وهذا إخوتى الكرام ليس من باب النسبة يعنى ثلث وثلثان هذا من باب يعنى تعليق الحكم بالوصف فقد يدخل واحد من مائة الجنة وتسعة وتسعون من القضاة فى النار وقد يدخل تسعون الجنة وعشرة إلى النار هذا على حسب ما سيوجد من صفات واضح هذا من كان صفته كذا فهو فى النار يعنى ليس القضاة سيجمعون ثلثهم فى الجنة والثلثان فى النار ليس كذلك
(القضاة ثلاثة قاضيان فى النار وقاض فى الجنة فأما الذى فى الجنة فرجل عرف الحق وقضى به)
حقيقة هذا على هدى عرف الحق وقضى به فهو فى الجنة
(أما الذى فى النار عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار)
هذا أحد القاضيين (ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار)
إذن عرف الحق فجار فى النار قضى على جهل فى النار مطلقة أصاب أو أخطأ عرف الحق وقضى به فهو فى الجنة
فى رواية الحاكم زيادة انتبهوا لها قال الصحابة الكرام والحديث كما قلت صححه الحاكم وأقره الذهبى وقال على شرط مسلم
قال الصحابة الكرام لنبينا عليه الصلاة والسلام يا رسول الله فما ذنب هذا الذى يجهل
كأنهم يريدون أن يقولوا ما قصد المعصية وتقدم معنا قلت هذا الصنف الذى يعنى يوزر ويأثم قد يقصد المعصية وقد لا يقصد وفى الحالة الأولى والثانية ما قصد المعصية لكن فعله ما عذره الشارع فيه فى هذه الحالة والتى قبلها الحالة التى قبلها كما تقدم معنا ليست المسألة من محل التأويل أو هو ليس من أهل التأويل الثانية هو كما قلت جاهل يعنى لا يتكلم بعلم الحالة الثالثة هو قصد المعصية فى حالتين كما قلت من الحالة الثانية التى يأثم الإنسان فيها ما قصد المعصية وقى حالة قصد المعصية فهنا قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين
فما ذنب هذا الذى يجهل فقال نبينا عليه الصلاة والسلام ذنبه ألا يكون قاضيا حتى يعلم(49/21)
من الذى رخص له أن يزاول هذه المهنة وهذه الرتبة وهو لا يعلم ذنبه ألا يكون قاضيا حتى يعلم يعنى ارتكب الذنب لأنه لا يحق له أن يكون قاضيا حتى يعلم فتكون على علم وبينة وبصيرة
والحديث إخوتى الكرام من رواية سيدنا بريدة ورُوى عن سيدنا عبد بن عمر رضي الله عنهما فى معجم الطبرانى الأوسط والكبير بسند رجله ثقات كما فى المجمع فى الجزء الرابع صفحة ثلاث وتسعين ومائة وروى الإمام أبو يعلى نحوه ولفظ رواية سيدنا عبد بن عمر رضي الله عنهما أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال:
(القضاة ثلاثة واحد ناج وانثان فى النار قاض قضى بالهوى فهو فى النار وقاض قضى بغير علم فهو فى النار وقاض قضى بالحق فهو ناج)
أى فى الجنة بفضل الله ورحمته
نعم إخوتى الكرام من أعد العدة وكان أهلا للاجتهاد فهو معذور إن أخطأ بل له أيضا على اجتهاده أجر عند العزيز الغفور فخطؤه مغفور وله أجر على اجتهاده عند العزيز الغفور هذا إذا أعد العدة وهو من أهل الاجتهاد وتكلم فكما قلت هناك عذره الله عندما أخطأ بقى له أجر على اجتهاده أما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد وتكلم فهو آثم فى الحالتين وعليه وزر الضال المضل عندما يخطىء فى اجتهاده إذا لم يكن أهلا للاجتهاد
ثبت فى مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن الترمذى والحديث رواه ابن حبان فى صحيحه والخطيب فى تاريخ بغداد والبيهقى فى السنن الكبرى عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه والحديث رواه الإمام أحمد فى المسند وأهل الكتب الستة أيضا وابن حبان فى صحيحه والبيهقى فى السنن الكبرى والحاكم فى المستدرك انتبه عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه ورواه الإمام الدارقطنى فى السنن أيضا عن أبى هريرة هناك عن عمرو بن العاص والحديث فى أعلى درجات الصحة فهو فى الروايتين مخرج فى الصحيحين من وراية عمرو وأبى هريرة رضي الله عنهم أجمعين عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال(49/22)
(استفسار من أحد طلبة العلم غير مسموع) أى صحيح مسلم فى الصحيحين أوليس كذلك الول قلت فى الكتب الستة إلا سنن الترمذى والثانى فى المسند والكتب الستة كلها طيب لمَ صحيح مسلم؟ هو فى الصحيحين يعنى رواية عمرو بن العاص فى الصحيحين ورواية أبى هريرة فى الصحيحين مع أيضا كتب أخرى
ولفظ الحديث عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال:
(إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)
كما قلت هو من أهل الاجتهاد وهذا أقل ما يحصل له إذا حكم فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه يحصل له أكثر من ذلك ولا منافسة بين القليل والكثير فالقليل يدخل فى الكثير ورحمة الله واسعة أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن القاضى إذا قضى واجتهد فأصاب فله عشرة أجور
فى رواية له عشر حسنات وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر
وفى رواية فله حسنة
وفى رواية فله أجر أو أجران(49/23)
والروايات فى بعضها ضعف لكن رواية صححها الإمام الهيثمى فى المجمع فيها راو ضعيف كأنه غفل عنه رضى الله عنه وأرضاه وقال رجاله رجال الصحيح فاستمعوا للرواية التى نص على تصحيحها الإمام الهيثمى فى المجمع من رواية سيدنا عقبة بن عامر رضى الله عنه وأرضاه روايته فى المسند فى الجزء الرابع صفحة خمس ومائتين وتعبت جدا لذلك حددت لكم المسند فى الجزء الرابع صفحة خمس ومائتين لأننى استقرأت مسند عقبة بن عمرو من أوله لآخره ما وجدت الحديث فيه وعُزى فى كتب أئمتنا إلى لمسند يعنى الإمام ابن حجر فى التلخيص يقول رواه الإمام أحمد فى المسند وهكذا غيره يعنى ممن عزى هذا الحديث يقول هو فى المسند من رواية عقبة بن عامر فى المجمع كما قلت عند يعنى كتاب الأحكام باب اجتهاد الحاكم قال رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر بسند رجاله رجال الصحيح فاستقرأت مسند عقبة من أوله لآخره وهو فى المجلد الرابع أيضا غالب ظنى يبدأ من صفحة ثلاث وأربعين ومائة غالب ظنى ما أستحضرها مع أننى يعنى حديث عهد باستقرائه فما وجدت, أعطيت لأهلى بعد ذلك الكتاب قلت استقرئى مسند عقبة, عندما أبحث بعد ذلك ألهمنى الله لعل الإمام أحمد أورده ضمن حديث عمرو بن العاص فقبل أن تنهى يعنى1:2:30المسند الذى معك ونظرت إلى مسند عمرو بن العاص فى مظان الحديث الذى أخرجه حسبما أشار يعنى المعجم المفهرِس إلى أماكن الحديث فى صفحة كما قلت لكم خمس ومائتين فى مسند عمرو ابن العاص أورد الحديث بعد حديث عمرو ابن العاص أورد حديث عقبة بن عامر لم ما أعلم؟ مع أنه من مسند عقبة, الأصل أن يورده هناك على كل حال هذا الذى فى المسند هو من مسند عقبة وأورده ضمن مسند عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين
قال الإمام الهيثمى فى المجمع كما قلت لكم فى الجزء الرابع صفحة خمس وتسعين ومائة فى كتاب الأحكام باب اجتهاد الحاكم رجاله رجال الصحيح
وفيه أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال لعقبة:(49/24)
إن اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور
وفى رواية الدارقطنى فلك عشر حسنات فلك عشرة أجور إن اجتهدت وأخطأت فلك أجر واحد
قال الإمام الهيثمى فى المجمع رجاله رجال الصحيح أقول إن الحديث فى سنن الدار قطنى فى الجزء الرابع صفحة ثلاث ومائتين ورواه الحاكم أيضا فى المستدرك كما فى التلخيص الحبير فى الجزء الرابع صفحة تسع وتسعين ومائة وعزاه إلى الدار قطنى أيضا وقال إنه رواه الدارقطنى والحاكم عن ثلاثة من الصحابة عقبة وأبى هريرة وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين لكن انتبه فى إسناده فضالة ,فضالة هو فى إسناد عقبة فى المنسد وفى إسناد الدارقطنى وفى إسناد أيضا الحاكم ومن روى هذا الحديث فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف حديثه مخرج فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى وهو فى إسناد المسند والإمام الهيثمى يقول رجاله رجال الصحيح!!
كيف هو رجاله رجال الصحيح ولم يخرج له فى الصحيحين ولا فى أحدهما!!
وكما قلت فيه أيضا ضعف ونص على ضعفه الحافظ فى التقريب وهكذا فى التلخيص الحبير فلعل الإمام الهيثمى وَهِمَ والعلم عند الله جل وعلا, يحتاج الأمر إلى يعنى أيضا بحث وتحقق من هذا الأمر ففيه فرج بن فَضالة توفى سنة سبع وسبعين ومائة وحديث كما قلت فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى
انظروا إخوتى الكرام التلخيص الحبير كما قلت لكم صفحة تسع وتسعين ومائة وقد حكم على الحديث بالضعف والحديث فى المستدرك فى الجزء الرابع صفحة ثمان وثمانين
قال الإمام الذهبى فى فرج بن فضالة ضعفوه أيضا وفى حديث عمرو بن العاص وحديث عقبة بن عامر
جاء خصمان إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يختصمان فى قضية فقال النبى عليه الصلاة والسلام لعمرو اقضِ يا عمرو اقضِ بينهما وفى قصة أخرى قال يا عقبة اقضِ بينهما فقال عقبة اقضى بينهما يا رسول الله عليه الصلاة والسلام وأنت موجود أنت أحق بالقضاء أنت تقضى(49/25)
فقال اقضِ بينهما قال فما لى للقضاء قال إن أصبت فلك عشرة أجور لك عشر حسنات وإن أخطأت فلك أجر واحد
لأنك من أهل القضاء والاجتهاد النبى عليه الصلاة والسلام يريد أن يدربه فإن اجتهد وأخطأ يصحح له قضاءه بحضور النبى عليه الصلاة والسلام وإذا أصاب الحمد لله حصل هذا الأجر العظيم وهكذا فى حديث عمرو رضي الله عنهم أجمعين
الحديث كما قلت فيه ضعف لكن رُوى يعنى من طرق وله متابعات لعله يرتقى بها إلى درجة الحسن والعلم عند رب الأرض والسماوات انظروا كما قلت التلخيص الحبير من كلامه على هذا الحديث فذكر متابعة من طريق الإمام ابن نفيعة لفرج بن فضالة وكما قلت يعنى لعل الحديث يرتقى بذلك والعلم عند الله جل وعلا
على كل حال قلَّ ما يحصل أجر لمن اجتهد وأخطأ وإذا اجتهد وأصاب وهو من أهل الاجتهاد فله أجران أو عشرة أجور, هذا لمن هو من أهل الاجتهاد
قال الإمام ابن المنذر (إنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالما بالاجتهاد فاجتهد فأما إذا لم يكن عالما فلا)
لأنه آثم واستدل بحديث نبينا عليه الصلاة والسلام القضاة ثلاثة الذى فى النار هو الذى قضى على جهل فقالوا ما ذنبه الذى يجهل قال ذنبه ألا يكون قاضيا لمَ هو يعنى تولى القضاء وليس بأهل له وليس أهلا له؟
الحالة الثالثة
التى يأثم فيها الإنسان إذا خلف شرع الله الرحمن هنا يتعمد المخالفة ويريد المعصية طلبا لحظ عاجل دون استحلال للباطل فغلبته الشهوات ولم يستحل ما حرم رب الأرض والسماوات
كما يقع الإنسان نسأل الله العافية فى شرب الخمر, فى زنا ,فى سماع الغناء فى فى فى, تقول لمَ؟(49/26)
يقول يا عبد الله كل بنى آدم خطَّاء غلبتنى نفسى وأرجو رحمة ربى لعل الله يتوب علىَّ لعل الله يغفر لى إذا لم تكن رحمة ومغفرته للعاصى لمن ستكون من هذا الكلام لم يستحل ما حرم الله عز وجل لكن تعمد المعصية وفى الحالتين السابقتين ما تعمد المعصية إما على جهل وإما كما قلت فى غير محل التأويل هو لا يريد المعصية لكنه عاص لأن الشارع ما عذره وهنا كما قلت تعمد المعصية هو فى هذه الأحوال الثلاثة فى كلها كما قلت عاص موزور
هذا إخوتى الكرام الذى يقع فى المعصية وهو يعلم أنه عاص لا شك كما قلت آثم عاص لله عزوجل هو يعلم أنه عاص
وأمثلة هذا كثيرة مثلا الرشوة التى انتشرت فى هذه الأيام رشوة فالقاضى يريد رشوة الحاكم يريد رشوة والموظف يريد رشوة المسؤول يريد رشوة المُبطِل عندما يقدم بعد ذلك بقضية باطلة يغرى المسؤول ليقضى له بالباطل يعطيه رشوة كل منهما يعلم أن هذا حرام من استحل الرشوة فقد كفر هذا لا شك فيه وإذا لم يستحل فكما قلت آثم عاص لله يعنى استعجل الحياة الدنيا وآثرها على الآخرة الباقية
استمع مثلا إلى عقوبة الراشى والمرتشى وكل منهما يعلم أنه عاص لله عز وجل
ثبت فى مسند الإمام أحمد والحديث فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى ورواه الحاكم فى المستدرك والبيهقى فى السنن الكبرى والإمام أبو داود الطيالسى فى مسنده من رواية سيدنا عبد الله بن عمر والحديث رواه الإمام أحمد فى المسند والترمذى فى السنن وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى مستدركه والخطيب فى تاريخ بغداد من رواية سيدنا أبى هريرة رضي الله عنهم أجمعين ولفظ الحديث عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه والحديثان صحيحان حديث عبد الله بن عمرو وحديث سيدنا أبى هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال:
(الراشى والمرتشى فى النار)
كما تقدم معنا أيضا من قضى على جهل فهو فى النار الراشى والمرتشى فى النار(49/27)
وتقدم معنا (من قال قى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) (الراشى والمرتشى فى النار)
هذا الحديث إخوتى الكرام رُوى عن عدة من الصحابة أيضا رُوى عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة وعن أمنا الطيبة المباركة أم سلمة وعن سيدنا عبد الرحمن بن عوف وعن سيدنا ثوبان رضي الله عنهم أجمعين
وفى حديث ثوبان زيادة ولذلك أخرجه للزيادة التى فيه وإسناده صحيح رواها الإمام أحمد فى المسند وأبو يعلى فى مسنده والطبرانى فى معجمه الكبير والبيهقى فى شعب الإيمان من رواية كما قلت سيدنا ثوبان عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما فى النار)
يعنى يتوسط بين المبطل وبين المسؤول, الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما فى النار هذا مثل الربا يعنى لُعن آكله وكاتبه وشاهداه أوليس كذلك الآكل والموكل والكاتب والشاهدان ملعونون عندما توجد عملية الربا كل من يشارك فيها وهنا كذلك الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما فى النار هذا كلام نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
إخوتى الكرام من باب بيان حكم يتعلق بالرشوة أما المسؤول يحرم عليه أن يأخذ شيئا مقابل قضائه أو تمشيته أمور المسلمين التى أنيطت برقبته سواء أراد أن يحق حقا أو أن بيطل باطلا أو أن يبطل حقا أو أن يحق باطلا يعنى يحرم عليه أن يأخذ بجميع الأحوال لأنه يتقاضى جُعلا ومكافئة وأجرة وراتبا من بيت مال المسلمين فلا يجوز أن يأخذ بحال من الأحوال ولو قال أنا سأقضى بالحق لكن أعطنى لا يجوز ولو قال أنا سأبطل باطلا أعطنى لا يجوز, سيغير الحق إلى باطل لا يجوز أن يأخذ من باب أولى أما الراشى فحقيقة كما قال أئمتنا إذا دفع ليتوصل إلى حقه وليتخلص من ظلم الظالمين دون أن كما قلت يعنى ليتوصل إلى ما لا يحل له أن يتوصل إليه ولن يتخلص من حق وجب عليه فهذا لا إثم عليه والإثم على الآخذ,(49/28)
أحيانا يُبتلى بعض الناس ببعض المسؤولين الخبيثين لا يجرى لك مصلحتك التى ينبغى يعنى أن تحصلها مصلحة شريعة وجاءت إليه ما يجريها إلا بمقاتلة ويتعبك ويبهدلك, يؤخرك ولا ينجز عملك ولو أحيانا حتى أردت أن تسجل مولودا يعنى لا تظن المسألة يعنى أحيانا يقول الإنسان يمكن أن أتركها يعنى تذهب لتسجل مولودا رغم أنفك وإذا ما سجلته تضع غرامة خلال فترة محددة وإذا ما سجلت المولود تضع الغرامة وعندما تأتى لتسجل مرة السجل غير موجود ومرة يحتاج إلى ختم ومرة كذا يجننك وما يسجل المولود ثم أحيانا يصرح وإذا ذهبت لترفع أمره قد يكون الذى فوقه يعنى أشد خيانة منه هذا قد يقبل بشىء قليل ذاك بعد ذلك يحتاج إلى شىء كثير ونسأل الله أن يلطف بنا
على كل حال فالراشى الذى يدفع كما قلت ليصل إلى حقه ليس عليه أما الآخذ فى جميع أحواله آثم ومع ذلك لا يجوز للإنسان أن يدفع إلا كما قلت سابقا إذا اضطُر وعلم أن مصلحته لا يمكن أن تُقضى وسيتعطل ولا يوجد من يعنى يجيب سؤاله لو ذهب واشتكى فهنا يفوض أمره إلى الله ويدفع هذا كما لو اعترضه قاطع طريق وأعطاه مبلغا من المال ليتخلص من ظلمه وعدوانه
إخوتى الكرام من تلبس بهذه الحالة وهو موزور كما قلت فى هذه الأحوال الثلاثة فيما ليس من محل التأويل قضى على جهل, قصد المعصية, من تلبس بهذه الحالة يصح أن ننفى الإيمان عنه مع أننا كما قلنا هو عاص ليس بكافر يصح أن ننفى الإيمان عنه ويصح أن نصفه بالكفر ويصح أن نلحقه بالجاهلية فنقول هذا على الجاهلية وهذه الأمور الثلاثة مستعملة فى حديث نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ولا يجوز أن تطلق عليه لقب الإيمان وعنوان الإيمان ووصف الإيمان إلا بقيد لأن هذا اللقب لا يطلق إلا الصورة الكاملة التى هى إيمان بلا معصية(49/29)
فمن عصى الله تقول مؤمن فاسق مؤمن عاصى مؤمن ظالم أما أن تقول مؤمن هذا لا ينصرف إلا من فعل الواجبات وترك المحرمات أما هذا يخوض فى الموبقات لا بد من أن تقيد إيمانه بما يشعر نقصان الإيمان فيه لأن هذا اللفظ إذا أُطلق ينصرف إلى الصورة الكاملة كما حقق ذلك أئمتنا قاطبة
انظروا مثلا كلام شيخ الإسلام الإمام النووى فى تقرير هذا فى شرحه لصحيح مسلم فى أول كتاب الإيمان إخوتى الكرام ما حددت الصفحة فى أول كتاب الإيمان قرر هذا الأمر أول حديث فى كتاب الإيمان قرر ما يتعلق بهذا الأمر وأن الإنسان إذا فعل معصية لا يطلق عليه لفظ الإيمان إلا بقيد ويجوز أن تصفه بالكفر على تأويلات ستأتينا أنك تريد كفر دون كفر تريد كفر النعمة لا كفر المُنعم شابه الكفار وما شابه هذا كما سيذكر شيخ الإسلام النووى يجوز أن تنفى الإيمان عنه لأنه ما وجد فيه الإيمان الكامل يجوز أن تلحقه بالجاهلية
لعلنا هذه الأمور الثلاثة ننتهى منها لنشرع بعد ذلك فى الموعظة الآتية فى الخصلة فى الحالة الثالثة التى إذا انحرف الإنسان فيها عن شرع الله يكفر
ثبت فى المسند والكتب الستة وغير ذلك من دواوين السنة عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه والحديث فى المسند وصحيح البخارى وسنن النسائى ورواه الإمام عبد ارزاق فى مصنفه والإمام البزار ى مسنده والطبرانى فى معجمه الكبير والخطيب فى تاريخ بغداد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين فهو من رواية صحابيين باللفظ الذى سأذكره عن سيدنا أبى هريرة وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال:
(لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)
فنفى عنه اسم الإيمان لعدم وجود الصورة الكاملة فيه لأنه وقع فى شىء من الفسوق والغفلة
حديث ثان يصفه بالكفر إذا فعل ما يفسقه ما يوزره ما يؤثمه(49/30)
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث فى الحلية فى الجزء الثانى من الحلية صفحة ست وثلاث مائة وهو صحيح صحيح فهو فى صحيح مسلم من رواية سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(اثنتان بالناس هما بهم كفر الطعن فى النسب والنياحة على الميت)
قال شيخ الإسلام الإمام النووى فى شرح هذا الحديث فى الجزء الثانى صفحة سبع وخمسين فى شرح صحيح مسلم قوله هما بهم كفر قال لا بد من تأويل هذا الحديث أول التأويلات ذكر أربعة تأويلات
أولها قال:
هما بهم كفر أى من أعمال الكفار وخصال الجاهلية
هما بهم كفر أى تؤديان بهم إلى الكفر
هما بهم كفر يقصد كفر النعمة وعدم الشكر لا كفر المنعم والجحود التأويل الرابع
هما بهم كفر فمن استحل هاتين المعصيتين أو واحدة منهما هذه أربعة تأويلات وأنا كنت ذكرت سابقا ست تأويلات
أضيف إليها
هما بهم كفر هذا من باب التغليظ والزجر ولا يقصد حقيقته
هما بهم كفر شابه الكفار فى هذه الخصلة وفى تلك لا فى سائر الخصال وليس له حكم الكفار الأشرار
وعليه إخوتى الكرام لا بد من تأويل هذه الأحاديث التى تنفى الإيمان وما نُفى يعنى فيه الإيمان عن مرتكب الكبيرة عندما يفعل معصية لله عز وجل
يقال يقصد من النفى نفى تمام الإيمان نفى كمال الإيمان وما ورد وصفه بالكفر نقول كفر عملى ليس كفر اعتقادى وهو الذى يقول عنه أئمتنا أنه كفر دون كفر وانتبهوا لأنه سيلزمنا فى المبحث الثالث ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون هذه تدخل فيها لأنه هنا الآن انحرف وعليه كفر دون كفر فى هذه الحالة إذا لم يستحل وغلبته شهوته إذن كما قلت أنه كفر دون كفر شابه الكفار فى هذه الخصلة هذا من باب التغليظ والزجر بما يخلع القلب يؤدى به إلى الكفر هذا إذا استحل والتى بعد ذلك هى كفر النعمة لا كفر المنعم(49/31)
الدليل الثالث على أنه يوصف أيضا بأنه جاهلى تقدم معنا الحديث إخوتى الكرام فى منسد الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن النسائى وهو فى غير ذلك من دواوين السنة قول نبينا عليه الصلاة والسلام لسيدنا أبى ذر عندما عير بلالا بأمه رضى الله عنهم أجمعين قال:
أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية
تقدم معنا أيضا أن سيدنا أبا ذر رضى الله عنه وأرضاه قال لنبينا عليه الصلاة والسلام كما فى صحيح البخارى:
على ساعتى هذه من كبر السن أنا فى هذا يعنى العمر وفى هذه الحالة وعلى كبر السن مع ذلك فىَّ خصلة من خصال الجاهلية قال:
نعم إنك امرؤ فيك جاهلية على ساعتك هذه من كبر سنك عندما عيرته بأمه
إخوتى الكرام هذا فيما يتعلق بالحالة الثانية التى إذا لم يحتكم الإنسان فيها إلى شرع الله ولم يحكم فى حالته شرع الله يأثم ويرتكب وزرا لكنه لا يكفر الحالة الأولى أن يأول فيما ليس هو من مجال التأويل أن يجتهد فيما ليس من أمور الاجتهاد الثانية كما تقدم معنا أن يتكلم بجهل دون قصد لمعصية الله عز وجل
الثالثة أن يقصد المعصية دون استحلال لها هو فى الحالات الثلاث ما استحل ما حرم الله لكن فى الحالة الأولى والثانية ما قصد معصية الله لكن الشارع ما أذن له ولا عذره فى فعله فهو آثم والحالة الثانية هو قصد المعصية وفعله معصية فهو عاص وهو يعلم بذلك
هذه الأحوال الثلاثة كما قلت الإنسان ينحرف عن شرع الله وهو فيها موزور عاص للعزيز الغفور لا يصل إلى درجة الردة والجحود والكفر
الحالة الثالثة التى سيأتى الكلام عليها من لم يحتكم إلى شرع الله ولم يحكم شرع الله فهو كافر جاحد مرتد قلت لذلك خمس حالات نتدارسها فى الموعظة الآتية بتوفيق رب الأرض والسماوات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا(49/32)
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا
اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه
اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(49/33)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
كنا نتدارس أحوال الإنسان عندما ينحرف عن شرع الرحمن عندما يقع الإنسان فى مخالفة لشرع ذى الجلال والإكرام قلت إن هذه الأحوال لا تخرج عن حالات ثلاثة
أولها أن يكون الإنسان معذورا وثانيها أن يكون آثما موزورا وثالثها أن يكون كافرا مرتدا مثبورا
أما الحالة الأولى إخوتى الكرام وهى ما يُعذر فيها الإنسان عندما يقع فى مخالفة شرع الرحمن فقلت لها ثلاثة أحوال أيضا
أولها
أن يتأول فيما فيه مجال للتأويل وهو من أهل التأويل
ثانيها
أن يجهل حكم الله الجليل بشرطين اثنين لم يعرض عن التعلم ولم يقصر فى التعلم ما أعرض ولا قصر بذل ما وسعه لكنه جهل بعض الأحكام وفعلها بناء على جهله من غير إعراض عن شرع رب العباد ومن غير تقير فى تعلم شرع الله الجليل
الحالة الثالثة
التى يعذر فيها أن يكره ويقسر على معصية الله عز وجل فذهب منه الاختيار فى هذه الحالة فلا لوم عليه عند العزيز الغفار
والحالة الثانية
التى يأثم فيها الإنسان دون أن يكون كافرا بربنا الرحمن أيضا لها كما تقدم معنا ثلاثة أحوال
الحالة الأولى
إخوتى الكرام كما تقدم معنا أن يتأول فيما فى غير مجال التأويل وهو ليس من أهل التأويل كما تقدم معنا إيضاح هذا
والحالة الثانية(50/1)
أن يجهل حكم الله الجليل ففعل المعصية دون قصد للمعصية لكنه قصر أو أعرض عن شرع الله عز وجل فإذن تقصيره بسبب جهله بسبب تقصيره وإعراضه فهو ملوم عن الحى القيوم وهو آثم عند الله عز وجل
والحالة الثالثة
أن يقصد المعصية من غير استحلال لها ففى هذه الأحوال الثلاثة كما تقدم معنا موزور دون أن يصل إلى درجة الكفر بالعزيز الغفور
الحالة الثالثة
التى سنتدارسها فى هذه الموعظة بعون الله جل وعلا أن يكون الإنسان كافرا أن يكفر الإنسان عندما يخالف شرع الرحمن
كنت ذكرت لكم إخوتى الكرام أن هذه الحالة أيضا لها خمسة أحوال وبالتأمل تبين لى أنها ستة وعليه عندنا ستة أحوال للحالة الثالثة وثلاث حالات لكل حالة من الحالتين المتقدمتين فصار المجموع اثنتى عشرة حالة عندنا ست حالات سنتدارسها فى هذه الموعظة بتوفيق رب الأرض والسماوات
إخوتى الكرام ضابط هذه الأحوال الستة
أن يفعل الإنسان معصية ذى الجلال معصية ذى العزة والجلال ليفعل المعصية قاصدا لها مع الاستحلال
قصد المعصية وهو مستحل لها قصدها وهو مستحل لها انتبه وقد يصحبها جحود لشرع الكبير المتعال سبحانه وتعالى وقد يصحبها جحود لشرع العزيز الجبار أو استخفاف واحتقار قد يصحبها وقد لا يصحبها وفعل المعصية مستحلا لها دون أن يجحد حكم الله فى هذه القضية ودون أن يستخف إنما استحل المعصية أحيانا يستهزىء وأحيانا لا يستهزىء أحيانا ينكر الحكم الشرعى وأحيانا لا ينكر فهنا مستحل لهذه المعصية ويرى أنها حلال مع أنه يقول إن الله حرمها لكن إنها حلال عندى وأفعلها على أنها ليست معصية قد كما قلت يجحد وقد لا يجحد قد يستخف وقد لا يستخف إنما متى ما استحل المعصية فقد كفر بالله عز وجل
وذلك كما قلت إخوتى الكرام فى ستة أحوال
أولها(50/2)
ألا يرى صاحب التباب صاحب المعصية حكم الكريم الوهاب حق وعدل وصواب فعل معصية وهو لا يرى أن حكم الله فى هذه القضية أو فى غيرها المقصود لا يرى أن حكم الله حق وصواب فعل معصية ولا يرى أن حكم الله حق وصواب لنفرض أنه شرب الخمر نسأل الله العافية ونظر إلى النساء أو زنى أو فعل غير ذلك من المنكرات قلنا:
اتق الله إن الله جل وعلا حرم هذا قال:
تحريم هذا عبس وليس من الحكمة أن يُحرم فهنا استحل المعصية ورأى أن حكم الله ليس بحق ليس بصواب ليس برشد ليس بحكمة فاستحل المعصية مع حجود حكم الله جل وعلا فى هذه القضية أى جحود صواب حكم الله وأنه ليس حكم الله فيها عدل فى هذه القضية يقول نعم إن الله حرم هذه الجريمة هذه المعصية هذه الموبقة هذه الفعلة لكن التحريم فى غير محله, التحريم خطأ, التحريم سفاهة, التحريم طياشة نسأل الله العافية ففى هذه الحالة كما قلت كفر بالله عز وجل
ألا يرى صاحب التباب حكم الكريم الوهاب حق وعدل وصواب ففى هذه الحالة لا شك فى كفره وهذه الأمور التى سأذكرها إخوتى الكرام مجمع عليها يعنى ليس فيها مجال للقيل ولا للقال لا خلاف فى أن من تلبس بحالة من هذه الحالات فقد خرج من دين رب الأرض والسماوات
إذن ألا يرى أن حكم الله حق وصواب فى قضية ما أو فى سائر القضايا وقد أشار الله جل وعلا إلى حال هذا الصنف فى كتابه فقال جل وعلا فى سورة النساء(50/3)
{ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا *وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا *فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا *أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا *وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما * فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء/60-65]
ورد فى سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام الكلبى فى تفسيره والإمام الثعلبى فى تفسيره من طريق أبى صالح عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما والإسناد كما قال الحافظ فى الفتح فى الجزء الخامس صفحة سبع وثلاثين وإن كان ضعيفا لكن تقوَّى بطريق مجاهد وطريق مجاهد سيأتينا أثره مرسل صحيح بل هناك مرسل الإمام الشعبى أيضا مرسل صحيح أصح من مرسل سيدنا مجاهد رضى الله عنهم أجمعين وهناك أخبار متعددة يقوى بعضها بعض مما يدل على أن هذا الأمر واقع ثابت وهو سبب لنزول هذه الآية الكريمة وفيها إيضاح هذه القضية وهى أن من لم يرَ حكم الكريم الوهاب من لم يره عدلا وصوابا فى قضية ما فقد كفر وارتد نسأل الله العافية والسلامة
وخلاصة سبب نزول الآية
أثر سيدنا بعد الله بن عباس رضى الله عنهما قال:
كان بين يهودى وبين رجل من المنافقين خصومة فى أمر ما فرفعا الأمر إلى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقضى نبينا عليه الصلاة والسلام لليهودى وأن الحق له فلما خرجا قال المنافق لليهودى هلم لنحتكم إلى أبى بكر رضى الله عنه وعن الصحابة أجمعين(50/4)
قال قد احتكمنا إلى محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهذا رسولكم قال نحتكم إلى أبى بكر فذهبا وعرضا عليه قصتهما وقبل أن يتكلم سيدنا أبو بكر رضى الله عنه وأرضاه
قال اليهودى ذهبنا إلى النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وعرضنا عليه قصتنا فحكم بأن الحق لى
فقال ما كان لابن أبى قحافة رضى الله عنه وأرضاه أن يحكم فى مسألة حكم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام الحكم ما قال رسول الله عليه صلوات الله وسلامه فخرجا
فقال المنافق لليهودى هلم لنحتكم إلى عمر رضى الله عنه وعن الصحابة أجمعين فذهبا وعرضا عليه المسألة فقال اليهودى يا أبا حفص ذهبنا إلى النبى عليه الصلاة والسلام فحكم بأن الحق لى وذهبنا إلى أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه
فقال ما كان لابن أبى قحافة أن يحكم فى مسألة فى قضية حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه للمنافق أصحيح ما يقول خصمك اليهودى يعنى هذا وقع تقول ذهبتم قبل أن تأتوا إلىَّ إلى النبى عليه الصلاة والسلام ثم إلى أبى بكر قال نعم
قال انتظرا إذا المسألة تحتاج إلى مراجعة وتثبت ويعنى تحقق من الحكم الشرعى لكن ما عندنا الآن يعنى طريقة لننفذ بها الحكم الشرعى بين يدى انتظرا ثم دخل وحمل سيفه وخرج فسله وضرب رقبة المنافق فقتله وقال هذا حكمى فيما لم يرض بحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام تحتكمان لى هذا هو حكم فاليهودى شرد إلى نبينا عليه الصلاة والسلام فتبعه سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه وعرض اليهودى الأمر على نبينا عليه الصلاة والسلام أن سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه قتل صاحبه يعنى المنافق فأنزل الله جل وعلا هذه الآيات مقررا صواب وسداد فعل سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)(50/5)
وورد أيضا فى بعض الروايات أن المنافق كان يريد من اليهودى الاحتكام إلى كعب الأشرف لأنه يقبل الرشوة وهو من زعماء اليهود ولا يريد الاحتكام إلى نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام
فهنا إخوتى الكرام جحد هذا الحكم الشرعى ولم يرَ أنه حق وصواب وعليه فقد كفر بالكريم الوهاب فحكم فيه سيدنا عمر بما حكم
الأثر كما قلت رواه الإمام الثعلبى والكلبى وإسناده ضعيف كما قال الحافظ لكن تقوى بأثر مجاهد وقلت لأثر الشعبى وبغير ذلك من الآثار ولا ينزل إن شاء الله عند درجة الحسن والاعتبار
من جملة إخوتى الكرام الآثار المقوية له وهى شواهد له ما رواه الإمام ابن أبى حاتم فى تفسيره والإمام ابن مردويه فى تفسيره أيضا كما فى الدر فى الجزء الثانى صفحة ثمانين بعد المائة من طريق عبد الله بن لهيعة رحمة الله ورضوانه عليه تقدم معنا حاله مرارا من رجال مسلم والسنن الأربعة وتوفى سنة أربع وسبعين بعد المائة وهو إمام صالح ثقة عبد فاضل لكن طرأ عليه الاختلاط فى كِبره رحمه الله وغفر لنا وله(50/6)
عبد الله بن لهيعة يروى هذا الحديث عن أبى الأسود وهو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ويراد من أبى الأسود هنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد وهو يتيم سيدنا عروة بن الزبير رضى الله عنهم أجمعين ثقة فاضل حديثه فى الكتب الستة توفى سنة بضع وثلاثين بعد المائة يروى هذا الأثر أيضا عن أبى الأسود كما قلت محمد بن عبد الرحمن بن نوفل هناك عن سيدنا عبد الله بن عباس متصل وإسناده وضعيف وهنا مرسل لكن كما قلت الآثار يقوى بعضها بعضا هذا الأثر إخوتى الكرام الذى هو أثر أبى الأسود قال عنه الحافظ ابن كثير فى تفسيره فى الجزء الأول صفحة واحدة وعشرين وخمسمائة هذا حديث مرسل غريب لأن أبا الأسود تابعى فخبره مرسل بمعنى حديث سيدنا عبد الله بن عباس تماما وأن سيدنا عمر رضى الله عنه قتل فى نهاية الأمر هذا المنافق الذى رفض نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه هذا حديث مرسل غريب
وروى مثل أثر سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين أيضا الإمام جحين فى تفسيره عن تابعى آخر وهو ضمرة بن حبيب الزُبيدى بضم الزاى الحمصى وهو ثقة إمام مبارك توفى سنة ثلاثين بعد المائة وحديثه فى السنن الأربعة إذن هذا أثر ثالث مرسل الأول متصل والثانى مرسل وهذا مرسل وهناك أثر رابع مرسل رواه الحكيم الترمذى عن مكحول الدمشقى بمعنى حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنه بمثله, هذه أربعة آثار
وهناك أيضا ثلاثة آثار بنحو حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين(50/7)
أولها وهو أصحها حديث الإمام الشعبى رواه الطبرى فى تفسيره وابن مردويه فى تفسيره وهكذا الإمام ابن المنذر بسند صحيح وثانيها أثر سيدنا مجاهد وإسناده صحيح كما قال الحافظ فى الفتح وأثر مجاهد فى تفسير الطبرى وعبد ابن حميد وابن أبى حاتم وتفسير الإمام ابن المنذر والأثر الثالث عن الربيع بن أنس وراه الطبرى فى تفسيره إذن رُوى الحديث من طريق متصل ومن ست طرق مرسلة أوليس كذلك فهذه الطرق يقوى بعضها بعضا فلا ينزل الحديث كما قلت عن درجة الاعتبار والاحتجاج وأن هذا من سبب نزول هذه الآيات الكريمات التى تلوتها وآخرها
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}
إذن هذه الحالة الولى من الحالات الست التى يكفر فيها من خالف شرع الله عز وجل أولها ألا يرى صاحب التباب لا يرى حكم الكريم الوهاب أنه حق وصواب لا يرى هذا
قال الإمام ابن القيم فى مدارج السالكين فى الجزء الأول صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة بعد أن ذكر الأثر المتقدم فى قتل سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه للمنافق الخبيث,
قال الإمام ابن القيم رحمة الله ورضوانه عليه
(ولقد حكم سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه على من قدَّم حكمه على نص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وقال هذا حكمى فيه ثم قال فيالله كيف لو رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ما رأينا وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأى فلان وفلان على رأى المعصوم نبينا عليه الصلاة والسلام)
ماذا كان يفعل سيدنا عمر لو شاهد ما شاهدنا ورأى ما بُلينا به وهذا فى القرن الثامن وماذا يقول الإمام ابن القيم وقبله سيدنا عمر لو شاهد عصر الظلمات الذى نعيش فيه فى هذه الأوقات ثم قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله أيضا:
ولم يكن فى الصحابة أحد إذا سمع نص النبى عليه الصلاة والسلام عارضه بقياسه أو ذوقه أو وَجده أوعقله أوسياسته(50/8)
فلقد أكرم الله جل وعلا أعينهم وصانها أن تنظر إلى وجه من هذا حاله أو يكون فى فى زمانهم من هذا حالهم يعنى يقدم رأيه سياسته وجده ذوقه قياسه على نص النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ما كان فيهم أحد بهذه الصفة وصان الله زمانهم أن يوجد أحد فى هذه الحالة السيئة هذه الحالة الأولى إخوتى الكرام من الحالات الست
الحالة الثانية
أن يرى المخالف لشرع الله عزوجل أن يرى أن شرع الله عز وجل حَسَن ورشاد لكنه يفضل عليه شرع العباد ويتعامى عما فى شرعهم وقوانينهم وأنظمتهم من بلاء وفساد
شرع الله جل وعلا يقول حسن وفيه رشد وخير ومصلحة لكن شرع العباد أنفع متطور يتناسب مع حياتنا الحاضرة ويتعامى عما فى شرعهم من بلايا منكرة, هناك فى الحالة الأولى جحد ما فيه من حق وصواب قال إن حكم الله فاسد إن حكم الله باطل إنه سفه وعبث وأما هنا قال حق وصواب ,فيه خير لكن هناك أنظمة أخرى تناسب الحياة الجديدة فهذا النظام أنفع من شرع الحرام فلا شك فى كفره أيضا فى هذه الحالة مع أنه يرى كما قلت أن شرع الله فيه خير
وأشار الله جل وعلا إلى هذا الأمر أيضا فى كتابه فى سورة الأنعام فقال ربنا الرحمن
{فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين *وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين *وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون *ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} [الأنعام/118-121]
انتبهوا إخوتى الكرام لسبب نزول هذه الآيات الكريمات(50/9)
ثبت فى السن الأربعة إلا سنن الإمام ابن ماجة والحديث رواه الإمام الطبرى وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه فى تفاسيرهم ورواه الإمام البزار فى مسنده وابن أبى شيبة فى مصنفه وعبد بن حميد فى مسنده وهكذا الإمام أبو الشيخ والطبرانى فى معجمه الكبير وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى مستدركه وقال هذا حديث صحيح على شرط الإمام مسلم وأقره عليه الذهبى وانظروا المستدرك الجزء الرابع صفحة ثلاث عشرة ومائة ورواه الإمام النحاس فى الناسخ والمنسوخ وانظروا الروايات الثلاثة فى السنن الثلاثة قلت فى السن الأربعة إلا سنن ابن ماجة انظروها إخوتى الكرام فى جامع الأصول فى الجزء الثانى صفحة خمس وثلاثين ومائة
ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما ورُوى الحديث مرسلا أيضا من أربعة طرق صحيحة ثابتة وهو أيضا صحيح ثابت كما قلت مرفوعا متصلا رُوى الحديث عن الضحاك فى تفسير عبد بن حميد وأبى الشيخ وروى أيضا عن عكرمة رواه أبو داود فى كتابه الناشخ والمنسوخ وروى عن قتادة فى أيضا عبد بن حميد وأبى الشيخ وتفسير الإمام ابن المنذر وروى عن الإمام الشعبى فى تفسير الإمام ابن أبى حاتم أربعة آثار مرسلة مع أثر سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين عن الضحاك وعكرمة وقتادة والشعبى
وخلاصة هذه الآثار أن المشركين وفى رواية اليهود وفى رواية قالت فارس لمشركى قريش قوموا للنبى عليه الصلاة والسلام واجمع بين هذه الألفاظ فجرى هذا من المشركين وجرى من اليهود الملعونين وأرسل الفرس عبدة النار إلى مشركى قريش إلى إخوانهم من الكفار ليسألوا نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه هذا السؤال ليحاجوه وعلى زعمهم أنهم سيغلبونه إذا ناقشوه فى ذلك
وخلاصة المناقشة والخصومة قالوا يا محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه الميتة من بهيمة الأنعام من أماتها من قتلها(50/10)
قال الله هو الذى أماتها فقالوا سبحان الله يا محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ما ذبحتموه بأيديكم تأكلونه وما ذبحه ربكم تحرمونه
إن هذا القياس عندكم الذى ذبحه الله وأماته لا تأكلونه وتقولون إنه نجس وأنتم ما ذبحتموه بأيديكم تأكلونه كيف هذا يعنى ذبيحتكم أعلى وأفضل وأطهر من ذبيحة الله عز وجل فأنزل الله جل وعلا
{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم (طيب ما الحكم فى هذه المجادلة إذا أطعناهم وركنا إليهم) وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}
انتبه هنا لا ينازع فى تحليل يعنى ذبيحة اليد يقول تلك حلال كلوها لكن ينبغى أن نأكل الميتة أيضا يعنى هذا حسن تأكلون ما ذبحتموه وتقولون أحل له الله لكن هناك بعد ذلك تشريع آخر فيه نفع وفيه خير وفيه مصلحة للإنسان فانتبهوا له وهو أكل الميتة كما تزعمون أن الله أباح لكم هذا فأيضا ينبغى أن يأكل الميتة لأن الله أماتها وقتلها إن الله حرمها علينا هذا لاننصت له هذا الآن تشريع وضعى تشريع جاهلى من أخذ به فلا شك فى كفره وضلاله (وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) قال شيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان فى الجزء السابع صفحة سبعين ومائة وذكر هذا إخوتى الكرام فى تفسير سورة محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه كما ذكره فى سورة فاطر الآية التى فيها (لو تذكرونى بها فى سورة فاطر أو وهمت) ذكرتها سابقا فى بعض المواعظ (وما اختلفتم فيه من شىء) فى سورة الشورى ذكر هذا فى سورة الشورى وفى سورة محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} [الشورى/10](50/11)
بحث فى موضوع تحكيم شرع الله فى شؤون الحياة فى هاتين السورتين كما بحث أيضا فى تفسير سورة الكهف (ولا يشرك فى حكمه أحدا) (ولا تُشرك فى حكمه أحدا) على حسب قراءة عبد الله بن عامر رضى الله عنهم أجمعين على كل حال استعرض هذه الآية كما قلت فى الجزء السابع صفحة سبعين ومائة
(وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)
أى بقولهم ما ذبحتموه بأيديكم حلال وما ذبحه الله وأماته إنه حرام فأنتم إذن أحسن من الله حكما وأحل تزكية ثم بيَّن الفتوى السماوية من رب العالمين فى الحكم بين الفريقين فقال جل وعلا:
(وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)
قال فهى فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بذى الجلال والأكرام إذن هنا كما قلت إخوتى الكرام يرى أن حكم الله حق وحسن ورشاد لكن لا مانع أن نأخذ بشىء آخر فهو أنفع وأحسن فى بعض القضايا فلا شك فى كفر من يزعم ذلك
الحالة الثالثة
لمن يخالف شرع الله عز وجل إذا زعم أن شرع العبيد مساو لشرع الله المجيد
وللإنسان أن يأخذ منهما بما يريد أقول هذا كهذا الكل يحقق مصلحة ما قال إن شرع الله فيه خير وصلاح لكن شرع العباد فى هذه القضية أنفع واضح هذا والحالة الأولى قال شرع الله ليس فيه نفع على الإطلاق,
الحالة الثانية شرع الله فيه نفع لكن شرع الله فى هذه القضية أنفع, الحالة الثالثة شرع الله هو شرع العباد مستويان لك أن تأخذ بما شئت هذا فيه نفع وهذا فيه نفع مستويان فمن زعم هذا فلا شك فى كفره وردته عن دين الإسلام
مثال لهذا أيضا وقلت سأذكر مثالا لكل قضية مثال لهذا ما ذكره شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وكنت ذكرت هذا المثال سابقا فى موضوع النكاح المدنى بدل النكاح الشرعى انظروه فى كتاب موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين على نبينا ورسله صلوات الله وسلامه فى الجزء الرابع صفحة ست وعشرين وثلاثمائة(50/12)
خلاصة ما ذكره الشيخ عليه رحمة الله فى تركيا الملحدة بعد أن قُضى على الخلافة الإسلامية وغيروا النكاح من كونه إلى كونه مدنيا جعلوه مدنيا والفارق بين النكاحين النكاح الشرعى كان يعقده المأذون الشرعى أو إمام المسجد فجعلوه يتبع البلدية هناك كان يُفعل بمراسيم شرعية الآن هنا بمراسيم وضعية فالشيخ مصطفى صبرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال: هذا العقد لا يحل الزوجة لزوجها واتصاله بها سفاح لا نكاح
وتقدم معنا أن بعض المفتين الشيخ لوزادا أفندى من أهل الخير والصلاح كما أثنى عليه الشيخ مصطفى صبرى استشكل هذه القضية وقال:
كيف إن ائمتنا ما شترطوا فى عقد النكاح إلا الولى وحضور الشاهدين وصيغة النكاح والعقد مع أن هذا يحصل فى البلدية طيب لمَ بعد ذلك لا تحل هذه المرأة لزوجها
فقال له هذا فعل على حسب القوانين الوضعية لا على حسب لا الشريعة الربانية وإن وُجدت شروط النكاح لكن ما فُعل طاعة لله عز وجل
أما هناك فيوضع بمراسيم شرعية طاعة لرب البرية فهؤلاء عندما حولوه من نكاح شرعى إلى نكاح مدنى لا تحل المرأة لزوجها
فقال الشيخ لوزادا أفندى طيب ما الفارق بينهما
قال لا يرد هذا السؤال ,السؤال ينبغى أن نقول ما السبب للتحول من الصفة الشرعية إلى الصفة المدنية ,
إن النكاح الشرعى فيه صفة النكاح المدنى هم يريدون عقدا فيه عقد يريدون شهودا فيه شهود يريدون وليا فيه ولى يعنى ما سيفعلونه فى البلدية يُفعل عندنا فعلامَ إذاً ألغيت الصفة الشريعة إلى صفة قانونية وضعية مدنية
قال لا يقال ما الفارق!! الذى ينبغى أن يقال ما السبب فى ذها التحول؟ السبب أننا نكره الصبغة الشريعة ولا نريد أن نربط العباد برب البرية
فنقول هذا يساوى هذا ولذلك قالوا ما الفارق!!!
يا عباد الله لا يصلح أن يقال ما الفارق أنتم لمَ غيرتم الصفة الشرعية لمَ؟(50/13)
قال هناك حقيقة يُفعل بمراسيم شرعية ولذلك جرت العادة بين المسلمين فى أنكحتهم الشريعة أن يذكروا الله جل وعلا وإن لم يكن هذا من شروط عقد النكاح وأن يقولوا خطبة الحاجة وأن يصلوا على النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وأن يحمدوا الله على ما منَّ عليهم بأن أباح لهم ما يسعدهم فى حياتهم وينالون عليه أجرا عند ربهم سبحانه وتعالى هذا كله كما قلت صفة شرعية
قال هذه الصفة الشرعية لابد منها عند عقد النكاح لأنه يصعب على ذوى الأنفة والغيرة أن يسلم واحد منهم ابنته أو أخته لتكون زواجا لرجل هذا يصعب فى منتهى الصعوبة إنما يفعل الإنسان هذا طاعة للرحمن فلا نتصرف فى أعراضنا ولا فى أموالنا ولا فى دمائنا ولا فى أمور حياتنا إلا على حسب شرع ربنا فبما أن الله شرع هذا يسهل علىَّ ابنتى أو أختى إلى من أراه صالحا وأنها تسعد عنده أما إذا لم يكن هذا كما قلت عند عقد النكاح,
طيب ما بقى إلا كأنه يعنى سلعة وثمن يقابلها ومعاوضة لا ثم ثم لا ولذلك كما قال أئمتنا عقود النكاح مبنية على المسامحة والمساهلة بخلاف العقود الدنيوية عقود البيوع فمبنية على المماسكة والمشاحة هناك مفاصلة
وأما هنا يا عبد الله لا ترهق نفسك وإذا أراد أن يدفع مثلا خمسة آلاف يقول لا داعى خفف عن نفسك وخيرهن أيسرهن مهورا حقيقة هذا الذى يجرى فى أنكحة المسلمين صفة شرعية المقصود ستر هذين الصنفين من الذكور والإناث وإنجاب ذرية توحد الله وتعبده
فقال الشيخ مصطفى صبرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لا يقال ما الفارق بين العقدين إنما يقال ما السبب أما تقول ما المانع من النكاح المدنى لأنه لا فارق بينه وبين النكاح الشرعى
قال ما يقال هذا إنما الذى ينبغى أن يقال ما السبب فى التحول لمَ تحولتم هناك نكاح بصفة شرعية لمَ ألغيتموه وجعلتموه فى البلدية ضمن المراسيم الوضعية القانونية الجاهلية لمَ؟(50/14)
لا تحل المرأة لزوجها بهذا وعليه كما قلت هذا يساوى هذا من ناحية الصورة لكن هناك كما قلت فيه مراسيم شرعية فيه أمور معنوية ذهبت عندما فعلناه على الصفة الوضعية الردية وعليه لا تحل الزوجة لزوجها بهذا النكاح
ثم قال الشيخ مصطفى صبرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:
إن كثرة الفروق بين شرع الخالق والمخلوق مانع للمؤمن من الاستبدال إذا كثرت الفروق لا يمكن أن يترك دينه لكثرة الفوارق بين دينه وبين القانون الوضعى
كثرة الفروق مانع له من الاستبدال
وقلة الفروق انتبه أمنع مانع لأنه إذا قلت الفروق إذاً لا يوجد مقتضى للتحول إذا كثرت الفروق يقول أنا إذا اتبعت الشرع الوضعى سأبتعد عن دينى ابتعادا كثيرا إذا قلت الفروق يقول إذاً ما الداعى للتحول والفروق قليلة فلنبق على شرعنا قال
وأما إذا انعدمت الفروق والصورة واحدة فالأخذ بالشرع الوضعى كفر بَواح وردة
ليس لها اعتبار من الاعتبارات لمَ إذن إذا كان لا يوجد فارق ولا فلا الصورة لم تركت الصبغة الشرعية وفعلت الصبغة الوضعية إذن ما فعلت هذا إلا لتقلد من غضب الله عليه وهذا هو الكفر البواح وإلا أنك تكره الصورة الشرعية التى شرعها رب البرية ما دامت هذه الصورة كهذه الصورة لم تأخذ بهذه وتلغى تلك, كثرة الفروق تمنع من أن نستبدل وأن نترك شرع الخالق إلى شرع المخلوق, قلة الفروق أمنع مانع انعدام الفروق هذا حقيقة لا يفعل هذا إلا كما قلت من ليس فى قلبه ذرة إيمان وهو كافر بالرحمن لأنه لا يوجد إذاً أى مبرر يعنى من المبرارات حتى الدنيوية فى ترك شريعة رب البرية والالتزام بالصورة الجاهلية ما دامت هذه كهذه لم تركت هذه وأخذت بهذه,(50/15)
إذاً الصورة الشرعية تكرهها دل على أنه إذا ليس فى قلبك تعظيم لرب العالمين (ومن تشبه بقوم فهو منهم) كما تقدم معنا مرارا إذاً أنت لا تريد أن تترك هذا الصفة الشرعية إلا تشبها بالمظاهر الجاهلية كرهت حتى الصورة الشريعة كرهتها مع أنك تسلم أن الجوهر فى هذه القضية كالجوهر فى هذه القضية وأن هذه كهذه ولا تختلفان شيئا فى الحقائق لكن هنا صفة شرعية وهنا صفة جاهلية فآثرت هذه على هذه لما فى قبلك من كفر بالله وعدم وجود ذرة إيمان
حقيقة هذا هو الفقه وهذا هو الوعى عند أئمتنا الكرام ثم ذكر الشيخ عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أن الشيخ لوزادا أفندى وافقه وقال جزاك الله خيرا هذا المعنى حقيقة ما ذهب ذهنى إليه وإلا إذا انعدمت الفروق إذاً لمَ نترك الصفة الشرعية إلى الصفة الجاهلية الوضعية ولا يغنى عنا أن نقول إن شروط النكاح وُجد فى هذا العقد لا الذى ينبغى أن نقوله لمَ تركنا الصفة الشرعية إلى هذه الصفة الردية!!!
إخوتى الكرام كنت ذكرت لكم سابقا فى بعض المواعظ أن هذه الحياة حقيقة التى نعيش فيها وأن الناس يكفرون من حيث لا يشعرون وقد يفعل الإنسان الفعل لا يكفر لو لم يلاحظ المعنى الذى من أجله فعل ذلك الفعل قد يفعله وهو يعنى إما أن يكون مباح وإما خلاف الأولى فيفعله بنية خبيثة فيخرج من دين الله وهو لا يدرى
كنت ذكرت لكم يجرى فى بعض الجامعات فى هذه الأوقات حفلات لكن تراث الحفلة على النظام الفرنسى تعظيما لهذه العادة الجاهلية الخبيثة ما هى؟(50/16)
كل من يشرب الشاى يبقى واقفا ولا واحدا منهم يجلس يصب الشاى وهم وقوف وبيده كأسة الشاى زجاجة الشاى واليد الأخرى شىء من الحلوى أو الكيك أو ما أعلم من هنا وهناك ويأكل بهذه ويشرب بهذه ولا واحدا منهم يجلس مدة عشر دقائق على النظام الفرنسى ولو فعلوا هذا بدون تقليد الكفار فعلوه يعنى إما أنه أيسر لهم إما أنه مباح ما خطر ببالهم ذلك التقليد يعنى حقيقة خلاف الأولى ولو أكل وهو جالس لكان أهنأ له وأمرأ وأتبع للسنة وأفضل لكن ما يقال لا عصى الله فى أكله إذا أكل وهو قائم ومن باب أولى ما كفر لكن عندما قصد التشبه بمن غضب الله عليه لا شك فى أنه معه
وقول النبى عليه الصلاة والسلام (من تشبه بقوم فهو منهم)
قلت ينبغى أن نفهم ونعى معنى الحديث ليس من شابه من تشبه إذاً قصد التشبه بقلبه وأراده فينبغى أن يعامل على حسب ما فى قلبه,
(ولا يظلم ربك أحدا) هو قصد تشبه تكلف هذا استحسانا بما عليه من غضب عليهم ربنا فإذا كان كذلك لا يحكم عليه إلا بما فى قلبه وأما لو فعل هذا دون قصد التشبه إما أنه يعنى أنفع له فى هذه الحالات أو فعله دون أن يلاحظ فعل أعداء رب الأرض والسماوات فهنا كما قلت يُعطى ذلك الحكم ما يستحقه فى شريعة الله من إباحة من كراهة من تحريم دون أن يصل إلى مكفر إلى كفر مهما كان حال تلك المعصية لكن إذا فعلها تشبها فلا يعامل إلا على حسب ما قصد من تشبه تكلف ذلك وقصده وأراده فهو منهم
وتقدم معنا إخوتى الكرام أن الحديث صحيح رواه الإمام أحمد فى المسند وأبو داود فى السنن والطحاوى فى مشكل الآثار والإمام ابن عساكر فى تاريخه من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنه وعن الصحابة أجمعين وقلت رُوى الحديث عن عدة من الصحابة آخرين رُوى عن سيدنا عبد الله بن عمرو وعن سيدنا حذيفة وعن سيدنا أبى هريرة وهؤلاء أربعة من الصحابة كما رُوى الحديث مرسلا عن تابعيين عن الحسن وطاووس(50/17)
وأكمل الروايات وأتمها رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنهما عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال
(بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذل والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم فهو منهم)
هذه الحالة الثالثة من الحالات التى يكفر فيها من خرج عن شريعة رب الأرض والسماوات
الحالة الأولى لا يرى حقا وصوابا ورشدا وصلاحا فى حكم الله عز وجل
الحالة الثانية يرى أن فيه خير وصلاح لكن يرى أن شرع العباد أفضل وأصلح وأنفع لهذا الوقت
الحالة الثالثة يقول إن شرع الله المجيد وشرع العبيد مستويان خذ بأيهما شئت, الأمر فيه سعة, هنا الصفات الشرعية موجودة الشروط الشرعية فى عقد النكاح وهنا موجودة فإن شئت أن تعقد عقدا مدنيا أو تعقد عقدا شرعيا صفات موجودة شروط موجودة لا
ولذلك إخوتى الكرام الذى يدل على فقه الشيخ مصطفى صبرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا أول نكاح إن عقد فى البلدية قيل فيه أول نكاح لا دخل للسماء بما يجرى فى الأرض إذاً48:49هم فى أول الأمر يقولون يعنى أنتم تقولون لا ينبغى أن نعقد النكاح ما الفارق بين النكاح فى البلدية وعند المأذون الشرعى ما الفارق؟ الفارق أنتم صرحتم به فى أول عقد جرى لا دخل للسماء لما يجرى فى الأرض
فهذا لا بد من وعيه, كثرة الفروق تمنعنا أن نترك شرع الخالق إلى شرع المخلوق وقلة الفروق تمنعنا أكثر وأكثر من الاستبدال فهذا عين الضلال لأنه ما دامت الفروق يسيرة إذاً لم نترك شرع الله إلى شرع العباد وانعدام الفروق قلت هذا يدل على الكفر التام وأن القلب أخبث من الشيطان ما دامت الفروق منتفية على التمام إذاًلم تركت شرع الرحمن؟ كرهت حتى الصورة الشرعية كرهتا من أجل أن تفعل الصورة الشيطانية
الحالة الرابعة(50/18)
أن يجزم العاصى المخالف لشرع الله عز وجل بتفضيل الشريعة الإسلامية على الشرائع على القوانين الوضعية لكن يقول لا مانع من الأخذ بالقوانين الوضعية لمصلحة لمصالح دنيوية
انتبهوا إخوتى الكرام شرع الله الآن هنا يقول أعلى وأكمل من شرع العباد والحالة التى قبلها يقول مساو أوليس كذلك؟
أما هذا يقول شرع الله أعلى يقول ولا يستوى شرع الخالق مع شرع المخلوق لا يستويان شرع الله أعلى وأتم وأكمل وأفضل لكن شرع المخلوق يجوز الأخذ به من أجل مصالح دنيوية يعنى تفيدنا فى حياتنا وإن كان هذه أقل مصلحة من شرع الله لكن يعنى يجوز الأخذ به وشرع الله حكم الله أعلى وأتم وأكمل وأمثلة هذا فى الواقع المظلم الآثم الذى نعيش فيه ما أكثرها
سفور المرأة إخوتى الكرام اختلاطها بالرجال فى العمل والمدارس والجامعات وغير ذلك عمل قييح لا شك الذى يمتهن حكم الله فى هذه القضية ويقول يعنى الإسلام عندما منع النساء من الاختلاط بالرجال ومنع الرجال من الاختلاط بالنساء وألزم المرأة أن تقر فى بيتها وما ينبغى أن تكون مع الرجل فى عمل وفى مدرسة وإذا خرجت تكون متحجبة من يمتهن هذا هذا لا شك فى كفره, الأمر واضح على حسب ما تقدم معنا من الحالات الثلاث لكن هنا يقول هذا الحكم هو السديد وهو الذى ينفع العبيد لكن نحن فى أحوال متطورة صار عمل المرأة ضرورة وإذا كانت ستعمل العمل ضرورة إذاً تعمل بحجابها وجلبابها كيف ستعمل؟(50/19)
لا بد من أن تتخف من ملابسها وعليه لا مانع أن تسفر من أجل مصلحة دنيوية مع قولنا أن حكم الله فى هذه القضية أعلى من حكمنا وأفضل لكن يجوز الأخذ بهذا يعنى من أجل تحصيل مصلحة لا مانع أن تسفر لا مانع أن تخالط الرجال من أجل أن تحصل مصلحة لأن الأحوال تغيرت والمرأة الآن إذا ما عملت من أين ستأكل من هذه العبارات الخبيثة التى تجرى وحقيقة المرأة مضطرة إلى العمل رغم أنف لكن النظام الشيوعى الكافر الجاحد هذا بقوة الحكومة لا بد من أن تعمل وفى النظام الغربى وإن لم يلزمها النظام بالعمل لكن واقع الحياة لجميع الأشكال والاعتبارات يقسرها على العمل ما أبواها فضلا عن غيرهما يعنى إذا استغنت عن الخدمة وعن التربية هما يطردناها من البيت لتحصل الرزق ولتحصل ما تأكله الأبوان فضلا عن غيرهما فإذا النظام الغربى يلجؤها إلى العمل رغم أنفها وإن لم يوجد هذا فى النظام وبدأت الآن الأحوال العربية وإن شئت سمها غربية فى بلاد عربية حقيقة كذلك
بعض الناس ممن حقيقة فيه خير وصلاح ولعله يزيد على الستين ولا يترك يعنى صلاة جماعة فى المسجد ومن الطراز القديم من أهالى هذه البلاد ابنته أخذت الثانوية يحار فيها المسكين يعنى54:4مستعد يرسلها لأمريكا يحار ماذا ستعمل كأنها ستفتح الدنيا بثانويتها بعد ذلك جاء قال سأوظفها أين ستوظفها قال كويتل وأول ما يعنى جئت حقيقة كويتل ما معنى كويتل يعنى أوتيل أو كذا ما معنى كويتل عندكم قال كويتل هذه شركة تليفونات أو كذا يعملون فيها قلت رجال معهم قال رجال نعم مختلطة قلت أعوذ بالله ستعمل مع رجال وأنت فى هذا الوقار والكمال وتسأل عن ابنتك أخذت ثانوية ستعمل مع رجال قال يا شيخ لأنها إن أرادت تدرس جامعة لتتخرج تكون مدرسة يعنى فى مرحلة طويلة هذه مباشرة تأخذ راتب وبعد ذلك حقيقة زميل العمل وتزول الحواجز كما يقال من أولها لآخرها(50/20)
هذا الآن صار فى البلاد العربية المرأة بجنب الرجل مسافرة فى جميع جهات العمل فى المدرسة فى فى ويقولون ضرورة وهذه الضرورة لن تغير من الواقع شيئا فالفضيلة فضيلة والرذيلة رذيلة وهذه الضرورة مهما كانت يعنى الناس فى حاجة إليها فهى مضرة ضارة على الصنفين وعلى البلاد والعباد شاء الناس أم أبوا
فالذى يأتى ويقول كما قلت سفور المرأة اختلاطها بالرجال مصلحة العمل تقتضى هذا لا بد أن تختلط يا إخوتى الكرام هو إن رأى جواز هذا فقد كفر
وإن لا زال يقول بأن حكم الله أفضل وإذا اختلطت قال أنا عاصى كما هو الحال فى معاصينا الكثيرة فبقى أنه عاص لله عز وجل ولم يكفر لكن متى ما رأى إباحة هذا وجوازه وأنه لا مانع أن تكون المرأة بجنب الرجل فى العمل بجنبه فى المدرسة لا مانع أن تتخفف من ملابسها لا مانع من هذه الحياة الجاهلية التى نعيش فيها مت ما خطر هذا فى باله فقد خرج عن دين ربه هذا لا بد من وعيه
وأما إذا قال هذا حرام ونفعله على أننا عصاة لذى الجلال والإكرام فيرجى له الخير والتوبة ولو بعد حين أما إذا استباح واستمرأ واستحل ورأى جواز هذا دون أن يرى فى حكم الإسلام منقصة وأو دون أن يقول إن هذا يساوى حكم الله يقول حكم الله هو الأفضل يعنى لو جلست المرأة فى البيت وتحجبت وابتعدت عن الرجل هذا أكمل نعم هو الذى قرره بنا عز وجل لكن الآن ضرورة يعنى يجوز هذا أيضا من أجل مصلحة نحصلها كفر بالله عز وجل
وخِلطة الرجال بالنساء فى شرعنا من أقبح الخصال
وسمة الفساق والجهال فى كل وقت وبكل حال
ومن أجل موجبات57:22
إخوتى الكرام قلت مرارا إن أعظم ما يميز الحياة الإسلامية عن الحياة الغربية موضوع المرأة, أمر المرأة أعظم فارق بين الحياة الإسلامية الحياة الشرعية, حياة العفة والطهر, والحياة الغربية, حياة الفجور والعهر أعظم فارق فى الحياة موضوع المرأة(50/21)
فإذا رأيت أمة من الأمم نساؤهم متسترات مصونات فاعلم أنهم على شرع رب الأرض والسماوات وإذا رأيت النساء فى الشوارع متبذلات وفى الأسواق متهتكات فاعلم أن تلك الأمة وتلك البلدة تحارب شريعة رب الأرض والسماوات هذا لا بد من وعيه أعظم ما يميز الحياة الإسلامية عن الحياة الجاهلية موضوع المرأة,
عندنا المرأة عرض يصان ويبذل الحر دمه لا ماله من أجل صيانتها وحفظها والمحافظة على كرامتها وعند أولئك المرأة سلعة تبتذل وتعرض هنا وهناك لا بد إخوتى الكرام من وعى هذا
وأما ما يثيره بعد ذلك دعاة الاختلاط فى هذه الأيام ويقولون أنتم تمنعون الاختلاط من أجل ألا ينتشر الفساد, لا, الاختلاط يهذب الجنسين ويضبطهما ولا بعد ذلك واحدا يعتدى على الآخر يصبح تهذيب فى الأمة
وهذا باطل إخوتى الكرام قطعا وجزما, إن خروج المرأة واختلاطها بالرجال يثير الشهوات ولا بد الشهوات تزداد إثارة وسيؤدى هذا بعد ذلك إلى أمراض وفساد واعتداء بين الناس هذا لا بد منه وعندما يتعلق بهذه المرأة رجلان عداوة وبغضاء بينهما عداوة وبغضاء بين من تعلق بها وبين أهلها عداوة وبغضاء بين من تعلق بها وبين زوجها عداوة وفساد عدا بعد ذلك عن نشر الأمراض والبلايا فى الأمة هذا الذى يحصل عند خروج النساء الشهوات ستثور وسيقع الناس بعد ذلك فى المحظور
وأما قولهم إن هذا يؤدى إلى إضعاف الغريزة الجنسية فيتهذب الجنسان وما يبقى إلا محادثة ومؤانسة وعلى تعبيرهم ينفس الكبت الذى فى قلوبهم بالختلاط الذى بينهم والابتسامات وما شاكل هذا دون أن يحصل اعتداء جسدى من واحد على الآخر هذا لو سُلِّم مع أنه كذب لا حقيقة له(50/22)
لو سلم إخوتى الكرام لو سلم نقول هذا تمتع من الذى أحله يعنى كون المرأة تكلمها وتكلمك وتلمسها وتلمسك وتحادثها وتحادثك وتضحك معك وتضحك معها من الذى أحل هذا هذا نوع من التمتع هذا من الذى أحله وكما قلت يعنى أيضا سيوصل إلى تمتع جسدى ولا بد لكن هذا من الذى أحله هذه ناحية ,ناحية ثانية أنتم عندما تسعون فى إضعاف الغريزة الجنسية وأن الرجل ولا يثور والمرأة تحادث الرجل ولا تميل إليه, طيب أنتم أحسنتم إلى الصنفين أم أسأتم لمَ تأتون بما يقاوم الطبيعة وبما يغيرها لمَ هذا إحسان أم إساءة؟
تلذذ الرجل بالمرأة نعمة وتلذذ المرأة بالرجل نعمة أنتم جئتم قضيتم على هذه النعمة الرجل يرى المرأة ولا يتلذذ والمرأة ترى الرجل وتحادثه ولا تتلذذ يعنى هذا لو سُلم لكم أنتم أفسدتم الجنسين ولذلك حقيقة عندما حصل التمتع الجائز اعتراه بعد ذلك شىء كما يقال من الضعف الجنسى عند الصنفين
فالرجل من كثرة التمتع لا يقال إن الغريزة هُذبت من كثرة التمتع بدأ لا يثيره وجه المرأة بل لا يثره فخذها بل لا يثيره أحيانا عندما تتعرى وتتجرد عن ملابسها كما هو لحال فى البلاد الغربية فيحتاج إلى بعد ذلك هيئات مفتعلة ليثار أو إلى شذوذ بعد ذلك يسلكه مع الرجال نساء مع نساء ورجال مع رجال وصور بعد ذلك فى منتهى الأشكال من أجل من أن تحرك الغريزة التى ضعفت لكثرة كما قلت الإشباع المتواصل أما أنه لم يحصل اعتداء جسدى هذا مستحيل
ورضى الله عن الشيخ مصطفى صبرى عندما يقول فى كتابه موقف العقل وفى كتابه القول فى المرأة صفحة تسع وأربعين يقول ما حال دعاة الاختلاط إلا كحال القصة التى تحكى وتروى
وخلاصتها أن رجلا وامرأة كانا فى سفر
فقال الرجل للمرأة إذا وضلنا فى مكان كذا يوجد هناك أكمة جبل سآخذكِ وراء الجبل وأحاول ان أعتدى عليك وأن أفعل بك وأنتِ تمتنعين فيجرى بينى وبينك خصومة لا يعلم نهايتها ومداها وآثارها إلا الله
قالت هوِّن على نفسك لن يحصل شىء من ذلك(50/23)
قال ولمَ؟
قال لأنى لم أمتنع ولن أمانع وانتهى الأمر
هذا دعاة الاختلاط يعنى هو يقول إذا خلطناهم لن يحصل اعتداء لا يا عباد الله يقول إذا حجبنا المرأة سيعتدى عليها السفهاء وعليه لرفع الاعتداء تختلط النساء بالرجال ولا يتجبن ولا تمنع1:3:54يا عبد الله هذا حالها يصبح كما فى الحكاية قالت أنا لن أمتنع هنا المشاكل تجرى والاتصالات الجسدية ما أكثرها لكن صارت طبيعية
وأما فى حالة وجوب الحجاب فقد يعتدى بعض السفهاء على واحدة, قصة واحدة تقع فى بلدة كما يقال البلدة كلها تتحدث عنها وأما هنا قصص لا نهاية لها ليس فى الأيام على مر الساعات والدقائق لأنها كما قلت تقول أنا لن أمتنع ولن أمانع أما أنت تتصور تعارض وأعارض ومشكلة ونتدافع وبعد ذلك ما يعلم الآثار إلا الله يا عبد لن يحصل منى أى معارضة وهذا حال دعاة الاختلاط ودعاة قلة الحياء ودعاة الفساد فى هذه الأيام
فمن إخوتى الكرام رأى جواز ذلك وإباحته فلا شك فى كفره وردته وخروجه عن دين الله عز وجل
وأما مسألة العمل حقيقة إخوتى الكرام كما قلت المرأة عندنا ريحانة تشم, عرض يصان فصارت فى هذه الأيام المرأة عند الناس مشكلة يطلب لها ألف حل وكانت كما قلت عرضا يصان فصارت حَملا يثقل الإنسان وسلعة رخيصة تهان يزج بها الإنسان فى كل مجال ولعلكم تسمعون دعاة السوء فى هذه الأيام يقولون نصف المجتمع عاطل أنتم تقولون نحن فى زمن المنهجية وزمن التخصص وواقع الأمر زمن الهمجية الذى نعيش فيه زمن المنهجية والتخصص (ربنا الذى اعطى كل شىء خلقه ثم هدى)
المرأة مختصة بعمل يناسبها فى داخل بيتها والرجل مختص بعمل يناسبه خارج البيت هى عندما تقوم على البيت وتربية الجيل أوليس الآن قامت بعمل ثم عندما خرجت للعمل وبعث مكانها من يعمل فى البيت وبعث من يصلها وبعث وبعث أوليس كذلك فإذاً عطلت رجلا وامرأة أو أكثر من أجل عملها(50/24)
فهذا إخوتى الكرام أيضا لا بد من النظر فيه, نعم لا بد أيضا من ملاحظة أن عمل المرأة قد يكون له ضرورة فى البلاد الإسلامية بمقدار الحاجة امرأة قابلة لعمل التمريض للنساء فى فى, هذا أيضا بمقدار الحاجة وامرأة فى بنك لا يجوز للرجل أن يعمل فى بنك فكيف بامرأة واختلاط وقلة حياء, امرأة فى بريد, امرأة فى شرطة فى جميع جهات الحياة كما قال الطاغوت الذى ذكرت أمره فى الموعظة الماضية فى يوم الجمعة يقول لا زلنا يعنى المرأة نعطيها نصف ما نعطى الرجل فى الإرث لمَ المرأة تساوى الرجل فى العمل فى المدرسة وفى الشرطة وفى جميع مناحى الحياة حتى فى الشرطة يوجد شرطيات يا إخوتى الكرام1:7:10بالرجال مع أن الذين يبحثون عن الوظائف من الرجال فى جميع الديار بلا ستثناء لا يعطون فأنتم تقولون نصف الأمة عاطل, شغلوا الرجال لكن لا يقصد من هذا طاعة الله عز وجل ولا يقصد المحافظة على مصلحة البلاد إنما نشر الفساد هذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه نصف الجيل عاطل هذا يقوله الآن بعض الدعاة نصف الجيل عاطل امرأة جالسة فى البيت
وحقيقة المرأة إذا عملت تفقد ما تفقده من أنوثتها فتصبح بين الرجل والمرأة وهو مع ما يعبر عنه الآن يعنى أهل الوعى فى البلاد الغربية بأنه جنس ثالث لا على طبيعة المرأة ولا على طبيعة الرجل جنس ثالث حقيقة فقدت أنوثة المرأة وما أيضا صارت رجلا صار بين بين,
فهذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه لا بد من ضبطه فمن استباح شيئا من ذلك دون أن يفضله على شرع الله ودون أن يقول إنه مساو لحكم الله إنما يقول هذا يعنى فيه مصلحة والضرورة تقتضى هذا ويعنى الأحوال تغيرت فإذا استباح ذلك وأسجازه فقلت كفر بالله عز وجل وكما قلت لا يفضل ولا يقول إن ذلك مساو لشرع الله عز وجل ,بعض أمور نأخذها من الأوضاع الجاهلية يعنى مصلحة دنيوية
أشار الله جل وعلا أيضا إلى هذا فى كتابه فى سورة نبيه محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقال جل وعلا:(50/25)
{إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم *ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر (انتبهوا إخوتى الكرام دون أن يقول إن هذا يساوى شرع الله ولا يفضله ودون ان نقول إن شرع الله لا خير فيه غنما نحن يعنى بعض امور من شريعة الشيطان سنأخذها فى حياتنا) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم *فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم*ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} [محمد/25-28]
يعنى فى أمر الاختلاط سنطيعكم فقط نخلط بين النساء والرجال فى المداس فى المستشفيات فى دور العمل فى فى نخلط فقط بين الرجال والنساء هذا فى هذا الأمر نطيعكم فى بعض الأمر أما أنظمتكم يعنى بكاملها لن نأخذ بها فى بعض الأمر حكم الله عليهم بالردة والكفر فى هذا الأمر (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) أمد لهم فى الأمانى والإضلال (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم *فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم*ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)
قال شيخنا عليه رحمة الله فى أضواء البيان فى تفسير هذه الآية فى الجزء السابع صفحة تسعين وخمسمائة:(50/26)
(اعلم أنه يجب على كل مسلم فى هذا الزمان تأمل هذه الآيات وتدبرها والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد) ينبغى أن يتأمل هذه الآيات وأن يتدبرها وأن يحذر حذرا تاما مما تضمنته من وعيد شديد قال لأن كثيرا ممن ينتسبون إلى الإسلام من المسلمين داخلون فيها بلا شك أى فيما تضمنته هذه الآية من الوعيد الشديد ثم وضح هذا كيف ذلك قال لا شك أن الكفار من شرقيين وغربيين هؤلاء يعنى أعداء رب العالمين وهم كفار بلا شك ومن أراد أن يطيعهم فى بعض الأمر وأن يأخذ ببعض ما هم عليه فى بعض الأمر فى شىء من الأشياء فى قضية من القضايا فقد تحقق فيه مدلول هذه الآية
(إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم* ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله (من اهل الكفر على اختلاف ألوانهم) سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم *فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم*ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم)(50/27)
هذا أيضا إخوتى الكرام ينبغى أن نعيه وأن ننتبه له إطاعة الكفار إطاعة القوانين الوضعية إطاعة الأنظمة الشيطانية ولو فى قضية من القضايا دون أن يرى أنها تساوى شرع الله عز وجل ودون أن يعنى يرى أنها أفضل من شرع الله دون أن يحقر شرع الله إنما هو ملتزم بشرع الله عز وجل يعنى فى أكثر أموره لكن فى قضية فى قضيتين يقول أنا أخرج من أجل تغير الحياة وهذا الخروج انتبهوا إخوتى الكرام استباحه واستجازه واستحله فلا شك فى كفره وأما إذا خرج ولا زال أنه يرى أنه عاص فرحمة الله واسعة لا بد من التفريق بين الأمرين ولذلك سفور المرأة المسلمة إما أن يكون معصية وإما أن يكون كفرا فإذا خرجت سافرة وترى أنها عاصية فى زالت ضمن دائرة الإسلام لكنها عاصية وأما إذا استحلت سفورها فقد كفرت بالله عز وجل هذا لا بد من وعيه اختلاطها بالعمل ترى أنه حرام اختلاط الرجل بها يرى أنه حرام يرجى لهما الخير ولو بعد حين استحل أحد منهما ذلك فلا شك فى كفره وردته هذا لا بد من وعيه فمن استحل شيئا من ذلك دون أن يرى أنه يساوى لشرع الله دون أن يرى أنه أفضل من شرع الله دون أن يرى أن حكم الله لا يصلح واضح هذا هذه الحالة الرابعة يقول شرع الله هو الحق لكن هذه لا مانع أن نأخذ بها لتغير الحياة التى نعيش فيها فلا شك فى كفره وردته فى بعض الأمر فلننتبه لهذا إخوتى الكرام والشيخ عليه رحمة الله يقول إن كثيرا من المسلمين ينطبق عليه هذا الوصف اللعين ينتمى إلى الإسلام ويقول لمن كرهوا ما أنزل الرحمن سنطيعكم فى بعض الأمر
مرة بعض العتاة من الطغاة الطواغيت فى هذه الأوقات سئل عن موضوع الخمر وأنه إذا كانت البلدة بلدة العلم والإيمان كيف يعنى يستباح فيها الخمر الذى حرمه الرحمن كيف يباح ويرخص من قبل الدولة بلدة علم وإيمان يباع فيها الخمر الذى حرمه الله فى القرآن فاستمع لجواب الشيطان قال:(50/28)
هذا الخمر يباع ويرخص فى بيعه لا لأهل البلاد نحن لا نقول لأهل البلاد اشربوا ما شاء ما شاء الله على هذا المسؤول!!!
ما نقول لأهل البلاد اشربوا إنما البلاد يأتى إليها من يأتى من الوافدين ممن يأتون للسياحة للنزهة للفرجة لعمل دبلوماسى شيطانى لِ لِ لِ هؤلاء يشربون الخمور فى بلادهم فنحن إذا منعنا الخمر فى بلادنا لا يأتون إلينا إذاً يعنى يرخص فيها بنية فقط أن يشربها أولئك لا ليشربها أهل البلاد
يعنى هذا لو كان صادقا فيما يقول فى هذه القضية لو كان صادقا فلا شك فى ردته وكفره هذا لو كان صادقا فيما يقول فى هذه القضية سنطيعكم فى بعض الأمر يعنى نرخص فيها فى مجال مضيق من أجل أن نحصل خيرا ومغنما والله يعلم إسرارهم
الحالة الخامسة إخوتى الكرام من الأحوال التى إذا خرج الإنسان فيها عن شرع ذى العزة والجلال كفر بالكبير المتعال
الحالة الخامسة
أن يستخف ويعاند ويستهزىء ويعارض يستخف بشرع الله ويعاند أحكام الله يستهزىء بها يعارضها يسفهها
وأول من اتصف بهذا الوصف الذميم إبليس اللعين كما سيأتينا يعنى هو أول من استخف وعاند وأول من استهزأ وعارض وما أكثر الأبالسة فى هذه الأيام
إخوتى الكرام عند الحالة الخامسة والحالة السادسة نقف وأتكلم عليهما فى موعظة الغد بعون الله جل وعلا وبعد أن ننتهى منهما إن شاء الله سنتدارس الآيات الثلاث وأوجهها حسب ما تقدم معنا من تفصيل فى ثلاثة أحوال لمن يخرج عن شرع ذى العزة والجلال
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (الظالمون) (الفاسقون)
أختم الكلام إن شاء الله غدا على هذا الموضوع بعون الله وتوفيقه لنبدأ بعد ذلك فى المواعظ الآتية بتراجم أئمتنا الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا(50/29)
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا
اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه
اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(50/30)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
لا زلنا نتدارس احوال الإنسان عندما يخالف شرع الرحمن وقلت له ثلاثة أحوال حالة يعذر فيها وحالة يوزر ويأثم فيها وحالى يرتد ويكفر فيها
أما الحالة الأولى
التى يعذر الإنسان فيها عند وقوعه فى مخالفة شرعية قلت إخوتى الكرام هذا الحال له ثلاث حالات
الحالة الأولى أن يتأول فيما فيه مجال للتأويل وهو من أهل التأويل والحالة الثانية أن يجهل حكم الله الجليل من غير إعراض ولا تقصير كما تقدم معنا تقرير هذا وبيانه
والحالة الثالثة أن يكره ويقسر على معصية الله عز وجل فهى هذه الحالات الثلاث هو معذور عند رب الأرض والسماوات
الحالة الثانية
فيه يأثم الإنسان ويرتكب وزرا دون أن يضل إلى الكفر والردة نسأل الله العافية
أولها أن يتأول فى غير مجال التأويل أو هو ليس من أهل التأويل
ثانيها أن يجهل حكم الله ويقع فى مخالفة بناء على جهله لكنه أعرض وقصر أعرض عن العلم وقصر فى طلبه
الحالة الثالثة أن يتعمد المعصية دون استحلال لها
الحال الثالث(51/1)
للإنسان الذى إذا وقع فيه كما قلت فى مخالفة يكون كافرا مرتدا قلت لذلك ست حالات تدارسنا أربعة منها ولعلنا ننتهى إن شاء الله من بقية هذه الأمور كما قلت لنشرع فى المواعظ الآتية فى ترجمة ساداتنا أئمتنا أصحاب المذاهب الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين كما هو كما قلت فى بداية دروسنا للفقه هذه المقدمة الأولى والمقدمة الثانية فى تراجم أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام تدارسنا كما قلت أربع حالات من الحالة الثالثة للإنسان عندما يقع فى معصية الرحمن ويكفر إذا وقع فى تلك المعصية
الحالة الأولى قلت ألا يرى أن شرع الله جل وعلا حق وصواب لا يرى أن شرع الله حق وصواب فعل التباب وقال غن شرع الله ليس بحق ولا صواب
الحالة الثانية أن يرى أنه حق وصواب وفيه خير ورشاد لكن يقول شرع العباد فى هذه الأوقات أنفع ويحصل ملحة لنا فقد كفر بذلك
الحالة الثالثة أن يقول إن شرع الله فيه خير ونفع وشرع لا يفضل عليه لكن يساويه فشرع العبيد يساوى شرع الله المجيد ولك أن تأخذ بإيهما تريد فهذا أيضا كفر وردة
الحالة الرابعة أن يقول أن شرع الله خير وهدى ونفع وبركة لكن يجوز أن نأخذ بالقوانين الوضيعة الوضعية فى بعض الحالات تحقيقا لمصلحة دنيوية مع جزمنا واعتقادنا أن القوانين الوضيعة الوضعية دون شريعة رب البرية فهذا أيضا كافر عندما استباح وأجاز الخروج عن شرع الله جل وعلا هذه الأحوال تقدم معنا إخوتى الكرام مدارستها وسرد أمثلة عليها
الحالة الخامسة
التى يكفر فيها الإنسان عندما يقع فى مخالفة لشرع ذى الجلال والإكرام قلت إخوتى الكرام أن يستخف ويعاند ويستهزىء ويعارض إذا صدر منه هذا فمعصيته كفر
وقلت أول من فعل هذه المعصية إبليس عليه لعائن ربنا العزيز
الله جل وعلا امره بالسجود لأبينا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فامتنع ثم بعد ذلك استخف بأمر الله وعاند وعارض واستهزأ فالله جل وعلا عندما أمره أن يسجد قال:(51/2)
(أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين)
وهذه هى السفاهة بعينها فأنت توقن بأن الله جل وعلا ربك وهو الذى خلقك فكيف تعترض عليه وكيف تعاند وكيف تعارض فكأنك تقول أنا أعلم منك وأنت علمتنى وأنا أحكم منك وأنت الحكيم العليم وهذا كما قلت يعنى ضلال مبين وهذه سفاهة وشطط
أول من سلك هذا المسلك مسلك المعاندة والمعارضة إبليس عليه لعائن ربنا العزيز ثم زاد أيضا فى الاستهزاء والاستخفاف والمعارضة لله وبالله جل وعلا فقال له:
(فبعزتك لأغوينهم أجمعين)
وقال هذا فى معرض إغاظة الله وأنه سيؤثر على الله وأنه سيغيظ الله عندما سيغوى عباده واللعين يعلم أن الله لا ينتفع بطاعات العباد ولا يتضرر بمعاصيهم ولو أن الخلق كلهم من أولهم إلى لآخرهم كفروا بالله لما تضرر رب العالمين سبحانه وتعالى وهو كما قلت ساق هذا الكلام مساق الإغاظة للرحمن كأنه سيغيظه بذلك لأغوينهم أجمعين
إذن كما قلت سفاهة أمر ثان هو يعلم أيضا أن من حفظه الله ليس له سلطان عليه ولذلك عاد إليه بعد ذلك شىء من الرشد فقال:
إلا عبادك منهم المخلصين
فالله جل وعلا لا يتضرر بمعصية العاصى ومن قدر حفظه ليس للشيطان سلطان عليه انظر لهذه الظلمات وهذه التناقضات وهذه الاعتراضات على رب الأرض والسماوات, هذا أول من سلكه إبليس وأما قوله كما تقدم معنا أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين تقدم معنا إخوتى الكرام فساد هذه المقولة ضمن مواعظ الحديث الشريف وقلت هذا كلام باطل:
فأولا كما تقدم معنا باختصار أجوبة كثيرة قلت قياس عارض النص فهو فاسد الاعتبار لا ينظر فى مضمونه وأول من قاس إبليس وما عبدتم الشمس والقمر إلا بالمقاييس قياس فاسد الاعتبار والقياس إذا صادم النص وعارضه لا ينظر فى مضمونه فالله عليم حكيم أحاط بكل شىء علما فشرعه لا يعارض ومن عارضه فهو صاحب الفساد والعناد القياس إذا صادم النص قياس فاسد لا ينظر فيه ولا يعول عليه(51/3)
الأمر الثانى قلت لو ناقشنا هذه المقولة أيضا وبحثنا فى محتواها فهى أيضا فاسدة حقيقة عدا عن معارضتها للنص فمن يعنى رجح النار على الطين من؟ ومن زعم أن جوهر النار هو أفضل من جوهر الطين فى الحقيقة من؟ من زعم هذا فهو واهم إن جوهر الطين أفضل من جوهر النار فالنار طبيعتها الطياشة والتفريق والبعثرة والإحراق والطين طبيعته الرزانة والهدوء وإن أردت أن تعرف إلى آثار الطين وفوائده وثماره فانظر إلى الجنات والبساتين تضع فى الطين حبة فيخرج لك بعد ذلك يعنى ثمار وأشجارا فهذا حقيقة أثر الطين فمعدن الطين جوهر الطين أنفع من جوهر النار
وإذا سلمنا تنزلا كما تقدم معنا أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين هل يلزم أن كل مخلوق من ذلك الجوهر أعنى من النار أفضل من كل مخلوق من ذلك الجوهر أعنى من الطين لا ثم لا,
فإذا افتخرت بآباء لهم نسب قلنا صدقت ولكن بأس ما ولدوا
فهب أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين هل يلزم كل مخلوق من النار أفضل من أى مخلوق من الطين لا ثم لا وعليه كما قلت قياس فاسد قياس باطل سلك كما قلت مسلك المعارضة مسلك المعاندة وهو أول من عارض وهو مع أنه منظر إلى يوم القيامة كما قال أئمتنا هو أول من مات ,أول من مات من الخليقة إبليس لأن من عصى الله فهو ميت ومن أطاعه فهو الحى
(أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)
أول من مات إبليس لأنه عصى الله العزيز وأى معصية ,معصية العناد معصية المعارضة, معصية المشاقة والمحادة وهذا هو الضلال المبين
إذن أن يستخف ويعاند وأن يستهزىء ويعارض أول من سلك هذا إبليس
وله خلفاء من الإنس أبالسة الإنس منه اللعين الملعون الملحد عدو الدين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندى الزنديق الشهير
قال الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى لسان الميزان فى الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة:(51/4)
أجاد الشيخ يعنى الإمام الذهبى فى حذفه من الكتاب يعنى ما ترجم له الإمام الذهبى فى الميزان واللسان وُضع على الميزان ليبين يعنى وضع التراجم التى تعرض لها الإمام الذهبى فى ميزانه ويوافق أحيانا وأحيانا يخالف أحيانا يضيف على ما ذكره الإمام الذهبى زيادة تقرير لسان الميزان أجاد الشيخ فى حذفه أى من ميزانه طيب لمَ ذكرته؟
قال وإنما أوردته لألعنه, هذا الحافظ ابن حجر يقول وإنما أوردته لألعنه, توفى إلى لعنة الله سنة ثمان وتسعين ومائتين من هجرة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه وإنما أوردته لألعنه
وتقدم معنا أصحاب الورع البارد فى هذه الأيام يتورعون عن لعن الكفار الأحياء والأموات يقول:
كافر معين لا تلعنه!!!
ثم يدخلون أنفسهم بين الله وبين عباده فى الاطلاع على أسرار الناس فهذا مخلص وهذا ليس بمخلص سبحان الله إذا وصل ورعك البارد أن تتورع عن لعن الكافر حيا أو ميتا جئت بعد ذلك تحكم على المؤمنين هذا مخلص وهذا مخادع, ما الذى أطلعك!!
فى المكان الذى يجب عليك أن تكف لسانك ما كففت لسانك عن أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام وفى المكان الذى إذا أطلقت لسانك تثاب عند ربك كففت اللسان لكن هذا أحوال خوارج هذا الزمان سَلِمَ منهم عبَّاد الصلبان وما سلم منهم أهل الإيمان كافر لا نلعنه لا حيا ولا ميتا لأن لعنة المعين لا يجوز!!!
