت ثالثاً. ارض بالموجود ولا تحرص على المفقود. هذه هي القناعة وهذا القليل فيه راحة وإذا جاء الكثير بدون معصية الله الجليل فلا حرج لكن إذا جاء بدنس فالسلامة لا يعدلها شيء. وهنيئا لمن رزق القناعة ثبت في حم، م، ت، جه، ك، هق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه.." ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول:
أمت مطامعي فأرحت نفسي ... فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتا ... ففي إحيائه عرض مصون
إذا طمع يحل قلب عبد ... علته مهانة وعلاه هون
العبد حر ما قنع والحر عبد ماطمع
... ثبت في: حم، ت، حب، ك، ابن المبارك زهد: عن فضالة بن عبيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافا وقنع" إذا اتصف الإنسان بهذا يهون عليه أن يختار العجز على الفجور.(87/14)
2. الموت وهذا الأمر غاب عن بالنا وخليق بنا أن نذهب كل أسبوع في يوم من الأيام إلى المقبرة لا لنمر كما يقال مرور الكرام نسلم من وراء السور ونمشي لا بل ندخل إلى داخل المقبرة بعد الفجر والناس في نوم غفلة أو ذهبوا إلى أعمالهم واخلو مع هؤلاء الموتى قرابة ربع ساعة نصف ساعة وتأمل حالهم وابكى على نفسك ولو أمكنك أن تعلم أحوالهم وما هم فيه لقالوا لك نتمنى ليس يوماً من أيامك لكن لحظة من لحظاتك. لكن حيل بيننا وبين ما تملكه أنت ولا تقدر قيمته. فاتعظ بهذا الموت الذي هو هادم اللذات ومفرق الجماعات هو الذي ستنتقل به إلى ظلمة اللحود وإلى بيت الغربة والدود وما أقربه لنا. كم من إنسان خرج من بيته وما عاد وكم من إنسان جسمه سليم سليم ثم بعد ذلك لعله طارئة أخذ إلى المستشفى وما عاد إلى بيته كم – وكم من إنسان يفارق الحياة من غير مقدمات. فإذا القناعة ما استساغتها النفس ذكرها بالموت خذها كل أسبوع إلى المقبرة وعد ما شئت من أموات وعددهم لا يحصى تأمل هذا وإذا استحضرت هذا يهون عليك كل شيء القليل تراه كثيرا وتقول هذا يبلغنا المقيل والمصير. إذا دخل الإنسان المقبرة انقطع سعيه لا ينفعه إلا عمله ونسيه بعد ذلك أهله وأصحابه حتى الزوجة التي بينك وبين الصلة لا يعلمها إلا الله تنساك بعد دفنك وقد تتزوج عددا من الأزواج بعدك ولذلك عدد من الصالحين حصل لهم ما حصل من الزهد في الحياة والانقطاع عن المخلوقات عندما سمعوا من يخاطب بعض الأموات بهذين البيتين المحكمين:
مقيم إلى أن يبعث الله خلقه ... لقاؤك لا يرجى وأنت قريب
تزيد بلى في كل يوم وليلة ... وتُنسى كما تبلى وأنت حبيب(87/15)
.. يعني لا تنسى مباشرة فكما لا تبلى مباشرة تنسى كذلك. حقيقة هذا يقطع القلب ولا نعلم هل سنموت في هذه الليلة أو في هذه الساعة في الغد علم ذلك عند رب العالمين "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" وهذا الحق الذي لا مرية فيه كأنه باطل لا صحة له وما رأينا بحق أشبه بباطل كما قال الأئمة مثل الموت حق لا يختلف فيه إثنان وكأنه باطل لا وجود له فلا بد من الاتعاظ بالموت بذكر الموت. أين أصولك فأنت ميت وابن ميت وذو نسب في الميتين عريق. وكم من إنسان جمع المليارات وتركها أوفر ما كانت. ألا نعتبر بهذا ألا يصدنا عن غينا وفجورنا وبيع ديننا بدنيانا استمع إلى هذا الحديث الذي وجهنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر.
... ثبت في حم، جه. تاريخ البخاري وابن أبي شيبه وأبو يعلى في مسنده - هق سنن – وفي مصباح الزجاجة 3/293 قال فيه مقال وسيأتينا هذا المقال لم يؤثر فيه ونص على تحسينه أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين وما في سنن ابن ماجه يوجد تصرف من عمل المحقق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي يغفر الله لنا وله. وما له باع في العلم الشرعي فأحيانا يتصرف في العبارة بما يغير معناها قال: قال في الزوائد: إسناده ضعيف وليس كذلك إنما قال فيه مقال وشتان ما بين العبارتين وفيه مقال في بعض الرواة والمعتمد توثيقه وشتان بين هذا وبين الحكم على الحديث بالضعف. ونص على تحسينه الإمام المنذري في الترغيب 4/240 ونقل المناوي عنه التحسن في الفيض 3/163 وأقره وهو كذلك عن البراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه قال: كنا في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس رسول الله على شفير القبر فبكي حتى بل الثرى ثم قال: يا إخواني لمثل هذا فأعدوا – يبكي نبينا صلى الله عليه وسلم حتى بل الثرى – أعدوا العدة لمثل هذا المصرع الذي ستستقبلونه عما قريب.(87/16)
.. ومع ما في الموت من غصص وكرب فهو محبوب لأهل الفضل والأدب كيف لا وهو الذي يوصل المؤمن إلى لقاء الرب وما عند الله خير للأبرار رحمة الله على الإمام القانت منصور بن إسماعيل الشافعي الضرير توفي سنة 306 هـ السير 14/278، والعزلة ص73 وطبقات الشافعية للسبكي 3/478 يقول ونعم ما قال:
قد قلت إذا مدحوا الحياة فأكثروا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان عذابه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف
... هذان الأمران: القناعة في هذه الحياة واستحضار الموت في كل حين.
... الاتصاف بهذين الأمرين يلزمنا باختيار العجز على الفجور.
... نعود إلى الكلام على المذاهب الأربعة:
... ... جرى تشويش كثير حول المذاهب الأربعة سادتنا الكرام الإمام أبي حنيفة النعماني والإمام مالك بن أنس والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه. فقيل هذه المذاهب بدعة وقيل الالتزام بها شرك في الطاعة وقيل إنها فرقت بين المسلمين وقيل من احتكم إليها لم يحتكم إلى شرع رب العالمين وقيل لا نقلدها ولا نقلد أبا بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعين وقيل وقيل كلام باطل هزيل ذكرت بعض من قال به في هذه الأيام ونسأل الله حسن الختام. وقلنا سنتدارس هذه المذاهب من ثلاثة أمور:
1. معالم عشرة لا بد من وعيها على التمام لنكون على بينة من المذاهب الأربعة.
2. موقف أهل الرشد والوفاق من المسائل التي حصل فيها اتفاق وافتراق.
3. سبب الاقتصار على المذاهب الأربعة المتبعة عند العقول النيرة المشرقة.
... ... المعالم العشرة التي ينبغي أن نعيها ولولا أن تكون بدعة لقلت للناس اكتبوها وعلقوها في بيوتكم وكتابتها في ورقة وتعليقها قليل في حقها ونقشها في الجبين قليل في حقها ينبغي أن تنقش في القلوب وأن يعيها كل مسلم لا سيما في هذا الزمن زمن الفتن والعيوب.(87/17)
1. ليعلم من يشوشون على المذاهب الأربعة الحسان ويبهتون أتباعها بالإفك والبهتان ليعلموا مصدر الأحكام كتاب الرحمن سبحانه وتعالى وحديث نبينا عليه الصلاة والسلام وما بني عليهما من إجماع أهل الإسلام والأقيسة السوية الحسان. هذا مصدر الاحكام الشرعية عند المذاهب الأربعة واتباع المذاهب الأربعة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع ولا يكون إلا عن نص وقياس سوي سديد الحاق مسكوت بمنصوص عليه. وهذا أعني مصدر الأحكام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإجماع والقياس حسبما فهم ونقل عن سلفنا عن أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين فإذا نقلوا الإجماع في مسألة فعلى نقلهم المعول والخروج عن ذلك ضلال ومضيعة وتقدم كلام بعض الزائغين في هذا الحين وقلت ما سبقه في هذا الإفك المبين إلا النظام وغيره من الدجاجلة الزائغين المنحرفين.
مصادر الأحكام القرآن والسنة والإجماع والقياس:
2. المذاهب الأربعة الحسنة حوت تلك الأمور الحكيمة المحكمة بطريقة سوية متقنة مصدر الأحكام الأمور الأربعة ما في المذاهب الأربعة مأخوذ من الأمور الأربعة يطالب من يفتري على المذاهب الأربعة أن يأتي بحكم لم يصدر مصدره من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام والإجماع والقياس السوي الرشيد ما في كتب المذاهب الأربعة حوى الأحكام التي أخذت من تلك الأصول السديدة السوية وعليه من زعم أن الاحتكام إليها ليس احتكام إلى القرآن سفيه زائغ ومن قال أنه كان حنفيا ثم اهتدى فهو مبتدع محدث ما يوجد في هذه المذاهب الأربعة إلا ما دلت عليه تلك الأصول التي هي مصدر الأحكام.
3. الالتزام بها – المذاهب الأربعة الحسان – مسلك سديد والأخذ بها عمل رشيد والتعصب لها خلق حميد وما بعد ذلك إلا الظلال البعيد.(87/18)
.. ... قال الشيخ محمد بخيت المطيعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه القول الجامع في الطلاق البدعي والمتتابع ص18 قال كل مذهبه من هذه المذاهب الأربعة شرع الله القويم وصراطه المستقيم قال: يجب العمل به على من أداه إليه اجتهاده أو تبع ذلك المجتهد أو قلده كل مذهب من المذاهب يجب على المجتهد أن يتبعه وأن يأخذ به يعني فهم الإمام مالك شرع في حقه وهكذا الإمام الشافعي وباقي الأئمة. فهم المجتهد شرع في حقه عندما أمرنا الله أن نتبع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حسبما يفهم هذا المجتهد فهم فهما هو ملزم به – يعني عندما فهم بعض الصحابة رضوان الله عليهم. أنه لا يراد من قول النبي صلى الله عليه وسلم – لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة – لا يراد تأخير الصلاة إنما يراد التعجل وعليه لا مانع من الصلاة في الطريق هذا حكم شرعي في حقهم وجب عليهم إتباعه يصلوا في الطريق وإلا أثموا من فهم هذا الفهم لو أخّر الصلاة أُثم لأنه الأن حكم الشرع في حقه هذا الفهم ومن خالف وقال لا نعم في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم– ولا حرج إذا أخّرنا الصلاة حتى نصل إلى بني قريظة فلو خالفوا وصلوا في الطريق أُثموا فهم المجتهد شرع في حقه وعليه هذه المذاهب الأربعة شرع الله القويم وصراطه المستقيم يجب على المجتهد أن يعمل بها لأن هذا ما أداه إليه اجتهاده ومن يجب عليه أن يعمل بها أيضا من تبع المجتهد يعمل بها أيضا.
... ... والناس بين قسمين لا ثالث لهما إما مجتهداً وإما مقلداً أو متبعاً فالمجتهد فهم هذا فريضة الله في حقه بإجماع أهل الإسلام أن يعمل ما أداه إليه اجتهاده فهم من النص هذا وهو مجتهد باتفاق علماءنا الكرام باتفاق أهل الإسلام باتفاق أهل الحل والعقد وإذا اجتهد فلا يعتبر اجتهاده باطلا ولا يعتبر سفيها عندما يجتهد يتسور على الأدلة لا عنده عدة الاجتهاد ما يؤديه إليه اجتهاده هو حكم شرعي في حقه. ننتقل إلى من بعده.(87/19)
.. ... يقول الله تعالى" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " نحن لا نعلم تفاوت الأدلة ولا مراتبها وجب علينا أن نسأل أهل الاجتهاد فأفتانا الإمام أبو حنيفة بما توصل إليه أفتانا الإمام مالك بما توصل إليه وهكذا باقي الأئمة. فهذا حكم شرعي.
... ... هذه المذاهب الأربعة شرع الله القويم وصراطه المستقيم من خالف في ذلك أو افترى عليها فعليه غضب رب العالمين وهذا لا بد من وعيه واحذروا السفاهات التي تقال هنا وهناك من غير وعي عندما يقال آراء رجال قل له لا تستحي من ذي العزة والجلال الرأي الذي يبنى على الهوى وعلى الرأي المجرد وعلى الذي يؤخذ من عرف أو من مصدر غير شرعي أما هذا فهم شرعي وتقول رأي رجال فهمك إذاً رأي رجال وسنعطل النص ولا يعمل بفهمي ولا بفهمك إذاً قول النبي عليه الصلاة والسلام لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة وكل من الفريقين أخذ برأي إذاً ما عندنا شرع في هذه القضية أهملنا النص لكن لو أنصفنا نقول ما فهمتموه شرع يقبلة الله ويثيب فاعله وما فهمناه شرع يقبله الله كذلك. أما نقول رأي رجال وكل واحد نبذ الآخر بالزيغ والضلال وافترقت الأمة وتقاتلت ولا يمكن أن يجتمع على شعيرة من الشعائر هذا لا بد من وعيه. هذه المذاهب الأربعة شرع الله القويم وصراطه المستقيم فإن قيل كيف تعددت! الذي يقول هذا ينبغي أن تقطع رأسه لا بقطع لسانه.
... ... إذا وسع الله علينا أمرا وجعل الحكم الشرعي يدور بين قولين أو ثلاثة أو أربعة ما الحرج في ذلك وكل منها هدى. وما أجمع عليه أئمتنا من خرج عنه فهو ضال –وسيأتينا ضمن خطوات البحث أن إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة – والعلماء في هذه الشريعة المباركة واجتهاداتهم مع الشريعة الأم مع دين الإسلام كشرائع الأنبياء مع الإسلام العام تماما كما أن كل نبي له شريعة خاصة وكلهم يدينون بدين الحي القيوم عندنا كذلك نحن ننتمي للإسلام وعندنا أصول من خرج عنها فهو ضال كفور.(87/20)
.. ... الاحتكام إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وما فيه إجماع من خرج عنه فهو ضال وما عدا ذلك نقول اختلاف أئمتنا كالاختلاف بين أنبياء الله ورسله وهل في ذلك الاختلاف منقصة؟ هم رسل الله والأصل الجامع بينهم واحد " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه "وهذا الكلام كلام خطير وحذاري أن ينسبه واحد إليَّ كلام خطير وشأنه جليل. قاله الإمام ابن قدامة في المغنى وقاله شيخ الإسلام ابن تيمية ولا أعلم خلافا له بين أئمتنا أن العلماء مع شريعة خاتم الأنبياء كالشرائع المتعددة في الديانات السابقة. كما قلت هذا شرع الله القويم وصراطه المستقيم فما فهمه الإمام الشافعي نقول عنه شرع وهدى وما فهمه الإمام شرع وهدى وما فهمه سيدنا عمر في الأمر الأول من عدم توريث الأشقاء مع الأخوة الأم في المسألة المشتركة ماذا نقول عنه؟ شرع وقضى به الإمام أبو حنيفة والأمام أحمد.(87/21)
.. ... وما رجع عنه سيدنا عمر وقال نشرك الأشقاء مع الأخوة الأم وبه أخذ الإمامان مالك والشافعي هذا شرع وهذا شرع يأتي إنسان ويقول القضاء الأول هوى وآراء رجال والثاني هوى آراء رجال إذا ما عندنا حكم في هذه المسألة وهات نص في المسألة سيقول ما عندي نقول ما عندك اخرس واسكت هات نصاً شرعيا في المسألة. وكل حكم من هذين الحكمين بني على أدلة شرعية قوية بحيث يحار الناظر بين القولين في ترجيح أحد القولين عنده لاقى حقيقة الأمر هذا حكم شرعي. وهذا حكم شرعي- وتقدم دراسة المسألة موسعة في مباحث الفرائض هذه المذاهب الأربعة شرع الله القويم وصراطه المستقيم هذا كلام أئمتنا وكلام الزائغين الذي ينشر في المجلات في هذا الحين أن الاحتكام إلى المذاهب الأربعة ليس احتكاما إلى الكتاب والسنة هذا ينبغي أن يقطع لسانه وقطع اللسان في حقه قليل ينبغي أن تقطع رقبته ألا تستحي من الله مذاهب الأئمة الأربعة في جانب والكتاب والسنة في جانب آخر ثم قل له هات أنت لنا الأحكام حتى تسمع من الهذيان والتخريف مالا يخطر ببال إنسان نحن عندنا جرأة على الهدم والتضليل لكن قل له هات لنا أحكاما لا يستطيع وتراه يخرف بعد ذلك عندما يأتيك بحكم يقول هذا طيب وهذا حسن وهذا من رأيه دون أن يسنده إلى شرع ربه عز وجل.
... ... ... ... ***************
المعلم الرابع من المعالم العشرة:(87/22)
.. ... لا يجب على المسلم أن يلتزم مذهبا منها بعينه فكلها هدى – نعم الخروج عنها زيغ وضلال وردى وقد انحصر فيها الحق – في المذاهب الأربعة – كما نص على ذلك أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين – تقدم معنا كلام العبد الصالح يحيى بن هبيرة في الإفصاح 2/343 وكتب في هذه المسألة ما يزيد على صفحتين. وقلت لكم لما أطلعني الأخوة الكرام على هذا الكلام سجدت شكراً لله أن هذه الألفاظ التي أقولها في الأصل مقولة بنفس العبارات عن أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين أن الحق منحصر فيها وما خرج عنها هلاك ومضيعة تقدم معنا كلامه بطوله سأذكر منه محل الشاهد وهو إمام صالح قانت وتقدم معنا أنه ما وُزِّر لبني العباس مثله وهو من شيوخ الإمام ابن الجوزي.(87/23)
.. ... يقول الإمام يحيى بن الهبيرة رحمه الله: اجتمعت الأمة على أن كل منها المذاهب الأربعة المتبعة يجوز العمل به لأنه مستند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وانتهى الأمر من هؤلاء المجتهدين إلى ما أراحوا فيه من بعدهم وانحصر الحق في أقاويلهم ودونت العلوم وانتهت ثم قال اتضح الحق وبان وعليه لا يشترط في هذه الأزمان صفة الاجتهاد في القاضي وعليه إذا لم تكن فيه صفة الاجتهاد لا يضره لأنه في مأمن عندما يتقيد بهذا المذهب لكن إذا لم تكن فيه صفة الاجتهاد وقل له استنبط الأحكام من الكتاب والسنة سيتلاعب أو ليس كذلك سيتلاعب بالكتاب والسنة إذا لم تكن أهلية الاجتهاد فيه يتلاعب ويصبح القضاء الشرعي يتبع الهوى.(87/24)
فقال هؤلاء كفونا المؤنه وأراحونا فالالتزام بأقوالهم سلامة ونجاة وانحصر الحق في أقاويلهم ودونت العلوم وانتهت ثم قال: المجتهد كما أنه يعمل بما أداه إليه اجتهاده وهذا في حقه حكم شرعي وهكذا من تبعه ومن قلده كما قال الشيخ محمد بخيت بيومي تماما فأنت عندما تتبع المجتهد كأنك اجتهدت واستنبطت هذا الحكم لكن الفارق بينك وبينه ما هو؟ ذاك عنده أهلية الاجتهاد فاجتهد وأنت لست عندك الأهلية فتبعته فهو حكم شرعي في حقه وكذلك أنت تابع له فهو حكم شرعي قال: لأنه في معنى من أداه إليه اجتهاده أي من الأحكام عندما يتبع المجتهد كأنه هو الذي اجتهد واستنبط الأحكام نعم بعد ذلك أشار إلى أمرين لابد العناية بهما قال: ما اتفقوا عليه الالتزام به واجب وتقدم مراراً أن اتفاقهم ينزل منزلة الإجماع ودونه أيضا ينبغي أن يراعيه القاضي وهو ما عليه الأكثر ما عليه الجمهور فيفتى دائما بما عليه الأكثر فهذا أحوط وهذا أقرب إلى الحق وهذا أقرب إلى الصواب وكلها حق وصواب لكن على حسب الاستبراء للذمة وبما أن المسألة احتملت واحتملت نأخذ بما عليه الأكثر يحتمل إصابة الحق في قولهم أكثر مع أن القول الآخر صواب وحق وهدى لكن هنا يعني يوجد مجال لإطمئنان النفس أكثر وكلها أحكام شرعية هذا ما أوصى به ابن هبيرة في الإفصاح قال القاضي فقط يختار ما عليه الأكثر ليكون أحوط له في هذا الأمر.
... ... وهذا الأمر الذي قرره ابن هبيرة أشار إليه الإمام الذهبي في السير 7/117 يقول عليه رحمة الله بعد أن بحث في أمر الاجتهاد في قرابة ثلاث صفحات.
... ... يقول: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه مع اعترافنا أن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها أن الحق على خلافهم. هذا كلام الإمام الذهبي إذاً الحق انحصر في أقوالهم رضي الله عنهم وأرضاهم.(87/25)
.. ... إذا لا يجب على المسلم أن يلتزم واحداً بعينه يقال إلزم هذا المذهب ويحرم عليك أن تأخذ غيره أو إذا أخذ به يقال يحرم عليك أن تتبع مذهبا آخر من هذه المذاهب الأربعة. لا ثم لا الأمر فيه سعة لكن ما ينبغي أن يترك للتشهي ولا للهوى ولا للترخص لكن لو قدر أنه التزم بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه ثم بعد ذلك التزم بمذهب الإمام أحمد بمذهب الإمام الشافعي لا حرج ولا ضير في ذلك على الإطلاق التزم بمذهب كما سيأتينا في خطوات البحث ووقف على قول في مذهب آخر رأي أن الأدلة في الظاهر تشهد له فقال مال قلبي إلى قبول هذا القول وأعمل به فأنت على هدى المقصود ضمن الدائرة ومتى ما خرجت عن المذاهب الأربعة هلكت وصرت في مضيعة.
المعلم الخامس من المعالم العشرة:(87/26)
.. ... ينبغي أن نحرص غاية الحرص على تعلم الأدلة الشرعية على الأحكام الشرعية ولذلك يستحب لنا أن نقرأ في كتب الفقه التي تعني بالأدلة على الأحكام المستنبطة من مصادرها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس _ ينبغي أن نتعلم الأدلة الشرعية. أما أن نتعلم الفقه بدون الأدلة درجة نازلة لا أقول حرام لا ثم لا لكن يا عبد الله لتزداد حجتك كما قال سيدنا الإمام الشافعي: من كتب الحديث قويت حجته فتصدر الحكم وتقرره بدليله ولذلك هؤلاء على من يشوشون على من هم خلو الأذهان ليس عنده فقه ولا سند لذلك الفقه يأتي يلبس الهذيان وإلا لو اجتمع أمام طالب علم يقول هات سمي مسألة أنت تقول الحق موجود في غير الأربعة والأربعة فيها ما فيها هات مسألة ضل فيها المذاهب الأربعة هات مسألة سيقف أمامك مبهوتاً تقابله بالمسائل الشرعية التي قررها أئمتنا وقل له هات ماذا عندك والله ليس في وسعه أن يتكلم كلمة واحدة هذيان لكن عندما يقابل أصحاب الأذهان الفارغة يصطادهم بهذا التشويش تتبعون النبي صلى الله عليه وسلم أو تتبعون أبا حنيفة رضي الله عنه – حتما على حسب فطرة الناس يقولون نتبع النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعونا من أبي حنيفة.
... ... نتبع النبي صلى الله عليه وسلم على حسب فهم من على حسب فهمك يا ضال هذا الزمان فلا بد إذاً من تعلم الأدلة.
... ... قال سيدنا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه كما في قواعد علوم الحديث للإمام القاسمي ص52 نقلا عن الميزان للإمام الشعراني يقول: لا يزال الناس في صلاح ما دام فيهم من يطلب حديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا طلبوا العلم من غير حديث فسدوا.
أخوتي الكرام: هذا الفساد له عدة جهات وأسبابه.(87/27)
أولها: من يطلب الفقه من غير حديث من غير دعائم من غير معرفة مصادر هذا الفقه هذا قد يزين له الشيطان أقوال رجال قد يلتقي بواحد من عتاة الإنس يقول ما تقوله من أحكام كله هذيان كل هذا آراء من الإنسان ما دليله يقف مبهوتاً يفسد حقيقة فإذاً قد يفسد هو يقول أنا أخترع الأحكام وما يعلم المسلم أنه لا يوجد جزئية إلا وربطت بمصدر شرعي. وعندما يقابل بهؤلاء لا يستطيع أن يجيبهم إنما عندما يعلم الحجج والبينة قل يا عبد الله الدليل كذا وأنت مخطئ فيما تقول: وتقدم معنا كلام الإمام ابن تيمية في دفاعه عن سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه تقدم مراراً قال: من اتهمه أنه يقدم القياس على النص فقد أخطأ عليه إما بظن وإما بهوى يكذب حقيقة يقول إذا كان الإمام أبو حنيفة يقدم الحديث حتى الذي فيه ضعف عند الجمهور يقدمه على القياس فيوجب نقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة خلاف القياس وخلاف ما عليه الجمهور تقديما للحديث الذي ورد في ذلك وهو ضعيف كما تقدم معنا فمن قال يقدم القياس على النص أخطأ عليه أما بظن – ظن وهو واهم – أو بهوى يتحامل عليه وهكذا يقال في حق أئمة الإسلام قاطبة وهذا كلام الإمام المبارك لا يزال الناس في صلاح مادام فيهم من يطلب الحديث. فإذا طلبوا العلم من غير حديث فسدوا لأنه سيأتينا أن الفقيه إذا لم يكن صاحب حديث فهو أعرج لا يمشي مشية محكمة وهنا يقرر الأحكام ولا يسندها إلى مصادرها ودعائمها.(87/28)
.. ... وقال الإمام أبو حنيفة أيضاً: لولا السنة لما فهم أحد القرآن وقال أيضاً من خرج عن السنة فقد ضل وأثر على العبد الصالح أبي عروبة – الحسين بن محمد الحراني – وكلامه في شرف أصحاب الحديث ص70 –وتوفي هذا الإمام المبارك سنة 318 هـ – كان يقول: الفقيه إذا لم يكن صاحب حديث فهو أعرج. لأن كلامه لا يسند إلى أدلة فحاله كحال الذي يختل في مشيته – وفي أوائل مدارستنا لسن الترمذي قلت عندما نتدارس حديث النبي صلى الله عليه وسلم نحصل فوائد كثيرة منها الفوز بكثرة الصلاة والسلام على نبينا صلى الله عليه وسلم ومنها تعلم مصادر الأحكام وأدلتها هذا لا بد أن تعيها الأمة وإلا أحكام تقطع عن مصادرها وأصولها هذا مضيعة كحال الأعرج والأمر الثالث: الفوز بالنضرة والرحمة الذين دعى بهما النبي صلى الله عليه وسلم لمن يتعلم حديثه عليه صلوات الله وسلامه.
المعلم السادس من المعالم العشرة:
... ... ينبغي على طالب العلم والعالم أن يفتي بالمشهور وأن يدع ما هو شاذ مهجور ولا ينبغي للعالم أن يفتي العامة إلا بمذهبهم المقبول محافظة على صفاء العقول ودفعاً للتشويش المرزول.(87/29)
.. ... إخوتي الكرام: لو قدر أن إنسان مالكي مع ناس يدينون الله بمذهب الإمام مالك. وان قضية ما دليل الإمام أبي حنيفة عنده أظهر في هذه القضية الأقوال كلها شرعية ولكن ارتاح لدليل الإمام أبي حنيفة وهذا لا حرج فيه – وهذا مطلوب من طالب العلم ولكن عند الفتيا لا يفتي الناس إلا بمذهب ذلك الإمام لئلا يصبح تشويش وهذيان ولغط وخصام ووحدة الأمة تقدم على كل شيء حكم شرعي لاح لك أنه مرجوح والثاني أرجح اعمل بما لاح لك ولكن عند الفتيا لست بمجتهد متبع للمذاهب أو مقلد: وهذا المذهب الذي يدين الله به أهل هذه المنطقة أفتى الناس به مع أنك تفعل بخلاف ذلك لا غضاضة ولا حرج لأنك استوعبت القضية ولكن هؤلاء سيعتبرون الخروج عن المذهب ضلالا وانحرافاً وزيغاً وفساداً والأمة بعد ذلك..بعضها في بعض فمصلحة الأمة ووحدتها تتقدم على كل شيء فأنت لا تفتي العامة إلا بما هو مقبول عندهم لا أقول على حسب أهوائهم لكن على حسب المذهب الذين يدينون الله تعالى به وأنت لو كنت في بلد يدينون الله بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه وافقهم على ذلك وأنت في فعلك يوجد ترجيحات واختيارات لكن عند الفتيا تقيد بالمذهب وهؤلاء تبعوا هدى الله المستقيم وشرعه القويم الذي هو في هذا المذهب كما هو في بقية المذاهب فأنت لئلا تصدع الصف وتشتت الشمل وتفرق الأمة وتجعل الخصام بينها فقل له الأمر فيه سعة هذا مذهب معتبر وهذا معتبر وأنت تقتدي بالإمام أبي حنيفة ولا تريد أن تقرأ الفاتحة وراء الإمام قول حق وهدى وصلاتك مقبولة –صحيحة – ومن كان حنفي المذهب فلا تجب عليه قراءة الفاتحة ولا تلزمه وتقرير المسألة ضمن مواعظ الفقه –الأمر فيه سعة احتملته الأدلة ورحمة الله واسعة –وأنت بعد ذلك عندك اطلاع انشرح صدرك لهذا أو لهذا أفعل لكن عندما يستفتيك وهو يدين الله بمذهب سيدنا أبي حنيفة قل له بالمذهب.(87/30)
أما إذا قلت حديث النبي صلى الله عليه وسلم"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "وتقول هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم يا عبد الله رفقا بنفسك وهل أبو حنيفة رضي الله عن قال هذا الحكم من بيت أبيه وأمه أوأيضاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة.
... ... وتقدم أن الحديث صحيح وتقدم تخريجه: إذاً هذا دليل وذاك دليل فبقي فهوم مختلفة من مصادر ثانية من الذي رجح فهمك على فهم الإمام أبي حنيفة وأنت لو خرجت في فهمك عن المذاهب الأربعة فأنت ضال أيضاً فانتبه لهذا إنما أنت عندما تبعت ذلك المذهب على هدى لكن ما الذي رجح مذهب الإمام الشافعي على مذهب الإمام أبي حنيفة ما الذي رجحه ترجيحك يعتبر مرجحاً إنما تأتي وتقول النصوص يا عبد الله هذا ما ظهر لك والترجيح لا يمكن أن يكون نصاً إلا إذا صدر من النبي صلى الله عليه وسلم. أما ما عدا هذا أنت ترجح ولكن ليس على حسب ما هو عليه في حقيقة الأمر قد ترجح المرجوح وأنت مسكين لا تدري حقيقة الأمور لكن أنت انشرح صدرك في أن تعمل إعمل لكن بالنسبة لوحدة الأمة كما قلت لا بد من أن تراعيها وأن تتقي الله في أمة نبيه عليه الصلاة والسلام أنت على مذهب الإمام أبي حنيفة فعليك أن تفتيه بهذا المذهب إذا كانوا يدينون الله به.
... ... فانتبه لهذا الأمر لا تفتي العامة إلا بمذهبهم المقبول محافظة على صفاء العقول ودفعاً للتشويش المرزول.(87/31)
.. ... وبهذا قال أئمتنا وقال من لا يشك في إمامته وديانته وبقوله يرضى أهل المذاهب المختلفة من تلاميذ شيوخ الإسلام وهو من أهل الفقه ومن أهل التراجم والسير رضي الله عنه. وهو الإمام الذهبي قال في السير 8/93 يقول: ولا ريب أن كل من أنس من نفسه فقها وسعه علم وحسن قصد فلا يسعه الالتزام بمذهب واحد في كل أقواله لأنه قد تبرهن له مذهب الغير في مسائل ولاح له الدليل وقامت عليه الحجة فلا يقلد فيها إمامه بل يعمل بما تبرهن له ويقلد الإمام الآخر بالبرهان لا بالتشهي والغرض لكن لا يفتي العامة إلا بمذهب إمامه أو ليصمت فيما خفي عليه الدليل. فأنت عندما خرجت قلدت إماما آخر فما زلت على هدى ولكن للمحافظة على دين الله وعدم النزاع.
... ... بين المسلمين فهؤلاء يدينون الله بمذهب معتبر فإذا كان كذلك فلا تفتيهم إلا به ولو قدر أنك تحرجت اسكت وأحل على غيرك أما أنك تأتي وتقول يترجح عندي كذا ومذهب أبي حنيفة خطأ قد تقطع رقبتك وإذ لم تقطع عملت فتنة بين الأمة. والذين صدعوا الأمة في هذه الأيام مع تصديعها وزوال سلطانها هل استفادوا عندما صدعوها التصدع بينهم أنكى وأفضع وأشد ولا يوجد اثنان على قول وهذا الهرج والمرج وعلى تعبيركم باسم الاتباع الكتاب والسنة لا اتفقتم ولا تركتم الأمة بعد ذلك على اتفاقها مع زوال سلطانها وضياعها وهذا بلاء نعيشه في هذه الأيام.
المعلم السابع:
... ... نرد الخطأ ممن صدر تقرباً إلى الله عز وجل مستضيئين بذلك بمن سبق بالعلماء الكُمَّل فلا محاباة في الدين.(87/32)
.. ... لا دليل عنده إنما بناء على أدلة عامة وورد دليل خاص يقدم على قوله ولذلك علماء المذهب واتباعه قالوا هذا القول الذي نقل عن الإمام هذا القول مهجور وسيأتينا قول الإمام مالك أن المرأة تسبح إذا أخطأ الإمام ولا تصفق والحديث قال له تأويل والحديث في منتهى السداد والرشاد واستدل بالعموم من نابه شيء في صلاته فليسبح لكن عندنا روايات أخرى لا تحتمل التأويل رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء في التصفيق وللرجال في التسبيح – وفي رواية: إذا أنساني الشيطان شيئاً من صلاتي فيسبح الرجال ولتصفق النساء – وسيأتينا ضمن خطوات البحث – وهذا ينفي تأويل الإمام مالك للحديث فليصفق النساء وليسبح الرجال من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وسيأتينا كلام أن العباس القرطبي في المفهم قال: قول الإمام مالك معارض للأثر والنظر – وهو مالكي –والجمهور بعد ذلك على هذا وانتهى الأمر والمسألة سهلة تقرر بلطف عند أتباع المذهب لكن هذا بني على حديث ولكن عارض نصوصاً أخرى واضحة وسأذكر نصوصاً أخرى تشير إلى هذا وسأذكر مسألة ذكر فيها قولان النصوص ترجح قولاً من القولين فيجب علينا أن نأخذ به في موضوع آخر البحث مثلاً جر الإزار نقل القولان كراهة التنزيه وكراهة التحريم لكن عندنا النصوص المتعاضدة ترجح التحريم وانتهى الأمر فهذا لا بد من وعيه وعندما نقول المذاهب الأربعة ليس معنى هذا أنه إذا قال الإمام إمام المذهب ثم رد عليه من علماء المذهب وبين أن هذا القول خطأ ليس معنى هذا أنه انتهى نص محكم لا ثم لا لكن سيأتينا ضمن المعالم نتروى نتأنى ولا نتهجم نحن كما قلت نستضيء بأقوال من سبقنا من المحققين الجهابذة من هذه المذاهب ومن أئمة الدين قالوا: هذا في الحقيقة لا يوجد ما يساعده لا من النظر ولا من نص وعليه النص الذي بلغ هو قال ما قال فيه وهو معذور ومأجور وأساطين المذهب قالوا هذا لا يصح فكما قلت نرد الخطأ فمن صدر تقرباً إلى الله تعالى.(87/33)
المعلم الثامن:
... ... نتهم رأينا ولا نتسرع في تخطيء أئمتنا فلا بد من استكمال البحث من جميع جوانبه حسبما في وسعنا هذا لا بد من وعيه أن تتأنى وتتريث وتبحث البحث الواعي الكافي ثم بعد ذلك تقول هذا فيما يظهر لي أنه خطأ.
المعلم التاسع: ... ... ... ... ...
... ... نستغفر لأئمتنا الأبرار ونلتمس لهم عند التحقق من خطئهم الأعذار وندعوا لهم آناء الليل وأطراف النهار ولتقرير هذا بمثالين ذكراً في مواعظ التفسير.
الأول: حديث صحيح: عند خ، ن، دي، هق. المحلى 7/141 جامع الأصول 3/274 بوب عليه البخاري في كتاب الحج باب رفع اليدين عند الجمرة الدنيا والوسطى. عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا رمي الجمرة الأول الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فإذا رماها فيتقدم فيهل فيقوم فيستقبل القبلة طويلا ويدعوا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى كذلك ثم يتقدم فيهل ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويدعوا طويلا قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في الفتح 3/583 – قال ابن قدامة 3/475 – لا نعلم لما تضمنه حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مخالف إلا ما روى عن مالك رضي الله عنه من ترك رفع اليدين بعد رمي الجمار – وبعد رمي الكبرى لا يشرع الدعاء قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا أنكر رفع اليدين في الدعاء عند الجمرة الدنيا والوسطى إلا ما كان عن رواية محمد بن القاسم عن مالك. الدعاء متفق عليه ولكن رفع اليدين كرهه.
... ... وهذا الذي قال ابن المنذر رده ابن المُنيِّر أحمد بن محمد بن المُنيِّر – توفي سنة 683 هـ انظر شذرات الذهب /381 وهو صاحب الانتصاف لما في الكشاف.(87/34)
.. ... قال ابن المُنير لو كانت سنة ثابتة لما خفي ذلك عن أهل المدينة. قال ابن حجر. وغفل رحمة الله عن أن الذي روى هذا الأثر عن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أعلم الصحابة ومن أهل المدينة هو عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ورواه عنه ابنه سالم وعنه أمير المؤمنين في الحديث الإمام الزهري. ثم قال: فمن علماء المدينة إن لم يكونوا هؤلاء – وانظروا مثل هذا في عمدة القارئ 10/92.
مثال آخر: ذكرته في آخر مواعظ التفسير.(87/35)
.. ... ثبت في المسند والحديث في الموطأ والكتب الستة إلا الترمذي وابن ماجه وعليه هو في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ورواه البيهقي في السنن الكبرى وأبي داود الطيالسي والحديث في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين عن سيدنا سهل بن سعد عندما ذهب نبينا عليه الصلاة والسلام ليصلح بين بني عمرو بن عوف وجاء سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وقد أم الصحابة الكرام في أول صلاته فأكثروا في التصفيق لينتبه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فلما التفت ورأى النبي صلى الله عليه وسلم تأخر ورجع القهقرا وتقدم النبي عليه الصلاة والسلام في نهاية الصلاة قال النبي عليه الصلاة والسلام من نابه شيء في صلاته فليسبح مالكم أكثرتم التصفيق إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليسبح في التمهيد لإبن عبد البر 21/106 وفي الاستذكار 6/240 يقول: قال الإمام مالك المرأة تسبح كما يسبح الرجل واستدل بالعموم في حديث من نابه شيء في صلاته فليسبح وقوله إنما التصفيق للنساء يعني من عادة النساء ورعونتهن خارج الصلاة ولا يجوز للمرأة أن تصفق لا في الصلاة ولا في خارج الصلاة هذا عبث ولا يجوز للمرأة أن تصفق مطلقاً وإنما التصفيق للنساء – من عمل النساء ومن عمل السفيهات منهن خارج الصلاة فأنتم تصفقون في الصلاة والمرأة إذا صفقت في الصلاة نقص فيها فكيف بالرجل الذي يصفق في الصلاة والمعنى المراد: من خصائص النساء إذا لم يكن على هدى من رعونتهن وسفاهتهن يصفقن وقلما يجتمع النساء في عرس ولا يصفقن وهذا لا يجوز لا لامرأة ولا لرجل.(87/36)
.. ... ورخص في الصلاة عند الجمهور لأن صوتها فتنة فهنا مصلحة شرعية لئلا يسمع صوتها وتتحرك الغرائز في نفوس الرجال منعت أن تقول سبحان الله إنما تضرب ببطن اليمنى على ظهر اليسرى أو بالظهر على الظهر أو بظهر اليمنى على بطن اليسرى أو بإصبعين ولا تصفق أيضاً بالراحتين- كيفيات منقولة عن أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين -ولا تصفق أيضاً بالراحتين لأنه ورد النهي عن التصفيح وهو الضرب بباطن الكف على ظاهر الكف الأخرى إذاً التصفيق خارج الصلاة عندما لا يلتزمن بالهدى فكيف يصفق الرجال عند مناجاة المولى هذا معنى الحديث ولعموم من نابه شيء في صلاته فليسبح – كنت تكلمت سابقاً في خطبة الجمعة عن حكم التصفيق لأن بعض الشيوخ يبيح التصفيق حتى للرجال وقال هذا يعني من أجل الحماس والمشاعر.
... ... يا إخوتي الكرام: الأحكام لا بد أن تسند إلى أدلتها أما هذا يقول لا حرج وذاك يقول حرج وذاك يسأل عن البقرة إذا أعطيت لإنسان شركة مضاربة يقول الربح والخسارة بينهما وهذا شيء طيب! بناءاً على أي مصدر وأي دليل هذه هي الأهواء والآراء وما يعيبه على أئمتنا كله مأخوذ من أدلة شرعية لكن ما راقت لهم جهلوها وهم يأتون بأهواء وهراء ويقولون نحن عندنا إتباع لا إله إلا الله. سيدنا أبو حنيفة رضوان الله عليه يعترضون عليه في انتقاض الوضوء في القهقهة في الصلاة هذا بناء على أثر ليس على رأي البشر وعندما يبيح في السفر التوضؤ بالنبيذ بناء على أثر ليس هذا على قول بشر بينما أنتم تقولون أقوالا عارية عن الدليل ومع ذلك إتباع سنة وسلفية لأنه قاله عنده الختم. هذا قول سلفي. إذا يقول التصفيق هذا من فعل النساء خارج الصلاة على جهة الذم. د
... ...(87/37)
.. ... إخوتي الكرام: لا يوجد أعلى من هذا الفهم والتأويل لولا نصوص أخر ترد هذا لما قدم على فهم الإمام مالك فهم لأجل أن يصان المجتمع عن العبث في كل مكان ولكن هذا في الحقيقة يعارض الروايات الأخرى. ومن هذه الروايات. حم –خ - م –4 – هق –عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال وهذه كرواية سهل بن سعد لا دلالة فيها.
... ... وعند ابن ماجه بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء بالتصفيق وللرجال بالتسبيح في الصلاة.(87/38)
.. ... وعند حم. طس-شيبة وإسناده حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أنساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح الرجال وليصفق النساء ". إذا هناك رخص للنساء بالتصفيق وهنا وليصفق النساء. ترد تأويل الإمام مالك قال الإمام القرطبي كما نقل عنه الحافظ في الفتح 3/77. القول بمشروعية التصفيق للنساء في الصلاة هو الصحيح خبراً ونظراً – هو من ناحية الخبر هو الوارد والأمر الثاني من ناحية الاجتهاد فصوتها فتنة ونص على ذلك ابن عبد البر في الكتابين المتقدمين الاستذكار والتمهيد والحافظ ابن حجر يقول: منعت أن تقول سبحان الله لأن صوتها مظنة الفتنة فلئلا يحصل شيء من تعلق القلوب فلا تقل سبحان الله وهي مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخذ الفتاوي الواسعة العريضة الباطلة التي لا تسند إلى النصوص ولا إلى اجتهادات الأئمة كما تقدم يقول يزور صديقته وزميلته في العمل لأنه ليس من الحكمة أن يعرف بعضنا بعضاً في الرخاء وينسى بعضنا بعضاً في حال الشدة لكن يستحب من عنده أن لا يذهب بنفسه وهي لا تذهب بنفسها يعني يذهب مجموعة والصديقات لزيارة صديقهن أما واحد بنفسه لا يذهب حتى لا يصبح ريبة هذا بناء على استدلال على ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على أمنا عائشة وسألها وكانت مريضة فسألها عن حالها فقالت بخير إن اتقيت الله وأثنى عليها وقال كيف زارها – وهذا بيناه سألها من وراء حجاب وما رأى لها صورة وهذا استدلالهم والخلط عندهم.(87/39)
.. ... وهذا القول الذي نقل عن الإمام مالك رضوان الله عليهم فهم بني على أثر لكن عارض بقية الآثار فيترك هذا القول والديانة تلزمنا بذلك وأساطين المذهب وعلماء المالكية قالوا المرأة تصفق وهذا هو الأصح في الأثر والنظر – انتهى فهذا يرد ومع ذلك الذي يتسفه على إمام من الأئمة هو السفيه ونحن كما قلت لو بنى هذا القول فقط على حديث سيدنا سهل وسيدنا أبي هريرة القول معتبر ولا يجوز أن تضعفه التصفيق للنساء والتسبيح للرجال على التأويل السابق لكن بقية الروايات توضح المراد وأن التصفيق في الصلاة رخص لهن لمصلحة شرعية تقدم هذا مع كونها ممنوعة من رفع صوتها لئلا يحصل في القلوب ما يحصل.
المعلم العاشر وهو آخر المعالم:
... ... إياك ثم إياك أن تقول قولاً لم تسبق إليه واحذر هذا غاية الحذر وإياك ثم إياك أن تقول قولاً تخرج به عن المذاهب الأربعة فإنه هلاك ومضيعة إياك احترس. قال الميموني- الإمام المبارك عبد الملك بن عبد الحميد أبو الحسن الميموني ثقة فاضل لازم سيدنا الإمام أحمد أكثر من عشرين سنة توفي 274 هـ روى له النسائي فقط ترجمته السير 13/89 وهذا القول في السير في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل أنه قال لتلميذه الميموني إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
... ... فتيا الألباني سابقاً أن المرأة إذا انتهت عدتها بعد طلاق أو طلاقين وأراد أن يتزوجها بعقد جديد وزواج جديد تعود إليه من غير طلاق سبق منه عليها من إمامه في ذلك من سبقه في ذلك. قول المقبل على الفتن في موضوع شركة المضاربة - يعطي الإنسان البقرة لصاحبه ليعمل فيها مضاربة يقول الربح والخسارة بينهما- من قال أن المضارب يتحمل خسارة مع ما في هذه الشركة من محاذير عند الجمهور ولا تصح إلا عند الحنابلة بشرط تقييم البقرة وتقديرها. مع هذا لا يتحمل المضارب خسارة.(87/40)
.. ... من سبقه أن القرآن ليس فيه إلا خمس سجدات من سبقه إلى أن الإجماع لا يحتج به حقيقة مسبوق بالنظام وهو خليفته في هذا الزمان لكن ما سبق إليه من قبل أهل الهدى في الإسلام من سبقك إلى أن الإجماع ليس بحجة وليس هذا ذله قالها في وقت ما كان عقله معه لا يقول باستمرار الإجماع ليس بحجة والقياس ليس بحجة إياك أن تقول قولاً ليس لك فيه إمام.
إخوتي الكرام:
... ... بهذه المعالم العشرة نحوي ثلاثة أمور علم وأدب وورع.
... ... لو علمنا الأمور العشرة حوينا العلم الشرعي بأدلته وتأدبنا مع أئمتنا وصرنا في غاية الورع والاحتياط لديننا كما اتضح هذا من المعالم الخطأ يرد نستغفر للمخطئ ندعو له نلزم الأدب معه علم وأدب وورع إذا اتصفت بالمعالم العشرة هذا فيما يتعلق بالأمر الأول من الأمور الثلاثة معالم عشرة لا بد من وعيها وكما قلت لولا أن تكون بدعة لقلت للناس اكتبوها وعلقوها في الجدران حتى يتأملها عباد الرحمن على الدوام ولكن من الحيف أن تنقل على الجدران أو على جبين إنسان ينبغي أن تنقش في القلوب وأن يعلمها أولاد المسلمين ليكون هذا عقيدة فيهم تسري في دمائهم لنعرف كيف نتعامل مع أئمتنا وفقههم.
الأمر الثاني: موقفنا مع مسائل الوفاق والافتراق.