وتقدم معنا إخوتى الكرام المعتمد أن كل من استوجب ما يستحق عليه اللعن يلعن مهما كان حاله سواء من عصاة المؤمنين أو من الكافرين
وقلت هذا الذى تدل عليه أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام وقال عنه شيخ الإسلام الإمام النووى هو الظاهر وتقدم معنا الكلام فى هذه المسألة والحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا علل من منع من لعن المعين قال:
من منع أراد بالإبعاد من رحمة الله وأنه لا يناله شىء من رحمة الله فهذا يعنى تعليل من منع
وأما من أجاز وظواهر النصوص تدل على ذلك(51/5)
وتقدم معنا شيخ الإسلام 16:24 شيخ الحافظ ابن حجر وغيره قرروا الجواب قال أراد السب والتعيير والتحقير دون أن يمنع عنه رحمة الله الجليل
وقلت هذا الذى تدل عليه أحاديث نبينا البشير النذير عليه صلوات الله وسلامه وقلت وهو المأثور عن سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين
الرواندى من جملة من يستهزىء بالله ويستخف ويعاند ويعارض
قال الإمام الذهبى فى السير فى الجزء الرابع عشر صفحة تسع وخمسين فى ترجمته هو الملحد عدو الدين صاحب التصانيف انتبه صاحب التصانيف فى الحط على الملة يعنى ألف تصانيف لكن ليطعن فيها فى الإسلام صاحب التصانيف فى الحط على الملة وهذا خبيث وأبوه أخبث ,أبوه تهود فكان اليهود يقولون للمسلمين عندما أسلم أحمد بن إسحاق بن الرواندى إياكم أن يفسد هذا عليكم دينكم كما أفسد أبوه علينا التوراة هؤلاء زنادقة أبوه دخل فى اليهودية وأفسد والإبن دخل فى الإسلام ويريد الإسلام فاحذروه إياكم أن يفسد عليكم دينكم كما أفسد أبه علينا التوراة
وحقيقة خرج الإبن أخبث من الأب هذا كحال الأب الذى كان ينبش القبور النباش ويسرق الكفن وكان الناس سيتعيذون بالله منه يدعون عليه بان يخلص الله الناس من شره فلما مات الأب جاء الإبن بدأ إذا جاء ميت ينبش عنه يأخذ كفنه ويلوط به يفعل به الفاحشة فقالوا ليته عاد النباش الأول الأب أخف وزرا وضلالا من الإبن
وهذا أحمد بن يحيى الراوندى ذكره الحافظ ابن حجر ليلعنه واليهود يقولون احترسوا من هذا الولد الخبيث فأبوه كان خبيثا أفسد علينا التوراة وهذا سيفسد عليكم الإسلام ثم ختم الإمام الذهبى ترجمته فى السير قال بعد أن قال إنه كان من أذكياء العالم المعدودين:
لعن الله الذكاء بلا إيمان ورضى الله عن البلادة مع التقوى
وسيأتينا فى ترجمة خليفة إبليس الثانى كان ذكيا ولم يك زكيا وهذا من أذكياء العالم لكن ذكاء كالقرود استعمل ذكاءه فى الاعتراض على ربنا المعبود سبحانه وتعالى(51/6)
فقال الإمام ابن الجوزى فى المنتظم فى الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين وإلى صفحة خمس ومائة قال:
إنما ذكرته ليعرف قدر كفره أى الراوندى فإنه معتمد الملاحدة الزنادقة ثم ذكر من كفره حقيقة أشياء كثيرة منها:
قال كان يقول إن أنبياء الله يعنى بدءا من نبينا على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وانتهاء بأبينا آدم على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه يقول كلهم بدرجة الكهان لكن ادعوا أنهم أنبياء ورسل ذى الجلال والإكرام, هؤلاء كهان يعنى لهم شىء من الاطلاع على الغيب فخدعوا الناس فالناس استجابوا لهم بذلك حقيقة هذا الفساد وهذا الضلال يعنى يمكن أن ينقض كما قال أئمتنا يعنى بشىء يسير يقال الكاهن عندما يتكهن ,يتكهن عندما ينظر فى الإنسان وبعد أن ينظر فى شىء من المقدمات يعرف شيئا من أحوال الإنسان ثم بناء على هذا يقول شيئا مما يزعم أنه من علم الغيب فى إنسان أما أن يأتى نبى على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه ويخبر بما كان وبما سيكون ويأتى بعد ذلك بشريعة يعجز عنها يعنى البشر حقيقة هذا ليس عمل الكهانة ولا من عمل السحرة
وقال هذا الخبيث أيضا الله سبحانه وتعالى يقول فى كتابه:
(وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)
ثم هو أخبرنا فى كتابه بما ينقض هذا وألف كتابه الدامغ على زعمه ليدمغ شريعة الله المطهرة ويرد على القرآن وهو صاحب الهذيان يقول هنا الله يصف نفسه بأنه يعلم كل شىء ولا يخفى عليه خافية وقال:
{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} [محمد/31]
وقال {ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} [الكهف/12]
وقال {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت/3](51/7)
إذن آيات كثيرة {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم} [البقرة/143]
فقال هذه الآيات تدل على أنه ما كان يعلم يعنى هذه الأشياء وإنما فعل ليظهر له الأمر وليعلم ما لم يكن يعلم وهذا من انطماس بصيرته وفساد عقله وعدم علمه بمراد ربه من كلامه
(ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم)
علم ظهور ومشاهدة بعد أن علمناه علم تقدير علمه ربنا جل وعلا فى الأزل لكن هذا سيظهره بعد ذلك إلى الواقع المشهود
(فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين)
علم ظهور ومشاهدة بعد أن علمه علم تقدير سبحانه وتعالى وعلم الظهور والمشاهدة لن يختلف عن علم التقدير وليس فى ذلك طروء علم على الله جل وعلا لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى
وقال أيضا الله يقول فى كتابه:
(وله أسلم من فى السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)
قال والكفار أكثر من المسلمين الأبرار وهذا أيضا من فساد عقله وانتكاس بصيرته
وله أسلم بمعنى استسلم وانقاد وليس المراد من الإسلام هنا الإيمان بالرحمن انقاد لله طوعا وكرها رغم أنفه ولا يستطيع أن يخرج مخلوق عن إرادة ربه سبحانه وتعالى فالإنسان جاء إلى هذه الحياة من غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره وجُعل فيها بصفة وشكل على غير اختياره ويجرى فيه أمر الله ولا يستطيع أن يغيره وله مشيئة لكنها مرتبطة بمشيئة ربه وينتهى سعى العباد سعى المخلوقات من العرش إلى الفرش إلى قول رب الأرض والسماوات (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما)
(ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)(51/8)
وله أسلم استسلم وانقاد وكل مخلوق ذليل صاغر لرب العباد وواقع الأمر ذلك (فإذا جاء أجلهم لايستأخرون ساعة ولا يستقدمون) قال الإمام ابن الجوزى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:
ما سمعنا أحدا عاب الخالق وانبسط كانبساط هذا اللعين ثم بعد أن ذكر نماذج من كفره كما ذكرت وغيره قال:
وكفره زاد على كفر إبليس جمع الله بينهما وزاد هذا من العذاب على إبليس وهو الراوندى الخبيث
وأيضا خليفة إبليس الثانى الذى أيضا كان يعترض على الله جل وعلا ويسلك كما قلت هذه المعصية المكفرة وهى الاستهزاء والمعارضة الاستخفاف والمعاندة وهو الَمعرى الذى يطلق عليه الإمام ابن الجوزى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا عندما يذكره يقول قال خليفة إبليس المعرى وهو أحمد ابن عبد الله بن سليمان توفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة للهجرة
قال الإمام ابن كثير فى البداية والنهاية فى حوادث هذه السنة فى ترجمته فى الجزء الثانى عشر صفحة أربع وسبعين كان ذكيا ولم يك زكيا وقال الإمام الذهبى فى السير فى الجزء الثامن عشر صفحة ثلاث وعشرين وترجمه إلى صفحة أربعين قال بقى خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم تزهدا فلسفيا وقال ما على الرجل 26:40المؤمنين والله اعلم بما خُتم له ثم قال ويظهر لى أنه متحير ولم يجزم 26:53كان هذا أيضا يعارض شريعة الله ويستخف لها ويعاند وجعل شعره فى معارضة شرع ربه سبحانه وتعالى انظر مثلا لزندقته وإلحاده وما قاله حول حد السرقة
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قُطعت فى رب دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
يقول اليد ديتها فى شريعة الله المطهرة خمسمائة دينار ذهبى يد بخمس مئين عسجد بخمسمائة دينار عسجد من الذهب وديت ديتها
ما بالها قطعت فى ربع دينار إذا سرق الإنسان بعد ذلك شيئا قيمته ربع دينار تقطع يده وديتها خمسمائة دينار تناقض يقول هذا هو التناقض نجعل دية اليد خمسمائة دينار ونقطعها بربع دينار(51/9)
تناقض ما لنا إلا السكوت له وأن نعوذ بمولانا من النار
يقول هذه سفاهة وهذا تناقض فى الشرع يقول نسكت ونعوذ بالله من النار فقط ولا تعترض يا أعمى البصيرة كما أعمى الله بصرك وجمعت بين عمى البصر والبصيرة الحكمة تقتضى أن تغلظ دية اليد من أجل ألا يتساهل الناس فى قطع أطراف غيرهم وأعضاء غيرهم والحكمة تقتضى أن يخفف نصاب القطع فى السرقة من أجل صيانة الأموال والحفظ وحفظ أموال العباد فهذا مقتضى الحكمة ولو جعلنا دية اليد ربع دينار لتساهل الناس فى قطع أيدى غيرهم ولو جعلنا نصاب القطع خمسمائة دينار لسرق الناس أموالا طائلة يعنى خمسمائة دينار من الذهب الدينار فى حدود أربع غرامات ونصف احسبها خمسة يعنى سيسرق كيلوين ونصف من الذهب اثنين كيلو ونصف حتى تقطع يده يعنى زيادة على المائة ألف لو سرق مائة ألف لا تقطع يده لو جعلت نصاب اليد خمسمائة دينار هذا فساد فالناس يتساهلون فى أخذ أموال العباد فالحكمة تقتضى أن يغلظ دية اليد وأن يخفف نصاب القطع فى السرقة هذه الحكمة ولذلك قال أئمتنا فى الرد عليه وبيان فساد كلامه كما قال القاضى عبد الوهاب المالكى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا:
عز الأمانة أغلاها صيانة المال أغلاها
وأرخصها صيانة العضو فافهم حكمة البارى
وقال الإمام علم الدين السخاوى
عز الإمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة البارى
وقال الإمام ابن الجوزى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قال:
لما كانت أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت
تقطع فى هذا الشىء التافه الحقير وعندما كانت أمينة لها دية ثمينة
هذا إخوتى الكرام كما قلت مما قاله فى معارضة شرع الله جل وعلا والاعتراض عليه فيما يتعلق بحد السرقة
وقال أيضا وهو من أخبث أقواله فى معارضة ما أتى به رسل الله الكرام على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه يقول
فلا تحسب مقال الرسل حقا ولكن قول زور سطروه
وكان الناس فى عيش رغيد فجاؤوا بالمحال فكدروه(51/10)
فى عيش رغيد فى نعمة وسعة وترف فجاؤوا بالمحال فكدروه
وتقدم معنا إخوتى الكرام مرارا أن أعظم نعم الله علينا أن أرسل رسله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام وأنزل علينا كتبه الحسان ليخرجنا من الظلام إلى النور وقلت إن شرع الله لعقولنا كالشمس لأعيننا ولولم يتكرم علينا ربنا جل وعلا برسله الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه لكان الناس أحط دركة من البهائم العجماوات
ولذلك قال الإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى البداية والنهاية معارضا كلام هذا الضال الخبيث قال وقلت أنا معرضة له وانظروا البداية والنهاية فى ترجمته التى ذكرتها فى الجزء الثانى عشر أوليس كذلك صفحة أربع وسبعين قال وقلت أنا معارضة له:
فلا تحسب مقال الرسل زورا ولكن قول حق بلغوه
وكان الناس فى جهل عظيم فجاؤوا بالبيان فأوضحوه
الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى المدارج فى الجزء الثالث صفحة ست وأربعمائة عندما ذكر كلام الشيطان المعرى خليفة إبليس عارضه أيضا بكلام محكم نفيس قال:
وكان الناس فى لبس عظيم فجاؤوا بالبيان فأظهروه
وكان الناس فى جهل عظيم فجاؤوا باليقين فأذهبوه
وكان الناس فى كفر عظيم فجاؤوا بالرشاد فأبطلوه
كانوا فى لبس زال عنهم اللبس والشك والظلمات بالبيان الذى أظهره رسل الله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام
كانوا فى جهل فجاء رسل الله الكرام باليقين فأذهبوا ذلك الجهل
كانوا فى كفر عظيم فجاؤوا بالرشاد فأبطلوا ذلك الكفر وصار الناس على صراط الله المستقيم
ويقول يعنى أبياتا كثيرة فى معارضة شريعة الله المطهرة فمما يقول هذا الشيطان الغرور المغرور:
وما حجى لأحجار بيت كؤوس الخمر تشرب فى ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه تهاون بالشرائع وأزدراها
:وقال وهو من أخبث ما قاله أيضا
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
هفت أى زلت وضلت الحنيفة وهم الملة الإسلامية والنصارى ما هتدت(51/11)
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللة
المسلمون يعنى هفوا وانحرفوا والنصارى ضالون واليهود حيارى والمجوس مضللون, طيب ومن المهتدون؟ الزنادقة الملحدون هو وأمثاله ثم قال:
رجلان أهل الأرض هذا عاقل لا دين فيه وهذا ديِّن لا عقل له
يعنى هذا عاقل ليس عنده دين وهذا ديِّن وليس له عقل
هذا حال خليفة إبليس فى اعتراضه على شرع الله العزيز ومن استخف واستهزأ وعارض شرع الله عز وجل فلا شك فى كفره
دخل مرة بعض الناس على المعرى ولامه وقال لا تتكلمون علىَّ وأنت يعنى تقول هذا الكفر
قال إنهم يحسدوننى
قال يحسدونك على أى شىء؟
وقد تركت لهم الدنيا والآخرة أما الدنيا فأنت تركت زلاتها ومطالبها واعتزلت فى صومعتك وفى حجرتك وفى ظلماتك تركت لهم الدنيا وأما الآخرة فليس لك فيها نصيب يعنى يحسدونك على أى شىء
قال والآخرة أيضا
قال نعم, الآخرة خسرتها قبل الدنيا
فقال ما أنا هجوت بشعرى أحدا ولو أردت أن أمدح أيضا وأتكسب لحصلت مالا طائلا
قال نعم صدقت ما هجوت أحدا من البشر لكنك هجوت الله عز وجل ورسله الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام نعم ما هجوت أحدا من الناس لكن هجوت رب الناس وما استحييت من ربك ولا وقفت عند حدك
هنا كما قلت معصية استهزاء معصية استخفاف وأنا أعجب لهذه العقول الخبيثة التى هى فى الأصل من صنع الله جل وعلا كيف سيعترض هذا المخلوق الضعيف على الخالق القوى الجليل سبحانه وتعالى والله من أراد أن يزن حكمة الله بعقله كمن أراد أن يبحث عن ضياء الشمس بشمعة من صنعه صنع شمعة يريد أن ينظر بها إلى الشمس يقول الشمس أين هى أنا أبحث عنها بشمعة صنعتها!!!(51/12)
يا عبد الله طلع الصباح فأطفىء القنديل ما تنفع شمعتك ولا قناديلك إذا أضاءت الشمس وهنا هذا نور الله وهذه هداية الله ستزن كلام الله على حسب هوسك وإذا بعد ذلك ما راق للفساد ذهنك ستعترض على ربك هذا هو الضلال المبين أول من قال إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس
هذا كما قلت إخوتى الكرام نموذج خامس حالة خامسة من الحالات التى يكفر فيها الإنسان ويخرج عن دين الرحمن
الحالة السادسة
وهى آخر الأحوال عندنا إخوتى الكرام أن يسلك الإنسان طريق الحيل الماكرة التى يزعم بها أنه يريد تطوير الشريعة المطهرة لتساير قوانين الكفرة الفجرة بالتأويلات الخارجة
هو نوع حقيقة من الكفر وما أكثره فى هذه الأيام, هو يقول أنا لا أريد معصية إنما ما يفعله هو شر المعاصى يعنى بدل من أن تستورد القوانين الوضعية الوضيعة لتحكم فى بلاد المسلمين على أنها قوانين كفرية مستوردة يقول لا دعونا لتنطور شريعة الله المطهرة لتحتوى على تلك المواد الكافرة لكن باسم شريعة الله وقلت أول من فعل هذا الشيطان السنهورى تقدم معنا ضمن مواعظ الجمعة وقلت ما يعنى ما حاوله هو شر الحلول وأعظم المصائب التى ابتُليت بها الأمة فى هذا العصر المرذول الكفر نكسوه ثوب الإسلام فنطور شريعتنا من أجل أن تتناسب مع حياتنا ومن أجل أن نقترب مع الكفار أعدائنا فهى أحكام إسلامية دون أن نأخذها مستوردة نحن يعنى نطور شريعة الله جل وعلا هذا إخوتى الكرام ما أكثره فى هذه الأيام(51/13)
استمعوا ماذا يقول السفهاء فى هذه الأيام وهذا كتبه بعض الناس له شأن كبير فى السعودية ومشرف على الأمور المالية هناك ونُشر مقاله من عدد من السنين ومشايخ البلاد هناك ردوا على ما عنده من زندقة وإلحاد عندما نشر هذا الكفر بين العباد يقول هذا الشيطان فى صحف كما قلت عام نشر هذا كلامه أيضا ورد عليه كما قلت المشايخ هناك يعنى هئية كبار العلماء حتى بينت هذا كلام ضلال وهذا كفر بواح لا يجوز أن ينشر ولا يجوز أن يعتير
يقول هذا الشيطان العاتى:
لا تتم حياة البشرية إلا بسياسة اقتصادية يقول ولا يمكن أن يوجد اقتصاد من غير بنوك لا تتم حياة البشرية إلا بسياسة اقتصادية ولا اقتصاد من غير بنوك ردية ولا بنوك من غير فوائد ربوية
وعليه الفوائد الربوية يقول هذه ضرورية ثم قال لا تظنوا أنها محرمة فى الشريعة الإسلامية إذاً اطمئنوا هنا الإسلام لا يتعارض مع الواقع الفوائد الربوية ليست محرمة قال:
لأن المحرم لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة وهو الربا الفاحش الذى تأخذ على الريال مائة ريال أو ألف ريال هذا هو الربا المحرم أما أن تأخذ بالمائة خمسة بالمائة سبعة بالمائة عشرة هذه مقابل خدمة ومقابل تيسير الأمور على الناس فهذا ليس هو الربا الذى حرمه الله فى كتابه وإن كان يسمى ربا بمعنى زيادة لكن هذا كما قلت يقول ضرورة وشريعة الإسلام تتسع له فلا حياة من غير اقتصاد ولا اقتصاد من غير بنوك ولا بنوك من غير فوائد وعليه الفوائد ضرورية وأما الربا المحرم اطمئنوا ذاك هو الربا الفاحش الذى قال الله فيه:
لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون
أضعافا مضاعفة قرأ المكى عبد الله بن كثير والشامى عبد بن عامر ومعه أبو جعفر أحد المدنيين يزيد بن القعقاع ويعقوب أحد البصريين أضعافا مضعفة لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة (أضعافا مضعفة) واتقوا الله لعلكم تفلحون
إخوتى الكرام الربا إن قل أو كثُر محرم طيب والآية(51/14)
{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران/130]
إخوتى الكرام هنا يعنى ما الجواب على هذا الإشكال الذى أثاره هذا الشيطان وأمثاله فى هذه الأيام أن الربا المحرم هو الربا الفاحش
يا إخوتى الكرام هذه الآية كما تقدم معنا يعنى فى نظائرها عندنا فى كتاب ربنا ما هو محكم وما هو متشابه ما يحتمل معنى وما يحتمل عدة معانى, عندنا نحن نصوص قطعية فى تحريم الربا قل أوكثُر والنصوص فى ذلك متواترة وعندنا هذه الآية تحتمل ما فهمه هذا لعجمة قلبه لا لعجمة لسانه ولعله جمع العجمتين لكن معنى الآية ليس كما فهم
معنى الآية إخوتى الكرام مسوقة لزيادة ذم هذه الصورة التى يفعلها العرب فى الجاهلية فكأن الله جل وعلا يقول لهم الربا فى أصله محرم وجريمة واعتداء من الإنسان على أخيه واستغلال له إن قل أو كثر فكيف إذا كان الربا بهذه الصورة مطلق الربا حرام وكيف إذا كان فى هذه الصورة الذى فيها استغلال تام للإنسان أضعاف مضاعفة هذا كقول الله جل وعلا:
{ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} [النور/33]
إكراه الإناث الجوارى على الزنا محرم إن أردن التحصن أو لم يردن لكن الصورة تزداد شناعة وقبحا عندما تكره الجارية على العهر وهى تريد العفة والطهر يعنى عملت جريمتين, هى طبيعتها تنفر من ذلك فأكرهتها والله حرم هذا فأيضا فعلته فجمعت بين بليتين واعتدائين هى لو كانت راغبة لا يجوز أن تسمح لها بمزاولة الزنا الذى حرمه ربنا فكيف وهى ممتنعة فإذاً الصورة سيقت بهذا الوضع لزيادة التقبيح لبيان ما حصل من رئيس المنافقين فى ذلك الحين على أن جريمته هى أشبع الجرائم يكره من تريد التحصن من تريد العفة من تريد العفاف والطهر يكرهها فإذاً مسوقة لزيادة ذم لأنها إذا رضيت فهذا جائز(51/15)
وهنا كذلك يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ثم الصورة التى يفعلونها أضعافا مضاعفة لزيادة التقبيح والتشنيع الذى كانوا يفعلونه فى جاهليتهم
ولذلك يقول الإمام النسفى فى تفسيره فى الجزء الأول صفحة واحدة وخمسين ومائتين يقول:
فى الآية نهى عن الربا مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه
هو نهى عن الربا مطلقا ثم فى هذه الصورة أضعافا مضاعفة مع التوبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه
هذه صورة إخوتى الكرام من صور الكفر الذى نعيشه فى هذه الأيام تطوير شريعة ذى الجلال والإكرام لتناسب أحوال الناس فى هذه الأيام حسب يعنى مشابهة الكفار اللئام نطور شريعة الله المطهرة فالبنوك لا بد منها للحياة الاقصادية وبنوك من غير فوائد ربوية لا يمكن ولذلك واقع الأمر البنوك الربوية انتشرت فى جميع البلاد بلا ستثناء ونسأل الله العافية والسلامة من ذلك
من جملة أيضا الأمور التى يقولها دعاة الشرور فى هذه الأيام والدعوة إلى ذلك كما قلت مكفرة يعنى من قال بشىء من ذلك فقد كفر قال الحياة لا تصلح إلا بالربا فقد كفر ومن قال إن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافا مضاعفة والقليل منها ليحققوا مصلحة فقد كفر فلا بد من وعى هذا الأمر
أيضا من كلامهم المعسول وهو مرذول مردود يقولون رعاية المصالح شرائع الله جاءت لرعاية المصالح ولذلك أينما وجدت المصلحة فثم شرع الله فتراه يأتى بمفاسد ثابتة ويقول مصلحة العباد تتوقف عليها وهذا يوافق روح الشريعة وإن خالف نصوصا جزئية يوافق روح الشريعة , روح الشريعة تحقيق مصلحة الناس, نعم خالفنا نصوصا جزئية(51/16)
هذا أمر آخر اختلاط المرأة بالرجل يخالف نصوصا جزئية لكن يوافق روح الشريعة الإسلامية وهى تنمية الاقتصاد والناس الآن فى حاجة إلى عمل روح الشريعة الإسلامية الناس يحققون المصلحة يصعب عليهم الصيام فى رمضان فلا بد من أن يفطروا وهم فى فطرهم يطيعون الرحمن لأن العمل عبادة ولذلك كما ذكرت لكم بعض الطواغيت يشرب الخمر على شاشة التلفاز فى نهار رمضان ويدعو رعيته للفطر لئلا يتأخر الاقتصاد لأنهم يعنى دولة نامية على تعبيرهم نامية أو نائمة أو ميتة العلم عند اله جل وعلا هذا إخوتى الكرام هذا التطوير كفر لكن نريد أن يطلى عليه ثوب الشريعة المطهرة وأن هذا الكفر مقدس هذا الكفر مشروع
روح الشريعة وقال بعض العتاة يعنى ممن يحسبون من الدعاة أيضا وهذا قول مكفر بلا شك يقول إن تعطيل الحدود الإسلامية فى هذه الأوقات وخروج النساء سافرات وإن خالف نصوصا جزئية فقد وافق روح الشريعة الإسلامية روح الشريعة الإسلامية يوافقها تحقيق المصلحة وإن المرأة ستلزم بالحجاب وتخرج بعد ذلك من أجل اقتصاد لا يمكن والله أمرنا بالسعى والكدح للحاجة التى نحن فيها فهذه مصلحة وهكذا بعد ذلك تعطيل الحدود وهكذا وهكذا مصالح نحققها ثم نحن مع هذا نطيع الله كيف؟ قال وافقنا روح الشريعة ,روح الشريعة حافظنا عليها وإن خالفنا نصوصا جزئية
هذا إخوتى الكرام هذه العبارات تسمعونها بكثرة فى هذه الأيام روح الشريعة والمصلحة وما شاكل هذا(51/17)
إخوتى الكرام من الذى سيقدر المصلحة أنا أو أنت أو غيرنا من الخلق أو سيقدرها الإله الحق من الذى تقول هذا مصلحة وهذا مفسدة هذا ينبغى أن يقوله المشرع ينبغى أن يقوله العليم الحكيم سبحانه وتعالى وأما أنا وأنت وغيرى وغيرنا فقد نستحسن ما هو ضلال ولذلك كل أمة تستحسن جاهليتها التى هى عليها وترى أن المصلحة فيها وما أتى رسول من رسل الله الكرام على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه إلى قوم من الأقوام إلا عارضوه وانه خالف مصالحهم وما هم فيه مصلحة لهم وهذا جاء ليغير يعنى مصالحهم التى ألفوها واعتادوها فمن الذى سيقول هذا مصلحة وهذا مفسدة من الذى سيقول ,الذى سيقوله العزيز الغفور سبحانه وتعالى وأما ان تستباح المحرمات ضمن بعد ذلك ستار موافقة روح شريعة رب الأرض والسماوات هذا ضلال مبين
الشعارات الردية فى بعض الأماكن فى بلاد الشام كتب على مدرسة ولها شأن واعتبار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وحدة حرية اشتراكية يعنى بعد هذا الكفر يوجد كفر ما بقى بعد هذا الكفر كفر فجاء ضال مُضل من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ومن هؤلاء الذين كما قلت يطورون قال يعنى ينبغى أن تُكتب آية فوق هذا الشعار من اجل يعنى أن يكون هذا الشعار تفسير لهذه الآية وإيضاح لها
{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء/92]
فكتب هذا ثم لما تُكلم معه يعنى كيف هذا الأمة هنا يراد منها الأمة الإسلامية والملة الإسلامية وأنت بعد ذلك يعنى أمة عربية قال استمعوا وقال هذا بدون حياء من الله جل وعلا يعنى فى جمع أمة عربية واحدة نعنى بها الأمة الإسلامية, ذات رسالة خالدة قال هى رسالة الإسلام وحدة قال الإسلام دين الوحدة حرية دين الحرية, اشتراكية قال اقصدوا بها الذكاء نقصد ونتلاعب يا نقصد ونتلاعب شعارات لها دلالات معبرات عند من قالها نحن سنقصد بالإشتراكية الذكاء وكما قال الشيطان الثانى الشاعر:
والإشراكيون أنت إمامهم(51/18)
سنقصد يعنى نحن هذا لها مدلول معين فهذا إخوتى الكرام كما قلت كله من باب تطوير الشريعة لتتسع لضلالات الشنيعة هذا كفر من سلكه فهو كافر
وكان أئمتنا يقولون:
من كان لاعبا فلا يلعبن بدينه
إن أردت أن تعصى الله اعصِ وما أحد سلم من معصية نسأل الله أن يتوب علينا لكن اعصِ على أنك عاصٍ لا تعصى على انك مطيع والله ما طمع بهذا إبليس أن يعصى الله ويريد أجرا على معصيته إبليس ما طمع بهذا فنحن سنفعل المعاصى ثم ندعى أننا مطيعون للحى القيوم ما بعد هذا الجنون جنون من كان لاعبا فلا يلعبن بدينه قف عند حدك ولا داعى بعد ذلك لتطوير الشريعة لنجعلها تتسق مع الكفر وتتمشى معه فقفوا عند حدكم
إخوتى الكرام حقيقة ابتلينا بصنف فى هذه الأيام يحرفون دين الإسلام وحالهم كحال اليهود اللئام عليهم لعائن ذى الجلال والإكرام والله قال فى حق اليهود
{أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة/75]
والتحريف إخوتى الكرام تغيير النص لفظا أو معنى شامل للأمرين إما أن يحرفه لفظا وأن يغيره يتلاعب فيه وإما أن يحرف معناه ونحن ابتلينا بهذا الصنف الذى يحرف معانى نصوص الشريعة المطهرة لتساير كما قلت الأنظمة الكافرة أنظمة الفجرة وفعل هذا كما قلت من المكفرات وقد خشى علينا نبينا عليه الصلاة والسلام وحذِر على أمته عليه الصلاة والسلام من هذا الصنف الخبيث أكثر من حذره وخشيته عليها من الدجال
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى من رواية سيدنا النواس بن سمعان رضى الله عنه وأرضاه فى حديث الدجال الطويل وفيه أن نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه قال:
غير الدجال أخوفنى عليكم من الدجال
عندما ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام الدجال وارتاع الصحابة وظنوه أنه فى طائفة من النخل قال عليه الصلاة والسلام غير الدجال أخوفنى عليكم من الدجال من؟(51/19)
ثبت فى مسند الإمام أحمد بسند جيد من رواية سيدنا أبى ذر رضى الله عنه وأرضاه قالوا من يا رسول الله عليه الصلاة والسلام قال:
الأئمة المضلون إمام ضلالة لإمام حكم أو إمام دعوة إمام ضلالة هذا أشد خطرا على الأمة من الدجال لأنه يفسد فيها باسم الإسلام غير الدجال أخوفنى عليكم من الدجال الأئمة المضلون
وهذا الحديث إخوتى الكرام أعنى حديث سيدنا أبى ذر رضى الله عنه وأرضاه بأن نبينا عليه الصلاة والسلام يخشى علينا من الأئمة المضلين أكثر من خشيته على هذه الأمة من الدجال رُوى عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين رُوى من رواية سيدنا أبى الدرداء رضى الله عنه وأرضاه فى مسند الإمام أحمد ومعجم الطبرانى الكبير ومن رواية سيدنا أبى أمامة رضى الله عنه وأرضاه فى معجم الطبرانى الكبير ومن رواية سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه فى مسند الإمام أحمد ومن رواية سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه فى مسند أبى يعلى ومن رواية سيدنا شداد بن أوس وسيدنا ثوبان مولى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فى مسند الإمام أحمد انظروا هذه الروايات فى المجمع فى الجزء الخامس صفحة تسع وثلاثين ومائتين وانظروا رواية النواس بن سمعان وكما قلت إنها فى صحيح مسلم والسنن الأربعة إلا سنن النسائى فى جامع الأصول فى الجزء العاشر صفحة واحدة وأربعين وثلاثمائة غير الدجال أخوفنى عليكم من الدجال أئمة مضلون يدَّعون أنهم يطورون شرع الحى القيوم ليتمشى مع الكفر الملعون
نعم خشى علينا نبينا عليه الصلاة والسلام من كل منافق عليم اللسان
ثبت فى صحيح ابن حبان انظروا الإحسان فى الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين ومائة والحديث رواه البزار والطبرانى فى معجمه الكبير كما فى المجمع فى الجزء الأول صفحة سبع وثمانين ومائة ورواه البيهقى فى شعب الإيمان من رواية سيدنا عمران بن حصين رضى الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال:(51/20)
إن أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان
والحديث إخوتى الكرام كما قلت رواه البزار والطبرانى وغيرهما لكن بالنسبة لإسناد البزار والطبرانى يقول الهيثمى فى المجمع رجاله رجال الصحيح ورواه ابن حبان وصححه رجاله رجال الصحيح كما فى المجمع وقال الإمام المنذرى فى الترغيب والترهيب فى الجزء الأول صفحة سبع وعسرين ومائة رواته محتج بهم فى الصحيح والحديث رُوى أيضا عن عدة من الصحابة الكرام كل منافق عليم اللسان
رواه الإمام أحمد فى المسند والإمام البزار وأبو يعلى من رواية سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأرضاه قال حذرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كل منافق عليم اللسان والحديث رُوى من رواية سيدنا على وعقبة بن عامر ومعاذ بن جبل رضى الله عنهم أجمعين
هذه كما قلت إخوتى الكرام حالة سادسة من تلبس بها فقد كفر بشرع الله عز وجل أن يطور شريعة الله المطهرة لتتمشى مع أنظمة الكفرة الفجرة هذا كفر زمن فعله فهو كافر مرتد
هذا كما قلت فى ستة أحوال من عصى الله وخالف شرع الله جل وعلا فقد كفر بعد هذا إخوتى الكرام كما قلت يعنى هذا التفصيل الذى تقدم معنا للأحوال الثلاث للإنسان التى يكون حكم عندما يخالف شرع الرحمن إما أنه يعذر أو يأثم أو يكفر هذه الأحوال إخوتى الكرام الثلاث
قلت بعد ذلك سأستعرض الآيات التى فى سورة المائدة وفيها حكم الله جل وعلا بالكفر والظلم والفسق على من لم يحكم بشرعه المطهر
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)
إخوتى الكرام هذه الأوصاف الثلاثة لمن لم يحكم بشرع الله ولمن لم يحتكم إلى شرع الله جل وعلا يعنى سينزل عليها التفصيل المتقدم فانتبهوا لذلك إخوتى الكرام(51/21)
الحالة الأولى تقدم معنا لا تدخل فى هذا لا يشمله الكفر ولا الفسق ولا الظلم لأن الحالة الأولى تقدم معنا ضابطها أنه ما قصد معصية الله عز وجل أوليس كذلك؟ تأول فيما فيه مجال للتأويل أو هو من أهل التأويل أخطأ من غير قصد ولا يريد المعصية, جهل كما قلت الحكم الشرعى ففعل ولا يظن أنه عاصٍ وتقدم معنا ما قصر ولا أعرض إنما فهم على حسب لغة قومه, ما فهم من النص الشرعى لكن فهمه خطأ ويصحح له الوضع والحالة الثالثة تقدم معنا أكره على المعصية ولا يريدها ولا يحبها فالحالة الأولى لا تدخل معنا فى هذه الآن فى هذه الأوصاف الثلاث
الحالة الثانية حقيقة تدخل معنا والحالة الثالثة تدخل كفر دون كفر أو كفر مخرج من الملة ظلم أكبر يعتدى به الإنسان على الله جل وعلا فيكفر أو أنه يظلم نفسه فيما بينه وبين ربه دون أن يصل إلى درجة الكفر وهكذا الفسق فسق يخرج عن الشريعة جملة وفسق يبقى كما قلت فى حظيرة الإسلام لكنه عاصٍ للرحمن هذا كما قلت سنطبق هذه الأوصاف الثلاثة عليها حسبما نقل عن سلفنا فانتبهوا لذلك إخوتى الكرام
أولا معنى هذه الألفاظ
الكفر
الكفر معناه الستر ستر الشىء معناه كفر به يقال كفَر الشىء وكفَّره إذا غطاه كفرَ السحاب السماء إذا سترها ومنع من رؤيتها ويقال كفر المتاع فى الوعاء أى غطاه وخبأه وأدخله فيه
الكفر بمعنى الستر ويأتى الكفر عندنا فى شريعة الله بمعنيين اثنين بمعنى كفر المُنعم وبمعنى كفر النعمة أى عمد شكر الله عز وجل أى الذى يقابل المعصية كفر المنعم جحوده هذا يخرجه من الملة كفر النعمة عدم القيام نحوها بما يجب من طاعة وشكر لله عز وجل هذا يدخله فى دائرة الفسوق العصيان دون أن يخرجه إلى دائرة الكفران كفر أكبر كفر أصغر وهو الذى يعبر عنه أئمتنا بالكفر العملى وكفر دون كفر لا يصل إلى درجة الكفر الاعتقادية هذا معنى اللفظ الأول الكفر
والظلم(51/22)
معناه وضع الشىء فى غير موضعه المختص به إما بنقصان أو زيادة عليه ينقص منه يزيد عليه أو بعدوله عن وقته يعدل عنه عن وقته أو مكانه الذى ينبغى أن يوضع فيه شىء ينبغى أن يوضع فى موضع يختص به ذلك الموضع فوضعته فى غير ذلك الموضع, زدت, نقصت فى مكان آخر فى وقت آخر, هذا يقال له ظلم وضع الشىء فى غير موضعه ظلم (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)
فمن تركها ظلم نفسه, من قدمها ظلم نفسه, من أخرها ظلم نفسه إلا من عذر هذا كله وضع للشىء فى غير موضعه, فى الزمن يعنى الذى ينبغى أن تفعل فيه ما فُعلت فعلها فى مكان نُهى عن فعلها فى ذلك المكان, هذا كله ظلم زاد نقص هذا كله ظلم فقس على ذلك
إذاً وضع الشىء فى موضعه المختص به هذا هو العدل والظلم ألا تضع الشىء فى موضعه المختص به بحيث تزيد أو تنقص أو تنحرف به عن زمانه أو عن مكانه الذى ينبغى أن يوضع به أو يفعل فيه هذا كله ظلم
إخوتى الكرام والظلم إذاً مجاوزة الحد, مجاوزة الحق ويكون أيضا ظلما يخرج من الملة (والكافرون هم الظالمون) (إن الشرك لظلم عظيم) ويكون أيضا ظلم أصغر وهو أن يقع الإنسان فى دائرة المعاصى والفسوق دون أن يكفر بالله جل وعلا ومن ذلك قول أبينا وأمنا آدم وحواء على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه
{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف/23]
ظلم, إبليس ظالم وأبونا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه يخبر عن نفسه بأنه ظلم نفسه, هل هذا الظلم كهذا الظلم؟
لا ثم لا ذاك ظلم وكفر وهذا ظلم إنما وقع فى دائرة المخالفة يعنى التى غُفرت له وما قصد المعصية لكنه ظلم نفسه, وضع الشىء فى غير موضعه عندما ما امتثل الأمر واجتنب النهى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إذاً هذا ظلم وهذا ظلم لكن شتان ما بين الظلمين
ولفظ الفسق(51/23)
إخوتى الكرام معناه فى اللغة الخروج فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها ويقال للفأرة فويسق وفويسقة لأنها تخرج من جحرها وبيتها مرة بعد مرة ولا تستقر فيه مع ما فيها من الخبث والأذى والفساد فويسقة تكثر الخروج
إذاً الفسق معناه الخروج فمن خرج يعنى عن شرع ربنا المعبود جملة وتفصيلا فهو فاسق ومن خرج فى بعض الأمور وعصى الله دون أن يجحد بقلبه وأن يكفر بربه فهو فاسق هذا فسق وهذا فسق
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) [الكهف/50]
فسقه فسق كفر وهكذا قول الله جل وعلا فى سورة النور
{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [النور/55]
والآيات فى ذلك كثيرة
وتقرير هذه الأمور إخوتى الكرام على أن الكفر يأتى بمعنى الكفر الذى يخرج من الملة وسرد النصوص على ذلك والكفر على أنه يأتى بمعنى كفر أصغر عملى كفر دون كفر وسرد النصوص على ذلك وهكذا فى الظلم والفسق يعنى يحتاج لمواعظ فهذا ليس كما قلت من مجال بحثنا فى هذا الحين,
لكن الكفر يأتى كما قلت فى اللغة بهذا المعنى وله عندنا فى الشريعة المطهرة نوعان كفر أصغر, كفر أكبر ,كفر اعتقادى, كفر عملى, كفر كما قلت يخرج من الملة وكفر دون كفر وهكذا الظلم وهكذا الفسق
انظر لاستعمال لفظ الفسق فى معنى المعصية يقول الله فى سورة النور فى نفس السورة التى استعمل الفسق فيها بما يدل على الكفر استعمل الفسق فيها بما يدل على المعصية
{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون* إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} [النور/4-5](51/24)
والفسق هنا باتفاق أئمتنا لا يراد منه الفسق الذى يخرج من الملة إنما يحُكم على الإنسان بالفسق ترد شهادته تسقط عدالته وترد شهادته ويجلد ثمانين جلدة
(فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
ولذلك إذا تاب يعنى فاجلدوهم ثمانين جلدة لا تسقط عنه بالاتفاق أوليس كذلك؟
(فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون)
فهل يعود إلى المذكورَينِ الأخيرين يعنى قبول الشهادة ورفع الفسق؟ أئمتنا على قولين فى ذلك قيل يرفع الفسق ولا تقبل شهادته وقيل يرفع الفسق وتقبل الشهادة, على كل حال إخوتى الكرام الشاهد أن الفسق هنا لا يراد منه الفسق الذى يخرجه من دين الله عز وجل بحيث يكون من عداد الكافرين ولوكان كذلك لما جُلد ثمانين جلدة لضُربت الرقبة
إذن الفسق يأتى بهذا المعنى وبهذا المعنى والنصوص كما قلت فى ذلك كثيرة
إذن عندنا الكفر يأتى بهذين المعنيين وهكذا الظلم وهكذا الفسق ,من المراد بهذه الآيات وهذه الأوصاف؟
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (فأولئك هم الظالمون) (فأولئك هم الفاسقون)
غاية ما ذكر أئمتنا فى كتب التفسير كما ذكر ذلك الإمام الطبرى فى تفسيره فى الجزء العاشر صفحة ست وأربعين وثلاثمائة إلى ثمان وخمسين وثلاثمائة فى قرابة اثنتى عشرة صفحة وهكذا الإمام ابن الجوزى فى زاد المسير فى الجزء الثانى صفحة ست وتسعين وثلاثمائة والإمام ابن كثير فى تفسيره فى الجزء الثانى صفحة ستين وانظروا الآثار مجموعة فى الدر المنثور فى الجزء الثانى أيضا صفحة ست وثمانين وثلاثمائة
خلاصة ما ذُكر وحاصل ما ذكر فى بيان المراد بتلك الأوصاف إذا حكم بغير شريعة الله فهو كافر ظالم فاسق خمسة أقوال:
أولها المراد بذلك أهل الكتاب(51/25)
هذه الآيات نازلة فيهم واقرأ الآيات واقع الأمر سياقها يدل على ذلك {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون *وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون *وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين *وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} [المائدة/46-47]
هذه الآيات كلها فى سياق ما ذُكر لأهل الكتاب إنها فى أهل الكتاب قول اول
قول ثانى هى فيهم ويراد بها جميع الناس
أى كل من اتصف بهذ الوصف على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب والوقائع التى نزلت فيها
القول الثالث
كما قلت هذا فى كتب التفسير هى فيهم فى أهل الكتاب لكن تشمل المسلمين من باب أولى, انتبه هناك يقول فيهم وفى غيرهم على السواء إنما هنا يقول إذا كان أهل الكتاب يكفرون ويظلمون ويفسقون إذا لم يحكموا بالتوراة والإنجيل فنحن إذا لم نحكم بكلام الله الجليل يثبت لنا هذا الوصف من باب أولى فقد أنزل الله علينا أفضل كتبه وبعث إلينا أعظم رسله على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه فإذاً عدم تحكيم شريعته والاحتكام إليها كفر من باب أولى على القول الثانى يعنى فيهم وتشمل من اتصف بهذا هنا فيهم ونحن نُعَيَّرُ بذلك من باب أولى فإذا كان اليهود يكفرون إذا لم يحتكموا إلى التوراة فنحن من باب أولى نكفر إذا لم نحتكم إلى كلام رب الأرض والسماوات
القول الرابع كفر دون كفر(51/26)
والأقوال كلها إخوتى الكرام منقولة عن السلف وثابتة عنهم كفر دون كفر وهذا ثابت عن سيدنا عبد الله بن عباس وغيره فى تفسير الطبرى ومستدرك الحاكم بسند صحيح كالشمس مع ثبوت القول الأول بأنه أيضا كفر يخرج من الملة كما سيأتينا كفر دون كفر قال ليس بكفر ينقل عن الملة هذه فى حالة خاصة
والقول الخامس الكفر للجاحد, كفر دون كفر هذا القول الرابع
إخوتى الكرام القول الأول فى أهل الكتاب والثانى فيهم وفى غيرهم على السواء والثالث فيهم وفى هذه الأمة من باب أولى والقول الرابع قول سيدنا عبد الله بن عباس كفر دون كفر والظلم والفسق هو بمعناها الاصطلاحى عندنا الذى لا يخرج من الملة إنما فى حق الكفر يقول كفر دون كفر ليس بالكفر الذى ينقل عن الملة
والقول الخامس الكفر فى حق الجاحد والظلم والفسق فى حق المقر
مقر بحكم الله وانحرف عنه ما حكم به ولا احتكم إليه ظالم فاسق بالمعنى الاصطلاحى الذى لا يخرجه من الملة جحد حكم الله فهذا يكفر ويخرج عن الملة المباركة عن الملة الإسلامية
وخلاصة الكلام إخوتى الكرام الذى يتأمل الآيات والآثار المنقولة عن السلف الكرام نعم لا يرتاب فى أنها فى أهل الكتاب لكن حكمها عام عند أولى الألباب لكن الذى يحكم أو يحتكم إلى غير شرع الكريم الوهاب له حالتان عند أهل السنة بلا ارتياب أشار إليهما الإمام ابن الجوزى فى زاد المسير استمعوا إلى كلامه رضى الله عنه وأرضاه قال:
(وفصل الخطاب هذا كلام الإمام ابن الجوزى بالحرف أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير حجود فهو ظالم وفاسق)
وعليه الآيات تشمل كل من خرج عن حكم الله لكن له حالتان إن جحد كفر وإن أقر وانحرف ظلم وفسق(51/27)
ثبت فى مستدرك الحاكم فى الجزء الثانى صفحة اثنتى عشرة وثلاثمائة بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الإمام الذهبى والأثر فى تفسير الإمام الطبرى فى الجزء العاشر صفحة خمسين وثلاثمائة ورواه الإمام ابن أبى حاتم فى تفسيره وهكذا الإمام عبد الرزاق كما فى الدر المنثور فى المكان الذى أشرت إليه آنفا
عن سيدنا حذيفة رضى الله عنه وأرضاه ذُكر امامه هذه الآيات وتليت أمامه هذه الآيات,
فقال قائل هذه فى أهل الكتاب ليست فينا
فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حُلوة ولهم كل مرة
كل حلو لكم وكل مر عليهم ولهم نعم الإخوة لكم يعنى هذا تضعون عليهم البلاء وأنتم تأخذون الخير والنعماء
والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك بمقدار الشراك حذو النعل بالنعل وحذو القُذة بالقذة
فانتبهوا لأنفسكم ما يشملهم يشملكم
وهذا الأثر إخوتى الكرام ثابت عن سيدنا حذيفة رضى الله عنه وأرضاه رُوى نظيره ومثله عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين فى تفسير ابن المنذر كما فى الدر المنثور قال:
نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حُلوة فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب
إخوتى الكرام بهذا التفصيل الذى ذكرته يظهر الجمع بين تلك الأوصاف لمن انحرف عن شرع الله الجليل فانتبهوا لهذه الحالة وهذا الجمع لنأتى إلى الحالة الثانية التى يعصى الإنسان فيها ربه عندما لا يحتكم إلى شريعة الله ولا يحكم شرع الله فهو كما قلت فاسق عاص آثم ليس بكافر ولا مرتد (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون) طبق هذه الأصاف عليه كفر النعمة كفر عملى كفر دون كفر إذا كان يقر بأن شرع الله هو الحق وأن ما فعله هو سفاهة وضلال شهوته غلبته وهو معترف بذنبه منكسر لربه
فأولئك هم الفاسقون الذى كما قلت بمعنى المعصيى لا يخرجه من الملة فأولئك هم الظالمون جاوز الحد(51/28)
هذه الأوصاف الثلاثة تنطبق عليه كما قلت بمعناها اللغوى وبمعناها الاصطلاحى بمعناها اللغوى ستر نعمة الله بمعناها اللغوى ظلم وتجاوز الحد بمعناها اللغوى خرج من الهدى إلى الردى ومن العدل إلى الجور بمعناه الاصطلاحى عندنا كفر دون كفر والظلم والفسق بمعناه المعروف الذى لا يخرجه من الملة وإذا كان يتصف بالحالة الثانية وهى الثالثة عندنا بواحدة من الأمور الستة التى تقدمت معنا حكم بغير ما أنزل الله واحتكم إليه فعل معصية على حسب الأمور الستة أى كفر إما أنه رأى أن حكم الله ليس بحق ولا صواب فى هذه القضية وخالف أو كما تقدم معنا حق وصواب لكن قال ما نحن عليه أهدى أو قال نحن وشرع الله ما نحن عليه وشرع الله سواء ونحن بالخيار نأخذ بهذا وهذا الأمر مستويان أو قال ما نحن عليه دون شرع الله لكن يباح لنا أن أن نأخذ به أو استخف واستهزأ وعاند وعارض أو طور شريعة الله وحرف دين الله ليتمشى مع الكفر فهو كافر كافر فى هذه الأحوال طبق عليه الآيات (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون) كفر جحود خرج من الملة (فأولئك هم الظالمون) (والكافرون هم الظالمون) هو ليس المراد منه المعنى الاصطلاحى الذى هو الظلم الذى لا يخرجه من الملة
فأولئك هم الفاسقون المعنى العام فى لسان الشرع بمعنى الخروج من شريعة الله وعليه هو ستر الحق وظلم عندما كفر بالله عز وجل ولم يعبده ولم يلتزم بشرعه وفسق خرج من الإيمان إلى الكفر
وعليه اختلفت هذه الصفات لاختلاف الاعتبارات وهذا ما قال عنه أئمتنا اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات
فإذا نظرت إليه لأنه ستر الحكم الشرعى تقول عنه كافر لأنه تجاوزه ووضع الأمر فى غير موضعه تقول عنه ظالم لأنه خرج من الهدى إلى الردى تقول عنه فاسق, اختلفت العبارات لاختلاف الاعتبارات
وهو فى هذه الأحوال الثلاثة إما أن يكون الكفر فيه كما قلت كفرا أكبر يخرجه من الملة أو كفرا عمليا على حسب حاله فى معصيته لربه(51/29)
إخوتى الكرام ينبغى أن نعلم فى ختام المبحث أن من استباح القوانين الجالهلية فهو كافر برب البرية
وللإمام ابن كثير عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الجليل فى هذا كلام محكم جليل سأقرأه عليكم من تفسيره فى الجزء فى صفحة سبع وستين عن قول رب العالمين:
{أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة/50]
وأختم الكلام على هذه المسألة بكلامه رحمة الله ورضوانه عليه يقول: (ينكر تعالى على من خرج عن حكْم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهى عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله عز وجل كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذى وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصار فى بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير قال تعالى:
(أفحكم الجاهلية يبغون) أى يبتغون يريدون وعن حكم الله يعدلون (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) أى ومن أعدل من الله فى حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم ان الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها فإنه تعالى هو العالم بكل شىء القادر على كل شىء العادل فى كل شىء)(51/30)
وقال عليه رحمة الله فى البداية والنهاية فى حوادث سنة أربع وعشرين ستمائة عند ترجمة هذا الشيطان الرجيم جنكيز خان الذى وضع للتتار الياسَق ويقال له الياسا ويأخذونها ويحتكمون إليها كما قلت فى حوادث أربع وعشرين ستمائة لأنه فى هذه السنة هلك جنكيز خان ملك التتار فى الجزء الثالث عشر صفحة ثمانى عشرة ومائة يقول:
(هو الذى وضع لهم جنكيز خان الياسا التى يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله وكتبه وهو شىء اقترحه من عند نفسه وتبعوه فى ذلك)
ثم ذكر مما يوجد فى الياسق(51/31)
ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
لا زلنا نتدارس مقدمة لدروس الفقه التى سنشرع فى مدارستها بعون ربنا وتوفيقه وقلت هذه المقدمة تقوم على أمرين اثنين الأمر:
الأول على تعريف علم الفقه ومنزلته ووجوب الاحتكام إلى شريعة الله جل وعلا وقد مر الكلام على هذه الأمور مفصلا فى المواعظ الماضية
ووصلنا إلى الأمر الثانى من المقدمة لدروس الفقه التى سنتدارسها قلت فى ترجمة أئمتنا ساداتنا الفقاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين سيدنا أبو حنيفة وسيدنا مالك وسيدنا الشافعى وسيدنا أحمد رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام قبل أن نشرع فى ترجمة موجزة لأئمتنا وقلت سأجمل ترجمة كل واحد منه فى موعظة بعون الله وتوفيقه قبل أن نشرع فى مدارسة تراجمهم المباركة رضوان الله عليهم أجمعين, ينبغى أن نعلم أننا عندما نتدارس تراجمهم وأحوالهم أن هذا ليس من باب النافلة والاستطراد إنما هو حق على العباد وعلى أهل النُّهى والرشاد أن يعرفوا أحوال أئمتنا فهم أولياء الله رضوان الله عليهم أجمعين ولذلك أثر عظيم فى نفوس المكلفين فأخبار الصالحين تقوى اليقين وتشد صلة الإنسان برب العالمين ومدارسة أخبارهم لون من ألوان الدعوة إلى دين رب العالمين(52/1)
نعم إخوتى الكرام للقصة فى حد ذاتها آثار جلية على النفس البشرية ولذلك كثر ورودها فى الآيات القرآنية فى أحاديث نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه
القصة إخوتى الكرام تستروح إليها النفس البشرية وتحبها وتسترسل معها وتميل إليها وهذا شعور فطرى فيها وعدا عن هذا الأمر عدا عن هذا القصة أيضا طريقة لغرس مبادىء الخير فى النفوس البشرية حيث تتغلغل المعانى الذى فى القصة تتغلغل قيم الخير تتغلغل مُثل الفضيلة فى النفس البشرية بسهولة دون قصد ودون شعور لأننى كما قلت الإنسان يميل إلى سماع القصص وإلى سماع الأخبار وهذه فطرة فيه فطره عليها العزيز القهار سبحانه وتعالى فعندما تحمل تلك القصص فى طياتها المعانى الشريفة النبيلة تتغلغل فى النفس من حيث لا يشعر الإنسان ومن حيث لا يقصد ذلك الأمر لكن عند السماع يتأثر الإنسان فتسرى تلك المعانى الجميلة النبيلة فى النفس البشرية من حيث لا يشعر ومن حيث كما قلت لا يقصد من غير شعور ولا قصد تسرى الفضيلة فى ذراته
ولذلك إخوتى الكرام قرر علماؤنا رضوان الله عليهم أجمعين أن آيات القرآن دار موضوعها حول ثلاثة أمور حسان:
أولها موضوع توحيد ذى الجلال والإكرام هذا النوع الأول
ثانيها دار حول الأحكام ما ينبغى أن يفعله الإنسان من حلال وما يبغى أن يتركه من حرام حول ما يتعلق بسلوك الإنسان إذن توحيد للرحمن وأحكام
والأمر الثالث قصص حسان القرآن من أوله لآخره يدور حول هذه الأمور الثلاثة توحيد عقائد وأحكام وقصص المراد من القصص توكيد هذين الأمرين والدعوة إليهما من حيث لا يشعر الإنسان فهى تقرر أمور التوحيد بالله المجيد وهى أيضا تثبت الأحكام الشرعية بصورة لا شعورية عندما تذكر القصص وفى طياتها توحيد الله جل وعلا وفى طيها الأحكام الشرعية التى تتعلق بها النفوس البشرية إذن القرآن الكريم عقائد توحيد الله أحكام تتعلق بأفعال وسلوك الإنسان قصص حسان وقد أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام(52/2)
ففى مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام مالك فى الموطأ والبخارى فى صحيحه ورواه الإمام أبو داود والنسائى فى السنن والإمام ابن الضريض فى فضائل القرآن والبيهقى فى السنن الكبرى والحديث صحيح صحيح فهو من رواية فقد رواه البخارى كما سمعتم فهو فى صحيح البخارى وفى غير ذلك من كتب الحديث فعن سيدنا أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه وأرضاه قال:
إن رجلا من الصحابة الكرام سمع رجلا من الصحابة الكرام يقرأ فى جوف الليل سورة الإخلاص قل هو الله أحد ويكررها, هذا وِرده يقوم بها ويكررها إذا انتهى منها عاد إليها, إذا انتهى منها عاد إليها فلما أصبح جاء إلى النبى عليه الصلاة والسلام وأخبره أنه سمع بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قام ليلته أجمع بسورة الإخلاص يكررها وكأن الرجل يتقالها فقال النبى عليه الصلاة والسلام والذى نفسى بيده إنها لتعدل ثلث القرآن
وفى بعض روايات الحديث من رواية سيدنا أبى سعيد الخدرى أيضا رضى الله عنه وأرضاه أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال للصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين:
أيعجِز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن كل ليلة فشق عليهم ذلك وقالوا أينا يطيق ذلك يطيق ذلك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام
وكأنهم فهموا ثلثا من حيث الحجم يعنى ثلاثون جزءا ينبغى أن يقرأوا عشرة أجزاء شق عليهم قالوا أينا يطيق ذلك يلتزم عشرة أجزاء كل ليلة فقال نبينا عليه الصلاة والسلام:
إن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن
وهذا الحديث إخوتى الكرام متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام رُوى عن سيدنا أبى الدرداء وعن سيدنا أبى أيوب وعن سيدنا أبى هريرة وعن سيدنا عمر وعن ابنه سيدنا عبد الله بن عمر وعن سيدنا أنس وعن سيدنا عبد الله بن مسعود وعن سيدنا أبى بن كعب وعن سيدنا معاذ بن جبل وعن سيدنا النعمان بن قتادة هؤلاء عشرة وعن رواية أبى سعيد الخدرى, أحد عشر صحابيا يروون هذا الحديث أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن(52/3)
انظروا هذه الرويات إخوتى الكرام فى جامع الأصول فى الجزء الثامن صفحة خمس وثمانين وأربعمائة وفى الدر المنثور فى الجزء السادس صفحة أربع عشرة ورأربعمائة
إذن تعدل ثلث القرآن أصاب أئمتنا فى توجيه كلام نبينا عليه الصلاة والسلام أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن
ما المراد بهذا الثلث؟
أوجه ما قيل فى ذلك ما استظهره شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية كما فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثانى عشر صفحة أربع وثلاثين ومائة وحكاه الحافظ فى الفتح فى الجزء التاسع صفحة واحدة وستين:
أنها ثلث القرآن من حيث محتوى القرآن ومن حيث موضوع القرآن ومن حيث المعانى التى عالجها ودل عليها القرآن,
فالقرآن يدور على ثلاثة أمور حسان:
أولها توحيد الرحمن
ثانيها أحكام تتعلق بفعل الإنسان
ثالثها قصص حسان
والمراد من القصص تقرير وتثبيت وتوكيد ما تقدم من توحيد الله جل وعلا ومن الأحكام التى تتعلق بأعمال المكلفين
إذن القصص لها شان فالله فى كتابه قص وسمى سورة بكاملها سورة القصص هذا عدا عن السور التى تسمى بسورة لقمان بسورة الكهف بسورة آل عمران بسورة مريم هذه كلها قصص لغير الأنبياء حتى قصص لغير الأنبياء على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه كما سيأتينا لقمان ليس بنبى على المعتمد, أصحاب الكهف ليسوا بأنبياء, مريم ليست بنبية,
قصص ورد أخبار هؤلاء فى كلام الله عز وجل لا لقتل الوقت والتسلى إنما كما قلت للدعوة إلى الله جل وعلا وتثبيت العقائد فى القلوب انتبه من حيث لا يقصد الإنسان ولا يشعر وهى أيضا لتوكيد الأحكام والدعوة إلى الفضيلة على التمام من حيث لا يقصد الإنسان ولا يشعر لأن الإنسان طبيعته يستروح للقصة يميل إليها يحبها يتعلق بها فتذكر أخبار المتقدمين وفى ثناياها وفى طياتها توحيد رب العالمين وتقرير الأحكام فى الدين فيتغلغل ذلك فى نفوس المكلفين(52/4)
وعليه عندما سنتدارس أخبار أئمتنا لتسرى تلك الفضائل التى فيهم فى نفوسنا من حيث لا نشعر ومن حيث لا نقصد وحقيقة دواء عظيم لقلوب المكلفين ذكر أصحاب الصالحين أن يتذاكروها فى كل حين أخبار الصالحين
إخوتى الكرام كما قلت قص الله علينا فى سورة كاملة سورة العبد الصالح لقمان وسمى السورة باسمه وهو ليس بنبى على المعتمد عند أئمة الإسلام وقد13:20على هذا أئمتنا,
قال الإمام البغوى فى معالم التنزيل فى الجزء لخامس صفحة خمس عشرة ومائتين:
اتفق العلماء جميعا على أنه كان حكيما ولم يكن نبينا ولم يخالف فى ذلك إلا عكرمة مولى سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين
ما خالف إلا عكرمة فزعم أنه نبى وأئمتنا ما وافقوه وردوا عليه ذلك والإمام ابن الجوزى فى زاد المسير فى الجزء السادس صفحة سبع عشرة وثلاثمائة قول حكى الواحدى بسنده أيضا عن السُدِّى والشعبى أنهما قالا إن لقمان نبى وعليه عكرمة والسدى والشعبى, عقب على ذلك الإمام ابن الجوزى بقوله ولا يعرف هذا إلا عن عكرمة أنه تفرد به لا يعرف هذا عن السدى فالسدى مع من قال إن لقمان ليس بنبى وهكذا الشعبى لا يعرف هذا القول إلا عن عكرمة وأئمتنا كما قلت إخوتى الكرام ما ارتضوا قوله وقالوا إن الله نعته بالحكمة فى كتابه فقال {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان/12]
فإن قال قائل إن النبوة تفسر بالحكمة فيقال لا يصلح أن يفسر الأخص بالأعم فهنا الحكمة أعم من النبوة ولو أعطاه الله النبوة لنعته بوصف النبوة فكل نبى حكيم ولا عكس فأطلق الأعم وأراد الأخص هذا لا يمكن!!(52/5)
لا بد من أن يذكره بنعت النبوة إذا كان نبيا وتقدم معنا أن الحكمة هى فعل ما يبنغى فى الوقت الذى ينبغى على الوجه الذى ينبغى وهى إصابة الحق علما وقولا وعملا وهى وضع الشىء المناسب فى الزمن المناسب فى المكان المناسب كما تقدم معنا ضمن المباحث القريبة فى الفروق بين شرع الخالق والمخلوق فقلت صاحَبَ شرع الخالق حكمة تامة وبينت معنى الحكمة عند هذا الفرق المعتبر من الفروق التى تقدم مدارستها
إذن آتاه الله جل وعلا الحكمة قص علينا ربنا جل وعلا خبره, حقيقة عندما يستمع الإنسان قصته تسرى كما قلت الفضيلة المثل الجليلة فى نفس السامع من حيث لا يشعر
{ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد} [لقمان/12]
ثم بعد ذلك والد يتعهد ولده
{وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه (انتبه) يا بني لا تشرك بالله (تقرير أمر العقيدة) إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان/13]
ثم انتقل إلى أمر آخر بعد أن بين له حق الله عليه بين أعظم حقوق الخلق عليه وهو حق الوالدين (ووصينا الإنسان بوالديه) أى هذا من جملة ما ألهم الله به العبد الصالح لقمان ان يقوله لولده وقيل إنه كلام جاء على نهج الاستطراد ضمن وصية العبد الصالح لقمان وتقرير هذا يكون ضمن مواعظ التفسير إذا وصلنا إلى سورة لقمان بتوفيق ذى الجلال والإكرام,
يعنى هل هذا مما قاله لقمان لولده أو كلام أُتى به على نهج الاستطراد ضمن وصية العبد الصالح لقمان للتحذير من الشرك الذى ورد فى وصية لقمان لا تشرك بالله فى بعد ذلك الوصية بالأبوين أم نهى عن الشرك؟
{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون *يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان/15-16]
كله هذا فى أمر العقائدثم جاء بعد ذلك(52/6)
{يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور*ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور *واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} [لقمان/17-19]
إذن هذا القصص هذه القصة جاءت لمَ؟
لتقرير وتوكيد أمر التوحيد ولتقرير وتوكيد الأحكام الشرعية العملية التى ينبغى أن يقوم بها المكلفون فى هذه الحياة عقائد وأحكام لكن ضمن قصص ما وُجِّه هذا للعباد إنما لقمان أوصى ولده بما أوصاه به يدل على هذا وهذا
والقرآن كما قلت دار على هذه الأمور الثلاثة عقائد توحيد الله عز وجل أحكام عملية تتعلق بأفعال المكلفين قصص يراد منه تقرير هذين الأمرين وتوكيدهما من حيث لا يقصد الإنسان ولا يشعر حيث تسرى الفضيلة فى نفسه ويُقرر ذلك الأمران فى نفسه كما قلت من دون قصد منه ولا شعور منه بذلك
إخوتى الكرام هذا العبد الصالح حقيقة أشار الله إلى ما أعطاه من حكمة وذكر بعض حِكمه فى السورة التى سماها باسمه وفى ذلك أيضا استلهاب الهمم والعزائم للبحث فى حكمة هذا العبد الصالح حسب النظر فى حياته وحقيقة أئمتنا نقلوا هذا حسب ما ورد فى الكتب السابقة وقد أُذن لنا أن نتحدث بما كان فيهم وبما صدر منهم مما لا يدل شرعنا على المنع منه
وحقيقة أئمتنا المفسرون قاطبة أوردوا نماذج من حكمة هذا العبد الصالح دون هذه القصة بحيث تسرى تلك الفضائل فى النفس ضمن قصة عبد صالح يقول الحكمة وينصح عباد الله ذريته والناس أجمعين
فمما أوردوا من حكمته رضى الله عنه وعن سائر الصديقين الكرام ما ثبت فى كتاب الزهد للإمام أحمد صفحة تسع وأربعين أنه قال لولده:
يا بنى ما ندمت على سكوتى قط ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب(52/7)
ما ندمت على سكوتى قط ما مرة سكت وندمت إنما الإنسان يندم إذا تكلم ولذلك من حفظ سره وما تكلم به كان فى الخيرة فى يده إن شاء أن يتكلم وإن شاء أن يسكت هو أدرى لكن إذا باح الآن صار أمره بيد غيره وهنا كذلك ما ندمت على سكوتى قط ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
ورضى الله على أئمتنا عندما قالوا:
إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيار قد كان يعجب قبلك الأبرار
ولئن ندمت على سكوتك مرة فلتندمن على الكلام مرارا
إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عدواة وضرارا
إذن هذا من حِكمه وحقيقة التقى ملجم ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه فاستمع لهذه الحكمة وضمن وصية:
يا بنى ما ندمت على سكوتى قط ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب
ومن حِكمه ما رواه الحاكم فى المستدرك فى الجزء الثانى صفحة ثلاث وعشرين وأربعمائة فى كتاب التفسير فى تفسير سورة سبأ فى قصة نسج العبد الصالح نبى الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه للدروع وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره عليه الذهبى والحديث رواه الإمام ابن حبان فى كتاب روضة العقلاء ورواه الإمام العسكرى فى الأمثال ورواه البيهقى فى شعب الإيمان وانظروا تخريج الحديث فى شرح الإحياء فى الجزء الثالث صفحة خمس ومائة لأنه رُوى مرفوعا بسند ضعيف(52/8)
قال العراقى هذا معروف عن سيدنا أنس رضى الله عنه وأرضاه من كلام العبد الصالح لقمان قال سيدنا أنس رضى الله عنه وأرضاه كان لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان مع نبى الله داود على نبينا وعليهما أفضل الصلاة وأزكى السلام فكان داود يقدر فى السرد وينسج الدروع ويُحكم صنعتها والعبد الصالح لقمان ينظر إليه وما عرف ماذا يعمل فى أول الأمر يعنى ينسج حلق الحديد مع بعضها ليكون منها درع ماذا يريد العبد الصالح داود من هذا ما عرف لقمان وعلى طريقته ما أنه ما ندم على سكوته فسكت وما تكلم فلما انتهى نبى الله داود على نبيناو عليه الصلاة والسلام من نسج الدرع قام ولبسه وقال:
نعم الدرع للحرب
فقال لقمان الصمت حكمة وقليل فاعله
أردت أن أسألك فسكت فأعلمتنى دون سؤال ,الصمت حكمة وقليل فاعله والبلاء موكل بالمنطق حقيقة هذه القصة الحكيمة المحكمة عندما يسمعها الإنسان تسرى كما قلت تلك الفضائل فى نفسه من حيث لا يشعر الصمت حكمة وقليل فاعله
وروى الإمام أحمد فى الزهد فى المكان المتقدم فى أخبار العبد الصالح لقمان صفحة تسع وأربعين أنه كان يقول:
ضرب الوالد لولده ضرب الإستاذ لتلميذه كالسَماد للزرع
ولد من غير أن يُضرب ويؤدب لا يصلح يعنى يخرج فيه بعد ذلك بذاءة وميوعة لا بد من شدة عليه من أجل مصلحته هذا كالزرع لا بد له من سماد وليس معنى الضرب أنك تضربه لتكسر عظامه لا ثم لا, يعنى لا بد حقيقة من أن يُخوف وأن يعنى يصاحب حياته رغبة ورهبة ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع
وكان يقول كما روى عنه ذلك الخطيب البغدادى:
يا بنى الدَّين هم بالليل وذل بالنهار(52/9)
حقيقة إذا كان على الإنسان دَين يسقط رأسه فى النهار ممن يلاحقه ويطالبه ويريد أن يرفع أمره إلى القضاء من أجل أن يودعه فى السجن وأما فى الليل يتقلب على فراشه فى هم وغم كيف سيؤدى الحقوق إلى أصحابها وهل يعنى تأتية المنية قبل أداء هذه الحقوق فيلقى بها رب البرية حقيقة هم بالليل ذل بالنهار والإنسان كلما استغنى بنفسه عن غيره ولم يحتج إلا إلى ربه كان حقيقة أعز له وأسلم لنفسه فهذا أيضا من وصايا هذا العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان
وكان يقول كما فى شعب الإيمان للبيهقى والأثر وراه عبد الله بن سيدنا الإمام أحمد فى زوائد الزهد ورواه الإمام الصابونى فى كتاب27:16وليس عندى خبر عنه إنما هذا بواسطة الدر المنثور فى اخبار العبد الصالح لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان الدر المنثور فى تفسير سورة لقمان فى الجزء الخامس أورد هذا لكن ما حددت الصفحة على كل حال ترجعون إلى الدر المنثور فى تفسير سورة لقمان عزاه كما قلت إلى الصابونى وإلى غيره يقول:
يا بنى إنى حملت الجندل والحديد والجندل هى الحجارة حملت الجندل جندل الحجارة الثقيلة والحديد فما رأيت أثقل من جار السوء
والله إنه أثقل الجندل والحديد وأثقل من الجبل جار السوء نعوذ بالله منه يا نبى إنى حملت الجندل والحديد فما رأيت أثقل من جار السوء
من كلامه المحكم حقيقة كما روى عنه البيهقى فى شعب الإيمان يقول ليس غنى كصحة ولا نعيم كطيب نفس(52/10)
لا يوجد أنعم ممن هو طيب النفس منشرح الصدر ولا يوجد أغنى ممن يعنى معه صحته وعافيته لا غنى كصحة ولا نعيم كطيب نفس إذا كان الإنسان بصحته فيحمد ربه ولو ملك الدنيا بحذافيرها وهو سقم ومرض ماذا ينفعه لا يستطيع أن يأكل ولا كسرة خبز لا غنى كصحة وحقيقة ما أوتى الناس بعد اليقين برب العالمين أعظم من العافية أعظم من الصحة نعمة عظيمة لا غنى كصحة فاحمد الله وإذا كنت صحيحا فأنت غنى لكن الناس لا تقدر هذا الغنى فى هذه الأيام ولا يعرفون قيمة الصحة إلا عندما تزول عنهم ويصابون بالمرض ولا نعيم كطيب نفس حقيقة إذا كان الإنسان فى راحة لا هم ولا غم ولا قلق ولا حزن هذا نعيم لا يعدله نعيم, حقيقة هذه جنة الدنيا أن يكون الإنسان فى راحة وأن يعنى لا يكون فى قلق وهم وغم ونكد وتعب وتعلق بالدنيا بحيث يمسى ويصبح وهو يفكر فى حساباتها, ما بعد هذا الشقاء شقاء ما حصلت من دنياك إلا العناء والتعب
هذا من كلام هذا العبد الصالح وكما روى الإمام أحمد أيضا فى الزهد فى ترجمته فى المكان الذى أشرت إليه أنه كان عبدا مملوكا وإذا كان كذلك فكما تقدم معنا لا يمكن أن يكون نبيا لأن النبى ينبغى أن يكون حرا على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه
فقال له سيده مرة اذبح لى شاة وائتنى بأطيب شىء فيها فذبح شاة وأتى بقلبها ولسانها فبعد فترة قال اذبح لى شاة وائتنى بأخبث شىء فيها فذبح شاة وأتى بالقلب واللسان قال أمرك عجب أقول لك هاتِ أطيب شىء فيها تحضر القلب واللسان, هاتِ أخبث شىء فيها تحضر القلب واللسان قال:
لا شىء أطيب منهما إذا طابا ولا شىء أخبث منهما إذا خبثا
حقيقة القلب واللسان إذا طابا يعنى طابت الجوارح كلها وإذا خبثا خبثت الجوارح لها وهذا اللسان هو ترجمان للقلب
إن الكلام لفى الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا(52/11)
وكما قال أئمتنا الأفواه حوانيت وإذا تكلم الإنسان ظهر العطار والبيطار يعنى ماذا فى قلبك, هذا يظهر عندما تفتح فمك متى ما فتحت فمك يظهر هل فى قلبك خَبَث وخُبْث أو طهارة وطيب إذا تكلم الإنسان ظهر العطار والبيطار
إذن لا يوجد شىء أخبث منهما إذا خبثا ولا يوجد شىء أطيب منهما إذا طابا
كما قلت قصص ذكره ربنا فى كتابه سبحانه وتعالى ليقرر؟ أمر توحيده وليقرر بعد ذلك الأحكام الشرعية ولتتعلق بهما النفس البشرية من غير قصد ومن غير شعور
نعم إخوتى الكرام الحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات
وهذا الكلام الحكايات جند من جنود الله مذكور عن العبد الصالح الجنيد بن محمد القواريرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كما نقل ذلك عنه أئمتنا فى كتاب قواعد التصوف صفحة تسع عشرة ومائة الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها من شاء من عباده
قال وشاهد ذلك فى كتاب الله عز وجل (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)
الحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات
ولذلك أَذِن لنا نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام بالحديث عن الأمم السابقة كما قلت لتقرير ما تقدم من أمر التوحيد والأحكام العملية لتسرى الفضائل فى النفس البشرية من دون قصد وشعور من الإنسان
ثبت فى مسند الإمام أحمد وصحيح البخارى والحديث رواه الإمام الترمذى والدارمى فى السنن ورواه الخطيب فى تاريخ بغداد فى كتاب الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع كما رواه أيضا فى كتاب شرف الحديث والحديث رواه أبو نعيم فى الحلية والطحاوى فى مُشكِل الآثار وهو صحيح صحيح فهو فى صحيح البخارى كما سمعتم من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)(52/12)
(وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج)
وهذا الحديث إخوتى الكرام رُوى عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين رُوى عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه فى مسند الإمام أحمد وسنن أبى داود ومسند الحميدى وصحيح ابن حبان وكتاب مشكل الآثار شرح مشكل الآثار للإمام الطحاوى وشرف أصحاب الحديث للإمام الخطيب البغدادى ورُوى من رواية سيدنا أبى سعيد الخدرى فى مسند الإمام أحمد رُوى من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضى الله عنهم أجمعين فى الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع للخطيب البغدادى وفى كتاب الزهد للإمام أحمد ورواه عبد بن حميد فى مسنده والبزار فى مسنده وعليه ومن رواية عبد الله بن عمرو ومن رواية أبى هريرة وأبى سعيد وجابر بن عبد الله رضى الله عنهم أجمعين
(حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج)
وهذه الجملة إخوتى الكرام تحتمل ست أمور حسان أوردها أئمتنا الكرام انظروها فى الفتح فى الجزء السادس صفحة ثمان وتسعين وأربعمائة
أولها
ولا حرج عليكم فى التحديث عنهم فقد كان فيهم العجائب
ومن التحديث عنهم فوائد كما قلت لتقرير ما تقدم من أمر توحيد الله عز وجل والأحكام العملية (حدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج)
لا حرج عليكم فى التحديث عنهم حسبما نُقل فى كتبهم حتما مما لا يدل شرعنا عل فساده وضلاله وزيغه وبطلانه وكذبه هذا لا بد من وعيه إذا ما أمر قرره شرعنا أو أشار إليه أو سكت عنه ويدخل فى دائرة الجائز الممكن الذى لا يُتصور عدمه واستحالته فلا حرج إذاً من التحديث به وإن لم يرد هذا عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
إذن ولا حرج عليكم فى أن تحدثوا
الثانى
عكس هذا المعنى ولا حرج عليكم فى ألا تحدثوا
لأن الأمر قد يفهم منه الوجوب(52/13)
وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج لا حرج عليكم فى ترك التحديث إنما الأمر مما هو جائز فإن فعلتموه لا حرج عليكم وإن تركتموه فلا حرج عليكم إن فعلتموه ففيه خير وإن تركتموه ففى شريعتنا ما يغنى عنه ولا حرج عليكم فى أن تحدثوا ولا حرج عليكم فى ألا تحدثوا لأن الأمر كما قلت قد يفهم منه الإلزام والحتم والوجوب قال ولا حرج فى ترك التحديث
والثالثة
المراد من الحرج هنا ليس يعنى ما يتعلق بموضوع الحرج فى الدين أنه يجب أو لا يجب لا إنما المراد من الحرج ضيق الصدر
وعليه لا تضيق صدوركم ولا تسترعد قلوبكم ما فى تلك القصص من أعاجيب فقد كان فيهم العجب يعنى حدثوا عنهم ولا يحصل حرج فى نفوسكم ضيق استمعان استغراب كان فيهم العجائب حقيقة كان فيهم العجائب
وقد تمنى نبينا عليه صلوات الله وسلامه لو صبر كليم الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مع العبد الصالح الخَضِر حتى يقص علينا من أمرهما العجائب والحديث إخوتى الكرام ثابت فى الصحيح تمنى لو صبر حتى يقص علينا من أمرهما العجائب وقصتهما ذكرت فى سورة الكهف إذا كان فيهم عجائب ولا حرج يعنى ما ينبغى أن يحصل فى نفوسكم حرج ضيق استغراب استبعاد استنكار عندما تنقل تلك العجائب المروية عنهم فقد كان فيهم ذلك
المعنى الرابع
ولا حرج على من يحكى أخبارهم إذا كان فيها ما يُستشنع للتحذير منها
حدثوا عنهم وأنهم قالوا كذا وفعلوا كذا مما هو يمكن أن يقع ومما هو جائز أو مما هو ممنوع حدثوا به وحذروا منه ولا حرج عليكم عندما تقولون إن اليهود قالوا إن عُزيرا ابن الله فعندما نتحدث بهذا لا حرج علينا وإن كان هذا الخبر مستشنعا نتحدث به من أجل أن نحذر منه لا حرج علينا عندما نحكى أخبارهم لنزنها بميزان الشرع
المعنى الخامس
المراد من بنى إسرائيل أولاد نبى الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه وعليه لا مانع أن نتحدث بأخبارهم حسبما ورد فى كتاب الله عز وجل(52/14)
وحسبما أشارت سورة نبى الله يوسف على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال الحافظ هذا أبعد الأقوال وفيه غرابة, المراد من بنى إسرائيل أولاد نبى الله يعقوب على نبيناو عليه الصلاة والسلام ليست أخبار هذه الأمة من أولها إلى آخرها
والمعنى السادس
يعنى هو معنى حق نقل عن سيدنا الإمام الشافعى وغيره رضى الله عنهم أجمعين قال حدثوا بما تعلمون صدقه ولا حرج عليكم فى التحديث عنهم بما تجوزونه مما لا تعلمون صدقه ولا كذبهم, ما تعلمون أنه صدق وحق حدثوا به وهذا يعنى انشروه بينكم ثم لا لتعلمون صدقه ولا كذبه, ما يوجد عندنا دليل لا على هذا ولا على هذا لكن كما قلت هو فى دائرة الإمكان فلا حرج عليكم فى التحديث به أيضا ما علمتم صدقه حدثوا به وما لم تعلموا أنتم بالخيار شئتم أن تحدثوا وإن شئتم ألا تحدثوا
الشاهد إخوتى الكرام حدثوا عن بنى إسرائيل الحكايات جند من جنود رب الأرض والسماوات يثبت الله بها المؤمنين والمؤمنات
وقد حدثنا القرآن عما جرى للأنام فى غابر الزمان وتواترت بذلك الأخبار الحسان عن نبينا عليه الصلاة والسلام وكما قلت لذلك أثر بليغ فى نفس الإنسان
استمعوا لحديثين من أحاديث كثيرة وردت فى الحديث عن أخبار من سبقنا
الحديث الأول
فى مسند الإمام أحمد والصحيحين ورواه الإمام ابن ماجة فى السنن وانظروه فى جامع الأصول فى الجزء الحادى عشر صفحة سبع وسبعين وسبعمائة عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال:
إن رجلا فى الأمم السابقة فى بنى إسرائيل اشترى من رجل عقارا (اشترى رجل من رجل عقارا والمراد من العقار هنا الزرع اشترى منه دارا) فحفر فيها فخرج له جرة ذهب فجاء المشترى إلى البائع وقال أنا اشتريت منك الدار ولم اشترِ منك الذهب فهذا مالك خذه فقال البائع انا بعتك الدار بما فيها فهذا الذهب لك لا آخذه
(يختصم البائع والمشترى هذا يقول خذ الذهب وذاك يقول هو لك كيف سآخذه ,(52/15)
وحكم المسألة لو جرت فى شريعتنا إخوتى الكرام:
لو أن الذهب يعنى لصاحب الدار وهو الذى دفنه هذا له حتما يعنى يعاد إليه ولعل ذاك لم يدفن الذهب يعنى ظاهر القصة يدل على أنه لا علم له به وأن هذا رزق ساقه الله إلى المشترى هذا كما قلت لو علم أنه لصاحب البيت هو الذى دفنه فينبغى أن يعاد إليه فى شريعتنا
وإذا كان من دفين الجاهلية فهذا ركاز والركاز لمن استخرجه ففيه الخمس زكاة وبقية الأخماس له
وإن كان هذا المال يعنى ليس من دفين الجاهلية إنما هو عليه علامات الإسلام ولا يُعلم صاحبه يعنى هذه عقار هذه دار تناوب عليها مسلمون والدفين عليه علامة الإسلام ليس هو من دفين الجاهلية فحكمه حكم اللقطة التى لا يعلم صاحبها فهو يمسكها عنده من أجل يعنى الأمانة والتعريف فإذا لم يأت صاحبها حكمها كما قلت حكم اللقطة ينتفع بها فإن عاد صاحبها فى مستقبل السنين هو مكلف بإعادتها لصاحبها
على كل حال خذ الذهب وأنا اشتريت العقار يقول أنا بعتك العقار بما فيه والذهب لك اختصما بعد ذلك إلى قاضى ذلك الزمان يعنى انظر للرعية وانظر للقضاة فى ذلك الوقت
وحقيقة الأمة إذا انحط صنف منها اعلم أن جميع الأصناف منحطة وإذا ارتقى صنف منها اعلم أن جميع الأصناف راقية ولذلك يعنى إذا نظرت إلى السوق فرأيت فيه انحطاطا فاعلم إن حال المسؤلين أشد انحطاطا وأن حال الدعاة أشد انحطاطا وأن الأمة من أولها لآخرها فى ضلال ضلال, هذا لا بد منه مترابطة ببعضها وعندما ترى الجهل فاشيا فاعلم أن حال العلماء يندى له جبين النبلاء وإذا لو كان هناك علم لحيَّتِ البلاد لكن الانحطاط كما قلت عام ولذلك عالمنا هو عالم من أجهل منه فقط ولكن إذا عُرض مع علماء سلفنا لما استطاع أن يتكلم, عالمنا عالم ممن هو أجهل منه لو وُجد الجهلة من عنده يعنى كلمتان صار من علماء الزمان فى هذه الأيام ونشكو أحوالنا إلى ربنا سبحانه وتعالى(52/16)
جاريتان إخوتى الكرام انظروا46:38فى زمن الخلافة الإسلامية العباسية جاريتان تمشيان فى عهد أبى جعفر المنصور وكل واحدة تحمل قلة ماء على رأسها وتتناظران فى الأحكام الشرعية فى موضوع الاستثناء فى اليمين هل يجوز الاستثناء فى اليمين بعد اليمين بفترة؟
ولا يجوز الاستثناء إلا إذا كان متصلا متى ما حصل انفصال إلا إذا كان لسعال أو لأمر ضرورى لكن متى ما حصل انفصال بين اليمين والاستثناء ,الاستثناء لغو واليمين انعقدت هل يجوز الاستثناء فى اليمين بعد حين بعد يوم يومين وشهر وسنة يحلف ثم يرجع ويستثنى جاريتان تبحثان فى هذه القصة ذكرت هذا فى موعظة من مواعظ الجمعة السابقة
فواحدة قالت:
لا يجوز الاستثناء فى اليمين ينبغى أن يكون الاستثناء متصلا وإلا الاستثناء يلغى قالت:
ما الدليل ما شاء الله فقيهات ويستقيان الماء كل واحدة القلة على رأسها قالت ما الدليل قالت:
كلام الله الجليل أفتى بهذه القصة أفتى فى هذه المسألة فى قصة فى كتابه انظر قصة تأخذ الحكم الشرعى من قصص قالت:
وفى أى سورة قالت:
عندما حلف نبى الله أيوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يضرب زوجته وما أخطات ولا قصرت لكن هو رضى الله عنه على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ظن أنه جرى منها تساهل فحلف أن يضربها مائة ضربة فالله جل وعلا أفتاه بحيلة شرعية ليبر فى يمينه ولئلا تعاقب زوجته فقال:
{وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} [ص/44]
والضغث هو الحزمة من الحشيش اليابس يعنى من أعواد مثلا السنبل القمح أو الشعير خذ مائة هذه ماذا تعمل لو ضربت بها عين إنسان لا يتأثر ليس يعنى يده فخذ بيدك ضغثا حشيشها مائة عودا واضرب به ولا تحنث
الشاهد لو كان الاستثناء يعلق اليمين لقال الله له استثنِ فيمينه تصبح معلقة بعد فترة ولا يلزمه أن يبر فيها إنما قال (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث)
تستنبط حكما شرعيا وتقرره من قصص قرآنى هذا رقى الأمة(52/17)
يقول الإمام الغزالى رحمة الله ورضوانه عليه فى الإحياء يذكر هذا إخوتى الكرام فى الجزء الرابع صفحة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة يقول (أكثر أسرار القرآن معبأة فى طى القصص والأخبار فكن حريصا على استنباطها لينكشف لك فيه)
أى فى القصص العجائب وانظروا شرح هذا الكلام فى إتحاف السادة المتقين للإمام الزبيدى فى الجزء التاسع صفحة ست وأربعين وستمائة
إذن اختصما إلى القاضى الأمة كلها راقية حقيقة خصومة عجيبة هذا المشترى يقول أنا اشتريت العقار ولم اشترِ ذهبا والبائع يقول بعت العقار بما فيه وهذا رزق ساقه الله إليك فليأخذ جرة الذهب ولمَ يريد أن يعيدها إليه فالقاضى حقيقة بهت من هذه الخصمومة الفاضلة الشريفة فقال ألكما ولد أى لك واحد منكما ولد وقيل وُلِد وهو جمع ولد أى وِلْد بضم الواو أو كسرها مع إسكان اللام ولد لك واحد منكما ولد لكما وُلد عندكم أولاد لكما وِلْد فقالا نعم أحدهما قال ابن والآخر قال لى جارية لى غلام ولى جارية
قال أنكحوا الجارية الغلام أنكحوا الغلام الجارية زوجوهما وادفعوا هذا المال إليهما وأنفقوا عليهما منه وتصدقوا يعنى أيضا تصدقوا على المساكين وهذا المال اجعلوه لهذين الولدين من هذين الأبوين المباركين لهذين الزوجين
حقيقة إخوتى الكرام هذه القصة يرويها لنا نبينا عليه الصلاة والسلام إخوتى الكرام كم فى هذه القصة من معانى فضيلة والأمانة وتأدية الحقوق إلى أهلها وأن الإنسان إذا اتقى الله فى النهاية يحفظه الله أيضا ما خرج المال عنه ذهب إلى ثمرة فؤاده إلى ولده وإلى ابنته وبارك الله له فى داره ورزقهما ذرية طيبة والسعادة اكتملت من جميع الجهات وحصل بعد ذلك اتصال عن طريق المصاهرة بين هاتين الأسرتين
كم فى هذه القصة من معانى عندما وُجدت الأمانة وجدت الديانة فى النفوس كم حصل لها من أثر طيب فى العاجل دون يعنى يوجه هذا على أنه افعلوا أو اتركوا قصص المعانى التى فيه تسرى فى النفس من حيث لا يشعر الإنسان(52/18)
القصة الثانية
خبر ثان يرويه لنا أيضا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو فى مسند الإمام أحمد وصحيح البخارى ورواه الإمام ابن حبان فى صحيحه أيضا عن سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه انظروه فى جامع الأصول فى الجزء العاشر صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة والأثر كما قلت مرفوع متصل من رواية سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق فى مصنفه فى الجزء الحادى عشر صفحة سبع وستين وأربعمائة عن طاووس مرسلا ولم يتصل الحديث إنما قال كان فى الأمم السابقة كذا ولفظ الحديث إخوتى الكرام عن نبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت فى رواية البخارى وغيره والحديث متصل صحيح ثابت:(52/19)
أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يقرضه ألف دينار رجل من بنى إسرائيل جاء إلى غنى من بنى إسرائيل أن يقرضه ألف دينار قال هلم بالكفيل ائت بالكفيل قال كفى بالله كفيلا قال صدقت قال هلم بالشهداء ما أحد يكفل الشهود المواثيق قال كفى بالله شهيدا قال صدقت فدفع إليه ألف دينار وحدد موعدا للقضاء فأخذ الألف دينار وذهب وكان بينهما بحر فركب سفينته وذهب إلى جهته لما حان موعد الوفاء جهز ذاك الدنانير وجاء إلى شاطىء البحر ليرى سفينة ليذهب إلى المُقرِض ليعيد إليه حقه وقد جعل الله كفيلا وشهيدا عليه فما تيسرت له سفينة فى ذلك الوقت فخاطب ربه وقال ربى طلب منى شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا طلب منى وكيلا فقلت كفى بالله وكيلا فأدِّ هذا المال إليه وأخذ جزع شجرة فنقره ووضع الدنانير فيه ووضع رسالة ويمم بعد ذلك البحر وطرح هذا الجزع فى البحر وذهب بعد ذلك إلى بيته لما حصل مركبا بعد ذلك حمل ألف دينار أخرى وجاء فذهب إلى صاحبه المقرض , المقرض إخوتى الكرام خرج فى اليوم الذى حُدد للوفاء ينتظر صاحبه أيضا على شاطىء البحر فى الجهة الثانية فما جاء لما صار المساء وما جاء أراد أن يعود إلى بيته وإذا بالأمواج تضرب جزع شجرة قال نأخذها من أجل يعنى أن تكون وقودا لنا جزع شجرة صاحبنا ما جاء لعذر شرعى ما اتهمه نأخذ هذا الجزع ولا نعود بلا فائدة فأخذه فلما ضربه تناثرت الدنانير فأخذ دنانيره وحمد الله وانتفع بهذ الجزع أيضا فعاد صاحبه بعد فترة واعتذر إليه أنه ما حصل مركبا وأخرج له الدنانير قال ما قصتك أخبرنى قال جَهْدت أن أجد مركبا فما تيسر لى فهذا دنانيرك قال اذهب فقد أدى الله عنك ما وضعته أوصله الله جل وعلا أدى الله عنك(52/20)
فى رواية قال المستقرض قال ذاك لربى وهذا لك يعنى أنا جعلت الله كفيلا وشهيدا فأنا لا أريد أن أخفر ذمة الله ولا أريد أن أغدر مع الله أنا أعطى الحق إذا أوصله لى فبها ونعمت ذاك لربى لكن من أجل أن اتحلل أمام ربى وأن لا يكون منى تقصير نحوه فأما أنت فهذه دنانيرك قال قد أدى الله عنك يعنى يقول لولم تصل لا يضر أنا فقط من أجل أن يعلم الله عذرى دفعت الألف دينار يا اشهد أننى ما قصرت وأما حق ذاك سأعيده إليه بعد حين
يا إخوتى الكرام هذه الأمثلة حقيقة ما أعظمها يقول سيدنا أبو هريرة فى القصة الأولى والثانية فلقد رأيتنا يكثر لغطنا عند رسول الله عليه الصلاة والسلام أيهما أعظم أمانة يعنى حقيقة هل البائع أو المشترى هلى المستقرض أو المقرض أيهما أعظم أمانة يعنى ذاك طرح الألف كان بإمكانه أن يقول خلص أنا لا أذهب إن وصلت وإلا أنا57:34وهذا استلم الألف ما عليه لا بينة ولا شهود بإمكانه أن يأخذ ألفا أخرى وذاك كان بإمكانه ألا يطرح حتى الألف لا يوجد كفيل ولا شهيد يا إخوتى الكرام الأمة عندما تكون فى هذا المستوى هنيئا لها هذا القصص الذى يقصه علينا نبينا عليه الصلاة والسلام كما قلت له أثر فى نفس البشر من حيث يشعرون أو لا يشعرون
ولذلك إخوتى الكرام قرر أئمة الإسلام أنه عند ذكر الصالحين تنزل رحمات أرحم الراحمين ويرضى رب العالمين
يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنه كما فى أُسد الغابة فى الجزء الرابع صفحة اثنتين وستين ومائة بسنده إلى سيدنا عبد الله بن عباس بسند الإمام ابن الأثيرفى ترجمة الخليفة الراشد سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه قال سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين:
أكثروا من ذكر عمر رضى الله عنه وأرضاه أكثروا من ذكره وأخباره فإنكم إذا ذكرتم عمر فإنما تذكرون العدل وإذا ذكرتم العدل فإنما تذكرون ربكم,(52/21)
هذا كلام سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أكثروا من ذكر عمر فإنكم إذا ذكرتم عمر فإنما تذكرون العدل , العدل الذى مشى عليه فى هذه السنين الطويلة التى زادت عن العشر سنين وهو يحكم بشريعة رب العالمين والعدل الذى وُجد فى زمنه رضى الله عنه وأرضاه حقيقة يعنى عظيم عظيم الأمة الإسلامية تتسع مساختها وهو ينام بعد ذلك فى ظل شجرة خليفة المسلمين رضى الله عنه وأرضاه حقيقة اذكروا هذا العبد الصالح إذا ذكرتموه تذكرون العدل وإذا ذكرتم العدل فإنما تذكرون ربكم هذا يقوله صحابى رضى الله عنه وأرضاه
وهكذا يقول العبد الصالح سيدنا سفيان بن عيينة رضى الله عنه وأرضاه:
كان يُقال عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة رحمة أرحم الراحمين
وهذا الأثر إخوتى الكرام عن سيدنا أبى محمد سفيان بن عيينة رواه شيخ الإسلام أبو داود فى مسائل الإمام أحمد صفحة ثلاث وثمانين ومائتين بأصح إسناد على وجه الأرض أبو داود عن شيخ الإمام أحمد عن شيخه سفيان بن عيينة هذه السلسلة أبو داود عن أحمد عن شيخه سفيان بن عيينة عند ذكر الصالحين تنزل رحمة أرحم الراحمين وأثر سفيان بن عيينة هذا مذكور فى ترجمته فى الحلية فى الجزء السابع صفحة خمس وثمانين ومائتين ورواه الإمام ابن الجوزى فى أول كتابه صفة الصفوة صفوة الصفوة فى الجزء الأول صفحة خمس وأربعين وأئمتنا تتابعوا على نسبة هذا القول إلى سيدنا سفيان بن عيينة وهو ثابت عنه انظروا المقاصد الحسنة للسخاوى عند ذكر الصالحين عند حرف العين تنزل الرحمة صفحة اثنتين وتسعين ومائتين وانظروا مختصره تمييز الطيب من الخبيث فى صفحة عشر ومائة وانظروا المصنوع فى معرفة الحديث الموضوع صفحة خمس وعشرين ومائة وانظروا الأسرار المرفوعة للشيخ على القارى صفحة خمسين وماتين وانظروا أسمى المطالب صفحة أربعين ومائة والأثر فى غير ذلك من الكتب(52/22)
وقد وَهِم الإمام الغزالى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فظن أن هذا الكلام من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام فنسبه إلى نبينا عليه الصلاة والسلام على أنه حديث مرفوع فى الإحياء فى الجزء الثانى صفحة واحدة وثلاثين ومائتين قال شيخ الإسلام الإمام أبو فضل العراقى رحمة الله ورضوانه عليه ليس له أصل فى المرفوع وإنما هو من كلام أمير المؤمنين سفيان بن عيينة رضى الله عنهم أجمعين وقال الزبيدى فى شرح الإحياء عند هذا الأثر فى الجزء السادس صفحة واحدة وخمسين وثلاثمائة قال تلميذه يعنى تلميذ أبى الفضل العراقى وهو الحافظ ابن حجر وقال تلميذه بعد أن نقل كلام العراقى أنه لا أصل له فى المرفوع قال وقال تلميذه لا أستحضره مرفوعا إنما هو من كلام سفيان بن عيينة وقد نسبه إلى سفيان الثورى الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وستين ومائة قال الإمام الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين المشهور أنه من كلام سفيان بن عيينة ولا مانع أن يصدر هذا الكلام الحكيم من هذين الحكيمين الصالحين سفيان بن عيينة وسفيان الثورى رضوان الله عليهم أجمعين
وكان أئمتنا يتمثلون بهذ الكلام ويقولونه عند ذكر أخبار الصالحين فالإمام أحمد كما نقله عن شيخه سفيان بن عيينة كان يقوله أحيانا دون أن ينسبه إلى شيخه كما فى مناقب الإمام أحمد للإمام ابن الجوزى عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه صفحة ثلاث وسبعين ومائتين قال أبو بكر المروزى ذكرت للإمام أحمد الفضيل بن عياض وعُريِّه أى زهده فى هذه الحياة وما كان عليه من عُرى وتقشف وشدة وشظف وذكرت له فتحى الموصلى وعُريه وصبره قال فتغرغرت عينا أبى عبد الله بالدمع وقال رحمهما الله كان يقال عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة(52/23)
إذن يقوله سفيان بن عيينة يقوله الثورى يتمثل به ويقوله سيدنا الإمام أحمد رضوان الله عليهم أجمعين وقد ثبت فى علوم الحديث للإمام ابن الصلاح صفحة ثمان وستين وثلاثمائة قال رُوِّينا عن أبى عمرو إسماعيل بن نجيد قال سألت أبا جعفر أحمد بن حمدان وكانا عبدين صالحين من السائل أبو عمرو إسماعيل بن نجيد سألت أبا جعفر أحمد بن حمدان:
بأى نية أكتب الحديث يعنى ماذا أنوى عندما أكتب حديث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فقال له أبو جعفر أحمد بن حمدان:
ألستم ترْوُون ألستم ترَون ألستم تُرون هذه ثلاثة أوجه من الضبط انتبهوا لها وأبين توجيهها إن شاء الله ألستم ترْوُون ترَون تُرون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة
قلت بلى
قال فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين وأكتب الحديث بهذه النية أنك ترحم عندما تكتب حديثه عليه الصلاة والسلام وعندما تذكره تتذكر حاله وما كان عليه صلوات الله وسلامه فتقتدى به وتنزل رحمة الله عليك عندما تذكر النبى عليه الصلاة والسلام:
ألستم ترْوُون ترَون تُرون أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة قلت بلى قال فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين
قال الشيخ على القارى فى الأسرار المرفوعة فى المكان المتقدم صفحة خمسين ومائتين
إن كان تروون بواوين تروون هذا يدل على أنه حديث وأنه له أصل أنتم تروون أى كأنه فهم الشيخ على القارى عن نبينا الميمون عليه الصلاة والسلام إذاً حديث وله أصل
وإن كان تَرون بمعنى تعتقدون وتعلمون تُرَون بمعنى تظنون فإذاً هذا ليس بحديث إنما أنتم ترون ذلك وأنتم تظنونه وهذا حق لا شك فيه(52/24)
أقول والعلم عند العزيز الغفور على الضبط الأول تروون لا دلالة فيه على انه حديث وأنه مرفوع لأنه يحتمل تروون عن غيركم من الصالحين ألستم تروون عن الصالحين أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ولا يشترط تروون عن نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يعنى على الاحتمالات الثلاث لا داعى أن يقال هذا من كلام النبى عليه الصلاة والسلام لأنه أئمتنا قالوا لم يثبت مرفوعا إنما هو من كلام العبد الصالح سفيان الثورى سفيان بن عيينة أئمتنا كانوا يقولونه وهو حق لا شك فيه قال ابن قدامة فى كتابه مختصر منهاج القاصدين صفحة اثنتى عشرة ومائة إن الإنسان إذا لاحظ أحوال السلف فى الزهد والتعبد احتقر نفسه واستصغر عبادته فيكون ذلك داعية إلى الاجتهاد ولهذه الدقيقة وبهذه الدقيقة يُعرف سر قول القائل عند ذكر الصالحين تنزل رحمة رب العالمين
إذن عندما نلاحظ أحوال السلف ندرس أخبارهم هذا يدعونا إلى أن نحتقر نفوسنا أن نعلم أننا مقصرون فى عبادة ربنا هذا يدفعنا بعد ذلك إلى الجد والاجتهاد فى طاعة خالقنا قال وبذلك يعلم سر قول القائل من هو ما سماه وهو معروف عند ذكر الصالحين تنزل رحمة أرحم الراحمين
وقال شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله عند أثر سيدنا سفيان فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وستين ومائة انتبه:
من قرأ فضائل الإمام مالك وفضائل الإمام الشافعى وفضائل الإمام أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين بعد فضائل الصحابة والتابعين وعُنى بها ووقف على كريم سيرهم هديهم كان له ذلك عملا زاكيا نفعنا الله بحب جميعهم
هذا كله كلام الإمام ابن عبد البر
قال سفيان الثورى عند ذكر الصاحين تنزل الرحمة(52/25)
إذن من قرأ فضائل الإمام مالك وفضائل الإمام الشافعى وفضائل الإمام أبى حنيفة ضموا إليهم الفقيه الرابع ما ذكره الإمام ابن عبد البر وهو يرى كما فى كتابه الانتقاء فى فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء أن الإمام أحمد رضى الله عنهم أجمعين يعنى عِداده من المحدثين أقوى من عداده من الفقهاء المجتهدين ولذلك ما أورده ضمن الفقهاء فى كتابه الانتقاء بدأ بالإمام مالك فمن حقه أن يبدأ بإمام مذهبه فى الانتقاء ثم ثنى بالإمام الشافعى ولا حجر فى ذلك فهو تلميذ الإمام مالك فإنه يشيد أيضا بشيخه لأن هذا من تلاميذه ثم ختم الكتاب بترجمة سيدنا أبى حنيفة ترجمة فى منتهى الإنصاف والجودة والجمال والجلالة رضى الله عنه وعن أئمتنا وما تعرض للإمام أحمد لهذا السبب, تغلب عليه الصفة الحديثية أكثر من الصفة الفقهية رضوان الله عليهم أجمعين
على كل حال إخوتى الكرام من قرأ فضائل الإمام مالك وفضائل الإمام الشافعى وفضائل الإمام أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين إذا قرأ فضائلهم بعد فضائل الصحابة والتابعين وعنى بها ووقف على كريم سيرهم وهديهم كان ذلك له عملا زاكيا انتبه لهذا الأدب نفعنا الله بحب جميعهم قال سفيان الثورى عند ذكر الصاحين تنزل رحمة أرحم الراحمين
ثم ختم الفصل بكلام سيدنا أبى داود رضى الله عنه وأرضاه قال رحم الله مالكا كان إماما رحم الله الشافعى كان إماما رحم الله أبا حنيفة كان إماما هذا ختام الفصل الذى أورده فيما يتعلق بالكلام على أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين
إذن حقيقة عند ذكرهم تنزل الرحمة
إخوتى الكرام ما المراد بالرحمة التى تنزل عند ذكرهم؟(52/26)
كنت وجهت الأثر سابقا واعترض بعض أهل السفاهة ممن همهم الاعتراض فى زمن الضلال والفساد, اعترض على هذا الأثر وقال هذا كلام كبير وما حُدد مصدر لهذا القول ما حدد مصدره يعنى هذا ينسب إلى سفيان من أين أخذ ما هو المصدر وكما ترون لم يُذكر أثر إلا ويُعزى إلى مصدره بصفحة أو بجزء وصفحة والأثر ثابت وقلت بأصح إسناد عن أبى داود عن الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة يعنى لا يوجد أعلى من هذا الإسناد أئمة فى منتهى درجات التوفيق رضى الله عنهم وأرضاهم وهم يوثقون من عداهم يروون هذا الكلام ويذكرونه ما بقى بعد هذا الثبوت ثبوت يقول ما يعلم مصدر هذا الكلام ثم قال لو سلمنا أنه قاله سفيان بن عيينة كل أحد يؤخذ من قوله ويترك فسفيان بن عيينة أخطأ والإمام أحمد أخطأ وأبو داود أخطأ, كان ماذا هم رجال ونحن رجال ونرد كلامهم لأننا على ضلالة يا رجل نسأل الله أن يعرفنا بقدر نفوسنا لنقف عن حدنا
قال افرض أنه ثيت إذاً ليس موضوع ثبت أو لا ,الموضوع هى فى النهاية لن تقبل هى لو ثبت على تعبيرك لم تقبل وهو ثابت لا يقبل
وقلت لكم إخوتى الكرام أهل البدع دائما يقفون نحو النصوص موقفين:
الموقف الأول ينازع فى الثبوت فإذا ثبت لا يسلم المعنى يعنى يأول ويخرج النص وهذا إما يرد وإما أن يأول يا عباد الله اتقوا الله فى أنفسكم كلام حق يتناقله أئمتنا يأتى نتسفه نحن فى هذا العصر على هذا الكلام
قلت معنى هذا الأثر عندما نذكر اخبار الصالحين يدل ذكرنا لهم على محبتنا إياهم أوليس كذلك؟
هذا يدعونا للاقتداء بهم هذه الحالة يحبها الله أو يكرهها؟
يحبها الله فإذا أحبها رحمنا ورضى عنا
استمع لتعليل الإمام الغزالى لهذا القول فى الإحياء فى الجزء الثالث صفحة واحدة وثلاثين ومائتين وانظروا أيضا زيادة تعليق عليه فى شرح الإحياء فى الجزء السادس صفحة واحدة وخمسين وثلاثمائة يقول الغزالى رحمة الله ورضوانه عليه وعلى المسلمين أجمعين1:15:28:(52/27)
الفقه وللوعى وللبصر والبصيرة ويكفى فى تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلا عن مشاهدته
يعنى طبع الإنسان يتغير لسماع خبر فضلا عن رؤية ذلك الأمر فى الخير أو فى الشر يكفى فى تغيير الطبع سماع الخبر يعنى قد تسمع خبرا خَيِّرا فتحسن حالك وقد تسمع خبرا سيئا فسوء حالك وتقتدى به ولذلك إخوتى الكرام جئنا يعنى بأن لا نذكر أخبار السوء وأن نقلد منها ما أمكن إلا من أجل التحذير ضمن ضوابط شرعية لأنه إذا انتشرت هذه الأخبار يخف وقعها على القلوب يخف فإذا خف وقعها بعد ذلك النفوس لا تستنكرها ولذلك يكون عندها قابلية لفعلها وكلما كان الإنسان بعيدا عن هذا كان أولى ولذلك يعنى فى وصف النساء على وجه الخصوص (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات)
غافلة فيها صفة الغفلة صفة البلاهة وهذا حقيقة من الصفات الطيبة فى المرأة هى ليس لا تفعل الشر لا تعرفه ولا تفكر فيه ولا تعلم أنه يوجد فى الأرض الزنا واتصال محرم وغناء وقلة حياء هى لا تعلم هذا فضلا عن يعنى الامتناع عنه لا هى لا تعلم هى فقط لا تمتنع هى هذا لا يدور فى ذهنها أسباب الريبة لا تخطر على بالها هذه صفة حسنة فى الإنسان بلاهة سلامة صدر وليس المراد من البلاهة العباطة لكن حقيقة نفس سليمة سليمة لا تفكر فى هذا
استمع ماذا يقول الإمام الغزالى عليه رحمة الله:
ويكفى فى تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلا عن مشاهدته وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وقلت وَهِمَ والحديث ليس مرفوعا إنما هو من كلام سلفنا سفيان بن عيينة سفيان الثورى الإمام أحمد أئمة الإسلام كلهم يتناقلون هذا على كل حال نريد توجيه فقط هذه الجملة بأى شىء سيوجهها كيف تنزل الرحمة عندما نذكر الصالحين قال:(52/28)
وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء الله وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه يعنى سبب لقاء الله سبب دخول ينزل ما هو وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص عل الاقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين
إذن مبدأ الرحمة فعل الخير مبدأ فعل الخير الرغبة مبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين فهذا معنى نزول الرحمة
والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كالمفهوم من عكسه وهو أنه عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهون على الطبع أمر المعاصى واللعنة هى البعد ومبدأ البعد من الله هو المعاصى والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع ومبدأ المعاصى سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها لكثرة السماع وإذا كان هذا حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنلك بمشاهدتهم
يعنى عندما يذكر الإنسان الصالحين تنزل الرحمة يقول المراد أسباب الرحمة لأن الذى يوصل إلى الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة فيه ومبدأ الرغبة أن تذكر أخبار من تقتدى به فى الخير وعليه عندما تذكرهم تنزل الرحمة يعنى ينزل سبب الرحمة ماذا يوصلك إلى الرحمة هذا هو الكلام وليس معناه تنزل الرحمة يعنى عندما نذكر أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه ينزل على تعبيرهم الغيث والقطر وأنه لا داعى لصلاة الاستسقاء كما يقول هؤلاء السفهاء قال
عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة يعنى ينزل المطر فلا داعى للاستسقاء وقال أنت الآن تدعو لتعطيل صلاة الاستسقاء!!!
انظر للسفاهة من السفهاء فى هذه الأيام هذا هو معنى الأثر يا إخوتى هذا معنى الأثر وهكذا عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة أى أسباب اللعنة لأن سبب اللعنة فعل المعصية ومبدأ فعل المعصية الرغبة فيها ومبدأ الرغبة ذكر أخبار الفاسقين الذى يشجعنا على فعل الفسق كما يفعلون(52/29)
وهذا إخوتى الكرام حقيقة لا بد من وعيه يقول الخبر فى أول الأمر يكفى فى تغيير الطبع مجرد سماع الخبر والشر فضلا عن مشاهدته وتقدم معنا كلام سيدنا سفيان رضى الله عنه وأرضاه ويراد منه سفيان الثورى النظر إلى وجوهكم خطيئة مكتوبة أى إلى وجوه الحكام الظلمة عندما قال هذا الكلام تقدم معنا العبد الصالح محمد بن أسلم الطوسى عندما قال لأمير زمانه علامَ تنظر وقد كان عمر بن الخطاب ينظر إلى السماء وهو وشراك نعله خير منك لعبد الله بن طاهر وهو أمير خراسان قال بلغنى عن سفيان أن النظر إلى وجوهكم خطيئة مكتوبة
فالسماع له أثر فكيف بالنظر ,هذا له أثر أكثر
ولذلك إخوتى الكرام عندما سنتدارس أخبار أئمتنا ساداتنا أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين سنرى حقيقة أخبارهم فى إخلاصهم لله واتباعهم لحبيبنا سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وسنر جدهم واجتهادهم فى طاعة الله واحتراسهم ومحاسبتهم لنفوسهم رضى الله عنهم وأرضاهم حقيقة هذا يدعونا للاقتداء بهم وهذا كما قلت من حقهم عينا يعنى عندما سنتدارس فقههم لا بد من أن نقف على أحوالهم نقرأ فقه من؟
لا بد حقيقة إخوتى الكرام من أن نعرف أخبار أئمتنا وأنا أذكر كانت عندنا مادة أعلام الإسلام فى الثانوية الشرعية حقيقة لها أثر كبير فى كل سنة يدرس مثلا قرابة عشرين علما من أعلام المسلمين فى مادة يعنى لها دروس كاملة منهج وكتاب حقيقة له بذلك أثر يعنى طالب العلم لا بد من أن يرى هذا الإسلام متجسدا فى صورة أناس عملوا به كأنه يرى الإسلام حيا فيرى الإمام ابن الجوزى يرى الإسلام يرى سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه يرى الإسلام يرى سيدنا أبا بكر يسمع أخبارهم يرى الإسلام ويسمع الإسلام(52/30)
وهكذا عندما يسمع أخبار أئمة الإسلام أخبار أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد كأنه قرأ كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لأن هذه الأفعال وهذه الأحوال هذه القصص التى تروى عنهم كلها مستسقاة من هدى الله وكتابه وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام
هذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه ولذلك إخوتى الكرام سنتدارس أخبارهم رضى الله عنهم وأرضاهم
إخوتى الكرام أئمة الإسلام كما أنه عند ذكرهم تنزل رحمة ذى الجلال والإكرام أيضا عند ذكرهم يُذكر ربنا وعند ذكر الله يذكرون فيذكرون عند ذكر الحى القيوم ويذكر ربنا جل وعلا عندما يذكر أئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين
أذكر ما يدل على ذلك على هذا الأمر من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام فى أول الموعظة الآتية ونشرع فى مدارسة فقيه الملة أول الفقهاء الأربعة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وعن أئمة المسلمين والمسلمين أجمعين نشرع كما قلت فى هذا فى الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا
اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا
اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه
اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(52/31)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
شرعنا فى مدارسة الأمر الثانى من المقدمة التى سنتدارسها قبل البدء بدروس الفقه وقلت هذه المقدمة ستدور على أمرين اثنين:
الأمر الأول مر الكلام عليه فى تعريف علم الفقه ومنزلته وفى وجوب الاحتكام إلى شريعة ذى الجلال والإكرام
والأمر الثانى كما قلت فى ترجمة موجزة لأئمتنا الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين ,قدمت للإمر الثانى إخوتى الكرام بمقدمة فى الموعظة الماضية وهى فى منزلة ذكر الصالحين فى الدين فقلت هذا لون من ألوان الدعوة إلى رب العالمين وهذا البحث كما قلت ليس من باب النافلة والاستطراد إنما ينبغى أن يعتنى به أهل الرشاد فعدا عن حق أئمتنا علينا وعدا عن تقربنا بذلك إلى ربنا عدا عن هذين الأمرين كما قلت أن النفس البشرية تستروح إلى القصة والخبر ثم بعد ذلك عندما تسمع تسرى فيها أمور الخير التى تحتويها هذه القصة من حيث لا تشعر النفس البشرية وعليه كما قلت نحن بذلك نحصل فائدة عندما نسمع أخبار أئمتنا وهذا كما قلت نشبع به الشعور النفسى الشعور الفطرى فى نفوسنا ثم بعد ذلك نهذب أنفسنا يعنى من حيث لا نشعر عندما نعلم أحوال أئمتنا وهذا يدعونا للابتداء بهم رضوان الله عليهم(53/1)
إخوتى الكرام آخر ما ذكرته فى الموعظة الماضية أنه عند ذكر الصالحين تنزل رحمات رب العالمين سبحانه وتعالى وقلت إن هذا الأثر ثابت عن أئمتنا الكرام الطيبين قاله سفيان بن عيينة وقاله سفيان الثورى وأيضا استشهد به أئمة الإسلام الإمام أحمد ومن بعده رضوان الله عليهم أجمعين
وقلت أنه كلام حق ومعتبر عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة وبينت معناه ووجهت هذا القول ونقلته كلام الإمام الغزالى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا فى توجيهه وبيان معناه وقلت إخوتى الكرام سنبدأ فى أول الموعظة بأمر يسير تكلمة للأمر الذى تدارسناه فى الموعظة الماضية ثم ندخل فى ترجمة سيدنا إبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه
هذا الأمر إخوتى الكرام الذى بقى علينا قلت كما أنه عند ذكر الصالحين تنزل رحمات رب العالمين أيضا عند ذكرهم يذكر رب العالمين سبحانه وتعالى
كما أنه عند ذكر الله يُذكر أولياء الله وقد أشار إلى ذلك نبينا رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
ثبت فى مسند الإمام أحمد والأثر رواه أبو نعيم فى الحلية والحكيم الترمذى من رواية سيدنا عمرو بن الجموح الأنصارى رضى الله عنه وأرضاه والأثر رواه الطبرانى فى معجمه الكبير عن عمرو بن الحنق فهو عن صحابين عن عمرو بن الجموح وعن عمرو بن الحنق رضى الله عنهم أجمعين
وفى إسناد الحديثين رِشدين بن سعد الإمام الصالح من بلاد مصر قال عنه الإمام الهيثمى فى المجمع فى الجزء الأول صفحة تسع وثمانين ضعيف فيه رشدين بن سعد ضعيف وإطلاق الضعف فيه يحتاج إلى شىء من التفصيل كما قال الحافظ فى التقريب قال ضعيف ورجح أبو حاتم بن لهيعة عليه رجح ابن لهيعة عليه قال وكان أى ابن رشدين وكان رجلا صالحا فى دينه لكن فأدركته غفلة الصالحين فكان يهِم ويخطىء وقد أخرج حديثه الترمذى فى السنن والإمام ابن ماجة وتوفى سنة ثمان وثمانين بعد المائة عليه رحمة الله ورضوانه
ومعنى الحديث إخوتى الكرام ثابت صحيح فى آثار كثيرة(53/2)
ولفظ الحديث عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال:
لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض فى الله فإذا أحب فى الله وأبغض فى الله استحق الولاية من الله صار وليا لله عز وجل استحق الولاية من الله, قال الله عز وجل وإن أوليائى من عبادى وأحبائى من خلقى الذين يذكرون بذكرى وأذكر بذكرهم فإذا ذكرت ذكروا فهم أوليائى وهم أحبابى وإذا ذكروا ذكرت وأنا سيدهم ومالكهم سبحانه وتعالى
إذن يذكرون بذكرى وأذكر بذكرهم والحديث كما قلت ما فى إسناده من تُكُلم فيه إلا هذا العبد الصالح الذى أخذته غفوة الصالحين رشدين بن سعد عليه رضوان رب العالمين
وهذا النعت إخوتى الكرام لأولياء الله المتقين هو المذكور أيضا فى ما أنزل على أنبياء الله السابقين على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه روى شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك فى كتاب الزهد والرقائق صفحة واحدة وسبعين والأثر فى المسند والأثر رواه الإمام أحمد فى كتاب الزهد فى صفحة أربع وسبعين وهو من أخبار أهل الكتاب السابق من أخبار نبى الله موسى على نبينا وعليه وصحبه صلوات الله وسلامه
قال نبى الله على نبينا وعليه وصحبه صلوات الله وسلامه مخاطبا ربه جل وعلا:
رب أخبرنى عن أهل الذين هم أهلك فقال المتحابون فىَّ الذين يعمُرون مساجدى بذكرى ويستغفرونى بالأسحار الذين إذا ذكرت ذكروا وإذا ذكروا ذكرت هم الذين يُنِيبون إلى طاعتى كما تنيب النسور إلى وكورها(53/3)
يرجعون إلى طاعة الله ويلازمونها كما تلازم النسور أوكارها أو بيوتها ويَكلفَون بحبى أى يتعلقون يكلفون بحبى كما يكلف الصبى بأمه ويغضبون لمحارمى إذا انتُهكت كما يغضب الليث الحَرِب أى إذا غضب وأراد أن ينتقم يغضبون لمحارمى إذا انتهكت كما يغضب الليث الحرب يُنِيبون إلى طاعتى كما تنيب النسور إلى وكورها يكلفون بحبى كما يكلف الصبى بأمه يغضبون لمحارمى إذا انتُهكت كما يغض الليث الحَرِب الأسد إذا غضب وأراد أن ينتقم حقيقة يذكر الله إذا ذكر أولياء الله ويذكر الصالحون إذا ذكر الحى القيوم ولذلك عند ذكرهم تنزل رحمة الله جل وعلا
وكما قلت إخوتى الكرام لذكرهم أثر كبير على نفوس العباد فالسعيد السعيد من وُفق لذكرهم ومحبتهم وتعلق بهم رضوان الله عليهم أجمعين
ذكر الإمام ابن الجوزى فى أول كتابه صفة الصفوة فى الجزء الأول صفحة خمس وأربعين بعد الأثر المتقدم عن سيدنا سفيان بن عيينة نقل هذا الأثر عن محمد بن يونس أنه قال:
ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين
وقال العبد الصالح خلف بن حوشب وهو من العلماء الربانيين روى له البخارى فى صحيحه تعليقا والإمام النسائى فى خصائص سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه قال:
ما رأيت للقلب أنفع من أخلاق القوم
أى ذكر أخلاق القوم أخلاق الصالحين فإذا ذكرها الإنسان كما قلت يعنى تسرى معانيها فى ذراته من حيث لا يشعر
إخوتى الكرام هذا كما قلت فى المقدمة للأمر الثانى من مقدمتنا فى دروس الفقه عندما نتدارس أخبار أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين كما قلت لذلك فوائد كثيرة أبدأ إخوتى الكرام بعد ذلك بمدارسة أول الفقهاء الأربعة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين(53/4)
إخوتى الكرام كما وعدت فى الموعظة الماضية أن مدارستنا لكل واحد من أئمتنا ستكون فى موعظة ويعلم ربى جلست اليوم وقتا طويلا لأضغط ما يتعلق بترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه يعنى ليتم الكلام عليه فى موعظة ما أظن أن الأمر سيحصل فعلى كل حال يعنى لعلنا نضاعف الأمر لتكون ترجمة كل إمام فى موعظتين لنأخذ كما يقال فكرة واضحة عن الإمام واصبروا وما صبركم إلا بالرحمن
إخوتى الكرام يعنى دراستنا للفقيه الأول رضى الله عنه وأرضاه ستقوم على أربعة أمور
سنتدارس أمرين فى هذه الموعظة فيما يتعلق بنسبه وطلبه هذا الأمر الأول والثانى فيما يتعلق بثناء العلماء عليه رضوان الله عليهم أجمعين , بقى بعد ذلك طريقته فى التفقه فى الدين وما اعتُرض على هذه الطريقة من قِبل الواهمين يأتينا الكلام على هذا فى الأمر الثالث والأمر الرابع أختم به ترجمته حاله مع الله عز وجل فى عبادته وزهده وورعه ومحاسبته لنفسه رضى الله عنه وعن أئمتنا أجمعين
فلنأخذ الأمرين كما قلت الأُوليين فى ترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه
إخوتى الكرام أما فيما يتعلق بفقيه الملة وأول الأئمة وهو الإمام الأعظم فقيه العراق والمعظم فى الآفاق أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطى على وزن موسى أو على وزن سَلمى زَوطى أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زُوطى بن زَوطى
وزَوطى قيل لقب واسم زَوطى زُوطى اسمه النعمان وعليه أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزوبان وهو فارسى الأصل رضى الله عنه وأرضاه من الفرس رضى الله عنه وأرضاه أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان والجد النعمان أو زُوطى زَوطى قيل لقب وقيل اسم ثان له والعلم عند الله جل وعلا,(53/5)
على كل حال أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزوبان وُلد سنة ثمانين وتوفى سنة خمسين بعد المائة من هجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أسلم جد وهو النعمان زُوطى زَوطى أوليس كذلك؟ أسلم جده ووُلد له ثابت وهو والد سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين ووُلد له ثابت فى عهد سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه فحمل النعمان زُوطى زَوطى ولده ثابتا إلى سيدنا على ليُبرِّك عليه ليدعو له بالبركة فقرأ عليه ودعا له ومسح عليه فنالته البركة ولذلك كان حماد ولد سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين يقول إنا لنرجو البركة التى دعا لنا بها علِى رضى الله عنهم وأرضاهم لأن والد سيدنا أبى حنيفة دعا له سيدنا علِى قرأ عليه مسح عليه وزُوطى زَوطى الذى هو النعمان أسلم ووالد سيدنا أبى حنيفة أسلم ووُلد فى الإسلام والد سيدنا أبى حنيفة وهو ثابت
والإمام أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه وُلد فى عصر النور والإسلام أيضا وقد رأى سيدنا أنس بن مالك باتفاق أئمتنا لكن اختُلف فى رؤية غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فقيل رأى ستة وقيل أكثر وقيل أقل وفى ذلك نزاع الذى يهمنا أنه رأى سيدنا أنس بن مالك بلا شك هذا باتفاق أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين
وسيدنا أنس رضى الله عنه وأرضاه كان يسكن البصرة وبها توفى, وتوفى سنة اثنتين وتسعين أو ثلاث وتسعين من هجرة نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وعليه كان عُمْر سيدنا أبى حنيفة اثنتى عشرة أو ثلاث عشرة سنة وكان سيدنا أنس كثيرا ما يأتى إلى الكوفة فرآه سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه قيل سمع منه وروى عنه وقيل رآه دون سماع
أما الرؤيا ثابتة بيقين وعليه أبو حنيفة من التابعين وهذه منقبة عظيمة جليلة لهذا الإمام الكريم العظيم لم تثبت لغيره من الأئمة الأربعة الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين(53/6)
والتابعون لهم فضل عظيم إخوتى الكرام لهم فضل عظيم فى الدين روى الإمام الترمذى فى سننه وقال هذا حديث حسن غريب والحديث رواه الإمام ابن أبى عاصم فى كتاب السنة ورواه أبو نعيم فى كتاب المعرفة معرفة الصحابة ورواه الإمام الضياء المقدسى فى الأحاديث الجياد المختارة والحديث تقدم معنا ضمن مواعظ الجمعة وقلت إنه صحيح صحيح صحيح وقد حسنه الإمام الترمذى وصححه الضياء المقدسى وصححه جم غفير من أئمتنا
ولفظ الحديث عن سيدنا جابر بن عبد الله رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
لا تمسوا النار مسلما رآنى ولا رأى من رآنى
لا تمسوا النار مسلما رآنى وهو الصحابى
ولا رأى من رآنى وهو التابعى رضوان الله عليهم أجمعين
وتقدم معنا إخوتى الكرام ما يتعلق بهذا الحديث وقلت لا ينزل عن درجة الحسن وتقدم أنه فى إسناده موسى بن إبراهيم الأنصارى رضى الله عنه وأرضاه وقلت إنه من أهل السنن الأربعة إلا سنن أبى داود فلم يروِ له الإمام أبو داود وتقدم معنا أنه صدوق مبارك ووُثق من قِبل جم غفير من أئمتنا وما ضعفه أحد
وتقدم معنا أن تشويش المشوشين على هذا الحديث قلت إخوتى الكرام تشويش باطل ويكفى فى بطلانه أنهم هم حسنوا الحديث الذى من طريق موسى بن إبراهيم الأنصارى فى رواية أخرى وهى (فيكم من يستحضرها)
أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله
فالحديث مروى بنفس الإسناد من طريق موسى بن إبراهيم الأنصارى رواه الترمذى وقال هذا حديث حسن غريب كما قال عن هذا وقال لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم الأنصارى حسن غريب والحديث رواه الإمام ابن ماجة وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى مستدركه أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله
أيضا من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضى الله عنهم أجمعين
الحديث الثانى وافقوا الترمذى فى تحسينه والحديث الأول خالفوا الترمذى فى تحسينه لمَ؟(53/7)
ما عندهم نهج مستقيم يسيرون عليه فى الدين فالإسنادان فيهما موسى بن إبراهيم وهو صدوق لا ينزل حديثه عن درجة الحسن وُثق من قِبل جم غفير من أئمتنا وما ضعفه أحد, هناك يضعف الحديث من أجل موسى بن إبراهيم لا من أجل علة أخرى وهنا انفرد بالرواية يحسن الحديث كما قلت هذا حال المعاصرين ولما كلمت بعض الإخوة الذين فعلوا هذا قال لا علم لى بذلك يحتاج الأمر إلى مراجعة مرة ثانية قلت الحديثان من طريق هذا العبد الصالح والترمذى يقول غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم وأنت هناك تحسن وهنا تضعف لمَ؟ هنا فى الحديث استغربته بعقلك بناء عليه تقول إنه ضعيف لا تمسوا النار مسلما رآنى ولا رأى من رآنى يعنى هكذا عقلك ما راق له الحديث قلت إنه ضعيف!!!
يا عبد الله ما هكذا تورد الإبل حديث صحيح كما قلت والحديثان ثابتان حسنهما الإمام الترمذى والإمام الترمذى إمام هُمام يدرى ما يخرج من رأسه
فإذا حسن لموسى بن إبراهيم سيلزم هذا التحسين وأما انظر لحال المتناقضين هنا يحسن له وهنا يضعفه وتقدم معنا مَن وقعوا فى هذا من المعاصرين وقلت إن كلامهم مردود عليهم كما يرد عليهم سائر شذوذهم الذى يقعون فيه فى هذا الحين وهذا مما يلزمنا باتباع أئمتنا المتقدمين وترك ما أحدثه من أحدثه من المتأخرين فى هذا الحين,
الحديث صحيح وهذه كما قلت منقبة عظيمة لسيدنا أبى حنيفة فهو مسلم وهوشيخ المسلمين فى زمنه وقد رأى بعض الصحابة الكرام الطيبين فهنيئا له عند رب العالمين,
لا تمسوا النار مسلما رآنى ولا رأى من رآنى
إذاً هو تابعى وأبوه كما قلت وُلد فى الإسلام وجده النعمان زُوطى زَوطى أسلم ولما أيضا وُلد له ثابت كما تقدم معنا أتى به إلى سيدنا على وكان سيدنا على يداعب النعمان زَوطى زُوطى فأهدى له مرة فالوزجا وهى نوع من الحلوى فسأله ما هذا
قال هذا يعنى كنا نأكله أيام النيروز والمِهرجان يعنى عند الفرس(53/8)
فقال نيرزون كل يوم مَهرِجون كل يوم إذا عندكم هذا الطعام الطيب هاتوا منه بكثرة سيدنا على يقول لجد سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين نيرزون كل يوم ما دام هذا الطعام كنتم تأكلونه أيام النيروز ووقت معين يحتفلون فيه يعنى عند الفرس وهكذا المِهرجان فمَهرِجون ونيرزون وهاتوا الفالوزج يعنى على الدوام باستمرار فأحضر له كما قلت ولده ثابتا فدعا له الجد أسلم والأب ولد فى الإسلام وسيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه من التابعين الكرام كما قلت رأى سيدنا أنس بن مالك رضى الله عنهم أجمعين
تحصيله للعلم وجده اجتهاده
فى ذلك لا زلنا ضمن الأمر الأول فى نسبه وتحصيله ثم فى الأمر الثانى فى ثناء العلماء عليه رضوان الله عليهم أجمعين
حقيقة إخوتى الكرام جَدَّ جدا واجتهد اجتهادا فى طلب العلم لا نظير أحصى أئمتنا شيوخ سيدنا أبى حنيفة فبلغوا أربعة آلاف شيخ تلقى العلم عن أربعة آلاف شيخ ممن؟(53/9)
من كبار التابعين رضوان الله عليهم أجمعين يعنى كما قلت الطبقة التى هو فيها هو الآن من صغار التابعين أدرك سيدنا أنس بن مالك لكن الذين تلقى العلم عنهم هؤلاء من كبار التابعين رضوان الله عليهم أجمعين عن أربعة آلاف شيخ يتلقى العلم كما فى سائر الكتب التى ترجمت ولا أريد أن أحدد يعنى كما يقال أجزاء وصفحات فى ذلك يعنى فى الخيرات الحسان فى مناقب الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان للحافظ ابن حجر الهيثمى وهو شافعى يترجم لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين وقد ألف كتابا قبل هذا فى تراجم سيدنا أبى حنيفة عندما جاء بعض المشايخ الكرام من القسطنطينية وأعطاه نسخة واحتفظ بنسخة ثم استعار منه بعض مَن يغفر الله لنا ولهم وأحيانا بعض الناس يعنى يستعير ولا يبالى فاستعار هذه النسخة وأهملها حتى ضاعت فحَزِن عليها الحافظ ابن حجر وما عنده إلا هى فى مناقب سيدنا أبى حنيفة فأراد أن يكتب كتابا آخر ثم عثر على كتاب سيدنا أبى حنيفة وهو عقود الجمان فى ترجمة الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان لمحمد بن يوسف الصالحى صاحب كتاب سبل الرشاد فى سيرة نبينا خير العباد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فاختصر المجلد الكبير وهو مطبوع أيضا فى هذا الكتاب الصغير سماه الخيرات الحسان فى مناقب الأعظم أبى حنيفة النعمان وهكذا فى الانتقاء وهكذا فى السير وهكذا فى كتب كثيرة لا تحصى فى تراجم هذا الإمام المبارك فقيه الملة رضى الله عنه وأرضاه شيوخه أربعة آلاف شيخ
وقد حلت له بشارة فى بدء طلبه فَزِع منها لكنها تبشره بكل خير حاصلها كما قلت فى سائر الكتب التى ترجمته يقول:
رأيت رؤيا أفزعتنى فى بدء طلبى رأيت كأنى أنبش قبر النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فأخرجت عظامه الطيبة المباركة الطاهرة عليه صلوات الله وسلامه(53/10)
قال فاحتنضنتها نبشت قبره عليه صلوات الله وسلامه وأخرجت العظام واحتضنتها قال فهالنى ذلك وأفزعنى فذهبت إلى محمد بن سيرين أين هو؟ فى البصرة شد رحله من أجل أن يسأله
وفى رواية عندما وصل ما استطاع أن يشافهه بالرؤيا خشية أن تكون مفزعة ومنذرة ومخيفة فلما وصل إلى البصرة كلَّف بعض إخوانه من طلبة العلم أن يسأل
فقال من صاحب الرؤيا محمد بن سيرين
قال يعنى سائل يسأل قال من هو قال أبو حنيفة فلان هذا طالب علم المبتدىء الذى سيكون له شأن إن شاء الله
قال بشره أنه يجمع أخبار النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه يجمع أخبار النبى عليه الصلاة والسلام وينشرها
قال له لتنبُشن أخبار النبى عليه الصلاة والسلام ولتحيين سنته على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
أربعة آلاف شيخ ليس فى الإمكان أن نترجم يعنى لكلهم ولا لعشرهم ولا لعشر من عشارهم سآخذ واحدا منهم فقط وهو أبرز شيوخه الذى لازمه ثمانى عشرة سنة حتى قُبض وهو سيدنا حماد بن أبى سليمان وأبو سليمان اسمه مسلم وعليه حماد بن مسلم أبو إسماعيل الكوفى فقيه صدوق إمام مبارك روى له البخارى فى الأدب المفرد والإمام مسلم فى صحيحه ورورى له أهل السنن الأربعة وتوفى سنة عشرين ومائة للهجرة يعنى قبل وفاة سيدنا أبى حنيفة بثلاثين سنة أوليس كذلك؟ لازمه ثمانى عشرة سنة احسب عشرين وعليه لازمه من سنة مائة إلى سنة مائة وعشرين أوليس كذلك يعنى لازمه الإمام أبو حنيفة عندما كان عمر أبى حنيفة عشرين سنة بقى ملازما له عشرين سنة إلى أن أكمل الأربعين عليه رضوان رب العالمين عشرين سنة يلازم شيخه حماد وما فارق حلقة حماد بن أبى سليمان له شأن عظيم
انظروا ترجمته فى السير فى الجزء الخامس صفحة واحدة وثلاثين ومائتين قال عنه الذهبى هو أحد الأذكياء كان من الكرام الأسخياء هو العلامة الإمام فقيه العراق حماد بن أبى سليمان وأبو سليمان اسمه مسلم كما قلت
من سخائه وجوده(53/11)
كان يطعم كل يوم فى رمضان خمسمائة إنسان يفطرون عنده خمسمائة فإذا صارت ليلة العيد كسى كل واحد منهم ثوبا وأعطاه مائة درهم فمائة اضربها فى خمسمائة يعنى خمسون ألفا أوليس كذلك؟
خمسون ألفا فى ذلك الوقت خمسون ألف درهم يعنى حقيقة تشترى سوقا يعطى لك واحد ثوبا ثوب العيد كسوة العيد يعطيه إياها وبعد ذلك مصاريف العيد مهما يريد أن يتوسع مائة درهم وأيام رمضان يفطرون عنده خمسمائة وحتما الذى يفطر عنده سيرسل إلى أهله يعنى ليس هو يأتى الرجل يأكل والأسرة تبقى يعنى تتشهى فهذا حال هذا العبد الصالح من الأسخياء شيخ سيدنا أبى حنيفة وأبو حنيفة تلقى العلم والجود والسخاء والنبل والفضيلة عن هذا الإمام المبارك حماد بن أبى سليمان رضى الله عنه وعن أئمة الإسلام
قال الذهبى فى السير فى ترجمة حماد وختم ترجمته بهذا الكلام صفحة ست وثلاثين ومائتين قال:
أفقه الكوفة سيدنا على وابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين وما حل الكوفة أفقه منهما أفقه الكوفة علَى وابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين قال وأفقه أصحابهما أصحاب على وابن مسعود أفقه أصحابهما علقمة بن الأسود رضى الله عنهم أجمعين وأفقه أصحاب علقمة إبراهيم النَخَعى وأفقه أصحاب إبراهيم حماد بن أبى سليمان وأفقه أصحاب حماد سيدنا أبو حنيفة النعمان وأفقه أصحاب أبى حنيفة الإمام أبو يوسف قال وفى عهد أبى يوسف انتشر أصحابه فى الآفاق وتفرقوا فى الأمصار وأفقه أصحاب أبى يوسف محمد بن الحسن وأفقه أصحاب محمد بن الحسن الإمام الشافعى رضوان الله عليهم أجمعين
خذ هذه السلسلة الإمام الشافعى عن محمد بن الحسن عن أبى يوسف عن سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين عن شيخ حماد بن أبى سليمان عن شيخ إبراهيم النخعى عن شيخ علقمة بن الأسود عن عبد الله بن مسعود وسيدنا على
إذاً ماذا تريد أعلى من هذا الإسناد(53/12)
لما اجتمع سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه بأبى جعفر المنصور ونسأل الله الرحمة للمسلمين أجمعين لكن شتان بين سيدنا أبى حنيفة وأبى حعفر المنصور شتان شتان قال:
عمن أخذت يا أبا حنيفة
قال عن أصحاب علَى وأصحاب عبد الله بن مسعود وأصحاب عمر الذين أرسلهم أيضا إلى الكوفة ليفقهوا
قال لقد تَثَبَّتَ
حقيقة إذا أخذت العلم عن التابعين الذين تلقوا عن خليفتين راشدين سيدنا عمر وسيدنا على وعن عبد الله بن مسعود إذاً ما بعد هذا التثبت تَثَبَّتَ فعلى بينة وهدى إذا كان هو إسنادك وهؤلاء هم شيوخك رضى الله عنهم وأرضاهم
إخوتى الكرام لزمه كما قلت ثمانى عشرة سنة وقد كان36:13بوالديه فى الحب والمنزلة وحفظ الود والحقوق فكان سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه يقول كما فى الكتب التى ترجمته كما قلت وأريد أن أحدث جزءا وصفحة يعنى انظروا مثلا الخيرات الحسان صفحة اثنتين وسبعين وغير ذلك,
كان يقول رضى الله عنه وأرضاه:
لا صليت صلاة إلا استغفرت لوالدى وليشخى حماد بن أبى سليمان لا أصلى صلاة إلا أدعوا لوالدى ولشيخى وحقيقة وأُمرنا أن ندعو للوالدين والشيخ له حق الذى رباك وعلمك,
(إن اشكر لى ولوالديك إلى المصير)
قال سيدنا سفيان بن عيينة رضى الله عنه:
(من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا لوالديه عقيب كل صلاة فقد شكر لوالديه إن اشكر لى ولوالديك إلى المصير)
فما صلى سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه صلاة إلا دعا لوالديه ولشيخه حماد وكان يقول:
ما مددت رجلى نحو بيتى شيخى حماد بن أبى سليمان وبينى وبينه سبع سكك سبعة طرق بينى وبينه لا أمد رجلى جهة بيت شيخى احتراما واجلالا له(53/13)
وتقدم معنا مثل هذا الأدب عن سيدنا الإمام أحمد مع الإمام الشافعى رضوان الله عليهم أجمعين وهذا هو الأدب إخوتى الكرام وقلت ينبغى أن نجعل علمنا ملحا وأدبا دقيقا والآن انعكست بل ضيعنا العلم والملح ما بقى عندنا إلا نخالة وتراب وزجاج تأتى تقول له, يقول ما الدليل على هذا!! , هذا تنطع!!
أبو حنيفة رضى الله عنه يمتنع من مد رجليه إلى جهة بيت شيخه هذا تنطع!! هاتى دليلا من الكتاب والسنة
البعيد يا قليل الأدب ,الأدب يحتاج إلى دليل؟
من مشى أمام والده فقد عقه هل هذا يحتاج إلى دليل هاتى دليلا على أنه هذا من العقوق يا عبد الله ومن نادى أباه باسمه فقط عقه هذا هو القول الكريم!!
ينبغى أن تخاطب والديك بقول كريم وقل لهما قولا كريما هذا هو القول الكريم أن تنادى أباك باسمه!!! أم هذه قلة أدب يا إخوتى الكرام هذا الأدب يحتاج إلى دليل!!
والآن كما قلت قلة أدب نعيش فيه فى هذه الأيام حقيقة لا مثيل لقلة الأدب التى نعيشها فى هذه الأيام لا مثيل لها, تراه يأخذ المصحف يطرحه على الأرض يطرح المصحف فوق الأحذية يا عبد الله اتق الله يقول هاتى دليلا!! الأدب يحتاج إلى دليل هل هذا الآن تعظيم لكلام رب العالمين والله يقول (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وهنا حقيقة إكرام لشيخه يدعو له عقيب كل صلاة ثم هذا الشيخ الذى لازمه ثمانى عشرة سنة لله حقيقة ينبغى أن تكون هذه الملازمة لها أثر, ما يمد رجليه إلى جهة شيخ بيته وبينهما سبع سكك كما هو فى ترجمة هذا الإمام المبارك رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام كما قلت الإفاضة فى أحوال شيوخه الذين تلقى عنهم يعنى يحتاج بعد ذلك إلى مواعظ كثيرة فلنقتصر عند هذا المقدار(53/14)
وعليه وُلد سنة ثمانين وهو من التابعين الطيبين وأبوه ولد فى الإسلام وجده أدرك سيدنا عليا رضى الله عنهم اجمعين وآمن وأسرة طيبة مباركة رضى الله عنهم وأرضاهم تلقى العلم عن شيوخ كثيرين وصلوا إلى أربعة آلاف أبرزهم شيخه حماد بن مسلم أبو إسماعيل رضى الله عنهم أجمعين الذى توفى سنة عشرين ومائة
ثناء العلماء عليه
عن سيدنا أبى حنيفة فقيه الملة إمام الأئمة وهو الذى يُنعت بالإمام الأعظم رضى الله عنه وأرضاه,
نقل الإمام ابن عبد البر فى كتاب جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الثانى صفحة ثلاث وستين ومائة وهكذا فى الانتقاء فى ترجمة الإمام الأول سيدنا الإمام مالك رضى الله عنهم وأرضاهم حسب ترتيب الانتقاء نقل عن سيدنا أبى داود رضى الله عنه وأرضاه أنه قال:
رحم الله أبا حنيفة كان إماما رحم الله مالكا كان إماما رحم الله الشافعى كان إماما
هذا يقوله أبو داود صاحب السنن رضى الله عنه وأرضاه رحم الله هؤلاء الأئمة كانوا أئمة والإمام إخوتى الكرام هو الفقيه المحدث الورع التقى الذى يطلق عليه إمام عند سلفنا الكرام كل واحد من هؤلاء أئمة هدى هذا يقوله سيدنا أبو داود رضى الله عنه وأرضاه
وفى الانتقاء عن العبد مِسْعر بن كدام صفحة خمس وعشرين ومائة وهو ثقة ثبت فاضل فقيه إمام مسعر بن كدام حديثه فى الكتب الستة توفى سنة ثلاث وخمسين وقيل خمس وخمسين بعد المائة يعنى بعد سيدنا أبى حنيفة بثلاث سنين أو خمس سنين مسعر بن كِدام كان يقول:
رحم الله أبا حنيفة كان فقيها عالما وهو من أقرانه وأصحابه ومن المعاصرين له وهو فى الكوفة مسعر بن كدام رحم الله أبا حنيفة كان فقيها عالما
ومسعر بن كدام كان يسميه شعبة بالمصحف كان ينعت مسعر بأنه مصحف قالوا لأنه لا يخطىء كما أن المصحف لا خطأ فيه ما عُثر على خطأ لمسعر بن كدام يسميه شعبة وشعبة شعبه يقول مسعر هذا هو المصحف مسعر بن كدام
يقول شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رضى الله عنه وأرضاه:(53/15)
من كان ملتمسا جليسا صالحا فليأت حلقة مسعر بن كدام
هذا كلام أئمة الإسلام فى أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وعليه تشويش المتأخرين صرير باب أو طنين ذباب, الأئمة الجهابذة أولو الألباب يقولون هذا عمن عاصروه ورأوه وعرفوا حاله وسبروا شأنه رحم الله أبا حنيفة كان فقيها عالما
انظروا ترجمة مسعر فى تهذيب التهذيب فى الجزء العاشر صفحة أربع عشرة ومائة وكلام شعبة فيه
ومع ذلك من باب التعليق كلمة على الهامش لأنها ستأتينا فى ترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم لما مات, غفر الله للثورى ورضى عنه غفر الله له ورضى عنه ما شهد جنازته لمَ؟ لمَ لمْ تشهد جنازته يغفر الله لنا ولك لمَ؟ يقول الصلاة ليست من الإيمان يعنى هو من المرجئة,
يا عبد الله يعنى وسعوا الصدر ما بينكم وبينه خلاف إلا فض لا داعى بعد ذلك ليعنى للشدة فى غير محلها لا داعى للشدة فى غير محلها ما شهد جنازته قال:
لأنه يقول الصلاة ليست من الإيمان
قال الإمام الذهبى فى السير فى الميزان فى الجزء الرابع صفحة تسع وتسعين قلت:
الإرجاء مذهب لجُلة من العلماء لا ينبغى التحامل على قائله
وتقدم معنا ما يتعلق بالإرجاء ضمن مواعظ سنن سيدنا الإمام الترمذى الإرجاء مذهب لجلة من العلماء لا ينبغى التحامل على قائله وعندكم فى التقريب الرواة الذين هم فى الصحيحين رُوى بإرجاء
يعنى إخوتى الكرام باختصار يقول:
(الإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان فإن أطعت الرحمن صرت من المتقين وإن عصيته فأنت من العاصين الفاسقين)
هذا حق أو باطل؟ حق(53/16)
جمهور أهل السنة يجدون يقولون الإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان انتبه وعمل بالأركان طيب نأتى للتفصيل من عمل صار من المتقين ومن لم يعمل فهو من العاصين أوليس كذلك؟ هو هو التفصيل يعنى إذا لم يعمل هو من الكافرين قالوا: لا يكفر إذا لم يعمل لا يكفر إذا ما بينكم وبين القول الأول خلاف إلا فى اللفظ ولا ينبغى دائما مشاحات اصطلاحات يقع فيها مشاحات وخصومات ونزاعات فمسعر بن كدام المصحف لا يحضر الإنسان جنازته هذا حال الثورى
إخوتى الكرام يعنى حقيقة غضب للرحمن لكن يعنى ينبغى للإنسان أن يتثبت وأن يضع الأمور فى مواضعها والله يغفر لنا وله بفضله ورحمته
مسعر بن كدام يقول عن سيدنا أبى حنيفة النعمان:
رحم الله أبا حنيفة كان فقيها عالما هذا ينقله شيخ الإسلام الإمام ابن عبد البر وغيره فى ترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين
أما الإمام الأعمش سليمان بن مهران وهو إمام الدنيا فى زمانه انتبه وهو شيخ سيدنا أبا حنيفة كما سيأتينا فى القراءة لأنه تلقى القراءة سيدنا أبى حنيفة عن الأعمش وعن عاصم الذى نقرأ بقراءته رضى الله عنهم أجمعين, أخذ القراءة عَرْضا عن عاصم وعن الإمام الأعمش ,الأعمش من شيوخه ومع ذلك من شيوخه وهو شيخ الدنيا فى زمانه فى الحديث عندما أراد أن يحج أرسل بعض تلاميذه لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين ليكتب له المناسك أبا حنيفة اكتب لى المناسك لأحج حقيقة هذا محدث لكن كيفية الحج وتركيبها هذه لا بد لها من فقيه, اكتب لى المناسك وهذا كما قلت فى سائر الكتب التى تترجم لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم وكان إذا سُأل عن مسألة الإمام الأعمش يقول:
يحسن الجواب عليها أبو حنيفة اذهبوا إليه فذاك إنسان بُورك له فى علمه
يعنى عنده علم لكن رزقه الله بركة العلم وهى الفقه يفتق هذا العلم ويستخلص منه الأحكام بُورك له فى علمه يحسن الجواب على هذا الإمام أبو حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم(53/17)
وسُئل مرة عن مسألة وأبو حنيفة بجواره وسألوا الإمام الأعمش لأنه هو شيخ أبى حنيفة
قل فيها يا نعمان
قال تُسأل أنت وأجيب أنا, السؤال إليك موجه
قال أنتم الفقهاء ونحن الصيادلة أنتم الأطباء ونحن الصيادلة
هذا يحال إليه أنتم الأطباء معشر الفقهاء ونحن الصيادلة وكثيرا ما كان يقول الإمام الأعمش لأبى حنيفة هذا فإذا سأله عن مسألة وأجاب يقول من أين لك؟
يقول مما رويتم لنا أنت شيخى فى الحديث وشيخى فى القراءة أنت الذى رويت لى هذا يقول أنتم الأطباء ونحن الصيادلة
وواقع الأمر سيدنا أبو حنيفة طبيب وصيدلى لأنه من المحدثين الكبار نعم ما صرف جهده للرواية كما صرف الإمام الأعمش هذا شأن آخر واضح يعنى حاله فى الرواية كحال سيدنا أبى بكر وعمر رضى الله عنهم أجمعين
فسيدنا أبو بكر رضى الله عنه وأرضاه ما صرف جهده للرواية لانشغاله بأمر آخر وهكذا سيدنا عمر رضى الله عنه وأرضاه وهكذا سيدنا أبو حنيفة فما تفرغ لنشر الحديث بالأسانيد والطرق والروايات ما أخذه بذل جهده فى اسنتباطه واستخلاص الأحكام منه وهذا أعلى من الرواية أما أنه محدث فهذا لا خلاف فيه ولا يوجد كتاب من كتب الحديث إلا ترجم لسيدنا أبى حنيفة كما سيأتينا فى تذكرة الحفاظ لطبقات الحفاظ ولا يوجد كتاب من كتب القراء إلى ترجموا لسيدنا أبى حنيفة هو من الأئمة القراء لا يوجد كتاب فى الفقه إلا ترجم لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه قال محدث فقيه ورع زاهد عابد ناسك لا يوجد خصلة من خصال الخير إلا وجعلها الله فيه رضى الله عنه وأرضاه,
هذا لا بد من وعيه إخوتى الكرام هو صيدلى لكن إذا كان فقيها فهذا أعلى من أن يقال عنه يعنى أنه طبيب أوليس كذلك؟ لأن الفقيه طبيب فأعلى من أن يقال عنه صيدلى إذا كان فقيها فهو طبيب فيقال عنه طبيب ولا يقال عنه صيدلانى
مما رويتم لنا فيقول أنتم الأطباء ونحن الصيادلة(53/18)
وقال الإمام ابن معين كما فى صفحة سبع وعشرين بعد المائة من كتاب الانتقاء أبو حنيفة ثقة استمع لكلام إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين رضى الله عنه وأرضاه:
أبو حنيفة ثقة ما سمعت أحدا ضعفه قال يحيى بن معين هذا شعبة يكتب إليه أبو حنيفة ويأمره أن يحدث وشعبة شعبة
يعنى أبو حنيفة يقول لشعبة حدث وانشر العلم ويأتمر شعبة بأمر أبى حنيفة يقول وشعبة شعبة يعنى هو أول من نشر علم الجرح والتعديل شعبة بن الحجاج رضى الله عنه وأرضاه فأبو حنيفة يكتب إلى شعبة يقول حدث وانشر العلم وأنت أهل لذلك فإذا كان هو يأمر المحدثين بالتحديث فى ذلك الحين فله شأن عظيم ثقة ما سمعت أحدا يضعفه هذا يقوله يحيى بن معين عليهم جميعا رحمات ورضوان رب العالمين
وكان يقول يحيى بن معين:
الفقه عندى فقه أبى حنيفة والقراءة عندى قراءة حمزة
حقيقة يعنى أعلى القراء فى الكوفة حمزة بن حبيب الزيات وأعلى الفقهاء الإمام أبو حنيفة أول الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين يقول انتبهوا الفقه عندى فقه أبى حنيفة والقراءة عندى قراءة حمزة رضى الله عنهم وأرضاهم
وقال يحيى بن معين لازلنا فى كلامه:
ما رأيت مثل وكيع (وكيع بن الجراح وهو ثقة عابد حديثه فى الكتب الستة توفى سنة سبع وتسعين بعد المائة وكيع بن الجراح إمام الأئمة) يقول ما رأيت مثل وكيع وكان يفتى برأى أبى حنيفة إذا علم بمذهب ليفتى به ولا تجاوزه ما رأيت مثل وكيع وكان يفتى برأى أبى حنيفة
وقيل لوكيع كما فى الخيرات الحسان فى مناقب الإمام الأعظم أبى حنيفة لنعمان صفحة ثلاث وأربعين
قيل له يقول بعض الناس ويزعم بعض الناس إن أبا حنيفة يخطىء أخطأ فى مسائل ويخطىء فيها فقال وكيع بن الجراح الذى يلتزم بمذهب سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين قال:
لا يقول هذا إلا من كان كالأنعام أو هو أضل سبيلا من يقول هذا , هذا يقوله من هو فى درجة الأنعام أو هو أضل منها لمَ أنت تحكم بهذا الحكم؟(53/19)
استمع لهذا التوجيه وهذا التقرير وانتبهوا لهذا التوجيه الذى ليس هى من باب تعصب لفرد أو يعنى تقديس آراء فرد يا إخوتى الكرام هذا لا بد من وعيه ثمانمائة من طلبة العلم يحيطون فى مجلس أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه ثمانمائة ومعهم كبار المحدثين كبار الفقهاء كبار الزهاد كبار العباد كبار اللغوين هذا لا بد منه فقال وكيع بن الجراح رضى الله عنهم أجمعين:
كيف يخطىء أبو حنيفة وحوله الفقهاء كأبى يوسف ومحمد بن الحسن وعَدَّدَ وكيف يخطىء أبو حنيفة وحوله المحدثون وعدد المحدثين وكيف يخطىء أبو حنيفة وحوله فى حلقته اللغوين علماء اللغة العربية وكيف يخطىء أبو حنيفة وعنده الزهاد وأهل الورع لو أخطأ لرده هؤلاء وهذا كما قلت إخوتى الكرام الفقه الجماعى وهذه هى المدرسة الفقهية هذا ليس رأى فردى إنسان جالس فى حجرة فى مكتبة جالس يرقع من هنا وهنا ويقول يبدو لى يظهر لى يا عبد الله ما يبدو يظهر لك ضعه فى جيبك بل ضعه تحت رجلك وأرحنا منك ليس يبدو لى ويظهر!!!
يا إخوتى فى زمن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين ثمانمائة من طلبة العلم فى عصر النور والبركة والسرور من فقهاء ومن محدثين ولغويين وزهاد وعباد وورعين هؤلاء كلهم فى هذا المجلس ينشر العلم ويقرر أخطأ فى اللغة رده فلان57:22يعنى كحالنا ما بين كسير وعُوير نسأل الله أن يتوب علينا, أخطأ فى الحديث رده فلان أخطأ فى الفقه رده فلان هؤلاء يعنى علماء الدنيا فى سائر الاختصاصات فى ذلك المجلس وفى تلك الحلقة فكيف سيخطىء نعم أبو حنيفة وغيره كلهم يخطؤون ويصيبون لكن كما يقال إذا كان الرأى فرديا أما إذا كان هنا جماعة فهذا إذا أخطأ رده ذاك وبعد التداول رجعوا إلى الصواب هذا لا بد من وعيه إخوتى الكرام مسائل تطرح ويتناظرون فيها ويتباحثون ثم يُقرر الحكم الشرعى بعد ذلك
ولذلك قال وكيع لا يقول هذا من كان كالأنعام أو هو أضل سبيلا لمَ؟(53/20)
لأنه خطَّأ رأى الأمة برأيه أوليس كذلك؟ وهذا هو حال الأنعام السائمة أو هو من أضل منها سترد رأى الجماعة برأيك الفردى وشتان شتان ولن ترد الآن رأيك يعنى إذا ترد رأى أبى حنيفة برأيك وقال رجل ورجل لا يا عبد الله هنا الآن مجلس جمع من جمع من سائر الاختصاصات فلا يخطِّىء هذا المجلس إلا من كان فى درجة العجماوات أو هو أضل سبيلا هذا كلام وكيع ويحيى بن معين إمام الدنيا فى الحديث يقول:
ما رأيت مثل وكيع وكان يفتى برأى أبى حنيفة
ووكيع يقول:
من قال إن أبا حنيفة أخطأ فهو كالأنعام أو أضل سبيلا
هذا حقيقة الإنصاف إخوتى الكرام ووضع الأمور فى مواضعها ويأتيك سفيه فى هذه الأيام صعلوك لا يتقن أحكام الطهارة أبو حنيفة يخطىء وثلثا المذهب الحنفى خطأ ويخرف ويهرف بما لا يعرف!!! وهو لو قلت له تعالى لنقرأ فى جزء عم نتساءل عن المفردات دعنا بعد ذلك من أحكام الآيات لما عرف المفردات ولعلكم رأيتم فى امتحان معهد الأئمة أئمة وخطباء ومدرسون جاءهم سؤال عليه أربعون درجة يعنى باقى للنجاح عشر درجات أربعون درجة كلهم مفردات فقط يعنى ما معنى عسعس ما معنى طحاها مفردات من جزء عم رسب منهم يعنى ما يقارب العشرين فى الدورة يعنى المفردات ما يعرفها هذا حال الأئمة والخطباء فكيف حال من عداهم؟ لنفوض أمرنا إلى ربنا هذا مفردات فى جزء عم فقط مفردات يعنى ما طلب شرح كلمة ولا حكمها ولا كذا سؤال كامل فى المفردات ما معنى كلمة كذا ضع كلمة فقط معناها فى اللغة(53/21)
يا إخوتى الكرام لا بد من أن نعرف قدرنا ولذلك من يخطىء كما قال سيدنا وكيع هو كالأنعام أو أضل سبيلا من يقول إن أبا حنيفة أخطأ فهذا ليس برأى فردى إنما هذا رأى له شأن إذا كان الآن الناس يشيدون بشأن المجامع الفقهية وأنها وأنها وما يخفى عليكم من الاجتماعات الرسمية فى هذه الأيام يعنى شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويمنع منها الفقراء والمجامع التى تجرى فى هذه الأيام قد يحرم ما هو أعلى ممن حضر لأنه يحصل فيها ترتيبات معينة على حسب الأمور الرسمية ومع ذلك يقولون هذا رأى مجمع فقهى1:1:30رأى متخصصين ورأى جماعة متعددين يعنى لا يرده فرد يقارب الإجماع رأى المجمع الفقهى هذا الآن أين المجمع الفقهى من مدرسة سيدنا أبى حنيفة ومن مجلس سيدنا أبى حنيفة هنا لا دخل للسلطان فى هذا المجلس لا من قريب ولا من بعيد واختصاصات من سائر كما قلت الأنواع ولا يريدون من ذلك الاجتماع إلا إرضاء رب الأرض والسماء هذا لا بد من وعيه إخوتى الكرام فذاك الاجتماع يرد والآن المجامع الفقهية تعتبر!! هذا هو الضلال المبين
وممن أثنى على سيدنا أبى حنيفة شيخ الإسلام فى زمانه وهو من تلاميذ سيدنا أبى حنيفة وهو عبد الله بن المبارك الذى اجتمعت فيه خصال الخير رضى الله عنه وأرضاه.
تكلم رجل فى سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فى مجلس وحضرة سيدنا عبد الله بن المبارك رضى الله عنهم أجمعين فقال:
اسكت يا هذا فلو رأيت أبا حنيفة لرأيت عقلا ونبلا
وكان عبد الله بن المبارك يقول:
إذا اجتمع هذان يعنى أبا حنيفة الثورى على حكم فتمسك به رضى الله عنهم أجمعين وكان يقول:
لولا أن منَّ الله علىَّ بأى حنيفة وبسفيان لكنت كسائر الناس,
فقيل له أيهما أفقه أبو حنيفة أو مالك ليس الآن سفيان الثورى أبو حنيفة أو مالك قال:
أبو حنيفة أفقه من مالك, هذا مَن يحكم به عبد الله بن المبارك رضى الله عنهم أجمعين
وكان يقول:(53/22)
عُرض الدنيا بحذافيرها على أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فأعرض عنها وزهِد فيها
أرادت الدولة الأموية كما سيأتينا فى آخر عهدها بواسطة يحيى بن هبيرة أن يولَّى القضاء أبو حنيفة فامتنع فى عهد الدولة العباسية
أراد أبو جعفر أن يوليه القضاء فامتنع فى عهد الدولة الأموية أرادوا أن يضموا إلى القضاء شيئا آخر وهو الخَتْم والختم يعنى لا يجاز حكم بقطع رقبة وتنفيذ حد إلا أن يوقع الخليفة وهو الختم بيد سيدنا أبى حنيفة, القضاء مع توقيع عن الدولة, هذا يكون بيدك وأنت المسؤول عنه فامتنع عُرض الدنيا بحذافيرها فأعرض عنها وزهِد فيها
ويقول شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رضى الله عنهم أجمعين وكان عبد الله بن المبارك يقول:
رأى أبى حنيفة عندى إذا لم أجد أثرا كالأثر
يقول نحن عندنا الحجة الكتاب والسنة, طيب ما رأينا الحكم فى كتاب وسنة يقول أنا عندى رأى أبى حنيفة كأنه حديث هذا يقوله عبد الله بن المبارك رأى أبى حنيفة عندى إذا لم أجد أثرا كالأثر, استدل بكلامه وأعول عليه إذا لم أرَ نصا فى المسألة وفى حكم شرعى يقوله شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك رضى الله عنه وأرضاه
قال الإمام ابن عبد البر فى الانتقاء الروايات كثيرة عن عبد الله بن المبارك فى فضائل أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم يقول روايات كثيرة متعددة بألون مختلفة يثنى عليه تارة يثنى عليه من جهة الفقه ومن جهة الزهد من أنه لولا أن منَّ الله عليه بأى حنيفة لما كان له شأن رأى أبى حنيفة عند عدم وجود الأثر كالأثر يقول:
الروايات عن عبد الله بن المبارك كثيرة فى فضائل أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه وهذا يقوله الإمام ابن عبد البر كما فى كتابه الانتقاء
وهكذا أثنى عليه إخوتى الكرام الأئمة الثلاثة المُكمِلون للأربع
ولنبدأ بأولهم بعد سيدنا أبى حنيفة سيدنا الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه قال:(53/23)
الإمام مالك لم أرَ مثل أبى حنيفة ولو رأيتَ أبا حنيفة (للمخاطب للإنسان) لو رأيت أبا حنيفة لرأيت رجلا لو قال لك إن هذه السارية ذهب لقام بحجته
أى من بلاغته وحسن كلامه ترتيبه وفصاحته ما رأيت مثل أبى حنيفة ولو رأيت أبا حنيفة أيها الإنسان لرأيت رجلا لو قال لك إن هذه السارية ذهب أى من ذهب لقام بحجته باستطاعته أن يعنى يدلل على صحة قوله
وهذا إخوتى الكرام كما تقدم معنا من باب المبالغة فى بيان منزلة الرجل كما قال أئمتنا لو ارتد عبد الرزاق ما تركنا حديثه والذى يرتد لا كرامة له مَن كان, لكن حاشا لسيدنا عبد الرزاق أن يرتد فأئمتنا يريدون أن يدللوا على مكانته وصدق لهجة رضى الله عنهم أجمعين لو ارتد ما تركنا حديثه وهنا يقول هذا الفصيح البليغ المِنطِيق الذى بُورك له فى علمه ما رأيت مثله لو أراد أن يدلل على أمر من المر لما أعجزه ذلك من فصاحته وبلاغته فإذا أراد أن يثبت لك إن هذه السارية من ذهب بإمكانه كما قلت لبيان منزلته فى الاحتجاج وقوة البيان رضى الله عنهم وأرضاهم
وقال سيدنا الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه وهذا متواتر عن الإمام الشافعى:
الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة
من أراد أن يتفقه فهو عيال على أبى حنيفة ,وصلنا فى زمن العيال يردون على الأئمة الكبار عيال وهذا الشافعى لا يقوله لنا والله يا إخوتى الكرام لو وُجدنا فى زمن سلفنا لرجمنا بالحجارة لكن قليلا فى حقنا فيما نستحق يقول هذا الشافعى لمن أراد أن يتفقه يعنى يقوله لنفسه ولتلاميذه الذين ملأوا الدنيا علما يقول نحن عيال على أبى حنيفة هذا ما يقوله لنا فى هذه الأيام من أراد أن يتفقه فهو عيال أيضا على أبى حنيفة الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة والكلام كما قلت متواتر عن الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه
قال الذهبى فى السير صفحة ثلاث وأربعمائة معلقا على كلام سيدنا الإمام الشافعى رضى الله عنهم أجمعين قلت:(53/24)
الإمامة فى الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام وهذا أمر لا شك فيه هذا لا يحتاج أن يرتاب فيه إنسان هذا امر لا شك فيه هذا كلام الذهبى ثم قال
وليس يصح فى الأذهان شىء إذا احتاج النهار إلى دليل
يعنى إذا أردت أن تدلل على فقه أبى حنيفة كما لو أردت أن تدلل على وجود النهار عند كون الشمس طالعة فى وسط النهار هذا جنون ما بعده جنون, شمس طالعة تريد أن تأتى ببراهين على طلوع النهار وجود النهار
وليس يصح فى الأذهان شىء إذا احتاج النهار إلى دليل
ثم قال الذهبى وسيرته تحتمل أن تفرد فى مجلدين رضى الله عنه ورحمه
إذاً الإمامة ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام هذا لا شك فيه لا نزاع فيه لا شك فيه
وقال العبد الصالح يزيد بن هارون ثقة متقن عابد حديثه فى الكتب الستة توفى سنة ست ومائتين للهجرة يزيد بن هارون كما تذكرة الحفاظ فى الجزء الأول صفحة ثمان وستين ومائة
قال عندما سُئل عن سفيان الثورى وعن أبى حنيفة النعمان فقال:
أبو حنيفة أفقه وسفيان للحديث أحفظ
وسبب إخوتى الكرام يعنى حفظ سفيان أنه تفرغ لرواية الحديث ونشره فظهر كما قلت يعنى صفة الحفظ فيه أكثر منها فى أبى حنيفة وأبو حنيفة فقيه حافظ متقن إن لم يزد على سفيان فى الحفظ لا ينقص عنه لكن ما انفرد للرواية فقط ,هذا أفقه وسفيان قال أحفظ للحديث تفرغ للحفظ وذاك تفرغ للفقه وسفيان عنده فقه وهو فقيه وإن كان فى الفقه دون سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين لكن كما قلت هذا ظهر عليه صفة الحفظ وذاك صفة الفقه هذا يقوله يزيد بن هارون عليهم جميعا رضوان الحى القيوم
وقال يزيد بن هارون كما فى التذكرة ما رأيت أحدا أورع ولا أعقل من أبى حنيفة, أبو حنيفة أفقه وما رأيت أحدا أورع ولا أعقل من أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه(53/25)
وقال الفقيه الرابع أوليس كذلك بعد مالك والشافعى رضى الله عنهم أجمعين الإمام أحمد كما فى الخيرات الحسان صفحة ست وأربعين قال: أبو حنيفة من أهل الورع والزهد وإيثار الآخرة على الدنيا وهو فى ذلك بالمحل الذى لا يدركه أحد ولقد ضُرب رحمه الله بالسياط لِيلِىَ القضاء فامتنع
وكان سيدنا الإمام أحمد يتأسى بسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين فى محنة خلق القرآن يقول ضُرب أبو حنيفة لِيلِىَ القضاء فامتنع إذاً أنا من باب أولى ان أصبر على الضرب لكن من أجل نعمة امتنع وأنا الآن من أجل فتنة من باب أولى ينبغى أن أصبر, صبر على الضرب ومع ذلك يريدون أن يعطوه نعمة فامتنع وأما أنا يريدون منى فتنة فمن باب أولى أن أصبر يتأسى به فإذا صبر ذاك يعنى على الرخاء وعلى البلاء من أجل الرخاء فمن باب أولى أن أصبر أيضا على الشدة من أجل البلاء أنا سينزل بى بلاء وفتنة فى دينى فهذا كان يقوله الإمام أحمد رضى الله عنهم وأرضاهم
إخوتى الكرام يعنى كما قلت أئمتنا قاطبة أثنوا عليه وهو محل اتفاق فى ذلك من قِبل من عاصره وأدرك أحواله رضى الله عنه وأرضاه وتلاميذه الذين لهم شأن أيضا كانوا يثنون عليه وهم أخبر الناس بأحواله وإذا كان هو يتأدب مع شيوخه فله شأن كما تقدم معنا مع شيوخه كحماد وغيره رضى الله عنهم أجمعين فتلاميذه أيضا كانوا يقومون بمثل ذلك فيفعلون مع أبى حنيفة ما كان يفعله مع شيوخه رضى الله عنهم أجمعين هذا العبد الصالح أبو يوسف رحمة الله ورضوانه عليه أكبر تلاميذه كما فى الانتقاء صفحة أربعين ومائة كان يقول:
إنى لأستغفر لوالدى ولشيخى أبى حنيفة فى دبر كل صلاة
الجزاء من جنس العمل يعنى إذا كان أبو حنيفة يستغفر لشيخه مع والديه ويدعو لشيخه مع والديه سلط الله وهيأ الله التلاميذ وهيأ الله التلاميذ أيضا لمثل هذا الخُلق الكريم فكانوا أيضا يدعون لأبى حنيفة مع أبويهم فى دبر كل صلاة
وكان أبو يوسف يقول:(53/26)
الثورى أكثر متابعة منى لأبى حنيفة الإمام الثورى رضى الله عنه كما وقف موقفاسلبيا نحو مِسعر فعلى هذا أيضا نحو أبى حنيفة واتهمه بالإرجاء كما سيأتينا فى طريقة سيدنا أبى حنيفة فى الفقه والاستنباط وماذا وُجه إلى طريقته فأيضا موضوع الإرجاء الثورى أثاره حول سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين فأبو يوسف يقول انتبهوا الثورى أتبع لأبى حنيفة منى يعنى هو يتبعه ويقلده أكثر مما أنا أستفيد منه وآخذ
وواقع الأمر إخوتى الكرام كذلك يعنى هو فى الظاهر يخالف لكن واقع لا يستغنى عن أقوال أبى حنيفة وهو أتبع لأبى حنيفة منى أنا من أكبر تلاميذه وعندكم أكبر المحدثين سيدنا البخارى أكثر الترجيحات التى رجحها فى الفقه فى صحيحه وافق فيها مذهب أبى حنيفة أكبر المحدثين شيخ أهل الحديث الترجيحات الفقهية فى الجامع الصحيح يوافق فيها الإمام أبا حنيفة
انظر مثلا من باب المثال الذى خطر على بالى يعنى فى أكثر المسائل الفقهية يوافق أبا حنيفة انظر مثلا إخراج القيمة فى صدقة الفطر رأى البخارى جائز على حسب ما قرر أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه وأورد الآثار التى استنبط منها هذا أكثر ترجيحات البخارى التى مال إليها واجتهد فيها توافق مذهب أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه طيب أنتم تقولون بعد ذلك مذهب أهل الرأى طيب هذا إمام أهل الأثر وافق أبا حنيفة ولم يوافق الأئمة الآخرين الذين تزعمون أنهم أئمة أثر وهذا إمام رأى هذا كلام باطل كلهم أئمة أثر وأئمة هدى وأئمة خير واستنباط ما سيأتينا وكما قال الإمام ابن حزم ونِعْمَ ما قال أجمع الحنفية على أن الحديث الضعيف يقدم على القياس أين أذاً الرأى أن الحديث الضعيف يقدم على القياس أما بعد ذلك قياس فيما لا يوجد نص أو استنباط فى مسألة طرأت ولا بد من نظر فيها هنا يأتى أبو حنيفة ولا يستطيع أحد أن يلحق أثره وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء(53/27)
استمع من باب التعجل لما سيأتى التمثيل عليه من باب التعجل امرأة حلف عليها زوجها بالطلاق ثلاثا كما فى الكتب التى ترجمت لسيدنا أبى حنيفة
انظروا مثلا الخيرات الحسان صفحة تسع وسبعين قال لها إذا لم تطبخ زوجته له قدرا فيه مكوك ملح ولا ينبغى أن يظهر أثر الملح فى الطعام فهى طالق ثلاثا والمكوك صاع ونصف على حسب الحنفية أربع كيلوات ونصف يعنى تضع أربع كيلوات ونصف من الملح وعلى حسب الجمهور يعنى ثلاث كيلوات ونصف, الصاع انثين كيلو إلا ربع تضع قدرا من الطعام فيه مكوك من الملح وإذا جاء ليأكل لا يجد للملح طعما فيكم من يستنبط وأئمتنا حقيقة قالوا يعنى سرعة جواب أبى حنيفة فى ذلك أعلى من فقهه عُرضت عليه المسألة بعد أن أشكلت على الفقهاء والمرأة ستطلق إذا ما طبخت هى طالق قال ما أيسرها كيف أشكل عليكم هذا قالوا وكيف قال تضع بيضا فى القدر وتلقى عليه مكوكا وزيادة من الملح وتسلق له البيض فإذا نضج البيض يأكله وليس له طعم الملح أوليس كذلك؟
يا إخوتى الكرام هذا هو الفقه وهذا هو الاستنباط وحقيقة لو جلس إنسان يفكر قد يهتدى إلى هذا الجواب فى النهاية أن هذا الطعام لن يظهر فيه أثر الملح قد لكن هذه البديهة وهذا الجواب المحكم له شأن يقول الإمام الليث بن سعد رضى الله عنه وأرضاه وهو إمام أهل مصر الليث بن سعد ثقة ثبت فقيه إمام شهور حديثه فى الكتب الستة توفى سنة خمس وسبعين بعد المائة وتقدم معنا عبد الله بن وهب أوليس كذلك عبد الله بن وهب كان يقول لولا أن الله منَّ على بمالك والليث أوليس كذلك؟ وعبد الله بن هب الذى يقول لضللت الليث بن سعد لولا أن من الله عليه بالليث وبمالك لضل عبد الله بن وهب(53/28)
على كل حال الإمام الليث بن سعد الذى له شأن عظيم رضى الله عنه كنت أسمع بأبى حنيفة هذا فى مصر وذاك فى الكوفة فاشتهيت ان أراه واتحقق من جودة ذهنه ويعنى حسن نظره رضى الله عنه وأرضاه قال فبينا أنا فى مكة رأيت الناس قد اجتمعوا على إنسان يسألونه وقالوا هذا أبو حنيفة يقول نِعْم غنيمة يعنى فى النسك رأيت أبا حنيفة فى هذه الحجة قال فاقتربت منه وهو لا يعرفنى لأسمع ماذا سيسأل وبأى شىء سيجيب فانبرى له سائل
وقال يا أبا حنيفة غننى من الأغنياء الأثرياء وعندى ابن أتعبنى إذا زوجته وتكلفت المهر وخسرت يطلق فيذهب المهر وإذا سريته اشتريت له أمة يتسرى بها يعتقها يجلس معها ليلية ويعتقها طيب ما الحل ما تستقر معه زوجة هذه يطلقها يذهب المهر وتلك يعتقها يذهب ثمنها فماذا ترى من حل شرعى لهذه القضية قال خذه واذهب به إلى سوق الإماء سوق النخاسين فأى أمة أعجبته اشترها لك ثم زوجه إياها فإن طلق تعود إليك وإن أعتق لا يصح عتقه لأنها مملوكة لك انتهى ما تخسر الآن ولا ريالا وهكذا أراد أخرى أيضا زوجه المسألة سهلة والملك لا يعود إليك قال الليث بن سعد رضى الله عنه وأرضاه يعنى أُعجبت بسرعة جوابه أكثر من إعجابى بجوابه حقيقة هذا هو الذى يستحضر الفقه أمام عينيه ويجيب بجواب محكم لا خلل فيه فى شريعة الله عز وجل حقيقة هذا فقه هذا حسن نظر أما أنه يترك الحديث ويعمل رأيه
أجمع الحنفية على أن ضعيف الحديث يقدم على القياس فكيف سيعمل بعد ذلك القياس عند وجود الأحاديث الصحيحة كما سيأتينا فى طريقته فى الفقه والاستنباط رضى الله عنه وأرضاه
إخوتى الكرام كما قلت حقيقة حب هذا الإمام من الإسلام قال الإمام الصالح أبو معاوية الضرير وهو محمد بن خازن توفى سنة خمس وتسعين ومائة حديثه فى الكتب الستة وهو الذى دعاه هارون الرشيد إلى بيته وكان أعمى رضى الله عنه وأرضاه وبعد أن طعم صب هارون الرشيد على يديه ليغسله
قال أتدرى من يصب عليك الماء(53/29)
قال أمير المؤمنين هارون
فقال أجلك الله يا أمير المؤمنين كما أجللت العلم وأهله أبو معاوية الضرير محمد بن خازن يقول:
حب أبى حنيفة من السنة كما فى السير وغيره فى الجزء السادس صفحة واحدة وأربعمائة وقال الإمام الخُرَيْبِى اضبطوها هكذا عبد الله بن داود الهندامى الخريبى ثقة روى له البخارى وأهل السنن الأربعة وقد أمسك عن الرواية فى آخر أيامه فما استطاع البخارى أن يروى عنه مباشرة إنما روى عنه بواسطة حديثه فى صحيح البخارى لكن بواسطة وإنما أمسك لما رأى أن نية الطلاب فسدت فما بدأ يحدث فما حدث حتى مات رضى الله عنه وأرضاه عبد الله بن داود الهندامى الخريبى انظروا ترجمته فى السير فى الجزء التاسع صفحة ست وأربعين وثلاثمائة
كان يقول كما فى السير:
ما يقع فى أبى حنيفة إلا جاهل أو حاسد إلا جاهل
والناس أعداء لما جهلوا أو يحسدوا هو شر الأوصاف شر الصفتين ما يقع فى أبى حنيفة إلا جاهل أو حاسد عبد الله بن داود الهندامى كما قلت الخريبى ثقة عابد حديثه فى صحيح البخارى ما يقع فى أبى حنيفة إلا جاهل أو حاسد وقيل له كما فى تذكرة الحفاظ فى الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين وثلاثمائة فى ترجمة الخريبى لا فى ترجمة أبى حنيفة قيل للخريبى يذكرون أن أبا حنيفة يرجع عن بعض أقواله يعنى أحيانا يقررون قوله ثم يرجعون قال:
سبحان الله أن الفقيه إذا اتسع علمه فعل ذلك يعنى هم قرروا ما قرروا بناء على ما بلغهم من أثر ثم رأوا ما يعارض هذا من آثار أخرى مما هو أقوى أو مما هو ناسخ أو أو العلم عند الله فرجعوا عن ذاك وقالوا بهذا قال هذا شأن الفقيه إذا اتسع علمه هذا من نبل أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه(53/30)
أما قال سيدنا عمر هو الخليفة الراشد الثانى فى المسألة المشتركة المُشرك ذاك على ما قضينا به وهذا على ما نقضى أوليس كذلك؟ وهو الخليفة الراشد الإنسان إذا اتسع علمه وتغير بعد ذلك حكمه كان ماذا يقول أنتم يعنى تنتقدون هذا من بنل أبى حنيفة الإنسان إذا اتسع علمه قد يرجع أحيانا عن بعض الأقوال التى رأى الجماعة عليها لوجود دليل أقوى بلغهم بعد ذلك رضى الله عنهم وأرضاهم والإمام الخريبى انظروا تذكرة الحفاظ فى المكان الذى ذكرته فى الجزء الأول صفحة ثمان وثلاثين وثلاثمائة يقول فيه سيدنا وكيع بن الجراح:
النظر إلى وجهه عبادة
هذا فى تذكرة الحفاظ فى ترجمة الإمام الخريبى النظر إلى وجه عبد الله بن داود الهمدانى الخريبى عبادة كما نعته الحافظ ثقة عابد من الزهاد الولياء النظر إلى وجهه عبادة
وروى عنه الإمام الخريبى المرى فى التهذيب تهذيب الكمال قال:
يجب على أهل الإسلام أن يدعو لأبى حنيفة النعمان فى صلاتهم للرحمن لأنه حفظ عليهم السنن والفقه(53/31)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
شرعنا فى مدارسة أئمة الإسلام الأئمة الفقهاء الأربعة العظام رضوان الله عليهم أجمعين وبدأت بسيدنا أبى حنيفة فقيه هذه الملة المباركة المرحومة, هذه الأمة المباركة المرحومة وهو أول الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين وقد حصلت فيه ثلاثة أمور حسان لم تحصل لبقية الفقهاء الكرام رضوان الله عليهم أجمعين:
أولها كما تقدم معنا تابعى فاز بشرف صحبة ورؤية أصحاب النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وتقدم معنا ثبوت رؤيته لسيدنا أنس بن مالك رضى الله عنهم أجمعين
الأمر الثانى إخوتى الكرام هو الذى وضع الطريقة المتبعة فى دراسة الفقه كل فقيه بعده بدءا بسيدنا الإمام مالك فمن بعده ساروا على طريقة ترتيب وتبويب سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين فى الفقه بحيث يبدأ بالعبادات بكتاب الطهارة ينتقل إلى البيوع وهكذا, هذا الترتيب الذى وضعه بهذه الصورة والشاكلة الحنفية بقيادة إمامهم سيدنا أبى حنيفة النعمان رضوان الله عليهم أجمعين(54/1)
الأمر الثالث الذى امتاز به أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هو حاله مع علماء الأمة كحال نبينا عليه الصلاة والسلام مع رسل الله الكرام فنبينا عليه الصلاة والسلام أكثر الإنبياء تابعا وسيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أكثر العلماء تابعا من هذه الأمة, مذهبه حصل له رواج وقبول وانتشار وعمل به الصالحون الأبرار فى سائر الأقطار بحيث لم تحصل تلك النسبة لأحد من أئمة الإسلام حقيقة هذه المزايا الثلاثة امتاز بها هذا الإمام المبارك رضوان الله عليهم أجمعين
قلت إخوتى الكرام سنتدارس ما يتعلق بترجمته ضمن أربعة أمور فى نسبه وطلبه العلم وهذا أمر واحد والثانى فى ثناء العلماء عليه وبيان منزلته ورتبته وفضيلته ومكانته والثالث فى طريقة تفقهه فى الدين
والرابع فى عبادته لرب العالمين سبحانه وتعالى
كنا نتدارس الأمر الثانى إخوتى الكرام فى بيان سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه حسبما قرر أئمة الإسلام أقرانه ومن جاء بعده رضوان الله عليهم أجمعين تقدم معنا آخر شىء تدارسناه أن حبه من السنة وأنه يجب على أهل الإسلام أن يدعو لسيدنا أبى حنيفة النعمان فى صلواتهم لأنه حفظ عليهم السنن والفقه وتقدم معنا أن هذا الكلام مأثور عن عدد من أئة الإسلام العظام الكبار الكرام منهم كما تقدم معنا أبو معاوية محمد بن خازن ومنهم الإمام أبو عبد الرحمن الخريبى ومنهم ومنهم كما تقدم معنا ووقفت عند هذا الأمر وسأكمل تقريره بعون الله وتوفيقه
نعم إن حب المسلمين فرض فى الدين فكيف بحب أوليائه الصالحين فكيف بحب علمائنا وساداتنا الفقهاء المتقين لا شك إن هذا من آكد الفروض وأوجب الواجبات فهم أولياء رب الأرض والسماوات فهنيئا لمن هُدى إلى محبتهم وتعطير المجالس بذكرهم وشقاء ثم شقاء لمن حُرم من محبتهم ولمن وقع فى أعراضهم نسأل الله أن يحفظنا من ذلك بمنه وكرمه أنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين,(54/2)
أولياء الله حبهم فرض حبهم واجب وتقدم معنا عند ذكرهم تنزل الرحمات وإذا ذكروا ذكر رب الأرض والسماوات كما أنه إذا ذكر الله ذكروا رضوان الله عليهم أجمعين فحب أبى حنيفة من السنة وإذا أردت أن تعرف الإنسان هل هو سنى أم لا فانظر لموقفه نحو أئمتنا وفى مقدمتهم أولهم وفقيههم وأسبقهم رضى الله عنهم أجمعين سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه
قال العبد الصالح عبد العزيز بن أبى رواد كما فى الخيرات الحسان فى مناقب سيدنا أبى حنيفة النعمان صفحة ثمان وأربعين والكلام موجود فى عقود الجمان أيضا فى مناقب سيدنا أبى حنيفة النعمان الكتاب الأول كما قلت للإمام ابن حجر الهيثمى والثانى عقود الجمان للإمام الصالحى رضوان الله عليهم أجمعين
يقول عبد العزيز بن أبى رواد وهو من أئمة الخير والصلاح صدوق عابد خرَّج له البخارى فى صحيحه تعليقا وأهل السنن الأربعة وانظروا ترجمته العطرة فى السير فى الجزء السابع صفحة أربع وثمانين ومائة وقال عنه الإمام الهيثمى فى المجمع فى الجزء الأول صفحة أربع عشرة ومائتين ثقة عبد العزيز بن أبى رواد ووالده تقدم معنا هو عبد المجيد بن أبى رواد من أهل مكة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من أئمة الإسلام الكبار عبد العزيز بن أبى رواد كان يقول من أحب أبا حنيفة فهو سنى ومن أبغضه فهو مبتدع شقى من أحب أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فهو سنى هذا على السنة ومن أبغضه فهو مبتدع شقى وكان يقول:
بيننا وبين الناس أبى حنيفة النعمان فمن أحبه وتولاه فهو على السنة ومن أبغضه وانحرف عنه فهو على البدعة
بيننا وبين الناس أبو حنيفة هذا هو الفيصل بين أهل الهدى وأهل الردى فمن أحبه هذا على السنة من أحبه من تولاه على السنة من أبغضه انحرف عنه فهو على البدعة يقول هذا كما قلت شيخ الإسلام العبد الصالح عبد العزيز بن أبى رواد رضوان الله عليهم أجمعين(54/3)
حبه كما قلت من السنة من الإيمان ولذلك إخوتى الكرام الوقيعة فيه وفى أئمة الإسلام وقيعة فى الإسلام وقد تفطن سيدنا أبو زُرعة رضى الله عنه وأرضاه لعمل الزنادقة اللئام فقال إذا رأيت أحدا ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فاعلم أنه زنديق ولا دين له لمَ؟
قال لأن القرآن حق والسنة حق والذين نقلوا لنا القرآن والسنة هم الصحابة فإذا كان الناقل لا يوثق به فما قيمة المنقول ونحن إخوتى الكرام فقه ديننا يعود إلى هؤلاء الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وقلت مرارا نصوص القرآن والسنة مع فهم الصحابة انحصر ذلك فى ما عليه الفقهاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين فإذا جئنا ووقعنا فيهم وطعنا فيهم طعنا فى الإسلام حقيقة زندقة لكن كما يقال من وراء جدار وستار يعنى لا يريد فى الإسلام مباشرة يتوصل إلى الطعن فى الإسلام عن طريق الطعن للأئمة الإسلام بدءا بسيدنا أبى حنيفة النعمان ومن بعده من الأئمة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام حقيقة الثناء على سيدنا أبى حنيفة النعمان من قِبل أئمة الإسلام لا يتسع للإحاطة به المقام فقد جمع الله فى هذا الإمام المبارك خصال الخير على التمام جمعت فى سيدنا أبى حنيفة النعمان رضى الله عنه وأرضاه وقد أثنى عليه كما تقدم معنا المحدثون والفقهاء والقراء والزهاد والعباد والأولياء رضوان الله عليهم أجمعين
قال العبد الصالح يحيى بن سعيد القطان وقوله فى تهذيب التهذيب فى الجزء العاشر صفحة خمسين وأربعمائة وهو فى السير أيضا فى الجزء السادس إخوتى الكرام فى ترجمة سيدنا أبى حنيفة فى صفحة اثنتين وأربعين وهو أيضا فى الجزء الذى ألفه الإمام الذهبى فى فضائل أبى حنيفة وصاحبيه صفحة اثنتين وثلاثين يحيى بن سعيد القطان استمع ماذا يقول:
لا يُكذب اللهَ لا نكذب الله ما سمعنا أحس رأيا من أبى حنيفة وقد أخذنا بأكثر آرائه(54/4)
لا نكذب الله لا نقول عليه الكذب لا نكذبه فهذا ولى من أوليائه وجعله حجة بين عباده لما من َّعليه من الفقه والفهم والحكمة لا نُكذِّب الله فيما اختاره لا نَكْذبه فنحن نتكلم حقا وهذا إمام مبارك نقتدى به ماذا عندك؟
قال ما سمعنا أحسن رأيا من أبى حنيفة هذا يقوله يحيى بن سعيد القطان وإنا وقد أخذنا بأكثر آرائه أكثر فقهه نحن نلتزم به وندين الله به, يقوله مَن إخوتى الكرام يحيى بن سعيد القطان
قال عنه أئمتنا ثقة متقن حافظ إمام قدوة حديثه فى الكتب الستة توفى سنة ثمان وتسعين ومائة وقال عنه الذهبى فى السير فى الجزء التاسع صفحة خمس وسبعين هو الإمام الكبير أمير المؤمنين فى الحديث ومن مناقبه أنه كان يختم القرآن كل ليلية ولا يحدث بعد الختمة بشىء فى الصباح حتى يدعو لألف من شيوخه يسميهم بأسمائهم ثم بعد ذلك يبدأ بنشر حديث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
وكان إذا جاء إلى المجلس مع أصحابه كما فى السير فى ترجمته كان بيده سُبحة يسبح بها مَن أمير المؤمنين لحديث نبينا الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
وقُرىء مرة سورة الدخان بحضرته فصعق قال سيدنا الإمام أحمد رضى الله عنه وأرضاه:
لو أن أحدا يملك نفسه ويستطيع أن يدفع الوارد إذا ورد عليه لو لملك يحيى بن سعيد القطان نفسه
يقول عليه عندما يعنى يقع هذا على مَن يقع ويصاب يعنى بصعق عندما يسمع كلام الله جل وعلا هذا ليس من باب التكلف ولو أن الإنسان يمكن أن يضبط نفسه وهذا فى وسعه لضبطه يحيى بن سعيد القطان وهذا كما قلت فى ترجمته فى كتب الجرح والتعديل لا فى كتب الأساطير يحيى بن سعيد القطان لا نَكْذب الله, لا نُكذِّب الله ما سمعنا أحسن رأيا من أبى حنيفة وإنا وقد أخذنا بأكثر آرائه
يحيى بن سعيد القطان يقول هذا فى سيدنا أبى حنيفة النعمان وتوفى هذا العبد الصالح سنة ثمان وتسعين ومائة يعنى بعد سيدنا أبى حنيفة بثمان وأربعين سنة(54/5)
انتبه لحال يحيى بن سعيد القطان قال الذهبى فى ترجمته قلت استمع هذا الكلام وعض عليه بالنواجذ قلت:
كان متعنتا فى نقد الرجال فإذا رأيته قد وثق شيخا فاعتمد عليه إذا وثق
ما بعد توثيقه توثيق انتهى يعنى هو يتشدد فى التوثيق فإذا كان يتشدد ويقول تلك الكلمة البليغة الحكيمة الجليلة العذبة الجميلة فى سيدنا أبيى حنيفة هذا مع تشدده
وعليه من قال غير ذلك فهو أحد أمرين إما جاهل أو حاسد, من قال غير ذلك الكلام فى سيدنا أبى حنيفة النعمان فهو أحد رجلين جاهل بمكانته أو حاسد لنعمة الله على عباده
يقول الذهبى قلت:
كان متعنتا فى نقد الرجال فإذا رأيته قد وثق شيخا فاعتمد عليه أما إذا ليَّن أحدا فتأنى فى أمره حتى ترى رأى غيره فيه
هذا إذا لين وهو الآن وثق أو لين؟
وثق وأبو حنيفة أعلى من يحيى بن سعيد القطان وحاشا أن نستدل على توثيق سيدنا أبى حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان بل بكلام البخارى وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين حاشا إنما فقط أذكر هذا لأبين فقط أن مكانته كما قلت مُسلَّمة رضى الله عنه وأرضاه ولنعطر بعد ذلك المجلس بذكر أقوال هؤلاء الأئمة فى هذا الإمام رضى الله عنهم وأرضاهم وإلا فأبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فى غنى عن توثيق من جاء بعده يكفى شهادة الأقران له لأنه إمام الأئمة وفقيه الفقهاء رضى الله عنهم أجمعين فلا يحصل التوثيق بكلام يحيى بن القطان إنما كما قلت لبيان أن هذا الذى نُقل فى ترجمة هذا الإمام وإلا عندنا الإمام أبو حنيفة أعلى منزلة من يحيى بن سعيد القطان وممن جاء بعده من أئمة الإسلام فلا يمكن أن يُقاس به رضى الله عنهم أجمعين ولكلٍ مقام معلوم,
هذا لا بد من وعيه إخوتى الكرام وليس هنا سيثبت توثيق سيدنا أبى حنيفة بكلام يحيى بن سعيد القطان لا إنما هو إذا كان متعنتا ووثق عض على ذلك بالنواجذ, فلو كان فى أبى حنيفة شىء يقول يحيى بن سعيد القطان هذا الكلام!!!(54/6)
وتقدم معنا كلام يحيى بن معين لأنه ثقة وما سمع فيه تجريحا وتضعيفا تقدم معنا أوليس كذلك؟ ما سمع أحدا يضعفه وعليه هذا حادث بعد ذلك لأسباب نسأل الله أن يغفر لنا وللمسلمين إنه كريم وهاب
نعم إخوتى الكرام هذه مكانة سيدنا أبى حنيفة النعمان لا نَكْذب الله لا نُكذِّب الله ما سمعنا أحسن رأيا من أبى حنيفة وقد أخذنا بأكثر آرائه واستمع لشهادة المحدثين الكبار فى زمن سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم والمقارنة بين مجالسهم ومجالس سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم بإقرار ألسنتهم فاستمع لكلامهم لا كما قلت من كتب الأساطير إنما من كتب الجرح والتعديل
هذا العبد الصالح زُهير بن معاوية ثقة ثبت حديثه فى الكتب الستة توفى سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين بعد المائة يعنى بعد أربع وعشرين سنة على أكثر تقدير بعد سيدنا أبى حنيفة عاصره وحضر مجالسه ويعرفه رضى الله عنهم أجمعين زُهير بن معاوية وُلد سنة مائة يعنى بعد سيدنا أبى حنيفة أيضا بعشرين سنة كما فى تقريب التهذيب وقال الذهبى وُلد سنة خمس وتسعين يعنى بعد سيدنا أبى حنيفة بخمس عشرة سنة زُهير بن معاوية حديثه فى الكتب الستة قال عنه الحافظ الذهبى فى السير فى الجزء الثامن صفحة واحدة وثمانين ومائة هو الإمام الحافظ المجود كان من أوعية العلم صاحب حفظ وإتقان استمع لمنقبة لزهير بن معاوية ثم اسمع لكلامه فى مجالس سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه ومجالس غيره(54/7)
حدَّث شعيب بن حرب وقد توفى سنة سبع وتسعين ومائة حديثه فى صحيح البخارى وسنن أبى داود والنسائى ثقة عابد شعيب بن حرب قال الذهبى فى ترجمته فى السير فى الجزء التاسع صفحة ثمان وثمانين ومائة هو الإمام القدوة شيخ الإسلام شهيب بن حرب حدث بحديث رواه عن اثنين من شيوخه عن زهير بن معاوية وعن شعبة بن الحجاج أبى بسطام إمام زمانه فى الجرح والتعديل وحديث نبينا عليه الصلاة والسلام حدث عن هذين الاثنين تقدم معنا ثناء شعبة على سيدنا أبى حنيفة وأمر سيدنا أبى حنيفة لشعبة بأن يحدث كما تقدم معنا وشعبة شعبة وإذا وجدت شعبة فى حديث فاشدد يدك به, حدَّث شعيب بن حرب بحديث يرويه عن شيخيه عن زهير بن معاوية وعن شعبة فقد زهير بن معاوية على شعبة قيل له زهير بن معاوية على شعبة؟
قال زهير بن معاوية أفضل من عشرين مثل شعبة
طيب ماذا يقول إذاً زهير بن معاوية فى سيدنا أبى حنيفة استمع لكلامه قال جاء رجل ليحضر مجلسه ليتلقى حديث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أين كنت قبل أن تأتينى أين كنت؟
قال فى مجلس أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه كنت عند أبى حنيفة انتهى المجلس وجئت إليك إذا زهير بن معاوية قال:
والله إن ذهابك يوما واحدا إلى مجلس أبى حنيفة أنفع لك من مجيئك إلىَّ شهرا,
مجلس واحد تجلسه عند أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أفضل من أن تأتى إلى مجلسى شهرا كاملا هذا يقوله مَن؟ من هو أفضل من شعبة بعشرين مرة زهير بن معاوية رضى الله عنهم وأرضاهم(54/8)
وحقية إخوتى الكرام لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل وابتُلينا فى هذه الأيام بأهل شطط وجَور بينهم وبين سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه ما يزيد على ألف سنة ويقعون فى عرضه قاتلهم الله أنى يؤفكون وانظر لجهابذة المحدثين وكبار شيوخ أهل العلم فى زمنه يقول أنت كنت فى مجلس أبى حنيفة وجئت إلىَّ ذهابك لمجلس أبى حنيفة أنفع لك وأفضل من ان تحضر مجلسى شهرا كاملا وزهير بن معاوية هو زهير بن معاوية رضى الله عنه وأرضاه
هذا إخوتى الكرام ثناء الأقران الذين شهدوا حياة سيدنا أبى حنيفة النعمان وليس بعد شهادة الأقران شهادة ولذلك ما حصل بعد ذلك من كلام سيأتينا جهل أو حسد ما وقف على حقيقة هذا الفقيه فقال ما قال وهو معذور لجهله أو حسده فكلامه يرد عليه لكن هذا كلام شيوخ المحدثين الكبار المتعنت كما تقدم معنا فى التوثيق والمتشدد يقول ما يقول فى سيدنا أبى حنيفة ,إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين يقول ما يقول فى سيدنا أبى حنيفة شعبة شعبة يقول ما يقول فى سيدنا أبى حنيفة زهير بن معاوية عبد الله بن المبارك هؤلاء كلهم رأوه وجلسوا عنده وحضروا مجالسه باستثناء سيدنا يحيى بن معين رضى الله عنهم أجمعين
على كل حال إخوتى الكرام هذا حالهم فى الثناء على سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه(54/9)
إخوتى الكرام كما قلت جمع الله فيه خصال الخير فهو من القرَّاء وهو من حفاظ أحاديث نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وهو أول الفقهاء وهو من كبار الأولياء فماذا تريد بعد هذه الفضائل من فضائل من القراء وتُرجم فى كتب القراء راجعوا غاية النهاية للإمام أبى الخير ابن الجزرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا غاية النهاية فى طبقات القراء فى الجزء الثانى صفحة اثنتين وأربعين وثلاثمائة عند حرف النون النعمان قال هو الإمام فقيه العراق المعظم فى الآفاق أخذ القراءة عرْضا عن الإمام الأعمش وعاصم الذى نقرأ بقراءته حفص عن عاصم ثم قال وأفرد أبو الفضل الخزاعى جزءا فى قراءة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه قال فى النفس شىء من ذلك الجزء انتبهوا ولو صح الإسناد إليه إلى سيدنا أبى حنيفة لكانت قراءته من أصح القراءات لكن هذا الإسناد حوله كلام الذى اتُهم به رجل الحسن بن زياد إذا وضع هذه القراءة على سيدنا أبى حنيفة وقيل إن الذى وضعها هو أبو الفضل الخزاعى والإمام أبو الخير ابن الجزرى برَّأ أبا الفضل الخزاعى وقال الذى وضع وهو الذى يمر الإسناد إليه الحسن بن زياد ونسبها إلى سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هو من القراء هذا مجمع وأخذ عن الأعمش وعن عاصم لكن هناك جزء فى قراءته لو صح الإسناد إليه لكانت من أصح القراءات لكن الإسناد كما قلت اتُهم به أبو الفضل الخزاعى واسمه محمد بن جعفر يلقب بركن الإسلام توفى سنة ثمان وأربعمائة كما فى غاية النهاية فى طبقات القراء فى ترجمته أما الإمام الخطيب البغدادى وبعده الإمام ابن الجوزى فى المنتظم وبعدهما الإمام ابن كثير فى البداية والنهاية فقد ذكره أنه توفى أعنى أبا الفضل الخزاعى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وفى غاية النهاية كما قلت ثمان وأربعمائة, أربعمائة وثمانية على كل حال كما فى تاريخ بغداد والمنتظم والبداية والنهاية فى حوادث سنة تسع وسبعين وثلاثمائة عُرض(54/10)
هذا الجزء والذى يقال له بجزء قراءة أبى حنيفة وفيه إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء هذه من قراءة منسوبة لسيدنا أبى حنيفة بهذا الإسناد وفيه مَلَكَ يوم الدين ملك هذا كلها لا تثبت هذه يقال عنها شاذة بإسناد موضوع (الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* ملَكَ يوم الدين) (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء) َ كما قلت قراءة لا تثبت موضوعة مزورة مكذوبة الذى اتهم فيه أبو الفضل الخزاعى أو الحسن بن زياد عُرضت على سيدنا الإمام الدارقطنى الجبل فى الحفظ والإتقان وخشية الرحمن فقال هذا الإسناد موضوع30:لكن أئمتنا يقولون هذا أو هذا والعلم عند الله جل وعلا
على كل حال من الأئمة القراء فقيه العراق الإمام فقيه العراق المعظم فى الآفاق هو من القراء وهو من الجهابذة الكبار الناقلين لحديث نبينا المختار على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ولذلك أوردت ترجمته ضمن طبقات الحفاظ, انظروا الكتاب فى طبقات الحافظ يوجد ترجمة سيدنا أبى حنيفة فى تذكرة الحفاظ للإمام الذهبى فى الجزء الأول صفحة ثمان وستين ومائة
وقال الإمام الذهبى فى هذا المكان وهذا كلامه بالحرف
هو الإمام الأعظم فقيه العراق
ثم بعد أن ذكر نسبه كما تقدم معنا النعمان بن ثابت بن زُوطى زَوطى وهو ثابت كما تقدم معنا ابن المرزوبان رضى الله عنه وأرضاه قال:
كان إماما ورعا عالما عاملا متعبدا كبير الشأن لا يقبل جوائز السلطان وكان يتجر ويأكل من كسبه رضى الله عنه وأرضاه
ثم أورد ما أورد فى ترجمته من ثناء ونقل وعن العلماء كما نقلت بعضه فى قرابة صفحة ونصف الإمام الأعظم هذا كلام الإمام الذهبى فى تذكرة الحفاظ أى لحفاظ حديث نبينا عليه الصلاة والسلام وقال فى السير فى ترجمته فى الجزء السادس صفحة تسعين وثلاثمائة:(54/11)
هو فقيه العراق عالم الآفاق استمع عُنى بطلب الآثار وهذا محل الشاهد عُنى بطلب الآثار وارتحل فى ذلك وأما الفقه والتدقيق فى الرأى وغوامضه فإليه المنتهى والناس عيال عليه فى ذلك
هو عُنى بطلب الآثار وارتحل فى تحصيل أحاديث نبينا المختار عليه الصلاة والسلام أما الفقه والبحث فى الرأى وغوامض الفقه والمسائل والدقائق هذا لا يلحقه أحد إليه المنتهى والناس عيال عليه فى ذلك هذا كلام الذهبى فى السير وهكذا أورده السيوطى فى طبقات الحفاظ صفحة ثمانين من طبقات الحفاظ وقال هو فقيه العراق وإمام أصحاب الرأى ثم نقل عن سيدنا عبد الله بن المبارك شيخ الإسلام قال:
ما رأيت فى الفقه مثله
وتقدم معنا قال:
لولا أبو حنيفة وسفيان لما كنت شيئا أوليس كذلك؟ لولا أبو حنيفة وسفيان لضعت(54/12)
فى رواية: لولا أبو حنيفة وسفيان لكنت مبتدعا33:27الأهواء لولا أن منَّ الله علىَّ بهذين الرجلين الصالحين المباركين ما رأيت فى الفقه مثله ثم نقل السيوطى عن مكى بن إبراهيم ومكى ثقة ثبت حديثه فى الكتب الستة توفى سنة خمس عشرة ومائتين عن تسعين سنة عمره عندما توفى تسعون سنة يعنى احذفها من ولادته يعنى وُلد سنة مائة وخمس وعشرين أوليس كذلك؟ يعنى عاصر سيدنا أبا حنيفة خمسا وعشرين سنة مكى بن إبراهيم حج ستين حجة وتزوج ستين امرأة ,ما جمع بينهن فى وقت واحد لعله يموتن أو يحصل طلاق والعلم عند الكريم الخلاق, حج ستين حجة وتزوج ستين امرأة وجاور فى مكة المكرمة عشر سنين قال وكتبت عن سبعة عشر تابعيا ولو أعلم أنه سيحتاج إلىَّ وأن الناس سينقلون الحديث عنى لما كتبت إى عن التابعين لكن يقول أنا فرطت يعنى كنت أكثرت من الرواية عنهم ما كنت أظن أنه سيأتى يوم وأكون فيه رأيا ويخرج حديثه فى الكتب الستة مكى بن إبراهيم رضى الله عنه وأرضاه كما قلت هذا الكلام الذى سأذكره فى طبقات الحفاظ للسيوطى وانظروا ترجمة مكى بن إبراهيم فى السير فى الجزء التاسع صفحة خمسين وخمسمائة قال مكى بن إبراهيم أبو حنيفة أعلم أهل زمانه ما رأيت فى الكوفيين أورع منه رضى الله عنه وأرضاه هذا يقوله مَن مكى بن إبراهيم من كبار المحدثين حديثه فى الكتب الستة
إذاً هم من القراء وتقدم معنا من الفقهاء ومن حفاظ حديث نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه هو من كبار الأولياء رضى الله عنه وأرضاه يُتبرك بذكر اسمه وتنزل الرحمة عند ذكره رضى الله عنه وأرضاه(54/13)
استمع لكلام أئمتنا فى تقرير هذا الأمر قال الإمام الحاكم فى كتابه معرفة علوم الحديث صفحة أربعين مائتين فى النوع التاسع والأربعين فى معرفة هذا عنوان النوع التاسع والأربعين من أنواع علوم الحديث فى كتاب معرفة علوم الحديث للإمام الحاكم صاحب المستدرك يقول النوع التاسع والأربعون فى معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب
يعنى سأورد فى هذا الباب أسماء رواة الآثار من التابعين وتابعيهم ممن يجمع حديثهم ويحتج به وينقل ويتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب ثم أورد خيار الفقهاء المحدثين فى هذا الباب فبدأ بأنصار المسلمين بمكة المكرمة بالمدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه ولما وصل إلى الكوفة عدَّدَ مَن عدَّدَ ومن ضمنهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت
إذاً هو ممن يتبرك به وبذكره وهو من العلماء الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين هذا كلام أئمتنا إخوتى الكرام وهذا كما قلت فى كتب العلم لا فى كتب التاريخ والحكايات والقصص إذاً لا يقولن قائل من أين هذا, هذا فى كتاب معرفة علوم الحديث من علماء القرن الرابع الهجرى الإمام الحاكم رضى الله عنه وأرضاه يقول هذا الكلام فى سيدنا أبى حنيفة النعمان رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام كما قلت لا يمكن أن أحصى فى هذا المقام عشر معشار ثناء أئمة الإسلام على سيدنا أبى حنيفة النعمان وهو فى غنىً عن ثناء من أثنى عليه إنما هذا كله كما قلت من باب استنزال الرحمة والتقرب إلى الله جل وعلا بذلك وأن هذا هو الذى شهد به أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين وأنه أعلى من أن يوثقه من بعده وأن يمدحه من جاء بعده رضى الله عنهم أجمعين(54/14)
من باب الإشارة العارضة فقط إلى جم غفير أثنوا عليه ووثقوه وتبركوا بذكره رضى الله عنهم أجمعين أشار إليهم الإمام ابن عبد البر حافظ الدنيا فى زمانه توفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة فى كتابه الانتقاء فى فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء فى ترجمة سيدنا أبى حنيفة صفحة سبع وثلاثين ومائة استمع ماذا يقول والإمام ابن عبد البر مالكى وابن حجر الهيثمى صاحب الخيرات الحسان فى مناقب سيدنا أبى حنيفة النعمان شافعى والإمام الصالحى صاحب كتاب سبل الهدى والرشاد وصاحب كتاب عقود الجمان فى مناقب سيدنا أبى حنيفة النعمان شافعى يعنى هذا من كلام كما يقال يعنى غير أهل مذهبه يعنى لو أثنى عليه الحنفية قد يأتى صعلوك فى هذا الزمان يقول هؤلاء ينتسبون إلى مذهبه حتما سيمدحونه استمع هذا أنقل لك مدحه من كلام المحدثين وكلام الفقهاء من غير الحنفية أما كلام الحنفية حقيقة وثناؤهم عليه ما ذكرته لا لأنه يوجد مَطعن فى ثنائهم لا ثم لا لكن هذا مفروغ منه واضح هذا يعنى هو ما تبع أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه إلا لتقديم هذا الإمام على غيره من أئمة الإسلام دون احتقار لأحد لكن هذا يرى أن أقواله أقوى وأرجح وفيه مزايا كما قلت فى أول هذه الموعظة يعنى ثلاث خصال ما وُجدت فى إمام من الأئمة الأبرار تابعى الأمر الثانى كما تقدم معنا أول من وضع الترتيب الفقهى الثالث أكثر العلماء تابعا فحاله يشبه حال النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه بين الأنبياء حال أبى حنيفة بين العلماء كحال نبينا بين الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه من رضى فليرضَ ومن لم يرضَ فليضرب رأسه فى ألف جبل واستقرىء المسلمين فى بلاد المسلمين أبو حنيفة أكثر العلماء تابعا منذ أن وُجد مذهبه إلى هذه الساعة إلى أن تقوم الساعة هذا خصلة حقيقة ومزية يحصل له من ورائها أجور لا يعلمها إلا العزيز الغفور هذه حقيقة المزايا الثلاثة ما وجد فى إمام من الأئمة وكلهم على(54/15)
العين والرأس رضوان الله عليهم أجمعين
ولذلك كما قلت نقل ما يتعلق بالثناء على سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه من المحدثين ومن المالكيين ومن الشافعيين ومن الحنابلة كما تقدم معنا رضوان الله عليهم أجمعين قال الإمام ابن عبد البر فى الانتقاء صفحة سبع وثلاثين ومائة بعد أن ذكر ما ذكر من الثناء عليه كل واحد باسمه وكيع, خالد الواصل, الفضل بن موسى, عيسى بن يونس, زهير بن معاوية, عبد الرزاق, قول الشافعى ابن جريج هذا كل واحد يعدده كما قلت فى ترجمة ويذكر أقواله وبعد ذلك الأقوال لا تنتهى استمع ماذا قال وممن انتهى إلينا ثناؤه على أبى حنيفة ومدحه له عدوا كم سيعد دون أن أذكر كلام واحد منهم وكلام هؤلاء كلهم موجود فى كتب الثناء والتراجم والجرح والتعديل فى الثناء على سيدنا أبى حنيفة بعض هؤلاء تقدم معنا بعض هؤلاء تقدم كلامهم والباقى لم يتقدم وكما قلت لن أذكر كلام واحد منهم لكن عدوا وممن انتهى إلينا ثناؤه على أبى حنيفة ومدحه له عبد الحميد بن يحيى الحمانى وإذا أردت أن أترجم لكل واحد يعنى هؤلاء الأربعون هم أربعون رجلا كما تعدون بالعد يعنى كل واحد إذا ترجم فى دقيقتين نحتاج إلى ثمانين دقيقة فيزيد على الموعد المقرر لموعظتنا لذلك من أراد أن يرجع إلى تراجمهم فتراجمهم يعنى ضمن كتب التراجم موجودة بيسر وسهولة عبد الحميد بن يحيى الحمانى ومعمر بن راشد عدوا والنضر بن محمد ويونس بن أبى إسحاق وإسرائيل بن يونس وزُفَر بن الهذير وعثمان البتى وجرير بن عبد الحميد وأبو مقاتل حفص بن مسلم وأبو يوسف القاضى وسلم بن سالم ويحيى بن آدم ويزيد بن هارون وابن أبى رزمة وهو عبد العزيز بن أبى رِزْمة ثقة فقط هذا من أجل ضبط اسمه أبى رزمة خرج حديثه الإمام أبو داود والترمذى فى السنن توفى ست ومائتين وابنه أيضا يقال له ابن أبى رزمة لكن هذا قلت عبد العزيز وابنه محمد وعليه محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة ثقة أيضا خرج له البخارى وأهل(54/16)
السنن الأربعة توفى سنة واحدة وأربعين ومائتين ووالده سنة ست ومائتين عدوا وابن أبى رزمة إذا عددت الابن مع الأب يصبح معنا اثنان يعنى العدد يصبح العدد واحدا وأربعين بإسقاط الابن العدد يكون أربعين من أئمة الإسلام وابن أبى رزمة وسعيد بن سالم القداح صار كم الآن؟ مع عد الابن أسقطوا الابن لنصل إلى أربعين وبعد ذلك الابن زيادة رضى الله عنهم وأرضاهم سعيد بن سالم القداح وشداد بن حكيم وخارجة بن مصعب وخلف بن أيوب وأبو عبد الرحمن المُقرىء ومحمد بن السائب الكلبى والحسن بن عُمارة وأبو نعيم الفضل بن ذكى والحكم بن هشام ويزيد بن زُريع وعبد الله بن داود الخُرَيبى46:50إخوتى الكرام تقدم معنا الخريبى الذى يقول إن حبه من السنة ولا يقع فيه إلا جاهل أو حاسد ومحمد بن فضيل وزكريا بن أبى زائدة وابنه يحيى بن زكريا بن أبى زائدة وزائدة بن قدامة ويحيى بن معين كم صار ثلاثون ومالك بن مغول وأبو بكر بن عياش وأبو خالد الأحمر وقيس بن الربيع وأبو عاصم النبيل وعبد الله بن موسى ومحمد بن جابر الأصمعى وشقيق البلخى وعلى بن عاصم ويحيى بن نصر استمع كل هؤلاء أثنوا عليه ومدحوه بألفاظ مختلفة هذا بعد أن ذكر من ذكر من أئمة الإسلام ونقل أقوالهم على التفصيل سيطول الأمر قال وممن انتهى إلينا ثناؤه على أبى حنيفة ومدحه له سرد أربعين أيضا من ألوف مألفة لا يعلمها إلا رب العالمين ممن أثنوا عليه ذكر أربعين منهم رضى الله عنهم وأرضاهم