... ... ما اتفق عليه أئمتنا وما اختلفوا فيه ما موقفنا نحوه نحن معشر طلبة العلم أقدم بين يدي الأمر الثاني كلاما لحبر الأمة وبحرها إمامها وعابدها وزاهدها وورعها في زمانه الإمام ابن قدامة في كتابه المغنى توفي 620 هـ. سطر مقدمة ذهبية أصفى من الذهب وأحلى من العسل في مقدمة كتابه المغنى. أنقل منها أسطراً قال بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(87/41)
.. ... أما بعد: فإن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وجعل السبب في بقائهم وبقاء علمائهم اقتداؤهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدي بهم وينتهي إلى رأيهم وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأهذه مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة. تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام ثم قال: واذكر لكل إمام ما ذهب إليه تبركاً بهم وتعريفاً لمذاهبهم ... الخ(87/42)
.. ... ولذلك قال أئمتنا علماء الأمة كأنبياء بني إسرائيل – وكون هذا حديثاً لا يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم. والمعنى صحيح انظروا الكلام عليه في المقاصد الحسنة ص286 قال: قال شيخنا – الحافظ بن حجر – وقبله الإمام الدميري والزركشي لا أصل له وزاد بعضهم ولا يعرف في كتاب معتبر وقال مثله في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ص135 للإمام السيوطي قال لا أصل له وفي الفتاوي الحديثية لابن حجر الهيتمي ص279 والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص123 والخصائص الكبرى المعروف بكفاية الطالب اللبيب في خصائص نبينا الحبيب على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه للإمام السيوطي 2/216 وكلهم تتابعوا على أنه لا أصل له. ولا يعرف من كلام نبينا صلى الله عليه وسلم إنما المعنى حق – إذاً جعل الله هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أبنائها الدين واحد والشرائع مختلفة وعندنا النبي صلى الله عليه وسلم واحد لكل بعد ذلك فروع مختلفة فيها سعة حالنا مع العلماء كحال الأمم السابقة مع الأنبياء – هذا الكلام لو نسب لغير هذا الإمام قد يقولون عنه مشرك والذي علق على الكتاب – ضاق عطنه فعلق على ما بعدها من أنه يتبرك بذكر كلام الأئمة. هذه الأمة مع علمائها كالأمم السابقة مع أنبيائها هذه احفظها.(87/43)
قال الإمام ابن قدامة: نذكر أقوال أئمتنا وآرائهم تبركا بهم وآثر شرح مختصر الخرقي لأنه كتاب مبارك -يتبرك بهذا الكتاب الإمام ابن قدامة-. المعلق والمحقق ما راق له هذا الكلام من الإمام ابن قدامة فقال: تجاوز رحمة الله في هذا التعبير – يعني تجاوز الأحكام الشرعية – يا عبد الله هؤلاء هم الأئمة يؤخذ منهم الفقه والأدب والسكينة وما خرج عنهم عار – قال تجاوز رحمة الله في هذا التعبير لأنه لا يجوز التبرك بالصالحين – شوكة في الجلد متى ما سمعها كأنه ثعبان كبير ألقي أمامهم –لا يجوز التبرك بالصالحين لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع غير النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لا مع أبي بكر ولا غيره ولا فعله التابعون مع قادتهم في الدين هذا الكلام صحيح أو باطل – تقدم معنا بطلانه والآثار في ذلك ما أكثرها هذا عدا عن أن هذا الفعل إذا ثبت لنبينا عليه الصلاة والسلام فمن الهذيان أن تقول خاص به إلا بدليل – استمع للتمجهد الباطل يقول: والنبي عليه الصلاة والسلام له خصائص في حال حياته لا يصلح أن يشاركه فيها غيره – لا بد من دليل كما قال الله تعالى " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين "وإن لم تأتي هذه لصح أن تهب المرأة نفسها لغير النبي صلى الله عليه وسلم ويصح أن يقبلها الرجل ويصبح تزاوج بينهم –هنا قام دليل على التخصيص-خالصة لك من دون المؤمنين. فهنا من الذي خصص – قال المعلق. فلا يجوز أن يقاس على أحد من الأئمة هذا لو كان على قيد الحياة لا يجوز فكيف وهم أموات إن الأمر إذا اشتد ولا يجوز إطلاقاً – أنظر لهذا الهذيان وسفاهتنا في هذه الأيام وأيضاً علق على الإمام في قوله (كتاب مبارك) :ماذا سنقول على الكتاب مشؤوم الله أكبر.(87/44)
هذا كما قلت سابقاً لما كتبت في الكتاب إنه كتاب مبارك وعلق الفتَّان في هذه الأيام ومعه صاحب الهذيان عضو كبار العلماء ويقرهم صاحب السماحة – لا يجوز أن تقول كتاب مبارك عن كتاب التوحيد كيف تقول عن هذا الكتاب إنه مبارك من سبقك إلى هذا والكتاب المبارك هو كتاب الله فقط (وهذا كتاب مبارك أنزلناه) ذكرت هناك من سبقني وهنا ابن قدامة سبقني وأئمتنا يستعملونه بكثرة- فلا يجوز أن نقول كتاب التوحيد مبارك ولا كتاب الحديث مبارك ولا كتاب الفقه مبارك ماذا نقول: إذا نقول مشؤوم! قال: لا المبارك هذا كتاب الله فقط – هذه العقول المنحطة أنا أعجب وكما يقال: "حار وبارد على سطح واحد" هنا مبارك لا يجوز وخذ بعد ذلك صاحب الجلالة صاحب الفخامة وصاحب السمو وصاحب ... بغير حساب كيف جمعت بينهما؟ تأتي بكتاب التوحيد إذا قلنا مبارك يقول: لا يجوز وتأتي بعد ذلك صاحب الجلالة تطلقها على عبادٍ الله أعلم بحالهم. أما تستحون من الله؟ لو كانت التعبيرات كلها موزونة لقيل هذا مسلكه لكن كيف سنوفق بين الأمرين. أستمع قال هذا كتاب مبارك قال هذه مبالغة منه رحمة الله هناك ماذا قال تجاوز الحد لا يجوز إطلاقاً. مبالغ ابن قدامة يغفر الله لنا وله هذا مثل الشعراء في كل واد يهيمون. لأنه ليس هناك كتاب يعتقد فيه البركة غير كتاب الله عز وجل قال تعالى: "وهذا كتاب مبارك أنزلناه". قال ولأنه معصوم من الخطأ وما عداه من الكتب فهو عرضه للخطأ والله أعلم. أنا أريد أن أعلم ماذا تفهمون من البركة؟ عندما يسمى إنسان بيننا الآن مبارك. ماذا تفهمون منه؟ تقصدون مبارك أنه هو الله هكذا تفهمون من مبارك أنه هو الله. أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ماذا تفهمون؟ عندما نقول هذا الكتاب فيه بركة يعني فيه خير كتاب هدى سبحان الله العظيم عندما سمى الله نفسه بأنه عليم حكيم حليم وسمى عباده بهذا. بشرناه بغلام حليم. هل يلزم أن يكون الحليم كالحليم.(87/45)
اتفاق المسميين في اسم عام في حال الإطلاق لا يلزم تساويها عند الإضافة والتقييد هذا حلمه يناسبه وهذا حلمه يناسبه وهنا بركة تناسب هذا الكتاب.
وبركة تناسب كتاب الكريم الوهاب هذا يعرفه كل أحد. صار من يحقون الكتب في أعلى المستويات والشهادات يقولون هذا الهراء. نحن عندنا إخوتي الكرام نرد على كل أحد قال مرة بعض السفهاء في مكة المكرمة لبعض الناس المسلمين المستضعفين. نحن طردنا الرسول عليه الصلاة والسلام تعجزونا أنتم! أنا أعجب كيف الإنسان يطلق لنفسه العنان ليرد على أئمة الإسلام ولما يأتي بعد ذلك لمعاصرين من أحياء أو مسؤولين يرتجف وينتفض رعباً ألا نتقي الله في أنفسنا؟ هذا هو التلويث لكتب أئمتنا وهذا هو التطفل والسفاهة على كتب أئمتنا وعلى تراث سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين. هذا الكلام يحدد لنا موقفنا من إتفاق أئمتنا وافتراقهم. هذه الأمة مع علمائها كالأمم السابقة مع أنبيائها علماء هذه الأمة إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة هذه الأمة تتبرك بذكر وأخبار أئمة الإسلام فتحيا القلوب عند ذكر أخبارهم وسرد أقوالهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وهذا الكلام الذي قاله الإمام ابن قدامة لا يظنن ظان أنه من انفراده أو من أقواله الخاصة به هذا القول لا خلاف فيه بين أئمتنا وسأقرره بقول إمام آخر عند قوله يخرس المشاغبون. اسمع ما يقوله الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوي 19/117 إلى 127 كتب عشر صفحات ينبغي أن تكثروا قراءتها في كثير من الأوقات." الأصول الثابتة في الكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء ليس لأحد خروج عنها.(87/46)
ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض وهم أهل السنة والجماعة وما تنوعوا فيه من الأقوال والأعمال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء-على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه – كعبارة الإمام ابن قدامة وزيادة من التوسعة له – قال الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" وقال تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام"- وقال جل وعلا: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان".
والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخرى. ثم قال: وقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم في مسائل تنازعوا فيها – هناك قرر عندنا أصول ثابتة من دخل فيها فهو من أهل الإسلام المحض ومن أهل السنة والجماعة وهناك أشياء وقع الخلاف فيها كحال الأنبياء السابقين ففيها سعة سيقرر الآن حالنا نحو ما اختلف فيه أئمتنا: "وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق منهم للآخر على العمل باجتهاده كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك.(87/47)
تنازعوا فيها وقد اتفق الصحابة قاطبة على أن يقر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه وحكم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وهي حمارية ويمية وحجرية كما تقدم معنا ويقال لا مشتركة وصورتها أن تموت امرأة عن زوج وأم وأخوين لأم فأكثر وأخ شقيق فالزوج له النصف والأم لها السدس والاخوة لأم لهم الثلث إذا الأشقاء هل نعطيهم ميراث مع الأخوة لأم أو نسقطهم لأنهم أشقاء وسيدنا عمر في أول سنة أسقطهم. "ألحقوا لفرائض بأهلها فما بقي فالأولى رجل ذكر" ما بقي شيء سقط الأخوة الأشقاء. في العام الذي بعده وقعت نفس القصة فقال الأخوة الأشقاء وكانوا ذوي لسن يا أمير المؤمنين هب أن أبانا حماراً هب أن أبانا حجراً ملقى في اليم والله ما زادنا الأب إلا قربا نحن ندلي بقرابتين إذا لم نرث من جهتين فلا أقل من أن نرث من جهة واحدة فورث الاخوة الأشقاء مع الاخوة لأم على سبيل التشريك من جهة الأنوثة وجعلهم متساويين الذكر كالأنثى فقيل له قضيت في العام الأول بخلاف هذا قال ذاك على ما قضينا به وهذا على ما نقضي وهذا عند البيهقي في السنن 6/255
وكلام زيد بن ثابت عندما قال هبوا أن أباهم حماراً في المستدرك 4/337 بالقضاء الأول قال إمامان أبو حنيفة والإمام أحمد وبالقضاء الثاني قال إمامان والكلام له بسط وتقرير وأدلة والقضاء الأول يوافق القياس والثاني يوافق الاستحسان.
وهذه وساطة مليحة وعبارة صحيحة في التقريب بين القولين. الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية حملوا على القضاء الثاني وقالوا لا يصح ولو قوله هب أن أبانا حمارا لكانت أمهم أتانا وهذا رأي لهما وهذه في مجموع الفتاوي 31/340 وفي إهذه الموقعين 1/355 هو يذكر أقوالا لتضعيف القول الثاني وتصحيح القول الأول هنا حسب ما يرى لكن القضاءان معتبران عند الصحابة الكرام ومن بعدهم إلى لقاء الرحمن:
وإن تجد زوجا وأما ورثا ... وأخوة للأم حازوا الثلثا(87/48)
وأخوة أيضاً لأم وأب ... واستغرقوا المال بفرض النصب
فاجعلهم كلهم لأم ... واجعل أباهم حجراً في اليم
واقسم على الأخوة ثلث التركة ... فهذه المسألة المشتركة
يقول هنا وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت ليلة الإسراء والمعراج مع بقاء الجماعة والألفة وهذه مسائل إعتقادية وسأضبط الإختلاف الذي معنا تنوع وتضاد وما الذي يقر عليه العباد في كل منها في التنوع والتضاد أيضاً ومن خالف فهو الضال.(87/49)
وعندنا صور الخلاف سته أربعة في التنوع أو إثنان في التضاد وخمسة من ستة فيها سعة وواحد فقط الضلالة فيه محققة – حتى خلاف تضاد في أمر الاعتقاد ومن باب أولى في الفروع العملية هنا تنازعوا في رؤية خير البرية عليه الصلاة والسلام لله جل وعلا هذا في ليلة الإسراء والمعراج اختلفوا والأقوال أربعة لا يقضي فيها بقول قطعي. رآه بعيني رأسه رآه بعيني قلبه بفؤاده -الوقف – نفى الرؤية -أربعة أقوال عن سلفنا الأبرار قررت في مبحث رؤية ذي الجلال وكل قول له دليل وقال به إمام جليل من السلف الكرام وإن كان يظهر لي ثبوت الرؤية بالعينين وهذه ميزة خصه الله بها وما أكثر ما خصه الله من الخصائص والمزايا وإن خالف في هذا ابن القيم وابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله والأمر فيه سعة ولكن هذا ما أراه أرجح الأقوال مسألة تنازع فيها السلف ولعلني ذكرت ذلك ضمن مبحث رؤية الله عز وجل وقررت عدة أمور وكأن المسؤول في كلية الشريعة قال هذا رأيك قلت رأيي غلط هذا قول سلفنا وأنا أراه فيما يبدو لي أقوى الأقوال وأرجحه بأدلة وأنا أرى فيما ذهب إليه الإمام ابن تيمية قول قال السلف ولكن مرجوح أربعة أقوال من قال بواحد منها فهو على هدى وفي رؤية المؤمنين لربهم في جنات النعيم قول واحد من خالف في ذلك فهو ضال زائغ عندنا وفاق وعندنا افتراق.(87/50)
ما حصل فيه اختلاف نحن في سعة وما لا خلاف فيه من خالف فهو الضال هذه تقول رأيك هذا قول سلفنا. تنازعوا في مسائل علمية اعتقاديه مع بقاء الجماعة والألفة واستمع إلى الرسائل التي تؤلف الآن تقول (الميت لا يسمع) يا إخوتي مسائل جرى فيها الكلام من زمن هذهة تعترضون في الفتاوي 24/172 لشيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله يقول: كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا" وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة ثم ما استبان لك أن تأخذ بقولي أنت على هدى وأنا على هدى –وربما اختلف قولهم في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوّة الدين نعم من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة وما أجمع عليه الأمة خلافاً لا يعذر فيه فهذا يعامل معاملة أهل البدعة – فعائشة رضي الله عنها قد خالفت ابن عباس وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم.(87/51)
في أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه قالت: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم – رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية – وجمهور الأمة على قول ابن عباس مع أنهم لا يبدعون الذين وافقوا أم المؤمنين رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك أنكرت أن يكون الأموات تسمع دعاء الحي وقلت رجعت وثبت رجوعها لما قيل لها إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم والحديث في الصحيحين فقالت إنما قال إنهم ليعلمون الآن أن ما قالت لهم حق ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام صح ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام إن غير ذلك للأحاديث وأم المؤمنين رضي الله عنها تأولت والله يرضى عنها وكذلك معاوية رضي الله عنه نقل عنه في أمر المعراج أنه كان ... ... والناس على خلاف معاوية ومثل هذا كثير وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا اخوة ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهم سيدا المسلمين يتنازعان في أشياء لا يقصدان إلا الخير وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم العصر في الطريق فقال قوم لا نصلي إلا في بني قريظة وفاتهم العصر وقال قوم لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعب واحد من الطائفتين رواه الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(87/52)
وقال في 24/331 سؤال عن الأموات هل يعلمون بالأحياء إذا زاروهم وهل يعلمون بالميت إذا مات من قرابتهم أو غيره. فأجاب: الحمد لله نعم قد جاءت الآثار بتلاقيهم وتساؤلهم وعرض أعمال الحي على الأموات وأما علم الميت بالحي إذا زاره وسلم عليه ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام قال ابن المبارك: ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه عبد الحق صاحب الأحكام.
وفي الإحياء 4/475 – أنظر تخريج الإحياء قال: رواه ابن عبد البر في التمهيد وصححه عبد الحق وقال ابن كثير في تفسير 3/438 رواه ابن عبد البر مصححا له وهكذا في شرح الصدور للإمام السيوطي ص 357 وانظر كلام ابن عبد البر في الاستذكار 2/165 والتمهيد 3/233 –20/239 وفي الفتاوي 4/298 النص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيرهم وليس في القرآن ما ينفي ذلك – يعني سماع الميت وعلمه بها – فإن قوله إنك لا تسمع الموتى أراد السماع المعتاد الذي ينتفع به صاحبه فإن هذا مثل ضرب للكفار وهم يسمعون الصوت ولكن لا يسمعون بفقه واتباع كما قال تعالى "ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءاً ونداءً" فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل لا يجب أن ينفي عنهم السماع المعتاد جميع أنواع السماع كما لم ينفي ذلك عن الكفار بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به وأما السماع الآخر فلا ينفي عنهم – إلى آخر كلامه وقال في آخر المبحث 19/126 –127 في عشر صفحات أوردها.(87/53)
قال المذاهب – للعلماء الأربعة – والطرائق – للسادة الصوفية – والسياسات – للحكام- للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء وهم مثابون على ابتغاء وجه الله وعبادته وحده لا شرك له وهو الدين الأصل الجامع كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له ويثابون على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه.
إذاً حال الأمة مع العلماء كحال الأمم السابقة مع الأنبياء إجماع علمائنا حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة رضوان الله عليهم أجمعين.
نعم لا يجوز لأحد أن يلزم الناس بقول مما ساغ فيه الاجتهاد بل تناقش المسائل العلمية الواقعة بالأدلة الشرعية الساطعة.
والحمد لله رب العالمين..
...
بسم الله الرحمن الرحيم
27/12/1996
إخوتي الكرام:(87/54)
لا زلنا ضمن موضوع المواعظ العامة وقلت نتدارس بعض الأمور التي تبين لنا كيف نسير في هذه الحياة إلى ربنا ومع من ينبغي أن نسير وقدمت بمقدمة ينبغي أن يعيها كل مسلم ألا وهي: دين الله يقوم على دعامتين اثنتين عبادة الله وحده لا شريك له على الإخلاص له في جميع شؤون الحياة والدعامة الثانية: إتباع نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه وقلت هذان الأمران مدلول كلمة الإسلام – لا إله إلا الله محمد رسول الله – إياك أريد بما تريد وتقدم أن اتباعنا لنبينا صلى الله عليه وسلم يحصل بثلاثة أمور حسان لا بد من الإلتزام بها على التمام أولها التمسك بسنتة – حسبما فهم وعمل سلفنا ويؤخذ كل علم من سلفنا ممن برز فيه وشهد له فيه أقرانه بالتحقيق والاتقان فيستعان على كل حقيقة بصالح أهلها وعلى كل علم بالمحقق فيه تقدم تقرير هذا وبينت أنه انحرف عن هذا النهج السديد فرق من أهل الضلال البعيد والضلالات التي قالوا بها نحذر أنفسنا منها وذكرت في الموعظتين الماضيتين ما يتعلق بنا وبكل مؤمن في حياتنا وهو أنه في هذه الأيام يخير أهل الإيمان بين العجز وبين معصية الرحمن فليختر العاقل العجز وتقدم أن الذي يسهل علينا أن نختار العجز أمران أولهما القناعة فإذا قنعت فأنت حر لا يستعبدك أحد والثاني إذا صعبت علينا القناعة والنفس ما طاوعتنا فهي حرون فلنذكرها بالموت وبلقاء الحي القيوم وقلت يستحب أن تخرج على الدوام في كل أسبوع مرة على أقل تقدير لزيارة من سبقونا إلى لقاء ربنا ونحن على آثارهم ونسأل الله أن يحسن ختامنا وأن يثبت الإيمان في قلوبنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه وكما جمعنا في بيته ونسأله أن يجمعنا في دار كرامته مع نبينا عليه الصلاة والسلام بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. وهذه الموعظة ستكون الختام في هذه المواعظ.(87/55)
وسأقدم للموعظة مقدمة نافعة من حديث نبينا صلى الله عليه وسلم وكل كلامه نافع عليه صلوات الله وسلامه ولكن أحاديث جامعة يدور عليها دين الرحمن سأستعرضها على وجه الإيجاز ولا أريد أن أطيل في شرحها إنما كما قلت بما أنه سيحصل شيء من الفجوة بين هذه الموعظة وما بعدها فلتكن هذه الأحاديث أمام أعيننا.
ذكر الإمام ابن عبد البر في التمهيد 9/1-2- فقال روينا وساق الأثر بالإسناد عن سيدنا أبي داود صاحب السنن روينا عن أبي داود أنه قال أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث أولها حديث سيدنا عمر إنما الأعمال بالنيات وثانيها حديث سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما الحلال بين والحرام بين وثالثها حديث سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ورابعها حديث سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس: وهذه الأحاديث الأربعة التي هي أصول السنن في كل من كما قال إمام أهل السنة الإمام أبو داود عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا المعبود نظمها بعض أئمتنا في بيتين لطيفين من والشعر كما في جامع العلوم والحكم للحافظ المبارك ابن رجب عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا ص6 قال وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز- وهو طاهر بن مفوز المعافري الشاطبي الأندلسي توفي سنة 484هـ ترجمته في السير 19/88 وقال الإمام الحافظ الناقد المجود تلميذ سيدنا عمر بن عبد البر تلميذه وخصيصه أكثر عنه وجود كان فهما زكيا إماما من أوعية العلم وفرسان الحديث وأهل الإتقان والتحرير مع الفضل والورع والتقوى والوقار وحسن السمت يقول:
عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك واعملن بنية(87/56)
الإمام أبو داود هذا ما لحظه من الأحاديث التي عليها دوران الإسلام. وكنت قد ذكرت في أبها كلاما لسيدنا الإمام أحمد بن حنبل رضوان الله عليه – أن الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث وأن جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم محورها تدور على ثلاثة أحاديث – كلامه نقله أيضاً أئمة الإسلام نقله ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم ص6 ونقله الإمام ولي الدين العراقي في طرح التثريب شرح التقريب 2/5 – والحافظ ابن حجر في الفتح 1/11 والإمام المناوي في فيض القدير 3/425 يقول الإمام أحمد: أصول الإسلام تقوم على ثلاثة أحاديث أولها حديث سيدنا عمر رضي الله عنه – وثانيها حديث النعمان بن بشير وانفرد الإمام أحمد بحديث سيدتنا عائشة أمنا الطيبة المباركة رضي الله عنها "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ويضاف إلى الثلاثة حديث سيدنا سهل ازهد في الدنيا يحبك الله وحديث سيدنا أبو هريرة من حسن إسلام المرء.
والأحاديث الثلاثة جمعها شيخ الإسلام الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري العراقي في بيتين من الشعر كما جمع الأربعة الإمام أبو الحسن طاهر بن مفوز. وهذان البيتان في فيض القدير في المكان السابق 3/425 يقول الإمام العراقي:
أصول الإسلام ثلاث إنما ... الأعمال بالنيات وهي القصد
كذا الحلال بين وكل ما ... ليس عليه أمرنا فرد
... ... ... ... ...
جمع أيضاً الثلاثة في هذين البيتين المحكمين من الشعر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا. هذه الأحاديث الخمسة هي عنوان المقدمة الجامعة الخاتمة. ولا أريد أن أتوسع ولا أفصل الكلام على شرح الأحاديث إنما سأبين فقط منزلتها ودرجتها وكلمات يسيرة حولها لننتقل لموضوعنا بعون ربنا وتوفيقه.(87/57)
أما الحديث الأول حديث سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه ثابت في المسند والكتب الستة رجب – خزيمة – الطيالسي –الحميدي – والحلية وتاريخ اصبهان لأبي نعيم. خط – ابن المبارك في الزهد وكذا وكيع في زهده وهناد أيضا والطحاوي في شرح معاني الآثار –هق- شرح السنة –هق زهد- وهو أول حديث في صحيح البخاري وأول حديث في شرح السنة للإمام البغوي حذا حذو الإمام البخاري وأول حديث في التقريب الذي شرحه ولي الدين العراقي في طرح التثريب والحديث في أعلى درجات الصحة فهو في الصحيحين وغيرهما من رواية ثاني الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه إنما الأعمال بالنيات صحة وفساداً قبولا ورداً ثواباً وعقاباً على حسب النية وإنما لكل امرئ ما نوى ولذلك من قصد بهجرته وجه ربه فقد وقع أجره على الله ومن قصد بهجرته عرض الدنيا فليس بمهاجر إنما هو خاطب أو تاجر ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. الحديث قال عنه شيخ الإسلام الإمام العراقي كما في طرح التثريب 2/4 هو من افراد الصحيح ولم يصح إلا من حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. ثم قال روى الحديث أيضا من طريق أربعة من الصحابة آخرين مع رواية سيدنا يصبح خمسة ولكن في رواياتهم ضعف.
انظروا الروايات والكلام عليها في طرح التثريب في المكان السابق وفيض القدير 1/35 لأنه أول حديث في الجامع الصغير للإمام السيوطي.(87/58)
روى من طريق سيدنا أبي سعيد وسيدنا أبي هريرة وسيدنا أنس وسيدنا علي رضي الله عنهم انظروا تخريج هذه الروايات والكلام عليها كما قلت في طرح التثريب وفي فيض القدير والحديث كما قلت غريب باعتبار مبدأه وأصله وأئمتنا أوردوه ضمن الأحاديث المتواترة كما في نظم المتناثر للشيخ الكتاني وكتب عليه أربع صفحات من 17-20 وقد يستغرب الإنسان هذا مع أن السيوطي ما عده من المتواتر في الأزهار المتناثرة ولا غرابة لأنه يريد التواتر المعنوي ومعنى حديث سيدنا عمر ثابت في مئات بل في ألوف الأحاديث أن الإنسان يرتبط عمله بنيته في أحاديث لا تحصى وعليه القدر المشترك الذي دل عليه حديث سيدنا عمر رضي الله عنه متواتر إنما الأعمال بالنيات. هذا وارد في أحاديث لا تحصى ولا تعد ان الإنسان ثياب ويعاقب على حسب نيته ولذلك أورده على أنه من المتواتر تواترا معنويا ولو جمع في الأحاديث المتواترة تواترا معنويا لبلغ لا أقول عشرة أضعاف بل مائة ضعف في ما كتبة السيوطي والشيخ الكتاني أحاديث كثيرة تواترت تواترا معنويا أسانيدها في الحقيقة افرادية لكن إذا جمعت بينها تكون متواترة معنويا القدر المشترك تواتر في أحاديث تفيد التواتر قطعا وجزما. هذا الحديث الأول.
الحديث الثاني: حديث سيدنا النعمان بن بشير ثابت في حم- والكتب الستة –حب- دي-أبو نعيم في الحلية –هق- عن رواية سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وأن لكل ملك حمى ألا وأن حمى الله في أرض محارمه ألا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.(87/59)
الحلال بين الحرام بين وما اشتبه عليك فتوقف فيه لتستبرأ لدينك وعرضك ما ظهر هل أفعله وما تيقنت تحريمه أتركه وما اشتبه عليك فتوقف فيه لتعلم حكمة الله فيه وبذلك تحتاط وتستبرئ لدينك. هذا الحديث والأحاديث التي عليها مدار الإسلام.
وروى هذا الحديث من غير طريق النعمان بن بشير رضي الله عنهم أجمعين. وروى عن سيدنا عمار بن ياسر بنحو اللفظ المتقدم.
روي في معجم الطبراني الكبير والأوسط. ومسند أبي يعلى والحلية لأبي نعيم.
وروى عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين – طس-طص- الرامهرمزي في الأمثال.
وروى عن سيدنا جابر رضي الله عنهما في ابن شاهين-خط-ابن عساكر في تاريخ دمشق وروى عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه –طك-تاريخ دمشق لابن عساكر – انظر الروايات مع الكلام عليها (جمع الجوامع 1/408 مجمع 4/73 1 /233) .
ولفظ رواية سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما –طس-طص –وإسناد الصغير حسن كما قال في المجمع وهو لفظ الرامهرمزي في الأمثال عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال. "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ". وبقية الروايات قريبة من رواية النعمان بن بشير رضي الله عنهم أجمعين. ورواية ابن عمر فيها شيء من الاختلاف وهو يوضح لنا معنى (وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات) معناها كما في رواية عمر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.(87/60)
الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك – ما تشكك فيه وتتوقف فيه وترتاب في شأنه إلى ما لا يريبك روي في ترجمة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه أنه وضع له سطل عند بائع لأجل أن يجعل له فيه لبنا فلما جاء الإمام قال له البائع اختلط سطلك مع السطول ما عدت أميز سطلك تعلم أين سطلك فقال هو لك – لا أريد أن آخذه – فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك والدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي قشرة بصلة ولا جناح بعوضة فإذا ترك السطل كان ماذا طلب سلامة دينه رضي الله عنه وأرضاه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ما تتشكك فيه أتركه لأجل أن تنفي الشك عنك وهذه تفسر لنا قول النبي عليه الصلاة والسلام فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام – قد تتشكك في أمر وهو حرام فتغلب جانب الحل وهو حرام فتعصي الرحمن وأنت لا تدري كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه وعادة الملوك أنهم يحمون مكاناً ويقولون هذا المكان لا ينبغي أن يسرح فيه أحد من الأنام ما يقترب منه أحد هذا خاص بالملك من رعى حول الحمى اقترب منه يوشك أن تدخل ماشيته الحمى وإذا دخلت العقوبة فظيعة لأنه سيدخل على حمى الأمير وعلى ما حماه هذا المسؤول الكبير هو لو دخل على حمى غيره من المساكين سهلة أما هنا سيعرض نفسه لعقوبة. ألا وإن حمى الله في أرض محارمه. هذا المحارم ابتعد عنها لئلا تقع فيها. بأن تجعل بينك وبين الشبهات حاجزاً فإذا وقعت في الشبهة قد تجرك إلى الحرام المحض وقد تكون الشبهة حراما وأنت لا تدري. فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرض محارمه.(87/61)
إخوتي الكرام: دع ما يريبك إلى ما يريبك. هذا منقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم وثابت الحديث بذلك عنه عليه صلوات الله وسلامه. ينبغي للإنسان أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه ولا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
روى-ت-جه-ك- وصححه ووافقه الذهبي –هق- عبد بن حميد -القضاعي -وابن عساكر في تاريخ دمشق-طك-الدولابي في الكنى وانظروه في الفتح 1/48 حكى تحسين الترمذي وأقره – والترغيب والترهيب وقد حسنه المنذري 2/559 وتخريج الأحياء 1/25 –2/95 والحديث لا ينزل عن الحسن عن عطية السعدي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
"لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس".
قال الحافظ في الفتح 1/48 –ابن أبي الدنيا في التقوى عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه قال: تمام التقوى أن تتقي الله عز وجل حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراما وينبغي أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه. وهذا لفظ حديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم حم – ت – ن – حب – ك وصححه وأقره الذهبي –هق – هق شعب –دي- الطيالسي وأبي يعلى والحديث صحيح عن سيدنا الحسن ابن سيدنا علي رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة. وفي رواية فإن الخير طمأنينة والشر ريبة. الخبر الصدق يطمئن له القلب وتسكن له النفس ويرتاح إليه الإنسان لا يتردد له ما في الصدر والشر والكذب حقيقة هذا خلاف فطرة الإنسان والطبيعة التي أوجده عليها ربنا الرحمن سبحانه وتعالى ولذلك الصدق طمأنينة والكذب ريبة. وهذا الحديث ثابت عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.(87/62)
حم عن أنس ابن مالك –طص-حط- خط -موضح أوهام الجمع والتفريق – أبو نعيم الحلية وفي تاريخ أصبهان – وأبو الشيخ – القضاعي عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه – أبي يعلى –طك.
وعليه من رواية أربعة من الصحابة أيضا كما تقدم معنا في حديث الحلال بين والحرام بين عن أربعة من الصحابة أيضاً. عمار وابن عمر وجابر وابن عباس مع النعمان رضي الله عنهم أجمعين. انظروا هذه الروايات في المجمع 4/73 –10/295. والحديث هنا روى عن صحابي خامس كما في الحديث المتقدم.
في طك عن وابصة بن معبد "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ونقل عن سيدنا عمر رضي الله عنه كما في الإستذكار 21/55 قال سيدنا عمر: اتركوا الربا والريبة والرأي هذه الراآت الثلاثة إياكم والرأي فإنهم أعداء السنن اعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي. هذا ما يتعلق بالحديث الثاني.
الحديث الثالث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها وهو في خ. م. د - جه –حب – والطيالسي –قط – هق – وشرح السنة ورواه اللالكائي في شرح أصول أهل السنة – وأبي يعلى ومسند القضاعي. ورواه ابن أبي عاصم في السنة وهو في أعلى درجات الصحة عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وفي رواية م "من عمل عملا ليس عليه أمرنا رد".(87/63)
وهذه الأحاديث كما قلت يدور عليها الإسلام وكلام نبينا عليه الصلاة والسلام حسبما فهم الإمام الهمام إمام أهل السنة الكرام الإمام احمد رضي الله عنه وأرضاه فالحلال بين والحرام بين وتركنا نبينا عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء وما ينبغي أن نزيد منه ولا تنقص منه ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو مردود عليه فإذا التزمت بهذا ظاهراً ينبغي أن تخلص النية لله باطناً وبذلك قمت بالدين من أوله لآخره الحلال بين والحرام بين ما تشككت فيه أتركه لتعلم حكم الله فيه وهذا ينبغي أن تفعله بالكيفية الواردة دون زيادة أو نقصان وكل أمر للشيطان منه نزعتان زيادة أو نقصان لا يبالي الشيطان بأيهما وقع الإنسان من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد.(87/64)
بقي إخلاص الجنان لذي الجلال والإكرام إنما الأعمال بالنيات. أين بعد ذلك الحديثان الآخران. في الحقيقة الحديثان الآخران في رواية سيدنا أبي داود من باب التتميم والتكميل لهذا البنيان إذا أقمت هذا على وجه التمام هناك بعد ذلك درجة الفضيلة لتكون راسخا في التقوى من أهل الأخلاق النبيلة ألا تتعرض لما لا يعنيك. وهذا ضروري لا ينبغي أن يكون عندك شيء من الفضول والثرثرة في الكلام والنظر والسماع والحركة ولا ولا. شيء نافع توجهت إليه لا منفعة فيه. أعرضت عنه فمن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. شيء لا يعنيك أعرض عنه يا عبد الله كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول القول وفضول الحركات هذا لا بد من وعيه فالإسلام اكتمل لا بد له من زينة وبهجة ورونق وبعد ذلك المسلم النقي التقي من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وخصلة أعلى منها وهي أن يزهد في هذا الحطام وألا يكون منه على بال من أجل أن يحصل محبة الخالق ومحبة المخلوق فازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس الدنيا جيفة وطلابها كلابها وهم يقتتلون عليها فلو تركت لهذه الجيفة سلمت منهم ولا أحد يعوي عليك والكلاب ما دامت تأكل من الجيفة كل واحد يعوي على الآخر وإذا اقترب من جهته عوى عليه وضربه. فإذا أردت أن تسلم فازهد في هذا الحطام وستزهد في شيء لا قيمة له عند الله. ولذلك الزهد زهد فيه إذا تركه احتقاراً له لأنه لا قيمة له لا تزهد فيها وهي في قلبك لا يا عبد الله ما لها قيمة عند مالكها وخالقها فكيف تكون قيمتها عندك فهذا من باب تجميل البنيان البنيان قام بفعل الحلال وترك الحرام وما اشتبه علينا توقفنا فيه وما زدنا وما نقصنا ولله أخلصنا هذا البنيان قام محكم والبنيان المقامة المحكمة تتفاوت في الثمن فهذا فيه زينه والشيء من المتاع الحسن الذي في داخله فهذا قيمته أعلى فأنت أعرض عما لا يعنيك وازهد في هذا الحطام.(87/65)
هذان الحديثان يكملان الأحاديث الثلاثة حسبما فهم الإمام أبو داود رضي الله عنه وأرضاه.
الحديث الرابع: حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه –ت – ابن عبد البر في التمهيد عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وروى مرسلا بسند صحيح عند – ت –الموطأ – ابن أبى الدنيا في الصمت- والتمهيد 9/195 – عن سيدنا علي بن الحسين – وهو زين العابدين – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قال في التمهيد إسناد الأثران صحيحان المرسل والمتصل لكن المرسل أشهر ورواته أكثر وروى الحديث أيضا عن صحابي ثالث وهو والد سيدنا علي بن الحسين وهو سيدنا الحسن وهو عند حم – طس –طص –طك – والتمهيد قال في المجمع 8/18 رجال الإسناد ثقات وابن عبد البر حكم على هذه الرواية بالخطأ. وقال إنما عن علي بن الحسين ما رواه عن والده عن جده الرفع خطأ. والهيثمي يقول إسناده ثقات ولعل والعلم عند الله أنه أرسله مرة وذكر من حدثه به أخرى ما الحرج في ذلك هو نقله عن والده فأحيانا أرسل وأحياناً وصل. والرفع زيادة علم زيادة ثقة وهي مقبولة كما قال العلماء.
وروى الحديث عن صحابي ثالث وهي رواية رابعة عند طص عن سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه وفيها محمد بن كثير بن مروان البصري قال في المجمع إنه ضعيف 8/18 يقول: ضعيف ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة وله ترجمة في التقريب. تمييز وحكم في التقريب بأنه متروك. وحكم الهيثمي أقل وأخف من حكم الحافظ بن حجر.(87/66)
وعليه من رواية أبي هريرة بسند متصل صحيح ورواية سيدنا الحسين بسند متصل رجاله ثقات وعلي بن الحسين مرسل ورجاله ثقات ومتصل عن سيدنا زيد بن ثابت بسند ضعيف. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقلت هذا شامل لكل قول أو فعل أو حركة أو سكون كل ما لا يعنيك دعه يا عبد الله ما تحصل منه فائدة كل ما يقربك من الله ولك فيه نية تقدم إليه ومالا أتركه ولذلك من هذهة خذلان العبد أن يشتغل بما لا يعنيه. يقول علم الزهاد وبركة العصر كما نعته الذهبي في السير 9/339 العبد الصالح القانت معروف الكرخي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: لكل شيء علم –هذهة- وعلم الخذلان اشتغال العبد بما لا يعنيه بما لا ينفعه قيل وقال ولذلك يقول الإمام الحميدي صاحب كتاب الجمع بين الصحيحين – وليس شيخ البخاري – إمام علم مبارك الإمام القدوة الأثري المتقن الحافظ شيخ المحدثين أبو عبد الله محمد بن فتوح الأندلسي. تلميذ الإمام ابن حزم – يغفر الله لنا وله – هذا الإمام الحميدي توفي سنة 488.
ورد في مناقبه وأخباره كما في السير في ترجمته أنه ما ذكر الدنيا قط –ما جرى ذكر الدنيا على لسانه وكان لا يفترعن طلب العلم وكان إذا جاءه النعاس ينزل في أجانة من الماء ليتبرد ليطرد عنه النعاس والكتاب في يديه يقرأ –ومرة دخل عليه بعض الناس بعد أن استأذن فما انتبه المستأذن للإمام الحميدي ظن أنه أذن له فلما دخل رأى شيئا من فخذه فبكى الإمام الحميدي وقال والله ما رآها أحد قط يقول هذا الإمام كما في السير:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ علم أو لإصلاح حال
انظروا الأبيات أيضاً في العزلة للإمام الخطابي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.(87/67)
الإمام ابن عبد البر في التمهيد 9/199 قال: هذا الحديث – أعني حديث سيدنا أبي هريرة وحديث سيدنا علي بن الحسين رضي الله عنهم وقد صحح الطريقين وحكم على طريق علي بن الحسين بالضعف وأنها خطأ قال: هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة وهو مما لم يقله أحد قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا – يقول ما أثر عن أحد قبل نبينا عليه الصلاة والسلام. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه – ثم نقل عن أبي عبيده معمر بن المثنى عن الإمام الحسن البصري أنه قال: من هذهة إعراض الله عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه. انظر الاستذكار 26/120 – قال: من كلام النبوة وحكمتها وهو جامع لمعاني جمة من الخير(87/68)
الحديث الخامس: وبه تتم الزينة للإنسان في الدنيا والآخرة ويكتمل عقله ورشده فأكيس الناس هم العباد وأعقلهم هم الزهاد. حديث سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه رواه ابن ماجه في السنن والحاكم- 4/313 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي فيه خالد بن عمرو القرشي وضاع – وخالد بن عمرو رواه الإمام ابن معين بالكذب ونسبه صالح جزره وغيره إلى الوضع وهو من رجال – د –جه – وهذا الكلام في التقريب. وإسناد ابن ماجه فيه خالد بن عمرو أيضا ورواه الحاكم وابن حبان لكن في روضة العقلاء ونزهة الفضلاء والكتاب نافع وما أعذبه وما أطيبه وما أحسنه ولو قرأه الإنسان ألف مرة لا يمله وهو روضة حقيقة وهو أعلى من روضة المحبين بما لا يقاس وصاحب روضة العقلاء الإمام ابن حبان صاحب الصحيح ومطبوع في قرابة ثلاثمائة وخمسون صفحة وإن أردت النزهة فاقرأ هذا الكتاب وإن أردت الروضة فالجأ إليه وأما بعد ذلك المتنزهات الموجودة فليس منلها إلا البلايا والرزايا – روضة لعقلاء ونزهة الفضلاء ص141 ورواه أبو نعيم في الحلية وتاريخ أصبهان ورواه ابن أبي حاتم في العلل ونقل عن أبيه أن الحديث باطل ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية وحكم عليه بالضعف ورواه العقيلي وابن عدي كل منهما في الضعفاء ورواه الطبراني في كبير والبيهقي في الشعب. وابن عبد البر في التمهيد 9/201 وأبو عبيد القاسم ابن سلامة في كتابة المواعظ كما في جامع العلوم والحكم ص272 وانظروا الدر المنثور3/233 الحديث من رواية سعد بن سهل رضي الله عنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: له "دلني على عمل إن عملته أجني الله وأجني الناس فقال النبي صلى الله عليه وسلم ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".(87/69)
الحديث كما سيأتينا حسن حسنه عدد من أئمتنا لوجود متابع لخالد بن عمرو ولوجود شواهد للحديث وممن حسنه الإمام النووي وقبله الإمام المنذري وبعدها الإمام العراقي والإمام السخاوي والإمام المناوي والإمام السيوطي وجم غفير من أئمتنا ولا ينزل عن درجة الحسن بعون ربنا للمتابعات والشواهد. فمن الشواهد
1. رواية ابن عمرو رضي الله عنهما في تاريخ ابن عساكر 1/104 من جمع الجوامع للسيوطي.
2. رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه في الحلية 8/41 وقال الإمام أبو نعيم بعد رواية الحديث ذكر أنس وهم فقد رواة الثقات الأثبات فلم يجاوزوا فيه مجاهداً يعني مرسل وانظروا الكلام على الحديث في تخريج الإحياء 3/313 –4/215 وشرح الإحياء 8/309 –9/326 – للإمام الزبيدي ونقل كلام المنذري في الترغيب 4/57 في أول كتاب الزهد. قال: قال الإمام المنذري حسن إسناده بعض مشايخنا وفيه بعد لكن على هذا الحديث لامعة من أنوار النبوة – وإذا حذفت من –فطبعة الترغيب فيها مافيها – يصبح الكلام وعلى هذا الحديث لامعة أنوار النبوة – يعني أنوار النبوة مضيئة من هذا الحديث وما خرج هذا إلا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام وما خرج هذا إلا من فمه الشريف المبارك.(87/70)
قال: ولا يمنع كون راوية ضعيفا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله –لما؟ لوجود الشواهد لهذا الحديث كما قلت قال الإمام الزبيدي – وسبقه النووي في تحسين الحديث – ولا أعلم من الذي سبق الإمام المنذري ت 656 هـ والنووي ت 676 هـ هما في عصر واحد لكن بينهما عشرون سنة فمن الذي سبق؟ سبق المنذري أو ليس كذلك تلاه النووي. فكلامه وسبقه النووي ليس كذلك إنما سبقه المنذري وتابعه النووي عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه قال: وسبقه النووي والذي يميل إليه القلب تحسينه قال السخاوي في المقاصد الحسنة ص52 وبالجملة فقد حسن هذا الحديث الإمام النووي في الأذكار وحسنه قبله المنذري ولم يذكره –وثم العراقي- وحسنه أيضا السخاوي وحسنه أيضا الحافظ بن حجر الهيتمي في الفتح المبين ي شرح الأربعين ص236 وقال إنه حسن لغيره وانظروا الكلام موسعا عليه في مصباح الزجاجة 3/268.
والعلم عند الله تعالى: إذا أزهد فيما عند الناس يحبك الناس وازهد في الدنيا يحبك الله الزهد باختصار على ثلاث درجات:
زهد فرض: وزهد فضل –وزهد فيه سلامة.
زهد الفرض: أن تزهد في الحرام هذا فرض عليك أيها الإنسان.
زهد السلامة: أن تزهد في الشبهات أن تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. أن تترك الشبهات خشية أن تقع في المحرمات. باتفاق أئمتنا لا ينال الإنسان درجة الزهد حتى يترك هذين الأمرين وحتى يتصف بزهد الفرض وزهد السلامة الحرام والشبهة لا ينال وصف الزهد حتى يترك هذين. بقي زهد الفضيلة وعليه فرض – فضل – سلامة.(87/71)
وزهد الفضيلة أن تزهد في المباحات وأن لا تستكثر منها إلا بمقدار الضرورة هذا الأمر من لم يزهد فيه هل يسمى زاهدا أم لا بعد اتفاقهم أن الذي لا يزهد في الحرام والشبهات لا يسمى زاهداً لكن إذا ما زهد في المباحات واستكثر منها وقام بما يجب عليه هل يسمى زاهداً أم لا للعلماء فيه قولان هل يناله اسم الزهد أم لا. لأن الإستكثار منها ينقص من درجة الإنسان وبمقدار ما يحصل التمتع في هذه الحياة تنزل درجة الإنسان عند رب الأرض والسموات ولا يصيب أحد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجته عند الله ولو كان عليه كريما ولذلك كان عدد من أئمتنا يقولون خذ ما شئت فإنما تأخذ من كيسك يعني تتعجل نعيمك. إن أردت أن تتوسع فهناك سيضيق عليك وإن غفر لك ودخلت الجنة فلا ينال أحد من الدنيا شيئا إلا نقص من درجته عند الله ولو كان عليه كريما وتقدم تقرير هذا بأدلته في المواعظ الماضية.
هذه الأحاديث الخمسة أردت أن تكون بداية هذه الموعظة وخاتمة المقدمات. نشرح في مواصلة بحثنا:
1. معالم عشرة مر ذكرها.
2. موقف أهل الرشد والوفاق نحو مسائل الاتفاق والافتراق.
3. لماذا الالتزام بالمذاهب الأربعة.
-المعالم العشرة قد مر ذكرها.
أما موقف أهل الرشد من مسائل الافتراق والاتفاق. مضى الكلام على مقدمة لهذا الأمر وعلمنا أن موقفنا من أئمتنا كبني إسرائيل مع أنبيائهم عليهم صلوات الله وسلامه فالأنبياء السابقون دينهم واحد وهو الإسلام وفروعهم مختلفة وعلماء هذه الأمة المرحومة دينهم واحد ونبيهم واحد ثم بعد ذلك هناك تشريعات متنوعة مختلفة دلت عليها الشريعة الأم وهي شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم وهذا الكلام كما قلت قاله إمامان من أئمتنا الكرام العظام ابن قدامة وتبعه ابن تيمية عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة وهم في اختلافهم كأنبياء الله السابقين عندما اختلفت شرائعهم وتوحدت أصولهم وهذا كفقهائنا وعلمائنا.(87/72)
إخوتي الكرام: ثم بعد ذلك قلت مع جزمنا بهذا أيضاً نناقش المسائل التي وقع فيها الخلاف لكن بمنتهى الإنصاف والإئتلاف كنا نتدارس هذه القضية.