ولذلك كما قلت إخوتى الكرام لا يقع فيه إلا من غضب عليه الرحمن الفارق بين أهل الهدى وأهل الردى حب أبى حنيفة حبه علامة على السنة وبغضه علامة على البدع(54/17)
وحقيقة سفهاء هذا الزمان أتباع الخوارج اللئام لا يتورعون من الوقوع فى سيدنا أبى حنيفة النعمان وبعضهم يقول على المنابر فى بعض البلدان مع الكفر البواح الذى نعيشه فى هذه الأيام يقول هذا أبو جيفة وليس بأبى حنيفة أيها المجيف المنتن كيف ستلقى الله بهذا الكلام النتَن النتِن أبو جيفة أبو حنيفة أبو جيفة
والله يا إخوتى الكرام لو وُجد من يعظم الرحمن ويغار على حرمات الإسلام لضربوه على رأسه وأقفوه عند حده أبو حنيفة أبو جيفة وأنت يا صعلوك بعد ذلك تتطاول على أئمة الإسلام لكن هذا حالنا يلعن آخر هذه الأمة أولها فقيه تابعى تقدم معنا له بشارة من النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أن النار لا تمسه ثم بعد ذلك أبو جيفة سلم منك عتاة الأرض فى هذا الوقت وما سلم من لسانك الخبيث أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هذا ما يتعلق بالجانب الثانى بثناء الأمة عليه رضوان الله عليهم أجمعين
الجانب الثالث من جوانب ترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فقهه
تواتر عن سيدنا أبى حنيفة كما فى تاريخ بغداد فى الجزء الثالث عشر صفحة ثمان وستين وثلاثمائة والانتقاء للإمام ابن عبد البر صفحة اثنتين وأربعين ومائة والخيرات الحسان لابن حجر الهيثمى صفحة واحدة وأربعين وقال رُوى هذا من طرق كثيرة عن أبى حنيفة وهو فى عقود الجمان صفحة اثنتين وسبعين ومائة وغير ذلك تواتر عن سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أنه قال:
نأخذ بكتاب الله عز وجل وهذا واجب على كل مسلم وهو فريضة علينا هذه طريقة فقهه يلخصها فى هذه الكلمات المحكمة العذبة التى تدور على أربعة امور(54/18)
فاستعموا إليها إخوتى الكرام نأخذ بكتاب الله عز وجل وما جاء عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فعلى الرأس والعين وفى رواية على الرأس والعينين نأخذ به هذا أيضا فريضة وما جاء عن الصحابة الكرام وانظر لميزة أبى حنيفة النعمان رضى الله عنه وأرضاه فى هذا الأمر الثالث وما جاء عن الصحابة الكرام تخيرنا ولا نخرج عن أقوالهم أنا ملزم بأقوالهم وإذا أحدثت قولا يخالف قول الصحابة فهذا خلاف طريقتى وأنا انحرفت عن الهدى والشافعى مع علو مقامه وتمام اتباعه لا يرى هذا, لا يرى الأخذ بأقوال الصحابة إلا إذا أجمعوا أما ما عدا ذلك يجتهد كما اجتهدوا ولا يرى أن قول الصحابى أوجب أبو حنيفة يرى أن قول الصحابى ملزم, نعم إذا اختلفوا يتخير يرى أى الأقوال أشبه بالأصول وأقوى هنا له مجال الاجتهاد يأخذ به أما أن يخرج يعنى مثلا اختلفوا لنفرض فى مسألة فى الفرائض على قولين على ثلاثة يتخير اختلفوا فى الجد أخذ بكلام سيدنا أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه وقال الجد ينزل منزلة الأب ولا يرث أخ مهما كان شأنه مع الجد هذا قضاء سيدنا أبى حنيفة يتخير إنما يعنى أن يخرج يقول: هذه الأقوال أنا لا ألتزم بها أجتهد كما اجتهدوا لا وما جاء عن الصحابة أتخير قال فإذا آل الأمر إلى التابعى طيب هو تابعى رضى الله عنهم أجمعين إلى إبراهيم النخعى والإمام الشعبى ومحمد بن سيرين والحسن البصرى وعطاء وسعيد بن المسيب وعدد رجالا إذا آلَ إلى هؤلاء فهؤلاء رجال اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا يعنى لا يلزمنى أحد بقول تابعى يقول سعيد بن المسيب قال أو الحسن البصرى قال مالى وله واضح هذا مالى وله(54/19)
كان سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه كما فى ترجمته فى سائر الكتب التى ترجمته فى الحج فجاء إنسان وسأله عن يعنى نسك من المناسك عمله فأفتاه فبعض الحاضرين شوش وقال الحسن البصرى يفتى بخلاف هذا فقال الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أخطأ الحسن والجواب ما ذكرته وهذا الحكم الشرعى فقام بعض السفهاء وما أكثرهم قال يابن الفاعلة!!! نعيذ سيدنا أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه من ذلك أنت تقول أخطأ الحسن فهجم عليه أصحابه وأرادوا يعنى أن يبطشوا به قال:
دعوه دعوه ثم نكس الإمام أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه رأسه وذكر ربه وصلى على النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ثم رفع وقال:
يا عبد الله أخطأ الحسن وأصاب عبد الله بن مسعود فيما رواه عن النبى المحمود عليه الصلاة والسلام فى هذه الحادثة وذكر له الدليل الشرعى الحسن أخطأ كان ماذا إذا أخطأ الحسن ولمَ تتهجم وهل قول الحسن ملزم؟
أقوال التابعين ليست حجة فى الفروع بإجماع أئمتنا كما قلت نحو أقوال الصحابة اختلفوا فسيدنا أبو حنيفة يقول أنا ألتزم بأقوالهم, هذه طريقته فى الفقه كتاب الله نأخذ به ما جاء فى كتاب الله نلتزم به لا خيار لنا فى ذلك وما جاء عن النبى عليه الصلاة والسلام على العين والرأس على العينين والرأس وما جاء عن الصحابة تخيرت وما جاء عن التابعين هؤلاء رجال اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا رضى الله عنهم وأرضاهم
إخوتى الكرام كما قلت هذا الكلام متواتر عن سيدنا أبى حنيفة النعمان وهذا الكلام كما قلت سار عليه معظم علماء الإسلام الأخذ بكتاب الله وبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وبالاجتهاد الذى يُعنى به القياس إلحاق فرع بأصل فى الحكم لعلة جامعة بينهما هذا هو الاجتهاد ما هو الاجتهاد؟(54/20)
أن تلحق النظير بالنظير وأن تبحث عن حكم الله الجليل فى الوقائع الحادثة بحيث تلحقها بما وقع ووُجد فيه نص هذا أيضا متفق عليه عند الأئمة وهو القياس وبعد ذلك أقوى الأدلة وهو إجماع الأمة هذا مفروغ منه الإجماع لا يكون إلا عن نص وهذا لا خيار للإنسان فيه إجماع أئمتنا حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة,
هذه الأمور الأربعة ما خرج عنها الإمام كتاب الله سنة رسوله عليه الصلاة والسلام قياس وهو الاجتهاد ثم بعد ذلك الإجماع كما قلت يعد يعنى من الأدلة المتأخرة كتاب وسنة وإجماع وقياس يأتى فى الثالثة فى الذكر وهو الأولى من حيث الاحتجاج وأخرت فى الذكر يعنى تأدبا مع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فى الذكر فيقدم القرآن تقدم السنة ذكرا ,الإجماع لا يكون إلا عن نص وهو أقوى الأدلة ثم بعد ذلك القياس هذا متفق عليه عند أئمة الإسلام قاطبة اختلفوا بعد ذلك كما يقال فى جزئيات هل قول الصحابى يستدل به أم لا؟
يزيد بعد ذلك عند قول الصحابى لو روى حديثا وخالفه هل يؤخذ بفعله أو بروايته؟
فالإمام أبو حنيفة أيضا يقدم فعله الصحابى يقول يستحيل أن يترك الصحابى ما رواه إلا إذا علم أنه منسوخ وعليه ديانته تمنعه من ترك من روى فعندما يروى الحديث ويخالفه بعمله دل على أن هذا الحديث منسوخ
وأما إذا كان الحديث كما تقدم معنا يحتمل ويحتمل والصحابى عمل بخلاف من فهم ممن جاء بعده ففهمه يقدم بالاتفاق لأن هذا من باب تعيين المراد من الحديث كما تقدم معنا فى حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى صحيح مسلم وغيره كان الطلاق على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر كان الطلاق طلاق الثلاث واحدة أوليس كذلك؟ على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر ثم بعد ذلك قال سيدنا عمر رضى الله عنه:
إن الناس تتابعوا, تتايعوا فى هذا الأمر أرى أن نمضيه عليهم أجيززهن عليهم فأوقع الطلاق الثلاث(54/21)
تقدم معنا أن عبد الله بن عباس رواى هذا الحديث تواتر عنه أنه جعل الثلاثة ثلاثة أوليس كذلك؟
فإذاً هو ممن يقول بذلك وعليه الحديث معناه كما قلت يحتمل ويحتمل ,يحتمل كما تقدم معنا كان يطلقون واحدة وأنتم تطلقون ثلاثة كما تقدم معنا وهذا قول أبى زُرعة, بقية التخريجات التى مرت معنا فى توجيه الحديث
الشاهد أن الصحابى عندما روى بيَّن لنا معنى ما روى وتعين المصير إلى قوله ولذلك تقدم معنا قول شيخنا عليه رحمة الله قال هنا عمل عبد الله بن عباس رضى الله عنه بخلاف ظاهر هذا الحديث الذى فهمه بعض الناس على حسب ما فهم قال:
يتعين المصير إليه وهذا ليس مما اختلفوا فيه
هل إذا روى الصحابى شيئا وخالفه العبرة بما روى أو بما رأى, بما روى أو بما عمل؟
قال هذا لا يرد هنا ذاك كما قلت فيما فيه مخالفة وظاهر الحديث صريحا أما إذا كان الحديث يحتمل ويحتمل وعمل الصحابى حدد وبين إحدى الاحتمالين المصير إلى قوله مُتعيِّن لأنه هو أعلم بما يروى به
على كل حال إخوتى الكرام كما قلت بقيت جزئيات يسيرة حولها نزاع هل يحتج بمذهب الصحابى هل إذا روى الصحابى الحديث عن النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ثم خالفه المخالفة قد تكون من باب الذهول والنسيان؟
حتما ليست من باب التعمد والعصيان قطعا وجزما من باب الذهول والنسيان أو من باب بلوغ النسخ له عن نبينا عليه الصلاة والسلام يحتمل هذا ويحتمل هذا
فمن قال احتمال النسخ قال العبرة بما رأى وعمل ومن قال ذهول ونسيان قال العبرة بما روى ونقل على كل حال هذا بقى فيه مجال للاجتهاد أما أنه يحتج بالقرآن ثم بسنة النبى عليه الصلاة والسلام بإجماع علماء الإسلام بالقياس الشرعى السوى هذا لا خلاف فيه بين أئمتنا وعليه ما سار عليه أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هو الذى سار عليه الأئمة الثلاثة الذين جاؤا بعده رضوان الله عليهم أجمعين(54/22)
القياس كما قلت الذى أخذ به سيدنا أبو حنيفة ونُسب إليه ونسب المذهب بكامله إليه فيقال للحنفية أهل الرأى يعنى أهل القياس طيب لو سألنا المالكية تأخذون بالقياس أم لا؟
إن قالوا لا ضلوا وإن قالوا نعم أقول علامَ تخصيص الحنفية بهذا
وإذا سألنا الشافعية تأخذون بالقياس أم لا؟
وإذا سألنا الحنابلة تأخذون بالقياس أم لا؟
ما أحد كما قلت من أئمتنا المعتبرين إلا أخذ بالقياس وأما من ألَّف كتابا فى إبطاله كالإمام ابن حزم يغفر الله لنا وله فالإمام أبو بكر بن العربى يقول:
من أنكر القياس هذا ينحط عن رتبة البشر ولذلك لا يعول على قوله فى مخالفة الإجماع لأنه ليس من عِداد بنى آدم, الذى ما عنده عقل ليقيس النظير على النظير هذا لا تعتبره من البشر
يعنى عندما يأتى ويقول لا يبولن أحدكم فى الماء الدائم الذى لا يجرى ثم يغتسل منه يقول لا يبولن تقتضى المباشرة فإذا باشر البول تنجس وإذا بال فى وعاء وصبه لا يتنجس!!!
يا عباد الله هذا كلام لا يقبل بحال واضح هذا ما هذا العلة واحدة ,العلة أن البول نجس سواء باشرت من عضوك إلى الماء أو بُلت فى وعاء وصببته هذا البول فى ذلك الماء فذاك يقول هنا فارق يبولن مباشرة وأما هنا لا يوجد مباشرة صار فاصل بال فى إناء وصبه طيب ما الفارق بين هذه وهذه؟
ولذلك من ألغى القياس حقيقة سيصل كما قلت إلى متناقضات عجيبة فإذاً أئمة الهدى يحتجون بالقياس فعلامَ نسبة المذهب ونسبة إمام المذهب إلى هذا إمام الرأى ومذهب أهل الرأى يعنى هل هم لا يحتجون بالآثار نعيذهم بالعزيز القهار من ذلك ولو كان أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه يرد الآثار ويقدم القياس عليها لكان شيطانا مريدا للعنه أئمتنا بدل من أن يثنوا عليه هل يعقل أن يثنى عليه أئمة الآثار من يحيى بن سعيد القطان ويحيى بن معين وعبد الله بن المبارك وسفيان الثورى والشافعى وأئمة الإسلام وهو يرد كلام النبى عليه الصلاة والسلام!!(54/23)
يا إخوتى الكرام هذا لا يخطر ببال إنسان فلا بد من وعى هذا ولذلك هذه النسبة تحتمل أمرين:
إن أرادوا بها الذم فقائلها هو الكريه المذموم
وإن أرادوا بها أن للحنفية شأن لا يصل إليه من بعدهم فى القياس والفهم والاستنباط فنِعم ما قالوا والأمر فى موضعه حقيقة فنعم ما قالوا فهم أهل الآثار وهم أهل الفهم والاعتبار
ولا أقول إن من عداهم لا فهم ولا اعتبار عنده لا, لكن دون فهم أبى حنيفة وهذا كما تقدم معنا من أراد أن يتفقه فهو عيال على أبى حنيفة من يقول هذا؟
الشافعى الذى حمل عن محمد بن الحسن تلميذ أبى حنيفة حما بختى حمل بعير من العلم من علم سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم هذا لا بد من وعيه
فإذاً هو حقيقة إذا أُريد يعنى إمام الرأى إمام القياس على أن له من جودة النظر ما ليس لغيره من البشر فالكلام فى محله وإذا أريد أنهم أئمة الرأى والقياس بمعنى يطرحون الآثار ويأخذون بعد ذلك بالآراء والقياس فهذا ضلال وانتكاس ولا يمكن أن يقول به الإمام أبو حنيفة ولا أتباعه رضوان الله عليهم أجمعين
كما قلت القياس إلحاق فرع بأصل فى حكم لجامع بينهما وهذا القياس حقيقة قياس سديد رشيد وما أنكره أحد من أهل الرشد من أئمتنا
نعم هناك قياس فاسد بعيد ,قياس فاسد أن تقيس الربا على البيع كما أنك تقول هنا أربح وهنا أربح كما قاس المشركون إنما البيع مثل الربا وأن تقيس الزنا على النكاح تقول هنا يحصل وهنا يحصل إيلاج وإدخال وأن تقيس الميتة التى أماتها الله على الذبيحة عندما نميتها نحن كما تقدم معنا فى منازعة المشركين للموحدين هذه أقيسة باطلة وأبو حنيفة أبعد الناس عنها
استمع لمقولة لسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه ينبغى أن تنقش على القلوب يقول كما فى السير فى الجزء السادس صفحة واحدة وأربعمائة وفى ترجمة الجزء الذى فى ترجمة أبى حنيفة للذهبى صفحة أربع وثلاثين قال أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه:(54/24)
البول فى المجلس أحسن من بعض أنواع القياس
يعنى لوجاء الإنسان وبال فى المسجد تغوط فى المسجد أحسن من أن يفعل ويقول ويعمل بعض الأقيسة التى يلجأ إليها المبتدعة البول فى المسجد أيسر وأحسن وأخف من بعض أنواع القياس
حقيقة هذا هو القياس المذموم الذى يقول فيه من يقول الربا كالبيع فهنا معاملة بربح وهنا معاملة بربح وأحل البيع وحرم الربا
ولذلك أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس, الأقيسة الفاسدة المنكرة المردودة
أما القياس السديد السوى فأى حرج فيه(54/25)
استمعوا إخوتى الكرام لهذا الذى جرى حول سيدنا أبى حنيفة النعمان رضى الله عنه وأرضاه أثار أهل البدع أهل الضلال أهل الهذيان أثار حوله زوبعة فى حياته وأنه يأخذ بالآراء ويرد حديث نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وحاشاه من ذلك وأهل البدع ديدنهم أن يلفقوا حول أئمة الإسلام التهم من أجل التنفير عنهم فاستمع لهذه القصة المحكمة بين سيدنا أبى حنيفة وسيد جليل من آل البيت الطيبين الكرام رضوان الله عليهم أجمعين القصة إخوتى الكرام رواها الإمام الكردى فى مناقب سيدنا أبى حنيفة صفحة واحدة وعشرين ومائتين والصالحى فى عقود الجمان صفحة تسع وسبعين ومائتين والإمام ابن حجر فى الخيرات الحسان صفحة ست وسبعين عن سيدنا الإمام الباقر محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب ما بعد هذا النسب نسب محمد بن على ,على بن الحسين زين العابدين ولده محمد الإمام الباقر سيدنا الحسن سيد شباب أهل الجنة ,والده سيدنا على رابع الخلفاء الراشدين يعنى الإمام الباقر محمد بن على بن الحسين رضى الله عنهم أجمعين والقصة ينقلها شيخ الإسلام عبد بن المبارك رضى الله عنهم أجمعين الإمام الباقر, يعنى هو أعلى من أن يقال عنه ثقة, أئمتنا عندما ترجموه قالوا ثقة فاضل حديثه فى الكتب الستة توفى سنة بضع عشرة ومائة رضى الله عنه وأرضاه قال عنه الذهبى فى السير فى الجزء الرابع صفحة أربعين هو السيد الجليل الإمام الباقر ومن كلامه المحكم:
سلاح اللئام قبح الكلام
اجتمع الإمام الباقر رضى الله عنه وأرضاه مع سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين وهو أكبر من سيدنا أبى حنيفة ومع الكبر فى السن والعمر يعنى من بيت النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فله منزلة وله يعنى على سيدنا أبى حنيفة دالة كدالة الأب على الابن بل أعلى كدالة النبى على أمته على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه(54/26)
الإمام الباقر عندما اجتمع بسيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه قال له:
يا إمام بلغنى أنك تخالف أحاديث جدى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
فقال معاذ الله أن أفعل ذلك ثم قال أيها الإمام لك علىَّ من المنزلة والاحترام كما لجدك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فاجلس فى أى مكان شئت حتى أجلس إليك, ما أكلمك وأنت واقف هذا لا يليق يعنى بمقامك, اجلس فى أى مكان شئت فجلس الإمام الباقر رضى الله عنه وأرضاه فجاء الإمام أبو حنيفة وتأدب وجلس بين يديه على ركبتيه ووضع يديه على ركبتيه
وقال أيها الإمام ,الإمام أبو حنيفة يقول للإمام الباقر سألك ثلاث مسائل فقط سيظهر بها هل أرد الحديث أو أتبع الحديث
قال سل
قال الرجل أضعف أم المرأة من أضعف
قال المرأة
قال كم فرض الله للمرأة بالنسبة للرجل
قال النصف لها نصف سهم الرجل أوليس كذلك؟
قال لو قلت بالقياس لأعطيت المرأة ضعف الرجل لأن الضعيف ينبغى تزيد فى نصيبه قلت بالقياس لأعطيت المرأة ضعف الرجل أعوذ بالله أن أفعل هذا أنا أسألك الآن من أضعف الرجل أو المرأة ستقول المرأة وهذا هو الحق الله جل وعلا جعل للمرأة نصف نصيب الرجل بالقياس يعنى الظاهر أننا نعطى للضعيف أثر لأنه بحاجة فلو قلت بالقياس لأعطيت المرأة ضعف الرجل يعنى أعطيتها مثل حظ الرجل كما نعطى الرجل مثل حظ الأنثيين هذه واحدة
ثم قال يا إمام أيها أفضل وأعلى فى الميزان الصلاة أم الصوم
قال الصلاة حقيقة عمود الإسلام وهى أفضل من الصوم
قال لو قلت بالقياس لأوجبت على الحائض أن تقضى الصلاة ولا تقضى الصوم أوليس كذلك؟(54/27)
أنها تقضى الفاضل وتترك المفضول نحن عندنا الآن النص بالعكس تقضى المفضول ولا تقضى الفاضل إذا أردت أن أحكم القياس أقول للمرأة اقضِ الصلاة وهذه أهم من الصوم لكن كيف سنلجأ إلى القياس القياس هذا لا يُلجأ إليه إلا عدم وجود نص إذا وُجد نص عن جدك عليه صلوات الله وسلامه وعلى آل بيته وصحبه صلوات الله سلامه من يخالف ما يخالف إلا شيطان من الذى سيخالف
ثم قال يا إمام أيها أفحش البول أم المنى؟
قال البول أفحش
قال لو قلت بالقياس لأوجبت الغُسل من البول لا من المنى
وهذا الفقه حقيقة الذى أعطاه الله لهذا الإمام الذى أعطاه الله الحكمة يعنى حقيقة فى محله
استمع إخوتى الكرام لشأن أهل الفضل فى الإسلام فقام الباقر وقبَّل جبهة أبى حنيفة وهو حقيقة سليل بيت النبوة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه عندما يكرم العلماء حقيقة هذا أخذه من جده خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه,
تقدم معنا أن عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين أخذ بركاب زيد بن ثابت أوليس كذلك وقال دع يابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام عند موت أم زيد بن ثابت رضى الله عنهم أجمعين
قال هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا
فقال أرنى يدك فأخذها وقبلها زيد بن ثابت وقال هكذا أُرنا أن نفعل بآل بيت نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
وهذه الزيادة تقدمت معنا الإمام ابن عبد البر ذكرها فى كتاب جامع بيان العلم وفضله وقال بعض أهل العلم لا يرويها تقدم معنا الكلام عليها
الشاهد إكرام آل بيت النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه للعلماء هذا ليس ببعيد من بيتهم خرج الأدب والاحترام
فقام الإمام الباقر على جلالة قدره وقبَّل رأس أبى حنيفة(54/28)
قال هذا إذاً من قِبل السفهاء يعنى حولك حقيقة تشويش قال يا إمام أنا لو قلت بالقياس لقدمت القياس ,القياس فى هذه الأمور ينبغى أن يعمل به سبحان الله البول أفحش من المنى؟ وما أحد يغتس من البول لو قلنا بالقياس لأغتسلنا من البول والمنى يعنى هل هو طاهر أو نجس عند الحنفية الذين يقولون بنجاسته يغسل إذا رطبا ويفرك إذا كان يابسا ليس كالبول , والبول إن يبس وإن لم ييبس لا بد من غسله إذاً البول أفحش وفى بعض الكتب أنجس هذا غلط إنما أفحش كلام أبى حنيفة البول أفحش أم المنى قال البول قال لو قلت بالقياس لأوجبت الغسل منه لكن لا بد من أن نقف عند النصوص
إخوتى الكرام كما قلت إن أرادوا بأهل الرأى وبأهل القياس إن أرادوا الذم فمن قال هذا هو الكريه المذموم وإن أرادوا حقيقة تفضيل الحنفية على غيرهم فى جودة النظر والغوص على الأسرار والدقائق فإلى سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه المنتهى على العين والرأس, أكرِم وأنعِم
استمعوا لبعض يعنى دقة نظر سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه تقدمت معنا القصة العجيبة ولها سبب يتعلق بها فى الرجل الذى كان يزوج ابنه ويطلق يزوجه ويطلق إن زوجه حرة طلقها خسر المهر وإن زوجه أمة أعتقها وأبوه الثرى فى حيرة معه
استمعوا هذه القصة لها سبب يقول فقيه الكوفة مع سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين وهو ابن شُبرمة عبد الله بن شبرمة ثقة فقيه روى له البخارى تعليقا ومسلم فى صحيحه وأهل السنن الأربعة إلا سنن الترمذى توفى سنة أربع وأربعين ومائة للهجرة انظروا ترجمته فى السير فى الجزء السادس صفحة سبع وأربعين ثلاثمائة وابن شبرمة تقدم ذكره ممن سرده الإمام ابن عبد البر ضمن الأربعين يثنون على سيدنا أبى حنيفة يقول كنت أسىء الرأى فى أبى حنيفة عبد الله بن شبرمة هذا يعنى توفى قبل سيدنا أبى حنيفة بست سنين رضى الله عنهم أجمعين(54/29)
قال كنت أسىء الرأى فيه على حسب تشويش من الحاسدين لا يقع فيه إلا جاهل أو حاسد وكان ابن شبرمة يجهل قدره يقول حتى اجتمعت معه وجاء هذا الإنسان وسأله
فقال يا إمام ثم ذكر له هذه القصة يا إمام أزوج ولدى إن زوجته حرة طلقها وإن زوجته امة أعتقها إن اشترت له أمة أعتقها إن زوجته حرة طلقها ويعنى تضيع الفلوس فى ذلك ماذا أعمل معه
فقال خذه إلى سوق الإماء فأى جارية أعجبته اشترها أنت لك على انها أمة عندك ثم زوجه إياها فإن طلقها تعود إليك وإن أعتقها لا ينفذ عتقه فأنت المالك فقال عبد الله بن شبرمة قلت لا يستحضر هذا إلا فقيه هذا الآن حقيقة ليس بإنسان عادى عندما يقول هذا ,هذا من يستحضر الفقه وهو أمام عينيه
قصة ثانية وقعت مات فى عهد سيدنا أبى حنيفة وأوصى بشىء له وجعله وصيا له وأشهد على ذلك وأبو حنيفة رضى الله عنه كان فى سفر فلما جاء أُعلم, فلان أوصى لك وجعلك وصيا على ماله ويوجد شهود على ذلك فرفع يعنى القضية عند القاضى عبد الله بن شبرمة من أجل أن يأخذ ماله من الوصية وهو الوصى على مال هذا الميت على حسب الأمانة التى جُعلت فى رقبته وكان فى سفر
قال هاتى الشهود فأحضر الشهود
قال عبد الله بن شبرمة عندما شهد الشهود على الوصية احلف على صدقهم
قال ما أوجب الله علىَّ أن أحلف لمَ أحلف على أنهم صادقين أنا ما رأيت وأنا كنت فى سفر
قال إذاً أقيستك التى تدعيها, بطل قياسك يا أبا حنيفة اخرج ليس حق وإذا ما حلفت على أنهم صادقون لا يعنى تأخذ الوصية ولا تكون وصيا
قال على رِسلك أنت الآن سناظر أبا حنيفة مَن ابن شبرمة ومن غيره رضى الله عنه وأرضاه(54/30)
قال يا إمام ما تقول فى أعمى شدخه إنسان على رأسه إنسان ضربه وحضر هذا الاعتداء عليه أناس فأقام دعوة فقال له القاضى هاتى الشهود فأحضر الشهود شهدوا أن فلانا ضرب هذا الأعمى وشدخ رأسه فقال القاضى للأعمى احلف على صدقهم قال ما عيه الآن أن يحلف هو يعنى حقيقة كيف سيحلف ولمََّا يعرف هؤلاء الشهود ولحالهم شهدوا هل عليه يمين؟
قال لا خُصمت قال صدقت والوصية لك وأنت الوصى لأبى حنيفة قال خُصمت مادام هذه كهذه انتهى هناك أنا كنت غائبا والأعمى الذى فقد عينيه كأنه غائب خلص شهود الشهود وسيحلفوا اليمين على صدقهم, ما له علاقة بهذه مادام يوجد شهادة أنت ستقضى بها وأنت ملزم بذلك قال صدقت خذ الوصية وأنت الوصى رضى الله عنهم وأرضاهم
إخوتى الكرام عندما جرى من أبى حنيفة ما جرى قال عبد الله بن شبرمة:
عجزت النساء أن تلد مثل أبى حنيفة
استمعوا لهذه القصة وحقيقة تتعلق بدقة نظر وفِراسة مع تعلقها بالفقه والحكم الشرعى(54/31)
القصة إخوتى الكرم أوردها الإمام الكردى فى مناقب أبى حنيفة صفحة اثنتين وعشرين ومائتين وانظروها فى عقود الجمان أيضا للإمام الصالحى خلاصتها إخوتى الكرام أن بعض الموالى قدم الكوفة فى عهد سيدنا أبى حنيفة بعض الموالى من المعتقين قدم الكوفة فى زمن سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنهم أجمعين قال وكان معه زوجة من أجمل النساء فى ذلك الوقت وهو مسكين يعنى فى الأصل كما قلت عبد معتَق محرر ما عنده عرَض ولا شأن ما معه إلا متاع يسير فى تنقله وسفره مع شىء يعنى من ماشية معه فى طريق فى مرعى ومر بالكوفة اتصل بعض العتاة من الأثرياء الأغنياء بهذه المرأة وقال لها يخببها على زوجها لا يوجد بينة أن هذا زوجك, تأتين إلىَّ وإذا صارت دعوة تقولين أنا عند هذا من زمن وهو زوجى والأصل يعنى أنت مع من تكونين إلا إذا قام لك على خلاف هذا وهو الآن غريب مسكين من الموالى من أين له البينة وعليه يُطرد وتبقين معى ويقع فساد إخوتى الكرام يعنى ما خلا عصر من الفساد وبالفعل أخذها الثرى وزوجها المسكين بقى يصيح فرفع الدعوة عند عبد الله كان ابن زين القاضى فى زمن الإمام أبى حنيفة فى هذه القضية فاستشار أبا حنيفة ماذا نفعل فى هذه القضية رجل من الموالى جاء معه غنيمات وله بيت من الشعر فى جوار الكوفة نزل ويقول إن زوجته أُخذت منه لما ذهبنا لذاك يقول هذه زوجتى معى من سنين وهذا جاء وتطافل يريد أن يأخذ الزوجة منى يعنى يمر ببلادنا ويأخذ أيضا نساءنا(54/32)
طيب حقيقة لا يوجد بينة ماذا أعمل قال سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أنطلق أنا معك إلى رحله ويظهر الحق بإذن الله قال تفضل فذهبا إلى رحل هذا المولى عنده غنيمات وكلب معه مع هذه الغنم وهو فى هذا البيت فقال ادع بعض النساء غير زوجته إلى هذه الخيمة فلما جاءت استمع لفقه أبى حنيفة نبح الكلب وصاح وعوى قال يقول ابن زين ماذا ستفعل نساء تأتى خلا استمع لا تعجل ثم قال ادع الزوجة التى يدعى هذا المولى أنها زوجته وهو عند الغنى فدعيت فلما وصلت إلى الخيمة جاء الكلب وبصبص حولها وشمها وما عوى وبدأ يدور حولها حتى دخلت إلى الخيمة
قال ورب الكعبة إنها زوجته أبو حنيفة ما عندى شك اضغطوا عليها لتُقر فضُغط عليها
قالت نعم خدعنى الثرى وأنا زوجة هذا المولى المسكين هذا إخوتى الكرام النظر
استمع الآن لفقه الحنفية يقول لو خلا الرجل بزوجته غلِّقت الأبواب وعهما كلب إن كان الكلب للرجل تعتبر الخلوة انتبه تعتبر الخَلوة خَلوة شرعية يترتب عليها ما يترتب على الدخول الكامل يعنى كأنه وطىء وإن لم يطأ انتهى يترتب جميع الأحكام إذا خلا بها وعندهم كلب إن كان الكلب له إذا أرخيت الستور والكلب فى الخيمة فى الحجرة الكلب لمَن؟ للزوج وما يعنى1:26:36 يقول هذه خلوة شرعية كما لو باشرها إن طلقها فلها المهر كاملا بعد ذلك وإن لم يمد يده عليها عند الحنفية
وأما إذا كان الكلب لها قال فلا تحصل الخلوة الشرعية وإن أرخيت الستور وغلقت الأبواب لمَ؟(54/33)
لأن الكلب سينبح على هذا الذى يريد أن يقترب من صاحبته الآن سيعوى عليه بينما عندما يكون الكلب له هو يعنى حتى الكلب فطره عندما يرى أن الزوج يعنى يريد أن يباشر زوجته ويرى أن له كرامة وأنه الآن يعنى هذا من حقه وأما الزوجة حقيقة ما علم أهل القصة والنكاح رِق فى شىء يعنى من كما يقال الوضاعة فى حق المرأة فإن كان ضمن الحلال أحله الله وإلا يعنى فى منتهى العار لكن هذه المنقصة التى فى المرأة كما قلت الكلب يدعوه أن يعوى وأن يصرخ إذا جاء الزوج ليقترب من زوجته(54/34)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
شرعنا فى مدارسة ترجمة موجزة لأئمتنا الفقهاء الأربعة الكرام أئمة الإسلام وبدأت بأولهم بسيدنا أبى حنيفة النعمان رضى الله عنه وعن سائر أهل الإسلام
إخوتى الكرام مر معنا ما يتعلق بنسبه وطلبه العلم ومر معنا ما يتعلق بثناء العلماء الكرام عليه وبيان منزلته العلمية والدينية وقد أحرز الإمامة فيهما فهو المقرىء الفقيه المحدث الزاهد العابد الولى لله القوى سبحانه وتعالى وشرعنا فى مدارسة الأمر الثالث من الأمور الأربعة التى سنتدارسها فى ترجمته ألا وهو فى بيان فقهه وطريقته فى التفقه فى الدين عليه وعلى أئمتنا رضوان رب العالمين
إخوتى الكرام كما قدمت سابقا منزلته فى الدين منزلة عظيمة وقد جمع له الله الكمالات وفضله ببعض الخيرات التى لم تحصل لغيره من أئمتنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين(55/1)
فتقدم معنا هو تابعى وله فى ذلك أجر عظيم وهو ومدرسته الفقهية أول من وضعوا هذا الترتيب المُحكم المتقن للفقه وعلى ذلك سارت بعد ذلك سائر كتب الفقه من سائر المذاهب التى جاءت بعد هذا الإمام الأعظم المبارك رضى الله عنه وأرضاه قلت وخصه الله أيضا بأن جعله أكثر علماء هذه الأمة تابعا كما جعل الله نبينا أكثر الأنبياء تابعا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وإمامته كما تقدم معنا مُسلم بها عند أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين قبل أن أشرع فى تكميل ما بدأنا فى مدارسته فى يعنى طريقة تفقهه فى دين رب العالمين
استمع لهذا الثناء العظيم من أحد العلماء الجهابذة الكرام المحدثين من أولياء الله المباركين وهو الإمام الصالح أبو بكر بن عياش المعتمد أن اسمه كنيته يعنى اسمه أبو بكر ويُكنى بذلك الكنية هى الاسم وقيل إن اسمه غير كنيته وأورد أئمتنا فى ذلك عشرة أقوال استمعوا إليها من باب العد على سبيل الاختصار قيل اسمه محمد عبد الله سالم شعبة رقبة مسلم خداج مُطرِّف حماد حبيب, هذه عشرة أسماء لأبى بكر بن عياش والمعتمد أن كنيته اسمه رضى الله عنه وأرضاه عبد صالح قانت تُوفى سنة أربع وتسعين بعد المائة وقيل ثلاث وتسعين بعد المائة يعنى بعد ثلاث أو أربع وأربعين سنة من وفاة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه أوليس كذلك؟ سنة ثلاث وتسعين أو أربع تسعين بعد المائة حديثه فى الكتب الستة كما قال الحافظ فى التقريب ثقة عابد وساء حفظه لما كبِر وكتابه صحيح رضى الله عنه وأرضاه أبو بكر بن عياش(55/2)
وقول الحافظ فى الكتب الستة فى ذلك شىء من التساهل وضحه فى تهذيب التهذيب هناك رمز بأنه روى له البخارى وأهل السنن الأربعة ومق ,مق إشارة إلى أنه خرَّج له مسلم لكن فى المقدمة ولذلك لا ينطبق عليه أنه من رجال مسلم فى الصحيح وهذا هو حقيقة التمييز الدقيق لرواية هذا العبد الصالح ما روى له مسلم فى صحيحه إنما روى له فى مقدمة صحيحه ولذلك من روى له فى المقدمة الذهبى يسقط الإشارة إليه ولا يعتبره من رجال مسلم فى السير أو فى الكاشف أو فى غير ذلك ولذلك رمز له فى السير بأنه من رجال البخارى والسنن الأربعة لأن شرح شرط مسلم فى المقدمة لا ينطبق عليه شرط الصحيح وليس هو من رجال أى فى صحيحه رضى الله عنهم وأرضاهم
إذاً هو من رجال البخارى والسنن الأربعة وروى له الإمام مسلم فى مقدمة صحيحه أبو بكر بن عياش من العلماء الصالحين كما قلت الربانيين رضى الله عنه وأرضاه ,عندما احتُضر كما فى الحلية فى ترجمته فى الجزء الثامن صفحة ثلاث وثلاثمائة بكت عليه أخته فقال:
لا تجزعى فلقد ختمت القرآن فى هذه الزاوية ثمانية عشر ألف مرة فأرجو أن يرحمنى الله
لا تجزعى ولا تخافى أنا سأقدم على رحمن رحيم على رب العالمين سبحانه وتعالى ختمت القرآن فى هذه الزاوية ثمانية عشر ألف مرة وكان يختم كل ليلة رضى الله عنه وأرضاه أبو بكر بن عياش
ويحكى لنفسه كرامة أكرمه الله بها وهذه الكرامة إخوتى الكرام هى آخر شىء فى ترجمته فى تهذيب التهذيب آخر خبر هذا فى الجزء الثانى عشر صفحة أربع وثلاثين أنه ذهب مرة إلى بئر زمزم واستقى منه فكان يخرج له العسل واللبن, دلو عسل ودلو لبن من بئر زمزم والله على كل شىء قدير, عندما يستقى يخرج له الدلو امتلأ بعسل امتلأ بلبن مع ماء زمزم أبو بكر بن عياش رضى الله عنه وأرضاه
ومن كلامه المحكم كما فى السير فى الجزء الثامن صفحة خمس وتسعين وأربعمائة قال:(55/3)
الخلق أربعة أقسام معذور ومخبور ومجبور ومثبور أما المعذور فهم البهائم رُفع عنهم القلم وأما المخبور فنحن معشر المكلفين اختبرنا رب العالمين ليبلوكم أيكم أحسن عملا وأما المجبور فهم ملائكة الله الكرام لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأما المثبور فهو الشيطان الغرور وجنده
إذاً معذور مخبور مجبور مثبور نسأل الله أن يجنبنا صفات أهل الثبور إنه عزيز غفور
عبد صالح قال عنه الذهبى هو المُقرىء الفقيه المحدث شيخ الإسلام وبقية الأعلام إنما ذكرت بعض هذه النعوت فى ترجمته لنرى وزن كلامه الذى سيقوله فى فقيه هذه الملة فى فقيه هذه الأمة المباركة المرحومة كان يقول:
كان أبو حنيفة النعمان أفقه أهل زمانه
هذا كلام أبى بكر بن عياش أبو حنيفة النعمان أفقه أهل زمانه, نعم إخوتى الكرام هذا كما قلت كان مسلما به عند أئمتنا من فقهاء ومحدثين وزهاد وعباد رضى الله عنهم وأرضاهم أفقه أهل زمانه
وتقدم معنا كلام العبد الصالح زهير بن معاوية وقال للرجل الذى أخبره أنه كان فى مجلس أبى حنيفة قال:
ذهابك إلى مجلس أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فى يوم من الأيام مجلس من المجالس خير من تحضر عندى شهرا كاملا
هذا أئمتنا إخوتى الكرام كانوا يقرون به ويذكرونه من باب بيان قدر هذا الإمام المبارك سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه(55/4)
يروى الذهبى فى كتابه الجزء الذى ألفه فى مناقب سيدنا أبى حنيفة صحابيه أبى يوسف ومحمد بن الحسن رضى الله عنهم وأرضاهم فى صفحة تسع وعشرين ينقل عن العبد الصالح جرير بن عبد الحميد وهو من بلاد الكوفة من بلد سيدنا أبى حنيفة ونزل الرى وصار قاضيا فيها ثقة حديثه مخرج فى الكتب الستة توفى سنة ثمان وثمانين ومائة يعنى بعد سيدنا أبى حنيفة بثمان وثلاثين سنة أوليس كذلك؟ ثمان وثمانين ومائة هؤلاء كلهم عاصروه وأدركوه ورأوه وجلسوا فى جلسه جرير بن عبد الحميد يقول الذى صار قاضى الرى قال لى مغيرة بن مِقسَم وهو أيضا كوفى مغيرة بن مُقسم الأعمى رضى الله عنه وأرضاه كان يقول ما سمعت شيئا إلا حفظته وما حفظت شيئا فنسيته قال الذهبى فى ترجمته فى السير فى الجزء السادس صفحة عشرة قال والله هذا هو الحفظ ما وقع فى مسامعه شىء ما سمع شىء إلا حفظه مغيرة بن مقسم أيضا من بلاد الكوفة من بلد سيدنا أبى حنيفة ما سمع شيئا ما طرق سمعه شىء إلا حفظه وإذا حفظ شيئا لا ينساه يعنى نعتبر الكتاب مرات ومرات فيصعب علينا حفظه وما حفظناه ننساه ونفوض أمرنا إلى ربنا
فاستمع لهذا الحفظ واستمع لهذه الشهادة من هذا الإمام لسيدنا أبى حنيفة النعمان رضى الله عنهم وأرضاهم هذا العبد الصالح توفى قبل سيدنا أبى حنيفة توفى سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة قبله بأربع عشرة سنة أوصى جرير بن عبد الحميد
قال جرير بن عبد الحميد قال لى مغيرة بن مقسم ,مغيرة حديثه فى الكتب الستة ذكرت لكم حديثه فى الكتب الستة ثقة متقن كما قال الحافظ فى التقريب مغيرة بن مقسم حديثه فى الكتب الستة جرير بن عبد الحميد حديثه فى الكتب الستة أيضا قال جرير بن عبد الحميد:
قال لى مغيرة بن مقسم جَالِسْ أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه تفقه أى تصبح فقيها جَالِسْ أبا حنيفة تفقه فوالله لو أن إبراهيم النخَعى حضر زمانه لجلسه واستفاد منه(55/5)
إبراهيم النخَعى وهو إبراهيم بن يزيد النخعى الذى توفى سنة ست وتسعين وحديثه فى الكتب الستة وانظروا ترجمته الطيبة فى الجزء الرابع صفحة عشرين وخمسمائة وقلت هو يعنى يروى عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه وأرضاه بواسطة جم غفير وإذا ما سَمَّ الرواة فهذا أعلى مما لو سماهم كما تقدم معنا ولذلك مراسيله يعنى فى أعلى المراسيل لأنه عندما لا يسمى أئمة ثقات أثبات كثيرون يحذفهم ويضيف الأثر إلى الصحابى رضى الله عنه وأرضاه,
إبراهيم النخعى لو كان حيا لجالس أبا حنيفة واستفاد منه مَن يقوله مغيرة بن مقسم لجرير بن عبد الحميد هذا ثناء أئمتنا على فقيه ملتنا رضى الله عنه وأرضاه وقد ختم الحافظ بن حجر فى التهذيب والتهذيب ترجمة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فى الجزء العاشر صفحة اثنتين وخمسين وأربعمائة ختم ترجمته بهذه المقولة أسأل الله أن يبيض وجهه ووجهكم ووجوه المسلمين يوم الدين استمع لهذه الكلمة المباركة فى سيدنا أبى حنيفة قال بعد أن أورد ثناء العلماء عليه فيما يزيد على صفحتين قال:
ومناقب الإمام أبى حنيفة النعمان كثيرة جدا فرضى الله عنه وأسكنه الفردوس آمين
هذا كله كلام حازان المحدثين سيدنا الحافظ بن حجر رضى الله عنه وأرضاه ,هذا كله كلامه رضى الله عنه وأسكنه الفردوس آمين
مناقب هذا الإمام كثيرة جدا فرضى الله عنه وأسكنه الفردوس آمين رضى الله عنه وأرضاه وأسأل الله أن يجمعنا معه ومع أئمتنا مع حضرة نبينا عليه الصلاة والسلام بجوار ربنا ذى الجلال والإكرام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين(55/6)
إخوتى الكرام كما قلت هذه منزلة سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه وأما فقهه فتقدم معنا يُعول على كلام الله عز وجل وعلى كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام فعلى العينين والرأس ثم بعد لا يخرج عن أقوال الصحابة وإذا اختلفوا يتخير وإذا صار الأمر إلى التابعين فيجتهد كما اجتهدوا رضوان الله عليهم أجمعين وقلت هذه الطريقة إخوتى الكرام هى التى سار عليها أئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام لابد من وعى هذا أن سيدنا أبا حنيفة رضى الله عنه وأرضاه فى فقهه ما خرج عن النصوص الشرعية وتقدم معنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية التى طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية أوليس كذلك؟
يعنى الفقيه متى يكون فقيها عندما يعلم الأحكام الشرعية أوليس كذلك؟ التى طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية يأتى للنصوص الشرعية ويستنبط منها الأحكام الشرعية هذا هو عمل الفقيه وأما إذا كان سيستنبط أحكاما عن طريق عقول ردية فما صارت أحكاما شرعية هذه الأحكام أُخذت من النصوص الشرعية من الآيات القرآنية ومن أحاديث نبينا خبر البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه(55/7)
ولذلك المجتهد مَن هو؟ لا يكون مجتهدا إلا بذل ما فى وسعه للوصول إلى مراد ربه على طريق القطع أو اليقين من النصوص الشرعية الواردة فى الدين نصوص شرعية أراد بعد ذلك أن يستنبط منها الحكم لا بد الآن من اجتهاد من استنباط فهنا يبذل ما فى وسعه قد يصل إلى الحكم عن طريق القطع أو عن طريق غلبة الظن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها هذا إخوتى الكرام لابد من وعيه وتقدم معنا أنه من زيادة ورعه واحتياطه واتباعه لا يتقيد بالنصوص الشريعة من الكتاب والسنة بل يتقيد بفهم خير طبقات هذه الأمة وهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فإذا اجتهدوا فلا يخرج عن اجتهادهم وهو مُلزَم بأقوالهم لكن إذا اختلفوا لابد من أن يُعمِل المجتهد اجتهاده ليصل إلى حكمه فيختار مثلا هذا القول أو هذا القول فى المسألة الشرعية عندما تتعدد أقوال الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وهكذا إخوتى الكرام تقدم معنا الحديث المرسل يستدل به وهكذا الحديث الضعيف فالحديث الضعيف يُقدم على الرأى ويقدم على القياس والاستنباط إلحاق ما لم ينص عليه فمنصوص, مادام وُجد نص ضعيف يقدم على الاجتهاد وإعمال الرأى لنلتمس لهذا الأمر حكما من نصوص أخرى, لا, إذا عندنا حديث ضعيف فعلا لا نجاوزه هذا مذهب سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هذا متفق عليه عند الحنفية يقول الإمام ابن حزم كما فى عقود الجمان صفحة سبع وسبعين ومائة والخيرات الحسان صفحة اثنتين وأربعين ومناقب سيدنا أبى حنيفة وصاحبيه الذهبى صفحة أربع وثلاثين قال الإمام ابن حزم:
أجمع أصحاب أبى حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم أصحاب أبى حنيفة مجمعون أن ضعيف الحديث أولى عنده أى عند أبى حنيفة وعندهم أى عند اتباعه وأصحابه عند المذهب من القياس ضعيف الحديث أولى عنده وعندهم عند هذا المذهب من القياس هذا مجمع عليه(55/8)
إذا كان الأمر كذلك إخوتى الكرام هنا أمر دقيق لابد من أن نقف عنده ولا أريد أن أتعرض له فى تراجم الأئمة الآخرين رضوان الله عليهم أجمعين فانتبهوا له:
قد يقع إشكال فى إذهان الأبرار فيقولون إذا كنتم تزعمون أن جميع الأئمة يأذخون بكتاب الله وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وبالإجماع وبالقياس إلحاق ما لم ينص عليه على ما هو منصوص فعلامَ وقع الاختلاف بينهم؟
هذا لابد من وعيه إخوتى الكرام وكثير من أهل السفاهة والطياشة والجنون والحماقة من أتباع الشيطان الرجيم فى هذا الحين يقولون:
لو كانت المذاهب على حق لما حصل اختلاف فيها إذاً دل على أنها على باطل, إن الأصول إذا كانت واحدة علامَ يختلفون
ووالله إنه شيطان من يقول هذا لكن بصورة إنسان شيطان من شياطين الإنس نعوذ بالله ومن أمثاله ولا يجد الشيطان سلاحا أمضى من هذه الشبه فى الطعن بالإسلام فانتبهوا لذلك إخوتى الكرام قد يستشكل بعض الناس وإذا كنتم تقولون الأئمة اتفقوا على هذه الأصول وأخذوا الأحكام منها فعلامَ اختلفوا؟
إخوتى الكرام الجواب عن هذا يدور على أمرين اثنين لابد من وعيهما وهما أبرز أسباب الاختلاف فى استنباط الأحكام:
الأمر الأول النصوص الشرعية دِلالاتها متعددة تحتمل وتحتمل(55/9)
مدلولاتها متعددة تحتمل عدة معانى هذا انتبهوا له إخوتى الكرام سبب أول من أسباب الاختلاف فى الأحكام والاستنباط دلالات متعددة نص شرعى ثابت لكن يحتمل عدة معانى هذا بعد ثبوت النص والاحتجاج به نص ثابت وسنحتج به وقد بعد ذلك يكون خلاف حول النص هذا لا أريد أن أتعرض له هل النص ثبت أم لا وهل يحتج به أم لا فهو مرسل يحتج به بعض الأئمة ولا يحتج به آخرون هو ضعيف يحتج به بعض الأئمة ولا يحتج به آخرون الآن سنفرض إذ صار فى المتفق عليه حديث صحيح ثابت ويحتج به باتفاق لكن يحتمل عدة معانى ولنفرض أن هذا الحديث سمعه الصحابة مباشرة من نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لكنه احتمل عدة معانى وعليه سيكون له عدة دلالات كل مَن يفهم دلالة معتبرة دل عليها النص فهذا حكم شرعى وله أجر عند الله القوى انتهى بمجرد ما يفهم حكما شرعيا دل عليه هذا النص وهذا الفهم على حسب لغة العرب وعلى حسب سياق الكلام يتفق مع مراد المتكلم انتهى هذا حكم شرعى أنت خالفت أنت وما رأيت فأنا أتعبد حسبما فهمت من هذا النص وأنت تتعبد حسبما فهمت وطريق الجنة ما أوسعه كلنا نسير إلى رب العالمين ورحمة الله واسعة فأنا على هدى وأنا على هدى ورحمة الله واسعة
النص الشرعى هذا الأمر الأول يحتمل ويحتمل عدة دلالات
الأمر الثانى تتفاوت الفهوم وتتغاير
فهوم الناس ليست فى مستوى واحد ما يظهر لى قد لا يظهر لك وما يستبين لك قد يخفى علىَّ وما جعل الله أحدا من الخلق حجة على غيره إلا النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فهو حجة علينا
ليس من حقك أن تقول إن فهمى هو المعتبر وفهمك منكر ليس من حقك هذا وإذا قلت هذا فقد جعلت العصمة لنفسك وحقرت غيرك أوليس كذلك؟(55/10)
إنما أنت تقول كما قال سيدنا أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه هذا رأى قلنا به وأخذناه من نصوص شرعية وهو أحسن ما عندنا فأما من كان عنده أحسن منه فليأتنا به, هذا الذى عندنا هذا استنباطنا هذا فهمنا بعد ذلك نصيب نخطىء, هذا علمه عند الله جل وعلا, نحن أخذنا هذه الأحكام من نصوص الشرع الحسان وضحت لكم كما وضحت لنا فالحمد لله خالفتم أنتم وما يظهر لكم وسنؤول إلى ربنا هذا أحسن ما عندنا من الفهم
إذاً إخوتى الكرام النصوص تحتمل حملة تحتمل أكثر من معنى وسيأتينا هذا وقع فى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وأقر وسأمثل له بمسألتين فقهيتين مسألة من المعاملات ومسألة من العبادات من مسائل لا تحصى ولا أريد الاستقصاء إنما من باب المثال وأن هؤلاء ما خرجوا عن دين الله وهؤلاء ما خرجوا عن دين الله وإذا أنصف الإنسان حقيقة لا يستطيع حتى أن يرجح بين القولين وكل من الأقوال حتى المذكورة فى هذه المسألة معتبرة ودلت عليها نصوص الشريعة المطهرة هذا عنده نص وهذا نص وهذا احتمله هذا النص وهذا احتمله هذا النص
إذاً المصادر واحدة لكن دلالات النصوص تتعدد أمر ثانٍ الفهوم تتغاير تختلف
قال الخطيب البغدادى فى الفقيه والمتفقه ونِعْم ما قال فى الجزء الثانى صفحة واحدة وسبعين قال:
أهل العلم فى حفظه متقاربون وفى استنباط فقهه متباينون
يعنى بالإمكان أن أحفظ صحيح مسلم وأن تحفظه ونتقارب فى الحفظ لكن نأتى بعد ذلك للفهم أنا فى جهة وأنت فى جهة والنصوص احتملت اوليس كذلك؟
أهل العلم فى حفظه متقاربون فى حفظ العلم متقاربون الإمام الشافعى قريب من الإمام مالك والإمام مالك قريب من أبى حنيفة وهؤلاء الأئمة أيضا قريبون من الإمام أحمد رضى الله عنهم وأرضاهم فى الحفظ متقاربون يحفظون كلام الله جل وعلا ويحفظون حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام لكن فى الفهم وفى استنباط الفقه متباينون هذا عنده هذا الحديث هذا فهم منه شيئا وذاك فهم منه شيئا آخر(55/11)
طيب هل جعل الله أبا حنيفة حجة على الإمام مالك لا وما جعل الله الإمام مالك حجة على الحنفية وما جعل الله الإمام الشافعى حجة على الإمام أحمد رضى الله عنهم وأرضاهم هو من أهل الاجتهاد وعنده نص يعنى الشريعة المطهرة فاعمل ما يعنى فى وسعه أعمل عقله حسبما فى وسعه واستنبط الحكم هذا حكم شرعى كيفما كان حاله سواء حكمت عليه بالصواب أو بالخطأ فإذا حكمت عليه بالصواب صواب عندك وعنده حكمت عليه بالخطأ عندك وعنده صواب وأنت لا يجوز أن تقول له ذها خطأ عندك وانت تتعبد على بدعة ولو قلت كنت أنت المبتدع لأنك ستنصب نفسك مشرعا حكما معصوما وما جعل الله ذلك لك فقف عند حدك قف عند حدك هاتان الدلالتان لابد من وعيهما النصوص تحتمل والفهوم تختلف اهل العلم فى حفظ العلم متقاربون وفى استنباطه فقهه متباينون
هل لهذا مثال وقع فى زمن نبينا المبارك الميمون على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه؟
والأمثلة كثيرة وكما قلت لا أريد الاستقصاء, انظروا إلى مثال واحد مما وقع فى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام وإلى مثالين مما بين الفقهاء الأربعة رضى الله عنهم وأرضاهم فى معاملات وفى عبادات لتعلموا بعد ذلك أنها أحكام شرعية مأخوذة من النصوص الشرعية فمن عارض فى ذلك فعليه غضب رب البرية ومن جاء وقال هذا الاختلاف يدل على أنه ليس من شرع الله جل وعلا فعليه غضب الله وسخطه هذا لابد إخوتى الكرام من وعيه(55/12)
الأمر الأول مثال وقع فى زمن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه حديث فى الصحيحين ورواه البيهقى فى السنن الكبرى فى الجزء العاشر صفحة تسع عشرة ومائة فى كتاب القضاء باب فى اجتهاد القاضى وما يسوغ للقاضى فيه أن يجتهد, فى الجزء العاشر صفحة تسع عشرة ومائة ورواه فى دلائل النبوة البيهقى فى الجزء الرابع صفحة ستة وانظروا الحديث مع الكلام عليه فى البداية والنهاية فى الجزء الرابع صفحة سبع عشرة ومائة ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يصلين أحدا منكم العصر إلا فى بنى قريظة
وكان هذا بعد موقعة الخندق موقعة الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا فلما عاد النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيته جاءه جبريل كما سيأتينا فى رواية الطبرانى على نبينا وأولياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه وقال له وضعتم السلاح وضعت اللئمة إنا فى السماء لم نضع سلاحنا لا زلنا فى استنفار قال ماذا تأمرنى
قال توجهوا إلى بنى قريظة هؤلاء اليهود الذين نقضوا معك العهد وهم أهل جحود وكنوت كما تقدم معنا صفوا الحساب معهم فأرسل النبى عليه الصلاة والسلام مناديا اسرعوا إلى بنى قريظة وحاصروهم لنحاسبهم على خيانتهم فخرج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين إلى بنى قريظة
قال عبد الله بن عمر رضى الله عنهم أجمعين فأدرك بعضهم العصر فى الطريق بعضهم أدرك صلاة العصر فى الطريق فانقسم هؤلاء إلى قسمين الذين أدركوا العصر فى الطريق فقال بعضهم لا نصلى حتى نصل إليهم إلى بنى قريظة كما أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام لا يصلين أحدا منكم العصر إلا فى بنى قريظة(55/13)
وقال بعضهم نصلى لم يُرِدْ منا ذلك لم يُرَد منا ذلك لم يُرِدْ للمبنى للمعلوم أى لم يرد النبى عليه الصلاة والسلام تأخير الصلاة إلى بنى قريظة إنما أراد الإسراع والعجلة لم يُرِدْ لذلك الكلام لا يصلين أحدا منكم العصر إلا فى بنى قريظة ما أريد تأخير الصلاة إنما أريد العجلة والسرعة لم يُرَد منا ذلك فصلى قسم فى الطريق وقسم أخَّر الصلاة سمعت بعض الناس يتحدثون لعلهم ما وصلوا إلى بنى قريظة إلا بعد غروب الشمس يا عبد الله ليس لعلهم, قطعا وجزما ما وصلوا إليها إلا بعد غروب الشمس وما صلوا العصر إلا بعد أن غربت الشمس ودخل وقت المغرب من زمن كما ستسمعون فى رواية الطبرانى يعنى خرج وقت العصر ليتهم أخروها يعنى إلى آخر وقتها بحيث خرج الوقت المستحب ودخل وقت الكراهة, لا, خرج الوقت ودخل وقت صلاة المغرب وصلوها بعد غروب الشمس
ذُكر ذلك للنبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لم يعنف أحدا لا قال لهؤلاء أخطأتم ولا لهؤلاء أخطأتم وبالمقابل ما قال لهؤلاء أصبتم ولا لهؤلاء أصبتم
ولذلك ذهب بعض أئمتنا إلى أن كل مجتهد مصيب قال لأنه لو كان أحد المجتهدَين هنا على خطأ لبين النبى عليه الصلاة والسلام ذلك لأنه لا يُقر على خطأ لابد من أن يقول لا عليك لوم لكن أنت أخطأت وكان الأولى أن تفعل كذا فسكوته يدل على صواب الفريقين والعلم عند الله جل وعلا
على كل حال حديث كمما قلت فى الصحيحين وغيرهما من وراية سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنهم رُوى الحديث عن صحابيين آخرين روى عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضى الله عنها وأرضاها فى كتاب دلائل النبوة للبيهقى فى المكان المتقدم وروى الحديث فى دلائل النبوة للبيهقى فى المكان المتقدم ومعجم الطبرانى الأوسط فى الجزء السادس صفحة أربعين ومائة عن كعب بن مالك وعليه وعن ابن عمر وأمنا عائشة وكعب بن مالك رضى الله عنهم أجمعين(55/14)
وفى رواية كعب قال جبريل إلى نبينا الجليل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه وقال يا محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه وضعت اللئمة وهى لباس الحرب
فقال نعم
قال لكنا فى السماء ما وضعنا سلاحنا لا زلنا فى استنفار فوثب النبى عليه الصلاة والسلام فزعا فعزم على الناس ألا يصلوا العصر إلا فى بنى قريظة
قال كعب بن مالك فلبسوا السلاح وانطلقوا إلى بنى قريظة فلم يأتوا بنى قريظة حتى غربت الشمس
فقال بعضهم وهم فى الطريق صلوا لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتركوا الصلاة
وقال بعضهم عزم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نصلى العصر إلا لابنى قريظة وإنما نحن فى عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم
قال كعب بن مالك رضى الله عنهم أجمعين فصلت طائفة العصر فى الطريق انتبه إيمانا واحتسابا لا جحودا وعنادا ومخالفة للنص مؤمنين برب العالمين ويطلبون الأجر عنده وقالوا هذا الحديث معناه كذا لا نقصد مخالفة لنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ماذا قالوا لم يُرد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تتركوا الصلاة إنما يريد السرعة صلوا فى الطريق إيمانا واحتسابا هذا الفريق الأول
قال وطائفة لم يصلوا حتى نزلوا بنى قريظة انتبه بعدما غربت الشمس فصلوها بعد غروب الشمس إيمانا واحتسابا على حسب النص التزموا أيضا به وطلبوا الأجر عند الله جل وعلا
قال فذكر ذلك للنبى عليه الصلاة والسلام فلم يعنف واحدة من الطائفتين(55/15)
قال الإمام الهيثمى فى المجمع رجال الطبرانى رجال الصحيح غير ابن أبى الهذيل وهو ثقة وابن أبى الهذيل هو عبد الله ابن أبى الهذيل روى له الإمام مسلم فى صحيحه والترمذى فى سننه وهكذا النسائى فعلامَ قال الهيثمى رجاله رجال الصحيح غير ابن أبى الهذيل وهو من رجال مسلم روى له مسلم فى صحيحه وعليه رجاله رجال الصحيح من أولهم إلى آخرهم روى له مسلم فى صحيحه والترمذى والنسائى فى السنن وهو ثقة كما حكم عليه بذلك الحافظ فى التقريب وانظروا ترجمته الطيبة فى السير فى الجزء الرابع صفحة سبعين ومائة وقال إنه ثقة عابد وله كلام محكم كما فى حلية الأولياء فى الجزء الرابع صفحة ثمان خمسين وثلاثمائة ينقل عن السلف الكرام الطيبين وهو تابعى عبد الله بن أبى الهذيل تابعى روى عن سيدنا على وعن سيدنا عمار وعن سيدنا أُبى بن كعب وعن سيدنا عبد الله بن مسعود وعن سيدنا خباب وعن سيدنا أبى هريرة وغيرهم رضى الله عنهم وأرضاهم تابعى يقول:
أدركنا أقواما وإن أحدهم ليستحى من الله فى سواد الله
يعنى أن يضع ثيابه وأن يتعرى فى سواد الليل فى ظلامه ومع ذلك أهل حياء واستحياء من رب الأرض والسموات هذا حال من يراقب الله جل وعلا
أدركنا أقواما وإن أحدهم ليستحى من الله جل وعلا فى سواد الليل وهذا كما قلت من التعرى الذى هو مباح فكيف إلى النظر إلى المنكرات التى يُحارب بها رب الأرض والسماوات كما اعتاد المخلوقات فى هذه الأوقات من النظر إلى شاشة التلفاز التى هى أشنع معصية عُملت للعباد فى هذه الأيام
يا إخوتى الكرام يستحى من الله أحدهم أن يتعرى فى ظلام الليل ومع أهله يستحى ولا يفعل هذا إلا يعنى بخلوة يستر نفسه عندما يريد أن يقضى حاجته ومَن يتعرى يستحى وبعد ذلك نحن يعنى على وضح كما يقال أنوار نجلس ونبارز الله فى ظلام الليل بالمعاصى نفوض أمرنا إلى ربنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
إخوتى الكرام انتبهوا لهذه الحادثة النص واحد أو متعدد؟ واحد(55/16)
دلالاته مختلفة متعددة يحتمل أوليس كذلك؟ الفهوم متنوعة
إذاً النص يحتمل لا تصلوا إلا فى بنى قريظة حقيقة وأخروا الصلاة عن وقتها أوليس كذلك؟ يحتمل هذا ويحتمل لا تصلوا إلا فى بنى قريظة طلبا للسرعة ولا يراد تأخير الصلاة النص يحتمل هذا ويحتمل هذا يحتمل المعنيين والفهوم تختلف ففعلا ما اتفقت على أحد المعنيين ما قالوا النص يحتمل ويحتمل لكن نحن اتفقنا على أن الاحتمال الثانى هو المراد من الحديث وهو تأخير الصلاة إلى بنى قريظة لو اتفقوا على ذلك لصار إجماعا ولا مخالف فى القضية إنما النص يحتمل والصحابة فهومهم أيضا تتنوع
طيب يا رب أنت لا تكلف نفسا إلا وسعها أنت أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأنت الحكم العدل لو أردت من أصحاب نبيك على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه لو أردت منهم كيفية واحدة لألهمت النبى عليه الصلاة والسلام زيادة إيضاح من أجل أن يرتفع اللبس عن الصحابة الأكياس رضوان الله عليهم أجمعين أوليس كذلك؟ لكان قال إن أدركتكم فى الطريق فلا تصلوا أخروها حقيقة هنا فقد أُخر وقتها ولو أدرككم العصر فى الطريق ولو سيخرج وقتها أخروها إلى هنا, كان بإمكانه أن يقول هذا نبينا عليه صلوات الله وسلامه والله يعلم وهو علام الغيوب أن الصحابة سيختلفون فى فهم هذا الحديث فترك نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول هذه الجملة التى تحتمل وتحتمل وأوحى بها إليه من أجل أن يشرع لنا أحكاما شرعية بعد ذلك وهى أن ما احتملته نصوص الشرع وقال به أئمتنا فهذا حكم شرعى من خالف فيه فهو ضال لابد من وعى هذا
أن يأتى بعد ذلك إنسان من أين جاء هذا الخلاف شرع واحد وبعد ذلك تأتى تقول فى الصلاة يقرأ الفاتحة أو لا يقرأ أو(55/17)
يا عبد الله نصوص تحتمل وهذا وارد عن نبينا عليه الصلاة والسلام فليتسع صدرك وما استبان لك أنه أتقى لله أحوط افعله لا حذر عليك بشرط أن يكون هذا ضمن ما قرره أئمتنا رضى الله عنهم وأرضاهم وأما أن تأتى بفهم جديد فى هذا العصر البعيد فهذا ضلال بعيد إنما ما احتملته النصوص وقال به أئمتنا43:16فى سعة والحمد لله الذى لم يضيق علينا, هذا الآن يقع فى زمن نبينا عليه الصلاة والسلام نص واحد تلقوه بآذانهم من نبيهم على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ثم اختلفوا فى العمل به وزيادة على ذلك نبينا عليه صلوات الله وسلامه أقر الطائفتين ولا قال للطائفة التى صلت خالفت الأمر ولا للطائفة التى أخرت ارتكبتم كبيرة00 والعصر عن وقتها ومن فاتته صلاة العصر حبط عمله وأنتم كيف فعلتم هذا لا يا إخوتى الكرام الآن هذا لا يوجد مجال لذكره لأنه كل طائفة فعلت هذا إيمانا واحتسابا
تقدم معنا إجماع أئمتنا حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة وقلت هذا الكلام قرره شيخ الإشلام الإمام ابن قدامة فى المغنى فى الجزء الأول صفحة ثلاثة فى بدايته ونقله عنه أئمتنا منهم الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى فى الجزء الثلاثين صفحة ثمانين لا يغيبن عنكم ذلك وكلام الإمام ابن تيمية مأخوذ من كلام الإمام ابن قدامة إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة
إذا احتملت النصوص الأقوال المنقولة فالحمد لله كلها أحكام شرعية قال الله جل وعلا:
لا ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم
وهى النيات الخالصة الذين صلوا فى الطريق ماذا أرادوا بذلك؟
تعظيم الله
والذين أخروا الصلاة أرادوا؟(55/18)
تعظيم الله لكن هؤلاء فهموا وهؤلاء فهموا فلا داعى للنزاع ءأنتم رأيتم أن الصلاة فى الطريق أتقى لله صلوا لكن دعونا نحن سنصلى هنا لا تنكروا علينا ولا ننكر عليكم رحمة الله واسعة ونحن رأينا أن الصلاة فى بنى قريظة أتقى لله فاتركونا ولا تعترضوا علينا وهذا الذى حصل من الصحابة ما عاب أحد على أحد وما عنف النبى عليه الصلاة والسلام أحدا وهؤلاء هم الأكياس وهؤلاء هم خير الناس الذين رُبوا على يدى نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
هذا مثال إخوتى الكرام كما جرى فى زمن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه نص يحتمل معنيين فهم الصحابة منه هذين المعنيين وما اتفقوا على معنى من هذين المعنيين أقر النبى صلى الله عليه وسلم الصحابة على ذلك
مثال ثانٍ اختلف فيه المذاهب الأربعة
على قولين إمامان قالا بالأول أبو حنيفة وبعده مالك على قول وإمامان قالا بقول ثان الشافعى وبعده الإمام أحمد الشافعى وأحمد رضى الله عنهم وأرضاهم على قول أبو حنيفة ومالك رضى الله عنهم وأرضاهم على قول وهو فى الحديث المستفيض رُوى عن ثمانية من الصحابة كما سأبين لكم فى التخريج عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال:
(البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا فإن صدقا وبينا بُورك لهما فى بيعهما وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)
(البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو قال حتى يفترقا) حديث إخوتى الكرام النص ثابت وقلت مستفيض مروى فى الصحيحين وغيرهما كما سيتبين معنا لكن النص يحتمل أكثر من معنى وأئمتنا رضى الله عنهم وأرضاهم مفاهيمهم اختلفت نحو هذا الحديث, مع المفاهيم يوجد قرائن أخرى أيضا حول هذا الحديث تؤيد تلك المفاهيم فدعاهم أن يقولوا يعنى قولين نحو هذا الحديث وأن يقرروا حكمين شرعيين هل للمتباعين الخيار بعد الإيجاب والقبول؟(55/19)
قال أبو حنيفة ومالك رضى الله عنهم أجمعين لا خيار لأحد المتباعين بعد الإيجاب والقبول بعت تقول قد اشتريت انتهى, تقول بعد ذلك أنا ما أعجبتنى السلعة ولا أدفع الثمن, يا عبد الله تم الإيجاب والقبول تم تقول لا زلنا فى المجلس وكلام النبى عليه الصلاة والسلام البيعان بالخيار حتى يفترقا إلى أن يفترقا يقول يا عبد الله هذا الآن معناه كما ستسمع عند هذين الإمامين المباركين من جملة التأويلات يعنى من باب التعجز تأويلات ثلاث من جملتها وهو أولها كما سأذكر
حتى يفترقا باللسان بالأقوال لا بالأبدان يفترقا يفترقان باللسان لا بالأبدان أنا قلت بعت وأنت قلت اشتريت انتهى واضح هذا أما إذا انا قلت بعتك هذه السلعة بخمسين ريالا قبل أنت يعنى توافق ويتم القبول منك أنا رجعت وقلت ما عاد أبيعها أريد فيها مائة لا تقول أنا قبلتها بخمسين أقول أنا الآن رجعت واضح هذا لى الخيار قبل أن يحصل الإيجاب والقبول أنا لى الخيار وأنت لك الخيار لست بملزم أبيعك هذه السلعة بخمسين ريالا قد تشترى وقد لا تشتريها وإذا لم تعطِ مباشرة القبول بذلك ولم توافق أنا لى الخيار أسحب نفسى مباشرة أقول ما عاد أبيعها لا بخمسين ولا بمائة رجعت عن هذا ما أريد أن أبيعها هذه السلعة ليس من حقك الآن تتدخل متى تلزمنى بتسليم السلعة وأخذ الثمن أبيعك هذه بعتك بها بخمسين ريالا تقول قبلت اشتريت تفضل قلت لا أنا الآن بدا لى أننى لا أبيع السلعة هذه إن شئت أن أقيلك هذا موضوع آخر وإلا يجب عليك أن تسلم السلعة بعد الإيجاب والقبول هذا كما قلت قول سيدنا أبى حنيفة وسيدنا الإمام مالك
قال الشافعى والإمام أحمد رضى الله عنهم أجمعين(55/20)
حتى يفترقا بالأبدان, ما داما فى المجلس كل واحد منهما له الخيار بعتك هذه السلعة بخمسين ريالا قلت قبلت ونحن نتحدث وما افترق أحد منا عن الآخر, لا زلنا فى مجلس العقد وأخذ معنا المجلس ربع ساعة نصف ساعة لازلنا فى المجلس نتحدث يعنى عن أمور خارجية عن البيع والشراء عن الذهب والثياب والأكل وما شاكل هذا نتباحث عن مسائل العلم ثم بعد ذلك طرأ لى طارىء وقلت هذه السلعة أنا لست بحاجة إليها لمَ اشتريتها؟
تورطت ,قلت يا عبد الله خذها أنا رجعت عن الشراء هذا من حقك أن تقول يا عبد الله يعنى أنت لست برجل!! كيف تقول ترجع هذا لا زال بالخيار ما دمنا فى المجلس هذا عند مَن؟ عند الإمام الشافعى والإمام أحمد يقول الحديث يدل على هذا
فهمان معتبران من جاء أن يقول عن واحد منهما يعنى هذيان حقيقة فقد قصر وأخطأ
استمعوا إخوتى الكرام لتخريج الحديث أولا الحديث كما قلت مستفيض مروى عن ثمانية من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين:
رواه الإمام أحمد فى المسند والإمام مالك فى الموطأ والبخارى فى الصحيح وهو السنن الأربعة إلا سنن ابن ماجة من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنهم أجمعين
والحديث فى المسند والكتب الستة إلا سنن ابن ماجة أيضا من رواية سيدنا حكيم بن حزام رضى الله عنهم أجمعين وهو أيضا فى السنن الكبرى للإمام البيهقى وغير ذلك من رواية حكيم بن حزام
الرواية الثالثة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهم أجمعين مروية فى المسند أيضا وسنن النسائى والترمذى والسنن الكبرى للإمام البيهقى
الرواية الرابعة من رواية أبى برزة الأسلمى فى مسند الإمام أحمد وسنن أبى داود وابن ماجة والحديث فى سنن الدارقطنى والسنن الكبرى للإمام البيهقى ورواه الإمام أبو داود الطيالسى والإمام الطحاوى
الراوية الخامسة رواية سمرة بن جندب رضى الله عنهم أجمعين فى سنن النسائى وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم(55/21)
الرواية السادسة فى المسند من رواية سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه انظروها فى المجمع فى الجزء الرابع صفحة مائة
والرواية السابعة فى المسند أيضا بسند رجاله رجال الصحيح عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما لكن بلفظ تلك الروايات كلها بألفاظ متقاربة البيعان بالخيار ما لم يفترقا وقال حتى يفترقا
أما رواية عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قال:
بايع النبى صلى الله عليه وسلم رجلا ثم قال له اختر هكذا البيع
إخوتى الكرام يحتمل ما تقدم معنا بعد يعنى أن صار إيجاب من أحد الطرفين قبل القبض وقال اختر فإذا عندك يعنى كما تقدم معنا توجيه الحديث البيعان بالخيار إذا عندك نظر وتريد أن ترجع ارجع ولا تلزم الآن يعنى إذا أعطيت كلاما قبل حصول القبول لك الخيار
بايع النبى عليه الصلاة والسلام رجلا يحتمل المعنى الثانى بعد أن تم الإيجاب والقبول كما قرر الإمام الشافعى والإمام أحمد رضى الله عنهما قال اختر ما دمنا فى مجلس العقد لك الخيار اختر هكذا البيع
الرواية الثامنة من رواية عبد الله بن قيسٍ الأسلمى نحو رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين فى معجم الطبرانى الكبير انظروا هذه الرواية فى المجمع أيضا
والحديث إخوتى الكرام ذكر الإمام ابن عبد البر فى التمهيد طرق ست رويات بإسانيده فانظروها أيضا فى التمهيد فى الجزء الرابع عشر من صفحة سبع عشرة إلى صفحة خمس وثلاثين قرابة عشرين صفحة من رواية ستة من الصحابةالكرام وهم الستة المتقدمين ابن عمر وسمرة بن جندب وأبو برزة وعبد الله بن عمرو وأبو هريرة وحكيم بن حزام يعنى ما ذكر رواية ابن عباس ولا رواية عبد الله بن قيس الأسلمى وفى الاستذكار فى الجزء العشرين صفحة تسع عشرة ومائتين إلى خمس وخمسين ومائتين أفاض فى شرح هذا الحديث وبيان الأحكام الفقهية فيه فى قرابة خمس وعشرين صفحة رضى الله عنه وأرضاه البيعان بالخيار(55/22)
إخوتى الكرام كما قلت الحديث واحد وثابت ويحتج به لكنه حمَّال احتمل معنيين تفرقا باللسان تفرق بالأبدان احتمل هذا وهذا
فذهب إمامان مباركان أبو حنيفة وبعده الإمام مالك رضى الله عنهم وأرضاهم بأن التفرق هو التفرق باللسان بالأقوال لا بالأبدان
هذا إخوتى الكرام أحد توجيهات للحديث قالوا تفرق باللسان والكلام لمَ تقولون هذا معنى الحديث قال لأن الاجتماع بالأبدان لا يؤثر فى البيع وكذا الافتراق هل يشترط لصحة البيع اجتماع الأبدان يشترط؟ يحصل البيع بكتابة أوليس كذلك؟
ولا يشترط وجود البدنين قال اجتماع الأبدان لا يؤثر فى صحة البيع وكذا الافتراق الوجود بالبدن وعدمه سواء إنما الإيجاب والقبول هو الذى يتعلق به بالحكم وثبوت البيع ثم بينوا أن التفرق يراد منه التفرق بالأقوال المستعمل هذا بكلام ذى العزة والجلال وكلام نبينا عليه الصلاة والسلام
قال الله عز وجل فى كتابه
(وإن يتفرقا فى حق الزوجين يغن الله كلا من سعته)
طيب هنا ما المراد بالتفرق الطلاق أوليس كذلك؟
تفرق بالأقوال ترتب عليه بعد ذلك افتراق بالأبدان موضوع آخر لكن تفرق بالأقوال
وقال جل وعلا
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم} [آل عمران/105]
بأى شىء تفرقوا بأقوالهم عقائدهم والأبدان قد تكون مع بعضها أى تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى قلوبهم متفرقة وهم فى الظاهر فى مجلس واحد هذا تفرق فلا يراد هنا التفرق بالأبدان منه حديث افتراق الأمة أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة تقدم معنا أن الحديث متواتر وليس بمستفيض فقط قد تقدم معنا تخريجه ما المراد بتفرق الأمة تفرق الأبدان أو العقائد والأقوال والأديان يعنى هذا يقول بقول وهذا بقول وهذا يعتقد شيئا وهذا يعتقد شيئا
وهنا البيعان بالخيار ما لم يفترقا وقال حتى يفترقا يحتمل التفرق بالكلام لأن وجود الأبدان لا أثر له فى صحة البيع وتفرق الأبدان لا أثر له أيضا له فى ذلك(55/23)
حقيقة كلامهم معتبر وتوجيه شرعى مقرر أما بعد ذلك صحيح قطعى أو ظنى يا عبد الله تقدم معنا قلنا الاجتهاد من أوله لآخره ليقرر حكما شرعيا حسب ما فى وسعه على طريق القطع أو الظن فهنا حقيقة أمر ظنى يمكن أن يكون الأمر كذلك متى يكون هذا قطعى لو أن الأمة أجمعت على هذا المعنى لصار قطعيا ما دام هنا خلاف الأمر ظنى هذا يحتمله الحديث وهذا يحتمله الحديث والحمد لله الذى جعل فى الأمر سعة هذا الأمر الأول من توجيهات الحديث أن المراد من التفرق التفرق بالكلام باللسان لا بالأبدان هذا هو الحديث البيعان بالخيار ما لم يفترقا وقال حتى يفترقا يعنى ما دام لا يوجد تفرق بينهما بالأقوال لهما خيار إذا حصل بعد ذلك اتفاق بعت وهناك اشتريت إيجاب وقبول تم البيع هذا كما قلت يعنى معنى أول
معنى ثانٍ توجيه
الحديث الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه ومعه وقبله الإمام أبو حنيفة رضى الله عنهم وأرضاهم هذا المعنى الذى ذكروه إخوتى الكرام يقول الإمام مالك العمل عندنا فى المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه على خلاف ما فهم من فهم من أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان العمل عندنا على خلاف ذلك والإمام ابن عبد البر مع أنه مالكى رضى الله عنه وأرضاه ردَّ هذا وقال لا يصح دعوة إجماع أهل المدينة فى هذه المسألة لأن الاختلاف فيها أهل المدينة معلوم وأى إجماع يكون فى هذه المسألة إذا كان المخالف فيها يقول منهم المخالف فيها ابن عمر وسعيد ابن المسيب وابن شهاب الزهرى وابن أبى ذئب ثم قال وقد قال ابن أبى ذئب من قال:
إن البيعين ليسا بالخيار حتى يفترقا استُتيب يقول وجاء بقول يعنى الإمام ابن أبى ذئب فيه خشونة تركت ذكره وهو محفوظ عند العلماء
القول الذى فيه خشونة عندما قال فى حق سيدنا الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه قال:
الإمام مالك يُستتاب عندما قال إن معنى الحديث حتى يفترقا الأقوال لا بالأفعال يُستتاب فإن تاب وإلا ضُربت رقبته(55/24)
يعنى هو كفر بالله جل وعلا!!! هو على هدى وصواب وكلمة فجة غليظة ومع ذلك يلتمس له عذر رضى الله عنه وأرضاه أخذته الغيرة يعنى على فهمه الشرعى لا أقول على النص الشرعى ,النص الشرعى مع الإمام مالك كما هو مع الإمام ابن أبى ذئب لكن الغيرة على فهمه الشرعى ولكن ليس من حقه أن يرد فهم غيره أخذته الغيرة وقال كلمة يُعذر فيها وهو مخطىء فيما قال يغفر الله لنا وله ولذلك الإمام ابن عبد البر يقول جاء بقول فيه خشونة تركت ذكره وهو محفوظ عند العلماء
إخوتى الكرام كما قلت الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه يقول العمل ليس عليه فى المدينة المنورة الإمام ابن عبد البر يقول لا يصح دعوى إجماع أهل المدينة يوجد من خالف من ابن عمر وسعيد بن المسيب وابن شهاب الزهرى وابن أبى ذئب
الذى يبدو لى والعلم عند ربى لا يُعترض بهذا على كلام الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه فالإمام مالك يقصد بالعمل يعنى العمل المنتشر المشتهر الذى عليه أهل المدينة لا يقصد أنه لا يوجدفى هذا يعنى خلاف من بعض الأفراد منهم وإذاً لصارت المسألة قطعية ما يحق لأحد أن يخالف لا من أهل المدينة ولا من غيرهم يعنى يوجد أفراد لهم رأى فى هذا الحديث لكن الذى عليه العمل فى أسواق أهل المدينة فى بيوعهم فى شرائهم هذا يبقى الإمام ابن عمر رضى الله عنه يرى أن التفرق بالأبدان وبعده ابن شهاب الزهرى وسعيد بن المسيب وهكذا ابن أبى ذئب هؤلاء أفراد لكن العمل الذى عليه أهل المدينة على منورها صلوات الله وسلامه هو ما قرره الإمام مالك وليس يعنى لا يقصد بالعمل أنه لا مخالف فى ذلك هذا أيضا توجيه ثان للحديث يقول تفرق بالأقوال لا بالأبدان لأن العمل على خلاف هذا
هناك إخوتى الكرام أيضا يعنى توجيه ثالث للحديث
يقولون هذا الحديث البيعان بالخيار عارض قواعد العقود وأصولها فتقدم عليه لأنه متفق عليها والله جل وعلا يقول(55/25)
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود والعقد يتم بالإيجاب والقبول فجاء هنا حديث يستثنى يعنى الوفاء عندما يجعل الخيار لأحد المتعاقدَين بعد إيجاب وقبول يعنى فى عقد النكاح بعد أن يتم إيجاب وقبول هل لأحد التراجع لا ثم لا فى عقد الطلاق بعد أن يطلق ليس له أن يتراجع ويقول أنا سأرجع متى ما صدرت الكلمة يترتب عليها أثرها وهنا كذلك عقد يرتبط به الحكم وعليه الحديث هذا جاء مخالفا للنصوص انتبه لأى أى قاعدة عقلية لنصوص قررت وجوب الوفاء بالعقود بعد اكتمالها إيجاب وقبول وهنا علق الوفاء ولا يزال اختيار لأحد المتعاقدَين فخالف كما قلت القاعدة التى دلت عليها نصوص شرعية
إذاً تقدم تلك لأنه تلك ثابتة بنصوص كثيرة فعارضها هذا وهو أمثل منها فيقدم ما هو أقوى ولا يقصد بالتفرق إذاً تفرق الأبدان
الإمام ابن عبد البر رضى الله عنه وأرضاه مع أنه مالكى وانظر هذا لديانته وصلاحه وإمامته ويرى أن التفرق بالأبدان مع أنه شيخ مالكى ولا غضاضة ولا حرج إخوتى الكرام هذا دين الرحمن وليعلم بعد ذلك السفهاء فى هذه الأيام عندما يقولون موضوع تعصب وما تعصب الإنسان إذا استبان له حقيقة الديانة تلزمه أن يقول هذا فيما يظهر لى أرجح لكن ليس من حقه أن يعترض على القول الآخر استبان لك قل به فالإمام ابن عبد البر يرى أن الرماد بالحديث التفرق بالأبدان لكن حقيقة يعنى عرَّض بالمالكية والحنفية بكلام فيه خشونة كما قال هو عن كلام الإمام ابن أبى ذئب فيه خشونة والله بغفر لنا وله بفضله ورحمته
استمع لعبارته قال فى التمهيد:
أَكثَرَ المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج بمذهبهما أكثروا من إيراد الحُجج فى بيان توجيه هذا الحديث وأن التفرق المراد منه تفرق بالأقوال أَكثَرَ المتأخرون من المالكيين والحنفيين من الاحتجاج بمذهبهما بما يطول ذكره وأكثره تشغيب لا يحصل منه شىء لازم لا منفعة له
ثم قال فى الاستذكار:(55/26)
واحتجاجهم بمذهبهم فى رفع ظاهر الحديث طويل أكثره تشغيب لا معنى له لأن الأصول لا يُرد بعضها ببعض
يقول عندكم أصل وهو أن العقود إيجاب وقبول ولا خيار لأحد المتعاقدَين يستثنى منه عقد البيع, الأصول هذا أصل وهذا أصل لا يرد بعضها ببعض وما تقولونه شغب عندك وعندى من يرى التفرق بالأبدان
الشاهد إخوتى الكرام حديث احتمل معنيين أئمتنا الكرام استمع لم ينفرد الحنفية يعنى لو أن الحنفية انفردوا لجاء معترض وقال هؤلاء أهل الرأى وأهل القياس, وافقهم شيخ الشافعية إمام أهل الأثر فى مدينة سيد البشر عليه صلوات الله وسلامه وهو الإمام مالك نجم السنن قال بهذا
طيب يا إخوتى الكرام لابد إذاً من أن نتقى ربنا وأن نقف عند حدودنا نقول هذا فهم معتبر وهذا فهم معتبر كما قلت مرارا فى مواعظ سالفة أمور الخلاف التى تتعلق بالمعاملات وبالقضاء يدخل فيها ولى الأمر ليلزم الناس بعد ذلك بما يتبناه وبما يأخذ به مما اختلف فيه أئمتنا فإذا رأى ولى الأمر أنه هناك خيار خيار للمتعاقدين ما داما فى مجلس العقد فهو يلزم الحنفية والمالكية بهذا ويقول هذا قول يقرر فى دروس العلم وفى المساجد, تذكر أدلته لكن لابد من الحياة العملية من إلتزام بعد ذلك بقول فأنا أرى أنه يُعمل بمذهب الشافعى فى هذه المسألة وعليه خيار المجلس ثابت مادام المتعاقدان فى المجلس هذا له ذلك وعلى أيضا العكس لو اختار مذهب أبى حنيفة مذهب الإمام مالك رضى الله عنهم وأرضاهم وقال إذا صدر الإيجاب والقبول فلا خيار ليس من حق أحد أن يقول أنا على مذهب الشافعى وسأفسخ العقد نقول يا عبد الله الآن لا خيار لك وكونك تميل لهذا المذهب الآن يوجد تبنى لحكم كذا إن أراد بعد ذلك المتعاقد الثانى أن يفسخ من باب الرضى فهذا خير وبركة وإلا ليس من حقك أنت أن تلزمه ولا أن تغضب(55/27)
هذا إخوتى الكرام مثال وكما رأيتم من الأمثلة التى هى فى المعاملات هنا اختلف الأئمة الأربعة على قولين النص كما تقدم معنا واحد لكن احتمل والفهوم اختلفت وأسباب الاختلاف كما قلت يعنى أعظمها ترد إلى هذين الأمرين احتمالات النصوص تعدد معانيها تغاير الفهوم وتباينها وكما قلت أهل العلم فى حفظه متقاربون وفى استنباط فقهه متباينون وهنا كذلك هذا الحديث حفظه أئمتنا وما غاب عن أحد ولا يأتين بعد ذلك إنسان يقول هذا الحديث ما بلغ أبا حنيفة وما بلغ الإمام مالك رواه فى الموطأ وتقدم معنا رواية ابن عمر مروية فى الموطأ والعلم على خلافه فقف عند حدك ومعناه كذا
فهنا حقيقة إخوتى الكرام الذى ينظر فى هذين المعنيين لهذه الأحاديث من روايات متقدمة حقيقة يقول هذا معتبر وهذا معتبر بقى بعد ذلك الخلاف فى القضايا كما قلت يعنى الاجتماعية بين الناس العملية
يأتى ولى الأمر يتبنى ليرفع الخلاف هذا له ذلك إنما هذا قول معتبر وهذا قول معتبر وليس من حق أحد أن يضلل أحد القولين أو يقول إنه فاسد, أنت بعد ذلك تميل إلى هذا أو تميل إلى هذا بناء على ما يطمئن إليه قلبك من دليل فالأمر فيه سعة ورحمة الله واسعة
إخوتى الكرام الإمام ابن أبى ذئب رضى الله عنه وأرضاه من رجال الكتب الستة محمد بن عبد الرحمن ثقة فقيه فاضل توفى سنة ثمان أو تسع وخمسين بعد المائة إمام صالح من العلماء القانتين الربانيين قال الإمام أحمد رضى الله عنه وأرضاه كان يشبه بسعيد بن المسيب فقيل للإمام أحمد خلف ابن أبى ذئب مثله وتوفى قبل الإمام مالك ثمان وخمسين أوليس كذلك؟ أو تسع وخمسين قبل الإمام مالك رضى الله عنهم وأرضاهم يعنى من قرابة عشرين سنة تسع وسبعين الإمام مالك وهنا إذا كان تسع وخمسين لقرابة عشرين سنة قيل للإمام أحمد خلَّف مثله ابن أبى ذئب قال لا ثم قال كان أفضل من الإمام مالك إلا أن مالكا رحمهم الله أجمعين كان أشد تنقية للرجال منه(55/28)
هذا رأى للإمام أحمد أيضا رضى الله عنه وأرضاه قال الذهبى قلت وهو أقدم لقيا للكبار من مالك ولكن مالكا أوسع دائرة فى العلم والفتيا والحديث والإتقان منه بكثير ونعته الإمام الذهبى بأنه هو الإمام شيخ الإسلام رضى الله عنه وأرضاه
ومن مناقبه وفضائله وجرأته فى الحق وعدم يعنى مداهنته أن الخليفة المهدى عندما دخل إلى مسجد نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قام من قام وفى رواية ما بقى أحد إلا قام إلا الإمام ابن أبى ذئب فجاء إليه الحارس ومعه هؤلاء الحراس قم خليفة المؤمنين أمير المؤمنين الخليفة المهدى قال إنما يقوم الناس لرب العالمين وهو قاعد فقال المهدى دعوه والله لقد قفَّ كل شعرة فى جسدى وقفت من هذا الكلام إنما يقوم الناس لرب العالمين
وتقدم معنا صدعه بالحق فى مجلس أبى جعفر المنصور رحمهم الله وغفر لهم الإمام ابن أبى ذئب من العلماء القانتين وقال ما قال فعلق الإمام الذهبى على كلمته بما ستسمعونه فى السير فى الجزء السابع صفحة اثنتين وأربعين ومائة قال الذهبى:
قال الإمام أحمد رضى الله عنه وأرضاه بلغ ابن أبى ذئب أن الإمام مالك لم يأخذ بحديث البيعان بالخيار ولم يأخذ فى الحقيقة فيها تساهل واضح هذا لم يفهم منه ما فهم أن المراد بالخيار بالتفرق التفرق بالأبدان هو هذا الذى لم يفهمه فقال يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم قال أحمد هو أورع وأقول بالحق من الإمام مالك رضى الله عنهم وأرضاهم قال الذهبى معلقا على كلام الإمام أحمد رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين قلت:
لو كان ورعا كما ينبغى لما قال هذا الكلام القبيح فى حق إمام عظيم وحقيقة كلام قبيح كلام فج كلام غليظ من نفس طيبة طاهرة مؤمنة صالحة قانتة وليس من شرط الولى ألا يخطىء وليس من شرط الولى إلا يغضب والله يقول فى كتابه
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون(55/29)
ويقيننا ليس غلبة الظن أن ابن أبى ذئب ندم على هذه الكلمة لكن كل بنى آدم خطاء والتسرع حقيقة خطأ فهنا قلت لوكان ورعا استمع كما ينبغى!! هذا هو الورع كما ينبغى هذا لا يوجد إلا فى الأنبياء الكرام هم المعصومون ومن عداهم لا يسلم من زلة على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه لو كان ورعا كما ينبغى لما قال هذا الكلام القبيح فى حق إمام عظيم فمالك استمع للإلتماس العذر ولبيان صحة قول الإمام مالك والذهبى شافعى يعنى يرى ان التفرق تفرق بالأبدان لكن يا إخوتى لابد من إنصاف علماء الإسلام لابد وهذا فهم شرعى معدود على أنه من أحكام الشريعة لا يجوز التسفه عليه فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث استمع لعلتين:
الأولى لأنه رآه منسوخا وقيل عمل به وحمل قوله حتى يتفرقا على التلفظ بالإيجاب والقبول فمالك فى هذ الحديث وفى كل حديث له أجر ولابد فإن أصاب ازداد آخر وإنما يرى السيف على من أخطأ فى اجتهاده الحرورية وهم الخوارج شر البرية الذين يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ونسبوا إلى الحرورية إلى بلدة حاروراء بظاهر الكوفة عندما اجتمعوا فيها وتعاقدوا على حرب وتكفير سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه وإنما يرى السيف على من أخطأ فى اجتهاده الحرورية
وبكل حال فكلام الأقران بعضهم فى بعض لا يعول على كثير منه فلا نقصت جلالة الإمام مالك بقول لأبى ذئب فيه ولا ضعف العلماء ابن أبى ذئب بمقالته هذه
خلص غضب وانفعال لا تقف يا عبد الله عندها كثيرا يعنى بشر وزل لا الإمام ابن أبى ذئب يضعف بهذه الكلمة الخشنة والإمام مالك ما نزلت مكانته ورتبته بكلام ابن أبى ذئب فيه يعنى ليس أنه كلام لغو لا أثَّر فى القائل ولا فى المقول أوليس كذلك؟ ولا ضعف العلماء ابن أبى ذئب بمقالته هذه بل هما عالما المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه فى زمانهما رضى الله عنهما
هذا هو الإنصاف وهذه هى الديانة(55/30)
إخوتى الكرام لابد من نعى هذا فى هذه الأيام على وجه الخصوص لأنه كثر لغط حول هذه القضايا ويأتيك بعد ذلك سفيه من السفهاء فيقول تقولون الأئمة الأربعة أصولهم واحدة لمَ اختلفوا؟
يا عبد الله لو أردنا أن نلغى مذاهبهم لتتفضلوا أنتم لتجتهدوا ستخبطون تخبيطا وتضعون من الأقوال ما يخطر على بال الخلق من خلافات فيما بينكم فاتقوا الله وقفوا عند حدكم, نص احتمل أكثر من معنى انتهى أئمتنا جاؤوا بعد ذلك التمسوا هذه المعانى لو أجمعوا على معنى من معانيه لكان حجة قاطعة عندما اختلفوا الحمد لله رحمة واسعة إثارة هذه المسائل والتشويش حولها كما قلت مرارا ما يفعله إلا من غضب الله عليه والتماس مثل هذه الزلل يأتى إنسان يقول الإمام مالك عندما خالف الحديث ابن أبى ذئب قال تضرب رقبته وهذا ينبغى أن نعمله مع من يخالف السنة ونقول لكم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام وتقولون قال أبو بكر وعمر يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء يا عبد الله قف عند حدك إنسان انفعل وقال ذلك الكلام غاية ما يقال يعنى انفعل وأخطأ يغفر الله لنا وله(55/31)
وتقدم معنا عندما قال عروة بن الزبير أوليس كذلك؟ لسيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهم أجمعين هما أعلم بالسنة منك يا عبد الله لا داعى الآن يعنى كما يقال لهذا الكلام المعسول الذى يُخدع به السامع إننا نتبع السنة ونترك ما عليه أبو بكر وعمر لا يا عبد الله هما أعلم بالسنة منك فعلها سنة وأما أنت فهمك دون فهمهم فسكت ابن عباس عند تلك المقولة وهنا كذلك فيأتى إنسان يستدل بهذا أو ينشر هذا بين المسلمين ولا ينشره بينهم إلا من غضب عليه رب العالمين ونحن إخوتى الكرام كما قلت مرارا أمام كفر بواح وردة عن دين الله جل وعلا فى هذه الأيام وإمام فسوق وانحلال بدل من أن تحارب تلك نُشغل الأمة بهذه الأشياء لعله لا يخلو بيت من بيوت المسلمين فى هذه الأيام من الجهاز اللعين أوليس كذلك؟ ألا نشغل دروسنا وتحذيرنا للمسلمين من هذا الفساد وأن من فى بيته هذا الجهاز هذا الفساد لا تقبل له صلاة ولا يقبل له صيام هذا إخوتى الكرام لابد من وعيه وكيف سيلقى الرحمن أما بعد ذلك هذا كله يترك ونأتى بعد ذلك فى هذه المشاكل والله يا إخوتى الكرام هذا الجهاز لو بُعث نبى من الأنبياء وهذا الجهاز فى البيوت لا يمكن لهذا النبى أن يؤثر ولا أن ينتفع بدعوته مادام هذا الجهاز فى البيوت فلنكن على علم بذلك هذا كله يُترك ثم بعد ذلك نأتى خلافات بين أئمة الإسلام
يا إخوتى الكرام ينبغى أن نتقى الله وأن نقف عند حدودنا وهكذا بقية المفاسد التى نخوض فيها إلى آذاننا كلها تُترك وتُشغل دروس العلم بعد ذلك كلها خلافات واتباع النص وعدم اتباع المذاهب واتباعها بدعة وهو يُشغل الناس بهذيان لا وجود له يعنى كما يقال فى هذا الزمان لا وجود له ثم بعد ذلك دعوة الاجتهاد دعوة التطوير ودعوة دعوة كأنه ما شاء الله الأمة فقط لا يلزمها إلا مجتهدون ليُحكم باجتهادهم ليكون شريعة مقررة فى العالم من أوله لآخره(55/32)
يا عبد الله ماذا تنفع الاجتهادات وماذا تنفع بعد ذلك وشريعة الله كلها نُحيت عن الحياة وبعد ذلك نأتى نثير هذه الخصومات بيننا وبين سلفنا
تقدم معنا كلام العبد الصالح يحيى بن عمار أبى زكريا توفى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة من العلماء الربانيين القانتين انظروا ترجمته فى السير فى الجزء السابع عشر صفحة اثنتتن وثمانين وأربعمائة وكلامه فى مجموع الفتاوى فى الجزء العاشر صفحة خمس وأربعين ومائة قال:
أنواع العلوم خمسة العلوم خمسة علم فيه حياة الدين وهو علم التوحيد وعلم هو قوت الدين وهو علم العظة والتذكير تقدم معنا فى أول دروس الفقه وعلم هو دواء الدين وهو علم الفقه وعلم هو داء الدين وهذا هو النزاع الذى جرى بين الناس وعلم هو هلاك الدين وهو علم الكلام والفلسفة وعلم الشعوذة والطلاسم
داء الدين أن تثير النزاع الذى كان بين سلفنا الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين
إخوتى الكرام هذه مسألة والمسألة الثانية كما قلت فى العبادات لابد من ذكرها أيضا على وجه الاختصار أشير إليها وأذكرها فى أول الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه والإخوة الذين يحضرون معنا كانوا فى تفسير سورة الفاتحة كنت أشرت إليها باختصار أيضا فى آخر تفسير سورة الفاتحة
إخوتى الكرام اتفق أئمتنا أنه لابد من القراءة فى الصلاة هذا محل اتفاق واتفقوا على أنه إذا قرأ الفاتحة أحسن وأجزأه ذلك لكن انتبه هل تتعين الفاتحة أو لا؟
على قولين عند سيدنا أبى حنيفة رضى الله عنه وأرضاه لا تتعين ويجزىء غيرها وعند المذاهب الثلاثة تتعين
القول الثانى الذى يترتب على هذا هذا الشىء الذى يتعين ولابد منه وهو القراءة من فاتحة أو منغيرها على من يلزم هل يلزم كل مصلٍ أو بعض المصلين؟
فالإمام أبو حنيفة رضى الله عنه وأرضاه يلزم كل مصل إلا المأموم فلا يقرأ فاتحة ولا ما عداها فى جميع أحوال اقتدائه فى جهرية أو فى سرية كما تقدم معنا(55/33)
والإمام مالك والإمام أحمد ورضى الله عن أئمتنا أجمعين يريان أنه لا يتعين على المأموم قراءة من باب الوجوب لكن إن جهر الإمام يُكره للمأموم أن يقرأ الفاتحة ومن باب أولى ما عداها وإن أسر فيسن له يسن أن يقرأ والقول الثالث قول الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه القراءة واجبة فى جميع الركعات والفاتحة هى ويسن ما زاد عليها سواء إن كان إماما أو مأموما أو فذا
إذاً عندنا هذه الأحوال الخمسة القراءة لابد منها لكن هل تتعين الفاتحة على قولين وإذا تعينت القراءة الفاتحة أو غيرها هل هى على كل مصل على ثلاثة أقوال خمسة أقوال لا يوجد واحد منها إلا وعليه دليل أظهر وأضوأ من ضوء القنديل وأقوال معتبرة كل قول قال به إمام جليل فأنت ماذا تفعل نحو هذه الأقوال حقيقة ما تراه أحوط يطمئن قلبك إليه إن كنت تبحث فى الأدلة فلك أن تعمل به
أما أن تلزم أحدا بذلك وتقول من لم يقرأ الفاتحة إذا كان مأموما صلاته باطلة أو إذا قرأ صلاته مكروهة ليس من حقك هذا
وحقيقة كما قلت لكم مرارا يعلم ربى ما أمرت أحدا أو نهيته نحو هذه المسائل لا قلت اقرأ ولا لا تقرأ ولما يأتى معنا بحث أذكر حسب يعنى الأدلة التى قررها أئمتنا أحيانا أحيانا يعنى بعض الناس يسأل ما الذى تفعله أنت, أقول ما لك ولى يا عبد الله يعنى أنا لست بحجة على نفسى فضلا على غيرى هذه أقوال أئمتنا لكن من باب البيان قول كذا يعنى أراه فى حق نفسى أحوط أما أننى أدعو إليه ألزم الناس به أحمل كما يقال يعنى السلم بالعرض فى وجه الأمة إذا لم تفعلوا هذا ما صحت صلاتكم!!!
يا إخوتى هذا ضلال ليس من حق أحد أن يفرض نفسه على أمة نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أدلة كلها عليها أحاديث كما ستسمعون صحيحة صريحة فى المطلوب بقى بعد ذلك أئمتنا رجحوا هذه على هذه أوهذه على هذه على حسب ما قالوه من أقوال وهم مأجورون(55/34)
شروط قبول العمل
(الموعظة الأولى)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الأولى
شروط قبول العمل
الحمد رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله تعالى عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد غضبك، اللهم صلى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتي الكرام..
موعظتنا في هذه الليلة موعظة موجزة مختصرة بناءاً على رغبة إخوتي الكرام في الحي المبارك وعلى رغبة أخي الكريم إمام المسجد الشيخ محمد الصاروي تقبل الله منا ومنه والمسلمين أجمعين وهذا لا ينفي بأن دروس الشيخ بها علماً وتذكير وأن موعظتي في هذه الليلة إلا مشاركة لأخي الكريم بما يقوم به، نسأل الله أن يتقبل منا جميعاً.
إخوتي الكرام:
هذه الموعظة لم أذكر فيها شيئاً جديداً، كل واحد منا يعرفه ولعله أن ترجوه في سلوكه مع ربه في جميع شؤون حياته، إنما أريد أن أذكره من باب التذكير فقد أمرنا الله بذلك وأمرنا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر فكل ما أذكره أغلب ظني معلوم عند المسلمين أجمعين لكن كما قلت ذلك من باب التذكير فلذلك نجالس هذه اللحظات القصيرة وتحصل له فائدة التذكير وما أظن أنه سيفوت منه شئ، ونسأل الله أن يرزقنا علماً نافعا وعملاً صالحا وأن يتقبل منا بفضله ورحمته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام..(56/1)
موعظة هذه الليلة تدور حول أمر كما قلت يعلمه كل أحد وينبغي أن يعظه كل أحد وهذا الأمر هو لو تأمل كل واحد منا الناس لرآهم يعملون أعملا ولا يخلوا أحد من عمل لكن يتفاوت الناس في أعمالهم فنهم من يغتنم حياته فيعمل الخيرات ومنهم من يتخبط في هذه الحياة ويبتلى بالمنكرات والقاذورات، لكن لا يخلو إنسان من عمل ولا تخلوا نفس من نية وقصد وهم وعزم، والنفوس جوالة فإما أن تجول نفس الإنسان حول العرش وإما أن تجول حول الحش وكل واحد سيعمل في هذه الحياة ولا بد فنهم من يعمل عملا صالحاً يفك رقبته من النار ومنهم من يعمل عملا خبيثا يوبقه في النار، كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، وإذ كان الأمر كذلك فقد يسأل سائل ومن حقه أن يسأل متى يكون العمل صالحا فيقبل عند الله عز وجل ويثاب عليه الإنسان.؟ ومتى يكون العمل بخلاف ذلك.؟ وحقيقة هذا الأمر إخوتي الكرام ينبغي أن يعيه كل فرد منا وهذا هو موضع موعظتنا في هذه الليلة المباركة العمل الصالح.
متى يكون العمل صالحا؟
الشروط التي إذا وجدت في العمل صار صالحا وقبله الله عز وجل، أعمالنا كثيرة فلابد إذاً من شروط لهذه الأعمال لتكون صالحة عند ذي العزة والجلال.
إخوتي الكرام:
لا يكون العمل صالحا مقبلا عند الله عز وجل إلا إذا وجد فيه ثلاثة شروط سأوجز الكلام عليها إن شاء الله وكما قلت هي معلومة وهذا موضوع موعظتنا في هذه الليلة المباركة.
الشرط الأول:(56/2)
أن تصدر الأعمال من مؤمن لله جل وعلا، فلابد من الإيمان لله جل وعلا ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن حَرِفَ عن الإيمان فوقع في الإشراك أو الكفر بالرحمن، فمهما عمل من الأعمال الحسان ترد عليه ولا تقبل عند ذي الجلال والإكرام، وقد قرر الله هذا في كثير من آيات القرءان فقال جل وعلا: {إنه من يشرك بالله فقد حبط عمله} ، {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} وقال جل وعلا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيما} ، {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا} .
أخبرنا الله جل وعلا أن من خرج عن الإيمان فهو من أهل الخسران {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} فإذا لم يتصف الإنسان بصف الإيمان أعماله مردودة عند ذي الجلال والإكرام، فلو قدر أنه قام بصدقة أو صلة رحم أو غير ذلك من أنوع البر كل هذا سيرد عليه ولا يقبل عند الله عز وجل، كما قرر الله جل وعلا في آيات القرءان الكريم يقول الله جل وعلا في سورة الفرقان: {وَقَالَ الذَّينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيرَا، يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرَاً مَحْجُوراً، وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوْا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} والهباء إخوتي الكرام هو الشعاع الذي يرى عند شدة حرارة الشمس هباء يتطاير عند شدة حرارة الشمس ذرات صغيرة هذه هي الهباء {هباءً مَنْثُوراً} .(56/3)
والهباء هو ذرات التراب الصغيرة التي تتطاير عند وجود الرياح، والهباء هو النار إذا احترقت وصارت رماداً ثم عبثت بها الرياح فتطايرت هنا وهناك هذا هو الهباء، والهباء هو رذاذ الماء عندما يتطاير إذا صب الإنسان ماءً فيخرج منه رذاذٌ خفيفٌ هذا هو الهباء.
يقول الله عن أعمال الذين لا يرجون لقاءه إذا قدموا عليه يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً} وهذا الهباء يكون متفرق متباعد بحيث لا تجتمع ذرة مع ذرة فلا ينفعهم عمل عند الله جل وعلا {هَبَاءً مَنْثُوراً} والهباء في الأصل متفرقٌ إنما ليقرر الله المعنى أتم تقرير أردفه بالكلمة التالية الأخرى {هَبَاءً مَنْثُوراً} وهذا الذي يسميه علماء البلاغة في علم البديع بالإغال والتتميم وهي أن يردف المتكلم كلامه بكلمة يزيل بها اللفظ ويقرر المعنى في النفس فيرفع عنها الوهم لتستقر في الفهم والأمر كذلك، الهباء هو الشيء المتطاير فأتبعه بهذه اللفطة {مَنْثُوراً} ليبن أنه لا يجتمع ولا يمكن أن تكون ذرة مع ذرة فجعلناه هباءً منثورا أي متفرقاً ضائعاً لا وجود له ولا ثبات ولا استقرار ولا نفعاً ولا مكاناً {وَقَدِمْنَا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وهذا إخوتي الكرام في الآخرة والله لا يظلم أحدا، فما يجري من الكافر من حسنات في هذه الحياة من صلة رحمٍ أو صدقةٍ أو غير ذلك يكافئه الله عليها في هذه الحياة من صحةٍ وطعامٍ وهواءٍ وشربٍ وغير ذلك كما ثبت ذلك في صحيح مسلمٍ من حديث أنس رضى الله عنه [عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: {إن الله لا يظلم مؤمناً حسنةً يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة} هذا كرم الله على المؤمنين أي يعطا عليها مكافئةً وجزاءً في الدنيا من صحةٍ ونعمٍ لا تحصى وحياةٍ طيبةٍ مطمئنةٍ لكن يدخر له الأجر العظيم عنده يوم الدين، يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر(56/4)
فيطعم بحسناته التي عمل بها في هذه الحياة الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يجزى بها] فأعطاه الله جزاء ما عمل في هذه الحياة عندما سخر له الهواء والماء والغذاء والكساء وغير ذلك من نعمه التي لا تحصى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} إذاً أم الثوب في الآخرة يضيع وكوفئ الكافر على عمله في هذه الحياة أما في الآخرة فلا ينتفع بعمل ما دام كافراً بالله مشركاً به جل وعلا كما قال الله جل وعلا {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ} والرماد هو الحطب إذا احترق {أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يوم عاصفٍ لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} وضرب الله مثلاً أي ضل أعمال الكفار في سورة النور بل مثلين فقال جل وعلا: {والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} هذا هو المثل الأول، أعمال الكافر في هذه الحياة يتوقع عليها نفعاً هو في ظنه ووهمه بعد الممات لا حقيقة لذلك حاله كحال من ينظر إلى السراب، وهو ما يتراء من ماءٍ لمن ينظر في شدة الحرارة عند الظهيرة في صحراء، لو نظر الإنسان إلى الصحراء إلى الأرض الممتدة الصحراء الواسعة عند الظهيرة لتراء له أنه يوجد أمواج من المياه يركب بعضها بعضا لكنه إذا اقترب من ذلك المكان الذي يخيل إليه أنه فيه ماء تبين أنه لا يوجد ماءٌ إنما هو سراب تراء له ولا حقيقة له، وهكذا عمل الكافر {الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ} بأرض ممبسطةً، والسراب ما يتراء للناظر أنه ماءٌ عند شدة الحر وليس بماءٍ {كسراب بقيعةٍ حسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} والمثل الثاني {أو كظلمات في بحر لجيٍ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحابٌ ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور} .(56/5)
إذاً ظلماتٌ كثيرةٌ متداخلةٌ متطابقةٌ الظلمة الأولى بحر لجيٌ عميق فلا يرى ما في قعره يرتفع على هذا البحر أمواجٌ تمنع الرؤيا فلا يمكن أن ترى سطح البحر من كثرة الأمواج فضلاً عن رؤية قعره ويعلوا هذه الأمواج سحبٌ كثيفةٌ مظلمةٌ ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وهكذا عمل الكافر ظلمةٌ في هذه الحياة ولا ينتفع به بعد الممات، إذا إخوتي الكرام الشرط الأول لقبول العمل عند الرحمن الإيمان بذي الجلال ولإكرام، نسأل الله أن يشرح صدورنا للإيمان به واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني:(56/6)
الشرط الثاني لقبول العمل ليكون صالحا وليقبل عند الله عز وجل إتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نقوم به من أعمال، هذه الأعمال التي تصدر منا بعد أن أمنا بربنا ينبغي أن تكون حسب شرع رسولنا - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله جل وعلا سواءٌ في عقائدنا سواءٌ في عبادتنا سواءٌ في معاملاتنا سواءٌ في أخلاقنا وآدابنا سواءٌ في عقوباتنا وتأديبنا لغيرنا وحبنا وبغضنا له كل هذا ينبغي يأخذ من مشكاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون على حسب شرعه وأن لا يكون للإنسان إمام في هذه الحياة إلا المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، ونسأل الله أن يدعونا به يوم القيامة {يوم ندعو كل أناسٍ بإمامهم} نسأله أن ينادينا يوم القيامة يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ويا أتباع النبي عليه الصلاة والسلام يوم ندعو كل أناس بإمامهم، فلابد من متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الحركات والسكنات فمن آمن بالله وعمل بعد ذلك على حسب رأيه وهواه وعرفه وعادته فعمله مردودٌ عليه، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها قالت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد] وفي رواية لمسلم [من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد] عمل عملاً ليس عليه هدي النبي عليه الصلاة والسلام وهذا العمل لم يوافق شرع النبي عليه الصلاة والسلام فهو مردودٌ على فاعله سواءٌ كان من المؤمنين أو لا، وهو مردودٌ على فاعله سواءٌ أرد به الترقب الله أو لا فلا يقبل العمل عند الله إلا إذا كان موافقاً لشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع الحركة والسكنات فإذا عمل الإنسان عملاً ليس عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعمله مردودٌ عليه.
إخوتي الكرام..(56/7)
ولا يتحقق الإيمان ولا يقبل إيمان الإنسان حتى يكون هواه تبعاً لشرع النبي عليه الصلاة والسلام، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه الأمام أبو نعيم في كتاب الأربعين وشرط ألا يرد في كتابه إلا حديثاً صحيحاً من نقل الثقة عن الثقة والحديث رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة ورواه البغاوي في شرح السنة ورواه الأمام أبو نصر المقدسي في الحجة على تاركي المحجة وإسناد الحديث في درجة الحسن من حديث عبد الله ابن عمرو ابن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به] وهذا المعنى الذي قرره النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إليه ربنا في كتابه فقال {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكوك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما} هذا الشرط الثاني ليكون العمل صالحا وليقبل عند الله جل وعلا، إيمان بالله واتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، إيمان بالرحمن واتباع للنبي عليه الصلاة والسلام.
الشرط الثالث:(56/8)
إخلاص لله جل وعلا في الأعمال التي نقوم بها، آمنا به واتبعنا شرع نبيه عليه الصلاة والسلام وأردنا بجميع أعمالنا التقرب إلى ربنا دون حظ من الحظوظ النفسية أو الدنيوية كما أشار ربنا جل وعلا إلى هذا الشرط بقوله {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} وإذا كان الإنسان من المؤمنين واتبع في عمله هدي النبي الأمين عليه الصلاة والسلام لكنه ما أراد بذلك وجه رب العالمين، أراد مراءت الناس حظاً من حظوظ الدنيا، حطاماً عاجلا فعمله لا يقبل عند أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفي إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطلٌ ما كانوا يعملون} من كان قصده وغايته في هذه الحياة أن يقوم بالطاعات ليحصل حطام الدنيا وعرضها وحظوظها من جاهٍ ومنزلةٍ وأي شيءٍ بعد ذلك من الأمور الدنيوية.(56/9)
حكم ما يدور في القلوب
(الموعظة الثانية)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الثانية
حكم ما يدور في القلوب
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، وبيدك الملك كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب التوابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ، عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله، أرسله اله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به عيوناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2)) ) سورة النساء: 1
(3)) ) آل عمران: 102(57/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الأخوة الكرام..
تبين لنا في الموعظة السابقة أن القلوب ثلاثة أقسام:
1. قلب حي سليم نفسه مطمئنة راضية مرضية.
2. ويقابل ذلك قلب ثانٍ وهو قلب ميت سقيم صاحبه نفسٍ أمارة بالسوء كحال الشيطان الرجيم.
3. وهناك قسمٌ ثالث لم تكتمل الحياة في قلبه ولم تفارق الحياة قلبه. ففيه حياة ولكن فيها ضعف ونقص فهو في حالة مرض ونفس صاحب هذا القلب نفس لوامة تلومه وهي ملومة ومتلومة لا تثبت على حال، تتردد بين الخير والشر، والمعصوم من عصمه الله.
إخوتي الكرام:
وتقدم معنا أن ضابط النفس الطيبة الحية المطمئنة، انه يوجد فيها أمران، معرفة للحق وعمل به اكتملت القوة العلمية والقوة العملية فيه، وإذا فرط الإنسان في أحد هذين القسمين فقلبه ميت موتا لا حياة فيه، أو مريض مرضاً يفقد تمام الحياة عندما يصاب بالشبهات أو الشهوات، وقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم الوقوع في أحد هذين المرضين، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى علينا إلا أحد هذين الأمرين، ففي مسند الأمام أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة والحديث رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى] فخشيت نبينا - صلى الله عليه وسلم - من حصيلة في هذين الأمرين شهواتٌ أو شبهاتٌ تفسدان القوة العلمية أو القوة العملية في الإنسان.
إخوتي الكرام..
__________
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71(57/2)
وتقدم معنا في الموعظة السابقة، موقف الشيطان نحو أقسام قلوب بني الإنسان، فالشيطان لا يقترب من القلب الحي الطيب وليس له عليه سبيل ولا يقترب أيضاً من صاحب القلب الميت السقيم للإلا يضيع وقته فيه، فحال صاحب ذلك القلب كما قلت كحال الشيطان الرجيم، إنما مجال الشيطان في القلب المريض الذي لم يفقد تمام الحياة ولم تكتمل فيه الحياة، فهو يكر على ذلك القلب عندما يغفل الإنسان عن الرد وهو يفر عندما يذكر الإنسان ربه.
إخوتي الكرام:
وحال الشيطان الجني مع هذه القلوب الثلاثة كحال اللص الإنسي مع البيوت الموجودة في الأرض تماماً، فاللص من بني الإنسان تنقسم أمامه بيوت بني الناس إلى ثلاثة أقسام:
? بيت لا يستطيع أن يقربه مع أن له فيه مطمع والنفس تتطلع ما فيه من زينة الدنيا لكن إذا اقترب منه صرع وقتل وهذا هو بيت الأمراء فيه خيرات الدنيا شيء كثير لكن تلك البيوت قد حرست بالحرس فلا يستطيع اللص أن يقترب منها لما فيها من أهبة واستعداد، وهكذا العدو الجني الشيطان الرجيم لا يقترب من قلوب النبيين والصدقين.
? وهناك بيوت ثانية لا يقترب منها اللص الإنسي، لا لأنها فيها أهبة واستعداد وفيها مطمع، لكن لا يستطيع أن يصل إليه، لا ثم لا، ليس فيها أهبة واستعداد وهي مخلات لكل داخلٍ وخارجٍ لكم ليس فيها ما تتطلع إليه النفس في هذه الحياة وهي الخروب والبيوت المتهدمة الساقطة على عروشها التي تحولت إلى خرب ويقضي الناس فيها حوائجهم فحتماً لا يذهب اللص إليها ولا يقترب منها، وماذا يفعل فيها ولم يبقى فيها شيء وهكذا قلوب عتاد الإنس لا يقربها الشيطان الرجيم لما فيها من دنسٍ وفسادٍ وخبثٍ كحال قلب الشيطان الرجيم.(57/3)
بقيت هناك بيوت ثالثة ليست بخرب وليست كبيوت الأمراء، وهي بيوت الرعية فيها شيء من الخيرات، لكن ليست فيها حرسٌ كما هو الحال نحو بيوت الأمراء فاللص الإنسي ينظر إلى هذه البيوت فإن رأى غفلة من أصحابها دخل وسرق منها وإذا أوصدت الأبواب أمام وجهه واحترس أهل البيت من قِبَلِ هذا اللص لا يستطيع أن يقترب منها، هذه البيوت في الأرض أحوالها كحال القلوب في الصدر تماما والعدو الجني حاله كحال العدو الإنسي، ونسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا.
إخوتي الكرام..
هذه القلوب بأقسامها الثلاثة، القلب الحي السليم، والميت السقيم، والقلب الذي فقد تمام الحياة وكمالها ولم يصل إلى حد العطب والموت، هذه القلوب الثلاثة لا تفتر من حركة ولا تتوقف عن عمل ولابد من شيء تشغل به ولابد من خير أو شر، طاعة أو معصية من نفع أو ضر، ولذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إلى ربه في أن يثبت قلبه على الإيمان على الدوام وفي ذلك تعليم لنا.
إخوتي في الإسلام..
أن نلجأ إلى ربنا بأن يثبت الإيمان في قلوبنا على الدوام، ثبت في مسند الأمام أحمد وسنن الترمذي بإسناد حسن عن شهب بن حوشب وهو من ءأمة التابعين أنه سأل أمنا أم سلمة رضي الله عنها فقال ما كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندك في بيتك (إذا جاء ليلتك فما أكثر دعاء يدعوا به نبينا عليه الصلاة والسلام) فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها [كان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -[اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك] إي والله إن القلب ما سمي قلباً إلا أنه يتقلب ولا يفتر من حركة وهو دءوب العمل في الخير أو الشر.(57/4)
ثبت في الكتابين المتقدمين في المسند، وسنن الترمذي بسند صحيح عن - رضي الله عنه - قال كان يكثر النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - من هذا الدعاء [اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك] فقلنا يا رسول - صلى الله عليه وسلم -، قد آمنا بك وصدقناك فهل تخاف علينا فقال عليه صلوات الله وسلامه وفدائه آباءنا وأمهاتنا [إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء] ، وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عن عبد الله عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك] .
إخوتي الكرام..
هذه القلوب بأقسامها الثلاثة لابد لها من حركة وعمل، إما أن تجول في الشر، وإما أن ترتع في الخير، ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أصدق اسم ينطبق على حقيقة الإنسان ويوافق مسماه على التمام، حارس وهمام، حارس مكتسب فاعل، فالفارق بين الحي والميت هو الفعل، وهمام، وهو الهم، لا يخلو واحداً منا من هم وخطرة وإرادة، ولا يخلو واحداً منا من كسب وسعي، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
ثبت في مسند الأمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي، وأصل الحديث في صحيح مسلم، ولفظ الحديث في الكتب الثلاثة في المسند وسنن أبي داود والنسائي عن أبي وهب الجشمي وهو من الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها حرب ومرة، وأصدقها حارس وهمام] أحسن الأسماء وأحبها إلى رب الأرض والسماء ما حمل اسم نبي أو دل على عبودية الله جل وعلا.
اسمه محمد، أو أحمد أو يوسف أو يونس أو عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الرحيم أو عبد الحليم أو عبد العظيم.(57/5)
وأقبح الأسماء ما دل على فتنة أو كرهٍ، حربٌ يدل على فتنة ومشاكل، ومرة، يدل على شيء تستكره النفوس وتتقذر منه وهي المرارة.
وأصدق الأسماء. الأصدق يدل على مسماه وينطبق على حقيقته، حارس، أي فاعل مكتسب، لابد من كسب في الخير أو الشر، لابد، والنفس كما تقدم معنا إن لم تشغل بحق شغلت بباطل ـ وهذه النفوس والقلوب كالرحى، كالطاحون التي تفتر فإن وضعت فيها براً طحنته وأخرجت منه الطحنى دقيقاً، وإن وضعت فيها حجراً طحنته وأخرجت ترباً، وإن وضعت فيها شوكاً طحنته وأخرجت أذى وغماً وهماً، هذه النفوس لابد لها من حركة. أصدق الأسماء حارس وهمام، ولذلك قال أئمتنا الكرام هذه القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش.
إما أن تجول في الملأ الأعلى حول عرش الرحمن وتذكر ذا الجلال ولإكرام، وإما أن تطوف حول مزابل الإنسان ووساوس الشيطان.
إما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش.
إخوتي الكرام..
وإذا كانت هذه القلوب بأقسامها الثلاثة لا تفتر عن العمل وخترة وحديث وهم فينبغي على العاقل أن يقف عند قلبه وأن يتأمل ما يدور في نفسه وأن يبحث فيه هل هو له أو عليه
إخوتي الكرام..
وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة بإذن ربنا الرحمن، لأن أخوتي الكرام من مراقبة ما يدور في القلب ويجري في النفس فالإنسان بعمله القلبي يرتفع إلى درجة الصديقين أو يهوى إلى دركة الشيطان الرجيم،
إما أن يكون في أعلى عليين أو في أسفل السافلين بعمله القلبي وأكثر. شهداء هذه الأمة أصحاب الفرش ورُبَّ قتيلٌ بين الصفين الله أعلم بنيته، هذا القلب لابد من مراقبة ما يقع فيه وهذه النفس لابد من مراقبة ما يجري فيها.
إخوتي الكرام..(57/6)
إنما يدور في قلوب بني الإنسان ويخطر في نفوسهم ينقسم إلى خمسة أقسام أولها المرحلة الأولى: مرحلة الهاجس، وهذا الهاجس عرفه أئمتنا الكرام بأنه الشعور بأمر من الأمور في جانب الخير أو الشرور من غير اختيار من الإنسان ثم زال هذا الشعور من غير اختيار منك، ويقال على هذا الذي يقع في قلبك ويدور في نفسك إذا خطر وزال كان خطراته على قلبك ووقوعه بغير اختيارك وزواله بغير اختيارك يقال له هاجس، هذا الهاجس تكرم الله علينا فلم يعاقبنا عليه إذا كان في جانب السيئات وأيضاً لا ثواب عليه إذا كان في جانب الحسنات.
ويليه أيضاً الخاطر:
وهو استمرار ذلك الشعور جانب الخير أو الشرور فترة أطول من الهاجس ثم زوال ذلك الخاطر أيضاً دون اختيار منك، فالهاجس والخاطر هجما عليك بغير اختيارك وزولهما عنك بغير اختارك إن كانا في الخير أو الشر لا تثاب عليهما ولا تعاقب عليهما والسبب في ذلك أنه ليس منك كسبٌ وسعيٌ نحوهما ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، بما أن هذا جرى منك من غير اختيارك وزال من غير اختيارك فلا تثاب عليه ولا تعاقب.
المرحلة الثالثة:
حديث النفس المحدث نفسه بذلك الخاطر الذي استمر في نفسه فترة أن يحدث نفسه بحسنة أو بقبحة بفعله أو بتركه دون أن يرجح فعلاً على تركٍ أو تركاً على فعلٍ، إنما حدث نفسه فيه، خطر بباله أن يبني مسجداً لله، حدث نفسه بحسن ذلك العمل ومنفعته دون أن يرحج البناء على الترك ومن باب أولى دون أن يعزم على البناء على الترك، إنما حدث نفسه ببناء المسجد وأن فيه أجراً عظيماً عند الله جل وعلا، لكن ما مال على فعله ولا عزم على فعله، هذا يقال حديث النفس أستمر ذلك الخاطر في نفسه وبذل نحوه سعياً اختيارياً فبدء يتحدث به في داخله ثم زال عنه ذلك الخاطر أيضاً لانشغاله بغيره، فهذا من كرم الله وفضله يكتب لك في الحسنات ولا يكتب عليك في السيئات.
ويلي حديث النفس الهم:(57/7)
وهو ترجيح الفعل على الترك ما حدث به نفسه وراء حسنة هم بفعله وكان نسبة الهم تزيد على النصف وهذا هو ترجيح الفعل على الترك، عزماً لم يصل إلى درجة التصميم، إنما إلى درجة ستين أو سبعين بالمائة 60 أو 70 % إنه سيبني ذلك المسجد فمن باب أولى يكتب له أجر الهم كما يكتب له أجر حديث النفس، وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى كتابة أجر حديث النفس والهم في الحسنات وعدم كتابة حديث النفس في السيئات في أحاديث كثيرة ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن عملها كتبها الله بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبها الله بمثلها] .
وفي بعض رواية الأمام مسلم يقول الله تعالى في الحديث القدسي [إذا حدث عبدي بحسنة فلم يعملها فكتبوها له حسنة] حدث، وهناك هم، فإذا حدثت نفسك بطاعة تكتب لك، هممت بخير يكتب لك، حدثت نفسك بمعصية أو هممت بها لا تكتب عليك في جانب حديث النفس والهم، كرماً من الله وفضلا.
إخوتي الكرام..
وفي بعض رواية الحديث في الصحيحين [إذا حدث نفسه وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة] ولا تعارض بين الروايتين لان من يحدث نفسه بسيئة ومن يهم بسيئة ينقسم حاله بعد ذلك في تركها إلى حالتين، إما أن يتركها غفلة عنها واشتغالاً بغيرها فلا تكتب عليه سيئة، وليس له في ذلك أجر، وإما أن يتركها خشية من الله واستحضاراً لعظمته وطرد ذلك الحديث والهم عنه بعد ذلك، بعد أن حدث نفسه بمعصية وهم بها استحضر عظمة الله وخشي الله وجاهد نفسه في ذات الله وأزال ذلك عنه الخاطر الرديء فيكتب له على همه بالسيئة حسنة عندما تركها خشية من ربه جل وعلا.(57/8)
وأما المرتبة الخامسة التي تدور في القلوب وتجول في النفوس فهي مرحلة العزم: وهو التصميم الأكيد على فعل الشيء بحيث لو تمكن منه لفعله، بحيث لو لم يمنعه مانع خارجي عن نفسه لأوجد ما عزم عليه، ففي هذه الحالة يكتب على الإنسان ما عزم عليه في جانب الخير وفي جانب الشر مع أنه لم يباشره بجوارحه، فالنطفطن لما يقع في قلوبنا ما نعزم عليه من عزم على خير وجزم به كتب له، وإذا كان حديث النفس والهم يكتبان له فمن باب أولى أن يكتب العزم، وإذا عزم على شر كتب عليه كما لو فعله، لأنه لو لم يفعله، المانع عنه مانع خارجي، وقد دلت آيات القرآن وتواترت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن العزم يؤاخذ عليه الإنسان ويكتب عليه، يكتب له في جانب الخير بلا خلاف، وهكذا يكتب عليه في الشر كما دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -.(57/9)
فأما الآيات فسأقتصر على آية واحدة يقرر الله فيها الأمر في سورة النور فيقول العزيز الغفور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) إن الذين يحبون، والمحبة عمل قلبي، أحب في قلبه ومال قلبه إلى هتك ستر المسلمين وطار فرحاً عندما يهتك ستر مسلم، لم يتكلم بشفتيه ولا سعى بجوارحه، لكن إذا تُكلم على مسلم في حضرته فرح، هذا الفرح عمل قلبي ما حرك جوارحه، هذا العمل القلبي له هذه العقوبة عند الله {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (2) ، هذا حال من يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، نعم يجب عليك أن تستر عباد الله وأن تحب سترهم في هذه الحياة فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة وثبت عن نبينا الصلاة والسلام في معجم الطبراني والأوسط من رواية جابر عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من ستر على مؤمن فكأنما أحيا موؤدة] وفي رواية [من ستر عورة فكأنما استحي موؤدة] من ستر عورة من عورات المؤمنين فكأنما استحي موؤدة، أراد بوالدها أن يقتلها فأخذها حية ورباها فله أجر عظيم عند الله وهكذا حال من يستر عباد الله، فإذا أحب الإنسان هتك الستر عن المسلمين له هذه العقوبة، أما إذا سعى بجوارحه في هتك أستارهم فله من العقوبة ما يخطر ببال كثير من الناس.
__________
(1)) ) سورة النور: 19
(2)) ) سورة النور: 19(57/10)
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير وستدرك الحاكم بإسناد لا بأس به عن حذيفة بن اليماني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة] إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة، تكلم في عرض مؤمن أو مؤمنة حبط عمله مائة سنة بطاعات وعبادات.
إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة بن اليماني أيضاً رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا يدخل الجنة نمام ينقل الكلام بين المسلمين ويوقع بينهم العداوة والبغضاء لا يدخل الجنة] هو إذا أحب في قلبه هتك ستر المسلمين له عذاب أليم في الدنيا والآخرة فكيف إذا سعى بلسانه، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
[والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن: قالوا من يا رسول الله: قال الذي لا يؤمن جاره بوائقه] لا يأمنون شروره وبوائله وفتنه وضره فليس عند الله من عتاد المؤمنين.(57/11)
إذا عزم، إذا وصل في القلب وجل به يكتب للإنسان وعليه في جانب الخير أو الشر، وقد دلت على ذلك أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - سأقتصر على حديثين من أحاديثه الكثيرة التي تقرر هذا الأمر، الحديث الأول في الصحيحين من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار: قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول] أي دخل القاتل النار، هذا أمره معلوم لأنه قتل مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما بال المقتول؟ فقال عليه الصلاة والسلام [إنه كان حريصاً على قتل صاحبه] أي عزم على ذلك في قلبه لكن لم يتمكن بجوارحه، منعه مانع خارجي، إنه كان حريصاً على قتل صاحبه، وثبت في مسند الأمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح من رواية الصحابي أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [ثلاثةٌ أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فحفظوه] أما الثلاثة التي أقسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - على صحتها ووقوعها ولابد [ما نقص مال من صدقة] فمن تصدق لا ينقص ماله بل يزيده الله أضعافاً مضاعفة، {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) [ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا] ظُلم عبد في هذه الحياة فعفى يزيده الله عزاً ورفعة [ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر] إذا تعرض لسؤال الناس من غير حاجة يجعل الله فقره في قلبه ولا يأتيه إلا ما قدر له، هذه أقسم عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الحديث الذي ينبغي أن نعيه ويتعلق بأمرنا وهو أن من عزم على الخير كتب له كأنما فعله، ومن عزم على شر كتب عليه كأنما فعله، يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -[وأحدثكم حديثاً فحفظوه هذه الدنيا لأربعة
__________
(1)) ) سورة سبأ: 39(57/12)
نفر] أي حال هذه الدنيا مع الناس إلى أربعة أقسام والناس ينقسمون فيها إلى أربعة أقسام لا خامس لهم [رجل أتاه الله مالاً وعماً فهو يعمل في ماله بعلمه فيتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقاً فهو في أعلى المنازل، ورجل أتاه الله علماً ولم يؤتيه مالاً فقال يا ليتني مثل فلاناً حتى أعمل بمثل عمله] قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -[فهم في الأجر سواء،] ذاك بعمله، وهذا بنيته [ورجل أتاه اله مالاً ولم يؤتيه علماً فهو يخبط في ماله فلا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم أن لله فيه حقاً فهو في أخبث المنازل، ورجل لم يؤتيه الله علماً ولا مالاً فقال يا ليتني مثل فلان الذي] الذي نفق ماله على المسكرات والمخدرات والاعتداء على الأعراض [يا ليتني مثل فلان أعمل بمثل عمله] قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -[فهما في الوزر سواء] لم يعمل شيئاً من المنكرات لكنه عزم عليها ولو تمكن منها لفعلها، هناك فهما في الأجر سواء، وهنا فهما في الوزر سواء.
إخوتي الكرام..
لابد من مراقبة ما يدور في هذا القلب فالإنسان بإمكانه أن ينوي الخيرات وأن يحصل بذلك أعظم الدرجات عند رب الأرض والسماوات.
أسال الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحد ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير الخلق أجمعين، اللهم صلى علي محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:(57/13)
إذا كان حال القلوب كما تقدم وما يدور فيها. حاله كما فصلت وذكرت فينبغي أن نعلم أن القلوب هي أصل الأعمال، والأعمال الظاهرة مرتبطة بما يقع في القلب، فاعمل الظاهري الذي يقع منك صحته وفساده، قبوله ورده، حصول الثواب أو العقاب عليه متوقف على ما يقع في القلب من عزم ونية، فقد قرر هذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إنما الأعمال بالنيات] صحة وفساداً، قبولاً ورداً، ثواباً وعقاباً، [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه] هو في الصورة مهاجر لكنه عند الله خاطبٌ أو تاجرٌ [فهجرته إلى ما هاجر إليه] .
إخوتي الكرام:
وإذا كان الإنسان إذا حدث نفسه بطاعة أو هم بها أو عزم عليها يكتب له أجرها فينبغي على الكيس في هذه الحياة أن يفعل بجوارحه ما استطاع من الحسنات وما يعجز عنه ينبغي أن ينويه وأن يهم به وأن يحدث نفسه به وأن يعزم عليه، فإذا عزم عليه وأتى بما في وسعه مما تتمكن منه جوارحه يكتب له أجر ما عزم عليه، فالعازم على الطاعة إذا لم يتمكن منها يكتب له أجر العامل الكامل {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (1) .
إخوتي الكرام:
__________
(1) سورة المطففين: 26(57/14)
إن الحديث بالحسنات والهم بها والعزم عليها يسيرٌ يسير وفعلها ليس بالعسير، وإن الحديث بالسيئات ثقيل وخيم وبيل وفعلها أشنع منها وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذا في آخر سورة البقرة فقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1) أنظر لدلالة الآية الكريمة على سهوله الحسنة وانتفاع العبد بها، وعلى ثقل السيئة وتضرر العبد بها، من وجهين أشار إليها ربنا جل وعلا بهذه الآية فقال {لها} تعجيلاً بالمسرة فهذا {لها} تنتفع به وتحوذه وتملكه، ثم في جانب الفعل ما كسبت ليس لها تكلف ولا ثقل ولما أتى للسيئات {عليها} تعجيلاً بالمضرة، فكأنها تحمل شيئاً يثقلها ويتعبها ويؤذيها وتتضرر به ولما أتى لجانب الفعل أتى بصيغة الافتعال {ما اكتسبت} وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، نعم إن الهم بالسيئة ثقيل، وهو خلاف الفطرة التي فطر الله عليها
عباده، وفعل السيئة أثقل منها، {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .
أسأل الله جل وعلا أن يشرح صدورنا لطاعته ومحبته في جميع أحوالنا وأوقاتنا، إنه على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعلنا من المحبوبين عندك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك، الله اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وأصلح ذات بينهم ونصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير.
عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
__________
(1) سورة البقرة: 286
(2) سورة النحل: 90(57/15)
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) .
__________
(1) سورة العصر: 1- 3(57/16)
حقيقة الإيمان
(الموعظة الثالثة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الثالثة
حقيقة الإيمان
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما وهدنا صراطاً مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة هو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله وبيدك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين، اللهم صلي على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتي الكرام..
تدارسنا في الموعظة السابقة شروط قبول العمل عند ربنا الرحمن، وقلت أن العمل لا يقبل ولا يثاب عليه إنسان إلا إذا وجد فيه ثلاثة شروط، إيمان من فاعله بربه جل وعلا، إيمان بالله جل وعلا وإخلاص لله جل وعلا، واتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، إيمان وإخلاص ومتابعة، إذا وجدت هذه الشروط الثلاثة في العمل فهو مقبول عند الله جل وعلا، وفي هذه الليلة المباركة سنتدارس أمراً يتعلق فيما مضى ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً ألا وهو؟ ما هي الثمرة التي يجنيها الإنسان إذا حقق تلك الشروط في عمله في هذه الحياة؟ آمن بالله وأخلص له واتبع النبي عليه الصلاة والسلام، ما هي الثمرة التي يحصلها من ذلك؟ وماذا يستفيد من هذا؟ وسنتدارس بعد هذا أمراً يرتبط أيضاً بها بين الأمرين ألا هو ما هي علامة حصول تلك الثمرة في الإنسان؟
إخوتي الكرام..(58/1)
إن الإنسان إذا آمن بالله في هذه الحياة وأخلص لله واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم سينال في هذه الحياة راحة وهداية وسينال بعد موته فوزاً وسعادة، أما في هذه الحياة فهو على نور من ربه ويكون في قلبه طمأنينة وفي نفسه بهجة، وفي صدره انشراح ويحصل قرة العين في هذه الحياة، ولذة لا يعدلها لذة، وسيسعد بعد ذلك بنعيم الجنات ورضوان رب الأرض والسماوات بعد الممات، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذه الثمرة التي يحصلها من آمن بالله وأخلص له واتبع النبي عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الأمام أحمد وصحيح مسلم من حديث العباس أن نبينا عليه الصلاة والسلام ورضى الله عن العباس وعن سائر الصحابة الكرام، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالسلام ديناً وبحمد صلى الله عليه وسلم نبيا] ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
إخوتي الكرام:(58/2)
رضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب سواه، وعليه من قنع بأن معبوده هو الله فلم يعبد غيراً معه، وقنع ورضي أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إماماً له في هذه الحياة فلم يتبع غيره، وقنع ورضي بأن يكون الإسلام شريعة له في هذه الحياة، فلا يحكم شريعة ولا نظاماً في حياته غير نظام الإسلام، حقيقة إذا وجدت هذه الأمور الثلاثة في الإنسان، عبد الله وحده لا شريك له فلم يعبد غيره، واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل له إماماً غيره في هذه الحياة، واحتكم إلى شريعة الإسلام في جميع شئونه في حركاته وسكناته، سيترتب على هذا ثمرة ولابد ألا وهي، أن يذوق طعم الإيمان، ذاق طعم الإيمان، وهذا الطعم هي الحلاوة التي تخالط قلب الإنسان، والشاشة التي تباشر نفسه، بحيث إذا وجدة تلك البشاشة والحلاوة في قلب الإنسان وفي نفسه ينقاد بعد ذلك طواعية لربه ولا يمكن في أن يرجع عن نور الله وعن هداه، وإنما رجع من رجع وارتد من ارتد، من ارتد، لأنه لم يصل، ولو وصل إلى هذه الحلاوة لما رجع، [ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا] سيذوق للإيمان طعماً حلاوة تتضائل بجانبها جميع الحلوات الحسية التي يلتذ بها بنو آدم.
إخوتي الكرام:
لكن هذا الطعم للإيمان لا يذوقه إلا من وجدت فيه هذه الأمور، معبوده ربه هو الله وحده لا شريك له، وأما إذا عبد مع الله إلهاً آخر من درهم، فتعس عبد الدرهم، وهو في شقاء ونكد وبلاء، من زوجة، تعس عبد الزوجة، من ثوب وخميصة، تعس عبد الخميصة.
إذاً لابد أن يفرد الله في العبادة، ثم يفرد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، ويحتكم إلى الشريعة التي أنزلها الله على نبيه عليه الصلاة والسلام، فأفرد الله بالعبادة، وأفرد النبي عليه الصلاة والسلام بالمتابعة، وعبد الله حسب ما يحب مريداً بذلك وجه.(58/3)
سيذوق، سيذوق للإيمان حلاوة ولابد، هذه الثمرة سيحصلها الإنسان عندما يلتزم في عمله بتلك الشروط الحسان الثلاثة. إيمان بالله وإخلاص له واتباع لنبيه عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام:
وهذه الأمور الثلاثة التي إذا حققها الإنسان يذوق بها طعم الإيمان، إذا رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا.
هذه الأمور الثلاثة بهذه الجمل الثلاثة أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقولها في الصباح وفي المساء، بل أمرنا أن قولها في جميع أوقاتنا عند سماع الأذان في اليوم خمس مرات ورتب نبينا صلى الله عليه وسلم على ذلك أجراً كثيرا ما ينبغي أن نغفل عنه ولا نضيعها.(58/4)
ثبت في مسند الأمام أحمد والسنن، وهو في سنن الترمذي من رواية ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام وفي السنن الأخرى سمي الصحابي لرجل خدم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر اسمه في المسند والسنن عن ثوبان وغيره من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث أيضاً في صحيح ابن حبان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [من قال حين يصبح وحين يمسي] من قال حين يصبح وحين يمسي [رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، كان حقاً على الله أن يرضيه] كان حقاً على الله أن يرضيه، وينال جائزة أكرم الله بها نبيه عليه الصلاة والسلام وصديق هذه الأمة أبا بكر رضى الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام. أما نبينا عليه الصلاة والسلام فالله يقول له: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} ، أما أبو بكر رضي الله عنه فيقول الله جل وعلا في سورة الليل في آخرها: {ما لأحد عنده من نعمة تجزى، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى} ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولسوف يرضى، وأنت إذا قلت هذا الدعاء في الصباح وفي المساء يرضيك الله جل وعلا في هذه الحياة وبعد الممات وتنال هذه الصفة والحديث كما قلت ثابت بإسناد صحيح [من قال حين يمسي وحين يصبح رضيت بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، كان حقاً على الله أن يرضيه] ولفظ الحديث في سنن الترمذي كما ذكرت، في كتب أخرى بمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا [من قال حين يصبح وحين يمسي رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، كان حقاً على الله أن يرضيه] في الرواية الأولى نعت بصف النبوة وفي الرواية الثانية نعت بصف الرسالة.(58/5)
وقد ذهب شيخ الإسلام الأمام النووي عليه رحمة الله في كتابه الأذكار إلى الجمع بين النعتين والوصفين فيقول القائل [رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا] في الصباح وفي المساء كان حقاً على الله أن يرضيه، قال شيخ الإسلام الأمام النووي (وإذا قال إحدى الصيغتين أجزئه فقد أتى بأصل الحديث) أي هذا وارد وهذا وارد، فلو قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم نبيا نال تلك الفضيلة، ولو قال رضت بالله ربا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نال تلك الفضيلة، ولو جمع بينهما لكان أحسن، فهو النبي الذي أرسله الله إلى جميع العالمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
إخوتي الكرام:(58/6)
وأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقول هذه الجملة المباركة المؤلفة من هذه الجمل الثلاث عند سماع الأذان وأخبرنا أن من قالها عند سماع الأذان يغفر الله له ذنبه. ثبت في مسند الأمام أحمد وصحيح ومسلم والحديث في السنن أيضاً من رواية سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد رسول الله عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه] هنا نعت النبي صلى الله عليه وسلم بوصف الرسالة ولم يرد نعته في هذا الرواية بوصف النبوة، رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبالإسلام دينا غفر له ذنبه، وهذه الجملة تقال عندما ينطق المؤذن بالشهادتين فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وأتبعها بقوله أشهد أن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وبالإسلام دينا يغفر لك ذنبك، والحديث كما قلت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وغير ذلك، إذاً إخوتي الكرام من حقق هذا المعنى فيه ذاق للإيمان وحلاوة وهذه هي الثمرة التي يحصلها الإنسان عندما يؤمن بالله ويخلص له في هذه الحياة ويتبع نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، ذاق طعم الإيمان من رضيا بالله ربا وبالإسلام دينا بالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وهذا الطعم طعم طيب حلو، طعم تتعلق به القلوب ولا تسخطه بعد ذلك في حالة من الأحوال.(58/7)
وقد ثبت وفي مسند الأمام أحمد والصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول [ثلاث من كن فيه وجد طعم الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار] هذه الأمور الثلاثة تحقيق لتلك الأمور التي تقدمت معنا وينبغي أن توجد في العمل ليقبل عند الله عز وجل، أنت لا تذوق لا حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أحب إليك مما سواهما، فالله هو المعبود بالحق ولا معبود بالحق في الوجود سواه، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو الأمام وآخر الأنبياء والمرسلين ولا إمام للبشرية سواه، ينبغي أن توحد الله بالعبادة وأن توحد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، ينبغي أن تهاجر إلى الله جل وعلا عن طريق خلع ما يعبد من دونه، وأن تهاجر إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن طريق نبذ ما يطاع من دونه، فلا معبود إلا الله ولا مطاع إلا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حققت هذا في نفسك تذوق حلاوة الإيمان [ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما] وإذا كان الله معبودك والنبي متبوعك فينبغي أن تخلص لربك، [وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله] ليس بيننا بين أحد صلة إلا على حسب شرع الله نريد بذلك وجه الله وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وإذا تحقق هذا فيه فسيكره ما يسخط الله وسيبتعد عما يغضب الله وبالتالي يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما أن النفس البشرية تكره أن تقذف في النار، إذا وجدت هذه المعاني في نفس الإنسان سيذوق حلاوة الإيمان ولا شك.
إخوتي الكرام:(58/8)
من حقق تلك الأمور كما قلت حصل هداية وراحة في هذه الحياة وحصل فوزاً وسعادة بعد الممات وقد قرر ربنا هذا المعنى في كثير من الآيات فقال جل وعلا في سورة الأنعام: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن هم مهتدون} الذين آمنوا بالله وأتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خلطوا إيمانهم بظلم، والمراد من الظلم هنا (الشرك) ، جحود الخالق أو الإشراك به، آمنوا وما خالطوا إيمانهم بشرك هؤلاء لهم جائزتان {أولئك لهم الأمن} في الحياة الآخرة عند الفزع الأكبر {لا يحزنهم الفزع الأكبر} ، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا} مما يستقبلكم، فلكم الأمن عند ربكم.
{ولا تحزنوا} على ما خلفتم ورائكم فالله وليكم على من تتركونه {ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} .(58/9)
{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} في الآخرة {وهم مهتدون} في هذه الحياة الدنيا، فحصلوا في هذه الحياة راحة وهداية وحصلوا بعد الممات فوزاً وسعادة، ثبت في مسند الأمام أحمد والصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجثوا على الركب وقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لا يظلم نفسه وفهموا رضي الله عنهم من الظلم مطلق المعاصي، فكل إنسان يقع في شيء من الهفوات والزلات، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، قالوا أينا لا يظلم نفسه، أي أينا لا يقع في شيء من الخطأ والتقصير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ليس الذي تعنون أي ليس المراد من الظلم ما تفهمون مطلق المعصية والمخالفة، لا، إنما الظلم الشرك نعم هو أشنع أنوع الظلم {والكافرون هم الظالمون} ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة ألم تسمعوا لقول العبد الصالح لقمان لابنه {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} فإذا حقق الإنسان ذلك المعنى في حياته، إيمان بالله وإخلاص له واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم له الأمن في الآخرة وله الاهتداء في الحياة الدنيا {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك له الأمن} في الحياة الآخرة {وهم مهتدون} في الحياة الدنيا، فهم في هذه الحياة في على هداية تامة، وهم بعد الممات في أمنٍ سعادة، وهذا كما قال ربنا جل وعلا في سورة طه {فمن اتبع هداي فلا يضل} في الدنيا {ولا يشقى} في الآخرة {ومن أعرض عن ذكري فإن له معشية ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} .(58/10)
ثبت في مستدرك الحاكم وتفسير ابن أبي حاتم والأثر رواه الأمام البيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح كالشمس عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وكيف يضل من كان على هدى {فمن اتبع هداي} كيف يضل من كان على هداية تامة، كيف يضل من هداه الله إلى أقوم الأمور، وأرشده إلى أحسن السبل، {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} .
إخوتي الكرام:
إن المؤمن إذا حقق تلك الأمور سيذوق للإيمان طعماً طيبا، سيذوق له حلاوة حلوة، وهذه الحلاوة هي حلاوة معنوية تدركه القلوب كما أن ألسنتنا تدرك الحلاوة الحسية، وشتان شتان ما بين الحلاوتين، شتان، الحلاوة المعنوية عندنا تقدم على الحلاوة الحسية، فإذا علمت أن حبيبك، أن والدك، أن ولدك سيقدم في ساعة كذا ودعيت إلى أطيب الأطعمة تترك ذلك الطعام من أجل لقاء ذلك الحبيب، لأنه لو اشتغلت بذلك الطعام سيفوتك لقاء حبيبك، لقاء الحبيب لذة معنوية تحصلها بهجة قلب، سرور نفس، قرة عين، انشراح صدر، أما الطعام لذة حسية، نحن نقدم في هذه الحياة اللذة المعنوية عند لقاء حبيب على اللذة الحسية، فكيف بحلاوة الإيمان ورضوان الرحمن التي تؤدي بنا إلى مصاحبة نبينا عليه الصلاة والسلام في غرف الجنان، والتمتع بالنظر إلى ربنا لرحمن، كيف هذا.(58/11)
والله إن ذلك يتضاءل بجانبه كل لذة وكل حلاوة حسية، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا المعنى فقال في سورة التوبة: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم} وعدهم جنات وفيها ما تشتهه الأنفس وتلذ الأعين، لكن أكبر من ذلك النعيم الحسي واللذة محسوسة {ورضوان من الله أكبر} ولذلك عندما يكشف الله الحجاب بينه وبين أهل الجنة ويروا نور وجه الكريم لم يعطوا شيء من النعيم ألذ عندهم من النظر إلى وجه ربنا العظيم {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} والحسنى: هي الجنة، وزيادة عليها النظر إلى نور وجه ربنا جل وعلا، والله إن هذه الحياة ما طابت إلا بمعرفة الله ومحبته، وإن الجنة ما طابت إلا بالنظر نور وجه ربنا جل وعلا ومشاهدة، إذاً إخوتي الكرام من حقق هذا المعنى لا يضل في هذه الحياة ولا يشقى بعد الممات.
إخوتي الكرام:(58/12)
إن المؤمن في سعادة عظيمة في هذه الحياة فأمره لا يخرج عن واحد من أمور ثلاثة: إما أن يكون في حالة يأمر فيها فيطيع أوامر سيده أوامر ربه جل وعلا، وإما في حالة ينهاه الله عنها فينتهي عما نهاه الله عنه، وإما في حالة قدره الله عليه وأمره أن يصبر عليها وأن يرضى بها فهو راض صابر. نفذ المأمور ويترك المحظور ويصبر ويرضى بالمقدور، ليس بعد هذه السعادة سعادة، وأحوال المؤمن لا تخرج عن هذه الأمور الثلاثة، وإذا حقق هذا فو الله إنه يذوق طعم الإيمان وحلاوته ويكون قرير العين مبتهج النفس مطمئن القلب، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من رواية صهيب رضي الله عنه والحديث رواه أحمد عن سعد ابن أبي وقاص وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له] فعل المأمور، ترك المحظور، ثم هو بعد ذلك نحو المقدور إن جاءه ما يسره شكر الله، إن جاءه ما يسوئه ويضره صبر وحمد الله، أي سعادة بعد هذه السعادة، يختلف هذا عن حال الجزوع المنوع، {إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً إلا المصلين} [عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له] .
إخوتي الكرام:(58/13)
إذا حقق الإنسان هذا المعنى ارتاح واهتدى في هذه الحياة وفاز وسعد بعد الممات، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يوجه أنظار الأمة إلى هذا المعنى في كثير من الأحاديث وفي عدد من المناسبات، ثبت في سنن الترمذي وابن ماجة والحديث رواه الأمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وإسناد الحديث صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال [أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤتيه منها، وما له في الآخرة من نصيب} ثم قال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى يعني في الحديث القدسي ابن آدم تفرغ لعبادتي، إرضى بي ربا واتبع نبي عليه الصلاة والسلام وأخلص بعملك وجهي ابن آدم تفرغ لعبادتي، أملأ صدرك غناً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك،] أبن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غناً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤتيه منها، وما له في الآخرة من نصيب} وتقدم معنا معنى العبادة إخوتي الكرام في الموعظة السابقة وقلت هي العمل الصالح، وهي باختصار كما قلت أن يكون عملك على حسب شرع ربك وتريد به وجه الله في جميع حركاتك وسكناتك وقلت حذاري حذاري أن تقصر العمل الصالح والعبادة على مفهوم العبادة بين الناس في هذه الأيام، لا، ينبغي أن تعتقد كما أمرك الله، وأن تعبده كما أمرك الله، وأن تتعامل كما أمرك الله، وأن تخالق الناس كما أمرك الله، وأن تعاقب وتأخذ على أيدي السفهاء كما أمرك الله، ودين الله يقوم على هذا وكل هذا عبادة، أي حكم شريعة الله في جميع في شؤون حياتك يملأ الله قلبك غناً ويسد وفقرك وإلا ستشقى في هذه الحياة وستهلك بعد الممات.
إخوتي الكرام:(58/14)
هذا المعنى أشار إليه ربنا أيضاً في كثير من آيات كتابه فقال جل وعلا في سورة النعم وهي التي تسمى بسورة النحل وذكر الله فيها أصول النعم ومتمماتها ذكر الله فيها نعمة الهداية والإرشاد ونعمة الخلق والإيجاب يقول في هذه السورة {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} من عمل صالحاً، وهو العمل المشروع الذي تتبع فيه نبيك عليه الصلاة والسلام، فإذا عملت عملاً على غير هديه فهو ردٌ عليك، ثم حققت الشرط الثاني، إيمان بالله وإخلاص له.
{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} وهذه الحياة الطيبة مصاحبك أخي المؤمن في دورك الثلاث التي تسكنها ولا تخرج عنها في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} .(58/15)
ثب هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال حياة طيبة في هذه الحياة يطمئن قلبك بذكر الله وأمرك كله خير وتنشرح نفسك وتقر عينك، وتذوق طعم الإيمان، وتخالط حلاوة الإيمان وبشاشته قلبك، فأي إذاً حياةٌ أفضل من هذه الحياة، {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} نعم في هذه الحياة يحصل المؤمن حياة طيبة ولا يحصلها غير المؤمن كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم [إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن] {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} قال الأمام الرازي عليه رحمة الله (إن المؤمن في هذه الحياة يشعر بالسعادة واللذة ولا يحصل هذا سواه ثم قرر هذا بعدة أمور فقال أولاً: المؤمن يعلم رزقه بتقدير الله وتدبيره سبحانه وتعالى فلا يزيد ولا ينقص ويعلم أن الله محسن في ذلك التقدير وذلك التدبير، {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم، هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، سبحانه وتعالى عما يشركون} وإذا علم الإنسان هذا يرضى عن الله ويرضى بما قسم له، الأمر الثاني: المؤمن في هذه الحياة يعلم طبيعة الدنيا وتقلباتها ونتنها ومرارتها فلا يجزع على يصيبه فيها، ولا هو كما قال أئمتنا:
طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلفٌ الأيام ضد طباعها داعِ ... متطلب في الماء جذوة نار فيها
فإذا أصبت بضر، بأذى، بموت حبيب، لا يضر صدر، هذه طبيعة الدنيا، هذه طبيعة الدنيا، ولذلك يلهج المؤمن بالحمد لله وترى قلبه راضياً عن الله وهو مسروراً في جميع أحواله.
الأمر الثالث: يقول الإمام الرازي: غاية المؤمن في هذه الحياة، أن ينال رضوان رب الأرض والسماوات، ولذلك يكرر هذه المقولة المباركة [إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي] أصيب بضر، بنكبة، بأذى إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ويعذب ويقول أحدٌ أحد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.(58/16)
الأمر الرابع: المؤمن يعلم أن لذات الدنيا أن هذه اللذات لذات خسيسة زائلة منقضية، الطعام الذي نأكله يقول أئمتنا ما جاوز اللسان فهو نتان. هذه اللذة التي نتلذذ بها ما دامت في الفم تمضغ إذا ذهبت بعد اللسان إلى المعدة تتحول إلى شيء كريهٍ المنظر قبيح الرائحة، ولو أخرج الإنسان الطعام الذي من جوفه وطرحة على المائدة لعفا الناس الطعام وقاموا عنه، ما جاوز اللسان نتان، إذا كانت لذات الدنيا لذات خسيسة، لذات زائلة لا ينهمك فيها ولا يفرح بها إن أقبلت ولا يحزن عليها إن أدبرت {لكي لا تأسو على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} .
المؤمن بعد ذلك وهذا خامس التعليلات لبيان طيب الحياة في المؤمنين والمؤمنات في الحياة الدنيا يعلم أن الدنيا زائلة منقضية فلا يميل إليها ولا يعانقها معانقة العشاق، إنما يأخذ منها ما يحتاجه إليه، وإذا جاءه شيء منها جعله مطية له إلى آخرته، فحقيقة هو في سعادة وفي حياة طيبة {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} فعل المأمور ـ ترك المحذور ـ صبر ورضي بالمقدور حقيقة في حياة طيبة، إذا خرج عن صراط الله المستقيم تنكد في هذه الحياة وأبى الله إلا أن يزل من عصاه عاجلاً وآجلاً.(58/17)
ثبت في سنن ابن ماجة ومستدر الحاكم بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول [يا معشر المهاجرين خصال خمس أعوذ بالله أن تدركوهن، خصال خمس، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم] سبحان الله أرادوا أن يتلذذوا بالمعاصي فنكد الله عليهم حياتهم وأشقاهم قبل مماتهم، وسلوا الأطباء عن الأمراض التي تنتج من المعاصي في هذه الأيام، مرض الإيدز الذي يحارب الآن ما سببه: معصية الرحمن، تشمع الكبد والسرطان: شرب الخمر والعكوف عليه، وذاك سببه الزنى والعهر، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، حقيقة إن الإيمان حصناً للإنسان وإن المؤمن في حياة طيبة في هذه الحياة، ولم ينقص المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله فلم يعبدوا الله ولم يتبعوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم، أن ينتزع أملاكهم وبلادهم.(58/18)
والخامس: وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم عندما انحرفوا عن شريعته تخبطوا في هذه الحياة مع الشقاء الذي سيحصلونه بعد الممات، {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} ، حياة في هذه الحياة، حياة طيبة في الدار الثانية التي يسكنها الإنسان وهي دار البرزخ، وثبت هذا عن السُدَّي وعن شريك بن عبد الله النخعي قال حياة طيبة نعيم القبر، والقبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وأنا أقول الحياة الثانية مترتبة على الأولى فمن لم يحيى حياة طيبة في الدنيا لن يحيى حياة طيبة في البرزخ، ولذلك كان أئمتنا يقولون في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وجنة الدنيا محبة الله والإيمان به واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام.
والمعنى السادس: روي عن مجاهد وقتادة والحسن البصري وجمع غفير من التابعين، حياة طيبة في الآخرة ـ قال الحسن البصري: والله لا تطيب الحياة إلا في الجنة، ونعم ما قال وهذه أكمل الدور التي تحصل فيها أطيب حياة، لكن الحياة الطيبة في الجنة من يحصلها؟ الطيبون: الذين طابت حياتهم في الدنيا ونعموا في البرزخ فيسعدون بعد ذلك عند لقاء ربهم كما ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال قال الله تعالى [أعدت لعبادي الصالحين ما لا يعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر] إن هذه الدار هي أكمل الدور وأطيب الدور، إنما من لم تطب حياته في هذه الحياة لن تطيب حياته بعد الممات، حياة طيبة في الدنيا، حياة طيبة في دار البرزخ، حياة طيبة في دار الآخرة.
اخوتي الكرام..(58/19)
هذه الثمرة التي يحصلها من آمن بالله وأخلص له واتبع رسوله عليه الصلاة والسلام هل لها علامة؟ حتماً لها علامة سأذكرها بإيجاز ثم أفصل الكلام على هذه العلامة في الموعظة الآتية إن شاء الله، هذه العلامة: وهي الراحة في هذه الحياة والهداية والفوز والسعادة بعد الممات، هذه اللذة هذه الطمأنينة إذا دعاها الإنسان وقال أنا في راحة وهداية وسينال فوزا وسعادة في الآخرة هذه هل هذا يصدق وهل إذا وسوس له الشيطان بذلك ليزين له عمله حال يصدقه، أم هناك علامة؟. حتماً هناك علامة.
وكل شيء له علامة، فإذا تحققت هذه العلامة فيك فاعلم أنك آمنت بالله حقاً وصدقا، واتبعت نبيه عليه الصلاة والسلام حقاً وصدقا، وأخلص لله في أمورك.
هذه العلامة أشار إليها نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه بن مردوية في تفسيره بسند متصل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ورواه أيضاً بن مردوية بسند مرسل برواية محمد بن كعب القرظي هو من أئمة التابعين رضي الله عنهم أجمعين، كعب القرظي صحابي وولده تابعي، هذان الأثران المتصل المرفوع والمرسل المرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، الأول كما قلت من رواة عبد الله بن مسعود، والثاني من رواه محمد بن كعب القرظي رضي الله عنهم أجمعين.(58/20)
يذكر عبد الله بن مسعود في أثره وفي حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا قول الله جل وعلا {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله، أولئك في ضلالٍ مبين} ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر] إن النور إذا دخل القلب سكنه، {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} هذا النور إذا دخل قلب الإنسان ينشرح له صدره، فقال الصحابة الكرام يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[هل لذلك الشرح من علامة؟] إذا انشرح صدر الإنسان ذاق طعم الإيمان، ذاق حلاوته، اطمئن قلبه، هل لذلك من علامة يختبر بها تلك الدعوة؟ قال عليه الصلاة والسلام: [نعم] لذلك علامة لذلك الشرح عند حصول النور في القلب، [التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله] ومن عزفت نفسه عن الدنيا، والدنيا هي باختصار كل ما شغلك عن الله، وليس معنى الدنيا أنك لا تملك مالاً، أو تسكن في بيت، لا ثم لا: كل ما شغلك عن الله فهو دنيا مذموم من مالٍ من لباسٍ من زوجةٍ من ولدٍ من عقارٍ من غير ذلك، وإذا كان هذا في يدك لا في قلبك فلا حرج عليك ولا لوم ونعما المال الصالح لرجل الصالح، كل ما شغلك عن الله مذموم فهو شؤمٌ عليك،
تجافى عن دار الغرور لكن شتان بين سكنت الدنيا قلبه وجعلته مطية لها، وبين من كانت في يده وهي مطية له، شتان شتان، شتان من يعبد الدنيا وبين من تكون الدنيا عبداً عنده وخادماً له.
التجافي عن دار الغرور يبتعد عنه لا يركن إليها، لا تشغله عما أمر الله به.(58/21)
والإنابة إلى دار الخلود يشتاق إلى مسكنه الحقيقي: نحن خلقنا ربنا إخوتي الكرام لا لنستقر في هذه الحياة، الدار ممر ليست دار مقر، دارنا التي سنستقر فيها هي الآخرة، والدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له والإنابة إلى دار الخلود، ولاستعداد للموت قبل نزوله: وعليه إذا أردت أن تعلم هل سكن النور قلبك، وهل حصل الشرح في صدرك فاعرض نفسك على الموت، هل تحب الموت، وإذا قيل لك ستموت هذه الليلة تقول مرحباً بلقاء الله، إذا كان هذا فيك حقيقةً فقل لنفسك وبشرها وقل آمنت بالله حقاً ورضيت بنبيه عليه الصلاة والسلام إماماً صدقا، وأنا أعبد الله ولا أشرك في عباده شيئا، وإذا قيل لك ستموت هذه الليلة فقل يا عباد الله هاتوا الأطباء وابحثوا عن طريقة لعل الحياة تمتد ... إعلم أن حالتك ليست مرضية وعندما تموت {ستقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً} فيقال لك {كلا إنها كلمة هو قائلها} {أولم نعمَّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}
إخوتي الكرام:
إن أعظم ما يزفه إلينا ربنا الرحمن ويتحفنا به في هذه الحياة بعد أن رضينا به ربا وبنبيه عليه الصلاة والسلام، وبالإسلام دينا، بعد أن آمنا به واتبعنا نبيه عليه الصلاة والسلام، وأخلصنا العمل له، إن أعظم ما يتحفنا به الموت، وكيف لا وهو يجسرٌ يوصل الحبيب إلى حبيبه، ولذلك ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والحديث في كتاب الحلية لأبي نعيم رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد، وإسناد الحديث صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [تحفة المؤمن الموت] تحفة المؤمن الموت يعني الهدية العظيمة التي تأتيه من الله أن يموت، وكان بعض الصالحين يقول (والله ما مؤمن إلا الموت خير له، اقرؤوا ما شئتم {وما عند الله خيرٌ للأبرار} .(58/22)
أخي الكريم: إذا كنت ستوقع جائزة من مسؤول أو شهادة ستأخذها بعد نجاحك هل تكره يوماً اليوم تتسلم فيه الشهادة، هل تكره اليوم الذي ستقابل فيه المسؤول لتنال الجائزة؟ والله لا تكره هذا، وإذا كنت عبدت الله على بصيرة وأرت بالعبادة وجهه واتبعت نبيه عليه الصلاة والسلام على ما تفر من لقاءه؟ ليعرض كل واحد منا نفسه على هذه النقطة. هل تجافى عن دار الغرور وأناب إلى دار الخلود واشتاق إليها ويردد في مجلسه اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، هل إذا نزل به الموت يرفع صوته ويهلل ويقول حبيبٌ جاء على فاقه؟ هل يقول إذا قال أهله وحزناه عند نزول الموت به يقول وقرباه وشوقاه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه عليه صلوات الله وسلامه؟ لنعرض أنفسنا إخوتي الكرام على هذه القضية، هذا ما سأفصَّلُ الكلام فيه إن شاء الله في موضوع الموت وأن العلامة تدل على صدق الإيمان في قلبه أنه لا يجزع من الموت إذا حل به، بل يفرح بقدومه ويستبشر.
قد قلت إذ مدحوا الحياة وأكثروا ... في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها آمان عذابه بلقائه ... وفراق كل معاشرٍ لا ينصف
هذه العلامة كما قلت ندارس الكلام عليها وتفصيلها في الموعظة القادمة إن شاء الله.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام وإن أمتنا أن يتوفانا على الإيمان، ونسأله أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، ونسأل أن يغفر لنا ولوالدينا ولمن له حقٌ علينا ولمن علمنا وتعلمنا منا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(58/23)
أحب البقاع إلى الله المساجد
(الموعظة الرابعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الرابعة
أحب البقاع إلى الله المساجد
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، وبيدك الملك كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب التوابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله، أرسله اله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيوناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما} .
أما بعد معشر اخوة الكرام..(59/1)
من المقرر عند المقرر عند عباد الله الأكياس أن الله جل وعلا خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص فهو الذي يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، ومن خواص الله تعالى في الأمكنة التي فضلها على غيرها من البقاع بيوت الله المساجد التي أمرنا الله جل وعلا برفعها ذكره فيها وتسبيحه بالغدو والآصال في تلك البيوت الجليلة المعتبرة وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الأمر وأن الله فضل المساجد على غيرها من الأماكن والبقاع.
ثبت في صحيح مسلم وصحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن أحب الله البلاد الله المساجد وإن أبغض البلاد إلى الله الأسواق] إن أحب البلاد إلى الله المساجد وإن أبغض البلاد إلى الله الأسواق، والحديث رواه الأمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه والأمام أبو يعلى والبزار رحمهم الله جميعاً عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: [أي البلدان أحب إلى الله، وأي البلدان أبغض إلى الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أدري حتى أسأل جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فلما جاء جبريل إلى نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه سأله أي البلدان أحب إلى الله أبغض البلدان إلى الله فقال جبريل يا محمد عليه صلوات الله وسلامه أحب البلدان إلى الله المساجد وأبغض البلدان إلى الله الأسواق] .(59/2)
والحديث رواه بن حبان في صحيحه أيضا الطبراني في معجمه الكبير من رواية بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: [أي البقاع خير وأي البقاع شر فقال لا أدري حتى أسأل جبريل فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال لا أدري حتى أسأل ميكائيل فسأل جبريل ميكائيل فأخبره أن أحب البلاد الله وأن خير البلاد عند الله المساجد وأن أبغض البقاع عند الله وشر البقاع الأسواق] .
والحديث إخوتي الكرام بطرقه الثلاث من رواية أبي هريرة وجبير بن مطعم وبن عمر رضي الله عنهم أجمعين صحيحٌ صحيح.
وروي من طريق رابع وفيه شيء من الضعف، وشهد له ما تقدم رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل عن أحب البلاد إلى الله وعن أبغض البلاد إلى الله فقال لا أدري فقال سل ربك فبكى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فقال يا محمد ومن يستطيع أن يكلمه هو يأمرنا من أمره بما شاء فأوحى ربنا إلى جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أن أحب إلى الله وخير البقاع عند الله المساجد وأن أبغض البقاع إلى الله وشرها عند الله الأسواق] وهذه الرواية الرابعة يشهد لها ما تقدم إخوتي الكرام.
والجمع بين هذه الروايات [أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - سأل عن أحب البلاد إلى الله وعن أبغض البلدان عند الله وعن خير البقاع وشرها فتوقف فسأل جبريل ميكائيل فأوحى الله إليهما بأن خير البقاع وأحبها عند الله المساجد وأن شر البقاع أبغضها عند الله الأسواق فأخبر جبريل النبي عليه الصلاة والسلام بذلك] وهذا هو الذي يجمع بين الرواية الأربعة المتقدمة.(59/3)
عباد الله: هذه المساجد هي خير البقاع وأحبها عند الله كما أن الأسواق هي شر البقاع، فهذه المساجد تدعوا إلى عبادة الله جل وعلا وإلى الإقبال على الآخرة والدنيا بعكس ذلك هي مأوى الشياطين وتدعوا إلى الكرون إلى الدنيا، ليست الأسواق مذمومة إذا اتقى الإنسان فيها ربه لكنها معطل غفلة، وإذا حول الإنسان السوق إلى مكان شرعي يبيع فيه ويشتري حسب شريعة الله فلا حرج، لكن على الإنسان أن يتقي الله في سوقه فلا يكوننَّ أول داخل ولا آخر خارج، إنما ينبغي أن يكون أول داخل إلى بيوت الله وآخر خارج من بيوت الله، وأما الأسواق فأمرها كما قال الله: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور} والأسواق سميت بذلك لأن الأرزاق تساق إليها ولأن الناس يمشون إليها على سوقهم جمع ساق أي على أرجلهم فالأرزاق تأتي إليها من كل جهةٍ والناس يسعون إليها على سوقهم، فيقال لها الأسواق هي مواطن غفلة، وإذا ذكر الإنسان ربه في مواطن الغفلة واتقى الله له أجرٌ عظيمٌ عظيم، فذكر الله بين الغافلين كثابت عند التقاء الجيشين عند فرار الفارين، هو ثبت وأولئك فروا، وهكذا أهل السوق في غفلة، فمن ذكر الله في سوقه له أجر عظيم.(59/4)
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم والحديث رواه الإمام الترمذي وابن ماجة وسنده صحيح كالشمس ورواه الدارمي في مسنده والإمام ابن السن في العمل اليوم الليلة، وابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألفِ حسنة ومحا عنه ألف ألفِ سيئة، ورفع له ألف ألفِ درجة، وبنى له بيتاً في الجنة] والحديث صحيح إخوتي الكرام لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير إذا قال هذا الذكر في تلك البقاع التي يسيطر عليها الغفلة وتلوح فيها رايات الشياطين يكتب له ألف ألفِ حسنة، أي مليون حسنة، ويمحوا الله عنه ألف ألفِ سيئة، ويرفع له ألف ألفِ درجة، ويبني له بيتاً في الجنة.
وثبت في هذا الحديث عن أزهر القرشي رضي الله عنه وأرضاه وهو من أئمة التابعين أنه عندما ذهب إلى خرسان دخل على أمير خرسان قتيبة بن مسلم الباهلي فقال جئتك بهدية: قال وما هي: فروى له هذا الحديث فكان هذا الأمير الذي هو تابعي أيضاً أدرك عمران بن حصين وأبى سعيدٍ الخدري رضي الله عنهم أجمعين كان هذا الأمير يركب كل يوم في موكبه إلى السوق وليس له حاجة فإذا وصل إلى السوق قال هذا الذكر وانصرف إلى محل إمرته، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أما نذهب إلى الأسواق إخوتي الكرام باستمرار ألا نذكر الله في تلك المواطن، فإذا دخلنا السوق فنذكر هذا الذكر الذي علمنا إياه - صلى الله عليه وسلم -.(59/5)
أحب البقاع إلى الله وخير البلدان عند الله المساجد، ولا غرَّ في ذلك ولا عجب فالمساجد هي محل نور الله جل وعلا ومكان هدايته وفيها المهتدون الذين أنعم عليهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، وقد ذكر ربنا العزيز الغفور في سورة النور بعد آية النور مكان وجود النور فقال جل وعلا: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكبٌ دريٌ يوقد من شجرة مباركة زيتونةٍ لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم * في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب} .
الله نور السماوات والأرض أين يطلب ذلك النور وأين يوجد وفي أي مكان نحصل، ومن يهتدي به ومن يتنور به؟ في بيوت أذن الله أن ترفع ... فإذا أرت أن نور الله فذهب إلى بيوت الله فهي مكان نوره وهي موضع هداه، وإذا أرت أن تتعرف على عباد الله المهدين الذين هداهم الله إلى صراطه المستقيم فبحث عنهم في بيوت رب العالمين، يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال، فذكر الله بعد آية النور المكان الذي يوجد فيه نوره وهداه وذكر المهتدين مبيناً أعمالهم القلبية والقالبية، السرية والجلية كما سيأتينا في تفسير الآيات الكريمة إن شاء الله.