وذكرت كلام الإمام ابن تيمية عليه رحمة رب البرية الذي أخذ قرابة عشر صفحات ولخصته فيما مضى 19/117 –127 – ونقلت مقتطفات منه وأن ما عليه أئمتنا هدى وسداد ولا يستطيع أحد أن يلزم غيره بقوله لكن تشرع المناظرة من أجل الوصول إلى قول واحد إن أمكن وكل واحد يقر الآخر ويسلم بأنه على هدى. شرعت المناظرات لإيضاح الحقائق الخفيات لا للتعصب للجهالات ووقوع العداوات لا ثم لا. يشرع لأهل المذاهب أن يتناظروا وتقدم مناظرة في دروس الفقه عن سيدنا أبي يوسف وسيدنا الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين فترك أبو يوسف قوله وهكذا الإمام محمد وهو بعد ذلك المعمول به عند الحنفية قاطبة في زكاة الخضروات ترك قوله. وفي مقدار الصاع ترك قوله. هذه مناظرة تشرع لإيضاح الحقائق الخفيات لا للتعصب للجهالات ووقوع العداوات ثم إن ظهر لك ما عندي فالحمد لله هذا ما ينبغي.(87/73)
فإذا لم يظهر لك ما عندي فمن الذي جعلني حجة عليك ومن الذي جعلك حجة عليَّ فتبقى بيننا أخوة وأنت على هدى وأنا على هدى ورحمة الله تسعنا هذا لابد من وعيه ولذلك إن حصل إتفاق فهذا خير الأشياء وإن لم يحسم النزاع فلا نزاع بيننا في الإخاء وفي تقدير اجتهاد الأخلاء العلماء ثم هذه المناظرة التي تجري بيننا لا للغلبة ولا لنصرة الرأي وإن كنت أرى أنه على حق لأن ذاك أيضاً يرى أنه على حق إنما أنا فقط أتناظر معك من أجل أن يظهر الحق لنأخذ به إن أمكن ليحصل اتفاق عليه سواء عندك أو عندي استمع لديانة أئمتنا التي يعبر عنها سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه وأثره في توالي التأسيس ص114 وطبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي 2/61 – وهذا الأثر هو آخر أثر في كتاب آداب الشافعي ومناقبه للإمام ابن أبي حاتم ص325 – وملحق به من كلام ابن حبان فيما نقله عن الإمام الشافعي عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه وقال الإمام الشافعي ما ناظرت أحد فأحببت أن يخطئ وقال: ما ناظرت أحداً على الغلبة. يعني ما ناظر أحد إلا وتمنى أن يظهر الله الحق على لسانه لأصحح خطئي وحقيقة إذا ناظرت لتستفيد أعظم ممن لو ناظرت لتفيد لأنك عندما تناظر لتستفيد تحصل فائدتين تصحح خطأك ويعظم أجرك عند الله جل وعلا وعندما تناظر لتفيد ما استفدت فائدة كنت تجهلها إنما فقط صححت خطأ الغير وتصحيح خطئك أولى من تصحيح خطأ الغير. ما ناظرت أحداً على الغلبة وما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ إنما أدعو له ليسدد ويوفق هذا كلام أئمتنا عليهم رحمة ربنا.(87/74)
فالمناقشات لا مانع منها للوصول إلى قول إن أمكن فإذا لم يمكن فلا نزاع في الإخاء ولا نزاع في تقدير اجتهادات العلماء الأخلاء هذان الأمران لا نزاع فيهم على الإطلاق تنازعنا بعد ذلك في المناقشة ما وصلنا إلى قول نتفق عليه هذا يقول أنا يظهر لي هذا وذاك يقول يظهر لي هذا قل يا عبد الله نحن أخوة ودين الله يسعنا وأنت على هدى وأنا على هدى وطريق الآخرة ما أوسعه انتهينا أما خلال المناظرة يشتمني وأشتمه وكل واحد يقذف الآخر بالبهتان ويعصي الرحمن لا ثم لا. يقول سفيان الثوري رضي الله عنه كما في الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/69 إذا رأيت رجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه سبحان ربي العظيم: لنفرض أنه خرج من فمه دم ما يملأ كأسا ثم دخل يصلي لا يحق لك أن تقول يا عبد الله صلاتك باطلة على مذهب الإمام الشافعي مهما خرج منه من دم لا ينتقض الوضوء. هذا أمر اختلف فيه فلا تنهه.(87/75)
فلا داعي لتضيق رحمة الله والسعة التي وسعها الله علينا. وللإمام ابن تيمية عليه رحمة ربنا في مجموع الفتاوي30/79-81 كلام محكم قويم. سئل رحمه الله عمن ولي أمرا من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس. -وشركة الأبدان أن يتشارك المفلسون بأبدانهم وأعمالهم لا بأثمانهم ودراهمهم يقول: نشترك فيما بيننا ونعمل بأبداننا وما نحصله نقسمه ويقال لها شركة وجوه يعملون بوجوههم – لماذا: قد يكون هذا عنده قوة عمل وهذا عنده ثقة عند الناس فيقول أكثر من الآخر. فعندما نذهب لنأخذ العمل لثقتهم بالثاني يسندون العمل إليهما فصار الثاني له مدخل في العمل والآخر لنشاطه يسندون إليه العمل فلو كان لنشاطه فقط دون ثقة ما وثقوا أو لثقة فقط دون نشاط وقوة ما وثقوا فعندما يرون هذا سيعمل بالبدن والآخر معه أمين والريح مشاركة على هذا مثلا بناء عمارة أو غيرها. فولي الأمر ليس من مذهبه صحة شركة الأبدان هل له أن يمنع الأنام ليس من حقه تقدم معنا ولى الأمر لا يتبنى إلا في المنازعات والخصومة ما اختصم فيه الناس ويرفع إليه يتبنى فيه ما عدا هذا دع الناس في سعة لم تضيق عليهم. رحمة الله الواسعة: فأجاب شيخ الإسلام: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا هو في معنى ذلك لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الامصار وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في هذه المسائل.(87/76)
ليس من حق القاضي أن ينقض قضاء غيره ولا من حق المفتي أن يعترض على فتيا غيره إذا كانت الفتيا تحتملها الأدلة ولا من حق المجتهد أن يلزم الناس باتباعه دون اتباع مجتهد آخر وهذا متفق عليه بين أئمتنا انظروه في حاشية العطارعلى جمع الجوامع 2/430 والمستصفي 2/388 وفواتح الرحموت 2/395 –وتيسير التحرير 4/234 وتنقيح الفصول للقرافي ص441 والقول الجامع في المقالات البدعي والمتتابع للشيخ محمد بخيت المطيعي عليهم جميعا رحمة الله ص18. ليس لأحد أن يلزم الناس بقوله وليس للعالم ولا المفتي أن يلزم الناس باتباعه إنما يذكر ما عنده من حجج علميه هذه وظيفته ما عدا هذا فإن اتبعوا غيرك ليس من حقك أن تلزمهم باتباعك فيما احتملته الأدلة.
قال: ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئة في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وتقدم معنا وقبلة المهدي وقبله أبو جعفر –استشاره ثلاثة من الخلفاء أن يحمل الناس في أمصار المسلمين عمل مذهبه قال ليس لك ذلك قال: فلو كان إلزام الناس بقول واجباً لأثم الإمام مالك. عندما يعرض عليه ولي الأمر أن يلزم الناس بقول يقول له ليس لك ذلك ونحن معشر الصعاليك في هذه الأيام لو كان لنا شأن لضربنا رقاب الناس إذا لم يلتزموا بأقوالنا وليس لنا شأن والواحد منا نكرة لا قيمة له يعوي في كل زاوية بتكفير الناس وتسفيههم والوقوع في أعراضهم لأنهم خالفوه في مسألة وأنهم يقولون بجواز التبرك. أما تستحي الله لأنهم خالفوه في صلاة التراويح هو يقول ثمانية وهم يقولون عشرون. على رسلك أيها المخرف المبتدع أيها الزائغ على رسلك. أمر احتمله الدليل عندك قول لا مانع أن تنشر قولك وأن تبرهن عليه.(87/77)
12) وسنؤول إلى ربنا ليحاسب كلا على ما قال وعلى ما عمل أما أن تبدع الناس إذا لم يأخذوا بقولك فمن الذي جعلك حكما على الأمة وإماما لها وأمر الناس بعد ذلك باتباعك من؟ قال: ولهذا لما استشار الرشيد الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك وقال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم وصنف رجل كتابا في الإختلاف فقال أحمد لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه كتاب السنة سمه كتاب السعة. ما اختلف فيه الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هذا الكلام قرره في عدد من الأماكن في مجموع الفتاوي 14/159 يقول: النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفضي إلى شر عظيم ولهذا صنف رجل كتابا في اختلاف الفقهاء فقال له الإمام أحمد سمه كتاب السنة هذا أيضاً في الجزء 14 ثم قال الإمام ابن تيمية 30/80 ولهذا كان بعض العلماء يقول إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة –والقائل الإمام ابن قدامة في مقدمة المغنى – ونقل هذا الكلام عن الأئمة في عدد من كتبهم انظروه في شرح الزرقاني على المواهب اللدينة وقرره بكلام جزل فصل 5/389 والحلية 5/19 نقل عن العبد الصالح طلحة بن مصرف وهو ثقة قارئ إمام مبارك فاضل وحديثه في الستة تابعي جليل توفي 112 هـ.
كان يقول: لا تقولوا الاختلاف ولكن قولوا السعة. في الحلية 10/36 – في ترجمة ابي يزيد عليه رحمة الله –قال الإختلاف رحمة إلا في تجريد التوحيد ولولا اختلاف العلماء لبقيت –أي لبقيت حيرانا تائها.(87/78)
قال الإمام ابن تيمية: مواصلا كلامه: كان سيدنا عمر بن عبد العزيز يقول ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجلاً كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. هذا القول رواه عنه مسدد بسند صحيح كما في المطالب العالية 3/105 قال ما يسرني باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمر النعم لأنا إن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا السير 5/60 في ترجمة القاسم بن محمد قال: إختلاف الصحابة رحمة. وهذا الكلام كرره الإمام ابن تيمية في عدد من صفحات مجموع الفتاوي أنظروه 3/250 قال: إجماعهم حجة قاطعة. قال الإمام ابن تيمية وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.(87/79)
أنظروه في الباعث على إنكار البدع والحوادث للإمام أبي شامة ص20 وفي كتاب الأمر بالإتباع للإمام السيوطي ص57 وأنظروه في جامع بيان العلم وفضله في ص78 قال الإمام ابن تيمية: ولهذا قال العلماء والمصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس بإتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه إذن ليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه قال: ونظائر هذه المسائل كثيرة جداً تم ختم المسألة بقوله –أنظر لهذه الديانة وهذا الورع من فقيه الملة سيدنا أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه قال: ولهذا كان أبو حنيفة رضي الله عنه يفتي بأن الزراعة لا تجوز (وخالفه أصحابه) ثم يفرع على القول بجوازها يعني المسائل لو اشترك اثنان مزارعه وهذا له كذا وهذا له كذا ثم جرى بينهما خلاف فما الحكم –يفرع مسائل – ويقول إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيرهم إخوتي الكرام هذه هي الديانة هذا هو الورع 20/292 من مجموع الفتاوي يقول مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده ومن كان فيها أصاب الحق فله أجران ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجره وخطأه مغفور له فمن ترجح عنده أن يقلد الإمام الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده أن يقلد الإمام مالك ومن ترجح عنده أن يقلد الإمام أحمد لم ينكر على من ترجح عنده أن يقلد الإمام الشافعي ونحو ذلك.(87/80)
ونبقى في سعة وفي بحبوحة ورحمة الله واسعة وقال في 35/ (357-388) من مجموع الفتاوي ما تنازعت الأمة فيه إذا وقع فيه نزاع بين الحكام وبين آحاد الناس المسلمين من العلماء أو الجند أو العامة. لم يكن للحاكم أن يحكم فيها على من ينازعه ويلزمه بقوله ويمنعه من القول الآخر فضلا عن أن يؤذيه أو يعاقبه. فهذا سيدنا عمر رضي الله عنه لم يلزم أحداً أن يأخذ بقوله وهو: إمام الأئمة كلها وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم فكيف يكون واحداً من الحكام خيراً من سيدنا عمر رضي الله عنه. هذا إذا كان حكم في مسألة اجتهاد تتنازعها الأدلة. ثم بعد أن ذكر أمثلة كثيرة عليها قال: فهذه الأمور الكلية ليس لحاكم من الحكام كائنا من كان ولو كان من الصحابة أن يحكم فيها بقوله على من نازعه فيقول ألزمته أن لا يفعل ولا أفتي إلا بالقول الذي يوافق مذهبي فإن كان عنده علم تكلم بما عنده وإن كان عند منازعه علم تكلم به فإن ظهر الحق في ذلك وعرف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وجب على الجميع إتباعه وإن خفي ذلك أقر كل واحد على قوله ولم يكن لأحدهما أن يمنع الآخر إلا بلسان العلم والحجة والبيان فيقول ما عنده من العلم ثم ختم المسألة بقوله: وولى الأمر إن عرف ما جاء ما في الكتاب والسنة حكم بين الناس به وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما يقول هذا وما يقول هذا حتى يعرف الحق حكم به وإن لم يمكنه لا هذا ولا هذا ترك المسلمين على ما هم عليه كلٌ يعبد الله على حسب اجتهاده.(87/81)
وليس له أن يلزم أحداً بقبول قول غيره وإن كان حاكما وإذا خرج ولاة الأمر عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم فكيف إذا لم يكن من ولاة الأمور ويريد أن يلزم الناس بقوله. خرج عن حكم الله وأراد أن يحكم بين الناس بغير شرعه عندما يريد أن يلزم الناس بقوله ويقول قولي دلت عليه السنة. والأقوال الأخرى دلت عليها أيضاً سنة أخذت من أدلة معتبرة فإذا ما ظهر لك دليلهم هم أيضاً ما ظهر لهم دليلك فاعذرهم كما أنهم عذروك أما أنك ستضللهم ثم هم يضللونك ويتسع الخرق على الأمة هذا ضلال مبين. وقال3/238: ولي الأمر ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة. والأمور المعينة فيما يرجع إلى فصل الخصومات وقطع المنازعات أنظروا هذا في كتاب الشيخ محمد بخيت المطيعي رحمة الله عليه (القول الجامع) ص179 قال وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قولٍ بلى حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم وقال في 3/344: إقرار بعضهم لبعض –أي العلماء والمجتهدين فيما يختلفون فيه –فيما اجتهدوا فيه فهو مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم –أمرا بالجماعة ونهيا عن الفرقة – إذن أمور الاختلاف تناقش كما قلت ويجري بين طلبة العلم –بين العلماء مناظرة. إن اتفق العلماء وطلبة العلم على قول فالحمد لله هذا أحسن ما يكون وإلا كما قلت أمران لا نزاع فيهما 1) الأخوة بيننا 2) أعتبر قولك وتعتبر قولي وتقول أنت على هدى ونقول أنت على هدى.(87/82)
هذان أمران لا نزاع فيهما إذا تنازعنا فيهما فقد ضللنا وخرجنا عن صراط الله المستقيم هذا إخوتي الكرام لا بد من أن نعيه عند إختلاف أئمتنا إخوتي الكرام بعد هذه المقدمة التي دارت على هذين الأمرين موضوع الاختلاف الذي وقع في الأمة كنت تكلمت عليه في محاضرة في أبها " موقف الأكياس من فرقة واختلاف الناس " نلخص ما تقدم هنا من أنواع الخلاف التي تقع وما الأمر الذي فيه سعة وينبغي أن تتسع صدورنا نحوه وما الذي ما ينبغي أن نقبله بحال الإختلاف إخوتي الكرام على قسمين:
1) إختلاف تنوع له أربعة نماذج كما سأذكرها.
2) إختلاف تضاد في حالتين إختلاف التنوع بحالاته الأربعة وحالة من حالتي إختلاف التضاد خمسة أحوال من أنواع الإختلاف فيه سعة والأمة نحو هذه الأمور في رحمة واسعة. واحد فقط هو الذي فيه حرج ومن خالف فيه يضلل بلا توقف فاستمعوا للتفصيل:
إختلاف التنوع ضابطة لا يلزم من إثبات قول نفي الآخر ولا يلزم صحة قول بطلان الآخر. بل هذا صحيح وهذا صحيح هذا ثابت وهذا ثابت، هذا له أربعة أنواع أولها:
1) أن تكون الأقوال كلها حق لكن في درجة واحدة ما يوجد قول يزيد على قول والأقوال لا تتفاوت في الأحقية وفي الصحة وفي الثبوت وفي السداد ومن أراد أن يفاضل بينها فقد ضل فضلا عمن أراد أن يصحح ويضعف مثال هذا: القراءات لا يوجد هنا راجح ومرجوح ومن باب أولى لا يوجد صحيح وضعيف ولا مقبول ولا مردود كلها كلام الله إذا قرأ مالك يوم الدين أو ملك يوم الدين ليس من حقك أن تقول هذه أصح ولو قلت ضللت – فكلها حق صحيح بدرجة واحدة وقلت مرارا هناك فرق بين فقه الفقهاء وقراءة القراء ففقه الفقهاء دخل فيه العقل البشري عن طريق الاجتهاد والاستنباط والنقل والترجيح والنسخ – دخل شيء من أعمال العقل –وأما قراءة القراء مبناها على السماع على النقل المتواتر وعليه كلها حق كلها صحيح فاضل.(87/83)
أن يكون كل من القولين أو من الأقوال الواردة وحصل اختلاف فيها في معنى الآخر فحصل الاختلاف في العبارة لا في الحقيقة وهذا له أمثلة كثيرة مر معنا ضمن مواعظ الفقه في تفسير قول الله جل وعلا " ومن لم يحكم بما أنزل الله وأولئك هم الكافرون " –الفاسقون-الظالمون –تقدم معنا حكم من لم يحكم بما أنزل الرحمن قلت هذه المسألة كما تقدم لها ثلاثة أحوال حالة يعذر فيها الإنسان، وحالة يأثم فيها الإنسان، وحالة يكفر فيها الإنسان. إذن عذر، معصية، كفر. هذه الأحوال تجمع ما نقل عن أئمتنا الكرام ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. كفر يخرجهم من الملة كفر دون كفر قلت هذا بناءا على أحوال من لم يحكم بما أنزل الله فالأحوال التي يعذر الإنسان فيها لا تدخل لا في الكفر المخرج من الملة ولا في الكفر الذي هو دون كفر. (الكفر الأصغر) وهذه الأحوال حصرتها في إثنتي عشرة حالة لا يخرج عنها الإنسان عندما ينحرف عن شرع الرحمن. في ثلاثة يعذر.
1. أن لا يحكم بشرع الله لكنه اجتهد فأخطأ فهو من أهل الاجتهاد والتأويل فلا لوم عليه مع أنه إنحرف عن شرع الله الجليل لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعهاأن يجهل الحكم دون تقصير فلا حرج ولا لوم عليه – دون تقصير في التعلم فجهل الحكم ومثلت على هذا.
2. أن يُكره. ففي هذه الأحوال الثلاثة لا إثم ولا وزر وهو معذور فيما جرى منه قد يوجه إليه اللوم أحيانا لتقصيره فيما ينبغي أن يقوم به،
وفي ثلاثة أخرى يأثم ولا يكفر:
1. أن يجتهد وليس هو ن أهل الاجتهاد فما قصد المعصية لكن ليس هو من أهل الاجتهاد ولا يحق له أن يتأول كحال الناس في هذه الأيام عندما يجتهدون فيضلون ويضلون وعليه إثم الضال المضل.
2. أن يجهل الحكم الشرعي فيأتي بالمخالفة دون قصد لكنه قصر في التعلم فعليه إثم.
3. أن يتعمد المعصية دون إستحلال من باب حظ النفس وإيثار الشهوة في هذه الأحوال يأثم ولا يكفر.(87/84)
وفي ستة أحوال أخرى بقيت معنا يكفر ويخرج من الملة:
1. أن لا يرى صحة حكم الله –يقول هذه الأحكام ليست صحيحة باطلة.
2. أن يرى صحتها لكن يرى حكم البشر وقانون البشر أعلى منها.
3. أن يرى صحتها وأن قانون البشر اجتهاد يساويها.
4. أن يرى صحتها وأنها أحسن من حكم البشر لكن يجوز للبشر أن يأخذوا بآرائهم واجتهاداتهم مع إقراره وجزمه بأن حكم الله أعلى وأفضل -كفر-.
5. أن يستهزئ ويستخف بأحكام الله جل وعلا.
6. أن يسلك مسلك التأويل والأباطيل في تحريف شرع الله الجليل مع انتسابه للإسلام وأنه سيرعى المصلحة وسيعطل دين الله من أوله لآخره تحت روح الإسلام والمصالح التي يحافظ عليها الإسلام وعليه فهو وإن عارض كذا وكذا من النصوص وافق روح الإسلام وهي الدعوة العلمانية في هذه الأيام لكن باسم ستار الشريعة الإسلامية.(87/85)
هذه أحوال ستة وعليه من قال إنه كفر مخرج من الملة وظلم أيضاً الظلم الأكبر "إن الشرك لظلم عظيم" "وفسق" الذي يخرجه من الدين – "إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" من قال هذا في تفسير الآيات أراد الأحوال الستة التي يكفر بها الإنسان عندما ينحرف عن شرع الرحمن. ومن قال أنه كفر من دون كفر والفسق المراد منه هنا الذي هو فسق ومعصية وهكذا الظلم أراد الأحوال الثلاثة المتقدمة التي يأثم فيها الإنسان. وأما الأولى فهي لا تدخل بالاتفاق لأنه ما انحرف عن شرع الله. وفي الحالتين ما أرد المعصية وفي الحالة الثالثة أكره عليها إذن اختلف التعبير واختلف التفسير وصار الخلاف بين الأئمة للاختلاف كما قلت لأن كل منها في معنى الآخر لأن هذا القول يكمل ذاك وهذا يكمل هذا فلو قلت لمن قال إن الكفر هنا مخرج من الملة إذا لم يستحل وغلبته شهوته وفعل المعصية وهو معترف بتقصيره وذنبه يكفَّر؟ يقول لا فهذا كما قال عنه أئمتنا اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات وهكذا هنا الظالمون الفاسقون الكافرون كلها بمعنى واحد كفر يراد منه ستر الشيء ظلم مجاوزة الحد فسق الخروج وعليه من حكم بغير شرع الله وهو كافر فقد كفر ستر الحق وظلم وضع الشيء في غير موضعه وفسق خرج من الإيمان للكفر ومن الهدى إلى الردى.(87/86)
اختلاف عبارات لإختلاف الاعتبارات وهكذا اختلاف أئمتنا في موضوع التفسير بالرأي حرام وجائز لا اختلاف بينهما في الحقيقة هذا إختلاف فقط في العبارة لكن هم يتفقون على رأي وهو أن التفسير بالرأي إذا وافق قواعد اللغة وسياقة الكلام فهو جائز وإلا فهو حرام هو التفسير بالهوى وهكذا تفسير قول الله "وما يعلم تأويله إلا الله" هل الراسخون في العلم يعلمون التأويل أو لا يعلمون الخلاف الذي وقع كله خلاف عبارة لا أنه اختلاف في الحقيقة فمن قال أن الراسخين لا يعلمون أمرا وبالتأويل الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، ومن أراد التفسير الظاهري فلا يوجد شيء إلا ونعلم تفسيره حسب لغة العرب التي نزل بها كلام الرب سبحانه وتعالى.
النوع الثالث من أنواع خلاف التنوع: أن تختلف الأقوال وتتفاوت في القوة كما هو الحال في كثير من الاختلافات المنقولة بين أئمتنا والأدلة الشرعية عليها متفاوتة في القوة كأحاديث التشهد فالحنفية مثلا يختارون تشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ويقدمونه على التشهد الثاني المنقول عن سيدنا عبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وجميعها ثابتة صحيحة. هكذا أدعية الاستفتاح هذا رجح هذا وهذا رجح هذا فريق بعد ذلك أجاز الجميع كلها أقوال حقة ومن قال بهذا لا يمنع من الثاني لكن يقول هذا نراه ارجح نراه أقوى نراه أحوط والقول الثاني إن قلته لا حرج أيضا أقوال متفاوتة في القوة تدخل ضمن اختلاف التنوع.(87/87)
النوع الرابع الاختلاف للاختلاف في تحديد المراد: ما المراد من النص الشرعي اختلف أئمتنا في الحكم لاختلافهم قي بيان المراد من النص تقدم معنا قول نبينا صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ". ما المراد بالتفرق؟ بالأقوال عند إمامين. بالأبدان عند إمامين كما قلت هنا تحديد المراد من كلام نبينا خير العباد عليه الصلاة والسلام. احتمله الدليل، هذا كله اختلاف وتنوع.
اختلاف التضاد: ضابطه عكس اختلاف التنوع. يلزم من إثبات قول نفي الآخر، يلزم من صحة قول بطلان القول الآخر عند القائل به. هذا له حالتان:
الحالة الأولى:(87/88)
1. تلتحق بالأحوال الأربعة المتقدمة والإنسان يعذر فيها وهو نحوها في سعة. يكون تارة في الفروع العملية التي ليست الدلالة عليها قطعية مثلا ينتقض الوضوء بالدم السائل، لا ينتقض الوضوء، ينتقض الوضوء بمس الذكر. قولان متقابلان لكن ليس عند إمام واحد بل عند إمامين فمن قال بهذا لا يقول بهذا إنما تقابلت الأقوال في مذهبه بل هو في مذهبه لا يرى صحة صلاته ولا صحة صلاة من تبعه إذا صلى وقد خرج منه الدم وذاك يرى صحة صلاته وصحة صلاة من تبعه إذا صلى وقد خرج منه الدم. قولان تقابلا في فروع عملية ليست الدلالة عليها قطعية وليس مما أجمع عليه هنا. في المسألة نصوص متقابله ويلتحق بهذا بعض الأصول العلمية التي ليست الأدلة عليها قطعية. كالإختلاف في سماع الميت والاختلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه في ليلة الإسراء والمعراج. فهذا يثبت الرؤية بالعين وهذا يقول رؤية قلبية وثالث يتوقف. الحالة اختلاف تضاد تقابلت الأقوال وفي أمر الاعتقاد ومع ذلك عذر بعضهم بعضا. ويتقدم معنا الإمام ابن خزيمة يرى أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربنا ليلة الإسراء والمعراج بعيني رأسه في كتابه التوحيد وذكر 50 صفحة يقرر فيها هذه المسألة إذا الأمر فيه سعة من أنكر من أثبت من توقف من قال إن الرؤية يراد منها رؤية قلبية خاصة هذه الأقوال فيها سعة منقولة عن سلفنا فلا حرج فيها.
نوع آخر من أنواع التضاد.(87/89)
2. وهو الفرع العملية التي أدلتها قطعية أو الأصول العلمية التي أدلتها قطعية. هنا الخلاف فيه حرج والمخالف يضل زائغ مثلاً المسح على الخفين هذا تواترت به الأحاديث عن نبينا سيد الكونين من أنكره – أهل الزيغ والضلال الشيعة – لذلك ذكرت المسألة ضمن كتب التوحيد لأنها مسألة قطعية مع أنها فرع عملي. غسل الرجلين في الوضوء إذا لم يكونا في خف في جورب ثخين هذا مما أجمع عليه. ذكر ضمن كتب التوحيد لأنه خالف فيه أيضاً الشيعة لا يغسلون الأرجل بل يمسحونها ولا يمسحون على الخفين.
هذا الآن فرع عملي والفروع العملية أصلاً تتسع لها الصدور يقال فيما لا إجماع فيه فيما لا قطع فيه. نكاح المتعة أجمع الأئمة على تحريمه فمن خالف فيه فهو زائغ مبتدع يضلل.
وقوع الطلقات الثلاث انعقد الإجماع على ذلك كما تقدم معنا فمن جاء وقال إن الثلاث واحدة نقول زائغ ضال خالف الإجماع مع أنها فروع عملية وهكذا الأصول العلمية كأمور الإعتقاد في قضايا الإيمان وما يعتقده أهل الإسلام من الإيمان بالله واليوم الآخر وبصفات الله عز وجل من عذاب القبر من نعيم مما يكون في الجنة مما يكون في جهنم كل هذا مما وردت به النصوص وأجمع أئمتنا عليه من خالف في شيء من ذلك فهو ضال. الخلاف هنا فيه حرج وعليه اختلاف التضاد هو الذي الأمة تكون في حرج فيه ونحوه ضابطة إذا كانت أدلته قطعية ويوجد إجماع من هذه الأمة الإسلامية سواء كان في الفروع العملية أو في العقائد الإسلامية. وعليه ما بين أئمتنا الإختلاف كما قلت غالبه هو أكثره من النوع الأول إختلاف تنوع وبعضه من إختلاف التضاد من القسم الأول الذي لا زلنا نحوه في سعة والأدلة فيه ليست قطعية فلماذا تضيق صدورنا ويضلل بعضنا بعضاً لماذا ورحمة الله واسعة.
قبل أن أنتقل إلى الأمر الثالث " لماذا الالتزام بالمذاهب الأربعة " عندنا تنبيهان ينبغي أن ننتبه لهما:
1. مما تقدم يتبين لنا أن أبرز أسباب الاختلاف أمران:(87/90)
أ. النصوص حمالة تحتمل عدة معانٍ.
ب. عقول البشر متفاوتة في الفهم. فيما أن النص يحتمل وأهل الاجتهاد عقولهم متفاوتة وعندهم أهلية الاجتهاد وعندهم ما يمكنهم من الاستنباط. فإذا استنبط حكما فما يستنبطه يعتبر حكما شرعيا.
2. يترتب على هذين السببين ان كل ما يستنبطه أئمة الاجتهاد يعتبر أحكاما شرعية ما يصل إليه المجتهد يعتبر حكما شرعياً لمذهب على مذهب ولا يحكم بمذهب على مذهب وليس من حق أحد كما تقدم أن يقول للناس اتركوا مذاهبكم واتبعوا مذهبي. وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم جرت في حياته مثل هذه المسائل وأقر الصحابة فنحن من باب أولى ينبغي أن يقر بعضنا بعضاً. استمع لهذا الحديث وهو في الصحيحين والبيهقي، من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين بعد موقعة الأحزاب قال نبينا صلى لله عليه وسلم " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " فخرج الصحابة الكرام إلى بني قريظة ليصفوا معهم الحساب عندما نقضوا العهد مع نبينا عليه الصلاة والسلام ففي الطريق أدركتهم صلاة العصر فبعضهم قال نصلي لم يرد منا رسول الله منا ذلك وقال بعضهم نؤخر الصلاة لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لا نصلي إلا في بني قريظة. وفعلا بعضهم أخرها وبعضهم صلاها فما عنَّف النبي منهم أحداً وفي الطبراني كما في المجمع 6/140 من رواية كعب بن مالك. وقال رجاله رجال الصحيح إلا ابن أبي الهذيل وهو ثقة وهو عبد الله بن أبي الهذيل ثقة روى له البخاري في جزء القراءة خلف الإمام كما روى له الإمام مسلم في صحيحه والترمذي والنسائي في السنن وفي روايته شيء من التوضيح لرواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم وأرضاهم.(87/91)
وعبد الله ابن أبي الهذيل تابعي جليل هو الذي يروي عن سيدنا كعب بن مالك وقد روى عن سيدنا علي وعمار وأبي بن كعب وخباب بن الأرت أبي هريرة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين انظروا ترجمته الطيبة في السير 4/170 رجاله رجال الصحيح إلا ابن أبي الهذيل وكنت ذكرت سابقا أن في كلام الإمام الهيثمي شيء من التسامح فهو من رجال مسلم. فالأصل أن يقول رجاله رجال الصحيح لمَ يقول إلا ابن الهذيل وقد روى له مسلم في صحيحه وعليه رجاله رجال الصحيح. من رواية سيدنا كعب بن مالك رضي الله عنه أن نبينا صلى لله عليه وسلم بعد أن رجع من غزوة الأحزاب ووضع درعه جاءه جبريل وقال وضعتم السلاح وضعتم اللأمة لكنا في السماء لم نضعها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تأمرني قال توجهوا إلى بني قريظة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة فخرج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس فاختصم الناس في الطريق فقال بعضهم صلوا لم يرد رسول الله أن تتركوا الصلاة وقال فريق آخر عزم علينا رسول الله فنحن في عزيمة رسول الله فلا إثم علينا في تأخير الصلاة قال فصلى بعضهم في الطريق وبعضهم أخرها حتى غربت الشمس فصلوها في بني قريظة فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين وفي رواية كعب فصلوها في الطريق إيمانا واحتساباً وصلى بعضهم بعدما غربت الشمس في بني قريظة إيمانا واحتسابا –"لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ". وهي النيات الخالصة التي ينال الإنسان أجرها عند الله جل وعلا. وهنا كذلك إيمانا واحتساباً وما فعل واحد منهم ذلك عناداً ولا مخالفة لنبينا صلى الله عليه وسلم. كل من الأمرين حكم شرعي ونبينا ما عنف أحد الفريقين بل ما قال لهؤلاء أصبتم ولهؤلاء أخطأتم.(87/92)
وقلت استنبط من هذا عدد من أئمة الإسلام إن كل مجتهد مصيب لأن نبينا الحبيب لا يقرعلى خطأ. ولو كان أحدهما مخطئا لقال أخطأت ولا لوم عليك ولا ذنب لكن كان السداد أن تفعل كذا. فما قال هذا إذا كل من الأمرين مصيب على هدى. الحافظ ابن عبد البر في كتابه الاستذكار 1/303 استدل بهذا الحديث وبغيره على وجوب قضاء الصلاة على من فاتته نسياناً أو عمداً وهذا هو المقرر عند المذاهب الأربعة وهناك شذوذ عند بعض الناس أن الصلاة إذا تركت عمداً لا تقضى. نرجع إلى الأمر الثالث وهو ختام بحثنا في هذه المسألة: وقبل أن ننتقل إلى هذا الأمر يوجد تعليق الإمام البغوي في شرح السنة /229 كلام محكم يتعلق بالاختلاف أحب أن أقرأه عليكم مع وجازته كلام محكم سديد: قال عليه رحمة الله: الاختلاف في الفروع بين العلماء اختلاف رحمة أراد الله أن لا يكون على المؤمنين حرج في الدين فذلك لا يوجب الهجران والقطيعة لأن هذا الاختلاف كان بين أصحاب رسول الله مع كونهم إخواناً مؤتلفين رحماء بينهم وتمسك بقول كل فريق منهم طائفة من أهل العلم بعدهم وكل في طلب الحق وسلوك سبيل الرشد مشتركون.(87/93)
قال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين ثقة عابد حديثة في صحيح مسلم والسنن الأربعة توفي سنة 120هـ قال: ما أحب أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لم يختلفوا فإنهم لو اجتمعوا على شيء فتركه رجل ترك السنة ولو اختلفوا وأخذ رجل بقول واحد أخذ السنة كما تقدم معنا من كلام عمر بن عبد العزيز وقاسم بن محمد وأئمة الإسلام قاطبة وهذا القول نقله الإمام السيوطي في كتابه الأمر بالإتباع وذم الابتداع ص77 وانظروه في الباعث الحثيث ص20 علق المعلق على الباعث الحثيث وهو من بعض الأخوة الجدد المتمجهدين من بلاد مصر قال: ليست الرحمة في الاختلاف: يعلق على كلام الإمام أبي شامة فيما ينقله عن أئمة الإسلام أن الاختلاف رحمة. قال: ليست الرحمة في الاختلاف وإنما الرحمة في الاجتهاد وعمل العقل والقلب في إعلاء كلمة الله وجعل كلمة الله هي العليا ولن تكن الرحمة بأي حال في الاختلاف والفرقة. يا إخوتي نحن في أعلى قمة وهؤلاء في أسفل حضيض ما دخل هذا الكلام في التعليق على كلام أئمة الإسلام. وهل جعل كلمة الله هي العليا حوله خلاف لم تعلق هذه التعليقات الفارغة الاختلاف رحمة باتفاق أئمة الأمة إلا من شذ شذ ابن حزم اجتهاداً وشذ الشاذون في هذه الأيام تقليداً أما ابن حزم مجتهد مع شذوذه وليس من الحزم أن يتبع ابن حزم لكن هؤلاء كالألباني والمقبل على الفتن والذين يعلقون على هذه الكتب يلوثونها هؤلاء شاذون تقليداً لا تظن أن واحداً منهم هو صاحب الفكرة إنما قرأ في كتاب ابن جزم في إبطال القياس وفي شيء من المحلى – وما تعثر فيه يغفر الله له-جاؤا هم وجعلوه دينا يفرقون به بين الأمة.(87/94)
أما أن الاختلاف رحمة هذا لا نزاع فيه إستمع لكلام الإمام الخطابي في كتابه "أهذه الحديث" 1/118 يقول وأن هذه القضية ما خالف فيها إلا الزائغون في العصر الأول وقارن بين هذا الكلام وبين ما يقوله الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/76 لتعلم أن كلامه هو كلام الزائغين الذي رده الإمام الخطابي تماما استمعوا اخوتي الكرام يقول: أما قول القائل لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً. قالها ابن جزم وتلقاها عنه المقلدون في هذا الزمن. فأما قول القائل لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً لأنه ضده فهذا قول لم يصدر عن نظر وروية وقد وجدت هذا الكلام لرجلين اعترضا به على الحديث أحدهما مغموص عليه في دينه وهو عمر بن بحر"الجاحظ" انظروا ترجمته المظلمة في لسان الميزان 4/355 وفيه قال ثعلب كان كذابا على الله ورسوله وعلى الناس ليس بثقة ولا مأمون وكان من أئمة البدع وقد هلك 255هـ –هذا الأول- والثاني معروف بالسخف والخلاعة – رقاص مغني ماجن – وهو اسحق بن إبراهيم الموصلي انظروا ترجمته المظلمة في السير 11/118 وفي لسان الميزان 1/350 وقال هو المغني المشهور توفي 235هـ –كان المأمون يقول لولا اشتهاره بالغناء وقلة الحياء لوليته القضاء-لانه يميل على مذهبه من ناحية الاعتزال وخلق القرآن. هذان اعترضا على الحديث. قال إنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمعن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزوده من إثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث والحطب عليهم أي الحط من شأنهم وزعم أنهم يروون ما لا يدرون وذكر بأنهم رووا هذا الحديث. " اختلاف أمتي رحمة " وهو لا يثبت من ناحية الإسناد.(87/95)
لكن المعنى ثابت من كلام سلفنا وأئمتنا ثم قال لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا ثم تكايس وتعاقل فأدخل نفسه في جملة العلماء وشاركهم في تفسيره وقال: إنما كان الإختلاف رحمة مادام رسول الله حيا بينهم فإنهم إذا اختلفوا سألوه فأجابهم وبين لهم ما اختلفوا فيه ليس فيما يختلفون بعده وزعم أنهم لا يعرفون - أي أئمة الحديث –وجوه الأحاديث ومعانيها فيتأولونها على غير جهاتها.(87/96)
إذاً هو يقول هذا الحديث لو ثبت معناه-الاختلاف في زمن النبي عليه الصلاة والسلام –وهم اختلفوا في موقعه الأحزاب والذهاب إلى بني قريظة والنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم لا قال لهؤلاء أصبتم ولا لهؤلاء أخطأتم هذا الكلام الذي قاله باطل ويشبه كلام الشيخ ابن باز في تعليقه على فتح الباري 2/287 في حديث البخاري والموطأ وأبي داود والأمام البيهقي وغير ذلك من دواوين السنة ومر معنا ضمن مواعظ التفسير من رواية رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه قال كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده فقال رجل وراءه ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتكلم آنفاً قال أنا. قال رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها. وعند الترمذي قال فعطست فقلت ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى فلما انصرف رسول الله عليه الصلاة والسلام من صلاته قال من المتكلم آنفا ثم أعاد ثلاثا قال أنا قال لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها. قال الحافظ ابن حجر استدل به على احداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور ويجوز للإنسان أن يحدث ذكرا وأن يقول ذكرا غير وارد في صلاته إذا لم يكن مخالفا للمأثور –يعني لو قدر أنه ركع وقال سبحان ربي العظيم ثلاثا ثم أراد أن يقول سبحان ربي الخالق – سبحان ربي الرازق –سبحان ربي الوهاب سبحان ربي الكريم.(87/97)
تقول هذا ليس بوارد وأنك ابتدعت يجوز هذا من ناحية الجواز يجوز وهذا الرجل أثنى على الله بما هو أهله بصيغة لم يأخذها من النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ استدل بهذا على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مشروع إذا كان لا يخالف ما هو مشروع لا حرج إخوتي الكرام الإنسان في طوافه إذا أراد أن يقرأ القرآن لا حرج وما أُثر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ختم بعض أئمتنا اثنتي عشرة ألف ختمة في الطواف في السير 14/535 في ترجمة الإمام الشيخ الكتاني القدوة العابد شيخ الصوفية أبو بكر محمد بن على توفي سنة 322هـ مجاورا بمكة صانها الله وشرفها قال الإمام الذهبي: كان من الأولياء وكان يقول: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. ختم القرآن اثنتي عشرة ألف ختمه كما في السير ما الحرج علق الشيخ ابن باز على كلام الحافظ قال فيه نظر ولو قيده الشارح بزمن النبي عليه الصلاة والسلام لكان أوجه –مثل من قال الاختلاف رحمة لكن في زمان النبي عليه الصلاة والسلام لما في زمنه رحمة وبعده عذاب وهنا يجوز أن يحدث المصلي ذكرا في الصلاة وإن لم يكن واردا يعلق لو قيده بزمن النبي عليه الصلاة والسلام –لما- قال فيه نظر ولو قيده الشارح بزمن النبي عليه الصلاة والسلام لكان أوجه لأنه في ذلك الزمن لا يقر على باطل خلاف الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن الوحي قد انقطع والشريعة قد كملت فلا يجوز أن يزاد في العبادات ما لم يرد به الشرع هذا يعدل ذلك الاختلاف رحمة قال في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وهنا يجوز أن يحدث ذكرا في الصلاة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وبعده لا يجوز لما وهل يشترط أن يعلم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الذكر في زمنه لو قدر أن إنسان في غير المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه أو فيها وأحدث ذكراً لم يعلم به النبي عليه الصلاة والسلام فعلى ظاهر عبارتك يجوز.(87/98)
هنا اطلع على رجل أحدث ذكراً والبقية لو أحدثوا ذكرا من أين سيعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تقر يجوز في زمانه صلى الله عليه وسلم عبارتك ينبغي أن تقيدها بشرط أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم به – هذا كلام إخوتي الكرام غلط وكما قلت مرارا ما يقرره أئمتنا لا داعي للمتأخرين أن يعترضوا عليه.
قال الإمام الخطابي في رده على الجاحظ والموصلي:(87/99)
والجواب عما الزمانا من ذلك يقال لهما إن الشيء وضده يجتمعان في الحكمة ويتفقان في المصلحة ألا ترى أن الموت لم يكن فسادا وإن كانت الحياة صلاحا هذه نعمة وهذه نعمة ونعمة الله علينا بالموت لا تقل عن نعمته علينا بالحياة. ولم يكن السقم سفها وإن كانت الصحة حكمة ولم يكن الفقر خطأ وإن كان الغنى صوابا وكذلك الحركة والسكون والليل والنهار وما أشبهها من الأضداد وقد قال سبحانه وتعالى: "ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه" فسمى الليل رحمة فهل أوجب أن يكون النهار عذابا من قبل أنه ضده وفي هذا بيان خطأ ما ادعاه هؤلاء ولله الحمد. ثم بين فقال أما وجه الحديث ومعناه اختلاف أمتي رحمة فهو كلام عام المعنى خاص المراد إنما هو الإختلاف المذموم في إثبات الصانع ووحدانيته وهو كفر واختلاف في صفاته ومشيئته وهو بدعة وكذلك في اختلاف الروافض والخوارج في إسلام بعض الصحابة واختلاف في الحوادث من أحكام العبادات المحتملة الوجوه جعله الله يسرا وكرامة ورحمة للعلماء منهم وقد قال صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداه" والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1/35 وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي ورواه البزار بسند رجاله رجال الصحيح وهكذا الطبراني في معجمه الأوسط والصغير المجمع 8/257 ورواه البيهقي في دلائل النبوة 1/58 والرامهرمزي في الأمثال ص29 ورواه ابن عساكر وعند الرامهرمزي ضبطه ضبطاً غريبا فقال مهداة بكسر الميم وقال هكذا ضبطه ابن البرتي وهو الإمام المحدث أبو خبيب العباس ابن أحمد البرتي توفي 338هـ والرامهرمزي توفي 360هـ وقال عليه الصلاة والسلام بعثت رحمة- كما ثبت في صحيح مسلم والأدب المفرد للإمام البخاري إن الله لم يبعثني لعانا إنما بعثت رحمة – وقد بعث بالسيف وأمرنا بالقتال وسفك الدم فلا تناقض بين هذا وهذا إلى آخر كلامه في توجيه الحديث من كتابه أهذه الحديث.(87/100)
آخر المبحث: قد يقول قائل: أنتم تقولون باتباع وتقليد المجتهدين وأئمة الدين فهذه حصرتم الأمر في أربعة أما كان مجتهدون قبل هؤلاء وفي زمنهم وبعدهم وجد ما وجه التخصيص.
وجه التخصيص أجملها في أربعة أمور:
أولها: هذه المذاهب الأربعة متواترة مقطوع بنسبتها إلى أئمة الاجتهاد باتفاق أهل الرشاد لا يخالف في ذلك أحد من العباد ومن المعلوم أن حال المقلدين من المجتهدين كحال المجتهدين مع أحاديث نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه –المجتهد يقدم المتواتر المقطوع بصحته على الآحادى لو خالفه هذا أمر لا نزاع فيه –عنده نقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوت الشمس في رابعة النهار وعنده نقل لا تعلم صحته روى بدون إسناد ودون معرفة حال الرواة هل يعول عليه المجتهد لا إنما يعول على ما ثبت إذا حالنا مع أئمتنا كحال أئمتنا مع نبينا عليه صلوات الله وسلامه: الأقوال عندما تنسب إلى أئمتنا مقطوع بصحتها متواترة عنهم نسب للمجد ابن تيمية جد الإمام ابن تيمية ومن الذي نقل عنه نقل عنه حفيده والإمام ابن القيم ونقل عنه من نقل في هذه العصور.(87/101)
هذا النقل الذي تنقلونه عنه كله لا يثبت كما تقدم هو قرر في كتابه المنتقى كما في نيل الأوطار ومعه المنتقى 6/230 بعد أن أورد آثارا في وقوع الطلقات الثلاث قال هذا كله يدل على إجماعهم على صحة وقوع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة وفي المحرر قرر هذا وأنتم بعد ذلك تأتون تقولون روى وعندما يقال روى عن الأوزاعي أو الليث أئمة كرام لا نزاع في إمامتهم لكن هل تلك الأقوال مقطوع بنسبتها إليهم كما هو الحال في الإمام مالك أو الشافعي أو أحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم وأرضاهم لا ثم لا قطعا وجزما وبيننا وبين تلك الأقوال انقطاع هل تنقل تلك الأقوال بالسند الثابت إلى الأئمة إذا كان الأمر كذلك –يختلف- عندنا قول مقطوع بصحة نسبته إلى مجتهد وهناك قول لا نقطع بصحة نسبته إليه شتان بين هذا وهذا لو ثبت في كتاب ينقل بالأسانيد وهو صحيح يبقى معنى نقل أحادي والثاني نقل قطعي يقدم عليه.(87/102)
فنحن نفوسنا تطمئن لهذا الاجتهاد الذي نقل إلينا عن طريق القطع وأما ذاك لو ثبت بسند أحادي فهو دون هذا في الثبوت –هذا أمر أول لا بد أن نعيه إخوتي الكرام حال المقلدين مع المجتهدين كحال المجتهدين مع الدليل المبين مع أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام المقطوع به يقدم على الأحادي والثابت يقدم على مالم يثبت. وعليه إخوتي الكرام عند هذا الأمر عندنا فهم قطع بصحة إضافته إلى إمام مجتهد وعندنا فهم لم يقطع بصحة إضافته إلى إمام مجتهد أيهما تركن النفس إلى قبوله حتما ما قطع بصحته. هذا كما قلت قول مقطوع بصحة إضافته إلى هذا المذهب وهذا قال به ليس أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن ملايين من المسلمين يتناقلونه من القرن الثاني إلى هذا الحين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أما هناك قول أنت تفتش في هذه الكتب وجدت قولاً لسعيد بن جبير رضي الله عنه وأرضاه ما أحد ينازع في إمامته واجتهاده لكن هل يقابل قول سعيد بن جبير الذي لا شك في إمامته وديانته وفقهه واجتهاده وفهمه ونظره وصلاحه هل يقابل قوله الذي لا نقطع بصحة إضافته إليه كقول أبي حنيفة الذي نقطع بصحة إضافة إليه يتقابلان فهنا أقوال لا أقول مستفيضة متواترة معلوم بالضرورة في ذلك المذهب إن هذه من أقول هذا المذهب وما مر على الأمة يوم إلا تقرأ تلك الكتب في مساجد المسلمين وتقرر وتدرس واجتهادات الإمام ابن حزم ما بيننا وبينها صلة إلا بعد ذلك عندما طبعت كتبه في هذه الأيام.(87/103)
من الذي كان يسمع بيان حزم قبل فترة؟ حتى من تقدمنا من علمائنا ما عنده خبر عن ابن حزم إلا الترجمة أما كتاب المحلى من أوله لآخره ما طبع إلا من فترة واطلع عليه طلبة العلم أما كتب المذاهب ما خلا بقعة من بقاع الأرض من كتب المذاهب في كل وقت منذ أن وجد المذهب إلى هذا الوقت هذا مقطوع بصحة إضافته إلى أهل الاجتهاد وذاك لا يقطع بصحة إضافته إليه وهل من الديانة إذا وجدت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب من غير إسناد أن تأخذ به هل هذا من الديانة لا يا إخوتي الكرام وليس من الديانة أن تأخذ اجتهاداً عن إمام وجدناه في كتاب دون أن يثبت عندنا ذلك ثبوتا قطعياً هذا الأمر الأول انتبهوا إليه.(87/104)
الأمر الثاني: تلك المذاهب التي هي مقطوع بصحة إضافتها إلى أئمتنا تتابع عليها الجهابذة بالفحص والتدقيق والتمحيص والتحقيق وحُكم بها ما يزيد على عشرة قرون فقل إحتمال وجود الخطأ فيها. أما أقوال المجتهدين الآخرين قول للإمام الأوزاعي وقول الإمام الليث بن سعد قول السعيد بن المسيب رضوان الله عليهم أجمعين لا تنزل عن أقوال أئمتنا أهل المذاهب الأربعة لكن تلك ما حصل لها تمحيص ولا تحقيق ولا تدقيق ولا تتابع المسلمون على العمل بها ولا تناقلها الجهابذة فنحن عندنا الآن أمران الأول لا نقطع بصحة إضافتها إلى هؤلاء والثاني ما غُربلت كما غُربلت هذه الأقوال لا يوجد مذهب من المذاهب الأربعة إلا وفي من ينتمي إليه فقهاء ومحدثون وأصوليون وزهاد وعباد ومن جميع الأصناف هل يعقل أن يتوارد هؤلاء وأن يتتابعوا على الخطأ والزيغ والضلال. إذا أردنا أن نقول هذا فلا عقل لنا. خذ مذهب الحنفية الذين تقولون هو آخر المذاهب من ناحية البضاعة الأثرية. انظروا لمن فيه من الجهابذة من أئمة الحديث فيه الإمام الزيلعي الذي من كتبه يستفيد الحافظ بن حجر فضلا عمن بعده وما ألف من كتب التخريج بدأً بمنار السبيل إلى غيره كله مأخوذ من نصب الراية ما في التلخيص الحبير وما في الدراية مأخوذ من نصب الراية وهو حنفي المذهب الإمام العيني كان قاضيا في زمان ابن حجر هذا على قضاء الشافعية وهذا على قضاء الحنفية وكل منها شرح صحيح البخاري في عمدة القاري وفي فتح الباري جهابذة كبار من الأئمة الأخيار ما خلا منهم وقت من كبار المحدثين. هؤلاء كلهم تتابعوا على الخطأ وعلى العمى والضلال؟ كان الواحد منهم تقطع رقبته من أجل كلمة حق كيف سكت على ما في هذه المذاهب من ضلال وبطلان.(87/105)
الأمر الثالث: قبل أن أنتقل إليه. يقول الإمام أبو زرعة تلك المذاهب تتابع عليها الجهابذة يقول الإمام أبو زرعة كما في السير 13/69 والإمام أبو زرعة توفي سنة 264 هـ إمام الأئمة حديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن أبي داود. يقول هذا العبد الصالح: عجبت ممن يفتي في مسائل الطلاق يحفظ أقل من مائة ألف حديث قلت لكم حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي ينقله بعض الناس في هذه الأيام وتقدم معنا في حجج مسلم وغيره. كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين وصدر أمر خلافة عمر رضي الله عنهم أجمعين. عندما يرويه قل له من رواه من خرجه لا يعلم في أي كتاب لا يدري ما معنى الحديث ما توجيهه لا يعلم ما في إلا أنه كما قال الله " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون" يقول الإمام أبو زرعة في هذا الحديث كانوا يطلقون واحدة وأنتم تطلقون ثلاثا وهذا ثابت عنه في السنن الكبرى للإمام البيهقي 7/338 قال الحافظ في الفتح بسند صحيح 9/364.(87/106)
الأمر الثالث: وهذا تقطع به كل تشويش وكل لغط – المذاهب الأربعة جمعت جميع الإحتمالات المقبولة للنصوص المنقولة فلا يخرج الحق عنها كما تقدم هذا من كلام أئمتنا وكاد اتفاقهم أن يكون إجماع وعليه قال يقال لم لا نتبع من سبقهم من التابعين والصحابة الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين ولم لا نتبع من عاصرهم ولم لا نتبع المجتهدين بعدهم لا يقال هذا –أقوال سيدنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن عداهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وأقوال المجتهدين في التابعين وأقوال المجتهدين المعاصرين لأئمتنا المجتهدين ومن جاء بعدهم لا تخرج عن أقوالهم لا أقول أنهم يتبعون هؤلاء الأئمة لا لكن – ما قرره سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي موجود في هذه المذاهب وعليه إذا وجد قول لإمام فهو بين حالتين إما أن يكون هذا القول في أحد المذاهب الأربعة فهذا زادنا يقينا وطمأنينة نحو المذاهب الأربعة وأنها حوت الحق وإذا وجد قول لإمام يخالف ما عليه الأئمة الأربعة نقول شاذ ولا يعول عليه ولا يؤخذ به. الذين يقولون نحن ما أمرنا الله باتباع أبي حنيفة ولا اتباع مالك ولا الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين ونحن نتبع الكتاب والسنة وبعضهم يقول أئمة الإسلام عندنا كلهم سواء نقول له أنت تكثر اللغط لم! هات لنا مسألة واحدة دل عليها دليل وقال بها إمام جليل وليست في المذاهب الأربعة لنتباحث بعد ذلك معك. الإضافة لهذه المذاهب سبب إضافة الأقوال إليها الحصول الأمر الأول فيها وهي أنها متواترة. فالإضافة إليها أقوى فإضافتك هذا القول إلى المذهب الحنفي هذا أقوى من أن تضيفه إلى صحابي لا أننا نقول إن منزلة الصحابي دون المذهب الحنفي لا ثم لا لكن هنا مقطوع بصحته وهذا المذهب عندنا يقين ما بني إلا على الكتاب والسنة واجتهادات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وتقدم معنا أبو حنيفة إذا وجد أقوالاً للصحابة يلزم بها ولا يخرج عنها.(87/107)
ولذلك عندما كنت أدرس في كلية الشريعة أقول أقوال الصحابة عندما تذكر في المسألة تذكر فقط لبيان مصادر أئمتنا الكرام لا لأننا سنأخذ بها الذي يطالب به الإنسان وينبغي أن يعيه هذه المسألة لأئمة الإسلام فيها قولان أو ثلاث أو أربع فقط أما قال بهذا بعد ذلك عبد الله بن الزبير عبد الله بن عمر عبد الله بن عباس ما لنا ولهذا وعليه حال المذاهب مع أقوال أئمة الإسلام عندما نقول حوتها كحال القراء العشر مع بقية القراء. لم أضيفت القراءة إلى عامر وعاصم وحمزة والكسائي رضوان الله عليهم أجمعين.(87/108)
كان في زمن نافع ملايين يقرئون بقراءته لكن عندما دونت القراءات نظر إلى أبرز إمام يقرأ بهذا الحرف فنسب الحرف إليه وعندنا في زمن أبي حنيفة ملايين يقولون بهذا الاجتهاد ووافقه أئمة قبله وبعده من صحابة وتابعين لم أضيف لمن يقول بهذا القول إلى مذهبه لأنه حصلت له شهرة لهذا المذهب حصلت شهرة وهذه الشهرة من الله لا دخل لإنسان فيها. سفيان الثوري أقواله لا تخرج عن أقوال سيدنا أبي حنيفة وعن سيدنا الإمام الشافعي أو عن سيدنا الإمام مالك رضوان الله عليهم أجمعين إذا أقواله دخلت ضمن المذاهب. سعيد بن المسيب. سعيد بن جبير أقوال أئمة الإسلام رضي الله عنهم وأرضاهم كلها في النهاية ستنتهي إلى الأقوال الأربعة ولو قدر قول خرج عن هذا يبقى من باب الشذوذ عندنا قول لسيدنا عبد الله بن عباس الذي نتبرك بذكره لا بحبه فقط بحل نكاح المتعة وهكذا قول سعيد بن المسيب يقول إن الرجل إذا طلق إمرأته ثلاثا وتزوجت غيره تحل للزوج الأول وإن لم تذق عسيلة الثاني وهذا شذوذ وخرج عن المذاهب الأربعة ما يأتينا إنسان بقول سعيد بن المسيب أعلى من الإمام الشافعي أنتم تركتم عقولكم وأخذتم بقول الشافعي وتركتم قول سعيد بن المسيب يا عبد الله هنا غربلت صفيت حققت الجهد البشري فيه خطأ عندما يكون على انفراد ولذلك هذا المذهب من الخطأ الكبير أن يضاف إلى إمام واحد على أنه هو الذي أسسه لا إنما إضافة نسبة فقط وإلا ألوف يقولون بهذا الاجتهاد.(87/109)
وهذا لابد من وعيه يأتيك قائلا يقول لما لا تتبع الأوزاعي: يا عبد الله من قال لك أننا لا نتبع الأوزاعي لعنة الله على من لا يتبع أئمة الإسلام يا عبد الله فقه الأوزاعي ضمن فقه المذاهب الأربعة هات أقوال الأوزاعي لتفرقها بعد ذلك على هذا المذهب أو على هذا المذهب وإذا عندنا قول للأوزاعي خرج هات دليل عليه حتى نبين لك أنه شذوذ حتى لو كان قول صحابي خرج فنقول شذوذ سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه توفي ولا يقول بالعول شذوذ رضي الله عنه وأرضاه وليس معنى شذوذ أنه شاذ القول شاذ مهجور ما عمل به فقهاء الأمصار – قال ابن قدامة في المغنى لا نعلم اليوم قائلا بمذهب ابن عباس رضي الله عنهم وأرضاهم. فلا بد من وعي هذه القضية حتى نتبع المذاهب الأربعة لا تظن يا عبد الله أن هذا تقليدا للرجال أو لأهواء شخصية لا ثم لا. هذا اتباع لفهم شرعي مقطوع بصحة إضافته إلى أئمة المذاهب ثم صقل عن طريق اتباع المذهب وحقق ونقح وما يوجد من أقوال لا يشهد لها الدليل بينت ولذلك وجد بعد ذلك ضمن المذهب ترجيحات وخلاف لهذا القول الذي يتبناه إمام المذهب يترك أحيانا ويؤخذ بقول الاتباع.