عباد الله: كيف لا تكون المساجد أحب البقاع إلى الله وخير البلدان عند الله وهي موضع نوره ومكان هداه، وفيها يجتمع عباده الذين رضي الله عنهم وهداهم إلى صراطه المستقيم، هذه المساجد وصفها الله جل وعلا بثلاثة أمور في آية النور ووصف بعد ذلك الذين هم فيها بصفات جليلة عظيمة.(59/6)
أول هذه الصفات التي ينبغي أن تكون من العباد نحو بيوت الله جل وعلا ونحو المساجد، في بيوت أذن الله أن ترفع، أذن: الإذن في اللغة: الإعلام والترخيص في الشيء، رخص الله وأعلم أنه أباح للناس وجوز لهم رفع المساجد، أذن: الإذن معناه الإعلام والترخيص كما قال جل وعلا في آخر سورة النور: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفورٌ رحيم} .
إذا كان المؤمنون مع رسول الله عليه صلوات الله وسلامه أو مع وليَّ الأمر المسؤول عنهم لا يجوز لواحد منهم أن يتخلف ولا أن يفارق إلا بعد أن يستأذن وأن ترخص وأن يستأذن له النبي عليه الصلاة والسلام أو وليُّ أمره المسؤول عنه، {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} أعلمهم بالترخيص وأنك أحبت لهم الذهاب، ولكن هذا الذهاب مهما كان لضرورة ملجئة مهما كان في ذلك حرمان اجتماع بالنبي عليه الصلاة والسلام وحرمان هذا الخير العام الذي يكون عباد الرحمن وهم على خير جامعٍ إذاً هناك شيء من التقصير من المستأذن فأتبع الإذن بالاستغفار {فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفورٌ رحيم} الأذن معناه الأذن بالترخيص في الشيء. {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} رخص لهم في قتال أعدائهم بعد أن منعوا ذلك بقول الله جل وعلا {ألم تر الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} .(59/7)
عباد الله: ولا يراد من الإذن هنا الترخيص وإعلام الله لعباده بأنه أجاز لهم بناء المساجد لا ثم لا. فقد قرر أئمتنا الكرام أن معنى أذن هنا بمعنى حكم وألزم، وأوجب وفرض، حكم الله وألزم عباده وفرض عليهم بناء المساجد ورفعها، فالإذن هنا بمعنى الأمر كقول الله جل وعلا: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليطاع بإذن الله} بأمره وحكمه وإيجاب الله على عباده ذلك إلا ليطاع بإذن الله {في بيوت أذن الله أن ترفع} أي أمر الله برفعها، وإنما أخبر الله جل وعلا وخبر الله جل وعلا عن الأمر بالإذن لنقطة لطيفة ذكرها أئمتنا وهي أن حال المأمورين وهم عباد الله المؤمنون ينبغي أن يكون حالهم، ينبغي أن يكون حالهم المسارعة إلى بيوت الله جل وعلا إلى بناء المساجد إلى تشيدها وإقامتها ورفعها قبل أن يوجه إليهم الأمر من ربهم جل وعلا بوصفهم عباداً لله لابد لهم من مكان يجتمعون فيه يعبدون الله، ويتدارسون الغاية التي من أجلها خلقوا وأن ينصح بعضهم بعضا، إذاً هذه الغاية من المفروض في حقهم أن يقوموا بها قبل أن يأمروا بها فينبغي على المأمور أن يتوجه إلى ذلك قبل أن يصدر إليه الأمر من الآمر من الله جل وعلا، فإذا أرادوا بناء المساجد قبل أن يأمروا يكون حالهم كحال المستأذن ربه جل وعلا، ربنا هل تأذن لنا في بيت نعبدك فيه ونتناصح فيه؟ فجاء الأمر على حسب حال عباد الله كأنهم يستأذنون الله في بناء المساجد، فقال الله لهم {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر اسمه} نعم إن مناجاة الله جل وعلا تحتاج إلى استئذان وإذا أردت أن تناجيَ الكريم المنان فينبغي أن تقول له عبد ربي هل تقبلني؟ أريد أن نبنيَ مكاناً أجتمع فيه مع عباد الله لعبادته والتناصح في دينه فهل يرضيك ذلك؟ فجاء الإخبار من الله مع بشارة عظيمة {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه} .
إخوتي الكرام:(59/8)
وهذه البيوت هي المساجد قطعاً وجزما، وقد اقتصر كثير من المفسرين على ذلك كالإمام ابن كثير وغيره عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، ولم يذكر قولاً آخر، وذكرت بعض كتب التفسير أقوال كثيرة مردها إلى أمرين.
الأمر الأول: بيوت غير المساجد ذكرت في تلك الأقوال لكنها لا تتعارض مع هذا وتدخل في القول الأول، فقال عدد من المفسرين، وهذا منقول من السلف.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} في مسجد الكعبة، في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، في مسجد البيت المقدس في المسجد الأقصى {في بيوت أذن الله أن ترفع} هذه المساجد الثلاثة، بعضهم أضاف إليها مسجداً رابعاً مسجد دمشق، هذا كله لا يتعارض مع ما تقدم بل يدخل فيه، وهو من باب التفسير العام كما قال أئمتنا ببعض أفراده تمثيلاً على ما يدخل في هذا العام لا ما باب الحصر أي من البيوت التي أمر الله برفعها؟ المسجد الحرام، ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وبيت المقدس، ومسجد دمشق، وغير ذلك من المساجد، فهذا القول يدخل في القول الأول، إنما ذكر نوعاً خاصاً واللفظ أعم من ذلك، وهناك أقوالٌ يمكن أن تجمع في ضابط معين وهو أنه ذكر ما يتعارض مع القول الأول من حيث التفسير لكن مع ذلك إن عرضه من حيث الظاهر لا ينافيه ولا يلغيه.
فقال مجاهد عليه رحمه الله {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي بيوت النبي عليه الصلاة والسلام لقول الله جل وعلا لأمهاتنا أزواج النبي عليه وعليهم صلوات الله وسلامه {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} فهي بيوت مرفوعة حساً ومعنى ينبغي أن تكرم وأن تعظم وأن تحترم بيوت النبي عليه الصلاة والسلام وينبغي على من فيها أن يكثر من ذكر الله وقراءة القرآن.(59/9)
ووسع الأمر عكرمة رحمه الله ورضا عنه فقال {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي كل ما يبنى على وجه الأرض ينبغي أن يرفع من أجل الله وأن يذكر فيه اسم الله، وأن يسبح في تلك البيوت بالغدو والآصال. ولعله يريد بذلك أن بيوت الناس ينبغي أن تكون على غرار المساجد فيها نوراً وهدىً وذكرٌ لله وتسبيحاً له بالغدو والآصال. والتفسير الذي ينبغي أن يعتمد وأن يعول عليه فيه معنى الآية {في بيوت أذن الله أن ترفع} هي المساجد، والأمران حاصلان فيها، فهي التي أمر الله برفعها وتعظيمها حساً ومعنى كما سيأتينا، ولا يوجد مكان يحصل فيه من كثرة ذكر الله والصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام كما يحصل في خير البقاع ألا وهي المساجد.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} أذن الله أن ترفع: هذا الأمر الأول أعلم وحكم وألزم وفرض وأخبر عن هذا الأمر بالإذن تنبيهاً على المأمورين ينبغي أن يسارعوا إلى تنفيذ هذا الأمر قبل أن يوجه إليهم هذا الأمر من الآمر فيكون حالهم كحال المستأذن فالله يقول أذنت لكم برفع هذه البيوت وعمارتها.(59/10)
والرفع إخوتي الكرام شامل لأمرين كل منها تدل عليه الآية الكريمة {أذن الله أن ترفع} أن ترفع حساً: أي أن تبنا وأن تشيد وأن ترفع على وجه الأرض كما قال جل وعلا {ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها} ، {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} أذن الله أن ترفع وأن ترفع وأن تكون بيوت الله في الأرض كالنجوم في السماء يهتدي إليها أهل الأرض فلا تكون كالمغارات والسراديب والمناجم والمخابئ لا يهتدي الناس إليها، لا هذه بيوت لها شأن ومنزلة وعظمة. {في بيوت أذن الله أن ترفع} ينبغي يتميز بناءها عن الأبنية الأخرى وأن تكون ظاهرة للأعين على مرأى الناس {في بيوت أذن الله أن ترفع} وإذا عمِّرت هذه البيوت ورفعت فهيئاً ثم هيئاً لمن يرفعها ويبنيها ويشيدها ويقيمها، ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان بن عفان ذو النورين الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه أنه عندما وسَّع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر الناس الكلام فيه قام رضي الله عنه ورقى النبر وقال يا أيها الناس إنكم أكثرتم وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة.(59/11)
وفي بعض الروايات: [من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة] وعثمان رضي الله عنه هو ثاني من وسَّع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الموسِّع الأول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما وسع المسجد لهيبة عمر وشدته في الحق رضي الله عنه وأرضاه ما تكلم المتكلم وما حرك أحدٌ شفتيه، فلما وسَّع عثمان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام كثر اللغط وأنه غيَّر معالم المسجد، وأنه زاد، وأنهُ وأنه، فقام رضي الله عنه كأنه يعتذر إليهم لحلمه ورحمته وعفوه وصفحه رضي الله عنه وأرضاه فقال إنكم أكثرتم، تكثيرون من الكلام واللغط، وتقعون في عرضي وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [من بنى مسجداً لله يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة] فماذا عمل ذو النورين إلا أن وسَّع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
إخوتي الكرام:
إذا قام الإنسان بهذا ببناء المساجد ورفعها حسا له هذا الأجر عند الله جل وعلا بنى الله له بيتاً في الجنة، بنى الله له مثله في الجنة، ولا يشكنَّ عليك أخي الأمر حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي فيه التصريح بالمثلية مع قول رب البرية: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وهنا بنى الله بيتاً في الجنة، بنى الله له مثله لما لم يقول عشر بيوت؟ إنَّ بيت الجنة وإن ساوى بيت الدنيا في الاسم فيخالفه في الحقيقة في السعة والمساحة، وفي الجودة والإتقان، فهو بيتٌ له سمى البيت لكن الفارق بين بيت الجنة والبيت الذي تبنيه وترفعه في هذه الحياة لعبادة رب الأرض والسماوات أعظم بكثير من الفارق بين بيت الأمير والفقير، فهو بيت وهذا بيت لكن ذاك بيتٌ فيه ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ومسافته ومساحته لا يعلمها إلا الكريم الذي يبني لك هذا البيت في جنات النعيم.
إخوتي الكرام:(59/12)
وهذا البيت الذي يبنيه الإنسان لله يبني الله له بيتاً في الجنة سواء صغر هذا البيت في هذه الحياة أو كبر، ثبت سنن الترمذي وغيره وإسناد الحديث حسن عن أنسٍ رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [من بنى مسجداً صغيراً كان أم كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى مسجداً صغيراً كان أم كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة، والحديث رواه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث رواه أيضاً الإمام أبو يعلى والبزار الطبراني في معجمه الكبير وابن حبان من رواية أبي ذر رضي الله عنه ورواه البزار من رواية بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، من رواية جابرٍ وابن عباس وأبي ذر رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من بنى بيتاً لله ولو قدر مفحس قطاطٍ بنى الله له بيتاً في الجنة] ومفحس القطاط: مكان صغير تجسم فيه وتجلس فيه وتكون فيه، فإذا بنيت بيتاً لله بحجم مكان القطاط بنى الله له بيتاً في الجنة وهذا يكون إذا شارك الإنسان بريال واحد في بناء مسجد فيكون له هذا الضمان عند الكريم الرحمان، من بنى مسجداً بيتاً لله ولو قدر مفحس قطاط بنى الله له بيتاً في الجنة.
إخوتي الكرام:(59/13)
ولا يشترط في الباني إلا أن يخلص النية لرب البرية في هذا البناء إذا كان من المؤمنين الموحدين ثبت في سنن النسائي وغيره عن عَمْرِ ابن عبسة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من بنى مسجداً لله ليذكر الله بنى الله له بيتاً في الجنة] من بنى بيتاً لله، حجَّ لله، صام لله، جاهد لله، فلا يقبل العمل من غير إخلاص ولا متابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، لابد من إيمان وإخلاص ومتابعة للنبي عليه الصلاة والسلام، فعمل المساجد عمل صالحٌ، فإذا أخلص الباني لله من بنى بيتاً لله مسجداً لله يذكر فيه الله بنى الله له بيتاً في الجنة {في بيوت أذن الله أن ترفع} .
إخوتي الكرام:
ولا يلزم من هذا الرفع زخرفة وزركشة وألوان متعددة لا ثم لا، بل إن ذلك منهي عنه في شريعة الإسلام، ينبغي أن يكون بناءُ المساجد بدون زخرفة، والزخرفة مأخوذة من الزخرف، وهو الذهب الذي يلمع، ويطلق هذا على الألوان الزاهية التي تشتت البصر وتشغل القلب من حمرة وصفرة وألوان أخرى براقة، فما ينبغي أن يكون في هذا الرفع وهذا البناء زخرفة وزركشة فهذا مما نهينا عنه في شريعة ربنا جل وعلا، ثبت في سنن أبي داود والترمذي وسنن الإمام النسائي والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد] حتى يتباهى الناس في المساجد: أي في زركشتها وفي تزينها وفي زخرفتها وفي وفي، لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد] فلتكن مساجد بصفة شرعية لعبادة رب البرية، وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن القوم إذا انحرفوا عن شريعة الله بزخرفة المساجد وزينوها.(59/14)
ففي سنن ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحديث في إسناده شيء من الضعف لوجود جبارة ابن المغلس فيه وهو ضعيف، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم] ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم: أي زينوها وموَّهُوهَا بالألوان التي تشتت النظر وتفرق القلب، ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم، وفي صحيح البخاري معلق بصيغة الجزم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى) أي ستتبعون آثر من قبلكم في معابدكم لعبادة ربكم فتجعلون فيها الألوان التي تشتت الأنظار وتفرق القلب فلا يجتمع حال عبادة الرب جل وعلا، (لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى) ، ونقل البخاري عن أنس معلقاً بصيغة الجزم أيضاً قال (يتباهون بها، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) ونقل البخاري عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنهم أجمعين أنه قال: (كان مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - مبنياً بلبن وسقفها من جريد النخل، فأمر عمر رضي الله عنه ببناءه وتوسعته وقال: أكِنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أكنَّ الناس: إما أنه يريد أن يخاطب نفسه فجرد من نفسه شخصاً آخر يخاطبه فقال: أكنَّ الناس: أي أبنيَ لهم كنَّن يقيهم من المطر ومن حر الشمس، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، وإما أنه قال هذا لعامله الذي أمره بتوسيع مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أكنَّ الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.(59/15)
عباد الله: تشيد المساجد له حالتان الحالة الأولى أن يكون البناء محكماً قوياً متقناً متناسباً له فرشٌ جيد يريح المصلي إذا دخل إليه ليس فيه بعثرة ليس فيه ألوانٌ تشتت النظر فهذا مشروع جائز وهذا من الرفع الذي أمرنا به وهذا الذي فعله الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، وهناك تشيدٌ منهيٌ عنه أن يكون هناك صورٌ وألوانٌ وزهورٌ وورود وغير ذلك تصبغ بها الجدران بحيث من نظر إليها تشتت ذهنه وتفرق قلبه فهذا منهي عنه ثبت في صحيح البخاري معلقاً والأثر وصله الإمام أبو داود بسند صحيح كالشمس في سننه من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان مسجد النبي عليه الصلاة والسلام مبني بلبن وهي البن التي تصنع من الطين، مبني بلبن وكان سقفه من جريد النخل، وكان عموده من خشب النخل، فبقيَ على ذلك في عهد أبي بكر رضي الله عنه ولم يغير فيه شيء،) وثبت في سنن أبي داود أن أبي بكر رضي الله عنه غير السواري فقط عندما دخل فيها السوس ونخرت فغيرها بمثلها، غيَّر السواري التي هي الأعمدة من خشب النخل بسواري أيضاً من خشب النخل، لكنه ما زاد في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام شيئا، السواري نخرت فغيَّرها، فلما جاء عمر رضي الله عنه وكثر الناس وسَّع المسجد مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لكن حافظ عليه كما كان بناءٌ بلبن والسام والأعمدة من خشب النخل وسقفه من جريد النخل، فلما كان عثمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام أجمعين وكثر الناس وفي سنن أبي داود ونخرت أيضاً السواري بواسطة السوس الذي فيها وسَّع المسجد توسعة عظيمة وغيَّر البناء الذي كان عليه فبناه بالحجارة المنقوشة في سنن أبي داود بإسناد صحيح بالحجارة المنقوشة والقصة: وهي الجس في لغة أهل الحجاز وجعل أعمدته من حجارة منقوشة وجعل سقفه من خشب الساج.(59/16)
فأكثر الناس من الكلام فنبههم وحذرهم، وإنما بناءه عثمان رضي الله عنه وأرضاه بحجارة منقوشة المرتبة بأشكال حسنة ليس فيها ألوانٌ تشتت الأذهان، النقش الذي فيها إما أن تكون الحجارة مربعةً، مستطيلةً، مثلثةً، مُسَدسةً بحيث تكون الحجارة في هذا المسجد متزنة متسقة مرتبة ليس في ذلك بعثرة ولا تشويش، ليس في ذلك حرج، هذا من باب الترتيب ببيوت الله وتعظيمها، بنها بحجارة منقوشة، ليست منقوشة بألوان وزخارف، إنما هي أشكال مرتبة في هذا المسجد لا يوجد ما يفرق النظر ولا ما يشغل القلب لكن إذا نظرت رأيت ترتيباً وإحكاماً وصنعاً عجيباً بديعا هذا من التعظيم الذي أمرنا رب العالمين نحو بيوته التي ينبغي أن نبينها له في هذه الأرض {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} أن ترفع حسا، أن تشيد وأن تبنا بهذه الصفة الحسنة المكرمة فإذا دخلت إلى بيت الله فرشه مريح، إذا كانت البلاد في بحاجة إلى تكييف التكييف فيه مريح الإضاءة فيه جميلة جليلة كافية، وهكذا كل ما فيه يريح المصلي ولا داع بعد ذلك بألوانٍ ولا لإشغال أذهان المصلين.
إذاً التشيد على نوعين تشيد فيه تعظيم لبيت الله وإحكام صُنْعَةٍ وإتقانها فحسنٌ لا محذور فيه، وتشيد يقصد منه زخرفة وزركشة وانشغال المصلي فهذا الذي جاءت أدلت الشرع بالنهي عنه والتحذير منه وهو الذي نهانا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود وغيره بإسناد صحيح من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [إني لم أؤمر بتشيد المساجد] أي بزخرفتها وتزينها بحيث شتت ذلك ذهن الإنسان ويفرق قلبه، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} ترفع حسا، تبنى تتميز عن بيوت الناس وترفع معنى {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} ورفع هذه البيوت معناً أن تعظم وأن تقدر وأن تحترم وأن تصان من كل دنس وقذر حسي ومعنوي وأن يجري فيها كل فضيلة وأن تحترم في حال الدخول والخروج والمكث فيها والبقاء فيها.(59/17)
{أن ترفع} ، أن ترفع عن كل نقص بحيث يكون لها قدر لا يكون لمكانٍ آخر.
{في بيوت أذن الله أن ترفع} حسا ومعنى ورفع هذه البيوت معنى ينظم فيه أيضاً أمران رفعها معناً بأمرٍ محسوس، رفعها معناً بأمرٍ معنوي، أما رفعها حساً تقدم معنا أن نرفع بنائها، وأما هنا نرفع قدرها بشيء محسوس: أي نصونها عن كل قدرٍ حسي، فبيوت الله لا ينبغي لها أن يقع فيها شيء من الروائح المنتنة ولا شيء من النجسات والقذر ولا شيء من البصاق بحيث يكون عليها ويشوه منظرها ويجعل الناس يتأففون من بيوت رب العالمين، كل هذا مما نهينا عنه.(59/18)
ولذلك ثبت في مسند الإمام أحمد والحديث رواه الإمام البخاري وأهل السنن الأربعة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الإمام مسلم من رواية أنسٍ رضي الله عنهم أجمعين [أن رجلاً دخل النبي مسجد النبي عليه الصلاة والسلام على عهد النبي عليه الصلاة والسلام فبال في ناحية من المسجد فزجره الصحابة ونهروه فقال النبي عليه الصلاة والسلام لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله، إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم دعا بسجل من الماء فصبه على بول الأعرابي وانتهى الأمر ثم قال أيها الرجل إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والنجاسات، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن إنما هي لذكر الله والصلاة قراءة القرآن] ، إذاً تصان عن كل دنسٍ حسي هذا من باب رفع المساجد معنى ولذلك سنن ابن ماجة بإسناد قال عنه الإمام المنذرين قابلٌ لتحسين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة] جعل إخراج الأذى من المسجد يعدل عمارة المسجد، من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة فهذا رفعٌ وذلك رفع، هناك رفعٌ له حسا وهنا رفعٌ لها معنىً عن طريق الحس، رفع قدرها بتنظيفها من النجاسات والقاذورات الحسية، من أخرج من المسجد أذى بنى الله له بيتاً في الجنة، والحديث إخوتي الكرام أصله ثابت في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه ورواه ابن خزيمة وابن ماجة في سننه من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام [افتقد امرأة سوداء كانت تقم المسجد: أي تكنس وتنظفه، فلما سأل عنها قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماتت في الليل فكرهنا أن نؤذنك فأنت نائم عليه صلوات الله وسلامه، ماتت في الليل فكرهنا أن نؤذنك فقال دلوني على قبرها، فأتى على قبرها وصلى عليها عليه صلوات الله وسلامه] .(59/19)
وفي رواية أبي الشيخ عن عبيد الله ابن مرزق بإسناد مرسلٍ صحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام [رأى قبراً بين المقابر قال قبر من هذا قالوا قبر أم محجن التي كانت تقم المسجد وتكنسه فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا آذنتموني بموتها فقالوا ماتت بالليل فكرهنا أن نؤذنك فصلى عليها النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال لها يا أم محجن، يا أم محجن، يا أم محجن، فقال الصحابة الكرام يا رسول الله عليه الصلاة والسلام وهل تسمعك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام: قال ما أنتم بأسمع لما أقول منها يا أم محجن أي عملك وجدته أعظم أجراً عند الله فقالت قم المسجد] بعد موتها، قم المسجد، كنس المسجد، تنظيف المسجد، صون المسجد من القذر الحسي، هذا مما أمرنا به نحو بيوت ربنا {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} يرفع قدرها ومنزلتها بإخراج القاذورات منها وقد أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - بتنظيف المساجد، وكنسها وتطيبها.(59/20)
ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربع باستثناء سنن النسائي والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحه عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب [أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب] قال سفيان بن عيينة عليه رحمة الله المراد من الدور: القبائل، وإنما أطلق على القبائل لفظ الدور لأن كل قبيلة كانت تسكن في بيوتٍ متعددة بحيث تكون تلك البيوت كأنها بيت واحدٍ، فأمر إذاً أن تبنى المساجد في الدور: أي كل قبيلة تبني لنفسها مسجداً بحيث لا يشق عليها أن تذهب إلي مسجدٍ آخر يبعد عنها ففي ذلك مشقة أو ضياعٌ للجماعة، أمر أن تبنى المساجد في الدور: أي في القبائل، أي أحياء الناس وقال الإمام البغوي في الدور: أي في محال الدور، أي في الأمكنة التي توجد فيه الدور وتبنى فيها المساكن، أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وأن تطيب، إذاً {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} حسا ببناءها، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} معنىً يرفع قدرها ومكانتها بأمرٍ حسي فتصان من كل دنسٍ وقذرٍ ونجسٍ، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع} أن ترفع معنىً بأمرٍ معنوي فلا يجري فيها لغط ولا كلام خسيسٌ باطلٌ، ولا بذاءةٌ ولا خنا، هذه بيوت الله جل وعلا ينبغي أن يكثر فيها ذكر الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كلُ في ما فيها من دنسٍ معنوي ينفر وينبغي أن تنزه المساجد عنه.(59/21)
ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، والحديث رواه أنسٌ وجابر وروايتهم في الصحيحين، والحديث رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وأبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[من أكل بصلاً أو ثوماً، وفي بعض الروايات أو كراثاً فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم] أكل شيئاً له رائحة منتنة إذا جاء إلى هذه البيوت ما رفعها إنما وضعها وامتهناها واحتقرها، {أذن الله أن ترفع} وهكذا يقاس عليها كل ما له رائحة ممتنةٍ من دخانٍ فشا في هذه الأيام فلا يجوز لك أن تدخل بيت الله إذا شربت هذا الدخان الذي تؤذي فيه الملائكة الكرام وعباد الرحمان، [إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم] ، رفع الصوت في بيت الله ما ينبغي أن يقع ولا أن يحصل.
ثبت في صحيح البخاري عن السائب ابن يزيد رضي الله عنه قال [كنت في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فحصبني رجلٌ أي رماه بحصاة يقول فالتفت فإذا هو عمر ابن الخطاب أيام خلافته فدعاني ثم قال اتني بهذين فآتيته بهما فلما وقف عليهما قال من أين أنتما من أهل الطائف من ثقيف، قال والله لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً ترفعان صوتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] رفع الصوت يقع في بيت الله، لكن تعذران لبعدكما عن ساحة العلم وساحة الأدب والجاهل يرفق به ويعلم، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام.(59/22)
وثبت في سنن النسائي بإسنادٍ صحيح أن رجلاً رفع صوته في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه ويحك أتدري أين أنت، ويحك أتدري أين أنت، من جالس الملوك يجالسهم بالأدب فكيف من يجالس ملك الملوك رب العالمين في بيته الكريم، ويحك أتدري أين أنت، فبيوت الله جل وعلا ينبغي أن تصان عن كل لهوٍ ولغوٍ، ثبت في صحيح ابن حبان من رواية أنسٍ رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [سيكون في آخر الزما أقوامٌ حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة] .
والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان مرسل عن الحسن البصري رحمه الله ورضى عنه قال [سيكون في آخر الزمان أقوامٌ يتحدثون في مساجدهم بأمور دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة] وقوله وليس لله فيهم حاجة: أي ليسوا من عباده الأخيار وبرئت منهم ذمة العزيز القهار، ليس لله فيهم حاجة، إذاً بيوت الله جل وعلا ينبغي أن ترفع أمرنا الله برفعها حساً، وينبغي أن ترفع معنىً بكل أمرٍ حسي وبكل أمرٍ معنوي بهذا أمرنا الله جل وعلا عباده {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود} ، {وإذ بوئنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهر بيتيَ للطائفين والقائمين والركع السجود} فأذن الله جل وعلا برفع هذه البيوت ببناءها ورفعها حسا، بتعظيمها واحترامها بكل أمرٍ حسي، وبكل أمرٍ معنوي، هذا الأمر الأول الذي أمرنا به نحو بيوت ربنا جل وعلا.
وأما الأمر الثاني والثالث: {ويذكر فيه اسمه يسبحه له فيها بالغدو والآصال
رجال} وحال عباد الله الأخيار في بيوت العزيز الغفار يأتي الكلام عليه إن شاء الله في المواعظ الآتية إن أحيانا الله، أسأل الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أقول هذا القول وأستغفر الله.(59/23)
الحمد لله رب العالمين وأشهد ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صلي على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، وارضى اللهم عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، واقضي حوائجنا يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم اغفر لآبائنا ولأمهاتنا ومشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، لمن أحسن إلينا، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد رب العالمين.
عباد الله {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَكُمْ تَذَكَّرُونَ} .(59/24)
ثلاث مباحث للطاعات
(الموعظة الخامسة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الخامسة
ثلاث مباحث للطاعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، سَهِّل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعُنا، وانفَعنا بما علمتَنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علمنا نافعا وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد إخوتي الكرام:
تقدم معنا في المواعظ السابقة أن من آمن بالله --جل وعلا-- واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخلص في جميع أحواله لله سيذوق حلاوة الإيمان بلا شك، وهذه الحلاوة سيظهر لها أثرٌ في سلوكه وتصرفه فسيعرض عن الدار الفانية ويقبل على الدار الباقية، ويستعد للموت قبل نزوله ويكثر من ذكره ويفرح به إذا حل به.
إخوتي الكرام:
ولذلك كان الموتُ كما تقدم معنا تحفةً للمؤمنين. وقررت هذا بالأدلة والبراهين، وأريد أن أوضح أيضاً هذا بشيءٍ لم يتقدم ذكره -على سبيل الاختصار-
إخوتي الكرام:(60/1)
الموت تحفة المؤمنين، وإذا آمن الإنسان برب العالمين، واتبع النبي الأمين -عليه الصلاة والسلام- وأخلص لله في كل حين سيكثر من ذكر الموت، ويفرح به ويشتاق إليه، وإذا تعلق بهذه الحياة سيخاف من الموت ويفر منه ويعرض عنه، وهو آتيه ولابد، يقول العبد الصالح بشر الحافي بِشر بن الحارث -عليه رحمة الله- الذي توفي سنة 227هـ، وهذا الأثر عنه منقول في حلية الأولياء لأبي نعيم، وتاريخ بغداد للإمام الخطيب البغدادي -عليهم جميعاً رحمة الله- قول هذا العبد الصالح: (ما من أحدٍ يحبُ الدنيا إلا ولن يحبَ الموت) (وما من أحدٍ يزهد في الدنيا إلا أحبَّ لقاء الله) حتماً من أحب الدنيا، وتعلق بها لن يحب الموت، ومن زهد في الدنيا وأعرض عنها أحب الموت وفرح به واشتاق إليه، وأكثر من ذكره، فما حالك أنت أيها العبد الصالح بِشر بن الحارث بشر الحافي؟! ثم قال: (اللهم إنك تعلم أن الفقر أحبُّ إليَّ من الغنى، وأن الذُلّ أحبُّ إليَّ من العز، وأن الموتَ أحبُّ إليَّ من البقاء) ، وكان هذا العبد الصالح ينطق بالحِكَم، ويتحدث عن حال الأيام التي نعيش فيها -ما مضى وما نعيش فيه وما سيأتي- فيقول: ما يقطع الأمل عن أهل الغرور يقول (أمسِ ماتَ) ما مضى مات وفات (واليومُ في السياق) أي أن اليوم يحتضر، ليموت كما مات اليوم الماضي، (وغداً لم يولد) ، أمس مات واليوم في السياق وغداً لن يولد.
بشر الحافي -عليه رحمة الله- من كلامه ودرره وعظيم مراقبته وعلمه بأحوال القلوب وما يجري فيها كان يقول: (إن العبد ليرائي بعمله بعد موته) .
قيل كيف مات ويرائي؟! قال: يحب أن يَكثُر الخلقُ في جنازته، -إذا توفي- يتمنى هذا من أجل أن يتحدث الناس عنه بعد موته أنه شهد في جنازته جمٌ غفير، فيكتب عليه جرم الرياء بعد موته.(60/2)
(إن العبد ليرائي بعد موته يحب أن يكثُر الخلقُ في جنازته) ، ومن حلم الله بنا ومغفرته لنا، أنه لم يخسف بنا الأرض، ونسأله --جل وعلا-- إذا دفنا فيها ألا يأذن للأرض بأن تلفظنا، ووالله لو أذن للأرض في حال حياتنا فوقها أن تبتلعنا لابتلعتنا، ولو أذن للأرض أن تلفظنا بعد موتنا لتقصيرنا وتفريطنا للفظتنا، وإذا سَتَرَنا فوق الأرض وتحت الأرض فنسأله أن يُتَمَ ستره علينا يوم العرض، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام:
ما من أحدٍ يحب الدنيا إلا ولا يحب الموت، وما من أحدٍ زهد في الدنيا وأعرض عنها إلا أحبَّ لقاء الله، وتمنى الموت وفرح به، ولذلك إخوتي الكرام: إذا اتصف الإنسان بهذا المسلك على وجه التمام، عبد الله، واتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخلص لله أعرض عن هذه الحياة، وتعلق بالحياة الباقية، تعلق بالدار الآخرة إذا -وجد فيه هذا- لا يفر من الموت إذا نزل به، ويموت على عز ويفرح به ولا يبالي إذا جاءه الموت على أي حال -ما دام مطيعاً لذي العزة والجلال-.(60/3)
ثبت في صحيح البخاري، وسنن أبي داود، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل بعثاً عينا أي ليتفقدوا أحوال المشركين، وليرصدوا أخبارهم، أرسل بعثاً (عينا) ، وهذا البعث مؤلف من عشرة أشخاص من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -رضي الله عنهم أجمعين- فلما وصل هذا البعث في طريقه بين -مكة وعُسفان- خرج لهم بعض القبائل من العرب من قبيلة لحيان واستنفروا له في (مائة رامٍ) وقيل في مائتين، والروايتان في الصحيح، فتبعوا هذا البعث الذين هم عشرة فلما علم عاصم بن ثابت بالأمر أراد أن يحترز في فدفدٍ من الأرض أي في مرتفعٍ وأرضٍ خَشِنةٍ (صعبةٍ وعرةٍ) ، لئلا يصل المشركون إليهم لكن المشركين وصلوا إلى ذلك الفدفدٍ ثم عرضوا على عاصم ومن معه الاستسلام، وقالوا لكم الأمان إذا استسلمتم ألا نقتل رجلاً منكم، فأما عاصم بن ثابت وهو أمير السرية فقال: ما كنت لأنزل في رعاية كافر ـ لا يمكن أن يرعاني كافر على الإطلاق، وأن أكون في ذمته، فقاتل بمن معه المشركين، فقتل في سبعة من أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- وبقي من العشرة ثلاثة ـ خبيب بن عدي وزيد بن الدَثِنَّه ورجلٌ ثالث من الصحابة الكرام، فعرضوا عليهم الأمان مرة ثانية بعد أن قُتل عاصم في سبعة ممن معه عرضوا على هؤلاء الثلاثة الأمان فقبلوا الأمان، فلما استوثقوا منهم، وقبضوا عليهم فَك المشركون أوتار قسيهم وربطوا هؤلاء الصحابة الكرام بهذه الأوتار، وغدروا ونقضوا عهدهم فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم، ولا أمشي معكم فحاولوا معه فأبى فقتلوه، فَلَحِق الثامن بالسبعة الذين لحقوا بجوار ربهم، بقي خبيب بن عدي وزيد بن الدَثِنَّه -رضي الله عن الصحابة أجمعين-، فأخذوا خبيباً وباعوه إلى أهل مكة إلى أولاد الحارث، وكان خبيب قد قتل الحارث في موقعة بدر فلما أُخذ خبيبٌ -رضي الله عنه- وبقي عندهم أسيراً في مكة تقول(60/4)
امرأة من أهل ذلك البيت: كنت أرى عنقوداً من العنب كرأس الثور عند خبيب بن عدي يأكل منه ووالله ما في مكة حبة عنب، إنما ينزل عليه رزقٌ من السماء {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (1) فلما أجمعوا قتله وأخرجوه من الحرم إلى الحل إلى التنعيم ليقتلوه -سبحان الله- يريدون فتنته عن دينه ويريدون قتل مؤمن لأنه آمن بالله وبرسوله –صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك لا زالوا يعظمون الحرم، فأرادوا أن يُخرجوه من ساحة الحرم ليقتلوه في الحل، فطلب منهم أن يصلي ركعتين، وهو أول من سنَّ لمن يُقتل في سبيل الله صَبْراً، -وقتل الصبر- أن يموت الإنسان في غير المعركة، أن يقبض عليه ثم بعد ذلك ينفذ فيه القتل إما عن طريق الصلب أو الشنق أو الرصاص أو السكين أو غير ذلك هذا يقال قتل الصبر - هو أول من سنَّ صلاة ركعتين لمن يُقتل صَبْراَ ثم قال: والله لولا أن تروا أن بي جزعٌ من الموت لزدت في الصلاة ثم التفت إلى المدينة المنورة كما في مغازي موسى بن عقبة وقال: اللهم بلغ رسولك مني السلام، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- يقتل الآن خبيب ثم قال وعليك السلام يا خبيب -رضي الله عنه وأرضاه- وأنشد أبياته الجميلة الحلوة الرقيقة التي تدل على تعلق المؤمن بربه فقال:
ولستُ أُبَالي حين أُقْتَلُ مُسْلِماً ... على أي جَنْبٍ كان في الله مَصْرِعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأْ ... يُبَارك على أوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعٍ
ثم قتلوه -رضي الله عنه وأرضاه- ولا يقولن قائل -إخوتي الكرام- كيف أكرمه الله بعنقود من العنب، بقطف من عنب، ولم يكرمه بالسلامة من الأعداء؟، لو أراد الله أن يُسَلِّمَهُ لَسَلَّمَهُ وهو على كل شيءٍ قدير. لكن أراد أن يكتب له الظفر برتبة الشهادة.
__________
(1)) ) سورة البقرة: 212، وسورة النور: 38(60/5)
وعاصم بن ثابت الذي قُتل وهو أمير السرية -رضي الله عنه-، عاصم الذي قتل عندما أراد المشركون بعد قتله أن يأخذوا جسده وليمثلوا به ويكون دليلاً على أنهم قتلوه أرسل الله النحل (الدَبْر) لتحميه فصارت عليه كالظله، فما استطاع مشركٌ أن يقترب من بدنه، إذ حفظه الله كرامة له وكتب له الشهادة، كرامة أيضاً له ليزيد في أجره عندما يلقى ربه -سبحانه وتعالى-، الشاهد إخوتي الكرام: أن المؤمن عندما يُعرِض عن الدنيا ويُقبل على الآخرة لا يبالي على أي جنبٍ كان في الله مصرعه، وهذا أوان لقاء الحبيب ولا أفلح من نَدِم، وإذا جاء الموتُ الرجلَ الصالح يقول: مرحباً بحبيبٍ جاء على فاقة غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه -عليه صلوات الله وسلامه-، ولما قيل لخبيب -رضي الله عنه- عند قتله هل يسرك أن محمداً عليه الصلاة والسلام مكانك وأنت في بيتك مع أهلك آمن؟ قال: يا قوم والله ما يسرني أن يَفْدِيَني محمدٌ عليه الصلاة والسلام بشوكة في قدمه، لو أوشيك بشوكة في قدمه لكان أصعب علي من قتلي، أُقتل ويسلم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
إذاً -إخوتي الكرام- الموتُ تحفة المؤمنين، وإذا أخلص الإنسان لله وآمن به واتبع رسوله –صلى الله عليه وسلم- سيفرح بالموت ويتطلع إليه ويشتاق إليه وسيكون الموت حبيباً له.
إخوتي الكرام: قررت هذا بأدلة كثيرة وبينت أن ما ورد من أدلة تبين أن المؤمن يكره الموت وينفر منه، فقلت: إن هذه النفرة نفرة طبيعيةٌ جبليةٌ غريزيةٌ والمؤمن يحب الموت حباً اختيارياً شرعيا، وهذا الحب يظهر على وجه التمام والكمال كما تقدم معنا عند السياق والاحتضار عندما يبشر بلقاء العزيز الغفار فيحب لقاء الله فيحب الله لقائه.(60/6)
والأحاديث التي دلت على أن المؤمن ينفر من الموت وطبيعته تكرهه ولا تميل إليه قلت: الحديث الثاني الذي رواه الإمام البخاري وغيره -عليهم جميعاً رحمة الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله تعالى: [من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلىَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعْطِيَنَّهُ ولئن استعاذ بي لأُعِيِذَنَّهُ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه] يكره الموت كراهة طبيعية جبلية، ويحبه محبة اختياريةً شرعيةً، ويظهر هذا على التمام عند الاحتضار والسياق.
تقدم معنا -إخوتي الكرام- شرح الجملة الأولى [من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب] وكنا في شرح الجملتين التاليتين للجملة الأولى [وما تقرب إلىَّ عبدي بشيء أحبَّ إلىَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه] وهاتان الجملتان هذان الأمران حولهما عدة مباحث.
تدارسنا ثلاثة مباحث في الموعظة الماضية:
فيما يتعلق بقول الله جل وعلا: [وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلىَّ مما افترضته عليه] فقلت: إن الطاعات تتفاوت في الدرجات.
والمبحث الثاني: أفضل الطاعات الواجبات المفروضات.
والمبحث الثالث: أفضل الواجبات المفروضات توحيد رب الأرض والسماوات، هذه الأمور الثلاثة -مر الكلام عليها-.(60/7)
وسأتبعها بثلاثة أخرى لازالت المباحث تتعلق بالطاعات التي تدخل في هذه الجملة [وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلىَّ ممَّا افترضْته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه] ، أما ما يتعلق بمحبة الله لعبده، وما يترتب على هذه المحبة من آثار فتحت ذلك مبحث طويل جليل جميل يأتي في المواعظ الآتية إن أحياناً ربنا الجليل، إنما في هذه الموعظة سندارس ثلاثة أمور تتعلق بالطاعات أيضاً نكمل بها المباحث الثلاثة المتقدمة، فيصبح مجموع المباحث معنا ستةُ فيما يتعلق بالطاعات.
المبحث الأول الذي سنتدارسه: الطاعةُ المتعدية أعظمُ أجراً عند الله من الطاعة القاصرة.
والأمر الثاني: فعل المأمور أعظم أجراً من ترك المحظور، كما أن ترك المأمور أشنع وأخبث وأبشع من فعل المحظور، وأقرر هذا بالأدلة والبيان -إن شاء الله-.
والأمر الثالث: الصلة بين النوافل والفرائض.
أما المبحث الأول:
وهو أن الطاعة المتعدية أفضل من الطاعة القاصرة.
إخوتي الكرام: يراد بالطاعة المتعدية ما يصل أثرها إلى عباد الله -جل وعلا-، ما يصل نفعُها خيرُها إلى عباد الله ـ ويراد بالطاعة القاصرة ما بينك وبين ربك -جل وعلا-، فالطاعة المتعدية التي يصل نفعها إلى العباد أعظم أجراً من الطاعة القاصرة التي بينك وبين ربك -جل وعلا-، وقد وضح هذا نبينا –صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه الكثيرة.(60/8)
ثبت في الصحيحين، والحديث في سنن الترمذي، والنسائي، وإذا كان في الصحيحين فهو في أعلى درجات الصحة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال للنبي –صلى الله عليه وسلم-[يا رسول الله أي الأعمال أحب عند الله -جل وعلا-؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله]-عليه الصلاة والسلام- وتقدم معنا قلنا هذا هو أعظم الأركان منزلة عند الله، شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وقبول كل عمل وكل طاعة متوقفٌ على تحقيق هذا الركن فهذا أفضل الشعب، [الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق] كما تقدم معنا -إخوتي الكرام-.
[أيُّ العمل أفضل عند الله؟ إيمان بالله ورسوله -عليه الصلاة والسلام-: قلت هذا السائل: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قلت ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور] ، قدم النبي –صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الجهاد في سبيل الله على الحج المبرور في المنزلة والأجر لأن الجهاد طاعة متعدية يصل نفعها إليك، وإلى عباد الله المسلمين، فتدفع عنهم ضُر الكافرين، وتجعلهم في حرزٍ مكينٍ أمين.(60/9)
فإذاً (الجهاد طاعة متعديةٌ) (والحج طاعة قاصرةٌ) ، فالجهاد أجره أعظم من أجر الحج المبرور، إذا تعين الجهاد عليك، فهو فرضٌ أفضل من الحج إذا تعين عليك، وإذا لم يتعين الجهاد، عليك، فهو نافلة فهو أفضل من حجٍ نافلةٍ، فرض الجهاد أفضل من فرض الحج، ونافلة الجهاد أفضل من نافلة الحج، وهكذا الصيام، ولذلك شرع للمجاهد أن يفطر في رمضان وإن كان مقيماً في بلده، وقد أفتى بهذا شيخ الإسلام الإمام ابن تيمة -عليه رحمة الله- عندما كان في دمشق وغزا جيش التتار بلدة دمشق فأفطر في رمضان، وأمر المسلمين بالفطر ليتقوْوا على قتال الأعداء، قال الإمام ابن القيم: -عليه رحمة الله- في كتابه (بدائع الفوائد) ناقلاً هذا عن شيخه، بأنه: أفتى بالفطر وأفطر، قال الإمام ابن القيم: وهذا من باب قياس الأولى، فإذا شرع للمرأة المرضع الفطر وشرع للحامل أن تفطر خشية على الولدين بالنسبة للمرضع والحامل فمن باب أولى يفطر المجاهد في سبيل الله، يفطر شهر رمضان ليتقوى على قتال أولياء الشيطان.
إذاً الطاعة المتعدية أجرها أعظم من الطاعة القاصرة، وقد بين لنا نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد ذِرْوة سنام الإسلام، وذروة الشيء أعلاه، أعلى شيء في الإسلام الجهاد في سبيل الرحمن، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد.(60/10)
والحديث رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى وإسناد الحديث صحيح كالشمس عن معاذ بن جبل رضى الله عنه قال: [كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في سفرٍ فلما اقتربت منه قلت: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار: فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: يا معاذ لقد سألت عن عظيم وإنه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه] نسأل الله أن ييسر لنا فعل الطاعات وترك المخالفات إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين [لقد سألت عن عظيم وإنه ليسيرٌ على من يسَّره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجُ البيت] ثم قال له النبي -عليه الصلاة والسلام -: [يا معاذ ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت بلى يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-[الصوم جنة] وقاية لك من كل مكروهٍ ومن الخطايا والذنوب [الصوم جُنَّة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل] في بعض نسخ الترمذي [وصلاة الرجل في جوف الليل شعارُ الصالحين، ثم تلا النبي –صلى الله عليه وسلم- {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
__________
(1)) ) سورة السجدة: 15 – 17(60/11)
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام يا معاذ ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت بلى يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: قال رأس الأمر الإسلام] وهو أن تسلم لله -جل وعلا- وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام هذا رأس الأمر وأعلى الطاعات وأفضل القربات [رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال النبي –صلى الله عليه وسلم- يا معاذ ألا أخبرك بِمَلاك (بكسر الميم وفتحها) : وهو ما يملك عليك الأمر ويجعلك تحافظ على جميع شعائر الإسلام وخصال الإيمان [ألا أخبرك بملاك ذلك؟ قلت بلى يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأخذ بلسانه وقال كفَّ عليك هذا: قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به: قال ثكلتك أمك (كلمةٌ يقصد منها التعجب والاستغراب ولا يراد منها حقيقتها) [وهل يكب الناس في النار على وجوههم] أو قال [على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم] .
الشاهد إخوتي الكرام: ذروة سنامه الجهاد، طاعة متعدية، وهناك أي العمل أفضل عند الله؟ إيمان بالله ورسوله، ثم ماذا؟ الجهاد في سبيل الله، ثم ماذا؟ الحج المبرور، وقد أخبرنا نبينا –صلى الله عليه وسلم- أن الطاعة المتعدية أعظم بكثير من الطاعة القاصرة.
استمعوا لهذا الحديث الذي يحثنا على مساعدة بعضنا بعضا، ثبت في معجم الطبراني، والأوسط، وقال عنه الإمام الهيثمي في المجمع: إسناده جيد.(60/12)
والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث رواه البيهقي أيضاً في السنن ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان معتكفاً في مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم-] والاعتكاف طاعةٌ قاصرةٌ بين الإنسان وبين ربه -جل وعلا-، [فجاء بعض الصحابة الكرام بعض الحاضرين جلس بجوار ابن عباس وعليه أثر الحزن والكآبة فقال له ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما لي أراك كئيباً حزينا؟ فقال لفلانٍ عليَّ حقُ ولاءٍ] ولعله والعلم عند الله أنه كان رقيقاً فطلب من سيده أن يُعتقه مقابل مالٍ فيريد أن يدفع له أقساط الكتابة مقابل تحرير رقبته، [وليس عندي ما أعطيه] له عليَّ حقُ ولاءٍ: أي لأجل أن يحررني وليس عندي ما أعطيه، ولذلك عليه أثر الحزن والكآبة، [فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- ألا أكلمه فيك؟] أي من أجلك، ليسامحك ليعفو عنك ليسقط عنك ليتجاوز تريد أن أكلمه [قال: إن شئت] يقول هذا الرجل [فانتعل ابن عباس -رضي الله عنهما-] أي لبس نعليه وأراد أن يخرج من المسجد [فقلت له أنسيت ما أنت فيه؟] أنت معتكف في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-[قال: ما نسيت، لكن حدثني صاحب هذا القبر -عليه صلوات الله وسلامه- والعهد به قريب] : أي قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى -عليه صلوات الله وسلامه- أنه قال: [من مشى في حاجة أخيه كان خيراً من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق أعظم مما ما بين الخافقين] فعشر سنين كم فيها إذاً من الخنادق اليوم الواحد ثلاثة خنادق أعظم مما ما بين الخافقين، إذا اعتكفت لله يوماً واحداً يجعل بينك وبين النار ثلاثة خنادق أعظم مما بين المشرق والمغرب مما بين هذه المسافة، وأعظم مما بين السماء والأرض، ومن مشيَ في حاجة أخيه ليقضيها له ليس له أجر من اعتكف عشر سنين، إنما خيراً من اعتكاف عشر سنين، واعتكاف اليوم له هذا الأجر العظيم(60/13)
عن رب العالمين.
ووجه ذلك: أن الاعتكاف طاعةٌ قاصرةٌ بينك وبين ربك -جل وعلا-، وأما هنا طاعةٌ متعديةٌ، وأحب العباد إلى الله أنفعهم لعباده، فهذا يمشي في حاجة أخيه، فترك اعتكافه وخرج من أجل أن يكلم صاحب الحق من أجل أن يتجاوز أو يَؤَخّر أو يسامح هذا الإنسان، واستدل بهذا الحديث الثابت عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- والحديث في معجم الطبراني، والأوسط، وهو في المجمع، والمستدرك، وسنن البيهقي، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-.
إذاً الطاعة المتعدية أعظم أثراً ومنزلةً عند الله من الطاعة القاصرة.
يلتحق بهذا أمران أحب أن أنبه عليهما قبل أن أنتقل إلى الأمر الثاني، وهو أن فعل المأمور أعظم منزلةً من ترك المحظور.
الأمر الأول: الذي يلتحق بالطاعة المتعدية، وهي أفضل من الطاعة القاصرة ويغفلُ عنه كثير من الناس ويظنونه أنه أمرٌ عادي- النكاح: النكاح طاعة متعدية ليس بينك وبين ربك، بينك وبين العباد: بينك وبين زوجك، أولاد، بينك وبين من تصاهرهم {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} (1) في النكاح من الأجر ما لا يخطر ببال أحدٍ من الخلق إذا فعل هذا على حسب شريعة الرب -جل وعلا-.
__________
(1)) ) سورة الفرقان: 54(60/14)
وتقدم معنا كلام ابن الجوزي في تلبيس إبليس وحددت لكم رقم الصفحة 297 يقول رُبَّ جماعٍ خيرٌ من عبادة ألف سنة، ما وجه ذلك؟ طاعة متعدية، بهذا الجماع خرج ولدٌ كالإمام أحمد، كأبي حنيفة، كالإمام الشافعي، كصلاح الدين، صار إنقاذ الأمة الإسلامية وهدايتها على يديه: هذا أمرٌ عظيم، رب جماعٍ خيرٌ من عبادة ألف سنة، ورحمة الله على فقهاء الحنفية عندما قرروا في كتبهم وانظروا هذا في فتح القدير للكمال بن الهمام 3/184، يقول: النكاح إذا لم يكن واجباً، أما محل الوجوب هذا متفقٌ عليه أنه صار فرضاً ينبغي أن يقوم به الإنسان، وهو إذا تاقت نفس الإنسان إليه ووجد المؤنة وخشي على نفسه من الوقوع في المحظور وهو الزنى: النكاح عليه فرضٌ إذا تركه في هذه الحال مع القدرة عليه آثمٌ عاصٍ لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، هذا بلا خلافٌ بين أئمتنا، هل محل إجماع.(60/15)
الحالة الأولى: وجد الأهبة، ونفسه مشتاقةٌ، وخشيَ من الوقوع في الزنى النكاح فرض، إنما وجد الأهبة ونفسه تشتاق، ويأمن على نفسه من الوقوع في الزنى يقول أبداً لو جاء نساء الدنيا بأسرهن إليَّ وراودنني لأعرض عنهن ولا نظرت لواحدة منهن، قلبي لا يتعلق بغير ربي، نعم نفسي تميل إليها عن طريق الحلال، لا عن طريق الحرام، فهو يأمن على نفسه من المحظور، فالنكاح في هذه الحالة الثانية عند الحنفية سنةً مؤكدة، أفضل من التعلم والتعليم، بل أفضل من الجهاد في سبيل رب العالمين، قالوا لو تزوج في هذه الحالة أفضل من أن يجاهد لم؟ قالوا ذاك طاعة متعدية، وهذا طاعة متعدية، لكن التعدي في النكاح أعظم، كيف هذا؟ انظروا لهذا التعليل وهذا الفقه الذي يستنبطه فقيهٌ الملة أبو حنيفة النعمان بن ثابت -رحمه الله ورضي عنه- يقول: الإنسان إذا جاهد يحافظ على الصفة، وإذا تزوج يحافظ على الصفة والموصوف، وطاعةٌ تحافظ بها على الصفة والموصوف أعظم من طاعةٍ تحافظ بها على الصفة، ما معنى ذلك؟ أنت عندما تقاتل في سبيل الله تحافظ على عز الإسلام وبقاء الإسلام لئلا يندرس دين الرحمن، لئلا يقضيَ الكافرون على شرائع الإسلام فحافظت على الإسلام أي على هذه الصفة، لكن إذا تزوجت أنجبت مثله وحافظت على دين رب العالمين، أوجدت موصوفاً وصفةً، الإسلام فيهم وهم مسلمون، أما القتال لا يلزم منه إيمان من تقاتلهم، وإذا قاتلت أهل الذمة ورضوا أن يدخلوا في عهدك على أن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ليس لك حقٌ بعد ذلك أن تكرههم على الدخول في الإسلام، وقد تقتلهم ويموتون على الكفر، فإذاً لا يلزم من الجهاد أن يسلم من تقاتلهم، لا يلزم، قال أئمتنا: ولو قدر إسلام من قاتل وهم بجهادنا، فعدد من يُسلم بجهادنا قليل، قليل بالنسبة لعدد من يحصل بتزاوجنا ونكاحنا، فواقع الأمر كذلك، يعني أفراد الأمة كثروا بسبب التناكح أو بسبب الجهاد في سبيل الله؟ بسبب التناكح، إذاً الزواج.(60/16)
فقال الحنفية عليهم رحمة الله إذا لم يكن الجهاد فرضاً واجباً في الحالة الثانية هو أفضل من التعلم والتعليم، وأفضل من الجهاد في سبيل رب العالمين، لما؟ أنت بالنكاح تحافظ على الموصوف والصفة، وأما في الجهاد فتحافظ على الصفة، وقد يوجد الموصوف قليل، أي المسلم قد لا يوجد، وأما النكاح مضمون، تزوج مثلاً زوجة أو أربعة زوجات، وواحدة أنجبت عشراً، والأربعة أربعون، فولد له أربعون ولد، كلهم مسلمون يوحدون الحي القيوم كم لك من الأجر عند الله -جل وعلا-؟ أجل ولو يخطر ببالك رُبَّ جماعٍ خيرٌ من عبادة ألف سنةٍ، وهذا ما قرره الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في بدائع الفوائد ومال إلى رأي الحنفية0 فقال: النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة، ومما يروى في ترجمة العبد الصالح الأواه الإمام المبجل أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- أنه ذكر النكاح يوماً وحث عليه، فقال له تلميذه وصاحبه الذي تقدم معنا أبو بكر المروزي، يا إمام يذكرون عن إبراهيم بن أدهم، يعني أنه ما تزوج يريد أن يكمل الكلام، يقول: فصاح بي الإمام أحمد فقال: جئتنا ببنيات الطريق: أي بالطرق المتعرجة من الطريق العام إذا سلكتها وصلت إلى الهلاك والمهلكة، جئتنا ببنيات الطريق؟ أنظر -عافاك الله- ما كان عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فافعله، أما بشر الحافي، أما إبراهيم بن أدهم، أما ابن تيمية، أما الإمام النووي، أئمة أعلام، أئمة هدىً كونهم تركوا النكاح لعذرٍ عندهم يُسقط اللوم لا يوجب فضيلة، وشتان بين سقوط اللوم وبين أن نقول: إنه فضيلة، تركوا النكاح إما خشية عدم حصول القوت الحلال، خشية الاشتغال بالعيال عن رتبة الكمال، خشية عدم القيام بالحقوق الزوجية، اعتبارات كل هذه أعذار تسقط عنهم اللوم، ليس ما فعله يعتبر قدوة لنا فيه وينبغي أن نقتديَ بالإمام النووي، أو ابن تيمية، أو بشر الحافي، أو إبراهيم بن أدهم، لا نقتدي إلا بسيد الخلق -عليه صلوات الله وسلامه-،(60/17)
النكاح من سنته، ومن رغب عن سنته فليس منه كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- والحديث في الصحيحين [من رغب عن سنتي فليس مني] ومن سنته -عليه الصلاة والسلام- هذا، فغايتنا عند هؤلاء الأئمة غايتنا عندهم كما قلت: أعذار يسقط بها اللوم عنهم، ولا يقتدى بهم في ذلك.
إذاً -إخوتي الكرام-: النكاح له هذه المنزلة، ولذلك قال الإمام أحمد ع-ليه رحمة الله- لو تزوج بشرٌ الحافي لتمَّ أمره، بشر الذي تقدم معنا حاله، وهو من العلماء الربانيين، لو تزوج لتمَّ أمره، وكان بشرٌ يعترف بهذا يقول: فُضِّل عليَّ الإمام أحمد بثلاث، الأولى: طلب الحلال لنفسه ولعياله وأنا طلبته لنفسي فقط، والثاني: نصب إماماً للعامة، وأما أنا فإمام نفسي، والثالثة: اتسع في النكاح فتزوج وتسرى وأما أنا قصرت فيه، الإمام أحمد فضل عليَّ بهذه الأمور الثلاثة، يقول الإمام أحمد: لو تزوج بشرٌ الحافي لتمَّ أمره وبعد أن توفي بشرٌ الحافي -عليه رحمة الله- رؤيَ في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي ورحمني وأشرف بي على منازل الأنبياء، وقال لي: يا بشر، ما كنت أحب أن تلقاني وأنت عزبٌ، قيل له: فماذا فعل أبو نصر التمَّار؟ وتوفي بعد بشر الحافي سنة 228هـ عليهم رحمة الله. قال: رفعه الله فوقي بسبعين درجةٍ، قالوا سبحان الله كنا نرى أنك أفضل منه وأعلا؟ قال بصبره على بناته.(60/18)
هذا عنده بنات فكان يصبر على لأوائهن وشدائدهن، والقيام عليهن رفعه الله فوقي بسبعين درجة، إذاً الطاعة متعديةٌ فأجرها أعظم من الطاعة المتعدية التي تتعدى كثيرا، ومن بابٍ أولى أجرها أعظم من الطاعة القاصرة من التخلي لنوافل العبادة، وما يقال في الواحدة يقال في الثانية، والثالثة والرابعة، وقد بوب الإمام البخاري في كتاب النكاح باباً يشير به إلى هذا فقال: باب كثرة النساء، ثم ساق بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال لتلميذه سعيد بن جبير (هل تزوجت؟ فقال: لا، فقال: تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرهُم نساء) يعني -النبي عليه الصلاة والسلام- وما اختار له إلا أكمل الأحوال، وأكمل الأحوال من أمته من يكون عنده أربع، ثم الثلاث، ثم الثنيتين، ثم الواحدة، والواحدة حالة ضرورة {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) (خير هذه الأمة أكثرهم نساء) ، في ذلك مصالح عظيمةٌ، ستر النساء المسلمات بعد رباط قوي بين الأمة الإسلامية عن طريق المصاهرة، ولذلك قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر: إذا عدد الإنسان الزوجات وأراد من التعدد إنجاب الأولاد (انتبه) يقول: هذا هو الغاية في التعبد، وإذا عدد الزوجات وأراد التلذذ فمباح، يندرج تحته من التعبد ما لا يحصى، من إعفاف نفسه وإعفاف زوجه وحسن عشرته لهن، و، و، تعبد كثير يأتي تبعاً، إن قصد التلذذ مباح تحته من التعبد ما لا يحصى، وإن قصد إنجاب الأولاد فهذا هو الغاية في التعبد.
فإخوتي الكرام: النكاح طاعة متعدية فينبغي أن ننظر إلى هذه الشعيرة منزلتها الشرعية التي هي يعني فيه في شريعة الله -جل وعلا- المطهرة.
__________
(1)) ) سورة النساء: 3(60/19)
قال الإمام ابن تيمية -عليه رحمة الله-: ولا ينبغي للإنسان أن يترك النكاح معللاً بأنه مقيمٌ على العبادة وأنه زاهدٌ في الدنيا، يقول: فما من عبادة فعلها ينفع في الآخرة، ومعنى الزهد ترك ما يضر في الآخرة، والنكاح لا يضر في الآخرة، وهو نافع في الآخرة ففعله عبادة، وليس الزهد في ترك النكاح، فليس الزهد في ترك النكاح فمن زهد فيه ليس بزاهد، إنما هو فعل ما يضر نفسه وأعرض عما ينفعه، النكاح طاعة متعدية.
والأمر الثاني: الذي سأؤنبه عليه، عبادة الذكر ويستشكلها كثير من الناس، هذه العبادة التي فُضٌلت يعني على كثير من الطاعات واستشكلها بعض الناس فقالوا: هذه العبادة كيف فضلت كثيراً من الطاعات، واقع الأمر أنها هذه العبادة كعبادة النكاح تسببت في طاعات كثيرة سأتكلم على عبادة الذكر على وجه الاختصار، ثم أتكلم على الأمر الثاني هو فعل المأمور أعظم أثراً من ترك المحظور، ثم على الأمر الثالث هو الصلة بين الفرائض والنوافل في الموعظة الآتية إن أحيانا الله.
استأذنكم الآن وأسأل الله -جل وعلا- أن يجمعنا في هذه الدنيا على طاعته وفي الآخرة في دار كرامته وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(60/20)
صفة خروج المرأة إلى بيت الله
الموعظة السادسة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة السادسة
صفة خروج المرأة إلى بيت الله ووجوب الجماعة على الرجال دون النساء
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمّن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
__________
(1) - سورة فاطر: 3
(2) - سورة النساء: 1(61/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (2) .
أما بعد معشر الإخوة المؤمنين:
تقدم معنا أن أحب البلاد وأفضلها بيوت الله جل وعلا المساجد، ففيها نوره وهداه، أذن الله برفعها ليسبح ويذكر فيها، وقد نعت الله الرجال الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة نعتهم بأربع خصال، هي أطيب الخلال لا تلهيهم البيوع والتجارات، ويعظمون رب الأرض والسموات، ويحسنون إلى المخلوقات، ويستعدون للقاء الله جل وعلا في جميع الحالات.
{فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهِ اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} (3) وهذه الخلال التي نُعِتَ بها هؤلاء الكُمَّل من الرجال ينبغي قبل أن ندخل في شرحها، وتفصيل الكلام عليها، أن نتدارس في قول الله جل وعلا رجال من إشاراتٍ معتبرة.
تقدم معنا، إخوتي الكرام أن هذا اللفظ الجليل الذي نعت الله به عباده الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة، يحتمل أمرين اثنين كل منهما مراد:
الأمر الأول: رجال كاملو الرجولة، فيهم مروءةٌ وشهامةٌ، فهم الرجال حقا، وعيبٌ أن يقال لمن لم يتصف بمعاني وصفهم رجلُ.
نعم، إن الرجولة كل الرجولة، أن يتذلل المخلوق لخالقه، وأن يعبد العبد ربه، وإن الوضاعة كلَّ الوضاعة أن يتذلل المخلوقٌ لمخلوقٍ مثله، وأن يعبد العباد بعضهم بعضا.
__________
(1) - آل عمران: 102
(2)) ) سورة الأحزاب 70، 71
(3) سورة النور: 36، 37(61/2)
رجال: هؤلاء هم الرجال، وما عداهم أهل ضلال وخبال، فهم الأنذال هم الأنذال.
وأما الدلالة الثانية في لفظ رجال، فيراد منها ما يقابل الأنوثة، فالرجال هم الذكور الذين يعمرون بيوت الله جل وعلا في هذه الحياة.
ولفظ الرجال كما قال أئمتنا في أصول الفقه: إنه اسم جنسٍ جامد، وعليه فهو اسم لقبٍ، وليس له مفهوم مخالفة فلا يفيد أن النساء لسن كذلك بناءً على هذا الاصطلاح، وهذا التعبير، فالرجال اسم جنسٍ جامد وإذا كان كذلك فلا يدل على أن ما يقابل الرجال ليس لهنَّ هذا الوصف، لكن قال أئمتنا الكرام إن لفظ الرجال، وإن كان اسم جنسٍ جامد، وإن كان كذلك فما في الرجال من معنى الذكورة صالحٌ لإناطة الحكم به، والتفريق بين الرجال والنساء في ذلك، وعليه فلفظ الرجال هو صفةٌ وليس بلقب، ومفهوم الصفة معتبرٌ عند أئمتنا الكرام الشافعية والمالكية والحنابلة، وهذا المفهوم أن الرجال يسبحون في بيوت الله جل وعلا، ويذكرون الله في بيوت الله جل وعلا، يفيد أن النساء لسن كالرجال في هذا الحكم، وهذا ما دلت عليه سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة الصريحة، بأن النساء لا يطالبن بالجماعة التي طولب بها الرجال الذكور، فالجماعة لا تجب إلا على من كان ذكراً، عاقلاً، بالغاً، حراً، صحيحاً، مقيماً كما هو الحال في الجمعة تماماً، وعليه فلا تجب الجماعة على صنفين، لا تجب على ما يقابل الذكور، وهنَّ الإناث، ولا تجب على الذكر إن كان فيه عذر من مرضٍ أو سفرٍ أو غير ذلك.(61/3)
رجال: أي هم رجالٌ، يسبحون الله، ويذكرونه في هذه البيوت، طولبوا بذلك على سبيل الوجوب، والنساء لسن كذلك، وهذا ما صرَّحت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحديث إسناده صحيح، ونص الحافظ في الفتح على تحسين إسناده، وله شاهدٌ "من حديث عبد الله بن مسعود في صحيح ابن خزيمة، وسنن أبي داود أذكر الشاهد بعد رواية الحديث الأول الذي رواه الإمام أحمد كما قلت في مسنده، وابن حبان في صحيحه وابن خزيمة في صحيحه عن أم حميدٍ رضي الله عنها أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -[فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معكَ: فقال -عليه الصلاة والسلام-: قد علمتُ أنكِ تحبين الصلاة معي وصلاتكِ في بيتكِ خيرٌ من صلاتكِ في حجرتكِ وصلاتكِ في حجرتكِ خيرٌ من صلاتكِ في داركِ، وصلاتكِ في داركِ خيرٌ من صلاتكِ في مسجد قومكِ، وصلاتكِ في مسجد قومكِ خيرٌ من صلاتكِ معي"، فأمرت رضي الله عنها أن يبنى لها مسجدٌ في أقصى بيت لها وأظلم فكانت تعبد الله فيه حتى ماتت رضي الله عنها وأرضاها] .(61/4)
صلاتكِ في بيتك، وهو البيت الداخلي، خيرٌ من صلاتك في حجرتكِ؟ هو البيت العام كصالة وغيرها يدخلها الذكور والنساء، والصلاة في الحجرة خيرٌ من الصلاة في الدار، وفي فناءها وفي بقعتها إذا لم تجاوز المرأة سورها، والصلاة في الدار خير من الصلاة في مسجد الحي، والصلاة في مسجد الحي بالنسبة للمرأة خيرٌ من أن تشهد الصلاة جماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، والتزاماً بهذا التوجيه النبوي هذه المرأة الصالحة القانتة أمرت أن يبنى لها مصلى، في أظلم مكانٍ وأبعده من بيتها، فلزمته حتى فارقت هذه الحياة، والحديث صحيح وكما قلت حسنه الحافظ وله شاهدٌ من رواية أبي داود وصحيح ابن خزيمة عن عب الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [صلاة المرأة في بيتها خيرٌ من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها خيرٌ من صلاتها في بيتها] والمخدع بتثليث الميم كما قال أئمتنا: مِخْدَعٌ، ومُخْدَعٌ، ومَخْدَعٌ: وهو البيت الذي يكون داخل بيت، فبيت المرأة خاصٌ فيها، فإذا جعلت شيئاً فيه تستتر فيه عن غيرها يقال له مَخْدَعْ ... أخْدَعْتُ الشَّيءَ إذا خَبْيَّتُهُ وأخْفَيَّتُهُ، وهذا المخدع إذا صلت المرأة فيه خيرٌ من أن تصلي في بيتها الداخلي، وإذا صلت في بيتها فهذا خيرٌ لها من أن تصلي في دارها وفي حجرتها كما ثبت هذا عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-.(61/5)
وعليه رجال: أي ذكوراً ليسوا بإناث، وهذا الأمر أعني أن المرأة لا تطالب بالجماعة ولا الجمعة ولا تكلف بالحضور إلى بيوت الله، وملازمتها لبيتها أفضل لها عند ربها تواتر عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-، الأحاديث في ذلك كثيرة ففي مسند الإمام أحمد، وسنن الدارمي، ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه ابن خزيمة، والحاكم في المستدرك، وإسناده حسن، عن أمنا أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [خير مساجد النساء قعر بيوتهنَّ] وقد ذهب أئمتنا الكرام إلى أن تفضيل الصلاة في الحرمين الشريفين وفي بيت المقدس، -نسأل الله أن ينصر المسلمين على أعدائهم في كل مكان وزمان-، إلى أن الصلاة في هذه المساجد المشرفة المباركة، تضاعف في حق الرجال، وهذا في خصوص صلاة الرجال، وأما المرأة فصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في بيت الله الحرام بالنسبة للرجل وأفضل من صلاتها في مسجد النبي عليه الصلاة السلام بالنسبة للرجل، فإذا كانت صلاتنا تضاعف في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-بألف صلاة، وفي بيت الله الحرام بمائة ألف وفي المسجد الأقصى بخمسمائة، فالمرأة تضاعف صلاتها أكثر من ذلك إذا صلت في بيتها. ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(61/6)
والحديث رواه الإمام مسلم من رواية عبد الله بن عمر وأمنا ميمونة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [صلاة في مسجدي هذا خيرٌ (أفضل) من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام] قال إمام الأئمة الإمام ابن خزيمة في صحيحه: هذا الحديث محمولٌ على أن هذا في صلاة الرجال للأحاديث المتقدمة كحديث أم حميدٍ وغيرها بأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا في صلاة الرجال، فالرجل إذا صلى في مسجد الله الحرام تضاعف صلاته بمائة ألف وهكذا، أما المرأة فصلاتها في بيتها تزيد على هذا وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
إخوتي الكرام: قد يقول قائل: لما كان هذا الحال والحكم في النساء ولم يسوِّ النساء بالرجال في حضور الجمعة الجماعات، لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في مسجد قومها وصلاتها في مسجد قومها أفضل من صلاتها في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-أو في بيت الله الحرام، لما كان الأمر كذلك؟ والجواب عن هذا، المرأة فيها أمران معتبران من أجلهما جعل لها هذا الحكم الخاص بها مخالفة للرجل في هذا الأمر أعني حضور الجماعات والجمعات.
الأمر الأول: المرأة عورة بجميع جسمها من رأسها إلى رجليها، فلا يجوز أن يُرى منها بشرةٌ، ولا شعرةٌ، ولا شيء من ظُفُر، وإذا كانت كذلك فأستر ما يكون لها عندما تكون في قعر بيتها بينها وبين ربها جل وعلا، "المرأة عورةٌ" كما ثبت هذا في سنن الترمذي بإسنادٍ حسنٍ صحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [المرأة عورةٌ فإذا خرجت استشرفها الشيطان] أي تَطًلَّع إليها وفرح بها واغتنم خروجها ليوسوس لها وللناس بها فهي سهمه الذي يضرب به فلا يخيب، [المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان] .(61/7)
والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك والطبراني في معجمه الكبير وهؤلاء الثلاثة زادوا في الرواية [وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها] . [المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها] : في قعر بيتها، وفي معجم الطبراني بإسنادٍ حسن من رواية عبد الله بن مسعود مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد في أوله ورواه أيضاً في صحيحه لكن موقوفاً على عبد الله بن مسعود وله حكم الرفع إلى نبينا المحمود عليه، صلوات الله وسلامه ولفظ الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن النساء عورة، وإن المرأة إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأس] : أي ليس فيها فتنةٌ وليس فيها شبهةٌ وليس فيها منكرٌ، ولا بليةٌ، [وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها بأسٌ فإذا خرجت استشرفها الشيطان ولا يزال يوسوس إليها فيقول إنكِ لا تمرين برجل إلا أعجبتِه وإن المرأة إذا لبست جلبابها قيل لها إلى أين يا أمة الله فتقول لأصل رحماً أو أشهد جنازة أو أصلي في مسجد، وما عبدت المرأة ربها بمثل أن تعبده في جوف بيتها] إذاً قول الله جل وعلا: {فِيهِ رِجَالٌ} ذكور، فالذين طُولبوا بهذه الجماعات وهذه الجمعات هم الذكور الذين اكتملت فيهم الذكورة وهم العقلاء الكرام الفضلاء، {رِجَالٌ} وأما المرأة فلا تطالب بذلك لهذا الاعتبار الأول الذي فيها ألا وهو أنها عورة.
وأما الاعتبار الثاني:(61/8)
إن هذا الخلق هو خلق الخالق جل وعلا، والله جل وعلا يعلم طبيعة خلقه ذكوراً وإناثا {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (1) ويعلم الله جل وعلا أن النساء هنَّ فرع الرجال، وأن الرجال هم أصول النساء، وإذا كان الأمر كذلك فالأصل يميل إلى فرعه، ويحبه ويريده، والفرع يتعلق بأصله، ولا يستقر بدونه ولا يستريح إلا به، وعليه بين الذكور والنساء انجذابٌ وترابطٌ وميلٌ لا يوجد بين مخلوقين على وجه الأرض من التجاذب والميل كما بين الذكور والإناث.
إن انجذاب الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل أعظم بكثير من انجذاب الحديد إلى المغناطيس، وهذا أشار إليه ربنا جل وعلا في كتابه بقوله في سورة الأعراف:
{هُوَ الذِّي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (2) فلا يحصل السكن للرجل إلا بأن ينضم إلى المرأة، والمرأة فرعٌ للرجل لا تستقر إلا بأن تأوي إليه، {وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أزْوَاجَاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَةً وَرَحْمَةً إِنْ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لقومٍ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن المرأة بعضٌ من الرجل وجزء منه، ولأجل هذا الترابط بين الصنفين ينبغي أن يحال بينهما، إلا في الاجتماع على خيرٍ وطُهر إلا في النكاح الحلال، وما عدا هذا فيستحسن ألا ترى المرأة رجلاً وألا يرى الرجل امرأة.
__________
(1) سورة الملك: 14
(2) سورة الأعراف: 189
(3) سورة الروم: 21(61/9)
ثبت في كتاب الرد على الجهمية للإمام ابن منده والحديث إسناده حسن وهو في صفحة خمسين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن الله لما خلق آدم مسح ظهره (سبحانه وتعالى) فجرى من ظهره كل نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة ثم أخذ الله ضِلَعاً من أضلاع آدم فخلق منه حواء ثم أشهدهم على أنفسهم وأخذ عليهم العهد والميثاق ألست بربكم؟ قالوا بلى] .
{وَإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرْيَّتِهمْ وَأشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالَوا بَلَى، شَهِدْنَا أنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أشْرَكَ آبَائُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهمْ أفْتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (1) فالمرأة إذاً بعضٌ من الرجل، وهي ضٍلَعٌ من أضلاعه وثبت في تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير الإمام ابن المنذر وشعب الإيمان للإمام البيهقي، بسندٍ صحيحٍ، كالشمس عن حبر الأمة وبحرها، عبد الله بن عباس رضي الله عنه موقوفاً عليه، وللأثر حكم الرفع إلى نبينا -عليه الصلاة والسلام-أنه قال: [خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتُها فيه، وخُلق الرجل من الأرض فَجُعِلَت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم] فاحبسوا نساءكم لأنها تتعلق بالرجل، وتتفنن في إغوائه وإغرائه وإذا كان الأمر كذلك، فالأولى ألا تشهد جمعةً ولا جماعةً وصلاتها في بيتها خيرٌ من صلاتها في بيت ربها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
__________
(1) سورة الأعراف 172، 173(61/10)
عباد الله: وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [المرأة خلقت من ضلع] وهذا يقرر الحديث الذي رواه ابن منده، ويقرر كلام ابن عباس -رضي الله عنهم أجمعين- ففي الصحيحين وموطأ الإمام مالك وسنن الترمذي والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ورواه الإمام الدارمي من رواية أبي ذرٍ -رضي الله عنه- والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير ورواه ابن حبان والحاكم في مستدركه من رواية سمرة بن جندب من رواية أبي هريرة وأبي ذرٍ وسمُرةَ -رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
[استوصوا بالنساء خيراً فإنهنَّ خُلِقن من ضِلَعٍ وإن أعوج شيءٍ في الضلع أعلاه فإذا ذهبتُ تِقيمُه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا]
المرأة خُلِقت من ضِلَع، من ضلع آدم أصلها القصير أو الأيسر خلقت منه كما وضحت هذا رواية الإمام ابن منده في كتاب الرد على الجهمية (المرأة خلقت من ضِلَع) والفرع يَحِنَّ إلى أصله ولا يستقر بدونه، إذاً ينبغي أن نحول بين الصنفين ما أمكن، ولذلك شُرع للمرأة أن تصلي في بيتها، وندبت إلى ذلك وهذا أفضل من أن تصلي في بيت ربها في المساجد.
إخوتي الكرام:(61/11)
ولأجل هذه العلة التي أشار إليها نبينا - صلى الله عليه وسلم -: أن المرأة بعضٌ من الرجل، وأن الرجل مخلوقٌ في الأصل من الطين، لأجل هذه العلة استنبط إمام الفقهاء وسيد المحدثين الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله، ونوَّر قبره وقبور المسلمين أجمعين، استنبط تعليلاً لحديث نبينا -عليه الصلاة والسلام-الثابت في المسند، والحديث روي في السنن الأربعة باستثناء سنن الترمذي، فهو في سنن أبي داود، وابن ماجه، والنسائي، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، ورواه الحاكم في المستدرك، عن أبي السَّمْح خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل اسمه إياد وليس له إلا هذا الحديث، عن المصطفى عليه صلوات الله وسلامه والحديث كما قلت: صحيحٌ أن النبي -عليه الصلاة والسلام-قال: [يُغْسَلُ بولُ الجاريةِ ويُنْضَحُ بولُ الغلام] .(61/12)
والحديث رواه أبو داود، وابن ماجه، ورواه الحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، عن عليٍّ أيضاً -رضي الله عنه- وروي من رواية لبابة بنت الحارث -رضي الله عنهم أجمعين-: [يغسل بول الجارية ويُرشُ بول الغلام] إذا بالت الجارية قبل أن تَطْعَم وقبل أن تأكل بولها نجسٌ، لابد من غسله، وإذا بال الغلام قبل أن يَطْعَم وقبل أن يأكل إذا كان يرضع من ثدي أمه يكفى بأن تَرُش عليه ماءً وأن تنضحَه، وهذا الذي أخذ به الشافعي، والإمام أحمد، وجماهير المحدثين، -رضوان الله عليهم أجمعين- أنه يكفي في بول الغلام قبل أن يطعم، أي قبل أن يأكل شيئاً، غير لبن أمه أن يرش، إذا بال على الشيء وعلى الثياب، الإمام الشافعي -عليه رحمة ال-له استنبط تعليلاً لهذا، كما في سنن ابن ماجه في كتاب الطهارة عندما سأله أبو اليمان المصري وقال الحافظ في التقريب: هكذا وقع في سنن ابن ماجه أبو اليمان وإنما هو أبو لقمان، وهو محمد بن عبد الله الخراساني، إمامٌ مستور، كما قال الحافظ في التقريب: أبو اليمان، أبو لقمان، فقال: أبو لقمان الخراساني للإمام الشافعي: ورد في الحديث يُغْسَل بول الجارية ويرشُ من بول الغلام، ينضح من بول الغلام والماءان ماء واحد فعلام؟ فقال له أبو عبد الله الإمام الشافعي -عليهم جميعاً رحمة الله- إن بول الغلام من الماء والطين وإن بول الجارية من اللحم والدم فهمت لقِنْتَ؟ يعني وعيت هذا؟ فقال أبو اليمان الذي هو أبو لقمان قلت: لا، وضح لي كيف يكون بول الغلام من الماء والطين وبول الجارية من اللحم والدم؟ والحديث كما قلت في سنن ابن ماجه، فقال أبو عبد الله الشافعي -عليه رحمة الله- إن الله لما خلق آدم خلق حواء من ضِلَعه القصير فصار بول الغلام من الماء والطين، لأنه يرجع إلى أبيه الذي خلق من الماء الطين وهو آدم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- وصار بول الجارية من اللحم والدم لأنها خلقت من لحمٍ ودم أصلها،(61/13)
وأما ذاك فخلق من ماءٍ وطين، وهذه العلة استنبطها الإمام الحبر الإمام التقي كما قلت في سنن ابن ماجه -رحم الله أئمة المسلمين أجمعين-.
إذاً المرأة تميل إلى الرجل، والرجل يميل إليها، فلابد من فصلٍ بينهما ما أمكن وإذا أردت أن تتحقق، وأن تتأكد، وأن تعلم مدى تعلق كل من الصنفين بالآخر، لاسيما تعلق النساء الفرع بالرجال بالأصل، فاسمع إلى قول الله جل وعلا عندما تحدث عن النساء وأمرهنَّ بالحجاب في سورة النور فختم الآية بقوله: {وَلا يَضْرِبْنَ بَأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلىَ اللهِ جَمِيعَاً أيُّه الْمُؤْمِنُونَ لَعْلَكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
وقد قرر أئمتنا الكرام عند تفسير هذه الآية، أن طبيعة كل من الصنفين، أن تتعرض للصنف الآخر، فما شعر رجل بأن امرأة تسمعه أو تراه إلا أحدث كلمةً، أو حركةً، أو همهمةً، هو في غُنيةٍ عنها، إنما من أجل أن تصل هذه الحركة إلى المرأة، وما علمت المرأة أن رجلاً يراها أو يسمعها إلا أحدثت كلمةً، أو حركةً، أو همهمةً، أو أسلوبا من الأساليب، لتصل إلى قلب الرجل هي في غُنية عن تلك الحركة والكلمة والهيئة، وهذا قول الله الذي يعلم السر وأخفى {وَلا يَضْرِبْنَ بَأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} سبحان الله عليها الجلباب والحجاب وتمشي، لكن إذا شعرت برجل، دقت الأرض برجلها لتجلب انتباهه إليها. إذا الأمر كذلك فيستحسن أن نفصل بينهما ما أمكن.
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} اكتملت فيهم الرجولة هم أهل الشهامة والكمال، وهؤلاء الرجال ليسوا بإناثٍ ولا نساء، فالجماعة مطالب بها الذكور العقلاء.
إخوتي الكرام:
__________
(1) سورة النور: 31(61/14)
وقد يقول قائل: هل حصل شيءٌ من الفساد عند ذهاب النساء إلى بيوت رب العباد؟ والجواب نعم، وحصل هذا في كل عصر في الأمم الماضية، وفي هذه الأمة ولذلك نُدب النساء أن يصلين في بيوتهنَّ، وسأذكر حادثتين فقط: حادثة وقعت في الأمم السابقة، ومن أجلها حرم الله على النساء في بني إسرائيل أن يدخلن بيوته في هذه الحياة، وحادثة وقعت في هذه الأمة في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام-
أما الحادثة الأولى: رواها الإمام عبد الرزاق في مصنفه بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواها عن أمنا عائشة -رضي الله عنها- بألفاظ مختلفة أورد الأثرين إن شاء الله آنفا، والأثر رواه أيضاً الإمام الطبراني في معجمه الكبير، في مصنف عبد الرزاق، ومعجم الطبراني الكبير، ولفظ أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه وهذا له حكم الرفع، لأنه لا يدرك من قبل الرأي يقول: (كان الرجال والنساء في بني إسرائيل يُصَلُون جميعاً: أي في بيوت الله مجتمعين، فكانت المرأة إذا كان لها خليل تَلْبَس القاَلِبين: تثنية قالب بفتح اللام وقيل بكسرها قَالِب، قالَب، والفتح أظهر وأوجه: وهو حذاءٌ خشبي يعرف في بلاد الشام في هذه الأيام بالقبقاب، حذاءٌ مرتفعٌ من خشب تلبسه المرأة إذا كان لها خليل كانت تلبس القالبين: أي حذاءً خشبياً مرتفعاً تَطَوَّلُ به ليراها خليلها في بيت ربها جل وعلا) هذا كان في بني إسرائيل. تطول به: يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأخِّروهنَّ من حيث أخَّرَهنَّ الله فلما عمل نساء بني إسرائيل ذلك ألقى الله عليهن الحيض.(61/15)
وأثر أمنا عائشة -رضي الله عنها- وهو صحيحٌ أيضاً قالت: (كان النساء من بني إسرائيل يلبسن الأرجل من الخشب: أي يلبسن أرجلاً خشبية أي نعالاً من الخشب في أرجلهن، يلبسن الأرجل من الخشب، وكانت المرأة تذهب إلى الرجل تتشرف للرجال ـ تتطلع إليهم لأجل أن تظهر مرتفعةً بارزةً عاليةً، فلما فعلن ذلك منعن من المساجد وألقى الله عليهنَّ الحيض) وقول أمنا عائشة وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم- (وألقى الله عليهنَّ الحيض) لا ينبغي أن يستشكله أحدٌ منا، فيقول الحيض موجود قبل بني إسرائيل في النساء، فلا إشكال كما حقق هذا الإمام ابن حجر في فتح الباري عند كتاب الحيض من صحيح البخاري كيف كان بدء الحيض، وتوهم بعض العلماء، فظن أن بدء الحيض كان في بني إسرائيل، عندما فعل النساء، ما فعلن من لبس الأرجل الخشبية، فألقى الله عليهن الحيض، ليجلسن في بيوتهن فترة طويلة، ثم منعن من دخول بيوت الله، توهم بعض العلماء ذلك وليس هذا بمراد فالحيض موجودٌ قبل بني إسرائيل وقد قال الله في كتابه: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (1) فضحكت، وقد ذكر أئمتنا ثلاثة معاني للفظ الضحك هنا:
أولها: ما رواه الطبراني بإسنادٍ صحيحٍ، عن عبد الله بن عباسٍ -رضي الله عنهما- ضحكت: حاضت، وزوجة خليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- سارة قبل بني إسرائيل وخليل الرحمن إبراهيم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- قبل بني إسرائيل {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيَّاً وَلا نَصْرَانِيَّاً} (2) فضحكت: أي حاضت، وهذا منقول عن عبد الله بن عباسٍ كما قلت -رضي الله عنه وأرضاه-.
ضحكت: الضحك المعروف.
__________
(1) سورة هود: 71
(2) سورة آل عمران: 67(61/16)
وثبت في مستدرك الحاكم، وتفسير ابن المنذر، بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وله حكم الرفع إلى نبينا -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: [إن حواء بعد أن أخرجت من الجنة كتب الله عليها الحيض] فكانت تحيض، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أمنا عائشة -رضي الله عنها-[عندما كانت مع النبي -عليه الصلاة والسلام-في حجة الوداع وجاءها الحيض وبدأت تبكي دخل عليها النبي -عليه الصلاة والسلام-فقال لها: أنفستِ؟ قالت نعم: قال هذا شيءٌ كتبه الله على بنات آدم] فبنات حواء من بنات آدم فكن يحضن وأمهنَّ كانت تحيض، لكن فارقٌ بين الحيضين أنه قبل بني إسرائيل كان الحيض قليلاً قليلاً لا يزيد على يوم، فالمرأة تحيض ثم تطهر بعد ذلك، ولما عمل بنو إسرائيل لما عمل نسائهم ما عملن ابتلى الله النساء، بزيادةٍ في أيام الحيض، بحيث كانت المرأة تحيض عشرة أيامٍ، أو خمسة عشر يوماً، ثم استمر بعد ذلك في من بعدهن، إنما كانت مدة الحيض قليلة فلما فعلن ما فعلن، ليحبسهنَّ الله في البيوت كتب عليهنَّ الحيض، وسلط عليهنَّ الحيض، ثم بعد ذلك منعهنَّ من دخول المساجد.
إذاً بهذين الأمرين المرأة عورةٌ.
والأمر الثاني: هي بعضٌ من الرجل، فتميل إليه، ويحن عليها ويميل إليها، إذا كان الأمر كذلك لابد من الفصل بينهما، فإذا حصل اتصال حصل اختلاط، حصل قرب كل واحدٌ سيتطلع إلى الآخر، وبعد ذلك تتكدر أحوال الناس في بيوت رب الناس.
هذه الحادثة الأولى في بني إسرائيل.(61/17)
والحادثة الثانية جرت في زمن النبي -عليه الصلاة والسلام-ولا تخلوا أمة من شوائب، لكن العبرة للخط العام، الخط العام والحياة العامة في حياة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، حياةٌ نقيةٌ طيبةٌ، ولا يعني أنه لا يوجد فيها شوائب فالناس يعيشون في الأرض فلا يعيشون في السماء، وفي حياتنا الخط العام فسادٌ واعوجاج، والخير قليلٌ يسير فالعبرةُ دائماً للخط العام، والأمور الغالبة، إنما تقع شوائب في كل عصرٍ، وفي كل مصر.
ثبت في مسند الإمام أحمد، والحديث رواه أهل السنن الأربع، باستثناء أبي داود، وهو مرويٌ في صحيح ابن خزيمة، وابن حبان، ومستدرك الحاكم، وصححه الحاكم، وأقره عليه الذهبي، وصححه عددٌ من أئمتنا عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، والذي مال إليه ابن كثير في تفسيره عند قول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} (1) عند هذه الآية، مال الإمام ابن كثير -عليه رحمة الله- إلى أن الأثر من رواية أبي الجوزاء، عن ابن عباسٍ موقوفاً على أبي الجوزاء، ولم يرفعه إلى ابن عباس، ورفْعهُ كما قلت صحيحٌ ثابت، ولفظ الحديث عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت امرأة وضيئةٌ تشهد الصلاة مع النبي -عليه الصلاة والسلام-في مسجده، وهذا قبل أن يفرض الحجاب فكان الصحابة الكرام يتقدمون إلى الصفوف الأولى لئلا يروها ولئلا يقتربوا منها ويقربوا منها، وكان بعض الناس يتأخر فيصلي في مؤخرة الصفوف فإذا سجد نظر إليها من تحت إبطيه) وهو في سجوده مع النبي -عليه الصلاة والسلام-فأنزل {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} .
علم الله من يتقدم، ومن يتأخر، من يتقدم لئلا يقْرُب من هذه المرأة، ومن يتأخر من أجل غرض خسيسٍ خبيث، ولعله كان يفعل هذا بعض المنافقين والعلم عند رب العالمين.
__________
(1) سورة الحجر: 24(61/18)
إذاً إذا حصل اقتراب بين الصنفين، يحصل ما يوجد في الطبيعة البشرية من تطلع كل صنفٍ إلى الآخر، من أجل هذين الأمرين أمر الله جل وعلا النساء أن يصلين في بيوتهنَّ، وهذا خيرٌ لهنَّ من صلاة الرجال في بيوت ربهم، فلهنَّ أجرٌ يعدل صلاة الرجال في جماعةٍ، وأزيد كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-في حديث أم حميد:، ولذلك إخوتي الكرام، عندما كثرت هذه الحوادث والسلبيات، كان بعض أئمتنا يرى منع النساء من حضور المساجد، ففي الصحيحين، وسنن الترمذي، وموطأ الإمام مالك، عن أمنا عائشة -رضي الله عنها- والحديث من رواية عَمرَة بنت عبد الرحمن، عن أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لو رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدث النساء بعده في المساجد لمنعهنَّ من المساجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها، فقيل لِعَمرَة بنت عبد الرحمن أمنعن؟) يعني النساء في بني إسرائيل، قالت: نعم. وتقدم معنا أنهنَّ منعن من رواية أمنا عائشة -رضي الله عنها- في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح، تقول: لو رأى ما أحدث النساء بعده، لمنعهنَّ من المساجد، كما منعت بنو إسرائيل نساءها.
وأئمتنا قالوا: إن النبي -عليه الصلاة والسلام-لم ير، ولم يمنع، والله يوحي إليه بكل شيء ولو كان منع النساء من حضور المساجد واجباً، وعليهنَّ إثمٌ في الحضور لو كان كذلك لأعلم الله نبيه -عليه الصلاة والسلام-بذلك، نعم تمنع من لم تحافظ على الصفة الشرعية في خروجها، ودخولها لبيت ربها كما سيأتينا.
وثبت في معجم الطبراني الكبير، بسندٍ رجاله موثقون، كما قال الهيثمي في المجمع، وقال الإمام المنذري: إسناده لا بأس به، عن أبي عَمرو الشيباني قال: (رأيت عبد الله بن مسعود يخرج النساء من المسجد يوم الجمعة ويقول أخرجن بيوتكنَّ خيرٌ لكنَّ) .(61/19)
وصفوة المقام، وتحقيق الأمر في ذلك، أن النبي -عليه الصلاة والسلام-رخص للنساء حضور الجمعة والجماعة ولا ينبغي أن يمنعهنَّ مانعٌ من ذلك، نعم يرغبن في أن يصلين في بيوتهنَّ.
ثبت في الكتب الستة، باستثناء سنن النسائي، والحديث رواه الإمام أحمد، وغيره عن سالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم أجمعين- إن عبد الله بن عمر روى عن نبينا الأمين -عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- أنه قال: [لا تمنعوا إماء الله مساجد الله] وفي بعض رواية أبي داود [وبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ] فقال بلال ولد عبد الله بن عمر: والله لنمنعهُنَّ وقال: واقب ولد عبد الله بن عمر إذاً يتخذنه دغلاً: أي فساداً وخديعةً ومكرا، تذهب إلى المسجد ثم تذهب إلى مكان آخر، أو تتعرض للرجال في المسجد، فأقبل عبد الله بن عمر على ولديه واقب وبلال فسَّبهما سبَّاً سيئاً، يقول سالم: ما رأيت والدي سبَّ أحداً، بمثله، ثم قال: أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تمنعوا إيماء الله بيوت الله إذا استأذنَّكم نساؤكم إلى المسجد فلا تمنعوهنَّ، فأذنوا لهنَّ وأنت تقول لنمنعهنَّ، وأنت تقول: لا ندعهنَّ؟ فالحديث في الكتب الستة، إلا سنن النسائي فهو في الصحيحين في أعلى درجات الصحة.(61/20)
فإذا استأذنت المرأة زوجها والدها وأرادت أن تذهب إلى بيت ربها، فلا ينبغي أن يمنعها مانع، لاسيما إذا كان الذهاب إلى المسجد في مناسبةٍ عامة، كصلاة العيدين فقد استُحب للنساء على لسان خاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- أن يحضُرنَ صلاتي العيدين مع المسلمين، ليشهدن الخير، ودعوة المسلمين ففي الكتب الستة وغيرها والحديث في أعلى درجات الصحة، من رواية أم عطية -رحمها الله ورضي عنها- قالت: [أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نَخرج إلى العيدين وأن نُخرج العواتق وذوات الخدور والحُيّض وأن يشهدن الخير ودعوة المسلمين] العواتق: جمع عاتق وهي المرأة الشابة التي حديثة عهدٍ بالبلوغ، وذوات الخدور التي هي مخدرة في بيتها فلا يراها أحد، والحيض يخرجن إلى المصلى وإن كنَّ حائضات، فيشهد النساء الصلاة ودعوة الخير ويعتزل الحيض المصلى لكن يكبرن بتكبير المسلمين، ليشهدن الخير ودعوة المسلمين.
وعليه إذا أرادت المرأة، أن تذهب إلى المسجد، من أجل أداء صلاة أو من أجل سماع موعظة، أو من أجل أن يتقوى إيمانها، وأن تشخذ عزمها برؤية أخواتها، الصالحات ورؤية عباد الله المؤمنين، عندما يصلون في بيوت رب العالمين، لهذه المعاني الشرعية، بالصفات الشرعية فلا حرج ويبقى كما قلت: بُيوتهٌنَّ خيرٌ لهنَّ.
أما الصفات الشرعية، التي ينبغي أن تكون المرأة فيها إذا خرجت من بيتها إلى بيت ربها، فهي خمس صفات يأتي الكلام عليها في الموعظة الآتية إن شاء الله.
أقول هذا القول واستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، خير خلق الله أجمعين، اللهم صلّ على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمّن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
إخوتي الكرام:(61/21)
قول الله جل وعلا: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ} يفيد فائدتين، الفائدة الأولى رجالٌ كاملون، الفائدة الثانية ذكور، ولذلك قال أئمتنا خصوا بذلك لأنهم أهل الجماعات، وأهل التجارات، وهذا ما يتناسب مع ما جاء في محكم الآيات {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} وقد بينت أن الرجال هم أهل الجماعات، وبعد أن نتدارس صفة خروج المرأة إلى بيت الله، ننتقل إلى الاعتبار الثاني فالرجال هم أهل التجارات، وأما المرأة فكلما كانت قعيدة في بيتها فهذا أستر لها ولغيرها، ولذلك ذكر أئمتنا في تراجم بعض النساء الصالحات أنها ما خرجت من بيتها إلا ثلاث مرات كما هو في ترجمة المرأة الصالحة فاطمة بنت نصر العطار، التي توفيت سنة 573هـ وقد أدركها الإمام ابن الجوزي، وترجمها في المنتظم في تاريخه في حوادث سنة 573هـ، وترجمها الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث هذه السنة، والإمام ابن الجوزي شهد جنازتها فيقول: (امتلأت الأسواق والمساجد، عندما شيعت جنازتها أكثر من امتلاء الأسواق والمساجد في يوم العيد بالناس، وشهد جنازتها الصالحون والكبار -رحمها الله ورضي عنها-، يقول الإمام ابن الجوزي: حدثني أخوها أنها لم تخرج من بيتها إلا ثلاث مراتٍ لضرورةٍ) نعم إن المرأة الصالِحة، لا تخرج من بيت أبويها إلا لزوجها مرة، وإلا لأداء الحج والنُّسك في بيت الله الحرام ومسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-مرة ثانية، والخروج الأخير الذي فيه سترٌ لها ولكل مؤمن خروجٍ إلى القبر، نسأل الله أن يسترنا فوق الأرض وأن يسترنا تحت الأرض وأن يسترنا يوم العرض، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما.
اللهم استر نساءنا، وبناتنا وأخواتنا واستر المسلمات في جميع بقاع الأرض يا رب العالمين.
اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.(61/22)
اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا يا رب العالمين.
اللهم أغثنا غيث الإيمان في قلوبنا، وغيث المطر المبارك لأبداننا وأرضنا، وبهائمنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم أدِرَّ لنا الضرع وأنبت لنا الزرع بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عاملنا بإحسانك وجودك وامتنانك إنك أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا ولمشايخنا ولمن علمنا ومن تعلم منا ولمن أحسن إلينا، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات. والحمد لله رب العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الذِّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1)
__________
(1) سورة العصر: 1- 3(61/23)
شروط خروج المرأة إلى بيت الله
الموعظة السابعة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة السابعة
شروط خروج المرأة إلى بيت الله
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين.
{يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صُما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمّن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما} .
أما بعد: معشر الاخوة المؤمنين..(62/1)
إن أفضل البقاع وأحبَّها إلى الله -جل وعلا-المساجد، فهي بيوته وفيها هداه ونوره، يأوي إليها الموحدون الطيبون، ويجتمع فيها المسلمون المؤمنون، {في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} .
عباد الله: وفي قول الله -جل وعلا- {رجال} دلالتان معتبرتان:
الدِلالة الأولى: هؤلاء الرجال هم العقلاء المهتدون الذين يتصفون بكل خلقٍ كريم، ومن عداهم سفيهٌ سفيهٌ في عداد المجانين.
والدِلالة الثانية: هؤلاء الرجال هم ذكور، فعليهم فرضت الجمعة والجماعة، والنساء لسن كذلك في هذا الحكم.
إخوتي الكرام:
والدلالة الثانية تدارسناها في الموعظة السابقة، وبينتُ أن الله -جل وعلا- أوجب الجمعة والجماعة على الرجال، والنساء لسن كذلك في هذا الحكم. وغاية ما في شأنهنَّ أنه يجوز لهنَّ الحضور إلى بيت الله وصلاتهنَّ في بيتهنَّ خيرٌ لهنَّ، نعم إنَّ حضورهنَّ جائزٌ، لا سيما إذا كان في حضورهنَّ مصلحةٌ في تعلمهنَّ وشهود مواسم الخير والبركة من اجتماع المسلمين وتناصح الأخوات فيما بينهنَّ في الدين.
إخوتي الكرام:
وآخر ما تكلمت به في الموعظة السابقة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- رخص للنساء في حضور المساجد، وأمرنا أن نأذن لهنَّ إذا طلبن الإذن منا، والحديث وارد في المسند، والكتب الستة، باستثناء سنن النسائي من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [لا تمنعوا إماء الله بيوت الله] إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن.(62/2)
وفي بعض روايات الإمام البخاري كانت زوجة عمر -رضي الله عنها وعن زوجها وعن الصحابة أجمعين- تشهد الصلوات في المسجد [فقيل لها: كيف تخرجين إلى أداء الصلاة في المسجد وعمر يكره خروجك ويغار؟ فقالت: ما باله لا ينهاني، والله لا أنتهي حتى ينهاني، فقيل لها كيف ينهاك؟ وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا تمنعوا إماء الله بيوت الله] . والقائل لها هو عمر -رضي الله عنه- كما ورد ذلك في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيحٍ عن الزهري لكنه مرسل ووصله الإمام أحمد في المسند أن عمر قال لزوجته وهي عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخوها سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين، [قال لها عمر كيف تخرجين إلى المسجد وأنا أكره خروجك وأغار؟ قالت ما بالك لا تنهاني؟ قال كيف لا أنهاك وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: لا تمنعوا إماء الله بيوت الله، قالت والله لا أنتهي حتى تنهاني] .
وإنما ورد في رواية البخاري "فقيل لها" والقائل هو عمر، من باب التجريد أو من باب الالتفات كما هو مقررٌ في علم البلاغة.
إخوتي الكرام: وعاتكة زوجة عمر كانت تصلي الصلوات في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وفي عهد أبي بكر وفي عهد عمر -رضي الله عنهم أجمعين- في المسجد حتى أن زوجها عمر -رضي الله عنهما وأرضاه- عندما طُعِنَ في صلاة الفجر كانت حاضرةً في المسجد تصلي مع المسلمين.
نعم لا يستطيع أحدٌ أن يمنع النساء من حقهنَّ في الذهاب إلى بيوت رب الأرض والسماء، وقد ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة والحديث في موطأ الإمام مالك وهو في أعلى درجات الصحة عن أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- قالت:(62/3)
[كان نساءٌ يشهدن الصلاة مع النبي –صلى الله عليه وسلم- فيحضرن صلاة الفجر ثم يعدن إلى بيوتهنَّ إذا انتهت الصلاة وهنَّ متلفعاتٍ مروطهنَّ ما يعرفن من الغلس] وفي بعض روايات الإمام البخاري [لا يعرف بعضهنَّ بعضا] فاجتمع ساتران وحاجزان في النساء اللاتي يشهدن صلاة الفجر مع النبي –صلى الله عليه وسلم-
الساتر الأول والحاجز الأول: التلفع بالمروط والتستر من جميع الجهات، والثاني: ساتر الغلس وهو الظلمة فلا يُرى من المرأة إلا شبحها، لا يُعلم هل هي امرأة أو رجل، والمرأة عندما تكون المرأة بجوارها أيضا لا تميزها هل هي زينب أو فاطمة فلا يعرف بعضهنَّ بعضا ولا يعرفهنَّ الناظر إذا نظر إليهنَّ هل هنَّ رجالٌ أو هنَّ نساءٌ من الظلمة، ثم بعد ذلك من هذا التستر متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس.
إخوتي الكرام:
والمرأة إذا أرادت أن تخرج إلى بيوت الرحمن لتشهد الخير ولتتعلم الخير فينبغي عليها أن تتأدب بآداب الإسلام، وهذه الآداب كثيرة وفيرة سأوجزها في خمسة آدابٍ إن شاء الله.
? أدبٌ في لباسها.
? وأدبٌ في طيبها.
? وأدبٌ في مشيتها في طريقها.
? وأدبٌ في دخولها المسجد.
? وأدبٌ في أداء صلاتها في بيت ربها.
1. أما اللباس وهو أول ما ينبغي أن تعتنيَ به المرأة إذا أرادت أن تخرج من بيتها لبيت الله أو إلى غير ذلك، يجب أن يكون لباسها حاوياً لستة شروط، إذا خالفت شرطاً من ذلك فهي عاصيةٌ آثمةٌ، وكل من يقرها على ذلك من زوجٍ أو محرم، فهو عاصٍ آثمٍ.
تعلَّموُا هذا إخوتي الكرام وبلغوه للنساء من الزوجات ومن المحارم، فكل واحدٍ منَّا لا يخلوا من صلة بامرأةٍ، إما زوجة أو محرم من أمٍ أو بنتٍ أو أختٍ أو غير ذلك، أول هذه الأمور التي ينبغي أن تكون في لباس المرأة:(62/4)
أن يكون هذا اللباس ساتراً لجميع بدن المرأة من رأسها إلى قدميها، فالمرأة عورة، كما تقدم هذا في الموعظة السابقة من كلام نبينا –صلى الله عليه وسلم-، وإذا كانت عورةً، فينبغي أن تستر هذه العورة، وعندما نزلت آية الحجاب {يا أيها النبي قل لأزوجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ ذلك أدني أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما} تقول أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- وعن سائر الصحابة الكرام، [يرحم الله النساء المهاجرات الأُول عندما نزلت آية الحجاب عمدن إلى أكثف مروطهن إلى أكنف مروطهن] (بالثاء وبالنون) إلى أكثف: إلى أغلظ وأسمك، إلى أكنف: إلى أستر لباس عندهنَّ، ومنه الكنيف الذي يستر ما وراءه، إلى أكثف مروطهن إلى أكنف مروطهن، والمرِط كساء من خزٍ أو حريرٍ أو غير ذلك تأتزر به المرأة، وقد تضعه على رأسها لتستر به جسمها وبدنها، عمدن إلى أكثف مروطهن: جمع مرط، [فاختمرن بها فخرجن كأنَّ على رؤوسهنَّ الغربان] فاختمرن بها فخرجن كأنَّ على رؤوسهنَّ الغِربان، وهذا الخمار الذي اختمر به نساء الصحابة الأبرار -رضوان الله عليهم أجمعين- حالته كما قال العزيز الغفار {وليضربن بخمورهن على جيوبهنَّ} كانت المرأة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا وضعت الخمار على رأسها ترده وراء ظهرها فيبدوا وجهها ويبدوا بعد ذلك فتحةُ الجيب وهو العنق فأُمرت أن تُرخيَ الخمار من رأسها على وجهها وعلى فتحة عنقها: أي أن تلقي الخمار من أمامها من أجل أن يُستر الوجه ومن أجل أن تستر فتحة الرقبة والنحر، {قل لأزوجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنَّ من جلابيبهن} والله يقول في سورة النور:
{وليضربن بخمورهنَّ على جيوبهنَّ} تلقي هذا الخمار من فوق رأسها من الجهة إلى الجهة الأمامية بحيث يستر الوجه وتستر فتحة الثياب التي محلها الرقبة.(62/5)
{وليضربن بخمرهنَّ على جيوبهنَّ} وهذا الأثر الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، وأبو داود عن أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- هو وصف النساء المهاجرات، فما وصف نساء الأنصار؟ هنَّ كذلك وهذا هو وصف نساء المؤمنين من مهاجرات وأنصار ومن يأتي بعدهنَّ إلى يوم الدين.
تقول أمُّنا عائشة -رضي الله عنها- وهو في المستدرك وتفسير ابن أبي حاتم وإسناد الأثر صحيح [أن صفية -رضي الله عن أمَّهاتنا أجمعين- أثنت على نساء المهاجرين أمام أمَّنا عائشة فقالت -رضي الله عنها-: في نساء المهاجرين خير،] في نساء قريش خير ولكن والله ما رأيت مثل نساء الأنصار أشدَّ إيماناً بالله وأشدَّ تصديقاً لما نزل قول الله: {وليضربن بخمورهنَّ على جيوبهنَّ} انقلب رجال الأنصار إلى نسائهم يتلون عليهنَّ هذه الآية، فوالله ما هو إلا أن قامت كل امرأةٍ إلى أكثف مُرِطْها] أي هذا الذي يأتزر به ويلبس [فشقته فاختمرت به فخرجن وهنَّ معتجرات] أي كل واحدة تَلُفُّ رأسها بهذا الثياب الثخين تعتجر به وتستر به بدنها وجسمها ووجهها، [فخرجن وهنَّ معتجرات كأنَّ على رؤوسهنَّ الغِربان من الأكثية] .
إخوتي الكرام: فهذا الأمر لابد من ملاحظته عند خروج المرأةَ من بيتها إلى بيت ربها أو إلى غير ذلك من البيوت (ستر جميع البدن) ، وما يترخص به بعض الناس في هذه الأيام من كشف الوجه بتعللات باطلة فكل هذا مردودٌ مردود، وإليكم إخوتي الكرام بعض الآثار التي تبين شيمة النساء الصالحات وكيفية حجابهنَّ في العصر الأول وعليه تسير كلُّ امرأة صالحةٍ إلى قيام الساعة.(62/6)
ثبت في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن الإمام البيهقي عن أمَّنا عائشة رضي الله عنها قالت [كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحج ونحن محرمات فإذا حاذان الركبانا: أي صار الرجال بجوارنا واقتربوا منَّا، سدلنا على وجوهنا فإذا جاوزونا كشفنا وجوهنا] فالنساء مع بعضهنَّ وهنَّ محرمات يكشفن وجوههنَّ، وإذا اقترب رجل منهنَّ سدلت وأرخت هذا الخمار من رأسها على وجهها، والمرأة عندما تُحرِم لا يجوز لها أن تلبس البرقع الذي يحيط بالوجه ويلتصق به لكنه يجب عليها أن تغطيَ وجهها بشيءٍ تُسدله وتُنَزِّله من رأسها على وجهها إذا اقترب رجلٌ منها وأمكن أن يراها، وهذا فِعُلُ مَنْ؟ فعل أمِّنا عائشة رضي الله عنها مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهو فعل النساء الصالحات مع الصحابة الكرام، وهذا الأثر يشهد له أثران ثابتان صحيحان.
أولهما في المستدرك بسندٍ صحيحٍ كالشمس عن أسماء بنت أبي بكر وهي زوجة الزبير رضي الله عنهم أجمعين قالت: [كنا نغطي وجوهنا ونحن محرمات مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-] . سبحان الله زوجة الزبير بنت أبي بكر -رضي الله عنهم أجمعين- تخبر عن هذا الأمر، وأن النساء الصالحات هذا وصفهنَّ إذا التقين بالرجال، كل واحدة تغطي وجهها.
وفي سنن البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ عن فاطمة بنت المنذر وهي -تابعيةٌ أخرج حديثها أهل الكتب الستة، ثقةٌ، إمامةٌ، صالحةٌ، فاضلةٌ - تقول: كنَّ نخمِّر وجوهنا ونحن محرمات، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عن الصحابة أجمعين رجالاً ونساء-.
فهذا الأمر إخوتي الكرام، لابد من العناية به ومراعاته أن يكون الثوب ساترا لجميع البدن، فالمرأة عورةٌ كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أن يُرى منها شيء من بشرتها ولا من أظفارها ولا من شعرها، هذا ما ينبغي أن تحافظ عليه المرأة إذا خرجت من بيتها.(62/7)
2. الأمر الثاني: الذي ينبغي أن يكون في لباس المرأة إذا خرجت من بيتها: أن يكون الثياب لونه هادئاً، فليس فيه زينةٌ وزِركشةٌ وزخرفةٌ، وليس فيه ألوانٌ براقةٌ تجلب النظر من حمرةٍ أو صفرةٍ أو ألوانٍ زاهيةٌ، إنما الثياب تكون سوداء تكون زرقاء لا تجلب نظر الناظرين إليها، فهذا مما تؤمر به المرأة إذا خرجت من بيتها، والله يقول في كتابه: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} . والتبرج هو إظهار الزينة في الثياب أو البدن، كل هذا يَحرُم على المرأة أن تفعله إذا خرجت من بيتها، لا يجوز أن تكون الثياب مزينةً مزركشةً مزخرفةً تجذب نظر الناظرين إليها، وهذه الثياب التي ينبغي ألا تكون مزينةً هي الثياب الخارجيةِ وهي الجلباب، وما يكون تحت الجلباب فهي أدرى بحالها، أما هذا الجلبابُ، هذه العباءةُ، هذه الملحفةُ، هذه المُلاءةُ التي تلبسها المرأةُ إذا خرجت من بيتها ما ينبغي أن يكون فيها ألوانٌ تجلب النظر ولا زينةٌ ولا زخرفة.(62/8)
3. والأمر الثالث: الذي ينبغي أن تراعيه المرأةُ في لباسها إذا خرجت: ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها، سميكةً، ثخينةً، غليظةً، قويةً، متينةً، لا تَشِّفُّ عمَّا تحتها، فلا تُرى ملابسها التي دون الجلباب والعباءة، ومن بابٍ أولى لا تكشف عن بعض أعضائها، وإذا لبست المرأة ثياباً رقيقةً وخرجت فهي كاسيةً عاريةً، وهي ملعونةٌ على لسان النبي –صلى الله عليه وسلم-. ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: [صِنْفان من أهل النار لم أرهما: رجالٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات مائلاتٌ مميلاتٌ، رؤوسهنَّ كأسنِمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا] كاسيات عاريات: أي هي تلبس ثياباً لكنها رقيقةٌ تشف عن جسمها وعن ملابسها الداخلية فهي كاسيةٌ عارية، كاسيات عاريات: تلبس ثياباً قصيرة، سترت بعض البدن وكشفت بعضه فهي كاسية عارية، هذا الصنف لا يدخل الجنة ولا يجدن ريحها وريحها يوجد من مسيرة كذا وكذا، من مسيرة خمسمائة سنةٍ.
إذاً هذا الأمر ينبغي أن تعتنيَ به المرأة أن الثياب ينبغي أن تكون سميكةً غليظةً ثخينةً بحيث تكون عليها كالخيمة لا تُبدي شيئاً، ولا تشف عن ملابسها الداخلية ولا تُظهر شيئاً من أعضائها وجسمها.(62/9)
4. والأمر الرابع: الذي ينبغي أن تعتني به المرأة في لباسها ينبغي أن تكون هذه الملابس الخارجية واسعةً، فضافضةً لا تحيط بجسم المرأة وتُفَصِّلُها فتبن كتفيها وخصرها وأعضاء جسمها، فماذا استفادت إذاً من جلبابها ومن عباءتها ومن حجابها؟ والجلباب شُرع للمرأة، هذا لباسٌ خارجي لا يلبس إلا خارج البيت لتستر به المرأة ملابسها التي تُحيط بجسمها وتعطي تفاصيل أشكال أعضائها، فالمرأة أمرت بالجلباب، لباسٌ واسعٌ فضفاض يسع عدداً من النساء ليس امرأة واحدةً، الأكمام واسعةً، وهكذا بعد ذلك الثوب الذي يكون على جسمها من ظهرها وبدنها واسعٌ بحيث لو دخل معها امرأةٌ وامرأةٌ وامرأة لوسع هذا الجلباب النساء اللآتي يدخلن فيه، وأما أن يكون الجلباب ضيقا إذاً لو خرجت بالملابس التي تلبسها في البيت لأغناها ذلك، هذا الجلباب شُرع من أجل أن يكون ساتراً كما قلت للملابس وللأعضاء فلا تُمثَلَ ولا تُجسَد ولا تَُشَكَّل، فكما ينبغي أن يكون اللباس ثخيناً لا يشف ينبغي أن يكون اللباس واسعاً عريضاً لا يصف، فما ينبغي أن يصف لباسها شكل أعضائها، ولا ينبغي أن يشف لباسها عن شيء من ملابسها وأعضائها.(62/10)
5. والأمر الخامس: الذي ينبغي أن تعتنيَ به المرأة في لباسها إذا خرجت: ينبغي أن يكون لباسها في حال خروجها لباس النساء المسلمات الصالحات القانتات، فلا تلبس لباس امرأةٍ كافرة، ولا زي امرأةٍ كافرة وإن كانت ساترةً لبدنها وجسمها فقد نهينا عن التشبه بالكافرين والكافرات معشر الرجال والنساء من المسلمين، نهينا عن التشبه بمن غضب الله عليهم ولعنهم، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بسندٍ صحيحٍ من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسندٍ صحيحٍ من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من تشبه بقومٍ فهو منهم] ، والرواية في المسند مطوَّلة، ولفظها [بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وَحدَه، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذل والصغار على من خالف قولي، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم] ، [وجعل الذُل والصغار على من خالف قولي] : أي خالف دين الإسلام، [ومن تشبه بقومٍ فهو منهم] ، والتشبه له حالتان: حالةٌ يقصدها الإنسان إعجاباً بمن غضب عليهم ذو الجلال والإكرام، فالتشبه بهم في هذه الحالة في طعامٍ أو لباسٍ أو مركوبٍ أو غير ذلك كفرٌ مخرجٌ من الملة، لأنه فعل هذا تعظيماً لهم واقتداءً بهم واستحساناً لأحوالهم، وحالةٌ تقع فيها المشابهةٌ من غير قصدٍ يفعلها الإنسان وفعله يشابه بعد ذلك فعل الكفرة،، فهنا لا يقصد التشبه، إنما المشابهة التي حصلت لا قيمة لها فنرجع إلى حكم الفعل بعد ذلك في شريعة الله المطهرة، فإن كان مباحاً فهو مباح، ركب سيارةً وهم يركبون سيَّارات، وإن كان مكروهاً فهو مكروه، وإن كان حراماً فهو حرام، إذا لم يقصد التشبه وفعل هذا الفعل بغض النظر عن التشبه ووافقهم في هذا الأمر فهذه الموافقة لا قيمة لها ونرجع إلى حكم الفعل في شريعة الله المطهرة، أما من قصد التشبه، واستحسن أحوالهم، واقتدى بهم فهو معهم، والله -جل وعلا- يحشر(62/11)
الظالمين يوم القيامة وأزواجهم: أي أصنافهم وأشكالهم معهم في نار الجحيم، هذا الأمر الخامس الذي ينبغي أن تعتنيَ به المرأة في لباسها.
6. والأمر السادس: ينبغي أن تلبس لباساً لا يعتاد الرجال لُبسه، فينبغي أن يتميز لباس المرأة عن لباس الرجل، وأن يكون لكل منهما هيئةٌ معروفةٌ تميزه، وقد حذرنا نبينا –صلى الله عليه وسلم- من أن يلبس الرجال لبسة النساء، وأن يلبس اللنساء لبسة الرجال. ثبت في مستدرك الحاكم وسنن أبي داود بسندٍ صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-[لعن الرجل يلبس لِبسة المرأة، ولعن المرأة أن تلبس لِبسة الرجل] وفي مسند الإمام أحمد من رواية عبد الله عمرو رضي الله عنهم أجمعين أن النبي –صلى الله عليه وسلم-[ليس منَّا من تشبه من النساء بالرجال ولا من تشبه من الرجال بالنساء] وثبت في مسند الإمام أحمد وفتح البخاري وسنن الأربعة عدا سنن النسائي من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ومن المتشبهات من النساء بالرجال] .
هذه أمورٌ ستةٌ في ثياب المرأة ينبغي على المرأة أن تعتني بها أن يكون اللباس ساترا، وأن يكون هادئاً ليس ملوناً وليس فيه زخرفة، وأن يكون سميكاً ثخيناً غليظاً، وأن يكون واسعاً فضافضاً، وألا يشبه لباس المرأة المسلمة لباس المرأة الكافرة، وألا يشبه لباس المرأة المسلمة لباس الرجل مطلقا.
هذا الأمر الأول الذي ينبغي أن تعتني به المرأة إذا خرجت من بيتها في لباسها.(62/12)
والأمر الثاني: طِيبُها، ينبغي أن تحذر المرأة الطِّيْب إذا خرجت من بيتها، فلا يحل لها أن تتطيب بشيءٍ له رائحة، وإذا فعلت ذلك فالويل لها ثم الويل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- رخص للمرأة أن تحضر الخير ومواسم الخير في بيوت الله لكن بهذا الشرط، ومن بابٍ أولى إذا خرجت المرأة من بيتها لغير بيت ربها لزيارة محارمها وأقاربها وأصحابها ينبغي أن تحافظ على هذه الصفة بلا طيب، فالطيب تُنهى عنه المرأة إذا خرجت من بيتها.
ثبت في المسند، وسنن أبي داود، وصحيح ابن خزيمة، والحديث قال عنه الإمام النووي في المجموع إسناده صحيحٌ على شرط مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهنَّ تفلات] : أي تاركات للطيب والزينة، فإذا خرجت إلى بيت الله فلتكن تَفِلة: أي ليس عليها شيء من الطيب، ليس عليها شيء من الزينة، لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات.(62/13)
وثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم، والحديث رواه أبو داود والإمام النسائي وهو صحيحٌ، صحيح من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: [أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء الآخرة] أيما امرأة أصابت بَخُوراً: أي تطيبت وصار لها رائحة فلا تشهد معنا صلاة العشاء الآخرة، وثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة فهو في سنن الترمذي، والنسائي، وأبي داود، أخرجه أهل السنن الأربعة باستثناء سنن ابن ماجه، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان وهو صحيحٌ صحيحٌ عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [أيما امرأة استعطرت في بيتها ثم خرجت فمرت بقومٍ] وفي رواية [بمجلسٍ] [ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين تراها فهي زانية] فإذاً ينبغي أن تحافظ المرأة على هذا الأدب الشرعي عندما تخرج من بيتها لبيت ربها أو لغير ذلك من البيوت، ألا يكون عليها شيء من الطيب ولا من البَخُور.
الأمر الثالث: الذي ينبغي أن تعتني به المرأة عندما تخرج من بيتها إلى بيت ربها أو إلى غير ذلك من البيوت ينبغي: أن تتصف بصفة الحياء في خروجها، ثبت في مستدرك الحاكم وحلية الأولياء، والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان بإسناد صحيح من رواية عبد الله بن عمر ورواه الطبراني من رواية عبد الله ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً، فإذا نزع أحدهما نزع الآخر] ، وعليه ينبغي أن تكون المرأة حييةً خَفِرةً في خروجها، وهذا الحياء يتمثل في عدة أمور، معظم هذه الأمور أمران بارزان أولهما: لا تمشي في وسط الطريق، إنما تمشي في حافته اليمنى أو في جانبه الأيسر، وليس للنساء وسط الطريق.(62/14)
وقد ثبت في سنن أبي داود وكتاب شعب الإيمان للإمام البيهقي وإسناد الحديث حسن عن أبي أُسَيد الأنصاري -رضي الله عنه- قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول وقد خرج من المسجد واختلط النساء بالرجال فنادى بأعلى صوته عليه [يا معشر النساء استأخرن ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريق عليكنَّ بحافات الطريق] يقول أبو أُسيد فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثيابها لتكاد تَعْلَقُ بالجدار من لصوقها به، يا معشر النساء استأخرن ليس لَكُنَّ أن تحققنَ الطريق: أي أن تَسِرْنَ في حُقِّهِ وفي وسطه، كما ثبت في صحيح ابن حبان وشعب الإيمان للإمام البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: [ليس للنساء وسط الطريق] .
هذا الأمر الأول الذي هو عنوان حياء المرأة إذا خرجت من بيتها أن تمشيَ في جانب الطريق الأيمن أو في جانبه الأيسر، وألا تمشيَ في وسط الطريق كما يمشي الرجال، وكما هو مشيُ يعني الذين لهم هذه صفة وهم الذكور الذين يمشون في الوسط.
والأمر الثاني: الذي ينبغي أن تعتني به المرأة أيضاً إذا خرجت من بيتها وهو عنوان حيائها أن تغض طرْفها، وألا تُسَرِّحَ نظرها إلى كل ذاهبٍ وآيب، ولا يجوز أن تنظر إلى أشكال الرجال وألوانهم سواء كانت في سيارة مع زوجها أو محرمها أو تمشي على رجليها فينبغي أن تغض طرفها، كما يجب على الرجل إذا رأى المرأة يغض طرفه ولا يُسَرِّحَ نظره إليها، فيجب عليها وجوباً إذا رأت الرجل أن تغض طرفها وألا تُمْعِنَ النظر فيه وإليه.(62/15)
وقد ثبت في المسند، وسنن أبي داود، والحديث رواه الإمام الترمذي في سننه وبَوَّبَ عليه باب احتجاب النساء من الرجال، ورواه ابن حبان في صحيحه وإسناد الحديث صحيح عن أمِّنا أمِّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: كنت عند ميمونة فدخل عبد الله بن أمِّ مكتوم وهو أعمى -ومن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين- فقال النبي عليه الصلاة والسلام لزوجتيه ميمونة وأمِّ سلمة رضي الله عنهما [احتجبا منه، فقلنا: يا رسول الله، -عليه الصلاة والسلام-: أوليس هو أعمى لا يُبْصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما] قال الإمام أبو بكر بن العربي -عليه رحمة الله- في عارضة الأحوذي عند شرحه لهذا الحديث في سنن الترمذي: يَحْرُم على المرأة أن تنظر إلى الرجل كما يحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة، وهذا أمرٌ جهله غالب الناس، فلا ينهون نساءهم عن النظر إلى الرجال ولا ينبهوهنَّ على ذلك، وأعظم من النظر اعتقاد إباحة النظر، أي أنه يباح للمرأة أن تنظر إلى الرجل، يحرم على المرأة أن تنظر إلى الرجل كما يحرم على الرجل أن ينظر إلى المرأة، والله يقول في كتابه: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ثم قال: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنَّ ويحفظن فروجهنَّ} ، وإذا كان الرجل يميل إلى المرأة فمنع عن النظر من أجل هذا، فالمرأة تميل إلى الرجل فينبغي أن تمنع، فالفتنة مشتركةٌ بين الجانبين، ولا يمكن أن تبيح شريعة الله نظر النساء إلى الرجال ثم تحرم نظر الرجال إلى النساء، فشريعة الله جاءت بالتسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات، فإذا كان نظر الرجل إلى المرأة يزرع في قلبه شهوةً ويلهيه فنظر المرأة إلى الرجل كذلك، فإذا كانت العلة موجودة في الصنفين فينبغي أن يُمنع كلٌ منهما عن النظر إلى الصنف الآخر، والدليل بعد ذلك صحيحٌ صريح عن نبينا -عليه الصلاة والسلام-[احتجبا منه] .(62/16)
الأمر الرابع: الذي ينبغي أن تعتني به المرأة عندما تخرج لبيت ربها، ينبغي أن تقصد باب النساء في المسجد وأن تدخل منه، ولا يجوز أن تذهب إلى جهة باب الرجال، ولا أن تزاحم الرجال وتلتصق بهم وقد حث النبي –صلى الله عليه وسلم- الصحابة في أول الأمر على هذا فلما آل الأمر إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ألزم الأمة بهذا الأمر وأنه ينبغي أن يكون للرجال أبوابٌ خاصةٌ إلى المسجد وللنساء باب خاصٌ يدخلن منه ففي سنن أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: [لو تركنا هذا الباب للنساء] يقول نافع: فما دخل من هذا الباب ابن عمر حتى قُبض - رحمه الله ورضى عنه- وهذا الباب الآن يعرف في مسجد نبينا عليه الصلاة والسلام بباب النساء وهو الملاصق لباب جبريل -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه-، وفي سنن أبي داود عن نافع أن عمر -رضي الله عنه-[كان ينهى أن يُدخل إلى المسجد من باب النساء] فالمرأة تذهب إلى الباب الخاص بها فتدخل إلى هذا المسجد الذي جاءت من أجل مصلحة شرعية.(62/17)
وخامس الأمور: وهو آخر الآداب: إذا دخلت المرأة إلى المسجد فمع ذلك ينبغي أن تبتعد عن الرجال في المسجد، وأن تكون في مؤخرة الصفوف وفي الجانب الذي يبعد عن المسجد، فهذا أحسن لها وأفضل لصلاتها كما ثبت في المسند والحديث في صحيح مسلم، والسنن الأربعة من رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول [خيرُ صفوف الرجال أولُها وشَّرها آخرهُا وخيرُ صفوف النساء آخرهُا وشَّرها أوُّلهُا] والحديث رواه الإمام الطبراني من حديث أبي أمامة وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهم أجمعين- والحديث رواه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله ورواية جابر مخرَّجة في سنن ابن ماجه وفي بعض ألفاظ الحديث [خير صفوف الرجال مقدمُها وشر صفوف الرجال مؤخرهُا، وخير صفوف النساء مؤخرهُا وشر صفوف النساء مُقَدَمُها] .
هذه الأمور الخمسة ينبغي أن تعتني بها المرأة إذا خرجت من بيتها ما يتعلق بلباسها، ما يتعلق بطيبها، ما يتعلق بحال مشيتها، ما يتعلق بدخولها إلى بيت ربها، ما يتعلق بصلاتها عند أدائها في بيت ربها.
أسال الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يسترنا وأن يستر أعراضنا وأعراض المسلمين والمسلمات إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وأشهد أن نبينا محمداً عبدُ الله ورسولُه خيرُ خلق الله أجمعين، اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا، وارضَ اللهم عن الصحابة الطيبين وعمّن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(62/18)
عباد الله: إذا كان يباح للمرأة -كما تقدم معنا- أن تخرج إلى المسجد فيباح لها أن تخرج بمفردها، ويستحسن لزوجها أو لأحد محارمها أن يصحبها إلى بيت الله أو إلى المكان الذي ستذهب إليه ورُخص لها فيه، والرجل حقيقةً حارسٌ حارسكٌ للمرأة، وإذا مشى الرجل مع المرأة تنقطع نحوها أطماع الطامعين، ومما يروى أن امرأةً كانت تخرج إلى بيت الله الحرام في بلد الله الحرام في مكة المكرمة لأداء الصلاة في المسجد، فكان يتعرض لها بعض السفهاء من الأنام، فكانت تذكره بالرحمن وتقول له: اتق ذا الجلال والإكرام، نحن في اقدس وأطهر وأشرف بقعةٍ، فلا ينفك عن غيه ويسمعها كلاماً لاذعاً يجرحها ثم بعد ذلك قالت لزوجها في يومٍ من الأيام أريد أن تذهب معي إلى الصلاة، قال ولما في الأيام الماضية تذهبين بمفردك وأنا أيضاً أذهب بمفردي؟ يعني من طريق وكل واحد يذهب ويعود، قالت: أريد أن تصحبني، وكان ذاك العاتي يجلس في الطريق ينتظرها في ذهابها وإيابها، فلما مرت مع زوجها هرب وولى مسرعاً، فقالت تَعْدُو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولةً الرابض المتأسد.
كان أئمتنا يقولون: نتمنى ألا يوجد فتاة على وجه الأرض إلا وسمعت هذا البيت، فإن لم تكن مزوجةً فلتتزوج وإن تكن مزوجةً وأردت أن تخرج فلتخرج مع رجل، فالرجل بالنسبة للمرأة كالكلب الأمين الوفي، وهذا من الصفات المحمودة في الكلاب التي يُشَبَّهُ بها وفاء الرجال كما قال العبد الصالح الإمام الشاطبي في حرز الأماني ووجه التهاني وقد قيل:
كن كالكب يقصيه أهله ... وما يأتل في نصحهم متبدلا
إن صدق الكلب ووفاءه مع أهله ومع من يكون عندهم يضرب به المثل، وهكذا الرجل حميته وغيرته، شهامته ورجولته، حرزه وحراسته للمرأة تعدل حراسة الكلب لمن يكون عندهم.
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي صولة المستأسد الرابض(62/19)
المرأة إذا خرجت مع رجل تنقطع نحوها أطماع الطامعين، وإذا خرجت بمفردها يتعرض لها هذا وذاك، ولذلك يروى أيضاً في الأخبار أن امرأةً كانت تريد أن تخرج إلى بيت الله باستمرار وعندما فسد الزمان وفسد يقول لها زوجها إذا خرجت أخرج معكِ وإذا أنا لم أكن في البيت فلا تخرجين، تقول بيت الله: لا تمنعني منه، وليس من حقه أن يمنع لكن أراد أن يبين لها واقع الحياة، وأنها قد تتعرض أحياناً لمشكلة من المشكلات فلا يوجد حارسٌ ولا حافظ يحفظها، فتركها تذهب إلى بيت الله فبينما هي في الطريق مشى خلفها وضرب على عجيزتها فتأثرت غاية التأثر وتوارى ونصرف ثم عادت إلى البيت بعد ذلك فلما حانت الصلاة بعد ذلك قال ألا تذهبين؟ قالت لا أريد أن أذهب لأداء الصلاة في المسجد. قال ولما؟ قالت: كنت أذهب عندما كان الناس ناساً ولكن تغير الناس، وهو الذي فعل هذا مع أهله لكن يريد أن يبين لها أنها قد تقع في مشكلة من مثل هذا أو أكثر، فإذاً ينبغي أن تكون مع حارس، مع حافظ إذا ذهبت من أجل ألا تتعرض لمشكلةٍ تعضُ بعد ذلك أنامل يديها وأصابع رجليها من الندم.
إخوتي الكرام: إن أعظم ما يميز الإسلام عن سائر الأنظمة أياً كانت من أنظمةٍ غربيةً أو شرقيةً، إن أعظم ما يميز الإسلام موضوع العِرض، موضوع الغيِرة، موضوع المرأة هي أعظم حاجز بين الحياة الإسلامية والحياة الغربية والشرقية الردية.(62/20)
إن الإسلام الذي أمرنا بالمحافظة على العرض بدافع الغيرة، هذا الدافع وهو دافع الغيرة يستمد قوته كما قال أئمتنا من الروح البشرية التي يتميز بها الإنسان على سائر الحيوانات البهيمية. وإن الاختلاط والتحلل والمجون والفسوق تستمد قوتها من الشهوات الغريزية البهيمية. فالإسلام أمرنا أن نصرف الشهوة الغريزية البهيمية في مصرفٍ شرعي، وأمرنا بعد ذلك أن نحافظَ على الأعراض وأن نمتنع وأن نمنع الفساد، وأما الحياة الغربية الردية فقد ضحت بالروح الإنسانية، وبكل فضيلةٍ كريمةٍ عليةٍ من أجل الشهوات الخسيسة البهيمية، والرجل الغربي الردي منطقه في هذه الأيام يقول: إذا ضحيت بزوجتي أو ببناتي أو بمحارمي فغاية ما أضحي به عشر نسوةٍ أو مائة امرأةٍ لكني أتمتع بآلاف النساء فالمربح أكثر من الخسارة، فالمربح أكثر من الخسارة، وهذا ما يقوله كل غربيٌ عفنٌ ردي.
وهذا الأمر الذي انتشر في بلاد الغرب باسم الدعوة إلى الحب والسلام، وكأن المراد من الحب والسلام حبٌ ووئام بين الجنسين على الدوام، وما الحفلات العامةُ الراقصةُ الماجنةُ التي تقام في هذه الأيام في بلاد الغرب وفي غيرها إلا حفلاتُ قرانٍ عام، وهذا الذي يفعله الغربيون عليهم لعنات الحي القيوم، هذا الذي فعلوه ويفعلونه لو لم يكن عند الغرب ما يستر سوءتهم من قوة مادية في هذه الأيام لأدى هذا الاختلاط المشين، هذا الاختلاط القبيح، هذا السفور والتحلل لعد وكفى به لعُد سواد وجهٍ في من يفعله فيهم وفي غيرهم، وإذا كان الغربيون فعلوا هذه السوءة وهذا الدنس وستروا سوءتهم قوتهم، فأيُّ قوة لنا؟ جئنا قلدناهم خسرنا الدنيا والآخرة.
إخوتي الكرام:(62/21)
إن أعظم ما يميز المسلمين عن غيرهم موضوع المرأة، عرضٌ يُصان، جوهرةٌ مكنونة، درةٌ مصونة. إن الأمة الإسلامية في هذه الأيام بحاجة إلى أن تُعيد البحث عن عرضها وأن تصون أعراضها. إننا نريد امرأة مقصورة، إننا نريد امرأة تَقْصُر طرفها إلا على زوجها، إننا نريد زوجاً يقصر طرفه إلا على زوجه، فبهذا تَصْلُح الحياة، ووالله إذا ضاع الحياء من الحياة فلا خير في الحياة، فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء.
يعيش المرء ما استحيى بخيرٍ ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
اللهم ألهمنا رشدنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأصلح أحوالنا، واجعل الجنة دارنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسأل فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم زدنا ولا تنقصنا وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تُهنا وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا يا رب العالمين.
اللهم صلِّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغارا واجزهم عنا خير الجزاء فضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لشيوخنا ولمن علمنا وتعلم منا وأحسن إلى من أحسن إلينا.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم
{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد} .(62/22)
فيه رجال
(الموعظة الثامنة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة الثامنة
فيه رجال
الحمد لله نحمه ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويما وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، وبيدك الملك كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب التوابين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين،
يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به عيوناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضى الله عن أصحابه الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث فيها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} .
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما} .
أما بعد: معشر اخوة الكرام..
تبين لنا في الموعظة السابقة أن القلوب ثلاثة أقسام:
1. قلب حي سليم نفسه مطمئنة راضية مرضية.
2. ويقابل ذلك قلب ثانٍ وهو قلب ميت سقيم صاحبه نفسٍ أمارة بالسوء كحال الشيطان الرجيم.(63/1)
3. وهناك قسمٌ ثالث لم تكتمل الحياة في قلبه ولم تفارق الحياة قلبه. ففيه حياة ولكن فيها ضعف ونقص فهو في حالة مرض ونفس صاحب هذا القلب نفس لوامة تلومه وهي ملومة ومتلومة لا تثبت على حال، تتردد بين الخير والشر، والمعصوم من عصمه الله.
إخوتي الكرام..
وتقدم معنا أن ضابط النفس الطيبة الحية المطمئنة، انه يوجد فيها أمران، معرفة للحق وعمل به اكتملت القوة العلمية والقوة العملية فيه، وإذا فرط الإنسان في أحد هذين القسمين فقلبه ميت موتا لا حياة فيه، أو مريض مرضاً يفقد تمام الحياة عندما يصاب بالشبهات أو الشهوات، وقد خشي علينا نبينا صلى الله عليه وسلم الوقوع في أحد هذين المرضين، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى علينا إلا أحد هذين الأمرين، ففي مسند الأمام أحمد ومعاجم الطبراني الثلاثة والحديث رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى] فخشيت نبينا - صلى الله عليه وسلم - من حصيلة في هذين الأمرين شهواتٌ أو شبهاتٌ تفسدان القوة العلمية أو القوة العملية في الإنسان.
إخوتي الكرام..
وتقدم معنا في الموعظة السابقة، موقف الشيطان نحو أقسام قلوب بني الإنسان، فالشيطان لا يقترب من القلب الحي الطيب وليس له عليه سبيل ولا يقترب أيضاً من صاحب القلب الميت السقيم للإلا يضيع وقته فيه، فحال صاحب ذلك القلب كما قلت كحال الشيطان الرجيم، إنما مجال الشيطان في القلب المريض الذي لم يفقد تمام الحياة ولم تكتمل فيه الحياة، فهو يكر على ذلك القلب عندما يغفل الإنسان عن الرد وهو يفر عندما يذكر الإنسان ربه.
إخوتي الكرام..(63/2)
وحال الشيطان الجني مع هذه القلوب الثلاثة كحال اللص الإنسي مع البيوت الموجودة في الأرض تماماً، فاللص من بني الإنسان تنقسم أمامه بيوت بني الناس إلى ثلاثة أقسام، بيت لا يستطيع أن يقربه مع أن له فيه مطمع والنفس تتطلع ما فيه من زينة الدنيا لكن إذا اقترب منه صرع وقتل وهذا هو بيت الأمراء فيه خيرات الدنيا شيء كثير لكن تلك البيوت قد حرست بالحرس فلا يستطيع اللص أن يقترب منها لما فيها من أهبة واستعداد، وهكذا العدو الجني الشيطان الرجيم لا يقترب من قلوب النبيين والصدقين.
وهناك بيوت ثانية لا يقترب منها اللص الإنسي، لا لأنها فيها أهبة واستعداد وفيها مطمع، لكن لا يستطيع أن يصل إليه، لا ثم لا، ليس فيها أهبة واستعداد وهي مخلات لكل داخلٍ وخارجٍ لكم ليس فيها ما تتطلع إليه النفس في هذه الحياة وهي الخروب والبيوت المتهدمة الساقطة على عروشها التي تحولت إلى خرب ويقضي الناس فيها حوائجهم فحتماً لا يذهب اللص إليها ولا يقترب منها، وماذا يفعل فيها ولم يبقى فيها شيء وهكذا قلوب عتاد الإنس لا يقربها الشيطان الرجيم لما فيها من دنسٍ وفسادٍ وخبثٍ كحال قلب الشيطان الرجيم.
بقيت هناك بيوت ثالثة ليست بخرب وليست كبيوت الأمراء، وهي بيوت الرعية فيها شيء من الخيرات، لكن ليست فيها حرسٌ كما هو الحال نحو بيوت الأمراء فاللص الإنسي ينظر إلى هذه البيوت فإن رأى غفلة من أصحابها دخل وسرق منها وإذا أوصدت الأبواب أمام وجهه واحترس أهل البيت من قِبَلِ هذا اللص لا يستطيع أن يقترب منها، هذه البيوت في الأرض أحوالها كحال القلوب في الصدر تماما والعدو الجني حاله كحال العدو الإنسي، ونسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا.
إخوتي الكرام..(63/3)
هذه القلوب بأقسامها الثلاثة، القلب الحي السليم، والميت السقيم، والقلب الذي فقد تمام الحياة وكمالها ولم يصل إلى حد العطب والموت، هذه القلوب الثلاثة لا تفتر من حركة ولا تتوقف عن عمل ولابد من شيء تشغل به ولابد من خير أو شر، طاعة أو معصية
من نفع أو ضر، ولذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يلجأ إلى ربه في أن يثبت قلبه على الإيمان على الدوام وفي ذلك تعليم لنا.
إخوتي في الإسلام..
أن نلجأ إلى ربنا بأن يثبت الإيمان في قلوبنا على الدوام، ثبت في مسند الأمام أحمد وسنن الترمذي بإسناد حسن عن شهب بن حوشب وهو من ءأمة التابعين أنه سأل أمنا أم سلمة رضي الله عنها فقال ما كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان عندك في بيتك (إذا جاء ليلتك فما أكثر دعاء يدعوا به نبينا عليه الصلاة والسلام) فقالت أمنا أم سلمة رضي الله عنها [كان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -[اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك] إي والله إن القلب ما سمي قلباً إلا أنه يتقلب ولا يفتر من حركة وهو دءوب العمل في الخير أو الشر.
ثبت في الكتابين المتقدمين في المسند، وسنن الترمذي بسند صحيح عن - رضي الله عنه - قال كان يكثر النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - من هذا الدعاء [اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك] فقلنا يا رسول - صلى الله عليه وسلم -، قد آمنا بك وصدقناك فهل تخاف علينا فقال عليه صلوات الله وسلامه وفدائه آباءنا وأمهاتنا [إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء] ، وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عن عبد الله عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك] .
إخوتي الكرام..(63/4)
هذه القلوب بأقسامها الثلاثة لابد لها من حركة وعمل، إما أن تجول في الشر، وإما أن ترتع في الخير، ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن أصدق اسم ينطبق على حقيقة الإنسان ويوافق مسماه على التمام، حارس وهمام، حارس مكتسب فاعل، فالفارق بين الحي والميت هو الفعل، وهمام، وهو الهم، لا يخلو واحداً منا من هم وخطرة وإرادة، ولا يخلو واحداً منا من كسب وسعي، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، ثبت في مسند الأمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي، وأصل الحديث في صحيح مسلم، ولفظ الحديث في الكتب الثلاثة في المسند وسنن أبي داود والنسائي عن أبي وهب الجشمي وهو من الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأقبحها حرب ومرة، وأصدقها حارس وهمام] أحسن الأسماء وأحبها إلى رب الأرض والسماء ما حمل اسم نبي أو دل على عبودية الله جل وعلا.
اسمه محمد، أو أحمد أو يوسف أو يونس أو عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الرحيم أو عبد الحليم أو عبد العظيم.
وأقبح الأسماء ما دل على فتنة أو كرهٍ، حربٌ يدل على فتنة ومشاكل، ومرة، يدل على شيء تستكره النفوس وتتقذر منه وهي المرارة.(63/5)
وأصدق الأسماء. الأصدق يدل على مسماه وينطبق على حقيقته، حارس، أي فاعل مكتسب، لابد من كسب في الخير أو الشر، لابد، والنفس كما تقدم معنا إن لم تشغل بحق شغلت بباطل ـ وهذه النفوس والقلوب كالرحى، كالطاحون التي تفتر فإن وضعت فيها براً طحنته وأخرجت منه الطحنى دقيقاً، وإن وضعت فيها حجراً طحنته وأخرجت ترباً، وإن وضعت فيها شوكاً طحنته وأخرجت أذى وغماً وهماً، هذه النفوس لابد لها من حركة. أصدق الأسماء حارس وهمام، ولذلك قال أئمتنا الكرام هذه القلوب جوالة، فإما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش إما أن تجول في الملأ الأعلى حول عرش الرحمن وتذكر ذا الجلال ولإكرام، وإما أن تطوف حول مزابل الإنسان ووساوس الشيطان، إما أن تجول حول العرش، وإما أن تجول حول الحش.
إخوتي الكرام:
وإذا كانت هذه القلوب بأقسامها الثلاثة لا تفتر عن العمل وخترة وحديث وهم فينبغي على العاقل أن يقف عند قلبه وأن يتأمل ما يدور في نفسه وأن يبحث فيه هل هو له أو عليه.
إخوتي الكرام:
وهذا ما سنتدارسه في هذه الموعظة بإذن ربنا الرحمن، لأن أخوتي الكرام من مراقبة ما يدور في القلب ويجري في النفس فالإنسان بعمله القلبي يرتفع إلى درجة الصديقين أو يهوى إلى دركة الشيطان الرجيم، إما أن يكون في أعلى عليين أو في أسفل السافلين بعمله القلبي وأكثر. شهداء هذه الأمة أصحاب الفرش ورُبَّ قتيلٌ بين الصفين الله أعلم بنيته، هذا القلب لابد من مراقبة ما يقع فيه وهذه النفس لابد من مراقبة ما يجري فيها.
إخوتي الكرام..(63/6)
إنما يدور في قلوب بني الإنسان ويخطر في نفوسهم ينقسم إلى خمسة أقسام أولها المرحلة الأولى: مرحلة الهاجس، وهذا الهاجس عرفه أئمتنا الكرام بأنه الشعور بأمر من الأمور في جانب الخير أو الشرور من غير اختيار من الإنسان ثم زال هذا الشعور من غير اختيار منك، ويقال على هذا الذي يقع في قلبك ويدور في نفسك إذا خطر وزال كان خطراته على قلبك ووقوعه بغير اختيارك وزواله بغير اختيارك يقال له هاجس، هذا الهاجس تكرم الله علينا فلم يعاقبنا عليه إذا كان في جانب السيئات وأيضاً لا ثواب عليه إذا كان في جانب الحسنات.
ويليه أيضاً الخاطر:
وهو استمرار ذلك الشعور جانب الخير أو الشرور فترة أطول من الهاجس ثم زوال ذلك الخاطر أيضاً دون اختيار منك، فالهاجس والخاطر هجما عليك بغير اختيارك وزولهما عنك بغير اختارك إن كانا في الخير أو الشر لا تثاب عليهما ولا تعاقب عليهما والسبب في ذلك أنه ليس منك كسبٌ وسعيٌ نحوهما ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، بما أن هذا جرى منك من غير اختيارك وزال من غير اختيارك فلا تثاب عليه ولا تعاقب.
المرحلة الثالثة:
حديث النفس المحدث نفسه بذلك الخاطر الذي استمر في نفسه فترة أن يحدث نفسه بحسنة أو بقبحة بفعله أو بتركه دون أن يرجح فعلاً على تركٍ أو تركاً على فعلٍ، إنما حدث نفسه فيه، خطر بباله أن يبني مسجداً لله، حدث نفسه بحسن ذلك العمل ومنفعته دون أن يرحج البناء على الترك ومن باب أولى دون أن يعزم على البناء على الترك، إنما حدث نفسه ببناء المسجد وأن فيه أجراً عظيماً عند الله جل وعلا، لكن ما مال على فعله ولا عزم على فعله، هذا يقال حديث النفس أستمر ذلك الخاطر في نفسه وبذل نحوه سعياً اختيارياً فبدء يتحدث به في داخله ثم زال عنه ذلك الخاطر أيضاً لانشغاله بغيره، فهذا من كرم الله وفضله يكتب لك في الحسنات ولا يكتب عليك في السيئات.
ويليه حديث النفس الهم:(63/7)
وهو ترجيح الفعل على الترك ما حدث به نفسه وراء حسنة هم بفعله وكان نسبة الهم تزيد على النصف وهذا هو ترجيح الفعل على الترك، عزماً لم يصل إلى درجة التصميم، إنما إلى درجة ستين أو سبعين بالمائة 60 أو 70 % إنه سيبني ذلك المسجد فمن باب أولى يكتب له أجر الهم كما يكتب له أجر حديث النفس، وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى كتابة أجر حديث النفس والهم في الحسنات وعدم كتابة حديث النفس في السيئات في أحاديث كثيرة ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن عملها كتبها الله بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فإن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبها الله بمثلها]
وفي بعض رواية الأمام مسلم يقول الله تعالى في الحديث القدسي [إذا حدث عبدي بحسنة فلم يعملها فكتبوها له حسنة] حدث، وهناك هم، فإذا حدثت نفسك بطاعة تكتب لك، هممت بخير يكتب لك، حدثت نفسك بمعصية أو هممت بها لا تكتب عليك في جانب حديث النفس والهم، كرماً من الله وفضلا.
إخوتي الكرام:
وفي بعض رواية الحديث في الصحيحين [إذا حدث نفسه وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة] ولا تعارض بين الروايتين لان من يحدث نفسه بسيئة ومن يهم بسيئة ينقسم حاله بعد ذلك في تركها إلى حالتين، إما أن يتركها غفلة عنها واشتغالاً بغيرها فلا تكتب عليه سيئة، وليس له في ذلك أجر، وإما أن يتركها خشية من الله واستحضاراً لعظمته وطرد ذلك الحديث والهم عنه بعد ذلك، بعد أن حدث نفسه بمعصية وهم بها استحضر عظمة الله وخشي الله وجاهد نفسه في ذات الله وأزال ذلك عنه الخاطر الرديء فيكتب له على همه بالسيئة حسنة عندما تركها خشية من ربه جل وعلا.(63/8)
وأما المرتبة الخامسة: التي تدور في القلوب وتجول في النفوس فهي مرحلة العزم: وهو التصميم الأكيد على فعل الشيء بحيث لو تمكن منه لفعله، بحيث لو لم يمنعه مانع خارجي عن نفسه لأوجد ما عزم عليه، ففي هذه الحالة يكتب على الإنسان ما عزم عليه في جانب الخير وفي جانب الشر مع أنه لم يباشره بجوارحه، فالنطفطن لما يقع في قلوبنا ما نعزم عليه من عزم على خير وجزم به كتب له، وإذا كان حديث النفس والهم يكتبان له فمن باب أولى أن يكتب العزم، وإذا عزم على شر كتب عليه كما لو فعله، لأنه لو لم يفعله، المانع عنه مانع خارجي، وقد دلت آيات القرآن وتواترت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن العزم يؤاخذ عليه الإنسان ويكتب عليه، يكتب له في جانب الخير بلا خلاف، وهكذا يكتب عليه في الشر كما دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -(63/9)
فأما الآيات فسأقتصر على آية واحدة يقرر الله فيها الأمر في سورة النور فيقول العزيز الغفور {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} إن الذين يحبون، والمحبة عمل قلبي، أحب في قلبه ومال قلبه إلى هتك ستر المسلمين وطار فرحاً عندما يهتك ستر مسلم، لم يتكلم بشفتيه ولا سعى بجوارحه، لكن إذا تُكلم على مسلم في حضرته فرح، هذا الفرح عمل قلبي ما حرك جوارحه، هذا العمل القلبي له هذه العقوبة عند الله {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} ، هذا حال من يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، نعم يجب عليك أن تستر عباد الله وأن تحب سترهم في هذه الحياة فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة وثبت عن نبينا الصلاة والسلام في معجم الطبراني والأوسط من رواية جابر عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من ستر على مؤمن فكأنما أحيا موؤدة] وفي رواية [من ستر عورة فكأنما استحي موؤدة] من ستر عورة من عورات المؤمنين فكأنما استحي موؤدة، أراد بوالدها أن يقتلها فأخذها حية ورباها فله أجر عظيم عند الله وهكذا حال من يستر عباد الله، فإذا أحب الإنسان هتك الستر عن المسلمين له هذه العقوبة.
أما إذا سعى بجوارحه في هتك أستارهم فله من العقوبة ما يخطر ببال كثير من الناس.
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الكبير وستدرك الحاكم بإسناد لا بأس به عن حذيفة بن اليماني - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة] إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة، تكلم في عرض مؤمن أو مؤمنة حبط عمله مائة سنة بطاعات وعبادات.(63/10)
إن قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة بن اليماني أيضاً رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا يدخل الجنة نمام ينقل الكلام بين المسلمين ويوقع بينهم العداوة والبغضاء لا يدخل الجنة] هو إذا أحب في قلبه هتك ستر المسلمين له عذاب أليم في الدنيا والآخرة فكيف إذا سعى بلسانه، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
[والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن: قالوا من يا رسول الله: قال الذي لا يؤمن جاره بوائقه] لا يأمنون شروره وبوائله وفتنه وضره فليس عند الله من عتاد المؤمنين.(63/11)
إذا عزم، إذا وصل في القلب وجل به يكتب للإنسان وعليه في جانب الخير أو الشر، وقد دلت على ذلك أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - سأقتصر على حديثين من أحاديثه الكثيرة التي تقرر هذا الأمر، الحديث الأول في الصحيحين من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار: قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول] أي دخل القاتل النار، هذا أمره معلوم لأنه قتل مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فما بال المقتول؟ فقال عليه الصلاة والسلام [إنه كان حريصاً على قتل صاحبه] أي عزم على ذلك في قلبه لكن لم يتمكن بجوارحه، منعه مانع خارجي، إنه كان حريصاً على قتل صاحبه، وثبت في مسند الأمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح من رواية الصحابي أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [ثلاثةٌ أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فحفظوه] أما الثلاثة التي أقسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - على صحتها ووقوعها ولابد [ما نقص مال من صدقة] فمن تصدق لا ينقص ماله بل يزيده الله أضعافاً مضاعفة، {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا] ظُلم عبد في هذه الحياة فعفى يزيده الله عزاً ورفعة [ومن فتح على نفسه باب مسألة فتح الله عليه باب فقر] إذا تعرض لسؤال الناس من غير حاجة يجعل الله فقره في قلبه ولا يأتيه إلا ما قدر له، هذه أقسم عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -.(63/12)
وأما الحديث الذي ينبغي أن نعيه ويتعلق بأمرنا وهو أن من عزم على الخير كتب له كأنما فعله، ومن عزم على شر كتب عليه كأنما فعله، يقول نبينا - صلى الله عليه وسلم -[وأحدثكم حديثاً فحفظوه هذه الدنيا لأربعة نفر] أي حال هذه الدنيا مع الناس إلى أربعة أقسام والناس ينقسمون فيها إلى أربعة أقسام لا خامس لهم [رجل أتاه الله مالاً وعماً فهو يعمل في ماله بعلمه فيتقي فيه ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقاً فهو في أعلى المنازل، ورجل أتاه الله علماً ولم يؤتيه مالاً فقال يا ليتني مثل فلاناً حتى أعمل بمثل عمله] قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -[فهم في الأجر سواء،] ذاك بعمله، وهذا بنيته [ورجل أتاه اله مالاً ولم يؤتيه علماً فهو يخبط في ماله فلا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم أن لله فيه حقاً فهو في أخبث المنازل، ورجل لم يؤتيه الله علماً ولا مالاً فقال يا ليتني مثل فلان الذي] الذي نفق ماله على المسكرات والمخدرات والاعتداء على الأعراض [يا ليتني مثل فلان أعمل بمثل عمله] قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -[فهما في الوزر سواء] لم يعمل شيئاً من المنكرات لكنه عزم عليها ولو تمكن منها لفعلها، هناك فهما في الأجر سواء، وهنا فهما في الوزر سواء.
إخوتي الكرام:
لابد من مراقبة ما يدور في هذا القلب فالإنسان بإمكانه أن ينوي الخيرات وأن يحصل بذلك أعظم الدرجات عند رب الأرض والسماوات.
أسال الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحد ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمد عبد الله ورسوله خير الخلق أجمعين، اللهم صلى علي محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
عباد الله..(63/13)
إذا كان حال القلوب كما تقدم وما يدور فيها. حاله كما فصلت وذكرت فينبغي أن نعلم أن القلوب هي أصل الأعمال، والأعمال الظاهرة مرتبطة بما يقع في القلب، فاعمل الظاهري الذي يقع منك صحته وفساده، قبوله ورده، حصول الثواب أو العقاب عليه متوقف على ما يقع في القلب من عزم ونية، فقد قرر هذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إنما الأعمال بالنيات] صحة وفساداً، قبولاً ورداً، ثواباً وعقاباً، [إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه] هو في الصورة مهاجر لكنه عند الله خاطبٌ أو تاجرٌ [فهجرته إلى ما هاجر إليه] .
إخوتي الكرام:
وإذا كان الإنسان إذا حدث نفسه بطاعة أو هم بها أو عزم عليها يكتب له أجرها فينبغي على الكيس في هذه الحياة أن يفعل بجوارحه ما استطاع من الحسنات وما يعجز عنه ينبغي أن ينويه وأن يهم به وأن يحدث نفسه به وأن يعزم عليه، فإذا عزم عليه وأتى بما في وسعه مما تتمكن منه جوارحه يكتب له أجر ما عزم عليه، فالعازم على الطاعة إذا لم يتمكن منها يكتب له أجر العامل الكامل {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} .
إخوتي الكرام:(63/14)
إن الحديث بالحسنات والهم بها والعزم عليها يسيرٌ يسير وفعلها ليس بالعسير، وإن الحديث بالسيئات ثقيل وخيم وبيل وفعلها أشنع منها وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذا في آخر سورة البقرة فقال {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} أنظر لدلالة الآية الكريمة على سهوله الحسنة وانتفاع العبد بها، وعلى ثقل السيئة وتضرر العبد بها، من وجهين أشار إليها ربنا جل وعلا بهذه الآية فقال {لها} تعجيلاً بالمسرة فهذا {لها} تنتفع به وتحوذه وتملكه، ثم في جانب الفعل ما كسبت ليس لها تكلف ولا ثقل ولما أتى للسيئات {عليها} تعجيلاً بالمضرة، فكأنها تحمل شيئاً يثقلها ويتعبها ويؤذيها وتتضرر به ولما أتى لجانب الفعل أتى بصيغة الافتعال {ما اكتسبت} وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، نعم إن الهم بالسيئة ثقيل، وهو خلاف الفطرة التي فطر الله عليها عباده، وفعل السيئة أثقل منها، {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} .
أسأل الله جل وعلا أن يشرح صدورنا لطاعته ومحبته في جميع أحوالنا وأوقاتنا، إنه على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا وإذا أردت فتنة بعبادك فقبضنا إليك غير مفتونين،
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعلنا من المحبوبين عندك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من أحب خلقك إليك ومن المقربين لديك، الله اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات وأصلح ذات بينهم ونصرهم على عدوك وعدوهم إنك على كل شيء قدير، عباد الله {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} .(63/15)
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع
الموعظة العاشرة
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الموعظة العاشرة
رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما، وهدانا صراطا مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمّن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2)) ) سورة النساء: 1
(3)) ) آل عمران: 102(64/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين..
أفضل البقاع وأحبها إلى رب الأرض والسماء المساجد، فهي بيوت الله في الأرض، وفيها نوره وهداه، وقد وصف الله الذين يعمرونها ويتواجدون فيها بأنهم رجال، ثم نعتهم بأربع خصال تدل على أنهم أهل الرشد والعقول والكمال {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإِقَامِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ} (2) لا يلهيهم عرض الدنيا ومتاعها، هذه الصفة الأولى يعظمون الله، فيصلون له، ويذكرونه سبحانه وتعالى، يشفقون على عباد الله، ويحسنون إليهم، فيتصدقون عليهم، ويواسونهم، ثم هم في أتم استعدادٍ ليوم الميعاد {يَخَافُونَ يَوْمَاً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبْصَارُ} وهذه الصفات التي نعت الله بها الرجال الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة ينبغي أن نقف عندها، لنتصف بها، ونسأل الله أن يجعلنا من أهلها، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الصفة الأولى:
يلهي من يعمرون بيوت الله عرض الدنيا ومتاعها، لا يلهيهم ذلك ولا يشغلهم عما أوجب الله عليهم، وعن الغاية التي خلقوا من أجلها {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} وعند هذه الآية المباركة يوجد تنبيهان ينبغي أن نقف عندهما على وجه الاختصار.
__________
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71
(2)) ) سورة النور: 37(64/2)
التنبيه الأول: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} فأثبت الله لهم التجارات والبيوع في هذه الحياة، وهذا من كمال رجولتهم، لئلا يحتاجوا إلى غير ربهم جل وعلا؛ فهم يزاولون البيوع والتجارات في هذه الحياة؛ لكن لا يشغلهم ذلك طرفة عين عن الحقوق والواجبات، وعن طاعة رب الأرض والسماوات، وهذا المعنى هو المعنى الحق الذي ينبغي أن تفسر به الآية، ولا يجوز أن تحمل على غير ذلك، وما ذهب إليه بعض الناس، من أن الله جل وعلا نفى التلهي والالْتِهَاءَ عن من يعمرون بيوته لعدم وجود تجارةٍ وبيعٍ عندهم؛ فهو معنىً ركيك، ينبغي أن يتنزه عنه كلام الله جل وعلا، قال الإمام الألوسي عليه رحمة الله: "إنما أثبت الله لهم البيوع والتجارات، وأخبر أن هذه البيوع، وتلك التجارات لا تلهيهم عن طاعة رب الأرض والسماوات؛ فهذا أمدح لهم وأحسن في أوصافهم، فعندهم عرض الدنيا لكن في الأيدي، ولا أثر له في القلوب، وإذا نادى منادي طاعة الله جل وعلا أسرعوا إليه ولبوه". وقال الإمام الرَّازي: "هذا المعنى الذي قاله بعض الناس فاسدٍ باطل؛ فلا يقال فلانٌ لا تلهيه تجارته ولا بيعه إلا إذا كان يزاول البيع والشراء؛ فهم يزاولون البيوع ويعملون التجارات في هذه الحياة، لكنَّ ذلك لا يشغلهم عن طاعة رب الأرض والسماوات.(64/3)
الأمر الثاني: أما ما يتساءل عنه كثيرٌ من الناس، لمَ ذكر الله البيع بعد التجارة وما البيع إلا نوعٌ من التجارة؛ فالتجارة بيعٌ وشراء، وأخذٌ وإعطاء، فلم خُصَّ البيع مع أنه يدخل في ضمن التجارة؟ وهل تكون التجارة دون أن يبيع الإنسان ويشتري؟ لا، ثم لا؛ فالتجارة قائمة على أمرين؛ يشتري التاجر ما يشتريه، ثم بعد ذلك يبيعه لحصول ربحٍ فيه، فعلامَ خص الله البيع بعد التجارة وهو داخلٌ في التجارة؟ ولِمَ لَمْ يذكر الله جل وعلا الشراء بعد التجارة كما ذكر البيع؟ فالبيع يدخل في التجارة والشراء يدخل في التجارة فعلامَ ذكر الله البيع بعد التجارة دون الشراء؟ وما الحكمة من ذكر هذا الخاص بعد دخوله في لفظ التجارة؟ إنما ذكر الله البيع بعد التجارة لثلاثة أمورٍ معتبرة: (1) لأن البيع هو أدخل في الإلهاء من الشراء من ثلاثة أوجه:
فالتجارة بيعٌ وشراء؛ لكنَّ التلهي والاشتغال يكون في البيع أكثر ما يكون في الشراء وذلك من ثلاثة أوجه كما قرر هذا أئمتنا العلماء:
أولها: البيع في الغالب الربح فيه مضمونٌ متيقنٌ، وأما الشراء فربح فيه غيبٌ مستقبل، وذلك مظنونٌ أو مشكوكٌ فيه.
التاجر عندما يبيع السلعة في الغالب حصل ربحاً، وأما عندما يشتري الأمر موقوف على المستقبل، قد يباع السلعة بربحٍ وقد تباع بخسارة، وأما البيع فهذا ربحٌ متيقنٌ؛ فلا يلهيه البيع والشراء، لا تلهيه التجارة، ثم ذكر ما هو أدخل في الإلهاء، وما ينبغي أن يُنَصَّ عليهُ لبيان قدر هؤلاء الرجال، وكمال عقولهم، وطاعتهم لربهم. هذا البيع الذي فيه الربح متيقن إذا حان وقت طاعة الله جل وعلا والإحسان إلى عباد الله، يقومون بذلك على وجه التمام، ولا يشتغلون بالبيع الذي الربح فيه - كما قلنا - حاضر متيقنٌ لا شك فيه.(64/4)
الأمر الثاني: البيع في الغالب يكون مقابل إعطاء سلعة وأخذ نقد، وأما الشراء ففي الغالب أن يعطي الإنسان نقداً ويأخذ سلعة، والنفوس البشرية تتعلق بالنقد وتميل إليه أكثر من ميلها إلى السلع، إذاً البيع محبوبٌ إلى النفس أكثر من الشراء؛ من أجل أن يحصِّل الدراهم والدنانير ويملأُ جيبه من هذه الفلوس، فالتلهي في البيع أكثر من التلهي بالشراء؛ ولذلك خصه الله جل وعلا بعد التجارة بالذكر.
والأمر الثالث: وهو معتبرٌ أيضا، التجارة يمكن أن تكون عن طريق الجلب، وأن يجلب الإنسان البضائع والسلع من أماكن أخرى بواسطة من يحملها له، وأما البيع فيكون عندما يُصَرِّفُها عن طريق يديه وبيديه، فالإلهاء بالبيع أكثر من التجارة التي تجلب من كل جهةٍ، ومن كل مكان، عن طريق من يحملها، ومن يُوصلها إليه.
{لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} إذاً عروض: الدنيا أمتعتها، زخرفها، زينتها، لا يشغلهم ذلك عما أوجبه الله عليهم.
عباد الله: كيف ينتهي هؤلاء الرجال العقلاء بمتاع الدنيا وزينتها، وكلها سريعة الزوال إلى فناءٍ، لا تبقى ولا تدوم، وليس لها عند الحي القيوم أي وزنٍ وأي اعتبار، كيف يتلهى هؤلاء الرجال، الذين نُعِتُوا بأنهم رجال؟ كيف يتلهون ويشغَلَون بمتاع الدنيا وزينتها؟ والدنيا من أولها وآخرها ليس لها قدرٌ عند ربها جل وعلا.(64/5)
ثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، والحديث رواه الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، الطبراني في معجمه الكبير، وأبي نعيم في الحلية، البيهقي في شعب الإيمان، وإسناده صحيح من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شربة ماء] سبحان ربي العظيم؟؟ الدنيا من أولها لآخرها بجميع أمتعتها وزخارفها، لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كان لها هذا المقدار عند العزيز القهار، ما سقى الكفار في هذه الحياة شربة ماء، ولا جرعة ماء، لهوانهم على ربهم جل وعلا، لكنَّ هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قدر لها، فيعطيها الله لمن يحب ولمن يكره، [لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى كافر منها شربة ماء] فكيف يتلهى العقلاء بالتجارة والبيوع عن طاعة رب الأرض والسماوات؟ وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن كل ما في هذه الدنيا ملعون، إلا ما أريد به وجه الحي القيوم، فكيف يتلهى هؤلاء المؤمنون الموحدون، الذين يعكفون في بيوت الله، ويذكرون الله، كيف يتلهون ويُشْغَلون بالبيوع والتجارات؟ ثبت في سنن الترمذي، وابن ماجه، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث روي عند عدة من الصحابة الكرام روي عن عبد الله بن مسعود عن أبي الدرداء، وعن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهم أجمعين، والحديث إسناده صحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالماً، أو متعلما] .(64/6)
الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالماً، أو متعلما، وفي بعض رواة الحديث [الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما أريد به وجه الله منها] وفي بعض الروايات [الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما أريد به وجه الله منها، إلا ما ابتغي به وجه الله] وفي بعض الروايات [الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا أمر بمعروفٍ، أو نهيٍ عن منكر، أو ذكر الله جل وعلا] وخلاصة الكلام كل ما في هذه الدنيا ملعون، إلا من أطاع الحيَّ القيوم، الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالماً، أو متعلما، فكيف يتلهى هؤلاء الأخيار بهذه الدنيا التي ليس لها قدر واعتبار عند العزيز الغفار سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام: أخبرنا الله في كتابه في كثير من الآيات عن حقيقة هذه الدنيا، وعن أحوالها، فكيف يركن إليها من يعمرون بيوت الله، ونُعِتُوا بأنهم رجال؟ يقول الله جل وعلا في سورة الأنعام {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلْذِينَ يَتْقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ} (1) الحياة الدنيا في سرعة زوالها وقصر أيامها، حالها كحال من يلعب بشيءٍ ويتلهى به، سرعان ما يزول، وسرعان ما ينقضي، وهكذا الحياة الدنيا.
__________
(1)) ) سورة الأنعام: 32(64/7)
والمعنى الثاني للآية الكريمة {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} ما أمرها من أولها لآخرها، وما حال من يركن إليها إلا لعبٌ ولهوٌ، كحال لاعبين عندما يلعبون هم يلعبون فسيزولون ولعبهم، لا قيمة له، ولا وزن، ولا اعتبار {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلْذِينَ يَتْقُونَ أفَلا تَعْقِلُونَ} قال أئمتنا المفسرون: في ذلك إشارة إلى أن أمور التقوى في هذه الحياة ليست من الدنيا {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلْذِينَ َيَتْقُون} اتقوا الله في هذه الحياة؛ فعظموه وأطاعوه؛ فهؤلاء ما بِاللَّهْوِ ولا باللعب.
إخوتي الكرام:
وإذا قرن الله بين اللعب وبين اللهو في كتابه، فيفترقان من حيث المعنى افتراقاً لطيفاً، مع أن كل منهما يدل على أن صاحب اللعب وصاحب اللهو اشتغلا بالباطل، لكن بينهما مفارقةً عندما يقترنان؛ إذا قرن اللعب باللهو، فمراد من اللعب أن الإنسان يشتغل بالباطل، وقد يفعل الحق، وقد لا يفعله، قد يقوم بالواجب، وقد لا يقوم به، وأما إذا ذكر اللهو بعده، دل على أنه اشتغل بالباطل مع إعراضه عن الحق وعدم المبالاة به، وأما اللعب فقط، فقد يلعب الإنسان ويشتغل بالباطل، ثم يقوم بالواجبات وبالحقوق، ويقوم بشيءٍ منها، ولا يلزم من ذلك أن يعرض عنها، أما اللهو فقد لهى قلبه عنه، وأعرض قلبه عن هذا الحق، بحيث اشتغل بالباطل مع نفرةٍ من الحق وكراهيةً له، وهكذا حال الحياة الدنيا(64/8)
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَعِبٌ} : اشتغالٌ بأمور الباطل، {ولهو} : إعراضٌ عن الحق مع اشغال بالباطل، هذا حالها، وهذا أمرها، وهذا حال من يركن إليها، ويستقر فيها، إلا المتقين، {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتْقَوْا أفَلا تَعْقِلُونَ} وقال جل وعلا في سورة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدَّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِي الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) ، {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} .
__________
(1)) ) سورة العنكبوت: 64(64/9)
حيوان: أي حياة كاملةٌ تامة، من حيَّ، والأصل أن يقول: حَيَيَان قال أئمتنا قلبت الياء الثانية واواً، فصارت حيوان، حياة كاملة، وإنما أتى بصيغة فَعَلان؛ ليدل على الحياة والإطراب والبهجة والكمال والتمام، لأن ذلك يقابل السكون الذي يكون عن طريق الموت (وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) ؛ أي الحياة الكاملة التي فيها بهجةٌ وحيويةٌ ونشاطٌ على وجه التمام والكمال {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (1) ، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِي الْحَيَوَانُ، لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} إذاً هذه الحياة الدنيا لهو ولعب، {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدَّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنَّ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكَمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} (2) كما قال الله في سورة محمد، على نبينا صلوات الله وسلامه، وهكذا قَصَّ الله علينا حال الدنيا في كثيرٍ من الآيات في كتابه فقال جل وعلا في سورة الحديد: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدَّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأمْوَالِ وَالْأوْلَادِ كَمَثِلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُه ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَامَاً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدَّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (3) يتمتع بها على وجهٍ ما، ثم تنقضي وتزول، لكنَّ هذا المتاع الزائل يَغْتَرُّ به كثيرٌ من ضعاف العقول، لا يغتر بذلك الرجال الذين يذكرون الله في بيوته في هذه الحياة، {رِجَالٌ} ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدَّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} لا يغتر بها إلا من اغتر عقله، ولم يكن رجلاً {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكَمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ
__________
(1)) ) سورة ق: 22
(2)) ) سورة محمد: 36
(3)) ) سورة الحديد: 20(64/10)
زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدَّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (1) .
عباد الله: ولذلك نهانا الله جل وعلا من التلهي بها، والاشتغال بها، والعكوف عليها، بحيث يشغلنا ذلك عما أوجبه الله علينا، فقال جل وعلا في سورة المنافقون: {يَا أَيَّهَا الذِّينَ آمَنُوْا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلا أَوْلَادَكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وأَنْفِقُوْا مِنْ مَا رَزَقْنَاكَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أخَّرْتَنِي إِلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ *وَلَنْ يُؤَخِّرُ اللهُ نَفْسَاً إِذَا جَاءَ أجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (2) وقد أخبرنا الله جل وعلا عن حال الضعفاء ضعاف العقول عن حال الأنذال في هذه الحياة، أنهم أقبلوا على اللهو واللعب، واشتغلوا بذلك عن طاعة الله جل وعلا قال الله جل وعلا في أول سورة الأنبياء - على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه -: {اقْتَربَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (3) لفظ الناس من أسماء العموم، وكل ما ورد من صيغ الذم بألفاظ العموم في كلام الحي القيوم يخرج منه المهتدون، يخرج منه الصالحون، فلا يدخلون في ألفاظ الذم العامة، إنما تلك تنال العُصَاةَ والكافرين {وَالْعَصَرَ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الذِّينَ آمَنُوْا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِ وَتَوَاصَوْا بِالصَبِر} (4) ، {لَقَدْ خَلَقَنَا الإنْسَانَ فِي أحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ فِي أسْفَلِ سَافِلِينَ * إِلا الذِّينَ آمَنُوْا وَعَمِلُوا
__________
(1)) ) سورة آل عمران: 185
(2)) ) سورة المنافقون: 9 – 11
(3)) ) سورة الأنبياء: 1
(4)) ) سورة العصر: 1- 3(64/11)
الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} (1) ، {اقْتَربَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبَّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (2) .
__________
(1)) ) سورة التين: 4- 6
(2)) ) سورة الأنبياء: 1 – 3(64/12)
سبحان ربي العظيم؟؟ لعبوا فاشتغلوا بالباطل، ثم أعرضوا بعد ذلك عن الحق، على وجه التمام والكمال، وعادوه ونفروا منه عندما اشتغلوا بالتلهي، {لاهية قلوبهم} ، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبَّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (1) فجمعوا بين اللعب واللهو، اشتغلوا بالباطل، ثم أعرضوا بعد ذلك عن الحق، على وجه التمام والكمال، ليتهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم، إنما لعبوا واشتغلت قلوبهم بعد ذلك باللهو والأعراض والنُفْرَةِ عن كلام رب العباد، {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبَّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وأسَرُّوا النَّجْوَى الذِّينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) وأخبرنا الله جل وعلا عن مثل هذا في أول سورة الحجر فقال جل وعلا: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ * رُبَمَا يَوَدُّ الذِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (3) وذلك عندما يرون عصاة الموحدين، الذين عملوا الباطل، ومن انحرف بعد ذلك عن الحق، ولا أعرضوا عنه على وجه التمام، إنما خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عندما يخرجون من نار الجحيم، بعد أن يعذبوا، يتمنى الكفار لو أسلموا في هذه الحياة، ونطقوا بتوحيد رب الأرض والسماوات {رُبَمَا يَوَدُّ الذِّينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِيهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (4) .
__________
(1)) ) سورة الأنبياء: 2، 3
(2)) ) سورة الأنبياء:2- 4
(3)) ) سورة الحجر: 1، 2
(4)) ) سورة الحجر: 2، 3(64/13)
إذاً عباد الله: الأبرار الرجال العقلاء، أهل الكمال، الذين يوحدون الله في بيوته، ويشهدون الصلوات، ومجالس الخير في هذه البيوت، لا تلهيهم البيوع، ولا التجارات، وهذان الوصفان ينبغي أن نقف عندهما، آخذ الوصف الأول؛ ألا وهو وجود بيوعٍ وتجارات واكتساب رزق من قبل المؤمنين الذين يعبدون الله في المساجد، وأما الوصف الثاني، وهو متعلق بعدم الالتهاء من هذا المال، وعدم الانسياق معه في جميع الأحوال، يأتي الكلام عليه -إن شاء الله- في الموعظة الآتية، إن أحيانا الله.
عباد الله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} (1) لهم تجارات، وعندهم بيوعٌ يقومون بها، فهم يعبدون الله، ثم يكدحون في هذه الحياة، وهذه من صفات الكمال فيهم، وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن طلب الرزق -في هذه الحياة عن طريق ما أحل الله- واجبٌ واجبٌ على كل مسلم، فمن فرط في ذلك، وهو مستطيع ثم تعرض لهذا أو ذاك؛ فهو عاصٍ لله جل وعلا معجم الطبراني الأوسط بإسنادٍ حسن من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه: قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [طلب الحلال فريضة على كل مسلمٍ] طلب الحلال فريضةٌ على كل مسلم، كما أن العلم ينور قلوبنا، نطلب الحلال والقوت؛ من أجل أن نغذيَ أبداننا، لئلا تكون بنا حاجةً إلى أحدٍ من خلق الله، حاجتنا إلى ربنا جل وعلا.
__________
(1)) ) سورة النور: 37(64/14)
[طلب الحلال فريضة على كل مسلم] وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن خير لقمةٍ يدخلها الإنسان جوفه هي ما يكتسبه عن طريق يده، ثم بين لنا أن أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، كانوا يتصفون بهذا الوصف، فكانوا يكدحون ويعملون، ويأكلون من كسب أيدهم، ومن عمل يمينهم، ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح البخاري، والحديث رواه الإمام ابن ماجه، وغيرهم، والحديث صحيحٌ صحيح، فهو ثابت في صحيح البخاري، من حديث المقدام بن معد كرب -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما أكل أحدٌ طعاماً قطُ خيراً من أن يأكل من عمل يده وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده] .
نعم كان الأنبياء ينزلون إلى الأسواق، ويعملون، وليس في ذلك منقصةٌ، ولا ابتذال، إنما المنقصة والابتذال أن يكون الإنسان عالة على غيره، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الْطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرَاً أوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إنَّ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً} (1) وأي منقصة إذا دخل الإنسان إلى السوق، وباع واشترى، وقد كان أنبياء الله الكرام -عليهم جميعاً الصلاة والسلام- وهذا أفضل الكسب [ما أكل أحدٌ طعاماً قطُ خيراً من أن يأكل من عمل يده وإنَّ نبي الله داود -عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه- كان يأكل من عمل يده] .
__________
(1)) ) سورة الفرقان: 7، 8(64/15)
فإذا كنا ندخل بيوت الله لذكر الله، وعبادة الله، فعلينا واجبٌ آخر؛ ألا وهو السعي من أجل تحصيل الرزق والإحسان إلى عباد الله بعد ذلك، فنحن ممن يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ونحن ممن يعظمون الله، ويحسنون إلى عباد الله، ويشفقون على خلق الله، وأما أن يمد الإنسان يديه إلى غيره، فهذه النذالة، وهذا هو النقصان ولا يمكن أن يتصف المؤمن بهذا، إلا إذا وصل إلى حد الضرورة، بحيث لو لم يجد لمات، ومع ذلك فلو مات لكان عدم سؤاله أولى، لو مات وما سئل غير الله، لكان هذا خيراً له في هذه الحياة، وبعد الممات، وإذا جاع الإنسان ولم يسأل حتى مات، فلا إثم عليه، ولا حرج، نعم إذا كان عنده طعام، وما أكله حتى مات، فهو من أهل النار، أما إذا ما سئل أحداً من خلق الله وقال السؤال ذل، أنا عندما أسأل غير الله جل وعلا أضيع حق الله فقد أمرني الله أن أسأله [إذا سئلت فسأل الله] ، فكيف أصرف هذا السؤال إلى عبدٍ لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره- نفعاً ولا ضرا؟ ثم بعد ذلك أظلم هذا العبد، وأعتدي عليه، وأضجره، فأحب ما عند الناس من أموالهم التي اكتسبوها، وأنا عندما أحرجهم بالسؤال، وآخذ منهم هذه الأموال؛ فقد آذيتهم، وأضجرتهم، ولذلك قال الله: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَلَكُمْ * إِنَّ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} (1) ، أي أن الله جل وعلا، ما أمرنا أن نتصدق بجميع أموالنا، وإذا بالغ في الطلب، وطلب منا أن نتصدق بجزءٍ كبير، بخل بذلك عددٌ كثير، إنما فرض الله نصيباً معلوماً، مقدراً يسيراً، فأنت كيف إذاً تضجر هؤلاء الناس، وتأخذ منهم ما جمعوه وما أخذوه، إن أعطوك عن طيب نفسٍ فبها ونعمة، وأما الإلحاح هذا، في حال حاجة النقص فكيف في عدم الحاجة؟ والأمر الثالث تذل نفسك أيها الإنسان، أنت عبدٌ للرحمن ما يرضى الله أن تتذلل إلا له، كيف تريق مال وجهك من أجل أن تأخذ من فلانٍ، أو من غيره، ولذلك [ما أكل أحدٌ طعاماً
__________
(1)) ) سورة محمد: 36، 37(64/16)
قط خير من أن يأكل من عمل يده] إذا كنا نشهد بيوت الله؛ فينبغي أن يكون عندنا عزاً، وينبغي أن يكون عندنا مروءة، وينبغي أن يكون عندنا شهامة، نحن عباد الله في هذه الحياة، ليس لنا إلى غير الله حاجة.
{لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وإِقَامِ الصَّلاةِ وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (1) وقد أخبرنا نبينا أن الذين يحرزون المال من طريقٍ حلال، ويكون عندهم ثروةٌ طائلة ينتفعون وينفعون، فنعم ما فعلوا، ولهم أجرٌ كبيرٌ عند الله جل وعلا، ثبت في مسند الإمام أحمد، ومستدرك الحاكم، والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط، ورواه ابن سعدٍ في الطبقات، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده صحيحٌ كالشمس من رواية عمرو بن العاص، قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [نِعِمَّا المال للرجل الصالح] ، [نعم المال الصالح للرجل الصالح] ، فهؤلاء العباد لهم تجارات، ولهم بيوع، ولكن ذلك لا يشغلهم عن طاعة الله جل وعلا [نِعِمَّا المال للرجل الصالح] .
__________
(1)) ) سورة النور: 37(64/17)
عباد الله: إن استغناء الإنسان عن غيره، عندما يبيع ويشتري، هذا عزٌ له في هذه الحياة، ورفعةً لقدره بعد الممات، ثبت في مستدرك الحاكم، ومعجم الطبراني الأوسط، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أتاني جبريل فقال لي يا محمد -على نبينا صلوات الله وسلامه- عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وأن عز المؤمن استغنائه عن الناس] وأن عز المؤمن استغنائه عن الناس، فأنت أيها العبد الذي تدخل في بيت سيدك في هذه الحياة، ينبغي أن يكون لك حرفة، وينبغي أن يكون لك مهنة، ولا عار ولا منقصة إذا دخلت السوق، أو إذا ذهبت لتحتطب، أو إذا سافرت لتتاجر، فهذا نعت المؤمنين الذين يعبدون رب العالمين في هذه البيوت، {لا تُلهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} (1) عندك بيوع، وعندك تجارات تكتسب وتنتفع وتنفع، لكنَّ هذه التجارات لا تشغلك ولا تلهيك عن الواجبات.
[عز المؤمن استغنائه عن الناس] .
__________
(1)) ) سورة النور: 37(64/18)
عباد الله: إن الرزق مقسوم كما يقال، وإن العمر محتوم، وإذا كان الأمر كذلك، فنحن نتعرض لنفحات الحي القيوم، نكدح في الأسواق، ونعمل في المزارع، ونزاول التجارات، ونبيع ونشتري، لكن كما قال الله: {لا تُلهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} (1) ، إننا عندما نتعرض لتحصيل فضل الله ورزق الله، نعلم أنه لن يأتينا إلا ما قسم لنا، ولن يأتينا إلا ما تَفضَّل به ربنا علينا، فهذا المقسوم محض فضلٍ من الحي القيوم، وهذا يكسب أبداننا راحةً، فلا نلهث وراء المال، كما تلهث السباع الضارية في البرِّيَّة، ويكسب قلوبنا قناعةً، فنعلم أن ما قدر لنا سيأتينا، إنما حالنا كما قال الله: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2) ، ذَلْلَّهَا ويسرها من أجل أن نمشي عليها، فلا نقاسي فيها عنتاً ولا شدةً، من أجل أن نحصل الرزق والخير والبركة {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} هذا من رزق الله، ومن فضل الله، والرزق الذي يحصله الإنسان في هذه الحياة محض فضلٍ وكرمٍ من رب الأرض والسماوات، كما قال جل وعلا في سورة الجمعة: {يَا أيَّهَا الذِّينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنَّ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} (3) فالرزق الذي نحصله محض فضلٍ وكرم من الله جل وعلا، {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرَاً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) وهكذا أخبر الله عن الرزق في كثير من الآيات بأنه محض فضلٍ وكرم، يعطيه الله من يشاء من عباده، فقال جل وعلا: {
__________
(1)) ) سورة النور: 37
(2)) ) سورة الملك: 15
(3)) ) سورة الجمعة: 9
(4)) ) سورة الجمعة: 10(64/19)
رَبُّكُمُ الذِّي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحَرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيِمَا} (1) لتبتغوا من فضله: لتحصلوا الرزق والتجارة في البر والبحر، {رَبُّكُمُ الذِّي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحَرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيِمَا} .
والله جل وعلا فاوت بين عباده في أمر الرزق، لتتم مصلحة الكون، وليتم أمر الناس والعالم، فهذا غنيٌ، وذاك فقير، وهذا الغني يستعمل الفقير في عملٍ، فيعطيه عليه أجرة، وينتظم نظام الكون، ولله جل وعلا حكمة في ما خلق وقدر، كما قال جل وعلا في سورة الزخرف: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرَآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَينِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعَضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً سُخْرِيَّا} (2) أي بالتسخير والعمل، والقراء والأجرة {لِيَتَخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً سُخْرِيَّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمِّا يَجْمَعُونَ} (3) .
__________
(1)) ) سورة الإسراء: 66
(2)) ) سورة الزخرف: 32
(3)) ) سورة الزخرف: 32(64/20)
ثم أخبرنا الله جل وعلا أن ذلك في هذه الحياة لا وزن له عند رب الأرض والسماوات، فقال جل وعلا: هذه الدنيا حقيرةٌ مهينة، ولو أردت أن أعطيَ الكافر ما يستحقه في هذه الحياة، لجعلت له من النعيم ما يخطر ببال أحد، لهوان الدنيا على الله جل وعلا، فقال: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمِّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أنَّ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (1) أي: على الكفر، فيكفر ضعاف العقول عندما يعطى للكافر من النعيم؛ لأنه كفر {وَلَوْلا أنَّ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجْعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقْفَاً مِنْ فِضَةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلبيوتهم أبواباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفَاً وَإِنَّ كُلُ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَقِينَ} (2) إذاً عباد الله نحن بهذا الرزق نتعرض لطلبه، نتعرض لنفحات الله جل وعلا، ونوقن أن ما قدر لنا سيأتينا فلا ننصب ونتعب أبداننا، ولا ندخل القلق والهم إلى قلوبنا، قلوبنا فيها القناعة، وأبداننا فيه الراحة، وما قدر لنا سيأتينا، وزاولنا بعد ذلك أمور البيوع والتجارات، والرزق.
__________
(1)) ) سورة الزخرف: 32، 33
(2)) ) سورة 33، 35(64/21)
كما أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي الإنسان حسب ما قدر له، كما سيأتيه أجله، كما أنك لا يمكن أن تفر من أجلك، لا يمكن أن تفر من رزقك، ولذلك ثبت في مستدرك الحاكم بسندٍ صحيح، عن عبد الله ابن مسعودٍ رضي الله عنه، والحديث رواه الحاكم، وابن حبان، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، من رواية جابر بن عبد الله، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في الحلية، من رواية أبي أمامة -رضي الله عنهم أجمعين- من رواية عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، ومن رواية جابر، ومن رواية أبي أمامة، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [إن روح القدس نفث في روعي] أي: في قلبي [أنه ليس من نفسٍ تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب] ما قدر لك سيأتيك، فخذه بعز، وخذه بطاعة الله جل وعلا، ولا داعي بعد ذلك أن تتعرض لما يسخط الله جل وعلا.
[إن روح القدس نفث في روعي، أنه ليس من نفسٍ تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب] وثبت في صحيح ابن حبان، ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والبزار في مسنده من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله] .(64/22)
وفي رواية الطبراني [إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله] فكما أنك لا تفر من أجلك، وأينما كنت سيوافيك الموت، ولو كنت في بروجٍ مشيدة، والله لو كنت في جحر ضب لجاءك ما قسم لك وما قدر لك، نعم أنت مأمورٌ بالسعي والكسب والتعرض لنفحات الله عن طريق ما أحل الله، فهذا وصف عباد الله، يبيعون ويتاجرون ويعبدون الحي القيوم [إن الرزق ليطلب العبد أكثر مما يطلبه أجله] وقد جعل الله الرزق بين الحياة وبين الممات، فوسط الرزق بين الأمرين، وكما أننا لا نشك في خلقنا، ولا نشك في موتنا، ولا نشك في بعثنا، فما ينبغي أن يعترينا شك نحو رزقنا {اللهُ الذِّي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثَمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مِنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) وأنت الواجب عليك -كما قلت- أن تتعرض لنفحات الله، فإذا قدر لك رزقٌ كثيرٌ جاءك، إذا قدر عليك في الرزق، جاءك ما قدر لك، وأنت على الحالتين راضٍ بما قسم لك، لكن الرزق لا ينال بمعصية الله، ولا بشطارة، ولا باحتيال، ما قدر لك سيأتيك، فإما أن تأخذه من طريقٍ حلال، وإما أن تأخذه من طريقٍ حرام، ورحمة الله على من قال:
كَمْ مِنْ قَوِّيٍ وَقَوِّي فِي تَقَلْبُهِ ... مُهَذَّبُ الرَّأْيَ عَنْهُ الرِّزْقَ يَنْحَرِفُ
وكم من ضَعِيفٍ ضَعِيفٍ فِي تَقَلْبُهِ ... كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ
هذا دَلِيلٌ على أنَّ الإلِهَ لَهُ ... فِي الْخَلْقِ سِرٌ خَفِيٌ لَيْسَ يَنْكَشِفُ
إذاً هؤلاء العباد الرجال الأبرار الذين يذكرون الله في بيوته رجال {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} (2) لا تلهيهم تجارة ولا بيع يتاجرون ويبايعون، لكن ذلك لا يشغلهم عن طاعة الحي القيوم.
__________
(1)) ) سورة الروم: 40
(2)) ) سورة النور: 37(64/23)
عباد الله: وإذا كانت لنا تجارات وبيوع في هذه الحياة -كما قلت- نتعرض لنفحات رب الأرض والسماوات، لتحصيل هذا الرزق الذي أحله الله، هذا ينبغي أن يكون في قلبنا عند تحصيلنا قناعة، ولا داعي بعد ذلك للجشع، ولا لطمع، ولا للحرص، كم سيأتينا تفصيل هذا في الموعظة الآتية، فالقناعة الحقيقةً هي غنىً في هذه الحياة، وهي زخرٌ لك بعد الممات، والقناعة أن ترضى بما يكفيك، وأن لا تكثر من أمانيك، ما جاءك وما فيه كفاية فاحمد الله عليه، وهذا غنىً ليس بعده فقر، ثبت في مسند الإمام أحمد، والصحيحين، والحديث رواه الإمام الترمذي وابن ماجه، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وروي عن أنس، وأبي ذر -رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ليس الغنى عن كثر العرب إنما الغنى عنى النفس] ليس الغنى عن كثر العرب، إنما الغنى عنى النفس، فأنت إذا كان في قلبك هذه القناعة، ما جاءك يكفيك، وبعد ذلك تتفرغ لطاعة الله جل وعلا، ولا يلهيك البيع ولا التجارة عن طاعة الله جل وعلا، ورحمة الله على شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عندما ينشد، ويردد هذا كثيراً فيقول:
رأيتُ القناعة ثَوبَ الغَنَى ... فَصِرْتُ بِأَذْيَالِها أَنْتَسِكُ
فَأَلْبَسَنِي جَاهُهَا حُلَّةً ... يَمُرُ الزَّمَانَ وَلَنْ تُنْتَهَكُ
فَصِرْتُ غَنِيَاً بِلا دِرْهَمٍ ... أَمُرُّ عَزِيزَاً كَأَنَّنِي مَلِكُ
هذا حال عباد الله {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} (1) يكدحون في هذه الحياة، وما جاءهم رضوا به، ثم بعد ذلك تفرغوا لطاعة الله جل وعلا.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء، أن يربينا بما قسم لنا، وأن يجعل غنانا في نفوسنا، ونسأله أن يجعل نعمته عوناً لنا على طاعته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.