هذه أمور ثلاثة لا بد من وعيها.
أمر رابع يتعلق بحالنا نحو هذه المذاهب والمجتهدين في عصرنا. أنا أعجب كما قلت مرارا لمن لا تطيب نفوسهم بإتباع أئمة الإسلام وتقليدهم ثم جمدوا بعد ذلك على تقليد فلان وفلان من المعاصرين لا أقول ممن يرجعون عن أقوالهم فقد رجعوا إنما ممن لا يضمن لهم حسن الخاتمة.(87/110)
هان عليك أن تقلد الحي الذي يتراجع في كل يوم طلعت فيه الشمس عن أحاديث صححها فيضعفها وضعفها فيصححها أقوال باطلة منكرة هذا هان عليك أن تقلده وتقلد أمثاله وأقوال تتابع عليها أئمة الإسلام وحكم بها في الأمة الإسلامية ترى أن الالتزام بها من خصال المشركين تبا لذلك العقل السقيم الفاسد الذميم. مناظرة للشيخ الدجوي في مصر مع بعض المتمجهدين قال له لما لا تتبعون الإمام ابن تيمية هو شيخ الإسلام قال: والله أنا لا أتبع الإمام ابن تيمية قال لماذا قال لأنني بين حالتين إذا كنت مجتهداً يحرم علي أن أتبعه. وإذا كنت مقلداً فتقليد الإمام ابن تيمية وترك تقليد الأئمة سفاهة ما بعدها سفاهة ومضيعة. تنازع مرة شيخنا المبارك الشيخ محمد مختار الشنقيطي عليه وعلى جميع المسلمين رحمات رب العالمين. مع بعض الشيوخ حول الإمام ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه فالشيخ تعب وجهد في إقناعه بقوله ذاك يقول: ما يظهر لي لدليل وقولك مرجوح ولا أطمئن لهذا الشيخ عليه رحمة الله بعد أن رجع إلى بيته نظر في مجموع الفتاوى فوجد أن قول الإمام ابن تيمية كما قرر شيخنا عليه رحمة الله فاتصل به وقال ياشيخ القول الذي ذكرته لك موجود في الفتاوي قال خلاص أنا رجعت عن قولي.
فتقول لهؤلاء إذا كنتم ستقلدون معاصرين أو أئمة مهتدين من المتقدمين ولستم من أهل الاجتهاد فتقليد المذاهب الأربعة أولى للإعتبارات التي ذكرتها. وإذا كنتم متمجهدين وهيهات هيهات فحالكم يدل على اختلاف ذلك أنتم عالة على أئمة الإسلام في فقهكم وحديثكم وعالة على المعاصرين تأخذون ما يأخذون من شذوذ بعض الشاذين المتقدمين وتنشرونها في هذا الحين. لا بد من أن نعي هذا. إن المتأخرين لا يستغنون عن تقليد المتقدمين ونعوذ بالله من مكابرة المكابرين. يوجد كلام محكم للشيخ التهانوى عليه رحمة الله في مقدم كتابه إعلاء السنن 1/81 مقدمة موجزة أحب أن تعلموها.(87/111)
تكلم أولها على الإمام أبي حنيفة ودافع عنه فقال: نقض زعم بعضهم أن أبا حنيفة رضي الله عنه لوعاش حتى دون الحديث لترك كل قياس قاسه قلت فلا حاجة إذا إلى القول بأن أبا حنيفة إنما كثر القياس في مذهب لكونه في زمن قبل تدوين الحديث ولو عاش حتى دونت أحاديث الشريعة بعد رحيل الحفاظ في جميع البلاد والثغور وظفر بها لأخذ بها وترك كل قياس قاسه قلت فلا حاجة إذا في أن أبا حنيفة إنما كثر القياس في مذهبه لكونه في زمن قبل تدوين الحديث ولو عاش حتى دونت أحاديث الشريعة بعد رحيل الحفاظ في جميعها من البلاد والثغور وظفر بها لأخذ بها وترك كل قياس قاسه لأنا نقول لو ظفر بها لم يأخذ منها إلا ما كان عليه الخلفاء الأربعة وكل ما ظهر من الحديث في زمنهم لم يفته منه شيء لكونه محيطاً على علم الحجاز والمدينة والعراقيين "والبصرة والكوفه" يدل على ذلك كثرة شيوخه – تقدم أربع آلاف شيخ وكونه أعلم الناس في زمانه بشهادة الأئمة كما مر ذكره- وما عداه فشاذ أو ليس مما يجب العمل به – يعني ما يؤثر بعد ذلك من نصوص لم يأخذ منها إلا ما عمل بها الخلفاء الراشدين وعليه ما سيبلغه إما عمل له أو معارض لما عنده –وإن سلمنا أن الإمام خفي عليه بعض الأحاديث التي يجب العمل بها شرعا فنقول إن محمداً وأبا يوسف وزفر بن الهذيل وابن المبارك والحسن بن زياد وغيرهم من أصحابه فقد تأخروا إلى زمن تدوين الحديث.(87/112)
ثم الطحاوي والكرخي والحاكم مؤلف الكافي وعبد الباقي بن قانع والمستغفري والزيلعي وغيرهم من حفاظ الحنفية ونقاد الحديث منهم فقد تأخروا إلى كمال التنقيب عن الحديث النبوي الشريف واطلعوا على صحيحه وسقيمه ومشهوره وآحاده فكل قياس من قياسه رأوه مخالفا للحديث تركه أصحابه كمحمد وأبو يوسف وزفر والحسن وخالفوا شيخهم في شطر مذهبه ومذهب الحنفية هو مجموع أقوال الإمام وأصحابه هؤلاء والمحدثون من الحنفية من بعدهم رجحوا في بعض المسائل قول الشافعي وفي بعضها قول مالك وفي بعضها قول أحمد. وأفتوا بما ترجح عندهم بالدليل وهذا كله هو ذهب أبي حنيفة لكونه جاريا على منواله وأصوله التي بني عليها مذهبه منها تقديمه النص ولو كان ضعيفاً على القياس فلم يبقى والحمد لله في مذهبنا قول خلاف حديث إلا وعندنا حديث آخر يؤيدنا والذي خالفناه ظاهراً فله عندنا تأويل لا نخالفه وكذلك الأئمة كلهم وأصحابه يفعلون فلا يستطيع أحد أن يدعي العمل بكل الأحاديث وإنما كل يعمل ببعضها ويترك بعضها أما لكونه ضعيفاً عنده أو مخالفاً للنص أو للخبر المشهور أو المتواتر أو لكونه شاذا أو فعلها أو منسوخاً أو مؤولاً بمعنى لا يدركه العامة ونحو ذلك.
وقال: كلمة حسنة جامعة في مناقشة ذامي التقليد ومانعيه.(87/113)
أما المنكرون للتقليد فلا يمكن منهم العمل – على أصلهم أصلاً لأن العمل به لا يمكن إلا بتقليد بعض العلماء في أن هذا الحديث صحيح وهذا ضعيف وهذا يجب العمل به وهذا لا يجب العمل به – وعندما يقول الألباني وغيره ضعيف كما قال الحافظ في التقريب هذا اجتهاد أو تقليد – تقليد في أعظم شيء جئت لتصحح وتضعف بناءاً على تقليد. وبعد ذلك أنظر إلى الإيهام على العامة نحن نجتهد يا عبد الله أنتم تتلاعبون أنتم لا تخرجون عن التقليد شئتم أم أبيتم عندما تأخذ قول الحافظ وحكمه على الرجل الذي اجتهد وحكم بناء على أقوال قيلت في ترجمة هذا الإمام هذا اجتهاد منك أو من الحافظ بن حجر أنت مقلد والحافظ مجتهد أنت تحرم التقليد إذا ما ينبغي أن تستدل بحديث أبدا إما أن يكون عندك سلسلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو عندك حكم على كل واحد من الرواة وبعد ذلك تدبير لا يعلمه إلا اللطيف الخبير سبحانه وتعالى يقول: لأن العمل به لا يمكن إلا بتقليد بعض العلماء في أن هذا الحديث صحيح وهذا ضعيف وهذا يجب العمل به وهذا لا يجب به العمل بل يجوز أو يستحب أو يحرم الأخذ به وهذا كما ترى كله تقليد في الأحكام فإن كون الحديث واجب الأخذ به وبالعكس أو يحرم الأخذ به من الأحكام حتما وإذا ذكر الفقهاء بحث السنة قبولها وردها والأخذ بها وتركها وأحكام الرواة في الفقر وأصوله لكونه مادة الأحكام وهؤلاء ينكرون التقليد والقياس والاجتهاد في الأحكام رأسا فكيف يقلدون المحدثون في هذه. وكيف يجعلون ظنهم واجتهادهم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها حجة وقد بينا غير مرة أن صحة الحديث وضعفه وتوثيق الراوي وضعفه كله يدور على ذوق المحدث وظنه واجتهاده والتصحيح والتضعيف ظني- من العبارات التي أحيانا اضحك عندها – لأنها تصدر من غير أهلها لو قالها أئمتنا الإنسان حقيقة يضحك ضحك تسليم إنما هنا ضحك تعجب. العبارة هي للألباني يقول هذا الحديث اطمئن قلبي لتصحيحه وسكنت نفسي إلى ذلك.(87/114)
هذا هو البحث العلمي. هذه حقيقة يقولها الجهابذة الذين حالهم كحال الصيارفة بمجرد ما تعرض عليه القطعة يعرف وزنها وإذا كانت مغشوشة نبذها إليك وقال انصرف ما تساوي هللة. قال الشيخ التهانوي. وقد بينا غير مرة أن صحة الحديث مضعفة وثقة الراوي وضعفه كله يدور على ذوق المحدث وظنه واجتهاده ولذلك نشأ الاختلاف بينهم في ذلك فهذا يضعف حديثاً وآخر يصححه وآخر يضعف رجلا وآخر يوثقه وهل هذا إلا لاختلاف الظنون فافهم ولا تعجل في الإنكار على إمام مأمون قد أذعنت الأمة لجلالته واعترفت الأئمة لعظمته وكرامته والله يتولى هداك.(87/115)
ثم علق على هذا الكلام: فا ندحض قول من قال أن الله جعل خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة فلا يكون متبع الحجة مقلدا لان تصحيح الحديث وتضعيفه ليس من جنس الخبر المحض بل مداره على اجتهاد المحدث وظنه اخرج ابن أبي حاتم في العلل 1/10 – بسنده عن ابن مهدي قال معرفة الحديث الهام قال ابن نمير وصدق لو قلت من أين قلت لم يكن له جواب وأخرج بسنده عن أحمد بن صالح قال معرفة الحديث بمنزلة معرفة الذهب فإن الجوهر إنما يعرفه أهله وليس للبصير فيه حجه إذا قيل له كيف قلت يعني الجيد والرديء. قال وسمعت أبي يقول معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم من الذي يميز بينها صاحب الخبرة – قلت وكما أن المحدثين يعرفون أسانيد الحديث وألفاظه كذا الفقهاء يعرفون معانيه وهم أعرف بها من المحدثين فلا يجوز للمحدث أن ينازع الفقيه في المعاني كما لا يجوز للفقيه أن ينازع المحدث في الإسناد وسياق الحديث اللهم إلا أن يكونا جامعين للفقه والحديث كالأئمة الأربعة وأصحابهم المقتدى بهم في الإسلام. وأقول كما قال سيدنا سفيان بن عيينة التسليم للفقهاء سلامة. بعد أن أجاب بشر بن الوليد الكندي من تلاميذ سيدنا أبي يوسف رضي الله عنهم أجمعين التسليم للفقهاء سلامة وكان يقول عندما يسأل الإمام الشافعي جزاك الله خيراً أبا عبد الله لا يأتينا منك إلا كل ما نحب هذا لابد من وعيه.
ثلاث تنبيهات مختصرة:(87/116)
1. ينبغي أن نحذر من النقص بمعناه الكريه الذميم لا بمعناه الحسن القويم والتعصب له صورتان صورة حميدة: أن تتعصب للمذاهب وكلها حق لا نتنازل عنها ولا تخرج إلا غيرها ولو جاء واحد وقال سألتزم بهذا المذهب من أوله إلى آخره لا أخرج عنه في جزئية من جزئياته نقول جزاك الله خيراً –وتقدم طالب العلم كما قال الإمام الذهبي لا يمكن أن يثبت على مذهب سيبدو له بعض أقوال في المذاهب الأخرى لا حرج أن يأخذ بها بما أنها وافقت الأئمة الآخرين. إنما الإنسان ليس عنده أدنى معرفة ولا يميز بين الأدلة قال أنا حنبلي المذهب لا أخرج عنه يقول أنا أتبع المذهب وشهدت له الأمة بالصحة والسلامة مهما قلت له من أدلة. نقول جزاك الله خيراً هذا تعصب حميد. والتعصب الذميم: تقول أنا حنفي والمذاهب الأخرى ضعيفة باطلة ولو كان لي سلطان لألزمت الناس بمذهبي فهذا ضلال مبين وتعصب ذميم ينبغي أن تحارب هذه الصورة من التعصب. قال ابن عبد البر في التمهيد 8/367.(87/117)
قال المسألة إذا كان سبيلها الاجتهاد ووقع فيها الاختلاف لم يجز لأحد القائلين فيها عيب مخالفيه ولا الطعن عليه لأن الصحابة اختلفوا وهم القدوة فلم يعب أحد منهم على صاحبة اجتهاده ولا وجد عليه في نفسه (هذا حق) ولكن أنظر للحالة المريرة التي كان يعانيها في القرن الخامس. قال وإلى الله نشكوا وهو المستعان على أمه نحن بين أظهرها تستحل الأعراض والدماء إذا خولفت فيما تجيء به من الخطأ. هذا مذموم. ووجد في العصور الماضية ومن ذلك ما رواه ابن كثير في البداية 12/75 والميزان ومعه اللسان 5/402 ترجمه المبتدع محمد بن موسى أن عبد الله البلاساغوني توفي 506هـ الحنفي التركي ولي قضاء بيت المقدس ثم قضاء الشام وله شأن في ذلك الزمان حكم عليه بالبدعة حتى أئمة الحنفية حكموا عليه بذلك ولا يقره عليه مسلم يقول: لو كان لي أمر لوضعت الجزية على أتباع الإمام الشافعي هذا ينبغي أن نحذره. الإمام القرشي في الجواهر المضيئة في تراجم السادة الحنفية 3/375 – ذكره وحكم عليه بالبدعة لهذه المقولة ونقل عن الذهبي أنه قال: أنه مبتدع لهذا القول. قال في البداية والنهاية وكان مبغضاً أيضا للمالكية. هذا تعصب خبيث ولا يخلو مذهب ممن يتعصب على عمى. لا بد من نصحه وزجره.
في البداية 12/250 وفي المنتظم 10/213 ترجمة مرجان بن الخادم توفي 560هـ قال ابن الجوزي وابن كثير في ترجمته تعلم القراءات وتفقه على مذهب الإمام الشافعي وكان يتعصب على الحنابلة ويقول مقصودي قطع مذهبكم وقلع ذكركم. لما يا عبد الله ستهدم الحنابلة وتقطع ذكرهم. لما يا عبد الله(87/118)
وأيضا في الحنابلة –في المنتظم وهو حنبلي 10/145 قال سأل الإمام ابن العبادي من أئمة الشافعية اسمه المظفر ازد شير يعرف بالأمير ت547 هـ طبقات الشافعية 7/300 سأل أن يعظ في جامع المنصور وهو إمام مبارك كان يتكلم بالكلام المحكم الحسن ومن كلامه الطيب يقول: أفعالكم أفعى لكم وحياتكم ما تأكلون من الحرام في حياتكم – سأل أن يعظ في جامع المنصور فأذن له وضمن له نقيب النقباء الحماية وهذا الجامع كان خاص بالحنابلة قال: فتجمع الحنابلة ومنعوه فما امتنع فرشقوه بالحجارة وتقدموا ليقتلوه فمنعهم نقيب النقباء والشرطة وتجلد حتى أنهى موعظته وكاد قلبه أن يطير. وبلغ من همج الحنابلة في ذلك الوقت أنهم نبشوا قبر شافعي دفن بينهم بعد خمس أيام كما في المنتظم 10/280 هذا يحذر ولا يجيزه أحد يؤمن بالله الحي القيوم. فإذا وجد شيء من ذلك فأئمة المذاهب من هذا براء.(87/119)
وهذا التعصب الذميم موجود الآن بين جماعات المسلمين والنزاع بينهم قائم على قدم وساق نسأل الله أن يؤلف بين القلوب هذا مذموم وأشنع ما يحصل بين أهل الإسلام أن تقع بينهم العداوة والبغضاء والعدوان وديننا واحد وربنا واحد ونبينا عليه الصلاة والسلام واحد فهذه الاختلاف بيننا ما تقدم معنا من أقوال تحتملها أدله في شرع ذي العزة والجلال لكن كما قلت أخوتنا لا نزاع فيها إقرار بعضنا لبعض على ما هو عليه لا نزاع فيه أيضا فهذا التعصب الذميم لابد ان نخدره عندما ندعو إلى المذاهب. مدرستان في القرن الخامس أسستا من أجل التنافس بين الأمراء وهذا غلط مدرسة شافعية ومدرسة حنفية- هذه يشرف عليها بعض الوزراء وهذه يشرف عليها بعض الوزراء. لما أريد أن أعلم ثم حصل في كل منها ظلم وجور. المدرسة الأولى النظامية أسسها نظام الملك في عهد الخليفة القائم بأمر الله للشافعية وأراد أن يكون أبو إسحاق الشيرازي شيخا لها عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا صاحب المهذب وهو حبرزمانه إمام المسلمين فامتنع فتغيض نظام الملك على أعوانه وقال إن لم يأتي أبو إسحاق لأفعلن وأفعلن المدرسة كلها بنيت من أجله فامتنع أبو إسحاق البقعة أخذت ظلما وعمرت بالمكوس في ذلك الوقت فكيف يشهدها أبو إسحاق فامتنع فألحوا عليه فكان بعد إلحاح يحضر للدرس وما صلى فيها صلاة لله رب العالمين وفيها مسجد فبعد وفاته رؤي فقال لو أني صليت فيها صلاة لهلكت – إنما غفر الله لي لأنني نشرت العلم وأقمت الحجة.(87/120)
وأما أنني اصلي في مكان أخذ ظلما وقصرا فلا ثم لا هذه المدرسة أسست سنة 459هـ والمدرسة الثانية للحنفية: أسسها شرف الملك بإيذاء مشهد سيدنا أبي حنيفة ووصل الأمر أنه نبش القبور التي بجوار قبر سيدنا أبي حنيفة وعندما نبشوا القبور خرج معهم رجل حسن الهيئة كأنه دفن الساعة يفيح منه ريح المسك والكافور فقال لهم الإمام ابن عقيل وما يدريكم أنه الإمام صاحب المذهب وقد نبشتم قبره ما يدريكم وكيف تستحلون نبش القبور لإقامة مدرسة ضاقت الأرض. هذا كله تعصب مذموم نحذره ونحذر منه. فعندما ندعو للمذاهب ونتعصب لها كلها على أنها حق لا نتعصب لمذهب على حساب مذهب آخر ونعادي المذاهب الأخرى وقلت مرارا – أئمة الإسلام عندنا كرسل الله الكرام عليهم صلوات الله وسلامه لا نفرق بين أحد من الأئمة نتقرب إلى الله بحبهم واتباعهم.
الأمر الثاني:(87/121)
2. تقدم من كلام الإمام الذهبي أن طالب العلم لا يمكن أن يلتزم مذهبا واحدا في جميع شؤونه لأنه عندما سيقرأ الأدلة الشرعية سيرى أحياناً أدلة ترجح بعض الأحكام التي هي في مذهب آخر تخالف مذهبه وأن الترجيح في مذهب آخر أقوى لاحرج إخوتي الكرام على طالب العلم في هذا وهذا ينبغي أن يعتني به طالب العلم أن ينظر في الأدلة ثم يرى بعد ذلك وهذه المذاهب لا تخرج ثم بعد ذلك أدلة أظهر وأحوط فالأخذ بها اسلم ولا يعني أن ذاك خطأ أو ظلال وفريضة الله عليك أن تحتاط لدينك ينبغي أن تحذر عن الخروج عنها إنما تخرج من مذهب إلى مذهب لأنه أحوط فهذا مطلوب. قال الإمام الذهبي السير 16/405 ترجمة الإمام الداراكي من أئمة الشافعية الكبار شيخ الشافعية بالعراق أبو القاسم عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الداراكي الشافعي خالد بن خلكان كان يتهم بالاعتزال وكان ربما يختار في الفتوى – يخرج عن المذهب وله اختيار – ويقال له في ذلك فيقول ويحكم حدث فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا. والأخذ بالحديث أولى من الأخذ يقول الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم. زاد ابن كثير في البداية 11/304 قال ومخالفتها أسهل من مخالفة الحديث قال الذهبي قلت هذا جيد لكن بشرط أن يكون قد قال بهذا الحديث إمام من نظراء هذين الإمامين مثل مالك وسفيان والأوزاعي وأن يكون الحديث ثابتا سالما من علة ومانع لا يكون حجة أبي حنيفة والشافعي حديثا صحيحا معارضا للآخر – لأنه يكون عنده حجة الآن وهو معارض فكيف تأخذ بذاك وتلغي هذا وأنت تابع لهذا المذهب هنا حديث صحيح خذ به – أما من أخذ بحديث وقد تنكبه أئمة الاجتهاد فلا كخبر فإن شرب الرابعة فاقتلوه. في شرب الخمر – إن شرب فاجلدوه ثم الرابعة فإن عاد فاقتلوه.(87/122)
حديث صحيح رواه الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا النسائي ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن عن سيدنا معاوية رضي الله عنه وقال الترمذي حديث حسن صحيح
وروي عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه في المسند والسنن الأربعة إلا الترمذي وأشار إليه الترمذي وعن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص في المسند والمستدرك وشرح معاني الآثار وأشار إليه الترمذي.
وروي عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه في سنن أبي داود والنسائي والمسند.
وروي عن سيدنا الشريد بن سويد وشرحبيل بن أوس وجرير بن عبد الله وأبي الرمضاء البلوي كلهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين هؤلاء ثمانية من الصحابة.
قال الذهبي: وكحديث لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده.
الحديث في رواه البخاري ومسلم وغيرهما لا يجوز أن تأخذ بظاهر هذا الحديث أن القطع في سرقة البيضة لا وما قال بهذا أحد من أئمة الاجتهاد لا بد من أن يسرق ما قيمتة نصابا من ربع دينار فصاعدا وهذا الحديث سيق للتنفير من السرقة ولذمها فإذا سرق بيضة سيسرق دجاجة ثم شاه ثم جملا ثم سيصبح إمام السارقين والإنسان عندما يبدأ بالمعصية يبدأ من الصفر ثم يتخصص هذا هو الحديث للتنفير من السرقة. وقيل تأويلات أخرى أما أنه إذا سرق بيضة تقطع يده لا ثم لا. لا بد إذا من وعي هذا.(87/123)
فإذا كان عند مذهبك حديث صحيح وحديث آخر يعارضه فالتزم بما أنت عليه لما تترك أما إذا وجدت حديثا بعد ذلك ستتعلق به وتقول الأخذ به متعين وأنا أخالف الإمام أبا حنيفة والشافعي لا يا عبد الله لا بد من أن تعي هذا الأمر وتقدم ضمن مواعظ الفقه من كلام الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. أن بعض الشافعية وهو أبو الوليد موسى بن أبي الجارود قال أن مذهب الإمام الشافعي وقوله أفطر الحاجم والمحجوم لان الحديث صح بذلك عن نبينا المبارك الميمون عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه روي عن ثمانية عشرة من الصحابة وعن تابعيين فقال مذهب الشافعي هذا لأنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي كما تقدم في مقدمة المجموع 1/64 رد عليه الشافعية قاطبة قالوا إن إمام المذهب ذكر هذا الحديث وصححه في كتبه وقال أنه منسوخ فكيف أنت بعد ذلك تنسب هذا الكلام الذي تقوله للإمام الشافعي هذا غلط فإذا هذا مطلوب منا إخوتي الكرام. لا مانع أن يعمل الإنسان بما تنشرح به نفسه ويطمئن إليه قلبه من الأدلة. بهذه الشروط إن القول الذي سينتقل إليه وافق أئمة الاجتهاد الآخرين أن دليل مذهبه دون هذا الدليل فيما ظهر له لا حرج.
الأمر الثالث ونختم به:(87/124)
3. ينبغي أن نعيه نحن معشر طلبة العلم. إذا نقل في المسألة قولان لأئمتنا الكرام واطلعنا على الأدلة ورأينا الاحتياط في أحد القولين ورأينا النصوص تشهد لأحد القولين فينبغي أن نأخذ بما هو أحوط وشهدت له النصوص ولا نسفه ذلك القول إنما نحن الواسطة بين العامة وربهم سبحانه وتعالى فلا داعي أن نخبرهم عن القول الذي رأيناه دون هذا في الاحتياط والقوة فنفتيهم بهذا من أجل الاحتياط وهو أقوى هذا منقول في مسائل كثيرة وكثير من طلبة العلم يترخص ويحصل بترخصه فتنة. والناس بعد ذلك لا تميز فمثلا إسبال الثوب جر الإزار بحيث يجاوز الكعبين نقل عن أئمتنا في ذلك قولان القول الأول لكراهة التحريم وهو كالحرام أو أقرب إلى الحرام أو هو بمنزلة الحرام وقول الكراهه التنزيه – لا شك أن القول بكراهة التحريم أحوط من أجل براءة الذمة والاحتياط في الدين يضاف إلى هذا ظواهر النصوص كلها تشير إلى هذا وتقرره ومن عدم الاحتياط أن نخبر العامة بذلك القول ونجعل فيه سعة وأن نترك هذا ونغفل تحذيرهم من إسبال أزرهم هذا لا بد من وعيه.(87/125)
وكنت ذكرت هذه المسألة ضمن مواعظ الجمع ولا بد من التنبيه عليها. فاستمعوا لبعض الأحاديث ثم لكلام أئمتنا في هذه القضية – قابلني بعض الأخوة في مواعظ الفقه وقال كأنك أقررت بقول بأن جر الإزار وإسبال الإزار مكروه كراهة التنزيه قلت يا عبد الله القول منقول أنا لا أقررته ولا ذكرته لأحد ولا أفتيت به ولا أعلم أنني حركت به شفتي إنما عندما جرى كلام من قبل من قال قلت يا عبد الله هذا منقول لكن هناك قول آخر وهو القول بالتحريم وظواهر النصوص تدل على هذا فالأخذ به أولى ولا داعي أن نخبر الناس عن الآخر هذا ما قلته إنما قلت كراهة تنزيه فهذا باطل فكأنه قال فلان قال فاتصل بي ذاك وقلت سمعت مني قال لا قلت سمعت من الذي جرى الكلام بيني وبينه وكان الأصل أنه في مجلس خاص وقلت القولان منصوصان حتى في فتح الباري فلنأخذ بقول التحريم وظواهر النصوص تدل عليه قال نقل لي فلان قلت يا عبد الله كفا بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع نقل ذاك ونقل لك كلام خاص قيل بين اثنين من أين اطلعتم عليه إلا إذا كان عندكم أجهزة رصد وهذا الزمان أمر عجيب يحار فيه الإنسان أمر ثاني أنت قلت غير متثبت يا عبد الله لم تنشر هذه الأحكام وهذا التشويش بين عباد الرحمن وهذا يقع بكثرة –والمجالس بالأمانة.
فأثرت أن أختم هذا المجلس بهذه القضية ونتبنى القول بالتحريم وظواهر النصوص تؤيده وهو أحد قولين في المسألة والأخذ به أولى وأبرأ للذمة والعلم عن الله جل وعلا.
الأحاديث الواردة في جامع الأصول 10/634.(87/126)
في المسند وأبي داود والنسائي في الكبرى والموطأ – والطيالسي والحميدي في مسنده والبيهقي في السنن. عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال سألت أبا سعيد الخدري عن الإزار فقال على الخبير سقطت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إزرة المؤمن إلى نصف الساق ولا حرج ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك فهو في النار ومن جر إزاره بطرا لم ينظر الله إليه يوم القيامة. هذا الحديث مروي بهذه الرواية عن عدة من الصحابة.
رواه النسائي في الكبرى عن أبي هريرة. وابن عمر- مع رواية أبي سعيد.
رواه في المسند والبيهقي في الشعب والضياء – عن أنس بن مالك.
والطبراني في الأوسط وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ولفظ رواية أنس. الإزار إلى نصف الساق فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال إلى الكعبين لا خير فيما هو أسفل من ذلك
الإزار إلى نصف الساق اشتد ذلك على بعض المسلمين يحتاج أحدهم إلى إطالته من أجل برد أو شيء من الآفة خموشة أو غير ذلك فيريد أن يطيل بحيث يصل إلى الكعبين لما اشتد ذلك قال إلى الكعبين لا خير فيما كان هو أسفل من ذلك رواية خامسة له عن عبد الله بن مغفل عن الطبراني في الكبير كما في المجمع 5/126 والفتح 10/257 خمس روايات إزرة المؤمن إلى نصف الساق ثم لا حرج عليه فيما بينه وبين الكعبين وما نزل عن ذلك فهو في النار.
حديث آخر: من رواية سيدنا حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو قال ساقه فقال: هذا موضع الإزار فإن أبيت فأسفل فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين وفي رواية لا حق للكعبين في الإزار – إذا أردت أن تنزل الإزار فأسفل بحيث لا يزيد عن الكعبين وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند وهو في السنن الأربعة إلا سنن أبي داود والترمذي في الشمائل والطيالسي في مسنده.(87/127)
رواية أخرى: عند البخاري والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أسفل الكعبين من الإزار في النار – وروى في المسند بسند رجاله ثقات عن أمنا الصديقة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ترتيب المسند 17/294.
رواية أخرى: في المسند وصحيح مسلم وأبي يعلى، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته ثم قال زد فزدت فما زلت أتحراها بعد فقال بعض القوم إلى أين قال إلى أنصاف الساقين.
حديث آخر: في المسند والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن إزاري يسترخي أحيانا يسترخي إلا أني أتعاهده فقال له عليه الصلاة والسلام إنك لست ممن يفعله خيلاء.
حديث آخر: روى الإمام أحمد والسنن الأربعة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فقالت أم سلمة رضي الله عنها فكيف النساء بذيولهن قال يرخين شبرا قالت إذا تنكشف أقدامهن قال يرخين ذراعاً لا يزدن. فهمت من الجر أنه مذموم مطلقا سواء من الرجال أو النساء خيلاء أو لا وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الفهم وإلا سيستوي الرجل مع المرأة إذا كان الجر من غير خيلاء لا حرج فيه. وحديث أمنا أم سلمة رضي الله عنها مباشرة بدون واسطة ابن عمر رضي الله عنها في الموطأ وسنن أبي داود والنسائي قالت حين ذكر الإزار فالمرأة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترخيه شبرا قالت إذا تنكشف أقدامهن قال يرخين ذراعاً لا يزدن عليه.(87/128)
حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنه. رواه النسائي وإسناده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا ينظر إلى مسبل وعند النسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن المغيرة بن شعبة قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهيل فقال يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين.
وكما ترون الأحاديث في ذلك مطلقة وما قيدت بشيء.
وروى أبو داود في سننه – والطيالسي في مسنده والبيهقي مرفوعا وموقوفا وكلا الروايتين صحيحة ثابتة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام وعلى الرواية الموقوفة ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي قاله في الفتح فله إذا حكم الرفع إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ليس من الله في حل ولا حرام وهذا يحتمل عدة أمور أظهرها وأوجهها أن هذا لا يؤمن بتحريم ولا بتحليل من قبل رب العالمين وعليه معنى الحديث لا يؤمن بالله وهذا أعظم ما يقال في الزجر والنهر ليس من الله في حل ولا حرام.
المعنى الثاني: ليس في حل مما فعل وما أحل الله له الإسبال وليس له عند الله احترام ومكانة ومنزلة.
والمعنى الثالث: لا يحله الجنة ولا يسكنه إياها ولا يحرم عليه النار. قال البيهقي عقيب هذا الحديث في الأحاديث الثابتة المطلقة في النهي عن جر الإزار دليل على كراهيته في الصلاة وغيرها.(87/129)
روى أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه والإمام أحمد والبيهقي عن بعض الأصحاب وفيه أبو جعفر المدني ورد في نعته أنه المؤذن قال الإمام المنذري إن كان هو محمد بن علي الإمام الباقر فالحديث منقطع وإلا فلا أعرفه وليس هو بالإمام الباقر لأنه نعت مدني مؤذن وما كان الإمام الباقر يؤذن رضي الله عنه وأرضاه وهذا روى له البخاري في الأدب المفرد وأهل السنن الأربعة وقال في التقريب مقبول –يقبل حديثه عند المتابعة ووجود شواهد له والإمام النووي في رياض الصالحين وهم فظن أن هذا الراوي محمد بن علي فقال صحيح على شرط مسلم على أنه من رجال مسلم وليس كذلك هو أبو جعفر المدني وليس بالباقر والمنذري عبارته أدق إن كان الباقر فالإسناد فيه انقطاع وإلا فلا أعرفه والإمام النووي يقول على شرط مسلم انظر الترغيب 3/92 ولفظ الحديث عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وبعض الصحابة.
قال: بينما رجل يصلي مسبلا إزاره رآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال إذهب فتوضأ فتوضأ ثم جاء وصلى على حالته قال إذهب فتوضأ ثم لما جاء تفطن لنفسه وعلم أن إزاره فيه إسبال فشمره ورفعه فصلى فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم قلت له إذهب فتوضأ ثم سكت عنه فقال كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة عبد مسبل إزاره قال في المجمع 5/525 رجاله رجال الصحيح كما فهم الإمام النووي والأمر ليس كذلك.(87/130)
قد يقول قائل لما أمره بالوضوء، الإسبال يورث الخيلاء والكبر وهو من صفات الشيطان والشيطان خلق من النار وتطفئ بالماء فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتوضأ لتلين طبيعته وليتذلل لربه فلما ما حصل هذا في المرة الأولى قال إذهب فتوضأ فذهب وتوضأ حصلت الليونة في المرة الثانية. والمؤمن خلق من طين ولذلك في الشتاء يرق قلبه وهكذا عندما يتوضأ يلين يستكين بذور الإيمان تقوى هو انتبه لنفسه وما أخبره نبينا عليه الصلاة والسلام عن إزاره لكن لما سأل قال كان يصلي وقد أسبل إزاره ولا يقبل الله صلاة عبد مسبل إزاره وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة من أناس أسبلوا أزرهم ونجزم يقينا ما فعلوه خيلاء لكن هذا في القلب ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن الإسبال كيفما كان فهو مذموم محرم وقصدت الخيلاء يزداد الإثم لم تقصد لازلت آثما.
ثبت في المسند والطبراني في الكبير رجاله رجال الصحيح المجمع 5/ 223. عن خريم بن فاتك والحديث رواه البخاري في التاريخ وأبن قانع والضياء في الأحاديث وابن منده في تراجم الصحابة أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال لخريم بن فانك لولا خصلتان لكنت أنت الرجل _ لولا خصلتان فيك لكنت نعم الفتى قال ما هما يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال توفيرك شعرك وإسبالك إزارك فجز شعره حتى بلغ أذنيه وقصر إزاره بعد ذلك.
والرجل لا ينبغي أن يطيل شعره حتى يصل إلى ظهره هذا من خلق النساء ولا ينزل الشعر عن الكتفين.(87/131)
في المسند بسند رجاله ثقات المجمع 5/124 عن عمرو الأنصاري قال بينما هو يمشي لحقه النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بناصية رأسه ثم قال أمامه اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك فقال يا رسول الله إني أحمش الساقين فقال نبينا عليه الصلاة والسلام وقد أحسن الله كل شيء خلقه ثم ضرب النبي عليه الصلاة والسلام بأربع أصابع من أكفه اليمنى تحت ركبة عمرو وقال هذا موضع الإزار ثم رفعها ثم ضرب بأربع أصابع أخرى تحت الأربع الأول قال هذا موضع الإزار ثم رفعها الثالثة ووضعها ثالثة تحت الثانية وقال هذا موضع الإزار لا زالت مرتفعة عن الكعبين وقال لا تزد على هذا وهذا الحديث رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن أبي أمامه رضي الله عنه فقال لحقني عمرو بن زرارة وذكر أن القصة معه وتقدم أنها كانت مع عمرو الأنصاري
وروى الإمام أحمد في المسند والطبراني في الكبير– ورواية المسند إسنادها صحيح عن الشريد بن سويد رضي الله عنه قال أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يجر إزاره فقال إرفع إزارك اتقي الله فقال يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي –والحنف احتداب وتقوس بحيث تميلان إلى الداخل – قال إرفع إزارك فكل خلق الله حسن فرفع إزاره بعد ذلك إلى أنصاف ساقيه.
هذا يدل على الإسبال بجميع الصور والأشكال ممنوع منه فإن قصد الكبر والخيلاء فهذا القصد محرم دون الإسبال وازداد البلاء بالإسبال في الفتح 10/263 قال الإمام الشافعي لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لست ممن يفعله خيلاء قال الحافظ قوله خفيف ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء فيختلف الحال فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظن فيه تحريم لا سيما إن كان على غير قصد كالذي وقع لسيدنا أبي بكر- ثم بين الحافظ أن المنع من الإسبال مطلقاً قد يتجه ويتقوى بعدة أمور(87/132)
أولها: في ذلك إسراف والله لا يحب المسرفين وقرر هذا بأدلة وبسط الكلام في ذلك الى10/264.
الثاني: فيه تشبه بالنساء فهذا من خصوصياتهن أن يرخى الإنسان إزاره بحيث ينزل عن الكعبين ترخيه شبرا إلى شبرين إلى ذراع.
الثالث: قد يتعلق من يمنع أنه من أجل صيانة الثوب عن النجاسة فلا تخلوا الأرض من نجاسة.
الرابع: أن الجر مظنة الخيلاء أهـ من الفتح.
الخامس: قلت يكفي أنه لا يتبع في ذلك خاتم الأنبياء وربنا سبحانه وتعالى حذر من ذلك ومنع منه. والحافظ ابن حجر 10/255 نقل أثر ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه كان يكره جر الإزار قال: يريد إن انجر إزاره بغير اختياره مع ذلك يكره هذا ثم تمادى على ذلك.(87/133)
أما لو قصد هذا فهو أشنع وأخبث. قال ولم يتداركه وهذا متفق عليه وإن اختلفوا هل الكراهه فيه للتحريم أو للتنزيه ثم ختم المسألة بقول الإمام ابن العربي: الإسبال يستلزم جر الإزار وهو يستلزم الخيلاء ولو لم يقصد الخيلاء وهذا موجود في العارضة 7/238 يقول في العارضة: لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أتكبر فيه لأن النهي تناوله لفظا ولم يتناول علته ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكما فيقال إني لست ممن يمتثله لأن العلة ليست فيَّ فإنه مخالفة للشريعة ودعوى لا تسلم له بل من تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعاً ونظير هذا في السير 3/233 ترجمه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين يقول: عن هلال ابن خباب عن قزعة رأيت على ابن عمر ثياباً خشنة فقلت له إني قد أتيتك بثوب لين مما يصنع بخراسان وتقر عيناي أن أراه عليك " أهدى له ثوبا " فقال أرنيه فلمسه قال: أحرير هذا قلت لا إنه من قطن قال إني أخاف أن ألبسه أخاف أن أكون مختالاً فخورا وهذا في الحلية 1/302 قلت (الذهبي) كل لباس أوجد في المرء خيلاءاً وفخراً فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف (ثوب واسع طويل الأكمام) بفروق أثمان أربعمائة درهم ونحوها. والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر فإن نصحته برفق كابر وقال ما في خيلاء ولا فخراً.(87/134)
وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه وكذلك ترى الفقيه المترف إذا لين في تفصيل فرجية تحت كعبيه وقيل له قد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار " فيقول إنما قال هذا فيمن جر خيلاء وأنا لا أفعله خيلاءاً. فتراه يكابر ويبرأ نفسه الحمقاء ويعمد إلى نص مستقل عام فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء ويترخص بقول الصديق رضي الله عنه إنه يا رسول الله يسترخي إزاري فقال صلى الله عليه وسلم لست ممن يفعله خيلاء. فقلنا أبو بكر لم يكن يشد إزاره مسدولا على كعبيه أولا بل كان يشده فوق الكعبين ثم فيما بعد يسترخي وقد قال رسول الله صلى الله علية وسلم "إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقه لا جناح عليه فيما بين ذلك وبين الكعبين" وتقدم من رواية خمسة من الصحابة ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مفضية إلى الكعبين ومنه طول الأكمام زائدا لأن الإسبال في الإزار والقميص والعمامة وكل منهي عنه. قال وتطويل العذبة وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس.(87/135)
روى أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الإسبال في ثلاثة في الإزار والقميص والعمامة. ومن جر منها شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" جامع الأصول 10/638 قال وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس وقد يعذر الواحد منهم بالجهل والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة فإن خلع على رئيس خلعة سيراء من ذهب وحرير وقندس يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها. النهي عن جلود السباع ولبسها الحديث صحيح في الأربعة إلا ابن ماجه. وفي المستدرك والبيهقي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع وفي رواية عن افتراشها من رواية أبي المليح ابن أسامة ابن الهذيل عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين وروى البيهقي من رواية المقدام ابن معديكرب أنه قال لمعاوية أنشدك الله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع وعن الركوب عليها قال نعم والحديث صحيح. إذا قال الشخص يسحبها ويختال فيها ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات خلع عليه خلعة لأنه أخذ منصبا ووظيفة في الدولة لاسيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مكس أو ولاية شرطة فليتهيأ للمقت والذل والإهانة والضرب وفي الآخرة أشد عذابا وتنكيلا.(87/136)
ومن السلامة ألا تهنئ أحد في تدريس أو إفتاء أو أي منصب فأنت لئلا تشارك تجاهل قال الذهبي: فرضي الله عن ابن عمر وأبيه وأين مثل ابن عمر في دينه وورعه وتألهه وخوفه من رجل تعرض عليه الخلافة فيأبى والقضاء من عثمان فيرده والنيابة للشام لعلي فيهرب منه فالله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب – هذا الكلام لا بد أن نعيه إذا كان في المسألة قولان واحد منهما أحوط ويشهد له الدليل ويحجز العامة عن معصية الله الجليل فالقول به متعين هذا حق وذاك كيفما كان حاله فهو حق لكن الأحقية هنا أحوط وأثبت وأقوى وفيها براءة للذمة وما أحد قال أن جر الإزار من غير خيلاء مباح ومن باب أولى ما قال أحد أنه مستحب ومن باب أولى ما قال أحد أنه واجب وأما التقصير فكلما قصرت فهو مستحب فإذا أنت عندما تمنعهم من الإسبال ما عصيت لا زلت تحافظ عليهم وعلى دينهم وعندما ترخصت هذا سيدعوهم فالإسبال من هذهة الخيلاء والحافظ ابن حجر ختم البحث بذلك قال الخيلاء تلازم الإسبال وكونه يسبل ويقول أنا لا أختال لا يصدق وقد واحد من ملايين يكون فيه هذا الأمر والخشية من الله عز وجل ولكن الكل يسبل على أنها عادة كبر وأنه شيء محمود ينبغي أن يفعله وتراه يمتهن من يقصر الثوب فهذه بلية والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.(87/137)
حياة الأنبياء في البرزخ
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
حياة الأنبياء في البرزخ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تقدم معنا أن أسباب سوء الخاتمة كثيرة متعددة، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة بفضله ورحمته، وقلت إن هذه الأسباب مع كثرتها وتعددها يمكن أن ترجع إلى سببين اثنين.(88/1)
أولها: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان، فمن أمن على إيمانه أن يسلبه سلبه عند موته،
والسبب الثاني: من أسباب سوء الخاتمة اغترار الإنسان بحالته الحاضرة والغفلة عما فيه من بليات مهلكة مدمرة والعجب بما يصدر عنه من طاعات ناقصة قاصرة،
والبليات التي في الإنسان وتوجب له سوء الخاتمة عند فراق هذه الدار كثيرة يمكن أن تجمل في ثلاث بلايا.
1- البلية الأولى النفاق.
2- والبلية الثانية البدعة.
3- والبلية الثالثة الركون إلى الدنيا.
وقد تقدم معنا ما يتلعق بالنفاق وما قبله وشرعنا إخوتي الكرام في مدارسة ما يتعلق بالبدعة وقلت سنتدارسها ضمن ثلاث مراحل.
1 – المرحلة الأولى في تعريف البدعة.
2- المرحلة الثانية في النصوص المنفرة المحذرة من البدعة.
3- والمرحلة الثالثة في أقسام البدعة.
ولازلنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث الثلاثة في تعريف البدعة، وقد مضى معنا تعريف البدعة فقلت إن البدعة هي الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان إذا لم تشهد لذلك نصوص الشرع الحسان، مع زعم المحدث لم أحدثه بأنه يتقرب به إلى الرحمن، هذا هو حد البدعة ورسمها، وعند هذا الحد والتعريف والضابط تعرضت لأمر ينبغي أن نعيه دائماَ لا سيما في هذا الوقت، ألا وهو انحراف كثير من الناس، وفريق أيضاً قصروا وفرطوا وقالوا لا بدعة في الدين، فابتدعوا في الشرح ما لم يأذن به رب العالمين.(88/2)
وكل من الفريقين على ضلال، ودين الله بين الغالي والجافي ولا إفراط ولا تفريط، وكنا نناقش بعض ما زعمه بعض الناس من أنه بدعة ولا ينطبق عليه مفهوم البدعة وحدها ورسمها، وقلت مراراً إخوتي الكرام كل ما احتمله الدليل وقال به إمامٌ جليلٌ فلا يجوز أن نحكم عليه بأنه بدعة في شرع اللطيف الخبير، وضربت لذلك أمثلة، وقلت إن أهل الشطط في هذه الأيام وسَّعوا مفهوم البدعة فما احتمله الدليل وقال به إمامٌ جليل قالوا إنه بدعة بل ما صرح به الدليل وما راق لعقلهم الهزيل قالوا إنه بدعة، وضربت لذلك أمثلة إخوتي الكرام فيما مر.
وكنا نتدارس قضية من القضايا حكم عليها بالبدعة، سأكملها في هذه الموعظة.
تقدم معنا إخوتي الكرام ما يتعلق بقراءة القرآن على القبور وما يتعلق بتلقين الميت، وما يتعلق بالقضية الثالثة ألا وهي أن الموتى يحسّون بما يجري حولهم ويعلمون ويشعرون بمن يزورهم ويسمعون ما يقال حولهم وعندهم، وتعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم.
تقدم معنا تقرير هذا بأدلته وفصلت الأدلة على ذلك وأجملها في هذه الموعظة مختصرة، فقلت صرح نبينا - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما تقدمت معنا الأحاديث وأذن فما بزيارة القبور، ولا يمكن أن نزور جماداً لا يعي ولا يسمع ولا يشعر ولا يحس، وقد صرح النبي عليه الصلاة والسلام بأن الميت يعرف من زاره ويرد عليه سلامه.
والأمر الثالث: قلت ما شرع لنا من سلام نقوله على الأموات هذا يكون في حال مخاطبة من يعقل ويسمع ويدرك ويشعر، ويتنزه الشرع الحكيم أن نخاطب جماداً بهذا الألفاظ، السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين.
هذه القضية إخوتي الكرام كما تقدمت معنا دلت عليها النصوص الشرعية، ووجد في هذا العصر من يقول: (إن القول بأن الموتى يسمعون ويشعرون ويحسون ويعلمون بمن زارهم " بدعة وتحريف " سبحان ربي العظيم،(88/3)
إخوتي الكرام: إن المؤمنين بعد موتهم في حياة برزخية، والحياة البرزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا رب البرية، نعم نحن نثبت ما أثبتته النصوص الشرعية وردت به الآثار السلفيلة، ونفوض العلم بالكيفية إلى رب البرية جل وعلا.
وتقدم معنا أن الآثار دلت على ما تقدم فينبغي أن نقول بذلك، فهذا من باب الإيمان بالغيب، وإدخال العقل في مسائل الغيب من أشنع العيب، وإن هذا تطاول على الرب جل وعلا، فإذا أخبرنا من لا ينطق عن الهوى نبينا فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا - صلى الله عليه وسلم - إذا أخبرنا بهذه القضية وأن الأموات يسمعون ويشعرون بمن يزورهم ويردِّدون عليه السلام فلا كلام لمتكلم بعد كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: وهذا الأمر إذا ثبت للمؤمنين فهو ثابت عن طريق أكمل والحياة الأفضل للنبيين ولنبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - من ذلك قسط عظيم، يتناسب بمقامه عند رب العالمين.
وسنتداري في هذه الموعظة أمرين اثنين يتعلقان بهذا المبحث.
الأمر الأول: فيما يتعلق بأحوال أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام في البرزخ وفي أن ما ثبت للمؤمنين يثبت لهم عن طريق الأكمل والحياة الأفضل، ثم أختم هذه الموعظة بدفع إشكال تعلق به أهل الفهم المعكوس وأكثروا بفهمهم المعكوس من الشغب حول ما ثبت من النصوص.(88/4)
إخوتي الكرام: أما ما يتعلق بالقضية الأولى، فإذا كان المؤمنون كما تقدم معنا يحسُّون في حياتهم البرزخية ويشعرون بمن زارهم ويسمعون الكلام الذي يقال عندهم، وتعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، ويتزاورون فيما بينهم فإن هذا ثابت عن طريق الأكمل والأفضل والأثم والأحسن لأنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه، وقد خصهم الله تعالى بخصائص كثيرة في الحياة البرزخية كما خصهم في الحياة الدنيوية، فمن ذلك أن أبدانهم الشريفة الطاهرة الطيبة المباركة لا تفنى ولا يمكن لأرضٍ أن تأكل بدن نبي، وأما من عداهم فالأصل أن تأكل أبدانهم، وإذا أراد الله أن يكرم ولياً من أوليائه وصالحات عباده بعدم تسليط الأرض على بدنه فهو على شيءٍ قدير، أما الأنبياء، فالأرض لا تأكل أبدانهم باتفاق.
وقد ثبت هذا عن من لا ينطق عن الهوى عن نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وإسناده صحيحٌ كالشمس، صححه شيخ الإسلام الإمام النووي وهكذا الإمام المنذري والسيوطي وغيرهم من أئمة المسلمين الجهابذة المحدثين ولفظ الحديث عن أوس بن أوس قال سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: [إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، وفيه تقوم الساعة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه.. على نبينا صلوات الله وسلامه.. فإن صلاتكم معروضة عليَّ، قالوا وكيف تعرض عليك صلواتنا يا رسول الله وقد أرمت؟] أي بليت وتفتتت عظامك وبلي جسدك الشريف، وقد أرمَّت: أي أرمَّت عظامك وبليت، وقد أرمَّت أي منك العظام وتفتتت، [قال: إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء] .(88/5)
وقد تقد معنا إخوتي الكرام ما يتعلق بهذا الحديث من قصة وقعت في القرن السادس الهجري مع ليث الملوك وتقيهم العبد الصالح نور الدين الشهيد محمود زنكي المتوفي 569هـ، تقدم معنا قصة طريقة ضمن مباحث النبوة، خلاصتها أنه عند ما جاء ما بعض النصارى واستوطنوا المدينة المنورة وأظهروا الإسلام وهم يبطنون الكفر ثم بدؤوا بعد ذلك يحفرون من مكان قريب من جوار مسجد نبينا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - ليصلوا من تحت الأرض في سرداب إلى بدنه الطاهر المبارك فظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا لهذا الملك العادل الصالح تقي الملوك وليثهم نور الدين الشهيد وقال له يا محمود أنقذني خلّصني من هذين ويشير إلى رجلين بعلامات عرفها هذا العبد الصالح، وكان أميراً في بلاد الشام، ورأى هذه الرؤيا ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول أنقذني ثم نام وهو فزع لا يعلم المراد فرأى النبي عليه الصلاة والسلام ثانية ويقول خلصني من هذين ثم نام الثالثة وهو فزع ولا يعلم المراد فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول خلصني من هذين، فجمع الشيوخ في وسط الليل وما طلع الفجر، وعرض عليهم ما رآه وقالوا: طرأ طارئ في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه فينبغي أن تركب لتتحقق من الخبر، فما طلع الفجر ولا أذن الصبح، فركب خيله وسار الجيش معه حتى وصل إلى المدينة المنورة، وأمر بأن يحضر جميع أهل المدينة للقائه، فلم ير الصفة التي رآها في النوم في الرجلين اللذين يطلب نبينا - صلى الله عليه وسلم - من هذا الأمير الصالح أن يخلصه منها، فقال: هل بقي من أحد: قالوا: رجلان مجاوران فقيران مسكينان، قالوا: عليَّ بهما، فلما دخلا أشار إلى صاحبه، فقبض عليهما، ثم حقق معهما، وقد استأجرا داراً قرب مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام، ويحفران من الداخل وينقلان التراب في الليل إلى البقيع، ليصلا إلى جسد نبينا الحبيب الشفيع عليه صلوات الله وسلامه، فضرب رقابهما وكرَّ(88/6)
راجعاً إلى بلاد الشام، رحمة الله ورضوانه عليه، [إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء] .
نعم إخوتي الكرام الأرض لا تأكل أبدانهم وخصَّهم الله بخصائص في عالم البرزخ، فهم يصلون في قبورهم ويعبدون ربهم سبحانه وتعالى، لأن أعظم نعيم يتنعم به الإنسان في كل حين ذكر رب العالمين، ولذلك يعطي الله أنبياءه التلذذ بذكره في عالم البرزخ كم يعطي ذلك من شاء وأحب من عباده، وأما من دخل الجنة فيتلذذون بذكر الله بعدد أنفاسهم، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس، فهذه أعظم لذة يتلذذ بها المتلذذون ذكر الحي القيوم، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ، فقرة العين تكون عند مناجاة رب الكوْنين، فكيف يحرم الله أنبياءه منها؟.
وقد ثبت هذا في عن نبينا عليه الصلاة والسلام ففي مسند أبي يعلى والبزار وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع، إسناد الحديث رجاله ثقات، والحديث رواه البيهقي في كتاب حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ورواه ابن عدي وابن عساكر والإمام أبو نعيم في تاريخ أصبهان ورواه ابن مندة، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون] .
نعم كيف يحرمون هذه اللذة التي يناجون بها الحي القيوم، وفي حديث الإسرار الثابت في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن النسائي ورواه الإمام عبد الرزاق في مصنفه فهو في صحيح مسلم من رواية أنس بن مالك أيضاً عن النبي قال: [مررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائمٌ يصلي في قبره] على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فأبدانهم لا تأكلها الأرض، وهم أحياء بين يدي الله تعالى، يصلون له ويعبدونه ويتلذذون بعبادته في عالم البرزخ، كما كانوا يتلذذون بعبادته في عالم الحياة الدنيا.(88/7)
إخوتي الكرام: وهذا الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد كرم الله به بعض أوليائه وهو الفعال لما يشاء، قد أكرم الله كثيراً من الصالحين في هذه الأمة بهذا فكانوا يصلون في قبورهم وتسمع قراءة القرآن من قبورهم إذا مر الإنسان بجوارهم ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد بن حنبل، والأثر رواه ابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة في مصنفه، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية أيضاً ورواه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير في تهذيب الآثار والإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ عن التابعي الجليل تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه ألا وهو ثابت البناني من مفاتيح الخير ومن العلماء الربانيين وممن يستشفى بذكرهم وتتنوّر القلوب بطلعتهم ثابت بن أسلم البناني توفي سنة بضع وعشرين بعد المائة من هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام قيل 123هـ وقيل 127هـ وأحاديثه في الكتب الستة، شيخ الإسلام ثابت بن أسلم البناني قال مرة لحميد الطويل: يا حميد أتعلم أن الله أعطى أحدا الصلاة في قبره غير الأنبياء والمرسلين؟ قال ما أعلم ما بلغني هذا، فقال ثابت بن أسلم (اللهم إني أسألك إن أعطيت أحداً من خلقك الصلاة في قبره أن تعطيني ذلك) وكان يدعو بذلك ويلهج به، فلما قبض ودفن بالبصرة ما مر أحدٌ بجوار قبره إلا سمع قراءة القرآن من قبر هذا العبد الصالح شيخ الإسلام ثابت ابن أسلم البناني.(88/8)
وهذا الأمر إخوتي الكرام وقع في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعرض عليه فأقره، فاستمعوا له، ثبت في سنن الترمذي والحديث رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس رضي الله عنهما، والأمر اختلف حكم الترمذي عليه حسب اختلاف الطبعات التي بين أيدينا، ففي بعض الطبعات " حسنٌ غريب " وفي بعضها " غريب " وفيه يحيى بن عمرو النُكري وهو من رجال الترمذي فقط، وقد حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه ضعيف لكن الإمام النووي (1) (1) في دلائل النبوة بعد أن رواه وقال انفرد به يحيى بن عمرو النكري قال يشهد له أثر عبد الله ابن مسعود، وسأبين ما يشهد له من أثر عبد الله بن مسعود ومن غيره ما هو مرفوع إلى نبينا المحمود - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الحديث في سنن الترمذي ودلائل النبوة للإمام البيهقي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (ضرب رجل خباءه في عهد النبي عليه الصلاة والسلام على قبرٍ وهو لا يحسب لا يحسب أنه قبر، هو في سفر، فضرب خباءه: أي خيمته ليستريح، وإذا هذا الخباء قد نصب على قبر وهو لا يدري – من قبور الصحابة الذين كانوا يتوفون في بلاد المسلمين وأمصار المسلمين بين مكة والمدينة.
يقول عبد الله ابن عباس فلما ضرب خباءه ونزل سمع قراءة قرآن من القبر، فأصغى وإذا بقارئ يقرأ سورة الملك {تبارك الذي بيده الملك ... } فحوَّل خباءه وأصغى واستمع له يقرأ سورة الملك بصوت واضح مفهوم، فلما ذهب إلى المدينة المنورة عرض هذا الصحابي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حصل له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -[هي المانعة وهي المنجية تنجي من عذاب القبر] هي المانعة هي المنجية تنجيه (سورة الملك) من عذاب القبر.
__________
(1) - لعله البيهقي(88/9)
والحديث كما قلت إخوتي الكرام فيه يحيى بن عمرو النكري لكن القسم المرفوع منه ثبت ما يشهد له مرفوعاً وموقوفاً ما له حكم الرفع في آثار كثيرة صحيحة ثابتة شهيرة منها ما ثبت في المسند والسنن الأربعة والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك ورواه البيهقي في شعب الإيمان وابن الضريس في فضائل القرآن ورواه ابن مردويه في تفسيره وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجلٍ حتى غفر الله له، هي سورة الملك] وكما قلت الحديث صحيح، وثبت أيضاً مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية أخرى من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، روى ذلك الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والصغير وإسناده صحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره، وهو حديث صحيح أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [سورة من القرآن ما هي إلا ثلاثون آية خاصمت عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، هي سورة الملك] .
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرواية المتقدمة هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر، وهذا المعنى صحيح، ثابت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن سورة الملك لها هذه الخصيصة العظيمة الجليلة بأن من واظب على قراءتها لاسيما كما سيأتينا في كل ليلة وعمل بموجبها وفهم معناها تنجيه بفضل الله جل وعلا من عذاب القبر ويدفع عنه عذاب القبر بسببها.
هذان الحديثين صحيحان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يشهدان لرواية عبد الله ابن عباس المتقدمة.(88/10)
وكما قلت روي الأثر موقوفاً كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام الإمام البيهقي وروي الأثر موقوفاً عن عبد الله ابن مسعود في معجم الطبراني الكبير والأوسط وسنن النسائي وتفسير ابن مردوية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال كنا نسميِّ سورة الملك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمانعة تمنع عذاب القبر، مَنْ قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب، هي المانعة تمنع عذاب القبر، والأثر بإسناده صحيح عن عبد الله بن مسعود، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وثبت في معجم الطبراني الكبير ومستدرك الحاكم وشعب الإيمان للإمام البيهقي ودلائل النبوة له، وهو الأثر الذي ذكره بعد أثر عبد الله بن عباس وقال يشهد له، والأثر رواه ابن مردوية في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال (يؤتى بالرجل في قبره من قبل رجليه: أي تأتي ملائكة العذاب لتباشر تعذيبه من قبل رجليه، فتأتي سورة الملك فتقول: إليكم عنه، فليس إليه سبيل فقد هاتان الرجلان تقومان عند قراءة سورة الملك عند قراءته في الليل، ثم تأتي الملائكة من قبل صدر هذا الإنسان المقبور، فيقال إليكم عنه فإنه كان يقرأ به: أي بصدره سورة الملك، فتأتي من قبل رأسه، وهكذا من سائر جوانبه، فيقال إليك عنه وليس لك إليه سبيل من هذه الجهة إنه كان يقرأ سورة الملك.
قال عبد الله ابن مسعود، هي المانعة تمنع عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ... ) .
إذاً هذه كرامة يمكن أن يكرم الله بها غير أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فيكن لكثير من الصالحين أن يصلوا في قبورهم وأن يتلذذون بذكره جل وعلا.(88/11)
إخوتي الكرام: وبالنسبة لسورة الملك يستحب للإنسان أن يقرأها في كل ليلة والذي أدركت عله الشيوخ الصالحين أنهم يوصون تلاميذهم وأصحابهم بقراءتها في كل ليلة وهذا كما قلت مأثورٌ عن الصحابة الكرام، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، سورة الملك شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب أهوال القبور صـ 68 (إن الله جل وعلا قد يكرم في البرزخ بعض عباده وأحبابه وأوليائه بالصلاة وقراءة القرآن وليس هذا من باب العبادة التي يثاب عليها الإنسان فالثواب قد انقطع لهذا الإنسان بواسطة عمله لأن عمله انقطع في دار التكليف، فهذا نعيم كما أنه يجعل قبورهم من رياض الجنة يتلذذون حتى يبعثون، أيضاً يجعلهم يتنعمون بالصلاة وبذكر الله جل وعلا حتى يلاقوا ربهم، فهذا من باب النعيم، لا من باب العبادة التي يقومون بها ويثابون عليها كما هو الحال في الحياة الدنيا) .
هذا كما قلت إخوتي الكرام يذكره شيخ الإسلام الإمام ابن رجب الحنبلي توفي سنة 795هـ، هو من تلاميذ الإمام ابن القيم رحمه الله.
إذاً الأنبياء على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه لا تأكل الأرض أبدانهم وهم أحياء في قبورهم يصلون ويعبدون الحي القيوم.
نعم إخوتي الكرام: وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن سلامنا وصلاتنا عليه - صلى الله عليه وسلم - تبلغانه، يبلغه سلامنا وصلاتنا، ويرد علينا أينما صلينا عليه وسلمنا عليه صلوات الله وسلامه، والأحاديث في ذلك صحيحة كثيرة متواترة أقتصر على ثلاث منها.(88/12)
ثبت في المسند وسنن أبي داود بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً] : أي لا يقبر الإنسان في البيت الذي يسكن فيه فهذا منهي عنه، يقبر في المقبرة، ومن خصائص الأنبياء أنهم يُقبرون حيث يموتون، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً معطلة من العبادة وقراءة القرآن، فأكثروا فيها من قراءة القرآن لئلا يكون حالكم فيها كحال الأموات الذين انقطعت أعمالهم، [لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم] وهذه الصلاة إذا بلغت نبينا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه فهو يردَّ عليها ويسلم علينا، كما أننا إذا سلمنا على الأموات يردِّدون علينا السلام فنبينا عليه الصلاة والسلام يسمعنا من باب أولى ويردَّ من بابٍ أولى.
ثبت هذا في المسند أيضاً وسنن أبي داود والسنن الكبرى للإمام البيهقي وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [ما من أحدٍ من أمتي يسلم عليَّ إلا بلغتني صلاته ورددت عليه] والحديث كما قلت أيضاً إسناده صحيح، وروى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسندٍ لا بأس به كما قال شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب من رواية أنسٍ ابن مالكٍ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من صلى عليَّ بلغتني صلاته وصلَّيت عليه وكتب الله له عشر حسنات سوى ذلك] .
إذاً أيضاً هذا يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعرف من يسلم ويصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - ويرد عليه السلام والصلاة.(88/13)
نعم إخوتي الكرام وهكذا تُعرض أعمالنا على نبينا عليه الصلاة والسلام في كل يوم مرتين في الغداة والعشيِّ وتعرض الأمة على إمامها نبينا عليه الصلاة والسلام فإذا عرضت هذه الأمة وأعمالها على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم البرزخ ورأى خيراً منهم حمد الله، وإن رأى سوءاً وشراً استغفر الله لهم.
نعم إن بركة نبينا - صلى الله عليه وسلم - دائمة متصلة لا تنقطع لا في حياته ولا بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في مسند البزار عن عبد الله ابن مسعود والحديث صححه حفاظ جهابذة منهم:
- الإمام الهيثمي
- شيخ الإسلام زين الدين العراقي
- ولي الدين العراقي
- الإمام السيوطي
- الإمام الزرقافي
- الإمام الزبيدي
وهو حديث صحيحٌ صحيح عن نبينا عليه صلوات الله وعليه سلامه، أنه قال: [حياتي خيركم تحدثون ويحدث لكم] ، أي تسألون وينزل الوحي بالجواب وتقع لكم حوادث ومسائل وينزل الوحي ببيان حكم الله فيها، [تُحدِثون ويُحدَثُ لكم ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خيرٍ حمدتُ الله وما رأيت من شرٍ استغفرت الله لكم] .
والحديث إخوتي الكرام رُوي عن أنسٍ أيضاً في مسند الحارث بن أبي أسامة ورواه ابن عدي عن أنسٍ لكن بإسناد ضعيف ن وروي عن بكر بن عبد الله المزني وهو من التابعين الكرام توفي سنة 106هـ شيخ الإسلام ثقة ثبت رضى حديثه في الكتب الستة، عن بكر بن عبد الله المزني بسندٍ صحيح على شرط الشيخين، في كتاب طبقات الإمام ابن سعد وفي كتاب القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، فالحديث صحيح وفيه: أن أعمال هذه الأمة تعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن رأى خيراً حمد الله عليه وإن رأى شراً استغفر الله لأمته.
وقد بوَّب أئمتنا على هذا الحديث أبواباً لطيفة دقيقة ظريفة تطير القلوب فرحاً بعناوينها.(88/14)
فهذا شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في مجمع الزوئد يبوب على الحديث فيقول (باب ما يحصل لأمته من استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم لها لأمته بعد موته) .
وبوَّب عليه في كتاب كشف الأستار عن زوائد الإمام البزار، قال: (باب ما يحصل للأمة بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وموته) ، وبوَّب عليه الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب المطالب العالية فقال: (باب بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً) .
نعم إخوتي الكرام، تعرض أعمالنا على نبينا عليه الصلاة والسلام فإن رأى خيراً حمد الله وإن رأى غير ذلك استغفر الله لهذه الأمة المباركة المرحومة، فهو بنا رؤوفٌ رحيم وهذه الأمة كما تعرض أعمالها، تعرض هي أيضاً على نبينا بالغداة والعشي، فانظر يا عبد الله على أي حال ستعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
روى شيخ الإسلام الإمام ابن المبارك في كتاب الزهد والرقائق من زيادات نعيم بن حماد على روايات المروزي عن شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رضي الله عنهم أجمعين، وانظروا الأثر في صفحة 46 كما قلت من رواية نعيم في زياداته في روايات كتاب الزهد لشيخ الإسلام ابن المبارك عن سعيد بن المسيب وهو من أئمة التابعين قال: ليس يوم إلا ويعرض على نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمته بالغداة والعشيِّ ليشهد عليهم لأن الله يقول: {فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً، يومئذٍ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا} .
فليشهد نبينا - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة تعرض هذه الأمة على نبيها في كل يوم، في أول النهار وفي آخره، بالغداة والعشي، تعرض مرتين على نبينا عليه الصلاة والسلام وأعمالها تعرض عليه، فما رأى من خيرٍ حمد الله عليه، وما رأى من شرٍ استغفر الله لهذه الأمة ما وقعت فيه.
والحديث كما قلت إخوتي الكرام حديث صحيح (1) .
__________
(1) - بيدوا أن هناك خرماً وترقيقاً(88/15)
لا ثم لا، فالعبادة لا تكون إلا لرب النبي عليه الصلاة والسلام ولرب الخلق أجمعين فله الخلق والأمر وله العبادة وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى ونحن لا نتكلم في دين الله عن طريق آرائنا وأهوائنا، إنما أمر تكرم الله به علينا، وأخبرنا أننا إذا لم نلق نبينا عليه الصلاة والسلام فلم نحرم بركته فلنحمد الله على ذلك، إذا أكرم الله الصحابة الكرام برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغفار النبي لهم حياً، لا يعني هذا أن الصحابة كانوا يعبدون الني عليه الصلاة والسلام، فنحن إذ حرمنا إحدى الأمرين، حَرَمَنا الله وله الحكمة البالغة، من اكتحال أعيينا برؤية خير الخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، أنُحْرَمُ الفائدة الثانية، فلا يستغفر لنا النبي عليه الصلاة والسلام ولا نعرض عليه في عالم البرزخ وليس بيننا وبينه لقاء ولا اتصال؟ لا ثم لا، هو مبارك وبركة على هذه الأمة حياً وميتاً، وهو الذي أُرْسِلَ رحمةً للعالمين فكيف تُحرم أمته بركته بعد موته عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث كما قلت إخوتي الكرام إنه حديث صحيح وقد وصل الشطط بعض المتنطعين في هذا الحديث فقالوا: هذا حديث موضوع، والله إنه كلامٌ وضيع وما ينبغي أن يقال نحو حديث نبينا الحبيب الشفيع عليه الصلاة والسلام، حديث يثبت بسند على شرط الشيخين مرسلاً، ويثبت عن عبد الله بن مسعود متصلاً، ويصححه جهابذة المحدثين، ويروى من طريق أنس رضي الله عنه بسندٍ ضعيف، ثم يتجرَّأ من يتجرَّأ في هذا الوقت فيقول: (هذا حديث موضوع) .(88/16)
هذا كلام وضيع -كما قلت- وينبغي للإنسان أن يتقي ربه في كلامه، فكما أنه لا يجوز للإنسان أن يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز له أن يكذب كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز له أن يرد كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وأي محظور في معنى الحديث؟ وإذا كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لنا بعد موته، هل يلزم من ذلك أننا نعبده، وإذا كان يستغفر للصحابة في حال حياته هل يعني هذا أن الصحابة عبدوه من دون الله جل وعلا، لا ثم لا، إنما بشارة من ربنا، ومنحة من مولانا تكرم بها علينا وأظهر فضل نبينا عليه الصلاة والسلام فلنحمد الله على هذه النعمة الجليلة، اللهم إنا نسألك أن تعرضنا على نبيك عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة بخير صورةٍ يا رب العالمين، كما نسألك أن تشفعه فينا يوم الدين، وأن تجمعنا معه في جنات النعيم إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: هذا ما يتعلق بالأمر الأول في لمحة موجزة عن الحياة البرزخية التي تكون لأنبياء الله ورسله وهم خير البرية، على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.
وأما الأمر الثاني: دفع إشكال يثيره كثير من أهل اللغط والجدال في هذه الأيام ويقدمون فهمهم المعكوس على ما صرحت به النصوص ولا يعدمون بعد ذلك نصاً ظاهراً _ كما يقولون _ موهم، ثم بعد ذلك يتعلقون به ليقرروا قولهم، وليتهم فهموا تلك النصوص على حسب النصوص الواضحة الصريحة المحكمة، فإذا وجد في النصوص محكم ومتشابه ما يحتمل دلالة، وما يحتمل دلالتين، ينبغي أن نردَّ المتشابه إلى المحكم إذا كنا نؤمن بالله جل وعلا، وينبغي أن نفهم النصوص على ضوء بعضها لا أن يهمل النصوص الصحيحة الصريحة الدلالة، ثم لنأتي لنص عام ونقول: (هذا يدل على خلاف ما قلتم، وهذا النص يدل على أن الموتى لا يسمعون وأن الموتى لا يشعرون وأن الموتى لا يعلمون بما يجري حولهم ويدور) .(88/17)
إخوتي الكرام: تعليق هؤلاء ببعض آيات القرآن الكريم، منها: قوله تعالى {فتوكل على الله إنك على الحق المبين * إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} (1) ونظيره قول الحي القيوم في سورة الروم مع زيادة حرف واحد في الآية: {فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} (2) .
قال هؤلاء هاتان آيتان تدلان على أن الموتى لا يسمعون ولا يشعرون ولا يحسون ولا يدركون ولا يعلمون ولا يستبشرون بمن يزورهم ولا يسمعون الكلام الذي عندهم إنما هم بمنزلة الجماد، والآيتان تدلان على ذلك.
وكما قلت إخوتي الكرام فهم أعجمي منكوس أرادوا بعد ذلك أن يردوا به ما صرحت به الأحاديث الصريحة والنصوص.
هذه الآية لا تدل على أن الأموات لا يسمعون، لا ثم لا، وإيضاح هذا إخوتي الكرام هاتان الآيتان منحصر معناهما بمعنيين اثنين لا ثالث لهما، كما قرر أئمتنا الكرام في سائر كتب التفسير الحسان.
المعنى الأول:- وهو الذي عليه جمهور المفسرين، والقول الثاني يؤول إليه، ولا تعارض بينهما، كما سأبين بعد حين.. المراد من الموتى هنا موتى القلوب الذي لم يتنزهوا من العيوب وغضب عليهم ولعنهم علام الغيوب، المراد من الموتى موتى القلوب لا موتى الأبدان، {إنك لا تسمع الموتى} : أي من قلبه خرب عشعش الشيطان فيه، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} وهذا التفسير وهذا القول يقرره ويؤكده ويحتمه ثلاث أمور فانتبهوا إليها.
أولها: قرينة في الآية.
ثانيها: استقراء القرآن الكريم.
ثالثها: الغرض الذي من أجله سيقت هذه الآية.
__________
(1) - النمل (79 –81)
(2) - الروم (52 –53)(88/18)
أما القرينة في الآية التي تحتم هذا المعنى وتوجبه وتمنع غيره.. أن الله جل وعلا في هذه الآية قابل الإسماع المنفيِّ {إنك لا تسمع الموتى} بإسماع مثبت، فقال جل وعلا {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .
إذاً عندنا إسماعان، أحدهما منفي والآخر مثبت، وأصحاب هذين الإسماعين متقابلان متضادان، كحال هذين الإسماعين، هنا إثبات السماع وهنا نفي السماع، هنا {إن تسمع إلا من يؤمن بآيتنا} وهنا {إنك لا تسمع الموتى} .
لو كان المراد من الموتى موتى الأبدان لقال الله في الأسماع المثبت.. إنما تسمع من لم تمت أبدانهم، إنما تسمع من لم يقبروا، إنما تسمع من هم على قيد الحياة، لم قال في الإسماع المثبت {إن تسمع إلا من يؤمن بآيتنا} .. (غير واضح) وهم الذين لا يسمعون {إنك لا تسمع الموتى} إنك لا تسمع من يكفر بآيتنا، {إنما تسمع من يؤمن بآياتنا} ما ثبت لهذا ينفى عن هذا، فهنا أناس سمعوا مؤمنون مهتدون، وهناك كفار لم يسمعوا فإن قيل لنا: الكفار لا يسمعون؟ نقول: نعم لا يسمعون سماع انتفاع، ولا يسمعون سماع اهتداء، كما سيأتينا تقرير هذا بآيات القرآن الكثيرة، إنما هنا أذكر فقط القرينة التي تحتِّم هذا المعنى، فهم لهم مجرد السماع دون ما يترتب عليه من أثر الاتباع والاهتداء، {فإنك لا تسمع الموتى} إنك لا تسمع من مات قلبه إسماعاً يترتب عليه أثر من الانتفاع والاتباع والاهتداء، إنما ينتفع بالسماع منك ويهتدي ويتبعك {من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} وهذا في منتهى الجلاء والوضوح والظهور، فلو أراد الله من الموتى موتى الأبدان لقابلهم بما يقابلهم مما يضادِّهم فقال، إن تسمع إلا من كان حياً، إن تسمع إلا من لم يمت، إن تسمع إلا من لم يقبر، {فإنك لا تسمع الموتى} قوبل {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .
إذاً إخوتي الكرام: إسماع مثبت، وإسماع منفي، المثبت للمؤمنين، والنفي عن الكافرين، وهذا كما قلت قرينة في الآية.(88/19)
والدلالة الثانية: استقراء القرآن، القرآن عبَّر عن الكفار بأنهم موتى القلوب لا يعون بها ولا يفقهون، وهذا يقرره الله في آيات كثيرة ويخبر الله فيها عن الكفار بأنهم موتى، يقرر الله تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة إخوتي الكرام..
منها: قول الله جل وعلا في سورة الأنعام: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون * ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأي المرسلين * وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكوننَّ من الجاهلين * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبغثهم الله ثم إليه يرجعون} (1) .
والآية بإجماع من يعتد به من أئمتنا الكرام {إنما يستجيب الذين يسمعون} وهم المؤمنون الموحدون المهتدون، {والموتى} أي الكفار {يبعثهم الله} تعالى ليجازيهم على أعمالهم فإلى ربهم إيابهم وعليه حسابهم.
{إنما يستجيب الذين يسمعون} {والموتى} الكفار {يبعثهم الله ثم إليه يرجعون} ، وهكذا يقول الله جل وعلا، في آواخر سورة الأنعام أيضاً: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنك لمشركون * أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} .
{أو من كان ميتاً فأحييناه} : أي إماتته يراد بها إماتة البدن أو القلب؟ إماتة القلب التي إذا حصلت في الإنسان ترتب عليها غضب الرب، {أو من كان ميتاً فأحييناه} بنور العلم وهداية الإسلام {كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} .
__________
(1) - سورة الأنعام (33 – 36)(88/20)
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة فاطر: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير * وما يستوي الأعمى والبصير} الأعمى هو الكافر، والبصير هو المؤمن، {وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل} وهو الجنة {ولا الحرور} جهنم، {وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور * إن أنت إلا نذير} (1) .
{وما يستوي الأحياء} وهم المؤمنون الذين حييت قلوبهم بمعرفة ربهم وعبادته جل وعلا: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء} فهو الله الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة سبحانه وتعالى.
{وما أنت بمسمعٍ من في القبور} ممن ماتت قلوبهم، وصارت هذه القلوب في قبر من أبدانهم فهذه الأبدان صارت قبوراً لذلك الجنان، كما أن القبر في الأرض يصبح قبراً للأبدان، هنا الأبدان قبور للجنان والأرض قبور للأبدان، {وما أنت بمسمعٍ من في القبور} ، ولذلك قال: {إن أنت إلا نذير} : أي أنت عليك أن تبلغ دعوة الله، فالكافر يسمع ولا ينتفع والمؤمن يسمع وينتفع {وما أنت بمسمعٍ من في القبور} : أي من ماتت قلوبهم وقبرت في أبدانهم كما قال القائل:
وفي الجهل قبل الموت لأهله ... موت وأبدانهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة (يس) {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين * لينذر من كان حياً} ومن هو الحي هو المؤمن الذي حي قلبه بنور الإيمان {ويحق القول على الكافرين} : الكافرون هنا هم الذين قال الله في حقهم: {فإنك لا تسمع الموتى} ، {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} : أي على الميتين الذين يبعثهم الله ليحاسبهم على أعمالهم، {لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين} .
__________
(1) - سورة فاطر (18-24)(88/21)
والآيات في ذلك كثيرة، فاستقراء القرآن، وهي الدلالة الثانية إخوتي الكرام، تحتِّم هذا المعنى، وأن المراد من الموتى من ماتت قلوبهم، لا من ماتت أبدانهم، {إنك لا تسمع الموتى} لا تسمعهم إسماع إفهام وتدبر وانتفاع واهتداء، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} .
وهذا المعنى يقرره ويحتمه الدلالة الثالثة، ألا وهي الغرض الذي سيغت من أجلها هذه الآية،
هذه الآية إخوتي الكرام سيغت لتسلية نبينا عليه الصلاة والسلام فكان يحزن ويأسى لعدم إيمان الكفار به، وكان يضيق صدره ويتبع نفسه حسرات، والله جل وعلا سلاَّه بهذه الآيات، وقال له: هؤلاء ماتت قلوبهم وأمرهم إلى ربهم، وإذا لم يُرد الله هدايتهم فلن تستطيع أنت ولا غيرك هدايتهم، فعلام تحزن إذاً من أجلهم؟
إذاً، وهذا المعنى لا يتحقق إلا إذا قلنا إن المراد من الموتى موتى القلوب، وأما موتى الأبدان فهو ليس بمكلف بإنذارهم وتبليغهم دعوة ربهم جل وعلا، إنما هو ينذر الأحياء، لكن هؤلاء يسمعون ولا ينتفعون، فكان يحزن نبينا عليه الصلاة والسلام فسلاَّه الله بهذه الآيات، كما قال الله تعالى في آخر سورة الحجر: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (1) ، ومثل هذا قوله تعالى في سورة فاطر: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} (2) .
__________
(1) - سورة الحجر (97 –99)
(2) - سورة فاطر (8)(88/22)
ومثل هذا قول الله جل وعلا في سورة المائدة: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمَّعون للكذب سمَّعون لقومٍ آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه بقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً، أولئك الذين لم يرد الله أيطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} (1) إلى آخر الآيات، وهذه كلها تسلية لخير المخلوقات - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا قوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين} (2) .
وهكذا قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (3) .
هذه كما قلت إخوتي الكرام، ثلاث دلالات تقرر هذا المعنى ألا وهو أن المراد بالموتى في قوله جل وعلا: {إنك لا تسمع الموتى} موتى القلوب، لا موتى الأبدان، لا تسمعهم إسماعاً يترتب عليه الأثر من الاتباع والانتفاع والاهتداء.
هذا المعنى الأول: وكما قلت، ذهب إليه جمهور المفسرين.
المعنى الثاني: هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاويه 4/299، 24/330، ومآل هذا القول إلى القول الأول، قال: (إن المراد من الموتى هنا موتى الأبدان، لكن هذا مثل ضرب لموتى القلوب، فالله تعالى يقول لنبييه - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - سورة المائدة (40 – 41)
(2) -سورة النحل (36 – 37)
(3) - سورة القصص (56)(88/23)
كما أنك لا تسمع من ماتت أبدانهم وقبروا في الأرض إسماعاً يترتب عليه الأثر، فهم يسمعون لكن لا يستطيعون أن يؤمنوا ولا أن ينتفعوا بهذا السماع ولو أتيت إلى كافر وقرأت عليه القرآن، وأسمعته كلمة التوحيد لسمع، لكن حيل بينه وبين العمل، فهو في دار انقطع فيها العمل والتكليف، فالميت يسمع لكنه بهذا السماع لا يهتدي ولا ينتفع ولا يستطيع أن يعمل.
وهكذا هؤلاء الذين ماتت قلوبهم يسمعون كما يسمع الموتى من الكافرين ولا ينتفعون، فالله جل وعلا يقول له: {إنك لا تسمع الموتى} : أي حال هؤلاء الأحياء كحال من قُبر، ذاك يسمع ولا ينتفع وهذا يسمع ولا ينتفع، فآل معنى هذا إلى المعنى الأول الذي ذكرناه، وهو عدم نفي السماع عن الأموات إنما هذا تشبيه، كما أن من مات بدنه يسمع ولا ينتفع، يسمع ولا يتبع، يسمع ولا يستطيع أن يثوب، لأنه حيل بينهم وبين العمل، فالكافر كذلك منزلته بمنزلة هذا الميت الذي مات بدنه، ماله من السماع إلا السماع الذي لا يترتب عليه أي أثر، {إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين} إذا قلنا موتى الأبدان فنقول هذا مثل لموتى القلوب، فمآل هذا إلى ما تقدم، ولذلك إخوتي الكرام شاع عند العرب واستفاض واستعملوه في ألسنتهم نفي الحاسة عن الإنسان إذا لم ينتفع بها، فيقولون إنه أعمى لمن لا ينتفع بعينية، وإنه أصم لمن لا ينتفع بأذنيه، وإنه ميت القلب لمن لا يعي ولا يفقه بقلبه ولا يتبع الهدى، هذا مستعمل عند العرب بكثرة، ولذا يقول قعنب بن ضمرة، وهو من الشعراء (م 95) ويقول له ابن أم صاحب:
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذُكرتُ بسوء عندهم أذنوا(88/24)
نفى السماع عنهم ووصفهم بالصمم، ثم قال: إذا ذكر عندهم بسوء أذنوا أي استمعوا كقول الله في سورة الانشقاق {إذا السماء انشقت وأذنت} : أي استمعت {وأذنت لربها وحقت} ، إذا سمعوا السوء آذنوا، إذا سمعوا الخير صم، فوصفهم بالصمم لأنهم لا يستمعون ما ينفعهم، وهذا المعنى قرره الله تعالى في آيات كثيرة فقال تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} (1) أي حالك مع الكفار عندما تدعوهم لاتباع شريعة اله جل وعلا حالُك كحالك عندما تدعوا الحمار تماما، فالحمار لا يسمع منك إلا أصواتاً لا يعي مدلولها، وهؤلاء كذلك.
{ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق} : أي يصيح ويرفع صوته بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، لا تسمع البهائم منك إذا ناديتها إلا أصواتاً تصيح بها، وهكذا الكفار تتلى عليهم آيات العزيز القهار فلا يعونها ولا يفقهونها، {صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون} ،، {صمٌ} لا سمع عندهم {بكمٌ} لا كلام ولا وعي {عميٌ} في أبصارهم فلا يبصرون، ثم بعد ذلك قلوبهم ميتة لا يعقلون.
وليس المراد نفي العقل عنهم ونفي هذه الجوارح وإلا لارتفع التكليف ومثل هذا قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (2) .
ومثل هذا قوله تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} (3) .
__________
(1) - سورة البقرة (171)
(2) - سورة الأعراف (179)
(3) - سورة الفرقان (44)(88/25)
ومثل هذا قوله تعالى في سورة الأحقاف بعد أن ذكر إهلاكه لقوم عاد: {فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا * بل هو مستعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليم * تدمر كل شيءٍ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين * ولقد مكنَّهم فيما إن مكنَّكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} (1) .
ومثل هذا قوله تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (2) .
ومثل هذا قوله تعالى في سورة الملك مخبراً عن أهل النار كيف يشهدون على أنفسهم عندما يلقون في النار بأنهم ما كانوا يعقلون ولا يسمعون: {وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير * إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور * تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيءٍ إن أنتم إلا في ضلالٍ كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} (3) .
وهنا قول الله الجليل: {إنك لا تسمع الموتى} إما أن يراد بهم موتى القلوب، وإذا قلنا إن المراد من الموتى الأبدان فهذا مثل لموتى القلوب، {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير} .
نعم إن الإنسان إذا لم ينتفع بقلبه ولم ينتفع بسمعه وببصره صح نفي ذلك عنه وهو في حكم ودركة البهيمة، واعلم بأن عصبته الجهال بهائم في صورة الرجال:
أبُنيِّ إن من الرجال بهيمة في ... صورة الرجل السميع المبصر
فطن بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر
__________
(1) - سورة الأحقاف (24 – 26)
(2) - سورة الحج (46)
(3) - سورة الملك (6 –11)(88/26)
وخلاصة الكلام إخوتي الكرام..
إن الموتى يحسون كما قلت بما يجري حوله، ويعلمون ويستبشرون ويفرحون بمن يزورهم، ويسمعون الكلام الذي يقال بحضرتهم، تُعرض عليهم أعمال قرابائهم بعدهم، وهم يتزاورون فيما بينهم، ونفي الله جل وعلا السماع عن الكفار في قوله تعالى: {إنك لا تسمع الموتى..} نفي السماع عن الموتى، المراد من السماع هنا السماع الذي يترتب عليه أثره وهو الانتفاع والاهتداء، وكما قلت، هذا قول من قولين، والمراد من الموتى هنا موتى القلوب لا موتى الأبدان.
وإذا قلنا إن المراد بالموتى موتى الأبدان فالآية لازالت تقرر القول الأول فهذا مثل لمن ماتت قلوبهم، فكما أن ميت البدن يسمع ولا ينتفع فميت القلب يسمع ولا ينتفع، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد} (1) .
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.
اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم ألهمنا رشدنا، اللهم قنا شرور أنفسنا، اللهم قنا شح نفوسنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلَّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
__________
(1) - سورة ق (37)(88/27)
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم أرحمهم كما ربَّونا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم لا تجعل للظالمين عليهم سبيلا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلَّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحدٌ * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد} .(88/28)
الفروض الدائمة والمؤقتة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الفروض الدائمة والمؤقتة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما {من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} .
أما بعد: معشر الإخوة الكرام..(89/1)
تدارسنا في شهر الصيام خير شهور العام عند ذي الجلال والإكرام ما يتعلق بأحكام شهر رمضان وكانت الموعظة التي تلي ذلك الشهر الكريم حول فرحة العيد وبينت أن الله وحد بين عباده الموحدين وحد بينهم في عقائدهم وأفكارهم وفي أعمالهم وأفعالهم وفي مشاعرهم وأحاسيسهم وبينت أن إظهار الفرحة في أيام العيد من تعظيم شعائر الله وذلك من دين الله {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} .
وبيَّنتُ أيضًا أنه كما ينبغي أن نظهر الفرحة والابتهاج والسرور أيام العيد في أعياد المسلمين يحرم علينا قطعا وجزما أن نظهر الفرح والسرور وأن نشارك في البهجة في أعياد الجاهلية سواء كانت تلك الأعياد أعيادا وطنية على حسب المفاهيم الردية في هذه الأوقات الزمنية أو أعيادا أجنبية فيحرم علينا أن نشارك في غير الأعياد الإسلامية وذكرت عند هذا الأمر قول شيخ الإسلام الذي عد من مجددي القرن الثالث الهجري وقد توفي سنة 217هـ أحمد بن حفص البخاري يقول هذا العبد الصالح: "من عبد الله خمسين سنة ثم أهدى إلى كافر بيضة في يوم عيده تعظيما لذلك اليوم فقد كفر بالله وحبط عمله".
وهذا الأمر السوي الصحيح أراد بعض الإخوة الكرام من الحاضرين المستمعين للموعظة الماضية شيئا من التوضيح وبما أن هذا الطلب وجيه وجيه فأحب أن نتدارسه في هذه الموعظة.
إخوتي الكرام:
الفرائض التي فرضها الله على عباده وأوجبها عليهم تنقسم إلى قسمين اثنين.
فرض دائم يجب على الإنسان أن يقوم به على الدوام في كل زمان ومكان وهذا الفرض الدائم يقوم على ركنين بهما تتحقق عبودية الإنسان لرب الكونين.
أولهما: أن يفرد الله عز وجل بالعبادة وأن لا يشرك به شيئا.
والثاني: أن يفرد نبيه عليه الصلاة والسلام بالمتابعة وأن لا يقتدي بغيره وأن لا يقلد أحدا من دونه إياك أريد بما تريد بهذين الأمرين تحصل العبودية في الإنسان لذي الجلال والإكرام.(89/2)
فتحقيق العبودية لرب البرية لا يتم إلا بهذين الأمرين عبادة الله وحده لا شريك له، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقلبنا يتعلق بربنا؛ فهو خالقنا إلهنا وإليه تصرف عبادتنا.
وهكذا يتعلق قلبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام فهو إمامنا وقائدنا وأسوتنا وبه نقتدي في حياتنا عليه صلوات الله وسلامه، وهذان الأمران هما مدلول كلمة الإسلام لا إله إلا الله، محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لا معبود بحق في هذا الوجود إلا الله إياك أريد محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام عبادتنا لربنا وتصريفنا لشؤون حياتنا على حسب ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم والإنسان إذا اتصف بذلك فحقق العبودية في نفسه لربه ذاق طعم الإيمان وحصلت البهجة في قلبه والإيقان.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه الإمام الترمذي ورواه الإمام أبو نعيم في الحلية كما رواه الإمام ابن حبان في صحيحه والحديث صحيح صحيح من رواية سيدنا العباس عم نبينا خير الناس على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا] .(89/3)
[ذاق طعم الإيمان] : حلاوته وبهجته وإذا حصلت هذه الحلاوة والبهجة والسرور في قلبه لا يسخط الإيمان في قلبه بعد ذلك أبدا لكن هذه الحلاوة وذلك الطعم اللذيذ الشهي الذي يتضاءل بجنبه جميع مطعومات الدنيا ولذائذها ومشتهياتها لا يمكن للإنسان أن يحصل تلك الحلاوة والبهجة وذلك الطعم إلا بهذه الأمور الثلاثة من رضي بالله ربا رضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب غيره فربه مالكه سيده إلهه هو الله وحده لا شريك له وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا هو رسول ذلك الرب يبلغ عنه فنقتدي به فيما بلغنا عن ربه على نبيا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه والإسلام الذي أتى به نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو دين الرحمن نرضاه دينا لنا فنحتكم إليه في كل زمان ومكان من حصل هذا فيه فقد ذاق طعم الإيمان نعم إخوتي الكرام إذا تحقق الإنسان بالعبودية لرب البرية يذوق للإيمان حلاوة معنوية تتضاءل بجنبها وتتلاشى جميع الحلاوات الحسية.
ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن أبي داود ورواه ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية، والخطيب في تاريخ بغداد من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] .
وروي هذا الحديث أيضا من رواية سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه في معجم الطبراني الكبير وشرح الستة للإمام البغوي لكن في إسناد رواية أبي أمامة ضعف ينجبر ويتقوى بهذه الرواية الصحيحة الثابتة في الصحيحين.(89/4)
ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان فحقق بذلك العبودية لذي الجلال والإكرام جعل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء فلا يقدم على عبادة الله معبودا ولا يقدم على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه والاقتداء به أحدا ثم بعد ذلك يحب ويبغض من أجل الله فيحب المرء لا يحبه إلا لله لا لمنفعة عاجلة زائلة ويكره بعد ذلك أن يزول عنه وصف العبودية لرب البرية كما يكره أن يقذف في النار فإذا وجد هذا فيه ذاق حلاوة الإيمان.
نعم ـ إخوتي الكرام ـ إذا تحقق الإنسان بهذا الوصف فهو على اهتداء في هذا الحياة وله الأمن بعد الممات {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا.
ثبت في المسند والصحيحين والحديث في سنن الترمذي ورواه الإمام الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن المنذر في التفسير وابن مردويه في تفسيره كما رواه الداراقطني في الأفراد وأبو الشيخ في كتاب العظمة من رواية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال لما نزلت هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ... } .
شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه قال ليس بالذي تعنون إنما الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .
إذن من حصل وصف العبودية في هذه الحياة فهو على اهتداء في الدنيا وهو له الأمن في الآخرة.(89/5)
وهناك فروض مؤقتة فرضها الله على عباده في أوقات وأمكنة بشروط وكيفيات تفعل حسبما هو مقرر في شريعة رب الأرض والسموات كفريضة الصلاة، وفريضة الصيام، وفريضة الزكاة، وغير ذلك فرائض فرضها الله على عباده؛ لكنها مؤقتة بزمن، بوقت وفي مكان، فالحج له مكان معين والصلاة: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} ، والصيام {أياما معدودات} كما أخبر عن ذلك رب الأرض والسموات.
إخوتي الكرام:
هذان الفرضان الصلة بينهما قوية وثيقة.
أما الفرض المؤقت فلا يقبل إلا بشرطين اثنين:
الشرط الأول:
أن يأتي الإنسان بشروط خاصة به فالصلاة تحتاج إلى طهارة ودخول وقت وإلى استقبال للقبلة وإلى غير.
وهناك شرط آخر:
في جميع العبادات المؤقتة وهو لها كالروح للجسد ألا وهو القيام بالفرض الدائم ألا وهو العبودية لرب البرية فمن خرج عن هذا الوصف بحيث عظم شعائر الكفر أو أشرك بالله فلا يقبل منه عمل لأنه ليس بعبد لله عز وجل وأعماله يضرب بها وجهه فلابد من أن يحقق الفرض الدائم الذي لا يسقط عن الإنسان في وقت ولا في مكان بل ينبغي أن يقوم به على الدوام في كل زمان ومكان فإذا خرج عن ذلك الفرض حبط عمله وضل سعيه وخلده الله في نار جهنم.
نعم ـ إخوتي الكرام ـ لابد من أن يتصف الإنسان بحقيقة العبودية لربه في هذه الحياة فينبغي أن يكون صادقا في عبوديته لربه فدخوله وخروجه لله وبالله ولذلك أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وفي ذلك أمر لنا أن يكون مدخلنا ومخرجنا لربنا جل وعلا: {وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} .
فالمؤمن يدخل لله وبالله ومن عداه يدخل ويخرج بطرا ورئآء وإذا دخل الإنسان مدخل الصدق وخرج مخرج الصدق في جميع شؤون حياته جعل الله له لسان صدق في هذه الحياة.(89/6)
وقد كانت همم أنبياء الله ورسله عليهم صلوات الله وسلامه تتطلع إلى هذا لأن ذلك الوصف لا يكون إلا لمن دخل مدخل الصدق وخرج مخرج الصدق قول خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم كما حكى ذلك عنه رب العالمين: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} أن يثنى علي بالخير والفضيلة بحسب ما في مما يرضيك: {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} في الأمم التي تأتي يثنون على بصدق ولا يكون حال من يثنى عليه كحال من يثنى عليه من أعداء الله قد ينشر للإنسان من الثناء ما يملأ ما بين المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة فليس هذا الثناء بحق إنما هو بكذب وبهتان وافتراء وإذا حقق الإنسان ذلك جعل الله له لسان صدق ويبشره بأن له عند الله قدم صدق كما ذكر الله عز وجل في أول سورة نبيه يونس على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه: {الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين} .
{لهم قدم صدق عند ربهم} : يقدمون على منزلة حقة يستحقونها بما قدموه من عمل صالح واتباع لرسول الله عليه الصلاة والسلام وعبادة لله عز وجل وهم بالتالي في مقعد صدق كما قال الله جل وعلا: {إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر} .
إخوتي الكرام:
لابد من تحقيق الفرض الدائم وهو العبودية لرب البرية في كل زمان ومكان فإذا تحقق الإنسان بذلك الوصف على وجه التمام صار عبدا لذي الجلال والإكرام تقبل منه بعد ذلك فرائضه المؤقتة وإذا أتى بما ينقض عبوديته لربه فلا يقبل منه فرض مؤقت لأنه ضيع الفرض الدائم ولذلك عباد الله الذين أضافهم الله إلى نفسه هم أولياؤه المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والناس نحو الفرض الأول وهو الفرض الدائم ثلاثة أقسام:
القسم الأول:(89/7)
حقق ذلك الفرض وقام به على وجه الكمال والتمام وهؤلاء هم عباد الرحمن المخلصون الصديقون وهم أولياء الحي القيوم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهم الذين عناهم الله بقوله {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} ، وهم المعنيون بقول الله عز وجل: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام} ، وهي عبودية الاختيار وليس عبودية الاضطرار فكل من في السموات ومن في الأرض عبد لله على رغم أنفه شاء أم أبى، جاء إلى هذه الحياة على غير اختياره، وسيخرج منها على غير اختياره، ولا يملك لنفسه فضلا عن غيره نفعا ولا ضرا: {إن كل من السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} ، لكن الشأن في تحقيق عبودية الاختيار للعزيز القهار أن تفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأن تجعل هواك تبعا لشرع نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
هذه العبودية هي التي نوه الله بذكرها في حق نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه في أشرف المقامات التي حصلت له فقال جل وعلا: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} .
حقق العبودية لربه جل وعلا على وجه التمام حب كامل وذل تام وهكذا قول الله: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} .
وهكذا قول الله {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} .(89/8)
وهكذا قول الله عندما يتحدث عن نبيه عليه الصلاة والسلام وقيامه بالدعوة {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} .
وهذا أعظم وصف يتصف به المخلوق أن يقال إنه عبد للخالق ويراد من هذه العبودية عبودية الاختيار وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحب هذا الوصف فيه وأمرنا أن نذكره به عليه صلوات الله وسلامه.
ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث رواه الإمام الترمذي في الشمائل المحمدية على نبينا خير البرية صلوات الله وسلامه ورواه الإمام الدارمي في مسنده ورواه الحميدي في مسنده وأبو داود الطيالسي في مسنده أيضا ورواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه الإمام العدني وهو حديث صحيح صحيح من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] .
والإطراء: هو المدح بالباطل ومجاوزة الحد بالمدح، فإياك إياك أن ترفع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى مستوى ذي الجلال والإكرام.
نعم هذه العبودية لها شأن كبير عند من يعي إذا حققها ذاق حلاوة الإيمان لا خوف عليه مما يستقبله ولا يحزن على ما يتركه هو على اهتداء في هذه الحياة وله الأمن بعد الممات هذا الصنف الأول حققوا فيهم هذه العبودية لرب البرية، هم أولياء الله حقا وصدقا، فهؤلاء القليل منهم كثير عند الله الجليل {إنما يتقبل الله من المتقين} كما سيأتينا في خطوات البحث.
والصنف الثاني:
يقابل هذا الصنف وهم أولياء الشيطان الملعون وأعداء الحي القيوم وهم الذين زالت عنهم وصف العبودية الاختيارية لرب البرية في هذه الحياة زال عنهم ذلك الوصف فلا يقبل منهم عمل وهم كافرون بالله عز وجل.
ولو قدر أنه صدر منهم بعض الطاعات تضرب بها وجوههم ولا تقبل عند رب الأرض والسموات.(89/9)
هذا الصنف الثاني أعداء لله ولرسله ولأوليائه وهم الذين قال الله فيهم: {ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ... } وهم الذين أشار الله إليهم بقوله: {وقال الرسول يا رب إن قومي اخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} .
فلا عبدوا الله ولا اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء هم الذين ظاهروا الشيطان في عداوة الرحمن كما قال ذو الجلال والإكرام {ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا} : معينا للشيطان في معاداة الرحمن هؤلاء بينهم وبين عتاة الجن ولاية في هذه الحياة وبينهم اشتراك في العذاب بعد الممات: {ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} هؤلاء من اتصف بوصفهم لا يقبل منه فرض مؤقت لأنه عدو لله عز وجل فما وصف أعداء الله.
إخوتي الكرام:
إذا اتصف الإنسان بواحد من خمسة أمور فهو ضال كفور من أتباع الشيطان الغرور وممن ينادي على نفسه مع الشيطان يوم القيامة بالويل والثبور فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} .(89/10)
ثبت في مسند الإمام أحمد والبزار والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه عبد بن حميد في مسنده ورواه الإمام الطبري في تفسيره وهكذا ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وإسناد الحديث صحيح صححه الإمام السيوطي في الدر المنثور وقال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي عليه وعلى أئمتنا رحمة الله في المجمع في الجزء 10/392 رجاله رجال الصحيح غير علي بن زيد بن جدعان وقد وثق وعلي بن زيد خرج حديثه الإمام البخاري في الأدب المفرد وهو من رجال مسلم في صحيحه لكن روى له مقرونا وأخرج له أهل السنن الأربعة ولفظ الحديث من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أول من يكسى حلة من نار يوم القيامة إبليس فيأخذها ويضعها على حاجبيه ثم يجرها من ورائه وخلفه وذريته خلفه وراءه وهو يقول وا ثبوراه وهو يقولون وا ثبورهم فيقال لهم: {لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} قال الله عز وجل: {بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا} .
نعم هؤلاء الذين يلقون في نار جهنم مقرنين فإذا ألقوا فيها بذلك الوصف الذميم دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا فمن اتصف بواحدة من هذه الأمور الخمسة فقد نقض عبوديته لله ولم يقم بالفرض الدائم فلم يقبل منه فرض مؤقت وهذه الأمور الخمسة هي:
الكفر بالله:
والشرك بالله:
والنفاق الأكبر:
والردة عن دين الله:
والبدعة المكفرة:(89/11)
الكفر بالله من اتصف به فهو خالد مخلد في نار جهنم لا يقبل منه عمل عند الله عز وجل ويراد بالكفر جحود الخالق جل وعلا وإنكار حقه على عباده سبحانه وتعالى وتكذيب آياته وتكذيب رسله على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه كما أن لفظ الكفر يستعمل استعمالا موسعا لما يقابل الإسلام وعليه يشمل هذا الوصف كل أعداء الرحمن من المرتدين والمنافقين والمشركين والمبتدعين بدعة مكفرة.
يقول الله جل وعلا في سورة النساء: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما} .
فإذا حصل من الإنسان هذا الوصف فقد نقض عبوديته لله جل وعلا فلو قدر أنه قام بصلاة أو صيام أو زكاة أو غير ذلك من الفروض المؤقتة فهي باطلة عند الله ولا تقبل كما قال الله جل وعلا في سورة المائدة بعد أن أخبر أنه أتم علينا الدين وأكمل لنا النعمة وأنه أحل لنا الطيبات قال جل وعلا: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} .
كما قرر الله جزاء الكافرين في كثير من آي الذكر الحكيم فقال جل وعلا في سورة الإسراء: {ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا * ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون} ، {قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مره فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا} .(89/12)
هذا الجزاء لهم في نار جهنم وكلما خبت خف لهيبها زادهم الله عذابا كما قال هناك في سورة النساء: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} ؛ لأنهم كذبوا بآيات الله وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا سبحان الله الذي خلقكم من العدم ألا يستطيع أن يعيدكم بعد ذلك إذا تفتت هذه الأبدان بلى إنه على كل شيء قدير قل كونوا حجارة أو حديدا تحولوا إلى شيء لا يقبل الحياة على حسب الظاهر عندكم أو خلقا مما يكبر في صدوركم فصيروا السموات بنفسها أو تحولوا إلى الموت بحقيقته لو أن البشر كانوا موتى لأحياهم الله والله على كل شيء قدير وأقصد موتى أي صفة الموت لو أنهم صاروا هم الموت بعينه لأحياهم الله فكيف إذا تفتت الأبدان وهكذا يقول الله في سورة الحج: {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق *} .
هذا جزاء الكافرين عند رب العالمين سبحانه وتعالى إخوتي الكرام من اتصف بهذا الكفر له هذا الجزاء ولا يقبل منه عمل يقول الله عز وجل في سورة فاطر: {والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور * وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير*} .
وهكذا قول الله في سورة الأحزاب: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبد لا يجدون وليا ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا *} .
والوصف الثاني:(89/13)
الشرك بالله وحقيقة الشرك أن يسوي الإنسان بين المخلوقات وبين رب الأرض والسموات في الحقوق والواجبات والصفات فإذا سويت بين المخلوق الحقير وبين الخالق الجليل فيما يستحقه الله وفيما يتصف به سبحانه وتعالى فقد جعلت لله ندا وأشركت بالله عز وجل فلا يقبل منك الفرض المؤقت يقول الله جل وعلا في سورة الشعراء: {وأزلفت الجنة للمتقين * وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العلمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم * ... } .
فإذا سويت بين المخلوق والخالق لا يغفر لك عند الله عز وجل ولا يقبل منك عمل لأنك خرجت عن رسم العبودية وحقيقتها وصرت عدوا لله جل وعلا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} .
وقال جل وعلا في سورة المائدة: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار*} .
وهكذا في سورة الأنعام بعد أن ذكر الله ثمانية عشر رسولا من أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه بدأهم بخليله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم *} .(89/14)
بعد أن عدد الله هؤلاء الأنبياء والرسل على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه قال: {ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} .
وهكذا وجه الله الأمر لنبيه خير خلقه عليه الصلاة والسلام فقال كما في سورة الرعد: {قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب} .
وقال جل وعلا في سورة الزمر: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لإن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} .
وقال العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} .
وأمر الله الموحدين أن يقولوا لمن يدعون عبادة رب العالمين من أهل الكتاب السابقين: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} .
فمن اتصف بهذا الوصف الثاني فقد نقض عبوديته ولا يقبل منه فرض مؤقت.
والأمر الثالث النفاق:
ويراد منه النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان ويبطن الكفران بالرحمن ويدخل في هذا أن لا يرى من ينتمي إلى الإسلام وجوب طاعة النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر ولا تصديقه فيما أخبر ولا الانتهاء عما عنه زجر وحذر عليه الصلاة والسلام وأن يسر الإنسان بانخفاض أهل الإيمان وأن يظهر البهجة والسرور لظهور أهل الكفران فمن وجد فيه هذا الوصف الملعون فهو كافر منافق النفاق الأكبر وهو عدو للحي القيوم وقد جمع الله بين المنافقين وبين المشركين والكافرين في الحكم في الدنيا والآخرة فقال جل وعلا في سورة التوبة ونظير هذه الآية في سورة التحريم: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} .(89/15)
وقال جل وعلا في آخر سورة الأحزاب: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما*} .
وقال جل وعلا في سورة النساء: {بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا * الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا * إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما *} .
والوصف الرابع الردة:(89/16)
وهي الخروج من الدين بعد الدخول فيه كفر بعد الإيمان من اتصف بهذا نقض عبوديته لله فلا يقبل منه الفرض المؤقت وقد أشار الله إلى هذا في كثير من آيات كتابه فقال جل وعلا في سورة آل عمران: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين * أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينصرون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين *} .
يقول الله جل وعلا في سورة النساء: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} .
وهكذا قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون *} .
وقد حكم الله بالردة على أناس في أول الأمر قالوا للكفار سنطيعكم في بعض الأمر يقول الله جل وعلا في سورة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إصرارهم * فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم *} .(89/17)
فمن قدم لكافر بيضة في يوم عيده تعظيما لذلك اليوم فقد عظم شعائر الكفر وهذه ردة منه لو عبد الله خمسين سنة حبط عمله وهو من الكافرين عند رب العالمين: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين * فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين * ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين * يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فص ضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين *} .
وقد حكم الله بالردة والكفر على أناس في أول الأمر أيضا استهزءوا ببعض شعائر الله فقال جل وعلا: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبؤهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين *} .
والآيات نازلة في فريقين من المنافقين كما في كتب السير في مغازي الإمام ابن إسحاق وغيره عليهم جميعا رحمة الله.(89/18)
الفريق الأول: هم الذين وقعوا في أعراض القراء امتهانا لشعائر رب الأرض والسماء فقالوا قراؤنا أكذب الناس ألسنة وأرغبهم بطونا وأجبنهم عند اللقاء.
والصنف الثاني: عندما تهيأ النبي عليه الصلاة والسلام لغزو بني الأصفر بلاد الروم قال المنافقون وأرجفوا أتظنون أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لو قابلتموهم لأصبحتم مقرنين في الحبال فلما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام بذلك وقال لهم علام قلتم هذا قالوا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام نمزح نلعب لا نقصد الاستهزاء بالقراء ولا التثبيط والخوف من أعداء رب الأرض والسماء فأنزل الله: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} .
والوصف الخامس الذي ينقض وصف العبودية البدعة المكفرة:
وضابطها أن يعتقد الإنسان شيئا لم ترد به شريعة الله المطهرة بل ورد بخلافه إثباتا ونفيا ويكون ذلك الوارد معلوما من الدين بالضرورة ثم قال هؤلاء بدعة تنقض ذلك المعلوم من دين الله بالضرورة فهذه البدعة مكفرة كما هو الحال في بدعة القدرية الغلاة الذين نفوا علم الله بالأشياء قبل حدوثها ووقوعها كما هو الحال في بدعة الشيعة الغلاة الذين ألهوا علي وغيره على سيدنا علي وعلى جميع الصحابة رضوان الله أجمعين كما هو الحال في بدعة زنادقة الصوفية الذين قالوا بحلول الخالق في بعض المخلوقات كما هو الحال في بدعة سفهاء بعض من ينتمي إلى السلفية في هذه الأيام فيصول ويجول على عباد الرحمن بالتكفير من أجل أنهم خالفوه في رأي وذلك الرأي على غاية ما يمكن أن يقال إنه راجح أو مرجوح أو خطأ؛ هذا كله من البدع المكفرة التي انتشرت في هذه الأمة.
إخوتي الكرام:(89/19)
اشتط كثير من السفهاء في هذه الأيام ممن يدعون الانتساب إلى سلفنا الكرام ولا سلف لهم إلا غلاة الخوارج أهل البدع والأوهام فكفروا عباد الرحمن اعتداءا منهم على أهل الإسلام وقد خشي نبينا عليه الصلاة والسلام على أمته من هذا الصنف.
ثبت في مسند البزار ومسند أبي يعلى وصحيح ابن حبان والحديث رواه الإمام المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء 1/188 إسناده حسن وقال الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء 2/265 إسناده جيد ولفظ الحديث عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [إنما أتخوف عليكم رجلا قرأ القرآن حتى إذا رئيت عليه بهجته وكان ردءا للإسلام اعتزل إلى ما شاء الله وخرج على جاره بسيفه ورماه بالشرك] ؛ قال حذيفة قلت يا نبي الله صلى الله عليه وسلم أيهما أولى بالشرك الرامي أو المرمي فقال عليه الصلاة والسلام: بل الرامي] .
فمن اتصف بشيء من ذلك فقد نقض عبوديته لربه فلا يقبل منه الفرض المؤقت: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} .
وقد أخبرنا أنه في آخر الزمان سيضيع كثير من الناس الفرض الدائم مع قيامهم بالفروض المؤقتة ثبت في مستدرك الحاكم في كتاب الفتن في الجزء 4/442 بإسناد صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم وموقوفا عليه وله حكم الرفع والأثر عزاه الإمام السيوطي في جمع الجوامع إلى كتاب تاريخ الحاكم مرفوعا إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ولفظ الأثر الموقوف الذي في المستدرك قال عبد الله بن عمرو: [سيأتي على الناس زمان يجتمعون فيه في المساجد ليس فيهم مؤمن] .(89/20)
وثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير وإسناد الأثر صحيح رجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع وشداد بن معقل روى له البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وذكره البخاري في صحيحه ولم يروي عنه أحد من أصحاب الكتب الستة رواية متصلة ضمن إسناد ولفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: أول ما يرفع منكم الأمانة وآخر ما يرفع الصلاة وليصلين أقوام ولا دين لهم ولينزعن القرآن من بين أظهركم قالوا أبا عبد الرحمن كيف ينزع من بيننا وقد أثبتناه في مصاحفنا قال يسرى عليه ليلا فلا يبقى في الأرض منه شيء.
نعم إذا كان يعظم شعائر الكفر ويركن إلى الكفار فإذا صلى لا دين له عند العزيز القهار.
إخوتي الكرام:
أما ما يتعلق بأول الأثر وأن أول ما يرفع الأمانة فقد أشير إلى ذلك في حديث نبينا عليه الصلاة والسلام ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث رواه ابن حبان والحاكم وإسناده صحيح من رواية أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما نقضت عروة تشبس الناس بالتي تليها فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة.
ورواه الإمام أحمد في المسند من رواية فيروز الديلمي رضي الله عنه وأرضاه وهذا المعنى أيضا ثابت مروي في آثار أخر روى الإمام الطبراني في معجمه الصغير من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أول ما يرفع الأمانة وآخر ما يرفع الصلاة ورب مصل لا خير فيه] .(89/21)
والحديث في إسناده حكيم بن نافع قد وثقه الإمام ابن معين وضعفه أبو زرعة كما قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء 7/321، والحديث رواه أبو يعلى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه بإسناد ضعيف انظروا روايته أيضا بهذا المعنى: [أول ما يرفع الحياء والأمانة وآخر ما يرفع الصلاة ثم قال وأحسبه قال وليصلين أقوام لا خلاق لهم] .
وأما المعنى الذي أشار إليه عبد الله بن مسعود في آخر حديثه في رفع القرآن فهو معنى ثابت في صحيح الأخبار عن نبينا المختار عليه الصلاة والسلام وفيما ورد عن الصحابة والتابعين الأبرار من آثار والآثار في ذلك مستفيضة ولذلك قرر أئمتنا أن كلام الله منه بدا وإليه يعود حيث يرفع إليه في آخر الزمان عندما يهجره الأنام.
أسأل الله أن لا يجعل هذا الزمان وقتا لتلك البلية بفضله ورحمته فحقيقة إن الأمة تشهد بلية عظيمة في هذه الأيام رفعت الطين ووضعت الدين وكثير منا صلى إلى القبلة وهو على غير الملة أسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
... الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين.
اللهم صلي على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا.
وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام:
تدارسنا صنفين من ثلاثة أصناف الصنف الأول حقق ذلك الوصف ـ العبودية لرب البرية ـ على التمام فهم أولياء الرحمن والصنف الثاني أضاعه فهم أعداء الرحمن وأولياء الشيطان والصنف الثالث يأتينا الكلام عليه قد يفعلون ما يحبط العمل عند الله عز وجل دون أن يخرجوا عن رسم العبودية وحقيقتها أتكلم على ضابط ذلك وعلى أمثلة ثابتة في الأحاديث الصحيحة لهؤلاء في الموعظة الآتية إن شاء الله.(89/22)
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك، ومن المقربين لديك، وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم صلي على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارحم أمة نبينا صلى الله عليه وسلم، اللهم أصلح أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً.
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف وهذا المكان المبارك.
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريباً سميعاً مجيباً للدعوات والحمد لله رب العالمين وصلي الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر * إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر *} .(89/23)
خشية التفريط والتقصير في حق الله
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
خشية التفريط والتقصير في حق الله
29
الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يأيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون".
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما وقلوباً غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
"يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الذين تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
"يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما".
أما بعد: معشر الأخوة المؤمنين..(90/1)
لازلنا نتدارس صفات عباد الله الأخيار الذين يعمرون بيوت العزيز الغفار فقد وصفهم الله بأنهم رجال ونعتهم بأربع خصال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي من أجلها خلقوا يسبحون الله ويعظمونه ويصلون له. يشفقون على عباد الله ويحسنون إليهم. يبذلون ما في وسعهم استعداد للقاء ربهم.
"في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار".
وكنا نتدارس الصفة الرابعة من صفاتهم ألا وهي خوفهم من لقاء ربهم جل وعلا واستعدادهم للقاء الله عز وجل وهذه الصفة أعني صفة الخوف مر الكلام على تعريفها وعلى منزلتها في شريعة الله جل وعلا وعلى الثمرات التي يحصلها من يتصف بها في العاجل والآجل وشرعنا إخوتي الكرام في مدارسة الأمر الرابع من الأمور المتعلقة بهذه الصفة الرابعة ألا وهو أسباب خوف المكلفين من رب العالمين وقلت إن أسباب الخوف كثيرة وفيرة يمكن أن تجمع في ثلاثة أسباب:
أولها: إجلال الله وتعظيمه وقد مر الكلام على هذا السبب.
والسبب الثاني: سنتدارسه في هذه الموعظة إن شاء الله: خشية التفريط والتقصير في حق الله الجليل.
والسبب الثالث: خوف سوء الخاتمة.(90/2)
أما السبب الثاني إخوتي الكرام من أسباب خوف المكلفين من ذي الجلال والإكرام خشية التفريط والتقصير في حق الله الجليل سواء فيما يتعلق بجانب الاكتساب أو بجانب الاجتناب أما الاكتساب فهو الطاعات فقد أمرنا الله جل وعلا بطاعته سبحانه وتعالى وهذه الطاعات لا تكون مقبولة عند رب الأرض والسموات إلا إذا وجد شروط في فعلها وفي فاعلها أما في فعلها فينبغي أن تكون على حسب شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأن يراد بها وجه الله عز وجل وأما الفاعل فينبغي أن يكون تقيا فلا يتقبل الله العمل إلا من المتقين وينبغي أيضا على العامل أن يحافظ على عمله فما ينبغي أن يأتي بعده بما يبطل عمله والمحافظة على الأعمال أصعب على العمال من سائر الأعمال وكم من إنسان يبني ويأتي بأعمال صالحة ثم يهدم ما يبني وينقض ما فعله من الصالحات وهذه الأمور الأربعة في الفعل وفي الفاعل حقيقة إن الإنسان لا يتحقق من ثبوتها فيه على وجه التمام والكمال ولذلك هو يخاف من ذي العزة والجلال.
قال العبد الصالح حذيفة بن قتادة المرعشي وهو من عباد الله الصالحين روي عن سفيان الثوري عليهم جميعا رحمة رب العالمين وشغله الرعاية عن الرواية كما قال ذلك شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليهم جميعا رحمة ذي الجلال والإكرام خذيفة ابن قتادة المرعشي يقول هذا العبد الصالح إن لم تحسن أن يعاقبك الله على خير أعمالك فاعلم أنك شقي مغرور هالك. خير أعمالك التي تصدر عنك إن لم تخن العقوبة عليها فاعلم أنك مغرور أحمق من الهلكى.(90/3)
وسيأتينا تقرير هذا إخوتي الكرام في الموعظة الآتية ن شاء ربنا الرحمن أما هذه الموعظة فسأتكلم على تفريطنا في جانب الاجتناب ووقوعنا في معصية الكريم الوهاب سبحانه وتعالى أما فيما يتعلق بالطاعات فسأرجئ الكلام على تفريطنا نحو طاعة ربنا في جانب الامتثال في جانب فعل المأثورات إلى الموعظة الآتية إن شاء الله أما هذه الموعظة فهي فيما يتعلق في الوقوع في المحضورات في المنهيات في المخالفات عباد الله نهانا الله جل وعلا عن معصيته ولا يتحقق الإنسان بوصف التقوى إلا إذا اجتنب ما حرم الله عليه ونهاه عنه.
خلى الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقي
واصنع كماسٍ فوق أرض ... الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرةً إن ... الجبال من الحصى
ولذلك قال العبد الصالح بلال بن سعد وحديثه رواه البخاري في الأدب المفرد وأخرج له أبو داود في كتاب القدر وهو من رجال الإمام النسائي في السنن عبد صالح من العلماء الربانيين توفي سنة 120هـ بلال بن سعد يقول هذا العبد الصالح لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى عظمة من عصيت.
ومن كلام هذا العبد الصالح كأنه يتكلم عن حالنا فيقول: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدواً له في السر نعم إن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر وأشنع الكبائر الإشراك بالله عز وجل وأصغر الصغائر لا يعلم وقد أخفاها الله عنا ليكون العباد على وجلٍ شديد من كل ذنب وخشية أن يكون ذلك الذنب مهلكا والإنسان لا يدري ولئلا يقول قائل هذا أصغر الذنوب فلا حرج على في فعله الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر أكبر الكبائر معلوم وأصغر الصغائر استأثر بعلمه الحي القيوم سبحانه وتعالى.(90/4)
وأنت لن تتحقق بصفة التقوى إلا إذا اجتنبت جميع المخالفات من صغائر الذنوب وكبائرها إذا كان الأمر كذلك فكل واحد يعيد النظر إلى نفسه ويتأمل حاله والإنسان على نفسه بصيرة هل نجونا من مخالفات الله وهل ابتعدنا عما حرمه الله علينا والله إننا نخوض في المخالفات ولا يسعنا إلا عفو رب الأرض والسموات ثبت في المسند وصحيح مسلم من حديث أبي ذرٍ رضي الله عنه وأرضاه في حديثه الطويل عن نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام عن الله الكبير في الحديث القدسي الذي يقول في أوله يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ثم يقول الله جل وعلا في هذا الحديث القدسي يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم.
اللهم أغفر لناما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا فاستغفروني أغفر لكم نحن نسبح في الخطايا والذنوب ونحن نموج بالبلايا والعيوب وصفة التقوى إذا لا نتصف بها والله لا تتقبل العمل إلا من المتقين وكيف سنقابل أحكم الحاكمين هذا لا يعلمه إلا الله ونسأله أن يعاملنا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(90/5)
ولذلك إخوتي الكرام لو حوسبنا على تفريطنا وتقصيرنا في حق ربنا لأُلقينا على وجوهنا في نار جهنم فحقيق بنا إذا كنا من الأكياس أن نخاف رب الناس "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار " إن كل من يحاسبه الله يوم القيامة يهلك ويلقى في نار جهنم. لكثرة تفريطنا في حق ربنا جل وعلا وقد ثبت في المسند والصحيحين من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من حوسب عذب " وفي رواية " من نوقش الحساب هلك " فقالت أنا عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها وعن الصحابة أجمعين قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله. فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا في سورة الانشقاق فسوف يحاسب حساباً يسيرا إذاً يأخذ كتابه بيمينه ويحاسب وأنت يا خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه تقول من حوسب عذب. من نوقش الحساب هلك فقال ليس ذا لكِ إنما ذا لكِ العرض ولكن من حوسب عذب ومن نوقش الحساب هلك فالحساب يسير هو أن تعرض الصحف من قبل الله الجليل على عباده المؤمنين هذا هو الحساب فيقول الله لهم سترتكم في الدنيا وأستركم في الآخرة لكن من ناقشه الله وحاسبه عذبه وأهلكه من حوسب عذب.
ومن نوقش الحساب هلك نعم إننا نفرط في حق ربنا في ليلنا ونهارنا وقد جلى لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا بحديثه الذي يخبر فيه عن نفسه وعن روح الله وكلمته نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقول والحديث رواه ابن حبان في صحيحه وأبو نعيم في الحلية ورواه البزار في مسنده والإمام الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها السبابة لعذبنا ثم لم يظلمنا".(90/6)
سبحانك ربي سبحانك ربي إذا كان هذا حالك مع نبيك خير خلقك عليه الصلاة والسلام ومع كلمتك وروحك لو حاسبتهما على ما يصدر من إصبعين فقط من أعضائهما في حقك حول الإبهام وحول السبابة لعذبنا دون ظلم منك فكيف يكون حال من عداهما إن عباد الله الأخيار تتقطع قلوبهم عندما يسمعون مثل هذا "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار".
أخي المؤمن أنت على يقين من ذنبك وتفريطك وأنت بعد ذلك لست على يقين من مغفرة الله لك ورحمته بك أمرك موكول إليه أما يجب عليك أن تتصف بهذه الصفة التي نعت الله بها الرجال "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" "لو يؤاخذنا الله وابن مريم بما جنت هاتان لعذبنا ثم لم يظلمنا " نعم كل من نجا من النار فما نجا إلا بمغفرة العزيز الغفار وكل من دخل الجنة فما دخلها إلا برحمة الله القهار فتلك نجا منها بمغفرة الله وهذه دخلها رحمة الله جل وعلا.
مال للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعى لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
فإن يثبنا فبمحض الفضل أو يعذب فبمحض العدل والله جل وعلا عنده في الآخرة داران لا ثالث لهما دار العدل وهي النار ودار الفضل وهي الجنة فمن دخل النار فبعدل الله ومن دخل الجنة فبفضل الله.(90/7)
وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " وهو الذي يقول عليه الصلاة والسلام " لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان لعذبنا ثم لم يظلمنا. ولا أنت لا تدخل الجنة أيضا بعملك وأنت أتقى الخلق للحق وأنت أعبد الخلق لله جل وعلا ولا أنت ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ولا يشكلن عليك أيها الأخ الكريم هذا الحديث وأمثاله مما ورد أن الجنة دار فضل وأن من دخلها فبرحمة الله وفضله وجوده وكرمه مع الآيات التي ++ أن المؤمنين يدخلون الجنة بأعمالهم كقول الله جل وعلا: "وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون" لا يشكلن عليك هذا فالباء هنا غير الباء هناك وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون للسببية العادية وأماّ لن يدخل منكم بعمله الجنة للمعارضة ما عنده عمل يبذله ثمنا يعاوض به عن دخول الجنة لا يوجد إلا فضل الله ورحمته.(90/8)
وأما هناك للسببية العادية وسيأتينا إيضاح هذا بإذن الله وتقريره عند الجانب الثاني ألا وهو تفريطنا في حق الطاعات فأذكر هذا الجواب الذي ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله وغفر للمسلمين أجمعين ذكره في أول كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة في مقدمة الكتاب في صفحة ثمانية من الجزء الأول والحافظ ابن حجر أضاف إلى هذا الجواب أربعة أجوبة أخرى أفصل الكلام عليها عند تفريطنا في حق ربنا في جانب الطاعات في الموعظة الآتية بإذن رب الأرض والسموات لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان لعذبنا ثم لم يظلمنا وهكذا حال الخليقة بأسرها من الملأ الأعلى إلى الملأ الأسفل لو حاسبهم الله لعذبهم كما أخبر عن ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه وسنن أبي داود والحديث رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة وإسناده صحيح من رواية زيد بن ثابت والحديث رواه الطبراني عن ثلاثة من الصحابة أيضاً عن عمران بن حصين وعن عبد الله بن مسعود وعن أبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خير من أعمالهم " لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم فهم الخطاءون في جنب الحي القيوم يخطئون بالليل والنهار ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم.(90/9)
نعم ألم يقل الله جل وعلا مقرراً هذا في كتابه في آخر سورة فاطر ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ودابة نكرة دخلت قبلها من في سياق نفي تفيد العموم وهي نص في العموم ما يترك مخلوق من إنس وغيره لو حاسبهم الله جل وعلا على ما يصدر منهم ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا. هذا أعلم بعباده فيمن على المؤمنين بجنة النعيم ويعاقب الكافرين بنار الجحيم فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا.(90/10)
ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح أقر عليه الذهبي عن أبي الأحوص: قال قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذه الآية ثم قال: كاد الجُعَلْ أن يموت في جحره بذنب بن آدم والحبل دويبة صغيرة بحجم الصرصر تعيش في الأقذار والأوساخ كاد هذا المخلوق أن يموت بذنبنا وبمعصيتنا لربنا فالبلاء عندما ينزل يعم الإنس وغيره ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة. كاد الجعل أن يموت بجحره بذنب بن آدم ولذلك إذا غفر لابن آدم ما يصدر منه من تقصير نحو الحيوان البهيم فقد غفر الله له شيئا كثيراً كما قرر هذا نبينا صلى الله عليه وسلم ففي مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه وإسناد الحديث صحيح والحديث رواه عبد الله ولد الإمام أحمد رضوان الله عليهم أجمعين موقوفاً على أبي الدرداء من كلامه وزيادة الثقة مقبولة فالحديث روى من كلام أبي الدرداء موقوفاً عليه وروى مرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو غفر لكم ما تأتون إلى البهائم لغفر لكم كثيرا " مما يصدر منكم من ذنوب وتتضرر البهائم بسببكم ومما يقع أيضاً من معاملة سيئة منكم لتلك البهائم لو غفر الذنوب المتعلقة بينكم وبين البهائم التي فيها تفريط في حق البهائم لغفر الله لكم كثيراً ذنوب كثيرة غفرت.(90/11)
إخوتي الكرام: هذا حقنا في جانب المنهيات في جانب المعاصي هذا حالنا في جانب المنهيات في جانب المعاصي في جانب المخالفات ولذلك إذا استحضر المؤمن هذا وعلم أنه يخوض في معصية الله ليلاً ونهاراً فسينقطع قلبه ويخاف من الله ولا بد فمن أسباب خوف المكلفين من رب العالمين استحضارهم لتقصيرهم فمن علم أنه مقصر في الطاعة وأنه مرتكب للمعصية سيخاف من الله عز وجل ولا بد وقد صور لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حل المؤمن ومن خرج عن هذا الوصف فهو كافر منافق وهذا التصوير عن هذا العبد الصالح الجليل رضوان الله عليه ثابت في صحيح البخاري وسنن الترمذي والأثر رواه أبو نعيم في الحلية ورواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق وهو من أصح الآثار فهو في صحيح البخاري وغيره كما سمعتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه تحت جبل ويخاف أن يقع عليه وإن المنافق وفي رواية وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال بيده هكذا".(90/12)
انظر لهاتين الصورتين لتعلم ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن في هذه الحياة يرى ذنوبه كأن الذنوب جبل فوقه ويخاف أن يقع هذا الجبل عليه وإنما صور الذنوب بالجبل لشدة خوف المؤمن من الله جل وعلا فالجبل إذا وقع على من تحته لا يمكن نجاتهم ولذلك هو يقطع قلبه خوفاً وخشية من ربه عز وجل وأما ذاك عندما يقع في الذنوب والعيوب كذباب وقع على أنفه وإنما خص الأنف بالذكر من باب تهوين المعصية عند المعاصي لأنه قل أن يقع الذباب على الأنف فأكثر وقوعه على العينين وعلى الجبين ووقوعه على الأنف قليلٌ قليل وعليه خص الأنف هنا كأنه إذا استحضر العاصي والفاجر والمنافق ذنبه إذا استحضر الأمر يسير عمل هكذا فطار ذلك الذباب وعليه كأنه لا يستحضر ذنبه وإذا استحضره أحياناً نقول رحمة الله واسعة إذا استحضر الذنب أحياناً منىّ نفسه بالمغفرة والقالب أن الذنب لا يخطر على باله وأما ذاك المؤمن الموحد حاله كحال من هو تحت جبل ويخشى أن يقع ذلك الجبل عليه.(90/13)
نعم إخوتي الكرام هذا هو وصف عباد الرحمن "يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار" ولذلك إخوتي الكرام كلما عظيم الإيمان في قلب الإنسان وكلما صفا قلبه كلما اشتد من خشية الله جل وعلا وكلما كثر خوفه وقد ثبت هذا عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وبينوا لنا اختلاف المتأخرين عن السابقين الصادقين نُقل هذا عن أنس وعن أبي سعيد الخدري وعن عبادة بن قرط وقيل قرص وإليكم آثارهم أما اثر أنس فثبت في صحيح البخاري عن أنس وأما أثر أبي سعيد الخدري نفى مسند الإمام أحمد ومسند البزار بسند رجاله رجال الصحيح كما قال شيخ الإسلام الإمام الهيثمي والإمام العراقي عليهم جميعاً رحمة الله وأما أثر عبادة بن قرط رضي الله عنهم أجمعين فرواه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وأبو داود الطيالسي ورواه الإمام الدارمي في سننه ولفظ الآثار الثلاثة بمعنى واحد وهو يقول أنس وأبو سعيد وعبادة ابن قرط رضي الله عنهم أجمعين " إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات " وهذا يقوله أنس رضي الله عنه للطبقة الثانية في هذه الأمة بعد الصحابة.
وهكذا أبو سعيد وهكذا عبادة بن قرط " إنكم لتملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كما نعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات " قال حميد بن هلال لأبي قتادة راوي الحديث فكيف لو أدركوا زماننا فكيف لو أدرك عبادة بن قرط زماننا ماذا كان يقول قال كان لذلك أقْوَل بقول أكثر وأكثر إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر سيقول إن تعملون أعمالاً لا ترونها شيئاً ليست أدق من الشعر كنا نعدها من المهلكات من قاصمات الظهور.(90/14)
وقيل كما في المسند وسنن الدارمي لشيخ الإسلام محمد بن سيرين عليهم جميعاً رحمة رب العالمين قيل له ألا تسمع إلى أثر عبادة بن قرط: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات قال نعم أرى جر الإزار فيها نعم أرى جر الإزار منها فالسلف رضوان الله عليهم أجمعين الصحابة الكرام الطيبون يحذرون هذا غاية الحذر غاية الخشية فجاء المتأخرون يسترسلون يجر ثيابه وإذا جر ثوبه وكلّمته يقول وماذا في هذا والقلب نظيف ولا أقصد كبراً ولا علواً ولا فخراً ولا رياءً.
وانظر إلى محمد بن سيرين وهو من أئمة التابعين يقول أرى جر الإزار منها أي يجر الإزار ويرون أن هذا أدق من الشعر لكن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعدونه من الموبقات كيف لا وقد ثبت في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه والحديث رواه ابن حبان في صحيحه ورواه البيهقي في السنن الكبرى ورواه الحميدي في المسند وإسناده صحيح من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه. إزرة أي الحالة التي يأتزر بها ويلبسها إلى أنصاف ساقيه ولا حرج ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ومرخص له أن يمد إزاره وثوبه إلى الكعبين فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة إذاً عقوبتان إذا نزل الإزار عن الكعبين فهو في النار قصدت الخيلاء أم لم تقصد وإذا جررت إزارك بطراً ورياءاً فمع دخولك النار تعقب بالعقوبة التي هي أعظم وأفضع أن الله لا ينظر إليك يوم القيامة ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه يوم القيامة أرى جر الإزار منها إنكم لتعملون إعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.(90/15)
عبادة بن قرط وقيل قرص وهو أحد الصحابة الثلاثة الذين أثر عنهم هذا الأثر كما ذكرت قبل رضي الله عنه وأرضاه مظلوماً شهيداً على يد من يدعون التوحيد في العصر الأول سنة 41هـ بعد مقتل علي على يد من يدعون التوحيد أيضاً بعد مقتل علي رضي الله عنه وأرضاه بسنة فعلي رضي الله عنه قتل على يد الموحدين والتعبير الصحيح عنهم على يد الملحدين ليسوا بأهل توحيد إنما أهل شقاق وتلحيد قتل على يد الخوارج وهكذا هذا العبد الصالح عبادة بن قرط كما ثبت في كتاب التاريخ الكبير للإمام البخاري عليه رحمة الله والأثر روى في تراجم الصحابة كالإصابة وأسد الغابة وغيرهما أنه كان في سفر في بلاد الأهواز وكان في غزوة فلما عاد سمع أذاناً فاتجه جهة الآذان فرأى أناساً يريدون الصلاة فلما رأوه عرفوا أنه من الصحابة قالوا من أنت قال أنا أخوكم أنا من عباد الله المؤمنين قالوا أنت أخ للشيطان الرجيم قال ويحكم ألا تقبلون مني ما قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جئته وأنا مشرك فقلت لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقبل ذلك مني وتركني وأنا إذا كنتم تحكمون عليّ بالكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقاموا وبقروا بطنه وقتلوه عبادة بن قرط عبادة بن قرص رضي الله عنه وأرضاه وهو من الصحابة يدعون أنهم يجددون الدين وأنهم أهل توحيد أهل تلحيد وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة أمثال هذه الصنف الخبيث وما أكثرهم في هذه الأيام يصولون على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام بالتكفير والتبديع وما يمنعهم من استحلال دمائهم إلا أنهم لا سلطان عندهم ولو مكن لهم لتقربوا إلى الله بشرب دمائنا وقطع رقابنا باسم التلحيد يطنطنون به ويدورون حوله خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من هذا الصنف الضال المضل الذي زين له سوء عمله فصده الشيطان عن السبيل وهو يظن أنه من المهتدين.(90/16)
ثبت في مسند البزار ومسند أبي يعلى والحديث قال عنه الإمام الهيثمي في المجمع إسناده حسن وقال عنه الإمام ابن كثير في تفسيره إسناده جيد من وراية حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن مما أتخوف عليكم رجلٌ قرأ القرآن حتى إذا رؤي عليه بهجته ونظارته وكان ردئ الإسلام اعتزل إلى ما شاء الله ثم انقلب على جاره فرماه بالشرك وقاتله بالسيف قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحق بالشرك الرامي أو المرمى قال الرامي " قرأ القرآن وتعبد ثم خرج بعد ذلك على أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام ينبذهم بالضلال والكفر بالبدعة ولا توجد هذه الأوصاف إلا فيه هوالذي يضلل أمة النبي صلى الله عليه وسلم ويصول عليه ويجول وما يمنعه كما قلت من إراقة دمائها إلا أن الله حال بينه وبين الحكم ونسأل الله أن يكفينا شرور أنفسنا وشر كل ذي شر إنه أرحم الراحمين واكرم الأكرمين إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.(90/17)
ومثل هذا أيضاً يقول حذيفة ابن اليمان رضي الله عنهما مبينا اختلاف الأحوال كيف تغير الناس عما كانوا عليه في العصر الأول وأثر حذيفة في مسند الإمام أحمد وفي إسناده أبو الرقاد الكوفي وهو الراوي عن حذيفة رضوان الله عليهم أجمعين أبو الرقاد قال عنه الإمام الحافظ ابن حجر في التقريب مقبول وقد أخرج له النسائي في كتاب فضائل على رضي الله عنهم أجمعين والأثر أورده الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء فقال في إسناده جهالة لوجود هذا الرجل أبي الرقاد وقد حكم صاحب كتاب بلوغ الأماني بشرح الفتح الرباني بأن إسناده جيد وكما قلت لا وجود في إسناده إلا هذا العبد الصالح أبو الرقاد الكوفي الراوي عن حذيفة حكموا عليه بأنه مقبول والحديث كما تقدم الأثر له شواهد يقول حذيفة رضي الله عنه وأرضاه: كان الرجل منا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلمة فيصير بها منافعنا وإني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات.(90/18)
كان الرجل إذا تكلم بكلمة مما يتكلم به المتأخرون في مجالسهم يتكلم بكلمة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيصبح بها منافقا إلى يوم لقاء ربه وإنني أسمعها في المقعد الواحد من أحدكم أربع مرات وما أكثر الألفاظ التي نلوك ألسنتنا بها ولا نبالي بها من استهزاء بشعائر الدين ومن احتقار لحملته ومن بعد ذلك تهوين لأمر رب العالمين عندما تأمره بطاعة يقول هذا هين وعندما تنهاه عن معصية يقول هذا سهل ومن هذه العبارات كل هذا يخشى على فاعله أن يخرج من دين الله عز وجل كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً وإن أسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ثم قال حذيفة رضي الله عنه وأرضه والله لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله بعذاب من عنده أو ليأمرن عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم إخوتي الكرام إن المحقرات التي لا يبالي بها المخلوقات إذا اجتمعت على الإنسان أهلكته وألقته في أسفل الدركات.(90/19)
وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم ما نحتقره من أعمالنا وما نفعله دون مبالاة تهدينا لشأنه واحتقاراً لأمره حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك غاية التحذير ففي مسند الإمام أحمد وصحيح بن حبان وسنن النسائي وابن ماجه من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاه أن النبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها إياك ومحقرات الذنوب إياك ومحقرات الأعمال فإن لها من الله طالباً والحديث رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً والطبراني في معجمه الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد في المسند والطبراني في معاجمه الثلاثة والبيهقي في شعب الإيمان والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة من رواية سهل بن سعد أنهما قالا عبد الله بن مسعود وسهل بن سعد رضي الله عنهم أجمعين قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على الرجل أهلكته. ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا فقال. كمثل قوم نزلوا في فلاة فأرادوا أن ينضجوا طعامهم فأتى هذا بعودةٍ وهذا بعودة وهذا بعودة جمعوا هذه العيدان حتى جمعوا حطباً كثيراً فأججوا ناراً وأنضجوا طعاماً وهكذا المحقرات " أي الذنوب التي لا يبالي بها الإنسان وبعدها صغيرة أذا اجتمعت على الإنسان أهلكته فلا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن الشيطان أيس من أن تعبده هذه الأمة أي عبادة عامة كاملة بحيث تخرج عن دينها وترتد لكن سيرضى منها الشيطان بما تحتقره من أعمالها.(90/20)
ثبت الحديث في ذلك في سنن الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح من رواية عمرو بن الأحوص رضي الله عنه وأرضاه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع: أي يوم هذا فقلنا هذا يوم النحر هذا يوم الحج الأكبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إلا عن دمائكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه ألا لا يجني والدٌ على ولده ولا مولود على والده " كل نفس بما كسبت رهينة ولا يتحمل وزر أحد ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أي عبادة عامة من قبل الجميع ولكن رضي بما تحتقرون من أعمالكم " ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به فهذه المحقرات إذا ابتلى بها المخلوقات أهلكتهم وأردتهم وألقتهم في أسفل الدركات.
إخوتي الكرام: وإذا تأمل الإنسان حاله لا يخلو من ذنوب وعيوب وعليه ينبغي أن يشتد خوفه من علام الغيوب هذه المحقرات هذه الذنوب التي يعتبرها كثير من الناس سهلة يسيرة انظروا لآثارها عند الله جل وعلا.(90/21)
ثبت في معجم الطبراني الأوسط والحديث رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت من رواية كعب بن عجرة رضي الله عنه وإسناد الحديث حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم زار كعب بن عجرة في مرضه فقالت أمه هنيئاً يا كعب هنيئاً لك الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم من المتألية على الله فقال كعب هذه أمي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال يا أم كعب وما يدريك لعل كعباً كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع مالا يغنيه سبحانك ربي سبحانك ربي إذا تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه بالشيء اليسير ذلك يحول بينه وبين الجنة والحديث رواه الترمذي وأبو يعلى والإمام ابن أبي الدنيا من كتاب الصمت من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قال استشهد غلام منا يوم أحد فوجدنا على بطنه حجراً مربوطاً من شدة الجوع رضي الله عنه وأرضاه فبكت باكية وقالت هنيئاً لك الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ما لا يضره " أي لا يضره إنفاقه شيء قليل لا يجود به أو يحرك لسانه فيما لا ينفعه في دنياه وفي آخرته.(90/22)
والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان ورواه ابن أبي الدنيا أيضاً وأبو يعلى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال مات رجل منا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال قائل هنيئاً لله الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل فيما لا ينقصه " بما لا يضره بما لا يغنيه كما تقدم معنا الكلام فيما لا يعني من المحقرات التي لا أقول إنها أدق في أعيننا من الشعر إننا نعتبرها عبادة في هذه الأوقات إذا شغلنا مجالسنا بالهذيان والقيل والقال فيما لا يعنينا دون أن نخوض في غيبة ونميمة وقذف وبهتان فنعتبر أنفسنا من الصديقين ونبينا الأمين عليه الصلاة والسلام يعتبر من وقع في هذا فقد صار بينه وبين الجنة حائل لعله يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ما لا يغنيه. وثبت في شعب الإيمان للإمام البيهقي وفي كتاب الحلية لأبي نعيم من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنهما قال اجتمع نسوة عند أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين فقالت امرأة منهن والله لأدخلن الجنة أسلمت وما زنيت وما سرقت ثم انفض النساء فلما نامت هذه المرأة في المساء رأت في منامها قائلاً يقول لها أنت المتألية على الله تقولين ستدخلين الجنة وكيف تدخلينها وأنت تتكلمين فيما لا يعنيك وتبخلين بما لا يغنيك. أنت تدخلين الجنة وفيك هاتان الصفتان فلما استيقظت ذهبت إلى أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين وعرضت عليه ما رأته في منامها فجمعت النسوة وأمرتها أن تذكر للنسوة ما سمعته في منامها.(90/23)
إخوتي الكرام من استحضر تقصيره سيخاف من ربه عز وجل هذا اللسان خلقه الله جل وعلا ليسبحه وليذكره وليهلله وليشتغل بالفوائد لينال المفائم والفرائد ورحم الله امرءاً قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فلم وإذا أطبقت لسانك في الهذيان فيما لا يغنيك فقد جعلت حاجزاً بينك وبين جنة الله ورضوانه فكيف لو أطلقت اللسان في لدغ بني الإنسان وسلطه عليهم كأنه تنين وثعبان كيف سيكون حالك وكل واحد على نفسه بصيرة يعلم ما يخطئ في حق الله إن كان بلسانه وإن كان بعد ذلك بجوارحه الأخرى.
إخوتي الكرام: لا بد من أن نضبط أنفسنا وأن نمنعها من مخالفة ربنا وإذا وقع منا ما وقع وكلنا مخطئون فينبغي أن نخاف من الحي القيوم إخوتي الكرام من تمام إيمان الإنسان وكماله وصدقه في إيمانه أنه يضبط لسانه ولا يتكلم إلا بخير.
كما ثبت في المسند والصحيحين وسنن النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" إما أن تنطق بما ينفع وإما أن تسكت والسكوت من صفات الطيبين الخيرين المؤمنين الصادقين.
إن كان يعجبك السكوت فإنه ... قد كان يعجب قبلك الأبرار
ولئن ندمت على سكوتك مرة ... فلتندمن على الكلام مرارا
إن السكوت سلامةٌ ولربما ... زرع الكلام عداوة وضرارا
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يحفظنا من مخالفته ومعصيته واسأله أن يوفقنا لطاعاته ومرضاته وأسأله أن يعاملنا برحمته ومغفرته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:(90/24)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد إخوتي الكرام:
أننا نعيش في عصر حقيقة اختلت فيه الموازين وإذا كان الإنسان يقع في معصية لرب العالمين فهذه طبيعة البشرية لكننا نتفنن في هذا الحين في معصية العالمين قد وصل بنا الشطط والسفاهة أننا نلقي أعظم الأوصاف وأبلغ عبارات المدح على العصاة وعلى الغواة ما كفانا أننا عصينا ربنا وأنه يجب علينا أن يذكر بعضنا بعضا بالتوبة النصوح والرجوع إلى الله جل وعلا بل بدأنا بعد ذلك نتمادح ونثني على بعضنا بأعظم أوصاف الخير مع أننا نخوض في المنكرات والشر وإذا كان الممدوح وصلت به السفاهة والعمى أنة يرضى أن يمدح بالباطل فأنا أعجب حقا لمن يثنون على من يعصون الله جل وعلا على بعض المنابر يثنون على من يعصون الله جل وعلا ويمدحونهم ويطرحونهم ويبيعون دينهم بدنيا غيرهم فذا كان الممدوح الذي يمدح بالباطل ويرضى فهذا قليل العقل ويدل على سخفه والله توعده بعذاب أليم ولم يكون من الفائزين يوم الدين فكيف سيكون حال المادح بالباطل عندما يضلل ذلك الإنسان ويؤذي عباد الرحمن في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه حقيقة.(90/25)
إن الأمر كما قال شيخ الإسلام أيوب السختياني عليه رحمة الله عندما قال لا خبيث أخبث من قارئ فاجر نحن أمة نعتنا الله بأننا نؤمن به ونعمل الصالحات ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر لسنا بأمة نضلل عباد الله ونطرى العصاة بما نهانا عنه الله وهذا إذا فعل بغير بيوت الله لكان معيباً فكيف إذا فعل في بيوت الله إن الأمر كما قلت عجيبٌ عجيب وما أعلم لزماننا نظيراً ما أعلم له مثيلاً انظروا إلى العقوبة التي يتوعد الله بها من يرضى أن يمدح بالباطل بما لم يفعله بالخيرات والصالحات.
يقول الله جل وعلا في آخر ربع من سورة آل عمران: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون ان يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم". والآية نازلة في المنافقين وفي اليهود كما نقل عن سلفنا الطيبين لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا أي من المعاصي والضلال الإضلال عضوا ذا العزة والجلال ثم بعد ذلك فرحوا إذا مدحوا بأنهم على خير وصلاح أما كفاكم ضلالاً لا أنكم عصيتم الله ثم تريدون لقب ولاية الله والله ماطع الشيطان بهذا وشياطين الإنس في هذه الأيام كيف وصل الضلال بذلك الذي يلوث المنابر فيقول فيها هذا الكلام الباطل لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم فهذا هو حق الممدوح فكيف ستكون العقوبة في حق المادح الذي باع دينه بدنا غيره وضلل غيره وما نصحه وما اتقى الله فيه.(90/26)
والآية إخوتي الكرام يمكن أن تكون نازلة فيمن عمل الصالحات ثم فرح عجباً وفرحاً وبطراً وفخراً وأراد أن يمدح بصالحات لم يعملها كما نص على ذلك الإمام الخطيب الشربيني في كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض كلام ربنا الحكيم الخبير ومعنى الآية لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا بما فعلوه من صالحات فرح عجيب وبطر وأشر ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا أي بصالحات أخرى لم يفعلوها فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم.
إخوتي الكرام: هذا اللسان ينبغي أن نضبطه وأن نتقي الرحمن وينبغي أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر وأما أن نتمادح بالباطل وأن نقول للعاصي الجاهل إنك ولي كامل والله هذه بلية ما سبق لها مثيل وهذا العصر الذي نعيش فيه عصر اختلال الموازين.
إخوتي الكرام إن المحقرات التي نغوص فيها ستهلكنا إذا لم نع أمرنا ولم نعد إلى ربنا وأما الذنوب الواضحات التي هي معلومة عند المخلوقات فلا أريد أن أفيض في الكلام عليه لكن أذكر نماذج منها من باب ذكر المثال على غيره هذه معلومة وأما المحقرات قلت هذه لا نبالي بها وهي من المهلكات أما الذنوب الأخرى التي هي واضحة وتفعل على أنها معصية فهذه أيضاً كثيرة والأمة تخوض فيها منها قطيعة الرحم وقطيعة الرحم سبب للمنع من دخول الجنة كما ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن النسائي من رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يدخل الجنة قاطع " يعني قاطع رحم ومنها الغيبة والنميمة وقد فاشتا فينا غاية الفشو وقد ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن ابن ماجه من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخلن الجنة فتات " يعني نمام ومنها الكبر والغلو الذي يحصل في كثير من النفوس والخيلاء والتكبر على عباد الله.(90/27)
وقد ثبت في المسند وصحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي من رواية عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخلن الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل يعجبه أن يكون نعله حسنة وثوبه حسن قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر –الحق رده وجحده- وغمط الناس" احتقارهم وازدراؤهم.
وثبت في سنن النسائي بإسناد صحيح من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر" عاق لوالديه بما اعطى يدمن الخمر لا يدخلون الجنة هذه كلها ذنوب يفعلها الناس ويعملون شناعتها.
وثبت في المسند والصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال الذي لا يأمن جاره بوائقه".
وثبت في المسند والصحيحين أيضا من رواية أبى هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزن وهو مؤمن ولا يسرق السارق حسن يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن".
هذه ذنوب وعيوب تخوض فيها الأمة وهي معلومة وهناك محقرات نخوض فيها ونسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يحفظنا من جميع الذنوب والعيوب إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم ألهمنا رشدنا واحفظنا من شرور أنفسنا يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فاصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبة تسليماً كثيرا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا.
اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا. اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا. اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك.(90/28)
اللهم أغفر لمن عَبَدَ الله فيه اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين..
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
"والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".(90/29)
أقسام النفاق
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
أقسام النفاق
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.
اللهم الحمد كله ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم {فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} .
{يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً} .
أما بعد:(91/1)
معشر الأخوة المؤمنين أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد كيف لا وهي بيوته وفيها نوره وهداه وقد نعت الله الذين يعمرونها بأنهم رجال ووصفهم بأربع خصال لا تلهيهم البيوع والتجارات من طاعة رب الأرض والسماوات يعبدون الله ويعظمونه ويصلون له ويسبحونه يشفاقون على عباد الله ويحسنون إليهم، ويبذلون ما في وسعهم استعداد للقاء ربهم {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
كنا نتدارس إخواتي الكرام الصفة الرابعة من صفات هؤلاء الرجال العظام ألا وهي خوفهم من ذي الجلال والأكرام يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار وقد مر معنا تعريف الخوف وبيان منزلته في شريعة الله جل وعلا وثمرات الخوف التي يحصلها الخائفون في العاجل والآجل وكنا نتدارس الأمر الرابع من مباحث الخوف في أسباب خوف المكلفين من رب العالمين وقلت إن الأسباب مهما كثرت وتعددت وتنوعت يمكن أن ترد إلى ثلاثة أسباب:
أولهما: إجلال الله وتعظيمه.
وثانيهما: خشية العبد من ربه من أجل تفريطه في حقه وجنبه سواء كان ذلك التفريط يتعلق بالتقصير في المأمورات أو بارتكاب المنهيات المحظورات.
وقد تقدم الكلام إخواتي الكرام على هذين السببين في المواعظ الماضية وشرعنا في مدارسة السبب الثالث من أسباب خوف المكلفين من رب العالمين ألا وهو الخوف من سوء الخاتمة وقلت إن أسباب سوء الخاتمة كثيرة أيضاً ويمكن أ، ترد إلى سببين اثنين.
أولهما: الأمن على الإيمان من الذهاب والفقدان فما أحد أمن على إيمانه أ، يسلبه إلا سلبه عند موته نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وأن يحسن ختامنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وقد مر الكلام إخواتي الكرام على هذا السبب مفصلا بأدلته.(91/2)
السبب الثاني: من أسباب سوء الخاتمة: هو اغترار المكلفين في الحالة الحاضرة والعجب بما يصدر عنهم من طاعات ناقصة قاصرة والغفلة عما في المكلفين والمكلفات من بليات مهلكات وقلت إن هذه البليات تتنوع إلى ثلاثة أنواع:
أولهما النفاق، وثانيهما البدعة، وثالثها الحرص على الدنيا والركون إليها وقد شرعنا أيضا في مدارسة الأمر الأول من هذه الأمور الثلاثة ألا وهو النفاق وبينت
وجه كون النفاق مسبباً لسوء الخاتمة باتفاق وقد كان في عزمي كما ذكرت في الموعظة الماضية أن أتكلم عن كل سبب من هذه الأسباب الثلاثة في موعظة كاملة ولكن قدر الله وما شاء فعل فما انتهينا من مدارسة السبب الأول فيما يتعلق بالأمر الثاني من أسباب سوء الخاتمة ووصلنا عند أقسام النفاق ولذلك أريد أن أبدأ في هذه الموعظة من حيث وقفنا في الموعظة الماضية.(91/3)
إخواتي الكرام إذا كان النفاق كما تقدم معنا هو اختلاف السر والعلن والمدخل والمخرج واختلاف الظاهر والباطن فإن النفاق ينقسم إلى قسمين اثنين باتفاق أئمتنا الكرام وقد ثبت هذا في سنن الترمذي في كتاب الإيمان نر باب صفة المنافق عن إمام المسلمين وسيدهم في زمنه أبي سعيد الحسن البصري عليه رحمة الله ورضوانه أنه قال كما في سنن الترمذي في المكان المشار إليه النفاق نِفَاقَان نفاق التكذيب ونفاق العمل فالنفاق ينقسم إلى قسمين اثنين نفاق أكبر وهو نفاق التكذيب ونفاق أصغر وهو نفاق العمل وهذا موضوع موعظتنا في هذه الموعظة المباركة ونسأل الله أن يحفظنا من النفاق بقسميه وأن يجعلنا من المؤمنين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين إخواتي الكرام، أما النفاق الأكبر وهو نفاق التكذيب فهذا هو المخرج من ملة الاسلام وهذا هو الموجب لصاحبه الخلود في النيران ومحله القلب والجنان بحيث ينطق الإنسان بالإيمان عن طريق اللسان لكنه يبطن في قلبه الجحود والكفران ويدخل في هذا النفاق أعني النفاق الأكبر نفاق التكذيب يدخل فيه أيضا اعتقاد الإنسان لما يناقض أصل الإيمان فمن وجد في قلبه شئ يناقض أصل الإيمان كما يتصف بذلك أهل التباب والخسران فهذا من المنافقين النفاق الأكبر ونفاقه نفاق تكذيب وليس له في الإسلام نصيب وهو من المخلدين في نار جهنم يوم الدين هذا الذي يدخل في هذا النفاق أيضا كما قلت أن يقوم في قلب الإنسان شرر يناقض أصل الإيمان كما لو اعتقد الإنسان أنه لا يجب عليه أن يصدق النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخبر ولا يجب عليه أن يطيعه فيما أمر ولا يجب عليه أن يطيعه فيما عنه نهى وزجر وحذر فمن قام هذا في قلبه وجعل النبي عليه الصلاة والسلام واحدا من الأنام كلامه قابل للحق وللبطلان من جعل هذا النبي عليه الصلاة والسلام فلا شك في نفاقه وإن شهد بلسانه لاإله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام ويدخل في هذا النفاق أعني النفاق(91/4)
الأكبر حصول المسرة للإنسان وحصول الفرح في قلبه عند خذلان المؤمنين وانكسارهم في هذه الحياة وعند انتصار الكافرين وتقدمهم في هذه الحياة خذل المسلمون فشلوا في موقعه في أي أمر من الأمور طار فرحا. تقدم الكافرون طار فرحا هذا من علامة النفاق الأكبر وليس له حظ في الاسلام ويدخل في هذا أيضا نقيض هذه الصفة أن تظهر على الإنسان المسارة إذا انتصر المسلمون وأن تظهر عليه المسارة إذا انكسر الكافرون فكل هذا من علامات النفاق الأكبر وهو كما قلت مخرج لصاحبه من ملة الاسلام ومخلد له في أسفل دركات النيران وقد أخبرنا الله جل وعلا عن المنافقين في السورة التي سماها باسمهم في سورة المنافقون أنهم يتمنون انفضاض المسلمين عن النبي الأمين عليه الصلاة السلام وأنهم يدعون العزة لأنفسهم ولا يريدونها لعباد الله الصالحين.
{هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون، يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنً المنافقين لا يعلمون} .
فهكذا كل من اتصف بشيء من هذه الصفات هو خارج من دين رب الأرض والسماوات وقد جاء هذا مقررا في كثير من الآيات المحكمات ففي سورة النساء يقول رب الأرض والسماء {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً} إلى أخر الآيات التي سأقرأها عليهم بعد بيان سبب نزولها.(91/5)
روى الإمام الطبري في تفسيره وبن المنذر في تفسيره وإسحاق بن راهويه بسند صحيح من الإمام الشعبي والأثر رواه أيضاً ابن المنذر في تفسيره وكذا الإمام الطبري في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره ورواه عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين والأثر رواه أيضاً الإمام الطبري في تفسيره عن الربيع بن أنس، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردوية في تفسيره عن أبي الأسود الدؤلي ورواه وصححه في تفسيره عن ضمرة ابن حبيب وهو من أئمة التابعين توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة، حديثه مخرج في الكتب الأربعة ثقة عدل، إمام رضا هؤلاء خمسة من التابعين أن كلام الشعبي ومجاهد والربيع بن أنس وأبو الأسود الدؤلي وحمزة بن حبيب الزبيدي رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين أنهم، لو وقعت خصومة بين بعض المنافقين في زمن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام مع بعض اليهود الملعونين فأراد اليهودي من المنافق أن يذهب في رفع قضيتها والأحتكام إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وهو يعلم علم اليقين أن نبينا عليه الصلاة والسلام يحكم بالحق المبين ولا يأخذ عليه رشوة والمنافق يريد من هذا اليهودي الذهاب إلى حكام اليهود لأنهم يأخذون الرشوة وينحرفون عن الحكم بالحق وهذا الأثر كما قلت عن خمسة من التابعين وروي متصلا عن صحابي رضي الله عنه لكن بسند ضعيف رواه الإمام الكلبي في تفسيره عن أبي صالح عن بن عباس رضي الله عنهم أجمعين وهكذا الإمام الكلبي قال الإمام بن حجر في فتح الباري في الحزء الخامس صفحة سبع وثلاثين وهذا الأثر المتصل المرفوع من هذا الصحابي عبد الله بن عباس رضوان الله عليهم أجمعين وإن كان ضعيفا فيشهر له أثر مجاهد ومن معه من الآثار المتقدمة عن أئمتنا الطيبين من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين وخلاصة أثر عبد الله بن عباس وكما قلت يتقوى بالمراسيل المتقدمة أنه عندما اختصم هذان المنافق واليهودي ذهب في نهاية الأمر إلىالنبي عليه الصلاة والسلام(91/6)
فقض بأن الحق لليهودي فلما خرجا من عند نبينا عليه الصلاة والسلام قال المنافق لليهودي لا أقبل بحكم النبي عليه الصلاة والسلام تعال لنعرض حكومتنا وقضيتنا على أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فوافق اليهودي وذهب معه وبعد أن عرضت عليه القضية قال اليهودي يا أبكر ذهبنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقضي بأن الحق فما كان من أبي بكر رضوان الله عليه إلا أن قال ما كان لابن أبي قحافة أن يقضي في مسألة قضي فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم الحكم ما قضي به النبي عليه الصلاة والسلام فذهبا إلى سيدنا عمر رضوان الله عليهم أجمعين إلى الفاروق رضي الله عنه وأرضاه فعرضا عليه القضية فقال اليهودي يا أمير المؤمنين يا عمر رضوان الله عليهم أجمعين لا تعجل ذهبنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقضي بأن الحق لي ثم ذهبنا إلى أبي بكر رضي الله عنه فأمتنع عن القضاء في هذه المسألة لأن النبي عليه الصلاة والسلام قضى فيها فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه ثاني الخلفاء الراشدين للمنافق أحقيق ما يقوله اليهودي قال نعم قال فانتظرا ثم دخل إلى بيته وخرج وبيده سيفه فضرب المنافق وقطع رقبته وقال هذا حكمي فيمن لم يقبل بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب اليهودي مسرعا إلى النبي صلي الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن عمر قتل صاحبي ولولا أنني شردت لقتلني فأنزل الله جل وعلا مقرراً فعل عمر وأن ذلك المنافق كافر لا حظ له في الإسلام:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:60) .
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء:61) .(91/7)
(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) (النساء:62) .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63) .
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (النساء:64) .
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .
فكل من قدم رأيه على حكم رسول الله عليه الصلاة والسلام وكل من رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ من قوله ويترك وأن طاعته ليست واجبة فيما يخبر وفيما يأمر وفيما ينهى عنه ويزجر فلا شك في نفاقه ولا شك في كفره ولا شك في سوء خاتمته ولا شك في تخليده في نار جهنم.(91/8)
يقول الإمام بن القيم عليه رحمة الله جل وعلا في كتابه مدارج السالكين في الجزء الأول صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة ص325: (هل كان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد يقدم رأيه وقياسه على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل كان في زمنه عليه الصلاة والسلام وبين الصحابة الكرام أحدٌ يقدم ذوقه ووجده على كلام النبي عليه الصلاة والسلام وهل كان في زمنه ووجد في الصحابة من يقدم عقله وسياسته على شريعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال إن الله صان أعينهم وأكرم وجوههم من أن ترى من هذا شاكلة ثم قال ولقد حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن لم يقبل بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قضيته بالسيف وقال هذا حمي فيمن لم يقبل حكم النبي عليه الصلاة والسلام.
نعم إخوتي الكرام: إن هذه الأمور ملحقة للإنسان بالمنافقين إذا اعتقد ما يناقض أصل الإيمان من أن النبي عليه الصلاة والسلام لا تجب طاعته وأنه لا مانع من الركون إلى الكفار ولا مانع من الأخذ بقوانينهم وأنظمتهم وضلالهم، وإذا بعد ذلك انتصر المؤمنون كأنه يستاء وإذا تقدم الكافرون يفرح أي نفاق بعد هذا النفاق وأي كفر أشنع من هذا الكفر والله جل وعلا يقول ف سورة محمد عليه الصلاة والسلام:
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) (محمد:25-28) .(91/9)
نعم الذين يقومون على حكم الله جل وعلا حكم العبيد فلا شك فلا شك في نفاقهم وخروجهم من دين الله المجيد وهؤلاء ينطبق عليهم ما ينطبق على المنافقين في العصر الأول، {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} .
نعم: قد أفسدوا في الأرض باسم صلاحها، قد بدلوا أحكامه بنظام، فالنظام هو ما شرعه الرحمن جل وعلا وكل من رأى وكل من اعتقد وكل من مال في قلبه إلى نظام آخر ورآه أنه واجب الطاعة ولا حرج ولا ضير عليه في الأخذ به والاحتكام إليه فلا شك في نفاقه، النفاق الأكبر الذي يخرجه من ملة الإسلام ويوجب له الخلود في النيران، إحدى الكلام: الإمام بن القيم عليه رحمة الله بعد أن أورد مقالته السابقة قال: فلو رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه زماننا ويقصد به الزمان الذي عاش فيه وهو القرن الثامن للهجرة وقد توفي سنة واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة 751هـ رحمة الله ورضوانه عليه، كيف لو رأى أيامنا وعصرنا الذي نعيش فيه دعاة ضلالة على أبواب جهنم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا من أجابهم قذفوه في نار جهنم، ضلالات ما أكثرها، يروج لها ويضلل العباد نحوها، ماذا يقول عمر رضي الله عنه لو أدرك زماننا إخوتي الكرام ولا يشكلن عليكم أن بعض هؤلاء المنافقين الذي يرون عدم وجوب طاعة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام في جميع شئون الحياة لا يشكلن عليكم أن بعض هؤلاء المنافقين يفعلون أحياناً بعض الخيرات ويقومون ببعض شعائر الإسلام لا يشكله عليكم هذا أبداً وقد كنت ألمحت وأشرت في الموعظة السابقة إلى شيء من ذلك وبينت أنه إذا حصل من المنافق بعض شعائر الإسلام لا يعني أنه ليس من المنافقين وقررت هذا بأحاديث في الموعظة الماضية والله يؤيد دينه بالرجل الفاجر وبالأقوام الأشرار وبمن لا خلاق لهم عند الله جل وعلا، وإذا كان أكثر منافقي هذه الأمة القراء فكيف سيكون إذا البلاء فيمن عداهم إن النسبة أكبر وأكبر(91/10)
إخوتي الكرام، إذا قام بعض الناس ببعض شعائر الإسلام وهكذا وجد له خيرات وإحسان ثم بعد ذلك اعتقد في قلبه تلك الضلالات والآثام فلا يرى وجوب طاعة نبينا عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويرى أن خيره كخبر غيره فلا شك في كفره ونفاقه وإن صام وصلى وحج واعتمر وزعم أنه مسلم وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا وأخبرنا أنه يخشى علينا من هذا الصنف اللعين الذي يظهر الإيمان لكن يأتي بما ينقضه في قلبه على التمام فليس له عند الله وزن ولا اعتبار لكن يحصل به الاغترار في هذه الحياة من قبل بعض الناس الذين لا يعون حقائق الأمور أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا وأخبرنا أنه يخشى على أمته من هذا الصنف الذين يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق ويبطنون الكفر هذا حال المنافقين النفاق الأكبر.
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير والإسناد رجاله موثقون كما قال الإمام الهيثمي في المجمع وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب إسناده لا بأس به، والحديث من رواية عمران بن حصين رضي الله عنهما والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً والبزار وأبو يعلى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين وإسناد الحديث أيضاً لا بأس به وهو في درجة الحسن، ورواه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير من رواية عليّ رضي الله عنهم أجمعين، لكن في الإسناد في رواية على الحارث الأعور وهو ضعيف كما قرر أئمتنا الكرام.
أما حديث عمران وحديث عمر رضي الله عنهما فكما قلت صحيحان وهما يشهدان لحديث عليّ ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام: [إني أخاف عليكم إني أخشى عليكم] وفي رواية [أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان] منافق لكنه ينتمي إلى الإسلام ويقرأ القرآن ويرى بعد ذلك في قلبه عدم وجوب طاعة النبي عليه الصلاة والسلام ويُحَكِّم أنظمة الكفر ويحتكم إليه، [إنما أخشى عليكم إني أخاف عليكم، أخوف ما أخاف عليكم كل منافق عليم اللسان] .(91/11)
والحديث كما قلت إخوتي الكرام في مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير بسندٍ رجاله موثقون والحديث في درجة الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما وهو في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومسند أبى يعلى من رواية عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ورواه الطبراني في معجمه الأوسط والصغير من رواية عليٍّ رضي الله عنهم أجمعين بهذا اللفظ وأما الرواية فمروية عن عقبة بن عامر رضي الله عنه في المسند مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير ورواها الإمام بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وإسناد الحديث حسن عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إنما أخاف عليكم اثنتين هلاك أمتي في اثنتين في الكتاب وفي اللبن، قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بال الكتاب؟ قال يقرأه المنافقون فيجادلون به الذين آمنوا قالوا وما بال اللبن؟ قال يحبون اللبن فيتركون الجمعة والجماعات ويندون: أي يذهب مع ماشيته إلى البادية تعلقاً بعض الدنيا ومتاعها وشرب اللبن منها فيترك الجماعات ويترك الجمع وبعد ذلك يكون من أهل البادية [إنما أخشى عليكم اثنتين إني أخاف عليكم من اثنتين هلاك أمتي في اثنتين في الكتاب وفي اللبن] .
وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن يقول لنا في هذا الحديث هلاك أمتي في الشبهات والشهوات، أما الشبهات هذا منافق عليم اللسان قرأ القرآن ثم جاء بعد ذلك ينقض الإسلام باسم الإسلام منافق عليم اللسان قرأن القرآن وجادل به الذين آمنوا، وأما أولئك عامة رعاع ركنوا إلى الشهوات وآثروا الملذات في هذه الحياة على طاعة رب الأرض والسماوات، وهل البلاء إلا من الشهوات والشبهات ومرض الشبهات أشنع من مرض الشهوات بكثير.(91/12)
نعم إخوتي الكرام: إن الإنسان إذا كان منافقاً عليم اللسان يقرأ القرآن ويجادل عباد الرحمن كما هو موجود في هذه الأيام تبرر الرذائل من قبل من وصفوا بأنهم منافقون وفي لسانهم علم بالقرآن وقد خشى علينا نبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت إخوتي الكرام من هذا الصنف خشية عظيمة وزادت خشيته من هذا الصنف على خشيته من الدجال اللعين، ففي مسند الإمام أحمد وصححه مسلم والسنن الأربعة من حديث النواس ابن سمعان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما ذكر الدجال وخاف الصحابة من أمره وظنوه أنه في طائفة من النخل قال عليه الصلاة والسلام غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال من هؤلاء وضحهم نبينا عليه الصلاة والسلام كما في مسند الإمام أحمد بسندٍ جيد من رواية أبي ذرٍ رضي الله عنهم أجمعين قالوا من يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال الأئمة المضلون منافق عليم اللسان، هذا يفسد في الإسلام ما لا يفسده الدجال بين الأنام منافق عليم اللسان [غير الدجال أخوفني عليكم من الدجال الأئمة المضلون] .
إخوتي الكرام: وهذا الصنف السافل وجد في العصر الأول وحذاري حذاري أن يقل إنسان إنه لا يوجد في عصرنا من هذا الصنف، والله الذي لا إله إلا هو لو نجى المصلون دعك عن غيرهم لو نجا المصلون الذين يصومون النهار ويقومون الليل من النفاق الأكبر فهنيئاً لهم ونسأل الله جل وعلا أن يحفظنا من النفاق والمنافقين إذا نجا الخيار والأخيار من هذا النفاق فهنيئاً لهم عند العزيز الغفار، هذا الأمر كان موجوداً في العصر الأول في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وهو أعظم آيات الله تمشي على الأرض ومع ذلك وجد هذا النفاق في ذلك العصر الذي عاش في نبينا عليه الصلاة والسلام فكم نسبة هذا النفاق في العصور المظلمة التي ستكون بعده نسأل الله العافية والسلامة بفضله ورحمته.(91/13)
ثبت في صحيح البخاري عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه وأرضاه وهو من أئمة التابعين الكبار توفي سنة خمس وسبعين للهجرة 75هـ، حديثه في الكتب الستة، عابد قانت صوَّام قوَّام (عندما احتضر رضي الله عنه اشتد جزعه وبكاؤه فقيل له حسِّن ظنك بربك،، قال والله لو أتيت بكتاب فيه مغفرة من الله لي لكان جديراً بي أن أبكي وأخاف قيل لم قال حياءً من الله عز وجل) أحدنا إذا قصر مع أخيه تقصيراً يسيراً واعتذر إليه وغفر له أخوه يستحي من أن يراه فكيف ونحن نخطئ في الليل والنهار لو جاءني صك بالمغفرة لاستحييت من لقاء الله جل وعلا، فكيف وأنا أخوض بما أخوض فيه؟ يقول الأسود ابن يزيد كنا مع عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في المسجد فجاء حذيفة بن اليمان رضي الله عن الصحابة أجمعين فوقف على رأسنا وسلم ثم قال (لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيراً منكم) والحديث في صحيح البخاري لقد أنزل النفاق: يعني كان هذا موجود فيهم على قوم كانوا خيراً منكم فقلنا له انظر ما تقول إن الله يقول في كتابه:
{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} قال (فنظر عبد الله بن مسعود فتبسم ثم مضى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين، فجلس في ناحية من المسجد، فلما قام عبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين وتفرق عنه أصحابه يقول الأسود بن يزيد رماني حذيفة ابن اليمان بالحصباء: أي أرسل إليه ورجمه بشيء من الحجارة الصغار من أجل أن ينتبه إليه ليأتي إليه يقول رماني بالحصباء فأتيته فقال أما رأيت إلى ضحك عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه وقد علم صحة ما أقول.(91/14)
نعم لقد نزل النفاق على قوم كانوا خيراً منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم ومن تاب تاب الله عليه ومن لم يتب فحاله على نفاقه وفي ضلاله، والله يقول في كتابه في سورة الفاضحة، براءة، التوبة {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذابٍ عظيم} قد ثبت في مسند الإمام أحمد وصححه مسلم ومسند أبي داود الطيالسي من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: [في أصحابي اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يرون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط] ، والحديث في صحيح مسلم في أصحابي [اثنا عشر منافقاً لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط] فكيف سيكون حال من بعدهم؟
إن النفاق بعد العصر الأول أخبث من النفاق في العصر الأول كما يقول حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين، والأثر في صحيح البخاري يقول المنافقون اليوم شر منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لم قال كانوا يومئذ يسرون وهم اليوم يجهرون، نعم إن الذي يظهر الإيمان في هذه الأيام ثم يأتي بما ينقض به إيمانه عن طريق الكلام الباطل الذي يلوكه بلسانه، إن هذا إظهار للنفاق وقد كان المنافقون في العصر الأول يكتمون نفاقهم وهو في قلوبهم والله فضحهم فهو يعلم السر وأخفى، وأما المنافقون في هذا العصر فيظهرون نفاقهم على ألسنتهم ويتهجمون على دين الله صباح مساء وهم مع ذلك يزعمون أنهم يقرءون القرآن وأنهم بعد ذلك يقومون بشعائر الإسلام لكنهم ينقضون دين الرحمن، إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا المنافقون في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يسرون نفاقهم والمنافقون في أزماننا يظهرون نفاقهم.(91/15)
عباد الله من اتصف بهذا النفاق فكما قلت فلا شك في خروجه من الملة ولا شك في سوء خاتمته وخلوده في نار جهنم والله جل وعلا يقول في كتابه {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} مقعدهم في جهنم تحت مقاعد الكفار والسبب في ذلك أنهم كانوا يستهزءون بالمؤمنين ويخادعون الله وأولياءه {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} وقد أُثِرَ عن العبد الصالح بن جريج وهو عبد العزيز بن عبد الملك بن جريج توفي سنة خمسين ومائة للهجرة 150هـ، حديثه في الكتب الستة، من الأئمة الصالحين الربانيين في هذه الأمة يقول هذا العبد الصالح كما في تفسير الطبري وابن المنذر بسند صحيح في تفسير قول الله جل وعلا: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} (الحجر:44) .
في نار جهنم {لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} يقول أبواب جهنم ودركاتها جهنم وهي الطبقة الأولى فيها ولظى والحطمة والسعير وسعر والجحيم فيا أبو جهل والهاوية وفيها المنافقون {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا} هذا النفاق الأول، وهو النفاق الأكبر وهو نفاق التكذيب نسأل الله أن يسلمنا منه بفضله ورحمته إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.(91/16)
وأما النفاق الثاني فلا شك أننا نخوض فيه ونحن داخله وهو يحيط بنا من جميع جهاتنا لكن من سلم من النفاق الأول فليحمد الله، وأما النفاق الثاني وهو النفاق الأصغر محله الأعمال كما أن النفاق الأكبر محله القلوب، وأما النفاق الأصغر محله الأعمال، كان يريد الإنسان بعلمه وعمله غير وجه ربه وهو الرياء دون أن يأتي بما يناقض الإيمان وكأن يريد العلم لوجه الله ولكنه لا يطلبه من خبر الله لا يطلبه من مشكاة رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يعمل على حسب أمر الله، إنما يدخل عقله واجتهاده وأقيسته أو ذوقه وكشفه ووجده كما ابتليت الأمة الإسلامية بصنفين في هذا الأمر بعلماء الكلام وتنطعهم العقلي وبالمخرفين من الصوفية وتنطعهم الذوقي الكشفي.
وكنت ذكرت إخوتي الكرام ضمن مباحث النبوة على نبينا صلوات الله وسلامه أن الأدلة مهما تعددت وتنوعت تنقسم إلى قسمين لا ثالث لهما، دليل معتبر شرعي أخذ به سلفنا الكرام، ودليل مردود متبدع مذموم عول عليه المتأخرون أهل الشطط في هذه الأمة، أما الدليل الأول وهو المعتبر له قسمان أيضاً دليل الشرع من كتاب وسنة ودليل الفطرة السليمة الصحيحة المستقيمة فهذا دليل سلفي دليل شرعي كان أئمتنا يقولون عليه ويأخذون به.
وأما الدليل المبتدع المذموم فله قسمان تعمق عقلي ووجد بعد ذلك ذوقي يجده الإنسان في نفسه مع انه يرى يجب أن نطيع النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر ويجب أن نطيعه وأن ننتهي عما نهانا عنه وحزر ويجب أن نصدقه فيما أخبر لكنه يدخل كشفه وهوسه ووجده وذوقه كما أن ذاك يدخل تنطعه العقي في الأدلة أربعة، دليل الشرع من كتاب وسنة، دليل الفطرة المستقيمة، ودليل العقل المتعمق فيه، دليل الكشف والذوق والوجد ورضي الله عن أئمة الصوفية وذوقه.(91/17)
كما أن الذين يعرضون ما يقع في قلوبهم على شرع ربهم كحال أبي سليمان الداراني وغيره عندما كان يقول إنه لتقع في قلبي النكته من نكت القوم أي الإشارة من إشاراتهم وذوق من أذواقهم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة على أن ما وقع في قلبي حق شرعي وهذا من فتح الله على وليس هذا من أراجيف الشيطان وتسويلاته ووسوسته إذا هؤلاء نفاق أصغر نفاق عمل يريد بعمله وجه ربه يريد بالعلم وجه الله لكن لا يطلبه من خيره لا يعمل على حسب أمر الله يدخل العقل مع أنه كما قلت لا يأتي بما ينقض الإسلام يدخل الذوق يدخل الكشف، فكل هذا كما قلت من النفاق الأصغر من نفاق العمل وإذا كثر هذا النفاق في صاحبة نقد يخرج من إيمانه عند موته ولذلك يلقى الله ملتحقاً بالصنف الأول ولو قدر أنه لم يختم له عل الكفر فأمره موكول إلى الله عز وجل، ونسأل الله أن يحسن ختامنا.
ويدخل في هذا النوع من النفاق ما قرر أئمتنا كما في مجموع الفتاوى في الجزء السابع للإمام بن تيمية وهكذا قرره في الجزء الثامن والعشرين في صفحة خمس وثلاثين وأربعمائة 435هـ وما بعدها يقول: يدخل في هذا النفاق عدم الجهاد في سبيل الله وأن يكذب الإنسان في قوله إذا حدث وأن يخلف وعده إذا وعد وأن يفجر في المخاصمة إذا خاصم، كل هذا يدخل في النفاق لكنه كما قلت نفاق العمل ليس بنفاق التكذيب والكفر.(91/18)
وقد قرر نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا، ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن بن ماجة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهنَّ كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر] إن الفجور عند المخاصمة والكلام البذيء هذا ليس من خصال المؤمنين فإذا خاصمت تكلم بكلام شرعي تعطي الإنسان ما يستحقه من كلام وأنا أعجب في الألقاب والأوصاف أين العفة في اللسان وأين مراقبة الرحمن في الكلام أليست الخصومة من صفات المنافقين أليس الفجور في الخصومة من صفات المنافقين؟ وإذا خالفته في مسألة كأنه يعلم ما في قلبك وكأنه يعلم مصيرك ويصور الأحكام بعد ذلك عليك وكأنه هو الذي خلقك وستؤول إليه، رفقاً بنفسك أيها الضال رفقاً بنفسك أيها المخرف إذا خاصمت فقل الحق ونسأل الله أن يرزقنا كلمة الحق في الرضا وفي الغضب وأن يلزمنا الحق والصواب في جميع أمورنا، فإذا خاصمت فلا تفجر من خصال المنافقين، [إذا خاصم فجر] .
هكذا وردت الأحاديث بذلك، ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان] والحديث رواه الإمام النسائي بسند صحيح عن عبد الله ابن مسعود موقوفاً عليه من قوله وهو مرفوع أيضاً من قول نبينا عليه الصلاة والسلام في الرواية المتقدمة التي ذكرتها، هذا كله كما قلت من نفاق العمل، أن يقول الإنسان مع وفي مجالسته لأصحابه كلاماً إذا خرج عنهم قال بخلافه هذا هو النفاق.(91/19)
وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب الأحكام باباً يشير فيه إلى هذه القضية فقال (باب ثناء السلطان وإذا خرج قال بخلاف ذلك وثناء السلطان: أي ثناء الناس وثناء الرعية عليه وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ولا يحتمل الكلام إلا هذا (باب ثناء السلطان) أي ثناء الناس على السلطان إذا اجتمعوا به وإذا خرج هذا المثنى والمادح قال بخلاف ذلك والأثر في صحيح البخاري ورواه الإمام أحمد في مسنده أنه قيل لعبد الله ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين إنا ندخل على السلطان فنقول كلاماً وإذا خرجنا قلنا غيره قال كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قابلت السلطان فالواجب عليك أن تتقي الرحمن وأن تؤدي النصيحة له ولعباد الله وأما إذا دخلت عليه مدحته وإذ خرجت بعد ذلك من عنده ذممته ووقعت في عرضه أي ديانة تتصف بها أيها الإنسان عندما تقدم بهذا المسلك الذي لا يرضاه الرحمن كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كل هذا كما قلت من نفاق العمل ومن نفاق العمل أن يتحجج الإنسان بأنه قرأ القرآن وأنه أعلم عباد الرحمن وأنه وأنه ... ومن طلب العلم لله كسره ومن طلب العلم بعد ذلك للجدال والدعوى أهلكه في الدنيا وفي الآخرة، وإذا طلب العلم لله كسره وجعله خاشعاً قانتاً مخبتاً منيباً وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه بعد أن تفتح البلاد وينتشر الإسلام فيها سيظهر أقوام أسأل الله ألا نكون ممن عناهم نبينا عليه الصلاة والسلام فاستمع لهذا الحديث وإسناد الحديث حسن والحديث رواه الإمام أحمد ورواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وأبو يعلى أن العباس بن عبد المطلب عم نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وإسناد الحديث فيه موسى بن عبيد كما قال الإمام الهيثمي في المجمع فيه ضعف، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، والأثر الثالث حسنه الحافظ المنذري(91/20)
إسناده في الترغيب والترهيب فقال إسناده حسن إن شاء الله وليس في الإسناد إلا هند بنت الحارث الخيثمية وهي تابعية وثقها بن حبان وقال ابن حجر في التقريب إنها مقبولة ولذلك قال الهيثمي في المجمع وجميع رجاله ثقات إثبات إلا هند وقال لم أقف على جرح ولا تعديل فيها.
وكما قلت إخوتي الكرام وثقها ابن حبان وحكم عليها الحافظ ابن حجر بأنها مقبولة والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، يقول عن إسناد الحديث حسن إن شاء الله من رواية عمر والعباس وعبد الله ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر وحتى تخوص الخيل في سبيل الله فيظهر أقوام يقرءون القرآن فيقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا ومن أفقه منا ثم التفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه فقال هل ترون في أولئك من خير قالوا الله ورسوله أعلم على نبينا صلوات الله وسلامه قال أولئك منكم من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار] من أعلم منا من أفقه منا من أقرأ منا قرأ ليتحجج ولتظهر مكانته في هذه الحياة وليس عنده خشية من رب الأرض والسماوات.(91/21)
إخوتي الكرام: هذا نفاق العمل كما قلت لا يمكن أن تخلو منه لكن لابد من محاسبة النفس ما بين الحين والحين، يا عبد الله لا يمكن أن تكون من المؤمنين الصادقين وبريئاً من خصال المنافقين إلا كان قلبك خالصاً لرب العالمين سليماً على عباد الله الموحدين المؤمنين، أمِنَكَ عباد الله على الدوام فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، والغش ينافي الإيمان ويجعل الغش من المنافقين اللئام وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائي، والحديث في منتقى الإمام بن الجارود ومستدرك الحاكم، الحديث رواه الطحاوي في مشكل الآثار والبيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من غش فليس مني من غشنا فليس منا، ليس منا من غش] ، لا يجتمع إيمان مع غش وإذا كنت تغش عباد الله جل وعلا وتضمر لهم في قلبك العداوة والبغضاء والسوء فاعلم أنه عندك خصلة من خصال المنافقين ولا يتنزه الإنسان من ذلك إلا إذا جعل قلبه خالصاً لرب العالمين سليماً نحو عباد الله المؤمنين وإذا اتصفت بذلك وكل من يتصف بهذا فهنيئاً لك.(91/22)
ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ صحيح على شرط الشيخين كما نص على ذلك الإمام الهيثمي والمنذري والعراقي في تخريج أحاديث الإحياء من رواية أنس ابن مالك رضي الله عنه، والحديث رواه البزار، أيضاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه وهم جلوس معه [يطلع عليكم من هذا الفج: طرفين بين جبلين، [يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الماء وقد أمسك نعليه بشيء له ثم دخل مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وجلس معه ومع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وفي اليوم الثاني قال النبي عليه الصلاة والسلام يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فطلع الرجل الأنصاري التقدم تنطف لحيته بالصفة المتقدمة وفي اليوم الثالث كذلك] .(91/23)
ثبت في رواية البزار أن الذي طلع هو سعد وإذا كان من الأنصار فتحمل هذه الرواية على أنه سعد ابن معاذ وسيأتينا أيضاً في رواية أنه سعد ابن مالك فهو في الرواية الثانية كما سأوضح فهو سعد ابن أبي وقاص، وأما في هذه الرواية فقد صرح بأنه من الأنصار، قال أنس ابن مالك (فقام عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين إلى هذا الأنصاري وقال له حصل بين والدي ملاحاه خصومة وقد أقسمت ألا أبيت عنده وألا أكون عنده ثلاثة أيام فإن شئت أن تضيفني فعلت وإنما أراد بهذا الكلام أن يتوصل إلى ما يفعله هذا الإنسان ثم سيخبره بحقيقة الأمر وليس ذلك من باب الكذب إذا بين بعد ذلك في نهاية الأمر، إنما أراد أن يتوصل إلى مقصود تولى بهذا الكلام ثم وضع حقيقة كلامه فقال له هذا الأنصاري) ، نعم رضي الله عنهم أجمعين (يقول فذهبت إلى بيته فوضع فراشه بجوار فراشي فنام ورأيته إذا تعار من الليل يسبح الله ويحمده ويكبره سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر وما كان يفعل غير هذا حتى إذا صار قبيل الفجر قام وذهب بعد ذلك إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فلما مضت الأيام الثلاثة وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله ماذا تفعل قال هو ما رأيت فقال عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهم أجمعين ما بين والدي وبيني ملاحاه ولكن أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة أيام بأنك من أهل الجنة فأردت أن أعلم ما تفعل لأعمله، قال هو ما رأيت) يقول فلما قفيت ووليت ناداني فقال أخبرك ليس في قلبي غش لأحد من عباد الله ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه) لا غش ولا حسد، (فقال عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهم أجمعين بهذه بلغت وهي التي لا نطيق ليس في قلبه غش لمسلم ولا حسد على خير أعطاه الله إياه، هذا من سلامة الإيمان وصدق الإنسان في إيمانه، فهنيئاً له عند خاتمته.(91/24)
والحديث إخوتي الكرام رواه الإمام البيهقي والبزار مختصراً وسمى الرجل بأنه سعد ابن مالك وهو سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وفي رواية البيهقي تفصيل لحال هذا الرجل يقول عبد الله ابن عمرو ابن رضي الله عنهم أجمعين قال إذا كان قبيل الفجر استيقظ الرجل وصلى وذهب إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فصلى ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة بسورة من المفصل لا من طواله ولا من قصاره والمفصل يبتدأ من سورة (ق) إلى نهاية القرآن، يقول وكان إذا جلس يدعو بعد التشهد بثلاث دعوات فيقول اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وآخرتنا، اللهم إلى أسألك الخير كله وأعوذ بك من الشر كله يفعل هذا فلما انقضت هذه الأيام سأله عن فعله فقال هو ما رأيت ثم قال له لا أحد في قلبي غشاً ولا حسداً لأحد من عباد الله على خير أعطاه الله إياه.
إخوتي الكرام: من اتصف بذلك فليس في قلبه غش ولا حسد فقد برأ من نفاق العمل أسأل الله جل وعلا أن يبرأنا من النفاق وأن يجعل أعمالنا صالحة ولوجهه خالصاً وأن يحسن ختامنا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه ونسأله أن يسلمنا ويسلم الخلق منا إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وخير خلق الله أجمعين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا وأرض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(91/25)
عباد الله: من تأمل حالنا يرى تغاير سرنا من علننا فيما يتعلق مع ربنا وفيما يتعلق مع بعضنا وهذا لا شك يوجب فينا النفاق، وإذا كان كذلك فينبغي أن نخشى من الله عز وجل وأن نخافه وأن نجاهد أنفسنا وأن نقلع عن الصفات الذميمة التي فينا وأن نستعد اليوم الذي تشخص فيه الأبصار وتتقلب فيه القلوب في تلك الدار إذا كان هذا فينا وهو موجود فينبغي أن يعظم خوفنا من ربنا جل وعلا كما نعت الله بذلك عباده الطيبين لكن الذي يتأمل أحوالنا أيضاً، تأملا آخر ثانياً يرى أننا في غفلة لاهون مع تقصيرنا في حق ربنا جل وعلا ومع عدم حسن صلتنا مع بعضنا فنحن في الأمرين مقصرون ومع ذلك غافلون لاهون وقد أشار معاذ ابن جبل رضي الله عنه وأرضاه إلى ما سيقع في هذه الأمة ونسأل الله أن يحسن ختامنا وأن يلطف بنا وأن يحسن أحوالنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فقال كما في مسند الدارمي يقول معاذ ابن جبل رضي الله عنه وأرضاه (سيبلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافث يقرؤونه فلا يجدون له لذة ولا شهوة يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب أعمالهم كلها طمع لا يخالطها خوف، إن قصروا قالوا سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا إنا لا نشرك بالله شيئاً) .
نعم هذا حال المغرورين المعتوهين في الأمم السابقة وهو حال المنافقين في هذه الأمة، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (لأعراف:169) .(91/26)
هذا حالنا مع ربنا جل وعلا نقرأ كلامه بلا شهوة ولا لذة ثم بعد ذلك أعمالنا كلها طمع ليس فيها خوف وإذا قصرنا نقول سنبلغ، وإذا أسأنا نقول سيغفر لنا وكأن النار خلقت للصحابة ولم تخلق لنا حتى اشتد خوفهم من ربهم جل وعلا وحصل الأمن فينا ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأما تغاير الأحوال والسر والعلن فيما بيننا فحدث ولا حرج إذا اجتمعت مع الناس مدحوك وإذا غبت عنهم بألسنة حدادٍ سلقوك إخوان العلانية وأعداء السر ولكثرة صلات الناس ببعضهم كان أئمتنا يقولون إذا سمعت بصديق صدقه فلا تصدقه، نعم رحل الأخوان الكرام وبقى الأخوان الذي لا يخشى الرحمن، زمان كل حبٍ فيه خَبُّ وطعم الخيلِّ خَلُّ لو يُذاق، لهم سوق بضاعتُه نفاق، فنافق فالنفاق له نفاق، قيل للحسن البصري رضي الله ورضوانه عليه يزعمون أنه لا نفاق في البصرة قال سبحان الله لوا نعدم المنافقون لاستوحشتم الطرقات ولو كان للمنافقين أذناب لما استطعتم أن تدخلوا الأسواق، النفاق انعدم هذه أحد التابع بعضنا وتلك صلتنا بربنا ووالله لا أقول هذا تعييراً لواحد بعينه وما أعلمه من نفس أضعاف أضعاف ما أعلمه من غيري إنما لابد إخوتي من النصح والتناصح ونحن نقول هذا وهو واقع فينا ولا ينجو منه أحد عباد الله وعلى غيره عبد الله الإنسان على نفسه بصيرة وما تعلمه من نفسك أضعاف أضعاف ما تعلمه من غيرك فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يلهمنا رشدنا وأن يغفر ذنوبنا وأن يستر عيوبنا وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(91/27)
اللهم صلَّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة ونعوذ بك من كل شرٍ أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربوَّنا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا.
اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعاء والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{والعصر* إن الإنسان لفي خسرٍ * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر*} .(91/28)
فضل العشر من ذي الحجة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
فضل عشرة أيام من ذي الحجة
27
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويماً، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم. فما من دابة في الأرض إلا وعلى الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
(يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) .
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبينا عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيها رجالاً كثيراً ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) .
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..(92/1)
كنا نتدارس صفات الرجال الذين يعمرون بيوت ذي العزة والجلال وكنا نتدارس الصفة الرابعة من صفاتهم، وقد تكلمت على قسم منها وسأرجئ بقية الكلام عليها إلى ما بعد عيد الأضحى المبارك إن أحيانا الله ومد في حياتنا وأما هذه الموعظة والتي بعدها ستكونان فيما يتعلق في الأيام المقبلة الآتية المباركة التي سنستقبلها في وسط الأسبوع الآتي، آلا وهي عشر ذي الحجة وما يكون بعد ذلك في اليوم العاشر، وفي أيام التشريق.
إخوتي الكرام: حقيقة ينبغي أن نتكلم على أحكام هذه الأيام وعلى فضائلها لنغتنمها، ونكون على بينة من أمرنا وإذا كانت البلاغة حالها كما يقول علماؤنا الكرام مطابقة المقال لمقتضى الحال، فمن المعيب فينا حقاً أن نترك الكلام عن هذه الأيام لنتدارس غيرها، ولذلك ستكون موعظتنا هذه المباركة والتي بعدها كما قلت: في ما يكون في أيام العشر من أحكام، وفيما لها من فضائل.
إخوتي الكرام: أيام العشر أعني عشر ذي الحجة أيام عظيمة مباركة عند الله جل وعلا لا يوجد يوم من أيام السنة يعدلها عند الله فضيلة ورفعة، وقد أقسم الله جل وعلا بليالي هذه الأيام، وحصلت الفضيلة لليالي تبعاً لفضيلة الأيام فكم هي فضيلة الأيام يقول ذو الجلال والإكرام في سورة الفجر: (والفجر وليال عشر والشفع والوتر. والليل إذا يسر. هل في ذلك قسم لذي حجر) .(92/2)
أقسم الله جل وعلا بالفجر، والمراد منه طلوع الفجر لا يراد منه فجرٌ معين على التحقيق عند أئمتنا الكرام أقسم الله بطلوع الضياء وإشراق النور والبهاء بعد الظلام فهو فالق الإصباح وهو الذي جعل الليل سكنا وهو الذي جعل الشمس والقمر حسباناً بحساب وتقدير. فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون. سبحانه سبحانه هو الذي يأتي بالضياء بعد انتشار الظلماء. والفجر. وهذا هو المعتمد كما قلت إخوتي الكرام عند أئمتنا المفسرين وما قيل إن المراد بالفجر فجر يوم النحر أو فجر يوم عرفة أو فجر أول أيام عشر ذي الحجة أو فجر عشر أيام ذي الحجة كلها أو فجر أول يوم من السنة الهجرية أول يوم من أيام شهر الله المحرم ما قيل من هذه الأقوال فكل هذا من باب التمثيل لما يدخل في ذلك اللفظ وهو أعم من ذلك فيقسم الله بالفجر أي بسطوع النهار بعد أن خيم الظلام على البشرية والفجر وليال عشر: هي ليال عشر ذي الحجة هذا الذي رجحه شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري وقال إنه هو الصواب وحكاه عن الإمام بن كثير في تفسيره ومال إليه وهذا قول جماهير المفسرين.
وهو المنقول عن ترجمان القرآن وجد الأمة بمدها سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو المنقول أيضاً عن عبد الله بن الزبير وعن مجاهدين جبر رضوان الله عليهم أجمعين وليالٍ عشر يعني ليالِ عشر ذي الحجة وليال عشر والشفع والوتر وقد أكثر أئمتنا الكرام مما يحتمله هذا اللفظ من معاني حسان فأوردوا عشرين قولا في المراد من الشفع والوتر لعل أظهرها وأوجهها والعلم عند الله أن المراد بالشفع الخلق بأسرهم فكل مخلوق له ما يوزاوِجُه وهو فرد وله ما يقابله فالمخلوقات كلها شفع "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون".(92/3)
ولا يوجد موصوف بأنه وِتْرٌ وَوَترٌ إلا الله جل وعلا: "قل هو الله أحد" "ليس كمثله شيء" "هل تعلم له سميا" فأقسم جل وعلا بالمخلوقات وأقسم بخالقها والشفع والوتر "والليل إذا يسر". إذا يسري وهو الذهاب والمشي والانتقال والزوال والليل إذا يسر والمراد من هذا الذهاب في الليل إما ذهابٌ لينقض وإما ذهابٌ ليأتي وقد فسر بالأمرين في هذه الآية والليل إذا يسر مقبلا والليل يسر مدبرا وهذا كما قال الله جل وعلا في سورة التكوير "والليل إذا عسعس" أقبل بظلامه وأدبر ليأتي الضياء بعده والليل إذا عسعس وهي من الأضواء إذا أقبل وإذا أدبر والليل إذا أقبل إذا سرى هذا الليل آتيا وإذا سرى هذا الليل موليا منقضيا.
وقيل إذا يسري فيه الناس وتقع ما تقع فيه من الأعمال والليل المراد فيه هنا كما هو المراد من الفجر مطلق الليل لا يراد منه ليلٌ معين وما قيل إن المراد بالليل هنا ليلة القدر أو إن المراد بالليلة هنا ليلة الجمع وهي ليلة المزدلفة فكل هذا إخوتي الكرام كما قلت من باب ما يدخل في هذا اللفظ العام ومن باب التمثيل عليه بأشهر أنواعه واللفظ أعم من ذلك والليل إذا يسر "هل في ذلك قسم لذي حجر" لذي عقل يحجره لمن فعل القبيح والسيء هذه المخلوقات تدل على عديم قدرة خالقها جل وعلا وعليه أقسم الله بهذه الأشياء أقسم بالمخلوقات وأقسم بخالقها أقسم بالمخلوقات التي خلقت لنا وأقسم أيضاً جل وعلا سبحانه وتعالى وهو الذي يقسم بما شاء جل وعلا من باب التنبيه إلى ما ذلك من المقسم به من عبرة وعظة ودلالة عظيمة على قدرة العظيم جل وعلا.(92/4)
الشاهد إخوتي الكرام: وليالٍ عشر: وانتبه لهذه الدلالة في هذه الآيات الكريمات كل أنواع المقسم بها في هذه الآيات وردت معرفة بالألف واللام إلا هذه الليالي فوردت منكرة الفجر معرف والشفع معرف والوتر معرف والليل إذا يسر معرف إلا الليالي "وليالٍ عشر" ما أتى بالتعريف فيها لم؟ لأنها معلومة وقد نوه الله بشأنها ودلل على عظيم أمرها حسبما بين نبيه على نبينا صلوات الله وسلامه ولذلك سماها الله بالأيام المعلومات فهي من الظهور بمكان فلا داعي لتعريفها.
بقول الله جل وعلا في سورة الحج: "وإذا بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير" ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
ثبت في تفسير بن مردوية بإسناد صحيح كما قال الحافظ في الفتح عن عبد الله بن عباس رضوان الله عليهما أنه قال الأيام المعلومات هي يوم التروية وما قبله من أول أيام ذي الحجة ويوم التردية ويوم عرفة ويوم النحر أي يريد أن يقول أن الأيام العشر من ذي الحجة هي الأيام المعلومات.
قال الإمام بن عباس رضوان الله عليهما وأما الأيام المعدودات فهما أيام التشريق يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وعليه دخل يوم النحر في الأيام المعلومات ودخل في الأيام المعدودات التي أشار إليها رب الأرض والسموات في سورة البقرة: "واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون".(92/5)
فالأيام المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة واذكروا الله في أيام معدودات عمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى. وقول الله جل وعلا في الآية في بيان الأيام المعدودات فمن تعجل في يومين أي بعد يوم النحر فأراد أن ينفر وأن يخرج من مني بعد اليوم الحادي عشر والثاني عشر فإذا أراد أن يخرج في اليوم الثاني عشر فلا إثم عليه وإن أراد أن يتأخر لليوم الثالث عشر فلا إثم عليه.
وقوله: "لا إثم عليه" تحتمل ثلاثة معان أطهرها بشارة للحجاج الذين ينوون زيارة بيت رب العباد فلا إثم عليه أي من تعجل في يومين فقط سقطت ذنوبه وخرج منها كيوم ولدته أمه فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه فالله تعالى يقول: يا معشر الحجاج الذين زرتم بيتي لا إثم عليكم بعد زيارتكم سواء تعجلتم في يومين أو تأخرتم فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه أي ليس عليه إثم ولا وزر من الأوزار قد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ومن تأخر فلا إثم عليه فالحج مبرور ليس له جزاء إلا الجنة ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه لكنّ هذه الجائزة لا ينالها إلا من اتقى لأن الله لا يتقبل إلا من المتقين فمن تعجل في يومين فقد غفرت ذنوبه وسقطت عنه إذا كان تقياً ومن تأخر فقد غفرت ذنوبا وسقطت عنه إذا كان تقيا.
وهذا أرجح ما تحتمله الآية من أقوال ثلاثة قيلت في تفسيرها وهذا هو المنقول عن أربعة من الصحابة أولهم سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه والعبادلة الثلاثة عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وهو المنقول عن جم غفير من التابعين كمجاهدين جبر والإمام الشعبي والإمام النخعي ومعاوية بن قرة رضوان الله عليهم أجمعين فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه أي غفرت ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه فإن شاء فليتعجل وإن شاء فليتأخر.(92/6)
إخوتي الكرام: وقد كان في نيتي وفي عزمي أن نتدارس ما يتعلق بأحكام الحج منذ دخول شهر الحج شهر شوال لكن قدر الله وما شاء فعل في إكمال موضوعنا الذي بدأنا مدارسته وقد قدر الله له أن يطول فإن أحيانا الله جل وعلا للسنة الآتية نسمع من الأخبار المطربة التي تلتذ لها آذان المؤمنين وتطرب لها قلوبهم في فضائل الحج وفي منزلة الحاج إذا اتقى رب العباد وهذه بشارة عاجلة من قول الله جل وعلا فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى الله في حجه لم يرفث ولم يفسق وهذا كما قلت هو أظهر المعاني الثلاثة التي تحتملها هذا الآية الكريمة.
والقول الثاني: من باب إكمال الفائدة من تعجل فال إثم عليه في تعجله ونفره ومن تأخر فال إثم عليه في بقائه وانتظاره أي أن الأمر فيه سعة فليختر ما شاء.
والمعنى الثالث: والذي ذهب إليه أبو العالية وغيره فمن تعجل فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه غفرت ذنوبه وخرج كيوم ولدته أمه لمن اتقى الله بعد ذلك بعد حجه ولم يجر منه فسق أو معصية والقول الأول هو الأظهر والأقوى وهو المنقول عن جم غفير من الصحابة وذكرت أربعة منهم وعن جم غفير من التابعين وهو أولى ما يحمل عليه كلام رب العالمين فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه أي قبِلَهُ الله وغفر له ما جرى منه من جميع أحواله بشرط أن يتقي الله في حجه وألا يجري منه فسق ولا معصية لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون.(92/7)
فالأيام المعلومات إخوتي الكرام هي عشر ذي الحجة والأيام المعدودات هي أيام التشريق ولذلك عندما أقسم الله جل وعلا بليالي عشر ذي الحجة في سورة الفجر نكرها دون أنواع المقسم به فكل المقسم به في تلك السورة المباركة ورد معرفا إلا هذا القسم به ألا وهو ليالي عشر ذي الحجة وليالي عشر لأنها معلومة ولا داعي لتعريفها وليال عشر ويذكر اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام كما تقدم في سورة الحج إخوتي الكرام فهي أيام معلومات وإذا كانت معلومات فقد جعل الله جل وعلا القسم بها في سورة الفجر منكرا لأنها معلومة.
"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليهتدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير".
إذاً هي أيام معلومات وقد اقسم بها رب الأرض والسموات أقسم بليال العشر واكتسبت هذه الليالي فضيلة لمنزلة هذه الأيام عند ذي الجلال والإكرام وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن منزلة هذه الأيام وعن شأن الأعمال الصالحات فيها عند ربنا الرحمن كيف تضاعف بما لا تضاعف في غير ذلك من الأيام.
ففي مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والسنن الثلاثة سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه والحديث رواه البيهقي في السنن وهو في أعلى درجات الصحة فهو في صحيح البخاري من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُ إلى الله جل وعلا من عشر ذي الحجة قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء".(92/8)
ومضى الحديث أن العمل الصالح في هذه الأيام يفوق على ذلك العمل في غيره من الأيام فمن عمل صالحاً في هذه الأيام يضاعف له بما لا تضاعف الأعمال الصالحات في الأيام الأخرى مهما كانت منزلة تلك الأعمال فأجورها أقل من أجور الصالحات التي تجري في هذه الأيام ولذلك لو جرى م الإنسان في هذه الأيام ذكر تسبيح صلاة ضحى قيام ليل عمل صالح أجر هذا في عشر ذي الحجة أعظم من أجر الجهاد في سبيل الله في غير عشر ذي الحجة إلا في حالة واحدة من خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء عُفِّر وجهه في التراب وأريق دمه وقتل جواده هذا الذي يعدل أجره أجر العابد في عشر ذي الحجة وعليه فمن جاهد في عشر ذي الحجة له من الأجر ما لا يخطر بالبال ومن عمل صالحا في عشر ذي الحجة هذا العمل الصالح الذي أجره دون أجر الجهاد في غير ذي الحجة يزيد أجره على أجر الجهاد عندما يقوم بالعمل الصالح في عشر ذي الحجة فالعمل الصالح في عشر ذي الحجة يفضل أجر الجهاد في غير عشر ذي الحجة نعم لو جاهد فيعشر ذي الحجة فهذا له أجر عظيم لا يعلم به إلا رب العالمين.
ما العمل الصالح في أيام أحب فيها إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة قالوا ولا الجهاد يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
وورد في بعض روايات الحديث من رواية عبد الله بن عباس أيضاً رضي الله عنهما كما في معجم الطبراني الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فاستكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر استكثروا من هذه الأذكار الطيبة النافعة وهذه الجمل الأربع إذا قالها الإنسان في أي وقت كان فهو أحب إلى الله جل وعلا من الدنيا وما فيها وأحب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام مما طلعت عليه الشمس فكيف لو قيلت في أيام العشر من ذي الحجة.(92/9)
ثبت في صحيح مسلم وسسن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس. فاستكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وهذا الحديث إخوتي الكرام أعني حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رواه الطبراني في معجمه من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين ورواه البزار وأبو يعلى في مسنده من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين والحديثان صحيحان حديث جابر وحديث عبد الله بن مسعود وهكذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين ومعنى الحديث واحد بمعنى حديث عبد الله بن عباس. ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام من أيام العشر من ذي الحجة قالوا إلا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم برجع بشيء.(92/10)
إخوتي الكرام: وهذه الفضيلة المجملة التي وردت في هذا الحديث الصحيح عن عبد الله بن عباس وجابر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وردت أحاديث مُفصِّلة لهاذ الثواب المجمل في هذه الأيام وتلك الأحاديث المفصلة بهذا الثواب مروية عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهي متصلة من ذلك ما رواه الإمام الترمذي وابن ماجه والحديث رواه الإمام البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وفي الإسناد ضعف كما قرر هذا الحافظ بن حجر في الفتح والإمام المنذري في الترغيب والترهيب لكن الحديث يشهد له ما تقدم وسأذكر شواهد أيضاً له بعد رواية هذا الحديث إن شاء الله ولفظ حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " مامن أيام أحب أن يتعبد فيها إلى الله عز وجل من عشر ذي الحجة إن صيام كل يوم منها يعدل بصيام سنة وإن قيام كل ليلة منها يعدل قيام ليلة القدر" صيام يوم من عشر ذي الحجة يعد ل صيام سنة وقيام ليلة من عشر ذي الحجة يعدل قيام ليلة القدر.
وهذا الحديث إخوتي الكرام يشهد له في الجملة حديث عبد الله بن موسى وجابر وعبد الله بن مسعود لأن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من العمل في غيرها لكن ما هي كيفية تلك المضاعفة والمنزلة في الأعمال الصالحات في هذه الأيام بينها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وقد روى الإمام البيهقي في شعب الإيمان والإمام الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب قال الإمام المنذري وإسناد الحديث لا بأس به عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال "كنا نعد أيام عشر ذي الحجة كل يوم منها بألف ونعد يوم عرفة بعشرة آلاف يوم" من عمل فيها فضيلة كأنه عمل هذه الفضيلة فيألف يوم فيما سوى أيام عشر ذي الحجة.(92/11)
وأما يوم عرفات فذاك منزلته عظيمة عظيمة عند رب الأرض والسموات كان الصحابة يعدونه والنبي عليه الصلاة والسلام بينهم بعشرة آلاف يوم والحديث كما قلت في شعب الإيمان للإمام البيهقي وكتاب الترغيب والترهيب للإمام الأصبهاني بسند لا بأس به وثبت في كتاب شعب الإيمان للبيهقي أيضا وإسناد الأثر أيضا لا بأس به وقد ذكره الحافظ في الفتح وسكت عليه وصنيعه يقتضي بأنه حسن من رواية مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من أيام عشر ذي الحجة فأكثروا فيها من التهليل والتكبير وذكر الله فإن صيام يوم فيها يعدل بصيام سنة وإن الأعمال تضاعف فيها بسبعمائة ضعف".
إخوتي الكرام: هذه هي منزلة هذه الأيام التي سنستقبلها كما قلت في وسط الأسبوع الآتي عشر ذي الحجة هذه الأيام أيام عظيمة مباركة وإنما كان لها هذا الشأن لأن جميع العبادات بأسرها تقع فيها فالصلاة والصيام والصدقة والزكاة والحج وسائر الطاعات يمكن أن تقع في عشر ذي الحجة فهي ظرف لها وأما الأيام الأخرى فلو قدر أن الطاعات ستقع فيها لن تقع فيها عبادة الحج فلها موسم معين فهذه الأيام هي ظرف لسائر العبادات على وجه التمام لذلك عظمت منزلتها عند ربها الرحمن وقد قرر أئمتنا الكرام أن أيام عشر ذي الحجة بالنسبة إلى سائر الأيام كمكانة المشاعر بالنسبة لغيرها من البلدان فيما أن مكة وعرفة ومنى تعظم وتفضل على غيرها من البقاع والأصقاع فهكذا هذه الأيام بالنسبة لغيرها من الأيام تفوقها منزلةُ عشر ذي الحجة بين الأيام كمنزلة أماكن المشاعر بين البلدان.(92/12)
إخوتي الكرام: ولا يقولن قائل إن العشر الأخيرة من شهر رمضان لها منزلة عظيمة أيضا عند ربنا الرحمن فالجواب نعم لها منزلة عظيمة لكن كل عشر يمتاز بشيء وقد قرر أئمتنا الكرام أن ليالي العشر الأخير من شهر رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لأن ليالي العشر الأخير من شهر رمضان اكتسبت فضيلة بليلة القدر والفضيلة فيها أصالة لليالي وأما ليالي عشر ذي الحجة فاكتسبت فضيلة من الأيام وعليه أيام عشر ذي الحجة أفضل من الأيام الأخيرة في شهر رمضان أفضل أيام العشر الأخير من شهر رمضان وليالي العشر الأخير من شهر رمضان أفضل من ليالي العشر الأول من ذي الحجة فالليالي الأخيرة من العشر الأخير من شهر رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لكن الأيام في العشر ذي الحجة أفضل من الأيام في العشر الأخير من شهر رمضان كما وضح نبينا عليه الصلاة والسلام نعم في العشر الأخير من شهر رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لكن في العشر الأول من شهر ذي الحجة يوم أيضا عظيم عند الله جل وعلا لا يساويه يوم من أيام السنة.(92/13)
كما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والحديث رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه والإمام ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ورواه البيهقي في السنن الكبرى وهو حديث إسناده صحيح كالشمس من رواية عن عبد الله بن قرط الثمالي رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أعظم الأيام عند الله جل وعلا يوم النحر ثم يوم القر " إن أعظم الأيام عند الله إن أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ويوم النحر هو العاشر من ذي الحجة ويوم القر هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة الذي يقر قبة الحجاج ويسكنون في منى بعد أن أفاضوا من عرفات واستقروا في هذا المكان المبارك في ضيافة الله جل وعلا فأما يوم عرفات فمع منزلته وعظيم شأنه كما سيأتينا فهو تابع ليوم النحر فالحجاج والعباد في يوم عرفات استقالوا من ذنوبهم وخطيئاتهم وتابوا إلى ربهم جل وعلا وعبدوه وذكروه وتقربوا إليه.
وأما في يوم النحر لما حصل منهم ما حصلوا أذن الله لهم بالوفادة عليه وزيارته ولذلك يقال للطواف الذي يقع في يوم النحر يقال له طواف الزيادة يزورون الله جل وعلا بعد أن تابوا من ذنوبهم وأنابوا إلى ربهم جل وعلا ولذلك قال أئمتنا منزلة يوم عرفة مع يوم النحر كمنزلة الطهارة مع الصلاة فلابد من طهارة للصلاة لكن الصلاة أعظم منزلة ولا بد أيضا ليوم النحر من يوم عرفة أن يتوب العباد إلى الله جل وعلا وأن يستغفروه وأن يلجأوا إليه وأن يشكروه فإذا قبلهم جل وعلا وتاب عليهم أهَّلهم بعد ذلك لزيارة بيته وللقدوم عليه لتناول ضيافته جل وعلا فهذا بمنزلة الصلاة كما أن يوم عرفة بمنزلة الطهارة.(92/14)
نعم إن جزءاً من يوم النحر يدخل في يوم عرفات وليلة النحر تابعة ليوم عرفة ولا يوجد عندنا في الشريعة ليلة تتبع اليوم الذي قبلها إلا ليلة النحر فليلة النحر مشتركة بين يوم عرفة وبين يوم النحر وهذا كما قلت للدلالة على أن يوم عرفة إمتداد ليوم النحر لكن الفضيلة التابعة أصالة هو ليوم النحر هذا هو الذي هو أفضل الأيام وأعظمها عند ذي الجلال والإكرام كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام: هذه الأيام أيام عظيمة مباركة شريفة فاضلة ينبغي ان يقوم العباد فيها بأمورٍ كثيرة أبرزها سأذكر أربعة منها والبقية نتدارسها فيما يأتي إن شاء الله أولها: التكبير في عشر ذي الحجة وقد ضيع المسلون هذا في مشارق الأرض ومغاربها إلا ما رحم ربك يُسنُّ للمسلمين أهل الإسلام إذا دخل عليهم عشر ذي الحجة ورأوا هلال ذي الحجة أن يجهروا في التكبير في أسواقهم وفي شوارعهم وفي أعمالهم وفي بيوتهم وعلى فرشهم ومع أهلهم وعند لقاءاتهم وأن تكون الدنيا ضجيجا بالتكبير والتعظيم لله الجليل جل وعلا هذه شعائر هذه الأيام تكبير ذي الجلال والإكرام التكبير.(92/15)
وقد ثبت في صحيح البخاري في كتاب العيدين وهو الباب الحادي عشر باب يشير به إلى هذا فقال الإمام البخاري عليه رحمة الله فقال " باب في فضل العمل في أيام العشر " يعني عشر ذي الحجة ثم روى معلقا من صحابيين جليلين فاضلين عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر أهل السوق بتكبيرهما والأثر كما قال الحافظ بن حجر لما أقف عليه موصولا والبخاري علقه كما قلت في صحيحه وقد علقه أيضا الإمام البيهقي والبغوي عن هذين الصحابيين بن عمر وأبي هريرة يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر أهل السوق بتكبيرهما هذا التكبير إخوتي الكرام هو من شعائر هذه الأيام أعني أيام عشر ذي الحجة ينبغي أن نظهر التكبير في بيوتنا وفي أعمالنا وفي أسواقنا وعند لقائنا " الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد " وفي الباب الذي يلي الباب الحادي عشر وهو الباب الثاني عشر من صحيح البخاري في كتاب العيدين أورد بابا آخر فقال " باب في التكبير في أيام منى وإذا غدا إلى عرفة ".(92/16)
ثم روى أيضا أثرين من آثار كثيرة معلقة من صحابيين جليلين فاضلين أولهما الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون لتكبيره فيسمع تكبيرهم أهل الأسواق الذين يتجولون في منى فيكبرون لتكبيرهم حتى إن منى لترتج تكبيرا هذا ثابت في صحيح البخاري وهذا الأثر المعلق قال عنه الحافظ بن حجر وقد وصله سعيد بن منصور والإمام أبو عبيد عن هذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه والأثر الثاني أثر عبد الله بن عمر رضوان الله عليهم أجمعين علقه البخاري أيضا في صحيحه في الباب الثاني عشر من كتاب العيدين أنه كان يكبر خلف الصلوات المفروضات والنافلات خلف الصلوات وفي بيته وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي ممشاه وفي مجلسه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وهذا الأثر المعلق وصله أيضا الإمام ابن أبي المنذر والإمام الفاكهاني أيضا إذا هذا التكبير من شعائر أيام العشر فينبغي أن نجهد به وأن نظهره وأن تدوي الدنيا تكبيراً لربنا الكبير جل وعلا.
إخوتي الكرام: والتكبير كما قرر أئمة الإسلام على حالتين تكبير مطلق لا يتقيد بوقت وهو الذي ذكرته منذ أن تدخل الأيام العشر إلى نهاية أيام التشريق ينبغي أن تكبر الله في كل وقت وكلما أكثرت فهو أعظم لأجرك فاستكثروا فيهن من التهليل والتكبير وهناك تكبير مقيد ينبغي أن يأتي به العباد عقيب الصلوات المفروضات ويبتدي من يوم فجر عرفة إلى صلاة العصر في آخر أيام التشريق وهي ثلاث وعشرون صلاة فيكبرون يوم عرفة ويوم العيد ويوم التشريق الأول والثاني والثالث ومجموع الصلوات كما قلت ثلاث وعشرون صلاة ينتهون بعد نهاية صلاة العصر يكبرون وينتهون فلا يكبرون بعد ذلك بعد صلاة المغرب في آخر أيام التشريق.(92/17)
وهذا التكبير ثابت عن علي وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم أجمعين بسند صحيح كما روى ذلك الإمام ابن المنذر وهذا كما قلت تكبير مقيد ينبغي أن يلتزم به العباد عقيب الصلوات المفروضات وأما صيغته فقد نقل عن سلفنا الكرام صيغ متعددة مما يدل على أن الأمر فيه سعة روى عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يكبر فيقول " كبروا الله قولوا الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا " فلو قال هذا الإنسان أجزأه وهو حسن ولو قال ما روى عن عمر رضي الله عنهم أجمعين كما أشار إلى هذا الحافظ ابن حجر " الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد " لو قال هذا وهو الذي عليه عمل المسلمين عقيب الصلوات في هذه الأيام أعني في يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق فهذا أيضا حسن ولو قدر أن العباد زادوا أو نقصوا إن الأمر فيه سعة وأما قول هذا بصوت جماعي فلا حرج فيه.
إخوتي الكرام: وما يفعله بعض الناس في هذه الأيام من أن مقولة هذا بصوت جماعي بدعة فأي بدعة في هذا وإذا نقل هذا عن السلف الكرام وكانوا يكبرون وترتج منى تكبيراً وإذا فعل هذا عقيب الصلوات من أجل الجهد بذكر مشروع ومن أجل تعليم من لا يعلم أي بدعة في ذلك إذا جهد المصلون بتكبير الحي القيوم إخوتي الكرام لابد أن نقف عند حدنا عندما نطلق الألفاظ على الأحكام التي تصدر من العباد إذا هذا أول ما ينبغي أن يفعله الناس أن يفعله المسلمون في أيام العشر أي عشر ذي الحجة وما بعدها من أيام التشريق التكبير لهه جل وعلا.(92/18)
الأمر الثاني: صيام هذه الأيام أعني صيام التسع دون صيام اليوم العاشر وهو يوم النحر فيرحم علينا أن نصومه وأن نصوم الأيام التي بعده وهي أيام التشريق أيضاً مما ينبغي أن يحرص عليه العباد وصيام أيام التسع من ذي الحجة من اليوم الأول إلى نهاية التاسع وهو يوم عرفة فهي أيام أيضا مباركة جليلة عظيمة صيامها له أجر عظيم كما تقدم معنا صيام اليوم منها يعدل بصيام سنة وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يصومها من أولها إلى آخرها كما ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والسنن الكبرى للإمام البيهقي وإسناد الحديث صحيح عن هنيده بن خالد وهو رجل من الصحابة يسمى بذلك رضي الله عنه وأرضاه عن هنيده بن خالد عن روجه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي إما حفصة أو أم سلمة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة. وليس المراد من ذلك اليوم التاسع إنما المراد يصوم هذه الأيام التسعة كما ثبت في إحدى روايات النسائي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم عشر ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر والرواية الأولى كان يصوم تسع من يوم عاشوراء وثلاثة أيام من شهر إذا هذه الأيام أيها الأخوة الكرام من أمكنه أن يصومها فليغتنم ذلك فله أجر عظيم ومنزلة كبيرة عند الله جل وعلا.(92/19)
وأما ما رواه الإمام مسلم في صحيحه والإمام الترمذي والإمام أبو داود في السنن والحديث رواه البيهقي أيضا وهو حديث صحيح فهو في صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر يعني عشر ذي الحجة قط فهذا الحديث الذي روته أمنا عائشة رضي الله عنها وكما قلت حديث صحيح وجَّههُ أئمتنا بتوجيهين اثنين أولهما قالوا على حسب علمها ما اطلعت وال علمت بذلك والمثبت مقدم على النافي كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي وغيره هذا على حسب علمها وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يدور على نسائه فمن أيام التسع لعله يأتيها ليلة فلعله في تلك الليلة شغل بأمر من الأمور أو دعى فما كان عندها فما علمت بصيامه والعلم عند الله جل وعلا.
فالمثبت مقدم النافي والتخريج الثاني والتوجيه الثاني أن هذا في حال طروء عله على نبينا عليه الصلاة والسلام من مرض أو سفر أو لعلة أخرى معتبرة في الشرع كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها والحديث في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدع العمل وهو يحب أن يعمله خشية أن يفرض على أمته وعليه فلعله ترك أحيانا صيام عشر ذي الحجة باستثناء اليوم العاشر وهذا من باب التغليب لعله ترك صيام تسع ذي الحجة ترك صيامها لئلا تفرض على أمته في بعض الأحيان لكن الغالب من أحواله عليه الصلاة والسلام أنه كان يصوم ذلك كما ثبت ذلك عن حفصة وأم سلمة رضوان الله عليهم أجمعين إذن هذا الأمر الثاني ينبغي أن ننتبه له إخوتي الكرام ألا وهو صيام عشر ذي الحجة باستثناء يوم النحر صيام تسع من ذي الحجة من اليوم الأول إلى نهاية التاسع.(92/20)
والأمر الثالث: إذا ما أمكنك أن تصوم التسع فلا أقل من صيام يوم عرفة فله أجر عظيم عظيم والمغبون حقا من فرط في ذلك اليوم ولم يصمه وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن الأربعة والحديث في سنن البيهقي وغيره من رواية أبي قتادة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عرفة فقال إنه يكفر السنة التي بعدها والسنة التي قبلها.
وفي بعض رواية الحديث صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر سنة قبله وسنة بعده إذن له أجرٌ عظيم عند الله جل وعلا صيام يوم عرفة فإياك أن تفرط فيه وهذا الحديث الذي رواه أبو قتادة رضي الله عنه وأرضاه وهو في صحيح مسلم هو حديث يصل إلى درجة التواتر فقد روى عن عدة من الصحابة الكرام في تلك الروايات هذه الدلالة ألا وهي أن صيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين سنة آتية وسنة ماضية.
روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسند حسن وقد صحح إسناده عدد من أئمتنا كما في الترغيب والترهيب ومجمع الزوائد من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام يوم عرفة غفر الله له ذنوب سنة قبله وذنوب سنة بعده "والحديث كما قلت في معجم الطبراني الأوسط بسند حسن بسند صحيح وروى الإمام أبو يعلى والطبراني في معجمه الكبير من رواية سهل بن سعد أيضاً والحديث إسناده صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من صام يوم عرفة غفر الله له ذنوب سنتين متتابعتين" يعني سنة قبله وسنة بعده.(92/21)
وقد روى هذا أيضا في معجم الطبراني الصغير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وروىفي معجم الطبراني الكبير عن زيد بن أرقم بل ورد ما يزيد على ذلك في الفضل ففي معجم الطبراني الأوسط بسند حسن عن سعيد بن جبير رضي الله عنه وأرضاه وهو من التابعين الكرام قال سئل ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين عن صيام يوم عرفة فقال كنا ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم نعد له يصوم سنتين متتابعتين. كنا ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم نعد له بصوم سنتين متتابعتين. أي لذلك من الأجر كالأجر من صام سنتين متتابعتين.
وثبت في معجم الطبراني الأوسط أيضاً وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي والحديث إسناده حسن عن مسروق وهو من أئمة التابعين أنه دخل على أمنا عائشة رضي الله عنها يوم عرفة فقال اسقوني فقالت أمنا عائشة يا غلام اسقه عسلا ثم قالت لمسروق يا مسروق أما أنت بصائم هذا يوم عرفة فقال يا أماه خشيت أن يكون هذا الأضحى أي أن يكون هذا اليوم هو يوم عيد الأضحى عيد النحر فما صمته فقالت ليس ذلك إنما يوم عرفة يوم يعرف الإمام ويوم النحر يوم ينحر الإمام أي اليوم الذي يثبت عند المسئول بأنه يوم عرفة هذا هو يوم عرفة وهكذا عند ولي الأمر عندما يثبت أن هذا هو يوم النحر يكون هو يوم النحر يوم عرفة يوم يعرف الإمام ويوم النحر يوم ينحر الإمام يا مسروق أما بلغك عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن صيام يوم عرفة يعدل صيام ألف يوم " وهذا أكثر من صيام سنتين إذن يقارب ثلاث سنين أما بلغك أن صيام يوم عرفة يعدل صيام ألف يوم.(92/22)
والحديث كما قلت إخوتي الكرام في معجم الطبراني الأوسط وشعب الإيمان للإمام البيهقي بسند حسن يوم عرفة اخوتي الكرام يستحب لنا أن نصومه ففيه أجور عظام وهذا الصيام اختص الله به المقيمين الذين لم يذهبوا لزيارة بيته الكريم وكأن اله جل وعلا أراد أن يوزع الفضائل بين عباده فإذا ذهب أولئك لحج بيت الله الحرام وحصلوا من الأجور ما لا يخطر بعقول الأنام فلئلا يبقى في قلوبنا حسرة وغصّة منَّ الله علينا بصيام هذا اليوم الذي لنا فيه هذا الأجر العظيم وهذا صيامه بنا وأما الحاج فينهى عن صيام يوم عرفة.
وقد روى في معجم الطبراني الأوسط أن أمنا عائشة رضي الله عنها بسند ضعيف والحديث رواه أيضا الإمام أحمد في المسند ورواه أبو داود في السنن ورواه الإمام النسائي في السنن ورواه ابن ماجه في سننه أيضا والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه والإمام الداراقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه كما قلت " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة".
والحديث اخوتي الكرام من طريق أبي هريرة رضي الله عنه صححه الإمام ابن خزيمة وصححه الحاكم وأقره عليه الإمام الذهبي وصيغ أئمتنا يقتضي بأنه حديث حسن نعم فيه مهدي بن حرب العبدي الهجري أخرج حديثه أهل السنن الثلاثة أبو داود وابن ماجه والنسائي وقال الحافظ عنه في التقريب إنه مقبول وقد ترجمه في التهذيب ونقل عن ابن خزيمة أنه روى عنه هذا الحديث وصححه ولم يعترض عليه الحافظ ولهذا الحديث شواهد كثيرة من فعل نبينا عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام بعدم صوم الحاج يوم عرفة بعرفة وإنما نهى الحاج عن الصيام يوم عرفة بعرفة لأمور كثيرة أبرزها ثلاثة:
أولا: ليتقوى على الدعاء وعلى ذكر رب الأرض والسموات.
ثانياً: هو مسافر والأصل في المسافر ألا يصوم.(92/23)
ثالثاً: وهو الذي استنبطه الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية أن يوم عرفة بالنسبة للحجاج يعتبر يوم عيد وقد نهيت هذه الأمة أن تصوم في أيام الأعياد فعيد الحجاج هو يوم عرفة ولن يجتمع الحجاج في مكان من الأمكنة في موسم الحج إلا في عرفات وما عدا هذا سيتفرقون ما بين مكة وما بين منى وما بين غيرها أما في يوم عرفة فكلهم مجتمعون فهذا عيد بالنسبة لأهل عرفة كما أن يوم النحر عيد بالنسبة لغيرهم فيجتمعون يوم العاشر ويعظمون شعائر الله جل وعلا وذلك من تقوى القلوب. فإذا كان يوم عرفة يعتر عيدا بالنسبة للحجاج فما ينبغي أن يصوموا فيه.
إخوتي الكرام: ويوم عرفة يوم عظيم عظيم عظيم هو كما قلت من أعظم أيام السنة وهو يوم النحر لا يوجد في أيام السنة ما يعدلهما والله جل وعلا يجود ويتفضل فيه على عباده بما لا يخطر على بال أحد.(92/24)
وقد ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي وسنن ابن ماجه الحديث رواه الإمام ابن خزيمة في صحيحه ورواه الإمام البيهقي ورواه أيضا غير هؤلاء وهو صحيح فهو في صحيح مسلم عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عباداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو فيتجلى فيقول جل وعلا ماذا أراد هؤلاء – سبحانك ربنا ما أرادوا إلا رحمتك ورضوانك ومغفرتك – فهذا – يعني يوم عرفة هو يوم العتق من النار ويعتق الله فيه عباداً ما لا يعتق في سواه "وقد روى أيضا عن ظلمة بن عبد الله بن كريز وهو من التابعين الكرام بفتح الكاف وكما قال الإمام بن حبان كل اسم يأتي معك بهذا الضبط مضموم الكاف إلا هذا الاسم كريز فهو طلحه بن عبد الله بن كريز وحديثه مخرج في صحيح مسلم وغيره هو من أئمة التابعين الكرام عن طلحة بن عبيد الله بن كريز والحديث مرسل إلى نبينا صلى الله عيه وسلم في الموطأ وقد وصله الحاكم في المستدرك من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال "ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أصقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفه لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما أرى يوم بدر فإنه رأى جبريل عليه الصلاة والسلام يزع الملائكة " ففي ذلك اليوم عندما رأى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يقود ملائكة الله الأطهار من أجل مقاتلة الكفار ذل الشيطان ذلا كبيرا وما عدا هذا فأعظم ما يحصل له من الذل والدحور والصغار في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام.(92/25)
رابعاً: وهو آخر ما سأتكلم عليه وأختم به هذه الموعظة أيام العشر إذا دخلت وثبت هلال ذي الحجة وأراد الإنسان أن يضحي فهو مستطيع وسيأتينا أحكام الأضحية مع بقية أحكام العشر في الموعظة الآتية إن شاء الله لكن إذا ثبت عشر ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يجوز للإنسان أن يأخذ شيئاً من شعره ولا من إظفاره حتى يذبح أضحيته وهذا ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام لا يجوز أن تقص شعر رأسك ولا أن تقلم أظافرك ولا أن تنتف شعر الإبطين ولا أن تحلق العانة ولا ولا إذا دخل عشر ذي الحجة حتى تذبح الأضحية وأما اللحية فيحرم على الإنسان أن يمد يده إليها بحلق أو تقصير سواء في عشر ذي الحجة أو في غيرها فانتبهوا إلى هذا عباد الله أما في عشر ذي الحجة كما قلت يحرم أن تزيل شعراً أو أن تقص ظفراً وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ورواه أهل السنن الأربعة من رواية أمنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها والحديث في سنن البيهقي وغيره ولفظ الحديث عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا دخل العشر من ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمنَّ ظفراً".(92/26)
وفي رواية "إذا دخلت عشر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يقص شعراً أو لا يقلمن ظفراً حتى يضحي" فهذا التحريم يمتد حتى يريق الإنسان دم الأضحية وحتى يضحي فإذاً فلا يأخذ شيئاً من شعره ولا من ظفره حتى يضحي وهذا الحكم هو الذي عليه الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وذهب ليه سيد التابعين الإمام سعيد بن المسيب وقال به من أئمة المسلمين الإمام ربيعة شيخ الإمام مالك وقال به اسحاق بن راهوية وذهب إليه بعض أصحاب الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله وأما ما ذهب إليه الإمام الشافعي ويقرب منه قول الحنفية والمالكية بأنه لا يحرم على الإنسان أن يأخذ شعراً ولا يقص ظفراً إنما هذا من باب كراهة التنزيه ومن باب الأدب أن يلتزم بذلك وإذا فعل فلا إثم عليه فرأْيٌ مع جلالة من قال به ومتانة ما استدلوا به كما سأذكر دليلهم أقول لا دليل فيه على هذا الأمر يعينه فالإمام الشافعي استدل بالحديث الثابت في المسند والكتب والسنة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاه قالت كنت أفتل القلائد لهدى النبي صلى الله عليه وسلم فكان يبعث بها أي بالهدى وهي مقلدة إلى بيت الله الحرام ثم لا يحرم عليه ما أحل الله له حتى ينحر هديته وفي بعض الروايات ثم لا يجتنب ما يجتنبه المحرم حتى ينحر هديه أي يبقى على حاله حلالا عليه صلوات الله وسلامه.(92/27)
لقد بينت كما قلت والحديث في الكتب الستة أن نبينا عليه الصلاة والسلام أرسل هديا في العام التاسع عندما ذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أميراً على الحج وقلد ذلك الهدى والقلائد جمع قلادة توضع في رقبة الهدى من القماش والخيطان يضع ليعلم أن هذا هدى ليذبح في ذلك المكان تقول فتلت القلائد بيدي للنبي عليه الصلاة والسلام وقلد الهدى ثم بعثه إلى مكة وبقي عليه الصلاة والسلام لم يجتنب ما يجتنبه المحرم من قص شعر أو تقليم ظفر فالإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول إن الهدى أعظم مكانة من الأضحية وإذا لم يحرم على من أهدى شيئاً إلى بيت الله الحرام ليذبح فيه في بلد الله الحرام ليكون طعمه للمساكين وتعظيما لبيت رب العالمين إذا لم يحرم على المهدى أن يقص شعره ولا أن يقلم ظفره فلا يحرم على من يريد أن يضحي من باب أولى والذي يظهر والعلم عند الله أن الاستدلال كما قلت لا ينسجم مع ذاك أما الهدى فقد يرسل الإنسان هديه من بداية ذي الحجة وقد يرسل الإنسان هديه من بداية شوال فهل سيمتنع حتى ينحر الهدى في يوم النحر عما يفعله الإنسان إذا كان حلالاً من قص ظفر أو قص شعر أو ما شاكل هذا ففي الحقيقة هناك شيءٌ من المشقة فلا يصح أن نقيس هذا بهذا أو يضاف إلى ذلك كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو الفاصل في هذا الأمر وقد نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نأخذ شيئاً من شعرنا أو من أظفارنا حتى نذبح أضحيتنا نعم ذاك استدلال معتبر بالنسبة إلى قائلة لكن فيما يظهر والعلم عند الله أن ما ذهب إليه الإمام أحمد ومن معه أظهر وأقوى والله جل وعلا أعلم وخلاصة الكلام إخوتي الكرام هذه الأمور الأربعة ينبغي أن ننتبه لها:
1. تكبير لله جل وعلا في أيام العشر وأيام التشريق.
2. صيام تسع من ذي الحجة.
3. إذا لم يمكنك فلا أقل من صيام يوم عرفة.
4. إذا أردت أن تضحي فامتنع عن إزالة الشعر وقص الظفر حتى تذبح أضحيتك.
أقول هذا القول وأستغفر الله.(92/28)
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين. وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله رسوله خير خلق الله أجمعين اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا وارصد اللهم من الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ألف بين قلوب أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أنصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم أغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا.
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمت وتعلم منا اللهم أحسن لمن حسن إلينا.
اللهم أغفر لمن وقف هذا المكان المبارك اللهم اغفر لمن عبد الله فيه.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات والحمد لله رب العالمين
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
"والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".(92/29)
ذم الابتداع
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
ذم الابتداع
58
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمة ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
"يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون" (فاطر/3) .
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعيناً عمياً وآذانا صماً وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيها رجالاً كثيرا ونساءاً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " (النساء/1) .
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"
(آل عمران/102) .
"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما" (الأحزاب/71) .
أما بعد: معشر الاخوة الكرام..(93/1)