__________
(1)) ) سورة النور: 37(64/24)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده الله ورسوله، خير خلق الله أجمعين.
اللهم صلي على نبينا محمدٍ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمّن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله: إذا جمع الإنسان المال، وأحرزه من طريقٍ حلال، ينبغي ألا يتعلق به، وألا يحبه، كما سيأتينا، وألا يبخل به، وألا يمنع الواجب فيه، وينبغي ألا يحرص عليه، وألا يتعلق به، وألا يشغله عن طاعة الله، وينبغي أن يقنع بما قسمه الله له. هذه أمورٌ خمسةٌ، نتدارسها في الموعظة الآتية إن شاء الله، والقناعة راحة الإنسان في هذه الحياة، وسعادة له بعد الممات.
وقد أخبرنا خير البريات عليه الصلاة والسلام أن من هداه الله للإسلام، وجعل في قلبه في هذه الحياة فهنيئاً له هنيئاً له، ثبت في مسند الإمام أحمد، وصحيح مسلم، والحديث رواه ابن ماجه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافا وقَنَّعَهُ الله بما آتاه] ، قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه، والكفاف هو: ما كف على السؤال، وكان بمقدار الكفاية، فإذا هديت للإسلام، ورزقت رزقاً حلالا يكفك عن السؤال، وعن الاحتياج إلى الإمام ووجدت في قلبك القناعة، فهنيئاً لك يا عبد الرحمن.
[قد افلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه] والحديث رواه الإمام أحمد أيضاً، والترمذي، والإمام النسائي، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام بلفظ [طوبى] عن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام بلفظ [طوبى لمن أسلم وكان عيشه كفافاً وقنع] ، طوبى لمن أسلم وكان عشه كفافاً وقنع، فهذه الأمور هي راحة لك في هذه الحياة وسعادةٌ بعد الممات.(64/25)
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، بفضلك ورحمتك يا أرحم الرحمين، اللهم صلي على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا، وآثرنا، ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارضَ عنا، اللهم صلي على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم إنا نعوذ بك من نفسٍ لا تشبع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن علمٍ لا ينفع، ومن دعاءٍ لا يسمع، اللهم صلي على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، اللهم آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما رَبَّوْنا صغارا، اللهم اغفر لمشايخنا، ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ} (1)
__________
(1)) ) سورة الإخلاص: 1 – 4(64/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين. وأتم علينا بذلك النعمة، وجعل أمتنا بفضله ورحمته خير أمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من توحد بجلال ملكوته، وتفرد بجمال جبروته، أتقن ما صنع وأحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلمه، ورفع قدر العلم وعظمه، ومنعة من أسترذله وحرمة، وخص به من خلقه من كرمه، فسبحانه من إله أذهل العقول عن الوصول إلى كنه ذاته الأبدية. وأدهش الخواطر عن الإحاطة بجليل صفاته السرمدية.(65/1)
وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء، وصفوة الأولياء، وإمام العلماء، وأكرم من مشى تحت أديم السماء، صل اللهم وسلم وبارك عليه في كل ساعة ولحظة وحين على دوام الأبد ما لا يدخل تحت الحصر والعدد ولا ينقطع عنه المدد، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، والصحابة الكرام الميامين، والتابعين لهم بأحسن إلى يوم الدين، صلاتا وسلاما تامين لا يعتريها انصرام، دائمين بإحسان على ممر الدهور والأيام. وبعد فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بجوامع الكلم وحواصر الفهم ـ واتاه ـ دون خلقه كنوز الحكم ففي الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ((بعثت بجوامع الكلم)) فأبان الله به الحق للأمة، وكشف عنها ستر الغمة، وصانها من الزلة، ووقاها من النقمة، وحض عبادة المؤمنين سبحانه وتعالى على النفير للنفقة والتبصر في الدين فقال جل من قائل ((فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (1) ووجههم إلى إنذار بريته، كما ندب إلى ذلك أهل رسالته، ومنحهم ميراث أهل نبوته، ورضيهم للقيام بحجته، ولنيابة عنه في الإخبار بشريعته واختصهم من عبادة بخشيته فقال تبارك وتعالى ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)) (2) ثم أمر جميع الخلق بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم وتنصيبهم الرؤوس عليهم من جهالهم فقال عليه الصلاة والسلام ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) (3) .
__________
(1) - التوبة: 122
(2) - فاطر: 28
(3) - في الصحيحين وغيرهما منة حديث عبد الله عمرو بن العاص(65/2)
صدقت والله يا رسول الله، إن العصر الذي نعيشه قد نصب فيه الجهال رؤوسا، والعلماء المضلون إلا من رحم الله مفتونا، بعد أن قبض مخلصوا العلماء منا، ولم يبق إلا من إذا سألناهم بجوابهم أضلونا واغوونا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
نسأل الله العلى القدير أن يلهمنا طريق الرشد ويبعد عنا كل فاجر وأن يكلألنا من فتن الغدايا والعشايا والهواجر وان يصلح حالنا، وأن يخلصنا له وممن قيل فيهم:
إن لله عباد فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
ج
نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحى وطنا
جعلوها لجة وأتحذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا
وأنا سائل أخا ألا ينسى في صالح دعوته في خلواته أن يدعوا لي ولوالدي ومشايخي وسائر المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وبالله التوفيق والمستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
13 ربع الأول 1413
10 أيلول 1992
أنس بن حامد العبد لله
تعريف بهذا الكتاب
لقد منا الله على بان وفقني لنيل شرف كتابه هذا الكتاب لفضيلة شيخنا المبارك أبى حمزة عبد الرحيم بن احمد الطحان. حفظة الله وأطال في طاعته بقاءه، وأناله في الحق مبتغاة، ورجاءه، أسائل ربى تبارك وتعالى أن يمهلني إلى إنهاء هذا الكتاب المبارك ليكون ذخرا للآخرة ((يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ)) (1)) ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (2) وأسأله تعالى أن يجعله من صالحات باقيات الأعمال وخالصات الآثار. وخالدات الحسنات إلى آخر الأعمار فإنه إذا أراد بعبد خيرا حسن عمله في الناس وأهله لخيرات هي بمنزلة العين من الرأس. وأساله سبحانه الرشاد والسداد فيما أنقل وفيما اكتب، وبالله أستعين
هذا....ولقد اتبعت الخطوات التالية في إعداد هذا الكتاب.
__________
(1) - الشعراء (88)
(2) - الشعراء (89)(65/3)
اعتمدت في كتابة متن الكتاب على السماع من شيخنا وذلك بطريقتين، الأولى عن طريق أشرطة الكاسيت: التي تم تسجيل محاضرات شيخنا فيها والمتعلقة بتلك الموضوعات. والثانية: عن طريق سماعي مشافهة لتلك المحاضرات وبذلك تم تدقيق المتن
? قمت بتخريج الآيات القرآنية. وجعلتها ضمن أقواس مزدوجة هكذا ((.....)) وقمت بمراجعة تخريج الأحاديث النبوية التي خرجها شيخنا والآثار وإن كان هناك بعض إضافة ذكرتها وقمت بتخريج الأحاديث والآثار التي لم يذكر شيخنا لها تخريجا من مصادرها من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم ونسبتها إليها وعنيت بضبط النص بشكل كامل بقدر المستطاع. وإذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بنسبته إليهما أو إليه في الغالب لأن في ذلك الكفاية. وكذا الأحاديث التي خرجها شيخنا إذا كان قد نسب الحديث إلى احد الصحيحين أو لكليهما اكتفيت بذلك غالبا وجعلت الحديث في ذلك كله ضمن أقواس مفردة هكذا] ..... [والحديث الذي خرجته صدرته بكلمة. قلت. لئلا يختلط مع تخريج شيخنا ولئلا ينسب له إن كان فيه خطأ.
? هناك بعض الألفاظ والكلمات قالها شيخنا باللغة العامية أو غير العربية أحيانا تسهيلا لفهمها ولاشتهارها بين الناس بذلك اللفظ، وضعتها ضمن قوسين مزدوجين صغيرين هكذا "...."
? قمت بوضع بعض التعليقات والشروح لبعض الجمل التي قالها شيخنا والتي ربما يكون فيها بعض الغموض على قارئها وبينت مقصود شيخنا منها قمت بتقوية بعض الآراء التي ذكرها شيخنا من المسائل المهمة وذكرت على بعضها الأدلة المقررة لتلك المسألة ولحكمها
? قسمت الكتاب إلى أبواب وفصول ومباحث ومطالب لتسهيل مراجعة الموضوعات وضعتها
? هناك بعض الأحاديث والآيات ذكرها شيخنا ولم يشر إلى أنها حديث أو آية وضعتها بين الأقواس وخرجت ذلك الحديث وتلك الآية في الهامش(65/4)
هناك بعض النقاط التي ذكرها شيخنا والتي تندرج تحتها نقط اصغر منها وفروع لها متعددة قمت بوضع أرقام لها فالنقطة الكبرى أطلقت عليها أولا والتي تحتها أعطيتها أرقام مثل: 3,2,1 التي تتفرع عن هذه الأرقام رمزت لها بـ أ , ب
? قمت بوضع فهرس الفبائي للأحاديث النبوية والآثار وفهرس آخر للموضوعات تسهل على قارئه الإطلاع على محتويات الكتاب واهم أبوابه وفصوله ومباحثه ومطالبه.....
وبعد ... فأرجو من الله - عز وجل - أن يوفق الجميع لأحسن الانتفاع بما في هذا الكتاب وان يستفيدوا منه في الخير والرشد ويسلكوا سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأفوم إلى الله على نور في كل الأمور وقد يكون هناك شيء من الخطأ في هذا العمل الذي لا يخلوا منه إنسان كائن من كان إلا من عصم الله فالمرجوا من الله أن يغفر لنا ويعفوا عنا ويلهمنا رشدنا إنه سميع قريب مجيب للدعوات وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وأجمعين.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
} اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن {
الباب الأول
التقوى
تمهيد
المبحث الأول: في بيان معنى التقوى
المبحث الثاني: في بيان الأمور التي تحصل بها تقوى الإنسان لربه جل وعلا
المبحث الثالث: ما الطريق الذي يوصلنا إلى التقوى
المبحث الرابع: منزلة التقوى
المبحث الخامس: ما هي علامة قبول التقوى؟ وما هو البرهان على صدق صاحبها؟
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن ممن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتننا انك أنت العليم الحكيم اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا بفضلك ورحمتك يا ارحم الراحمين.(65/5)
إخوتي الكرام أخرج الإمام الترمذي في سننه والإمام احمد في مسنده والإمام الحاكم في مستدركه رحمهم الله جميعا بسند صحيح عن أبى ذر جندب ابن جناده وأبى عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكل منهما أعنى لأبى ذر ولمعاذ بن جبل رضي الله عنهما] اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن (1) [حديث جليل من جوامع الكلم التي من الله بها على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام انه قال] أوتيت جوامع الكلم] (2) وفى غير الصحيحين] أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا [ (3) .
__________
(1) - قلت: اخرج الحديث أيضا البزار والبيهقي والطبراني وبن عبد البر وغيرهما قال السيوطي في الجامع الصغير: رواه بن عساكر عن انس (دليل الفالحين 1/ 228) ورواه الدارمى.
(2) - قلت: الحديث رواه أبو هريرة - رضي الله عنهم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال] نصرت بالرعب على العدو وأوتيت جوامع الكلم وبينما أنا نائم أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي. قال أبو هريرة: وقد ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتم تنتثلونها [متفق عليه وقوله: تنتثلونها: قال النووي: يعنى تستخرجون ما فيها يعنى خزائن الأرض وما فتح على المسلمين من الدنيا (شرح النووي لمسلم 5/5)
(3) - قلت: هذا الحديث عن عمر - رضي الله عنهم - عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر] يا أيها الناس إني قد أعطيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي الكلام اختصارا ولقد أتيتكم بها ـ اى الشريعة ـ بيضاء نقيه [الحديث رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده وابن أبى حاتم وفى لفظ للطبراني: (أعطيت جوامع الكلم واختصر لي الحديث اختصارا) عن ابن عباس رضي الله عنهما(65/6)
والكلام الجامع هو ما قل لفظه وكثر معناه. وهذا الحديث كذلك فهذا الحديث جمع جميع أنواع المعاملة فلا تخرج معاملة للإنسان مع غيره عن هذا الحديث فمعاملة الإنسان لغيره تنقسم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما إما معاملة مع الخالق جل وعلا وقد أشار إلى معاملة الإنسان مع خالقه وربه جل وعلا جملتان في هذا] اتق الله حيثما كنت [وإذا قدر أنك وقعت في شيء من التفريط والخطأ في حق الله جل وعلا] فأتبع السيئة الحسنة تمحها [تب إلى ربك جل وعلا فهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، هذا فيما يتعلق معاملة الإنسان مع خالقه.
وأما معاملة المخلوق مع مخلوق آخر وخالق الناس بخلق حسن أن تكف عنهم الأذى وأن تبذل لهم الندى أي المعروف والإحسان ولذلك معاملة الإنسان لغيره لا تخرج عن هذين القسمين: معاملة المخلوق مع الخالق فيجب عليه أن يعظمه وان يتقيه بفعل ما أمر الله وترك ما عنه نهى الله وإذا وقع المخلوق في خطأ مع خالقه فعليه أن يصحح الطريق وأن يرجع إلى الله جل وعلى] وأتبع السيئة الحسنة تمحها [ومعاملة المخلوق مع المخلوق تكون عن طريق الشفقة والإحسان على هذا المخلوق واليه] وخالق الناس بخلق حسن [.
إخوتي الكرام: والحديث ـ كما قلت ـ أشار إلى معاملة هذين الصنفين. هذين القسمين معاملة المخلوق لخالقه ومعاملة المخلوق لمخلوق مثله. ولذلك كان هذا الحديث من جوامع الكلم التي اختص بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - وفضله ربنا بذلك على أنبياء الله ورسله على نبينا وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه.(65/7)
وقد يقول قائل أن معاملة الإنسان لغيره من بنى جنسه بالمعروف تدخل في تقوى الله جل وعلا فلا يبلغ الإنسان حقيقة التقوى حتى يقوم بفعل المأمور وترك المحظور ومن ذلك معاملة الإنسان لغيره فلم أفرد نبينا - صلى الله عليه وسلم - معاملة المخلوق المخلوق في قسم مستقل وجملة مستقلة؟ لِمَ لمْ يقتصر على قوله:] اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها [ويدخل في التقوى كما قلت في معاملة الإنسان لغيرة عن طريق تحكيم شرع ربه جل وعلا في تلك المعاملة فلا تحقق التقوى إلا بذلك إنما افرد نبينا - صلى الله عليه وسلم - معاملة المخلوق عن التقوى مع أنها فرد من أفرادها وتدخل في ضمنها تتضمن معاملة المخلوق بالتي هي أحسن افردها لئلا يظن ظان أن تقوى الله - عز وجل - مجرد صلة بين الإنسان وبين ربه جل وعلا ليبتعد بنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن المفاهيم التي ضل بها الأمم السابقة كما هو الحال عند النصارى وغيرهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة فالله - عز وجل - عندهم لا يعرف إلا في المسجد والتدين عندهم صله بين الإنسان وبين ربه ولا دخل للشريعة في شئون الحياة لئلا يقع الناس في المحظور بين نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن أمر الإنسان لا يتم ولا يقبل الإنسان عند الله جل وعلا إلا إذا اتقى ربه ومن ضمن ذلك معاملة الإنسان لغيره على حسب شرع ربه ولذلك قال: [وخالق الناس بخلق حسن] وقد أشار ربنا جل وعلا إلى أن من ضمن التقوى ويدخل في مفهومها معاملة الإنسان لغيره بالتي هي أحسن أن يخالقهم بالحسنى يقول جل وعلا ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ- من هم المتقون؟ - الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء (1) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ (2)
__________
(1) - وهذا هو بذل الندى والمعروف والإحسان إلى الغير
(2) - وهذا هو كف الأذى ومخالقة الناس بالتي هي أحسن. تقوم على هذين الركنين أن تكف عنهم (بياض) وان تتحمل منهم الأذى وان تحسن إليهم(65/8)
وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ (1) جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) (2) .
__________
(1) - اى المتقون الذين نعتهم (بياض) لعباد الله ويخالقونهم بالتي هي أحسن (بياض) الذين نعتهم أنهم يتقون الله جل وعلا واخطأوا في حقه تابوا إليه
(2) - آل عمران:133/136(65/9)
فمخالفة الناس بالحسنى هي من مفهوم التقوى ومما يدخل في عداد التقوى زاد النبي - صلى الله عليه وسلم - الجملة الثالثة أن عبادة الله لا تتم إلا إذا اتقيناه فيما بيننا وبينه واتقيناه فيما بيننا وبين خلقه جل وعلا فحكمنا شريعته جل وعلا في جميع شئون الحياة وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يركز على هذا المعنى في كثير من الأحاديث وبين أن مخالقة الناس بالتي هي أحسن ضرورية لينجوا الإنسان في الآخرة وكما قلت هذا مما يدخل في التقوى ثبت في سنن الترمذي وبن ماجه ومسند الإمام احمد وصحيح ابن حبان رحمهم الله جميعا بسند صحيح عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال عليه الصلاة والسلام [تقوى الله وحسن الخلق] وحسن الخلق هو من تقوى الله وهو من أعظم أفراده ولا يحصل للإنسان صفة التقوى إلا إذا فعل ما أمره الله وترك ما نهاه عنه فإذا كان حسن الخلق هذا مما أمرت به لكن كثيرا من الناس يظن إذا حسن صلته بينه وبين ربه قام الليل وصام النهار وآذى الجار سيدخل الجنة هيهات هيهات كما ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام [والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الذي لا يأمن جاره بوائقه [أي شروره وبلاياه واعتدائه لا يأمن شره هذا ليس عند الله من عداد المؤمنين فكيف إذا سيحصل فيه صفة التقوى إذا آذى عباد الله ولم يحسن صلته بهم على حسب ما شرع الله جل وعلا؟ أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وما أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال] الأجوفان الفم والفرج (1) [وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - ينبه على هذا المعنى أيضا في أحاديثه
__________
(1) - قلت: الحديث تكملة لحديث أبى هريرة - رضي الله عنهم - المتقدم والذي خرجه البيهقى والبغوى والمنذرى وغيرهم إضافة لما ذكره شيخنا(65/10)
الكثيرة ففي سنن الترمذي وغيره بسند حسن من حديث أبى حاتم المزني - رضي الله عنه - والحديث روي عن أبى هريرة وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال] إذا جاءكم- وفى رواية ولفظ -إذا أتاكم ـ من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالوا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان فيه؟ (1) قال:- إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنه في الأرض وفساد كبير [أعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الجملة ثلاث مرات.
الشاهد: دينه وخلقه ومتى انفصل الخلق عن الدين؟ هو من الدين. وهو كما قلنا من أجزاء الدين وهو بعض من أبعاض التقوى ولا يكمل دين الإنسان ولا تحصل التقوى فيه إلا إذا قام بذلك الجزء وحسن المعاملة وصلته مع عباد الله. إذن لم أفرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر؟ كما قلت: ليبين لنا أن التقوى وان دين الله لا يتم في حقنا إلا إذا حسنا صلتنا بيننا وبين خالقنا وحسنا صلتنا بيننا وبين المخلوقين [اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنه تمحها] .
هذا خاص فيما بينك وبين ربك ثم تأتي بعد ذلك ما بينك وبين العباد [وخالق الناس بخلق حسن] .
إخوتي الكرام فلنأخذ الجملة الأولى من هذا الحديث ولنبدأ بمدارستها نسأل الله جل وعلا أن يفتح علينا وان يعلمنا وان ينفعنا بما من به علينا انه ارحم الراحمين وأكرم الاكرمين.
قوله صلى الله عليه وسلم [اتق الله حيثما كنت]
المبحث الأول: في بيان معنى التقوى.
التقوى مأخوذة من الوقاية وهى أن تجعل وقاية وحاجزا وسدا وحصنا وحائلا ومانعا بينك وبين ما يؤذيك وما تكرهه وما يضرك، ما يضرك تجعل بينك وبينه حاجزا هذا يقال له وقاية.
__________
(1) - أي فيه شيء مما لا يرغبه أهل الدنيا من فقرا ودمامة أو غير ذلك من الاعتبارات التي يتعلق بها أهل الأرض(65/11)
والتقوى: أن يقي الإنسان نفسه من سخط الله وغضبه عن طريقين اثنين: بفعل ما أمر وترك ما عنه نهى وزجر سبحانه وتعالى إذن إذا اتقى الإنسان غضب الله وحذر من سخطه وفر من لعنته بواسطة فعل أوامره واجتناب نواهيه فهو متقى لله جل وعلا إذن اصل التقوى من الوقاية يقال، اتق المكروه ودفع المكروه عنه قال النابغة الذبياني في وصف امرأة من العرب ليت المسلمين في الجاهلية يتخلقون بهذا الخلق الجليل الذي كانت تقوم به أمراه في الجاهلية يقول:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه (1) ... فتناولته واتقتنا باليد
معنى اتقتنا: يعنى من التقوى اتقتنا أي جعلت بين نظرنا ووجهها وقاية وهو اليد وهذا حقيقة ما أدركت عليه النساء في المزارع وفى القرى في بلاد الشام فعندما كان الإنسان في طهارة وعندما كانت الانسانيه في طهارة وإسلام وإحصان يمر الإنسان بالمزرعة فبمجرد ما ترى إنسانا تضع يدها على وجهها هذه هي التقوى.
__________
(1) - إنما لعب (بياض) بالخمار على رأسها فطار(65/12)
قال عمر بن الخطاب لأبى بن كعب - رضي الله عنهم - أجمعين يا أبى يا أبا المنذر ما معنى التقوى؟ وأبى سيد القراء كما ثبت في المسند وسنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام انه قال [أقرؤكم أبى] أبى بن كعب هو اقرأ هذه ألامه لكلام الله - عز وجل - وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا انه قال لأبى بن كعب [يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقلت- بعد أن فكر- آية الكرسي فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر] أي هنيئا لك بالعلم وبهذا التوفيق ومنة الله عليك أنك اهتديت إلى المطلوب أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي. فعمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - قال لسيد القراء أبى ابن كعب ما حقيقة التقوى؟ وما معنى التقوى التي أكثر الله من ذكرها في كتابه؟ فقال أبى يا أمير المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين أما سلكت طريقا ذا شوك قال بلى قال فماذا كنت تفعل قال كنت أشمر ثيابي وأحترز قال هذه هي التقوى نشمر في طاعة الله وأحترز من معاصي الله شمر وجد في طاعة الله واحترز من سخط الله احترز وابتعد هذه هي التقوى قال الإمام ابن كثير في تفسيره عليه رحمة الله وقد اخذ ابن معتز هذا المعنى من أبى ابن كعب فنظمه في أبيات من الشعر فقال- ونعم ما قال:
خلى الذنوب صغيرها ... وكبيرها ذاك التقى
وصنع كماش فوق ... ارض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن ... الجبال من الحصى(65/13)
إخوتى الكرام: والتقوى تضاف إلى الله جل وعلا وقد أضافها إليه وامرنا أن نتقيه في آيات كثيرة في كتابه فقال جل وعلا ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم)) (1) ((اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)) (2) في آيات كثيرة وإذا أضيفت التقوى إلى الله فالمراد منها ومعناها أن نتقى غضبه وسخطه وأن نحذره جل وعلا فلا نترك ما أمرنا به ولا نرتكب ما نهانا عنه وأحيانا تضاف التقوى إلى سبب سخط الله ولعنته وغضبه أو إلى الزمان الذي يحصل فيه ذلك وبكل من الأمرين ورد الأمر في كتاب الله جل وعلا قال الله جل وعلا ((وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)) (3) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ)) (4) وفى ذلك اليوم يظهر السخط والمقت واللعنة والغضب على من عصى الله بفعل ما نهاه أو ترك ما أمره به فأضيفت التقوى إلى الزمان الذي يظهر فيه سخط الله على أتم وجه وأكمله في ذلك اليوم على العصاه ((وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)) وأضفيت إلى المكان الذي تحصل فيه لعنة الله وسخطه وغضبه ومقته وهو نار جهنم ((فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)) (5) وقد أضيفت التقوى في كتاب الله إلى هذه الأمور الثلاثة:
1. إلى الله ((اتقوا الله)) (6) .
2. إلى مكان سخط الله ولعنته فهي غضبه وعذابه النار يعذب بها من شاء من عباده الفجار ((فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)) .
3. إلى اليوم الزمن الذي ظهر فيه ذلك السخط ((وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)) .
__________
(1) - النساء: 1
(2) - الأحزاب: 70
(3) - البقرة: 281
(4) - لقمان: 33
(5) - البقرة: 24
(6) - البقرة: 189(65/14)
هذا فيما يتعلق بمعنى التقوى وبإضافتها إلى الله جل وعلا والى الزمن الذي يحصل فيه سخط الله والمكان الذي يتجلى فيه غضب الله.
المبحث الثاني
في بيان الأمور التي تحصل بها تقوى الإنسان لربه جل وعلا
إخوتي الكرام: للتقوى أركان أساسية ومتممات تحسينية، فإذا ذهب شيء من الأركان الأساسية خرج الإنسان عن حيز التقوى وسيناله الخوف والفزع والله جل وعلا يتخلى عنه ويكله إلى نفسة وأما الأمور التحسينية إذا وجدت في الإنسان واتصف بها ترفعه درجات عالية. وإذا فرط فقد تعرض لشيء من الخطر لكن إذا لم يتجاوزها فلا زال ضمن عباد الله المتقين.(65/15)
أما الأركان الأساسية فلا تحصل التقوى في الإنسان إلا بنوعين اثنين: فعل ما أمر الله به أمر إيجاب. وترك ما نهاه الله عنه نهى تحريم إذن يفعل ما أوجبه الله عليه ويترك ما حرمه عليه. هذا من أركان التقوى الأساسية بحيث إذا فرط في شيء من ذلك لا ينال وصف المتقين ولا يدخل في عداد المتقين. ثبت في مسند الإمام احمد وصحيح مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[قال اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإنه اهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم] الظلم: هذا من الكبائر والشح هذا من الكبائر إذا كان البخل من الكبائر فكيف بالشح؟ والشح هو زيادة بخل وقيل: الشحيح هو الذي يبخل بمال غيره. والبخيل هو الذي بمال نفسه. يعنى هذا لا يجود ولا يؤدى ما علية ولا يريد أحدا أيضا أن يحسن إلى فقير. سبحان الله إلى هذا الحد: هو ما دفع ما عليه. هذا بخل وإذا رأى أن إنسانا دفع ما أوجبه الله عليه وساعد به محتاجا يغضب ويضيق صدره. فهذا شح فإذن أعظم من البخل. فإذا كان الأمر كذلك لا يريد أن يرى إحسانا على وجه الأرض. اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم إما هو أعظم البخل وإما هو كما قلنا _ بخيل يبخل بمال نفسه وشحيح يبخل بمال غيره فالشح من الكبائر، والظلم من الكبائر فمن وقع في شيء من ذلك خرج عن وصف التقوى.(65/16)
وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه الكثيرة إلى وجوب ترك ما حرمه الله علينا لننال وصف المتقين فمن فعل شيئا من ذلك خرج عن عداد المتقين وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي وابن ماجه (1) عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:] من يأخذ عنى هذه الكلمات فيعمل بها أو يعلم من يعمل بها؟ فقال أبى هريرة - رضي الله عنه - أنا يا رسول الله - رضي الله عنه -[وهو حقيقة أحرص الصحابه على العلم بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري قال: قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال [لقد ظننت ألا يسألني هذا السؤال أحد غيرك لما رأيت من حرصك يا أبى هريرة أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله إلا الله صدقا من قلبه – وفى رواية: خالصا من قلبه] هذا أبو هريرة - رضي الله عنه - فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما عرض هذا الأمر. من يأخذ هذه الكلمات فيعمل بها أو يعلم من يعمل بها. فقال أنا يا رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الذي جند نفسة لتلقى العلم ونشره - رضي الله عنه - وعن سائر الصحابه الكرام. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[اتق المحارم تكن أعبد الناس وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا وأحب الناس ما تحب لنفسك تكن مسلما وإياك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب] صدق نبينا - صلى الله عليه وسلم - الشاهد في الجملة الأولى اتق المحارم تكن أعبد الناس ما حرمه الله عليك ابتعد عنه ولذلك كان عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - يقول ليس التقى بمن يقوم الليل ويصوم النهار ثم يخلط فيما بين ذلك ـ أي يعتدي ويطلق نظره وسمعه ولسانه وأحيانا يده إلى ما حرم الله.
__________
(1) - والحديث قال عنه الترمذي غريب لكن له شواهد كثيرة ترفعه إلى درجة الحسن كما نص على ذلك أئمة الحديث(65/17)
هذا ليس بمتقى إنما المتقى من يؤدى الفرائض ويجتنب المحارم فإن فعل بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير أي من أمور التطوع أما هذه فلابد منها لينال وصف المتقين. وقالت أمنا عائشة رضي الله عنها من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب. دائب مجتهد لكنه لا يحترس من المحارم. ماذا نفعه جده واجتهاده. وكل صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تزيد صاحبها من الله إلا بعدا من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب وهنا: اتق المحارم تكن أعبد الناس. فهذا من خصال التقوى الأساسية ومن أركانها الأساسية لا بد من فعل الواجبات وترك المحرمات لينال الإنسان وصف التقوى وليكون من المتقين لله رب العالمين.(65/18)
وهذا الأمر الذي وضحه نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذين الحديثين أشارت إليه آيات القرآن الكثيرة ففي مطلع القرآن وأول سورة فيه بعد الفاتحة وهى سورة البقرة وأول ما نزل في المدينة المنورة يقول ربنا جل وعلا في بداية السورة [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] (1) ثم ذكر نعوت المتقين وبأي شيء يحصل ذلك الوصف فيهم وكما قلنا لا بد من القيام بما أوجبه الله وترك ما نهانا عنه نهي تحريم ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ُينفِقُونَ. والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (2) وقال ربنا جل وعلا في سورة البقرة بعد آيات منها ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (3) إذا أردتم أن تكونوا من المتقين فلا بد من عبادة رب العالمين ولما اخبرنا في وسط السورة أنه شرع ما شرع لنا من الأحكام والحدود.
__________
(1) - البقرة: 2
(2) - البقرة:3/5
(3) - البقرة: 21(65/19)
أخبرنا انه فعل ذلك لنقوم لهذه الأمور التي شرعها لننال وصف التقوى فإذا فرطنا في ذلك فلسنا من المتقين بقول الله جلا وعلا ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (1) فإذا فرطتم في هذا وأهملتم حدود الله وما نفذتم ما شرعة الله خرجتم عن المتقين وهكذا بعد آيات تعرض الله جل وعلا لفرضية الصيام فأخبرنا انه شرع لنا هذه الفريضة ليحصل فينا وصف التقوى فمن تركها فليس من المتقين ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (2) وهكذا في سائر سور القرآن يخبرنا الله جل وعلا في سورة الأنعام مثلا انه انزل علينا هذا القرآن وامرنا بالالتزام بالإسلام ليحصل فينا وصف التقوى لربنا الرحمن ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (3) فالإنتماء إلى غير الإسلام من وطنية أو قوميه أو حزبية مهما كان شأنها خروج عن التقوى ومن دعيا إلى ذلك فهو من دعاة الجاهلية كما قال خير البرية - صلى الله عليه وسلم - ووضح أن من دعيا لغير الإسلام فهو من دعاة الجاهلية [انك امرئ فيك جاهلية] عندما عير أبو ذر بلالاً - رضي الله عنه - أجمعين بأمه [أعيرته بأمه؟ انك امرئ فيك جاهلية] (4) فإذن (بياض) ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ)) بدعوى الجاهلية مهما كان شأنها وطنية قومية أحزاب ردية وجدت في هذه الأوقات من دعي إلى شيء منها فهو من دعاة الجاهلية وليس من المتقين وبالتالي ليس من المؤمنين كما سيأتينا لأن الذي يساوي التقوى والإيمان
__________
(1) - البقرة: 179
(2) - البقرة: 183
(3) - الأنعام:153
(4) - الحديث متفق على صحته وهو من رواية أبى ذر - رضي الله عنه -(65/20)
كما سيأتينا إيضاح هذا بآيات القرآن وأخبرنا الله جل وعلا انه انزل علينا هذا القرآن ليحصل لنا به وصف التقوى يقول الله جل وعلا ((وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) (1) ليحصل لهم وصف التقوى لريهم جل وعلا إذن هذه أركان أساسية أن يفعل الإنسان ما أمرة الله به أمر إيجاب آو ارتكب ما نهاه الله عنه نهى تحريم وعليه فمن فرط بما أمره الله به أمر إيجاب أو ارتكب ما نهاه الله عنه نهى تحريم فليس هو عند الله من المتقين، لابد من القيام بهذين الأمرين ركنان أساسيان لحصول التقوى في الإنسان فعل الواجب وترك المحرم.
__________
(1) - (بياض) أي الكامل فيها لصبح من الراسخين فيها(65/21)
نعم هناك بعد ذلك متممات كما قلنا محسنه تزيد تقوى ورسوخا في صفة التقوى وترفعك درجات عالية عند المولى جل وعلا وهى أن تفعل ما أمرك الله به أمر إيجاب وأمر استحباب وان تترك ما نهاك الله عنه نهى تحريم ونهى كراهية تنزية وان تضيف إلى ذلك ألا تنهمك في المباحان واللذائذ خشية أن تجرك إلى شيء من المفاسد والقبائح فإذن هذه متممات: فعل المستحبات ترك المكروهات. يزيد على هذين في الرتبة: عدم الانهماك في الفضول المباحات لان المباح سترة بينك وبين المكروه سترة بينك وبين الحرام، فمن توسع في المباح وقع في المكروه ومن توسع في المكروه وقع في الحرام. بعد ذلك سلسلة متصل بعضها ببعض. وبعضها يجر بعضاً وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا ففي سنن الترمذي وابن ماجة ومستدرك الحاكم وسنن والبيهقي رحمهم الله جميعا بسند صحيح عن عطية السعدي - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لا يبلغ العبد درجه المتقين ـ أي الراسخين في التقوى المتمكنين منها الذين نالوا أعلاها وأرفعها ـ] حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس [هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أي يترك شيئا من المباحات خشية أن تجره إلى المكروهات ثم إلى المحرمات] حتى يدع ملا بأس به خذرا مما به بأس [وقد ثبت في صحيح البخاري في أول كتاب الإيمان في أول باب فيه وهو باب أمور الإيمان معلقا بصفة الجزم عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال] لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يترك ما حاك في الصدر [أي ما تردد في صدرك هل هو حرام أو حلال هل هو حلال أو فيه شائبة بمجرد ما تردد بين الحظر والإباحة تغلب جانب الحظر وتطلب الاحتياط ولا تفعله لأنك لو رتعت فيه لربما كان محرما وأنت لا تدرى.(65/22)
وهذا الذي نقل عن ابن عمر ثبت معناه مرفوعا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم لكن لما يكن الحديث على شرط البخاري لم يورده في صحيحة وهو عن النواس بن سمعان عندما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -] جئت تسأل عن البر ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وان أفتوك وأفتوك [والحديث روى أيضا في غير صحيح مسلم في المسند والدرامي عن وابصه بن معبد] البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس [ (1) وواقع الأمر كذلك فأولا قلبه غير مطمئن تراه يقدم رجلا ويؤخر أخرى ثم يستحى من أن يطلع عليه الناس هذا إثم] والإثم ما حاك في صدرك ما تردد في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس [ولذلك] الإثم حزاز القلوب] (2)
__________
(1) - قلت: نص حديث النواس في مسلم: عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال] البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. [ونص حديث وابصة: عن وابصة بن معبد - رضي الله عنه - قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:] جئت تسأل عن البر؟ قلت نعم قال: استفت قلبك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وان أفتاك الناس وأفتوك [قال ابن رجب الحنبلي في ((جامع العلوم والحكم)) صـ237: خرجة ــ أي حديث وابصة ــ الإمام أحمد والدارمي. والبزار. والطبراني. وابن حبان في صحيحة عن أبى أمامة. وقال بن رجب عن رواية ابن حبان: هذا إسناد جيد على شرط مسلم.
(2) - قلت: هذا الأثر وارد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال] الإثم حزاز القلوب [رواه البغوي وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم صـ 237: وقد صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال....... الحديث واحتج به أحمد اهـ..وللبيهقي:] الإثم حواز القلوب [ورجح المنذري (بياض) على ابن مسعود (الترغيب 3/37)(65/23)
أي يحزها ويؤثر فيها ويغيرها بينما البر هذا يطمئن إليه القلب والنفس.
الشاهد في صحيح البخاري كلام ابن عمر - رضي الله عنه - لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في صدره. وثبت في كتاب " التقوى " لابن أبى الدنيا ألف كتابا أسمة التقوى عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - انه قال: تمام التقوى أن يدع الإنسان شيئا من الحلال خشيه الحرام. هذا التمام والكمال. وكما قلنا هذه محسنات وثبت في سنن الترمذي بسند متصل عن ميمون بن مهران وهو من أئمة التابعين رحمهم الله جميعا قال: لا يكون العبد تقيا حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكة من أين مطعمة ومن أين ملبسة؟ فيقف عند هذه الدقائق وبحاسب نفسة لينال كمال التقوى وقال الحسن البصري ما زالت التقوى بأهلها حتى تركوا شيئا من المباح خشية الحرام.
إذن المبحث الثاني يتلخص في أركان التقوى وفى الأمور التي تحصل بها التقوى أركان أساسية إذا ضاع شيء منها خرج الإنسان عن وصف التقوى. إن يترك واجبا أو يفعل محرما لا تحصل التقوى إلا بفعل جميع ما أوجبه الله عليك وبترك جميع ما نهاك عنه ثم بعد ذلك إن أردت أن تنال الدرجة العالية في التقوى فضم إلى الواجبات المستحبات وضم إلى ترك المحرمات ترك المكروهات وضم إلى هذين الأمرين عدم التوسع في المباحان خشية أن تجرك إلى الشوائب والمكروهات.
المبحث الثالث
ما الطريق الذي يوصلنا إلى التقوى؟(65/24)
إخوتي الكرام: هذا المبحث هو مبحث موجز لكنه مهم. لا يمكن للإنسان أن يتقى ربه إلا إذا عرف الأمور التي يحصل بها تقوى الإنسان للعزيز الغفور. أي إذا عرف الحلال وعرف الحرام وهذا لا يكون إلا عن طريق العلم وعليه فلا يمكن للجاهل أن يتقى ربه والجاهل أن يتقى ربه يبعد عنه وهو لا يدرى، ومن عبد الله علي جهل فما يفسده أكثر مما يصلحه فلذلك لا بد من تعلم العلم النافع لتعرف كيف تتقى ربك جل وعلا، فكم من انسان يأكل الربا وهو لا يدرى الحكم فيه؟ كم؟ والتبايع بالعينة كثير من الناس يقعون فيه وهو يظن انه نوع من المبايعات ولما وقع فيه زيد بن أرقم قالت أمنا عائشة: أخبروه أن حجه وجهاده قد بطلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب.
والبيع بالعينة ما أكثر ما يفعله الناس في هذه الأيام ولربما يخرج من الصلاة ويتبايع بالعينة على باب المسجد، إن لم يجر العقد أيضا داخل المسجد بعد الصلاة، فيرتكب محظورين.(65/25)
أولا: باع واشترى. لا أربح الله تجارته. ثم باع واشترى بيعا فاسدا خبيثا محرما. البيع بالعينة: أن يبيع هذه السلعة نسيئة ــ أي إلى أجل ــ بثمن معلوم أبيعك هذا الكتاب بمائة درهم إلى شهر ثم اشتريه منك نقدا حالا بثمن معلوم. أبيعك هذا الكتاب بمائة درهم إلى شهر ثم اشتريه منك حالا بثمن أقل فعاد الكتاب إلى وسآخذ فرق الثمن. أنا بعتك إياه بمائه إلى شهر واشتريته منك بخمسين نقدا إذن الكتاب عاد لي أو ليس كذلك؟ وأعطيتك خمسين وأنت ماذا سترد لي بعد شهر مائه هذه هي العينة هذه ليست ربا واضحة. هذه ربا بعد لف دوران مثل ما يفعل ألان الشركات الإسلامية. يأتي هذا المسكين يريد أن يشترى سيارة طيب إما باعدوه وإما تركوه يمشى على رجليه أو يركب حمارا يعنى لازم تسلخون جلدة باسم المعاملات الإسلامية يقولون: أي سيارة تريد من أي نوع؟ اذهب وابحث في المعارض فيذهب ويأتي ويقول حصلت سيارة بثمانين ألفا يقولون تعال نحن نشتريها لك بثمانين لكن بكم سنة ستدفع لنا الفلوس؟ يقول لسنة يقولون: إذن بتسعين ــ القيمة لسنتين إذن بمائة لثلاث سنوات إذن بمائة وعشرة على حسب ما تحدد والسيارة لا زالت في المعرض عند صاحبها. بعد ما يتفق صاحب المؤسسة الإسلامية مع المشترى على السعر يقول اشتريها وأنا ادفع الثمن والبطاقة أو الاستمارة تخرج باسم المشترى لا باسم ـ أيضا ــ الشركة الإسلامية. طيب يا عباد الله هذا بأي شريعة بحق؟ ! يقول هذا بيع وشراء إذا كان الإنسان لا يعرف ما أحل الله وما حرم يقع في الربا وهو لا يدرى. إذا كان لا يعرف ما احل الله وما حرم تخرج النساء. يقول الذي حرم الله هو الزنا. كما يقول الناس في هذا العصر الهابط. يقول الإنسان يصون فرجة. أما ينظر. يجلس يحادث يتكلم كل هذا لا حرج فيه. على تعبيرهم القلب نظيف.(65/26)
إذن من الذي قلب خبيث خسيس؟ يعنى قلوب الصحابة فقط كانت قلوب فاسدة ونحن قلوبنا طاهرة: تراه يجلس ويفعل كل رذيلة تقول عبد الله اتق الله يقول أنا أصون فرجي وأحفظ عرضي. القلب نظيف. وابنته تخرج تجول ذات اليمين وذات الشمال نقول: يا عبد الله كيف تترك ابنتك وزوجتك ومحارمك تذهب هنا وهناك؟ يقول أنا أعرفها عفيفة تصون فرجها. لو قلنا صانت فرجها وأنت صنت بياض يجوز فعل هذا الأمور التي هي بياض الذي حرم الزنا حرم بياض حرم الخلوة وبياض إبداء المرأة لشيء من زينتها. وقال جل وعلا (( {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)) (1) ما قال احفظوا الفروج فقط. إذن عندما حفظ للبصر وحفظ للفرج إذا لم تعرف كيف تتقى الله ستتقيه؟!] النظرة سهم مسموم من سهام إبليس [ (2) والنظرة تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة، يخرج من الصلاة وينظر إلى هذه وتلك. ماذا استفاد من صلاته؟ ما استفاد من صلاته شيئا.
__________
(1) - 30: النور
(2) - قلت: هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعنى ربه - عز وجل -] النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه [رواه الطبراني واخرجة الحاكم من حديث حذيفة وقال: صحيح الإسناد. (الترغيب والترهيب 3/34)(65/27)
آمر آخر: الإنسان عندما لا يعرف الأمور التي ينبغي أن يفعلها والأمور التي ينبغي أن يتركها وأن يقف عند حد الله وعند حدود الله وألا ينتهك محارم الله وقد يخرج من الإسلام وهو لا يدرى. أحينا عن طرق حمية الجاهلية. وأحيانا عن طريق التأويل الخاطىء الذي تعج به الحياة في هذه الأوقات] إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه القاتل فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبة [ (1) سرح نظرك في أحوال المسلمين وانظر كيف يمدون أيديهم بغير حساب في الدم الحرام. مع انه يظن انه يصلى وأحيانا يطلق الرصاص وهو بعد ذلك يصلى على إخوانه المؤمنين كيف هذا يقول: أنا أمرت بأن أخرب هذه البلدة وأن أدمرها على من فيها باغي وفيها تقي وفيها صديق وفيها زنديق وفيها امرأة وفيها رجل فيها كبير وفيها صغير كل هذا لا تبالي به؟ يقول: أوامر! أي أوامر؟ أوامر عسكرية طيب أين أوامر رب البرية؟ إذا كان صعلوك من البشر يأمرك فتنفذ أمرة. كيف لا تنفذ أمر الله بأي شرعية تستحل قتل مؤمن وإراقة دم مؤمن بأنك أمرت!! حالنا الان كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث قي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول] يأتي على الناس زمان لا يدرى القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل [تسأل الناس لم قتلتم؟ يقولون ما ندرى. جاءت قنابل مثل المطر قتلتنا لم؟ ما ندرى وتسأل ذلك لم ألقيت القنابل يقول مأمور. مأمور لم؟] لا يحل دم امرىء مسلم يشهد ألا اله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينة المفارق للجماعة [ (2)
__________
(1) - في الصحيحين من حديث أبى رضي الله عنه.
(2) - قلت: الحديث متفق على صحته من حديث عبد الله - رضي الله عنه - والحديث أخرجه أيضا الأمام احمد في مسندة والترمذي. وابن ماجة. والنسائي وأبو داود..عن عبد الله مسعود رضي الله عنهما(65/28)
فكيف قتلته؟ إذا لم.
إذا لم تعرف كيف ستتقى الله قد تفهم وتفسر التقوى بما خافه وخشيه علينا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومن أجله ذكر الجملة الثالثة فقال.] وخالق الناس بخلق حسن] تظن أنك إذا صليت اتقيت الله. لا يا عبد الله ثبت في سنن أبى داود بسند صحيح كالشمس عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله ـ وضبط بالعين المهملة: إعتبط بقتله ـ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً] قال يحي الغساني: هذا كما يكون في الفتن بين المسلمين يقتل بعضهم بعضاً ثم لا يتوبون. فكيف سيتقي الله، قتل مؤمنا وهو فرح مسرور بياض عادت ـ على تعبيرهم ـ الطائرات إلى قواعدها سالمة، بعد أن دمرت بلاد المسلمين وقتلت النساء والصبيان. من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله أي قتله اعتباطاً بلا مبرر ولا سبب ولا حق، إنما أمر على زعمه فينفذ الأوامر. لا يقبل الله منه فريضة ولا نافلة.(65/29)
فإخوتي الكرام: لا بد للإنسان من معرفة ما يتقى به ربه، الآن الفتن التي حصلت بين المسلمين والجماعات والأحزاب. وكل واحد يكيد للآخر باسم الإسلام أيضاً فيصل الأمر في كثير من الأحيان إلى استحلال إراقة الدماء. هذا فضلاً عن العداوة والبغضاء التي دون ذلك هذا مما خشية علينا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي مسند أبى يعلى ومسند البزار بسند صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [إن مما أخشى عليكم رجلاً قرأ القرآن حتي إذا رؤيت عليه بهجته ونضارته وكان ردء الإسلام اعتزل إلي ما شاء الله ثم انقلب على جارة ورماه بالشرك وقاتله بالسيف (1) قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحق بالشرك الرامي أو المرمي؟ قال: بل الرامي] فإذن لا بد من معرفة خصال التقوى.
__________
(1) - كما يقع الآن بين من ينتمون إلى الأحزاب يدّعون أنها إسلامية. وقتال فيما بينهم [انقلب على جاره يرميه بالشرك ويقاتله بالسيف] .(65/30)
إخوتي الكرام: عقد الله بين المؤمنين إخاءً من خرج عنه يوليه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا. فقال: ((اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (1) وكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أخوك سواء كان في أمريكا أو بلدتك. أو كان في مجاهيل أفريقيا. وإذا لم تحزن لحزنه ولم تفرح لفرحه فلست عند الله من عداد المؤمنين. فإذا كان الأمر كذلك فكيف إذا نفرق بين المؤمنين. وكيف يستحل بعضنا دم بعض؟ فلا بد إذن من معرفة الأمور التي تحصل بها التقوى. ولا تظنوا كما ـ قلت ـ إن هذه الكلمة يسيره. هي قليلة، لابد لمعرفة التقوى، لا بد لحصول التقوى معرفة ما نتقى به ربنا من العلم الذي فرضه الله علينا أن نتعلمه. ولذلك لا بد من تعلم العلم الذي أمرنا به. جاءني بعض الإخوة الطلاب يقول لي: يا شيخ تكلمت أنت عن تعلم الأنجليزى وما شاكل هذا. وأنا مضطر لتعلمه ما رأيك؟ قلت: لا حرج في تعلم الانجليزى فقال: إذا أخذت دورات في تعلم الانجليزى علىّ حرج؟ قلت لا حرج إن شاء الله تصبح أعلم الناس في اللغة الإنجليزية لا حرج في ذلك. وإذا قصدت خيرا لعلك أن شاء الله تثاب ذلك. جاءني بعد فترة يقول يا شيخ أنا سجلت في دورة يُدَرّس فيها رجل وامرأتان واحدة متهتكة بريطانية ـ في هذه البلدة هنا والأخرى يقول مسلمة؟. يعنى ليست متهتكة. على تعبيره تغطى رأسها وكاشفة. ورجل معنا يدرسنا ـ الأستاذ ـ ثم ذهب وانفرد الآن المرآتان بتدريسنا فماذا اعمل؟ هذا حلال أم حرام؟ قلت يا عبد الله أنت كنت في تعلم إنجليزي وإذ ذهب بعد ذلك لتتلقى دين الإنجليزى!! يعنى يقول تعلم لغتهم لا تتلقى دينهم كيف تأخذ العلم عن هذه المرأة إن كانت على تعبيرك عندها شيء من الاحتشام أو متهتكة تمام التهتك كيف هذا؟ البلاء ـ يقول لي: ـ استفتيت عدداً من الناس في هذه البلدة فقالوا لا حرج هذا في سبيل العلم وتحصيل العلم.
__________
(1) - الحجرات: 10(65/31)
قلت: هكذا؟ أفتوك؟ ! قال نعم لا إله إلا الله! يجلس يتلقى العلم من امرأة كاشفة عن صدرها وعن رأسها وعن وجهها، وكل حركة منها تزرع في القلب شهوة. (بياض) من اجل أن يتعلم بعد ذلك شيئا مباحاً يقع في أعظم المحظور. كيف سيتقى ربه من لا يعرف كيف سيتقيه؟ ثم يقول: عندما استفتى قالوا هذا في سبيل العلم؟ في سبيل العلم لا حرج. وأحكى لكم قصة أشنع من هذه بكثير. أخبرني بعض الإخوة. يقول لي كنت في بلاد الشام وكلمت بعض اقاربى في أنه يرسل بناته في دورة في الصيف إلى خارج البلدة التي فيها أهلها باسم الفتوة والشبيبة (..!!) يبقون شهرا هناك طلاب وطالبات ما يفصلون الذكور عن الإناث إلا في الليل فقط. مخيمات هذه للإناث وهذه للذكور والذي يفصل الطلاب عن بعضهم ليس المدربون، المدربون يدخلون إلى اى خيمة أرادوا لان هؤلاء منة غير أولى الأربة. وهؤلاء من الطوافين يطوفون أيمنا أرادوا. لا إله إلا الله!! يقول لي: أكلم بعض أقاربي وعنده بنتان كل واحدة أجمل من القمر. قلت: كيف ترسل ابنتك شهرا إلى ذلك المكان شهرا كاملاً في العراء على شاطىء البحر باسم المدرسة. رحلة مدرسية. نشاط وتوجيه مدرسي شهراً كاملاً!؟ قال له بكل برود ـ كما قال الله جل وعلا: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ)) (1) إذا لم يكن عن الإنسان قلب فاسمع ماذا يقول وبكل لا مبالاة: قال: هذا في سبيل العلم العلم!. في سبيل تعلم العلم يخدش حياء المرأة أن لم يعتدي على عرضها في سبيل تعلم العلم؟ !
فإخوتي الكرام: لا بد من أن نعطى هذا الأمر ما يستحقه من العناية. التقوى لا تحصل إلا بمعرفة الأمور التي تحصل بها تقوى العزيز الغفور. عن طريق العلم النافع الذي فرض الله علينا أن نتعلمه.
المبحث الرابع
منزلة التقوى
__________
(1) - ق:37(65/32)
إخوتي الكرام: التقوى هي وصية الله لجميع خلقه: وهى وصية بنبينا لامته قال الله جلا وعلا ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ)) (1) وأخبرنا الله جل وعلا في كتابه في سورة الشعراء أن كل نبي مكان يقول لقومه ((أَلَا تَتَّقُونَ)) فقال جل وعلا في السورة ((كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} )) (2) ((كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ)) (3) . ((كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ)) (4) ((كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ)) (5) ((كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ)) (6) وفى أول السورة عندما اخبرنا الله جلا وعلا أنه أوحى إلى نبيه ونجيه موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى فرعون فقال له ((أَلَا تَتَّقُونَ)) (7) قل لهم ألا يتقوني ويوحدوني ويعبدوني ويطيعوني فيمتثلوا أوامري ويجتنبوا ما نهيتهم عنه! إذا كان كل نبي كان يطلب من أمته وقومه تقوى الله جل وعلا وهذا يوضح لنا أن التقوى هي الدعوة التي أرسل بها كل نبي فكل نبي كان يقول لقومه ((يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) (8) وعبادة الله جل وعلا تقوم على ركنين: أولهما اكتساب والثاني: اجتناب. الاكتساب ما هو؟ هو فعل المأمور. والاجتناب هو ترك المحظور.
__________
(1) - النساء: 131
(2) - الشعراء: 105، 106
(3) - الشعراء: 123، 124
(4) - الشعراء: 141، 142
(5) - الشعراء: 160، 161
(6) - الشعراء: 176، 177
(7) - الشعراء: 11
(8) - الأعراف: 59، 65، 73، هود: 50، 61، 84 المؤمنون: 23،32(65/33)
إذن ((أَلَا يَتَّقُونَ)) ، ((أَلَا تَتَّقُونَ)) هذه بمعنى ((يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) هذه بمعنى ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ)) (1) إنما قلنا التقوى فعل الأوامر واجتناب النواهي وكل نبي أمر قومه بهذا وكل نبي طلب من قومه أن يعبدوا ربهم. والعبادة تقوم على ركنين ـ كم قلنا ـ الاكتساب: وهذا هو فعل الواجبات والاجتناب: وهذا هو ترك المحرمات وعلية: وصى الله الأولين والآخرين بالتقوى وكل نبي كان يطلب من قومة أن يتقوا الله جلا وعلا. ((أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ)) (2) نعم إن التقوى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما بعبد من دونه. ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة ومسند الدارمى بسند حسن عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ قول الله تعالى في آخر سورة المدثر ((أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)) (3) فقال النبي [قال الله تعالى أنا أهلٌ أن أتقى فمن اتقاني فلم يشرك بي شيئا فأنا أهل أن أعفر له] فالتقوى كما قلنا ـ تعنى أعبد الله ما لكم من اله غيرة وثبت في تاريخ دمشق لابن عساكر. والأثر رواه ابن عبد البر في كتاب التمهيد.
__________
(1) - النحل: 36
(2) - الشعراء: 106،107
(3) - المدثر: 56(65/34)
والحديث ضعيف السند وما تقدم يشهد له ـ عن انس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندا أريد معاذ إلى اليمن - رضي الله عنه - قال له [يا معاذ اتق الله وخالق الناس بخلق حسن وإذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة ـ كما معنا في الحديث ـ فقال معاذ: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال: هي اكبر الحسنات] نعم من اتقى الله فلم يجعل معه إلها ولم يجعل لله شريكاً هو أهل أن يغفر له، والذي ينبغي أن نتقيه فلا يجعل له نداً سبحانه وتعالى ولامعه شريكاً وهو يغفر لنا بفضله وكرمه ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (1) .
وقد تواتر عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصيته لهذه الأمة بالتقوى والأحاديث في ذلك ـ كما قلت ـ متواترة منها: ما ثبت في المسند وسنن الترمذي وأبى داود وابن ماجة، والحديث في المستدرك ـ رحم الله أصحاب هذه الكتب أجمعين ـ بسند صحيح عن العرباض بن سارية قال. وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وزرفت منها العيون. فقلنا يا رسول الله ـ كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال [أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - ـ هذا أول شيء هذا كقول الله ((يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) والسمع والطاعة وان تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور. فأن كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالةـ وزاد النسائي: وكل ضلالة في النار] .
__________
(1) - النساء: 48(65/35)
وثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن انس - رضي الله عنه - أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سفراً فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد سفراً فزودني فقال: [زودك الله التقوى،فقال زدني فقال: وغفر ذنبك. قال. زدني. قال: ووجهك للخير حيث توجهت] وهذا ما يسن أن يقوله الإنسان في حال توديعه وتشيعه المسافر: زودك الله التقوى. وغفر ذنبك ووجهك للخير حيثما توجهت. أول شيء زودك الله التقوى. هذا خير زاد كما قال الله ((وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (1) وقال جل وعلا ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ)) (2) وثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رجلاً قال له: أوصني. فقال له: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما قلت لي. أوصني. فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنا أوصيك بوصيته: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -[أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء. وعليك بالجهاد فإنه رهبانية هذه الأمة. وعليك بذكر الله والقرآن فإنهما رَوْحُكَ (3) ـ بفتح الراء ـ في السماء ونور لك في الأرض] وقد ورد في بعض الروايات [فإنهما نور لك في السماء وذكر لك في الأرض] . [فإنهما روحك في السماء وذكرك في الأرض] .
__________
(1) - البقرة: 197
(2) - الأعراف: 26
(3) - أي راحتك(65/36)
وثبت في مسند الإمام احمد بسند حسن عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت للنبي أوصني. قال [أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته. وإذا أسأت فأحسن] وثبت في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الكبير وتفسير عبد بن حميد بسند صحيح كما قال الإمام السيوطي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر - رضي الله عنه - أيضا [أوصيك بتقوى الله فإنها راس الأمر] نعم. إن تقوى الله هي رأس الأمر وهي رأس كل شيء وهي جماع كل خير ولا يقبل الله غيرها ولا يرحم إلا أهلها، فهو الذي يتقبل من المتقين ولا يثبت إلا عليها وهي أكرم ما أسر العباد. وهي أزين ما اظهروا. وهى أفضل ما ادخروا تكفل الله لأهلها بالنجاة مما يحذرون والرزق حيث لا يحتسبون وقال جل وعلا: ((مَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا َيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)) (1) ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)) (2) . ((وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)) (3) قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لأبي الدرداء - رضي الله عنه -: لم تقول الشعر؟ فقال بيتين من الشعر.
يريد المرء أن يؤتي مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوي الله أفضل ما استفادا
__________
(1) - الطلاق: 2،3
(2) - الطلاق:4
(3) - الطلاق: 5(65/37)
فالسعادة في هذه الحياة والفرج من الكربات مقرونة بتقوى الله جل وعلا ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) (1) وقال ((يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) (2) وأما في الآخرة لا يناله إلا أهل التقوى. قال الله جلا وعلا ((لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)) (3) وقال ((وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)) (4) فلما أخبرنا الله جل وعلا عن حقارة الدنيا.
__________
(1) - الأعراف: 96
(2) - الأنفال: 29
(3) - الزمر: 20
(4) - الزمر: 73(65/38)
وخسة ما فيها فقال: ((وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)) (1) قال الله جل وعلا في آخر سورة القمر ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍفِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ)) (2) نعم إن الإنسان إذا اتقى الله فهو ولى الله والله وليه ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (3) وقال جل وعلا: ((وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ)) (4) فهم يوالون الله والله يواليهم إذا حصل منهم التقوى لربهم جل وعلا.
المبحث الخامس
ما هي علامة قبول التقوى؟ وما هو البرهان على صدق صاحبها؟
__________
(1) - الزخرف: 33 ـ 35
(2) - القمر: 54، 55
(3) - يونس: 62
(4) الجاثية: 19(65/39)
إذا قال الإنسان: أنا من المتقين. فهناك شيء يمز تقواه أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المتقدم وهو [اتقى الله حيثما كنت] وهذه الإشارة كلمة حيثما. هي ظرف مكان. اتقى الله في كل مكان تكون فيه. تقوه الله في الجلوه أمام الناس ما أيسره على الناس كما قال الله ((يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)) (1) فأمام الناس يظهر التمسك والخشوع والإخلاص. وإذا رآه الإنسان على تعبير الناس في بلاد الشام: ـ يقول انه ولى مقشّّر وإذا عاملة يراه بعد ذلك حشرة من الحشرات فلا بد إذا من تقوى الله في الخلوة خلوه وجلوه. سر وعلن. تقوى الله أيضا في العلن يسير. لكن تقوى الله في السر هنا هو الذي يميز صدقك من كذبك. والإنسان على نفسة بصيرة. إذا كنت مع الناس ومرّت امرأة تغض طرفك. هذه تقوى. وإذا كنت بمفردك لا تغض طرفك فاعلم أن الأولى نفاق مباشرة. لكن إن غضضت في تلك وفى هذه حقيقة هذه تقوى وأنت من المتقين. الإنسان على نفسه بصيرة. توفر لك أن تأخذ الحرام لكن أمام الناس ما أخذته. وإذا يتسر لك في السر أستزدت منه وتمنيت أن تحصل أضعافاً مضاعفة هذه هي الخيانة.
__________
(1) - في حق المنافقين. النساء: 18(65/40)
ثبت في سنن ابن ماجة عن ثوبان - رضي الله عنه - وهو حديث يخلع القلب. عن نبينا [لأعلمن أناساً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباءً منثوراً فقالوا: يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ صفهم لنا. جلهم لنا ألا نكون منهم ونحن لا ندرى! قال: أما إنهم إخوانكم، ويأخذون بحظهم من الليل كما تأخذون لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها] فقط في الخلوة يبارزون الله بالعظائم لكن في الجلوه متقون. من يستحى منه ثلاثة أصناف لا رابع لهم: الناس. ونفسك. والله. فإذا استحييت من الناس ولم تستح من نفسك فنفسك إذن أحسن وأحقر من الناس. فعظمت الناس واحتقرت نفسك. وإذا استحييت من الناس واستحييت من نفسك وقلت: وهذا لا يناسبني لكن لم تستحي من الله في فعل العظائم بعد ذلك فجعلت الله إذن أخس الأشياء. تستحي من الناس ولا تستحي من الله!! لو أن إنساناً أراد أن يفعل معصية من خلوة بامرأة عن طريق الحرام أو غير ذلك. ودخل عليه صالح يجلّه من قومه ماذا يكون حاله؟ يستحي غاية الحياء ويفتر ويقوم ولا ينفذ شهوته. فكيف لو دخل صالحوا قومه اجمعهم عليه؟ يتمني لو بلعته الأرض. طيب أنت لا تغيب عن نظر الله طرفه عين كما قال الله جل وعلا ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ)) (1) ولذلك أعظم واعظ وأبلغ زاجر نزل من السماء والي الأرض إعلام الله لعباده انه معهم أينما كانوا ولا تخفي عليه خافيه من أمرهم. وهذا المعني يقرره ربنا في جميع سور القرآن بحيث لا تخلو منه ورقه من ورقات المصحف. يا عبد الله إذا عصيت الله وقلت: لا يراني. كفرت. وإذا السابقة أن اله بقول للعبد إذا أغلق ستره وفعل المعصية: يا عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك؟ ! ولذلك قال رجل للإمام الجنيد ـ عليه رحمة الله: بم استعين على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر اله إليك أسبق من المنظور إليه.
__________
(1) - الحديد: 4(65/41)
أنت عندما تريد أن تنظر لو علمت أن الله يراك قبل أن تنظر إلى المنظور إليه لا ستحييت.
إخوتي الكرام: فلنستحي من الله جلا وعلا ذهبت مرة إلى بعض الإخوة الذين ابتلوا بما ابتلى به الناس في بيوتهم. نسأل الله العافية من سخطة. فلما دخلت عليه كان التلفاز شغال وفيه أشكال ألوان. أحمر وأصفر وكل يلهي ويتسبب في غضب الله ولعنته. فلنا دخلت قال لأولاده. جاء الشيخ!! لا إله إلا الله. قلت يا عبد الله من أجل عبد ضعيف لا يملك لنفسه ولا يعلم لا هو ولا أنت مصيره هل هو في الجنة أو في جهنم. من أجل عبد ضعيف استحييت وما أرادت أنني أراك تنظر إلى هذه الأشكال الخبيثة في هذا الجهاز الخبيث؟ إلا تستحلا من الله؟ ! مخلوق ضعيف دخل عليك قال: " صكوا التلفزيون" وإذا جاء هذا " صكوه " هذا شيخ!! ورب العالمين ليس به قيمة عندك؟ كيف من أجل الشيخ " تصك التلفزيون " ومن أجل الله لا " تصكه "؟! أتجعل الله أهون الناظرين إليك؟ "وهو معكم أينما كنتم".
إخوتي الكرام: لا بد إذن من هذا المحك الذي يظهر المتقى من المخادع. ولذلك أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن التقوى حقيقتها ليست أشكالاً ظاهرة ليست هذه الحقيقة. هذه صور للتقوى. إنما حقيقة التقوى هي معانٍ راسخة في القلب. إذا ثبتت تخرج عنها أشكال منضبطة بفعل ما أمر وترك ما عنه نهى وزجر وحذر غنما هذا الأصل في القلب أما إذا لم يكن هذا المعني في القلب فأمام الناس تتقي وفى الغيبة لا تتقى أمام الشيخ " صكوا التلفزيون " وعند خروجه افتحوه على مصراخيه على كل شيء!! إذن هذه ليست تقوى. هذا إذن القلب خبيث ليس فيه تقوى.
ولقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا. فانتبهوا لهذا المعنى. ثبت في مسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:(65/42)
[لا تحاسدوا (1) ولا تناجشوا (2) ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. بحسب امرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم التقوى ههنا ـ ثم أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره ثلاثاً ـ كل المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه] .
إذن التقوى أصلها في القلب إذا وجدت تدفعك إلى تقوى الله حيثما كنت في السر والعلن. في الخلوة والجلوه. أمام الناس يستحى وعندما يختفي عنه الناس لا يبالى بالمعصية. لذلك إخونى الكرام لا بد أن توجد هذه المعاني في القلب ز هذا هو الذي يريده الله من عباده صفاء قلوبهم وطهارة سريرتهم ((لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ)) (3) وهى النيات الخالصة التي محلها القلب. كما قال: - صلى الله عليه وسلم -[التقوى ههنا التقوى ههنا التقوى ههنا] إخوتي الكرام: كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يدعو الله أن يرزقه التقوى. كما أوصانا بذلك فلنذكر حديثين من ذلك ونختم يهما هذا المبحث. ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وابن ماجة، والحديث في المسند ـ رحم الله أصحاب هذه الكتب أجمعين ـ عن عبد الله بن مسعود عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى] .
__________
(1) - الحسد: أن تتمنى زوال النعمة عن غيرك.
(2) - النجش: أن تزيد في السلعة ولا تريد شراءها. أو أن تذكر إطراء لها ووصفاً حسناً (بياض) من أجل أخديعة المشتري. من أجل أن يشتريها بثمن أغلى مما نستحقه
(3) - الحج: 37(65/43)
وثبت في صحيح مسلم وسنين النسائي ومسند الإمام أحمد عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو فقال: [اللهم آت نفسي تقواها. وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها] .اللهم إنا نسألك الهدي والتقى والعفاف والغنى. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمن علمنا وتعلم منا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء ومنهم والأموات: وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
الباب الثاني
السيئة والحسنة
الفصل الأول: السيئة
تمهيد:
المبحث الأول: في تعريف السيئة ولم سميت بذلك؟
المبحث الثاني: أنواع السيئات.
المبحث الثالث: أجناس الذنوب وأنواعها.
المبحث الرابع: أسباب الذنوب.
المبحث الخامس: أقسام الناس في ترك الذنوب.
المبحث السادس: أقسام الذنوب (السيئات)
المبحث السابع: أثر الصغائر والكبائر والأمور المتعلقة بكل من هذين الصنفين
المطلب الأول: أثر الصغائر.
المطلب الثاني: أثر الكبائر.
قوله - صلى الله عليه وسلم -[وأتْبع السَّيئةَ الحسَنةَ تَمْحُها]
تمهيد:(65/44)
هذه الجملة الشريفة من كلام نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا زالت مرتبطة في النوع الأول من أنواع معاملة الإنسان لغيره. وهى معاملته مع ربه. فأرشدنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى واجب الله علينا وكيف ينبغي أن نتعامل معه فقال: [اتق الله حيثما كنت] لو لم يتبع نبينا لطاشت عقول المتقين. وتنكدت عليهم حياتهم في كل حين. فكيف سيلقى ابن الماء والطين رب العالمين؟ ولا يمكن أن يقوم بالتقوى على الوجه الكامل المطلوب فلا بد من وقوع زلل تفريط منه مهما احترس ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ)) (1) إذن لا بد من حصول شيء من الشوائب في حياة الناس عندما يتعاملون مع خالقهم جل وعلا لا بد من وجود تفريط. وتفريط كل بحسبه. فلو كان الحق الواجب علينا التقوى وإذا وقعنا بياض خلاف ذلك فلا يقبل عند المولى.. بياض.
__________
(1) - الأعراف: 201(65/45)
ولذلك بشرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالجملة الثانية واخبرنا بياض ربنا جل وعلا أرحم بنا من الوالدة بولدها وهو أرحم بنا من رحمتنا بأنفسنا فإذا أخطأنا قبلنا إذا رجعنا إليه ولذلك قال أئمتنا _ كما سأبسط هذا إن شاء الله _التوبة هي بياض طريق السالكين وهى نهاية طريق السالكين , ولا يستغنى عنها المؤمن في كل حين بياض مستغفرا أو يصبح مستغفرا ويلازم الاستغفار والتوبة إلى الله جل وعلا في آناء الليل وأطراف النهار لأنه لا يخلو مخلوق من تفريط وتفريط كل بحسبه [وأتْبع السَّيئةَ الحسَنةَ تَمْحُها] وهذا كما قال الله جل وعلا ((وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ (1) ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينََ)) (2) .
__________
(1) - لا زالوا ضمن وصف التقوى وهم من المتقين مع أنهم فعلوا معصية تناهى خبثها وظلموا أنفسهم.
(2) - آل عمران: 133- 136(65/46)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لنا في هذا الحديث: أمرتم بالتقوى وهذا حق الله عليكم، ولكن لن يخلو بياض منكم من تفريط حسب الجبلّة البشرية , والطبيعة الإنسانية فإذا وقع واحد بياض في تفريط في حق رب البرية فليتدارك ذلك بالتوبة النصوح ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)) (1) وهذا كما قال الله جل وعلا ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ)) (2) بياض الاستقامة بالاستغفار لأنه لبد من وقوع زلل منا في حق العظيم الغفار سبحانه وتعالي وهكذا أخبرنا ربنا جل وعلا في آيات كثيرة أننا عندما نتبع السيئة بالحسنة وعندما نأتي بياض المعصية بالطاعة تغفر تلك المعصية بفضل الله ورحمته ولا تخرج عن دائرة التقوى ((وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)) (3) وهذا كقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وأتبع السيئة الحسنة تمحها. إذا فعلت سيئة فأتبعها بحسنة، ورأس الحسنات وأعظم الطاعات التوبة والاستغفار إلى رب الأرض والسموات وكما قلت إن التوبة هي بداية طريق السالك ونهاية طريق السالك لماذا؟ لأن كل إنسان لا يخلو من تفريط وليس التفريط في خصوص فعل المنهي عنه، التفريط في عدم قيام بالمأمور كما ينبغي. فإذا صلى الإنسان صلاة وما أداها حقها أما عصى الله؟ لأنه، تقدم معني، أن التقوى فعل مأمور كما أمر وكما شرع وكما يرضي العزيز الغفور وترك المحظور كما حظر من ذلك العزيز الغفور سبحانه وتعالى.
__________
(1) - الشورى:25
(2) - فصلت: 6
(3) - هود: 114(65/47)
فإذا فعلنا المأمور على غير وجه التمام إنه إذا ليس في درجة القبول صار إذا فيه خدش. صار فيه معصية ولذلك أمرنا بالتوبة والاستغفار والإنابة إلى الله بعد فعل الطاعات العظيمة فانظر إلى شعيرة الحج وعبادة الحج وهذا الركن العظيم من أركان الإسلام الذي إذا فعله الإنسان على وجه التمام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ـ الله يأمرنا بالاستغفار والتوبة إليه في ذلك المنسك وعند أداء ذلك النسك بل عند أداء أعظم أركانه وهو عرفه يقول الله جل وعلا ((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ (1) مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (2) فكأن الله يقول: قد يقع منك شيء من التفريط في الوقوف وقد لا يكون الوقوف بالصورة المقبوله المرضية فأتبعوا وقفكم بعرفات وشهودكم جمعا في مزدلفة بالاستغفار.
وهكذا اخبرنا ربنا جل وعلا انه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر ربه وان يتوب إلية بعد الجهاد الطويل الذي قام به وبعد أن فتح الله عليه جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفواجا فقال في سورة النصر ((إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ. إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً))
__________
(1) - من مزدلفة بعد أن رجعت من عرفات
(2) - البقرة: 198، 199(65/48)
ثبت في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: [ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد إن نزلت عليه صورة النصر إلا قال فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي] ما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة إلا قال هذا الدعاء في ركوعه وفى سجوده علية صلوات الله وسلامه وقد أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن نتبع الصلاة ـ هي عمود الإسلام ـ بالاستغفار وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يستغفر ربه عندما ينصرف من صلاة وينتهي من السلام الثاني ففي صحيح مسلم من حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: [كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاة استغفر ثلاثاً فقيل للأوزعى كيف يستغفر فقال يقول: استغفر الله استغفر الله استغفر الله ـ ثم يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام] هذا أول ذكر كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يقوله عندما ينصرف من صلاتة: الاستغفار ثلاثأً سبحان الله!! هل كان إذن في حالة طاعة أو في حالة مخالفة؟ قلنا هو في حالة طاعة لكن الطاعة لا يمكن أن تقع منا كما ينبغي لجلال الله جل وعلا وجماله وكل واحد منا لا يخلو من تفريط في طاعاته فكيف بعد ذلك ارتكابه للمناهي والمحظوران. فإذا كان الأمر كذلك نتبع الطاعة بإلإستغفار: استغفر الله استغفر الله اللهم أنت السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام وهذا لن أطيل فيه كثيرا ولن أمد النفس فيه فسيأتينا إن شاء الله مدارسته في الشق الثاني من هذا الباب وهو عند الكلام على الحسنات.
المبحث الأول
في تعريف السيئة ولما سميت بذلك؟(65/49)
السيئة سميت بذلك لأمرين لأن صاحب الفطرة السليمة والعقل السليم يستاء ويسوؤه عندما يفعل سيئة نعم بياض العاصي إذا كان عاقلا مع انه عاصي يتضايق وتضيق عليه نفسه، وقد رسم نبينا - صلى الله عليه وسلم - صورة واضحة لمؤمن وصورة واضحة لغير المؤمن ففي مسند الإمام احمد ومستدرك الحاكم وغيرهما بسند صحيح عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من سرته طاعته وساءته معصيته فهو المؤمن] فهو يفعل المعصية ـ كما قلنا ـ لا عمدا ولا قصدا لكن طبيعة البشر لا تنفك من خطأ وزلل ومن يشابه أباه فما ظلم.
إذا كان أبونا على نبينا وعلية صلوات الله وسلامه آدم وقع في خطأ ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. وكان حالة بعد المعصية خيرا من حاله قبل المعصية. فإذا شابهناه في ذلك فلا لوم ولا تقصير فالمؤمن لا يقصد المعصية ولا يوطن القلب عليها. لكن طبيعة البشر والجبلة الإنسانية تقتضى أن يقع الإنسان في شيء من الهفوات والزلات فإذا كان الأمر كذلك عندما يقع فيها تضيق عليه نفسة كما قال الله تعالى في حق الثلاثة رضوان الله عليهم. كعب بن مالك ومرارة بين الربيع وهلال بن أمية ((وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ)) (1) لأجل المعصية التي وقعت منهم وهى نخلفهم عن الغزوة الأرض ضاقت عليهم ـ بما رحبت ـ وأنفسهم ضاقت عليهم وما عادت تتحملهم من أجل غصبهم لله على أنفسهم فإذا صاحب العقل السليم يستاء ويسوؤه فعل المعصية عندما يفعل لكن أحيانا نفسة تغلبة يتعرض للفتن فلا يثبت وبخبو نور الأيمان ويضعف في قلية فيقع فإذا فزع ((تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)) سيلوم نفسة ويرجع إلى ربه والله يقبلة وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
__________
(1) - التوية: 118(65/50)
الشاهد: سميت السيئة بسيئة لان صاحب العقل السليم والفطرة المستقيمة يسوؤه فعل المعصية ويستاء عند فعل المعصية ولذلك لا يوجد عاص إلا وهو ناقص العقل وهل يرضى أحد بقلة العقل؟ وقلت لإنسان عقلك قليل ظ؟ وأنت أحمق سخيف.. بياض كل عاص لله ناقص العقل فهو بعد أن يعصى يعلن انه عقلة ناقص. اخنق وكيف يكون ناقص العقل لأذى يستبدل الدر بالبعر. والمسك بالرحيق ومرافقة الصالحين بمجالسة الشياطين. أليس هذا بقليل العقل أحمق؟! أمكنة أن يأخذ دراً فاخذ بعراً. هذا في عداد البشر أحمق مجنون. أمكنة أن يقول سبحان الله وبحمده فيغرس له نخله في الجنة فترك هذا وشغل لسانه بغناء أو بذاء أو غيبة أو نميمة أو خنا، عندما يقع في تلك الزلة وينتهي إذا كان عنده إيمان يعلم انه ضعف عقلة وغاب عند فعل تلك المعصية فيوبخ نفسه ويعود إلى ربه جل وعلا ولذلك كل من عصى الله فهو جاهل أحمق قليل العقل قال الله جل وعلا ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (1) .
__________
(1) - النساء: 17، 18(65/51)
ثبت عن أبى العالية وغيرة قال: أجمع أصحاب محمد صلوات الله وسلامة علية ورضي الله عن الصحابة الكرام أجمعين ـ أن كل من عصى الله فهو جاهل وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب إذن عندما يعصى الإنسان ربه يقل عقلة وقد يخرج عن حيز العقلاء بالمرة إذا كانت المعصية فاحشة قبيحة فعندما ينتهي منها ويعود إلى رشده وصوابه يوبخ نفسه ويلوم نفسه فصاحب العقل السليم والفطرة المستقية عندما يعصى الله يستاء ويسوؤه فعل المعصية وهذا حقيقة من علامات الأيمان وليس من علامات الأيمان ألا يعصى الإنسان إنما من علامات الأيمان أن يستاء عند المعصية وألا يصّر ولذلك لا بد من التوبة والناس على قسمين تائب وظالم ولا ثالث لهما قال الله ((وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (1) .
من المعاصي التي تقدم ذكرها ومن غيرها قضية عامة لا تتخلف. قسم الله العباد إلى قسمين لا ثالث لهما إذن إذا عصى يتوب فإذا هو يستاء عندما يفعل المعصية. وحقيقة المعصية وإذا ما رجع الإنسان إلى ربه تميت القلب كما قال شيخ الإسلام في زمنه عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب ... وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب ... وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا ... الملوك وأحبار سوء ورهبانها
فباعوا النفوس ولم يربحوا ... ولم تغل فى البيع أثمانها
ج
لقد رتع القوم فى جيفة ... يدن لذي العقل أنتابها
__________
(1) - الحجرات: 11(65/52)
إذن كل من عصى الله جاهل قليل العقل. والإنسان لا يرضى أن يوصف بحماقة. ولذلك نفسه تضيق عليه وتضيق عليه الدنيا فيهرع إلى ربه ويتوب إليه. والله يقبل توبة التائب عندما يتوب إليه سبحانه وتعالى. ولذلك إخوتي الكرام سمي الله الكفار ووصفهم ونعت العاصين بأنه لا حياة عندهم وبأنهم موتى وقد قال أئمتنا ونعم ما قالوا: ـ أول من مات من الخليقة مخلوق خبيث خسيس مع أنه منظر إلى يوم الدين وهو الشيطان الرجيم. هذا أول من مات. حيى لكنه ميت. لأنه فقد الحياة الحقيقه الحياة الحقيقيه: أن يتصل المخلوق بخالقه وأن يأنس القلب بربه ((أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (1) وإذا خرج الإنسان عن هذا فهو ميت. إسمع ماذا يقول الله جل وعلا في سورة يس ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ. لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)) (2) .
ما المراد بالحياة؟ هل المراد بالحياة حياة البدن. أبدا لما قال: ((وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)) الكافرين أحياء ينذر من كان حيا. حي القلب واعي القلب بصير القلب. فليس المراد من الحياة حياة البدن هذه يشترك فيها المؤمن والكافر. يدل على هذا قوله ((وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ. إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)) (3) .
__________
(1) - الرعد: 28
(2) - يس:69،70
(3) - يس: 10،11(65/53)
هذا هو الحي وذلك ميت ولذلك أطلق الله لفظ الموت على الكفار فقال في سورة النمل ((إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)) (1) ما المراد بالموتى؟ موتى الأبدان أم موتى القلوب؟ القلوب: ((وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ـ انتبه بأي شيء قابل الموتى ـ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ)) (2) إذن لا تسمع الموتى كأنه يقول. لا تسمع من كفر بآيتنا إنما تسمع من آمن فذاك لا حيات عنده وواقع الأمر كذلك. قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله ـ ونعم ما قال نور الله قبره وفى غرف الجنان أرقده:
وفى الجهل قبل الموت موت ... لأهله وأبدانهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشور
فالجاهل ميت. وما هو قبره؟ بدنه فعندنا ميت القلب. وعندنا ميت البدن، ولذلك المؤمن يخشى من موت قلبه ولا يخشى من موت بدنه وموت البدن ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) (3) وموت البدن يؤجر عليه الإنسان كما قال نبينا ـ والحديث في درجة الحسن: ـ[الموت تحفة كل مؤمن] (4) هذه أعظم هدية تأتى من الله لعبده المؤمن. وهى الموت.
__________
(1) - النمل:80
(2) - النمل: 81
(3) - الرحمن: 26
(4) - قلت: الحديث أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد (4/319) وأخرجه أبو نعيم في الحلية (8/185) والبغوي برقم 1454 (5/271) من طريق عد الرحمن بن زياد الإفريقي. قال محقق شرح السنة: وهو ضعيف. لكن ذكره المنذري في الترغيب (4/335) وقال عنه: إسناده جيد. وقال الهيثمى في المجمع (2/323) رواة الطبراني في الكبير وقال عنه: رجاله ثقات. فلعله من غير طريق الافريقى. أهـ والحديث في ذلك كله نصه: عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [تحفة المؤمن الموت](65/54)
وألف السيوطي رسالة عظيمة سماها: "بشرى الكئيب بلقاء الحبيب " ما هو الموت هذا حبيب. لا يخاف المؤمن من موت البدن هذا حبيب جاء على فاقة. إنما يخاف من موت القلب هو الذي يوجب غضب الرب، فإذن عندما يفقد الإنسان الحياة والعقل يستاء أم لا؟ يستاء. إذن سميت المعصية معصية لان صاحب العقل السليم والفطرة المستقيمة ولأن المؤمن يسوؤه فعل معصية سواء منه أو من غيره. إذا فعل معصية أو فعلت معصية يستاء ويتمعر وجهه ويغضب وتضيق عليه نفسه وكان سفيان الثوري عليه رحمة الله ـ إذا رأى معصية وما استطاع أن يغيرها لكمال إيمانه يبول الدم من شدة غضبة لربه جل وعلا هذا استياء حصل عنده واستياء وغضب لذي العزة والجلال.(65/55)
2 – لأن سبب كل سوء في هذه الحياة ينزل في المخلوقات هو بشأن السيئات. وصدق الله عندما قال ((وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)) ما نزلت عقوبة من الله بخلقه وعلى عباده إلا بسبب معاصيهم ((إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)) (1) إذن هذه سيئة سميت بذلك لأنها أيضا هي سب العقوبات والسيئات التي تنزل بسبب معاصيهم لربهم جل وعلا ثبت في مسند الإمام احمد وسنن النسائي وابن ماجة والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ثوبان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يريد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر] الرزق بشؤم المعصية يحرمه الإنسان. إذن سميت المعاصي سيئات لأمرين. تسوء العاقل. وهى سبب حلول السوء والعقوبات بالمخلوقات هذا فيما يتعلق بالمبحث الأول وقد ألف الإمام ابن تيمية عليه رحمه الله كتابا جليلاً صغير الحجم يقارب المائتي صفحة لكنه مملوء بالفوائد سماه: " الحسنه والسيئة " طبع على إنفراد وهو موجود ضمن مجموع الفتاوى في الجزء الرابع عشر من صفحة 229 ـ 426 والإمام ابن القيم ألف رسالة أيضاًَ وكتاباً نافعاً في حدود ثلاثمائة صفحة سماة " الجواب الكافي لمن سئل عن الدواء الشافي " وسميت في بعض الطبعات " الدواء والداء " وكله يدور حول الحسنة والسيئة. الداء هو السيئة، والدواء هو الحسنة.
__________
(1) - الرعد: 11(65/56)
لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا من رحم واحرصوا على هذين الكتابين لاسيما الكتاب الثاني للإمام ابن القيم فحقيقة فية ما يزهد الإنسان في معصية خالقه ويحببه في طاعة ربه جل وعلا وقد ذكر شناعة المعصية وأضرارها وما يترتب عليها وكيف أن صاحبها ليس له عقل ثم قال: هل يتصور من عاقل أن يعصى الله في ملكه على أرضه تحت سمائه يتغذى بنعمه وخيراته وهو تحت نظره لا تخفى عليه خافيه من أمره؟ ! هل يليق بالعاقل أن يعصى الله إذا كان هذا حاله! أنت على أرضه وتحت سمائه. تأكل من رزقة هذه الجوارح من نعمة لا تغيب عن نظره ولا تخفى عليه كيف إذن يتصور وقع المعصية منك؟. أو ليس الشكر بواجب؟ وأقل مراتب الشكر ألا تعصى المنعم بنعمة وان تقوم بهذه النعم حسبما يرضى المنعم سبحانه وتعالى.
هذه السيئة التي سميت سيئة لهذين الأمرين لا تخرج عن ثلاثة أحوال:
1. إما تكون هذه السيئة سيئة بينك وبين خالقك في أمر لا يغفره الله.
2. وإما تكون بينك وبين خالقك في أمر وعد الله بالمغفرة عليه وأخبر أنه يمكن أن يغفر لمن فعله.
3. وإما أن تكون هذه السيئة في ظلم منك نحو عباد الله.
سيئة مع الخالق عملتها لكن الله أخبرنا أنه لا يغفرها لصاحبها وهى الشرك. سيئة مع الخالق عملتها وهى ما دون الشرك فيما بينك وبين ربك. من غناء وشرب خمر وفطر في رمضان وتفريط في واجبات فرضها عليك الرحمن ونظر إلى حرام وغير ذلك هذا بينك وبين الله العفو فيه اقرب ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (1) وسيئة بينك وبين العباد ظلمتهم فالقصاص واقع لا محالة.
__________
(1) - النساء: 116(65/57)
وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى تقسيم السيئة إلى هذه الأقسام الثلاثة في الحديث الذي رواة الإمام أحمد في المسند (1) ورواة الحاكم في المستدرك (2) عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يغفره الله منه شيئاً وديوان لا يعبأ الله به شيئاً وديوان لا يترك الله منه شيئاً وأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً فهو الشرك] ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) (3) وحقيقة: من بريء من الشرك فليهنىء نفسه تهنئة لا تنتهي حتى يلقى ربه. لكن نسأل الله ألا يكون من قال فيهم ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)) (4) .
__________
(1) - (6/240)
(2) - (4/575)
(3) - المائدة: 72
(4) - البقرة: 8(65/58)
وكم من إنسان يقول أمنت بالله وباليوم الآخر والله يقول له من فوق سبع سموات كذبت؟ ويتكلم بالمكفرات. لا أقول في اليوم الواحد في المجلس الواحد مرات ثم يقول أنا مؤمن: ((وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ)) (1) عندما يقول في المجلس وهو متكىء على أريكته في مجالس السمر والقيل والقال: لحية فلان مثل المقشة. مثل ذنب الحمار؟ ! هذا ما حكمه؟ كفرو هو لا يدرى وعندما تقوله له الربا حرام والبنوك مؤسسات تحارب الرحمن يقول دعنا من هذا الكلام لا تصلح الحياة ولا اقتصاد ولا اقتصاد إلا ببنوك ولا بنوك إلا بربا!! كفر هو لا يدرى. يقول آمنت بالله ولا اله إلا الله.. لكنه عند الله من أهل الديوان الأول الذي لا يغفر الله منه شيئاً ولذلك إذا عصى الإنسان ربه فلا يستحل تلك المعصية ابتلي بغناء اتلي بزنا ابتلي بربا يقول أنا عاصي لله أرجو رحمة الله أما انه يأتي بتلك المعصية ويقول هذه لا شيء فيها ولا غضاضة. ودعني من هذا؟! نسأل الله العافية. وكم هذه تقال الآن في مجالس الناس؟ [وديوان لا يعبأ الله به شيئاً والعفو فيه أقرب وهو ظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم كما قال الله ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (2) وديوان لا يترك الله منه شيئاً والقصاص واقع فيه لا محالة وهو ظلم العباد لبعضهم بعضاً] (3)
__________
(1) - التوبة: 65،66
(2) - النساء: 116 وسيأتينا في الفصل الثاني أن هذه أعظم آيات الرجاء عند عدد من أئمتنا الأتقياء.
(3) - والحديث إخوتي الكرام صححه الحاكم لكن تعقبه الذهبي فقال: فيه صدقة بن موسي الدقيقى ضعفوه وصدق ابن موسى الدقيقى ضعيف..وأما قو الذهبي: فيه يزيد بن (بياض) وهو مجهول. فليس (بياض) فهو لأبأس به وفد وثق كما نص على ذلك الإمام الدارقطنى وغيره لكن فيه صدفه بن موسى الدقيقى وهو ضعيف لكن الحديث له ثلاثة شواهد ترفعه إلى درجة الحسن كما أشار إلى ذلك الإمام العراقي في " المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار " (4/16) في تخريج أحاديث الإحياء. والأحاديث موجودة في المجمع. الأول رواه البزار عن أنس - رضي الله عنه - والثاني رواه الطبراني في الأوسط عن أبى هريرة - رضي الله عنه - والثالث رواه الطبراني في الكبير والصغير عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن أنس - رضي الله عنه -: [الدواوين عند الله ثلاثة] . تتقوي ببعضها. والحديث إن شاء الله في درجة الحسن كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام في زمنه الشيخ زين الدين عبد الرحيم العراقي في كتابه تخريج أحاديث الإحياء المسمى بـ المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار. وهو كتاب صغير الحجم لكن ينفعك لما فيه من هذا التخريج بهذه الأحاديث التي في كتاب الإحياء.(65/59)
فسيقتص الله للمظلوم من الظالم ويبلغ من عدل الله جلا وعلا أن يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ((لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) (1) .
المبحث الثاني
أنواع السيئات
اتفق أئمتنا علي أمرين في السيئات:
1. أكبر السيئات معلوم لنا. وهو الشرك بالله ((وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)) (2) ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ)) (3) .
__________
(1) - غافر: 17
(2) - المائدة: 5
(3) - المائدة: 74(65/60)
2. اتفقوا على أن أصغر السيئات مجهول. فأصغر السيئات واصغر المعاصي واقل الذنوب شأناً ما هو؟ قالوا هذا لا يعلمه أحد إلا الله. لم علمنا الأكبر ولم نعلم الأصغر؟ ليكون العباد على وجل شديد من جميع مخالفتهم لربهم المجيد خشية أن تكون تلك الصغيرة التي يرونها صغيرة هي في واقع الأمر كبيرة ((وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)) (1) فأصغر السيئات هذا بالإجماع لا يعلم وأكبر السيئات معلوم. وقلت إذا نجى الإنسان من الأكبر وسلم من الديوان الثالث وهو الاعتداء على أعراض الناس وأموالهم فلو علية بعد ذلك من الذنوب ما يملأ عنان السماء ويقارب مليء الأرض من الخطايا فرحمة الله أوسع من ذلك. كما ثبت في سنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن انس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [قال الله تعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتنى غفرت لك ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني عفرت لك. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة] ما بقارب الأرض ما يملأها من الذنوب والموبقات. لكن ليس عنده شرك لرب الأرض والسموات يأتيه الله بقرابها مغفرة هذه الآية ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (2) هي أرجى آية في القرآن الكريم عند بعض سلفنا وأئمتنا الطيبين ثبت هذا في سنن الترمذي بسند حسن عن على - رضي الله عنه - انه قال [ما في القرآن آية أحب إلى منها] وثبت في كتاب الإمام الواحدى عن حفيد على بن أبى طالب على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم أجمعين وهو المسمى بزين العابدين. أنه قال: هذه أرجي آية في القرآن. ووجه ذلك: أن المعاملة لا تخرج عن ثلاثة أقسام: إما عدل وإما فضل وإما جور.
__________
(1) - النور: 15
(2) - النساء: 116(65/61)
الجور لا يوجد في معاملة الخالق مع مخلوقاته [إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا] (1) ((وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) (2) ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)) (3) بقى وصفان: عدل وفضل. الله ماذا يقول في هذه الآية؟ يقول: ((لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه)) أخرجونا من جوار الشرك. نسأل الله البراءة منه ما عداه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء إن عذب فعدل وإن عفا ففضل إذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فأيهما يرجح في حقة؟ الفضل كرمة - سبحانه وتعالى - لا سيما إذا وعد الكريم حقا وإذا اطمع الكريم حقا إن عدة الكريم خير من إنجاز غيرة ولذلك نسيئه الله خير من نقد غيره. هذا يقول ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء كل واحد تتعلق نيته ورغبته ورجاؤه وأمله بأن يكون ممن يشاء له المغفرة. [الله عند ظن عبده به فليظن به ما شاء] (4)
__________
(1) - قلت: هذا الحديث صحيح من حديث أبى ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يريه عن ربه - عز وجل - أنه قال [يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ... ] الحديث. أخرجه مسلم والإمام أحمد في المسند والترمذي وابن ماجه وغيرهم
(2) - الكهف: 49
(3) - فصلت: 46
(4) - قلت: هذا ثابت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين عن ابى هريرة - رضي الله عنه - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [قال الله - عز وجل -: أنا عند (بياض) عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني..] .ولأبي داود وابن حبان في صحيحة واللفظ لهما والترمذي (بياض) [حسن الظن من حسن العبادة] ولفظ الترمذي والحاكم: [إن حسن الظن من حسن عبادة (بياض) وعن جابر - رضي الله عنه - انه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يقول [لا يموتن أحدكم إلا وهو (بياض) الظن بالله عز وجل] رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه وأحمد والطيالسي وأبو نعيم وغيرهم (بياض) وائله بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [قال الله جل وعلا (بياض) عند ظن عبدي بي إن ظن خيراً فله. وإن ظن شراً فله] رواه أحمد. (بياض) حبان في صحيحة والبيهقى وغيرهم. وفى رواية. [أنا عند ظن عبدي بي فليظن بى ما شاء] .(65/62)
فالله عندما أطمعنا ما أطمعنا إلا ليحقق لنا رجاءنا وهو (بياض) الراحمين وأكرم الأكرمين. لكن كما قلت ـ إخوتي الكرام ـ المهم السلامة من الديوان الأول (بياض) وقع فيه من وقع ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) (1) ((وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ)) (2) ((فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)) (3) كم من إنسان في هذا الوقت (بياض) مع أخيه المؤمن يقول تعال من نثق به في دينه ليقضي لنا في مشكلتنا. يقول: ما (بياض) الشرع في هذا؟ المحكمة المدنية هي التي تقضى بيني وبينك. هذا كافر وإن صام وصلى (بياض) أنه مسلم وأولاده أولاد زنا وأولاد حرام. ولذلك في آخر الزمان من أشراط (بياض) أن يكثر الزنا وأولاد الزنا. ليس المراد يوجد مواخير للبغاء في الطرقات. لا (بياض) البيوت بعاشر الرجال فيها النساء عن طريق الحرام. أولاد الزنا وهم لا يشعرون.؟ (بياض) هذا؟ طلق ألف طلاق وهو يعاشر زوجته. ما هو الأولاد الذين يخرجون من ذلك (بياض) ؟ أولاد سفاح. كفر بالله لا أقول في اليوم في المجلس مرات ثم بعد ذلك اتصل (بياض) يأتي ولد الزنا. ليس ولد الزنا الذي لا يعرف أبوه فقط لا أولاد الزنا يكثرون بياض أكثرهم في هذه الحياة. ملأوا الدنيا. نسأل الله السلامة منهم ومن شرهم (بياض) فيما يتعلق بالمبحث الثاني: أكبر الذنوب وأشنع العيوب معلوم. وأصغر السيئات (بياض) المخالفات مجهول لم يطلع الله عليه أحد من خلقه.
المبحث الثالث
أجناس الذنوب وأنواعها
الذنوب عندما يفعلها العصاه المذنبون تأخذ أحد أشكال أربعة لا خامس لها:
__________
(1) - المائدة: 44
(2) - النور: 48
(3) - النساء: 65(65/63)
أولا: أول ذنب ـ وهذا أكثر الذنوب انتشاراً في البرية تأخذ شكل الاتصاف بالصفات البهيمية ذنب لكن صورة هذا الذنب. صفة هذا الذنب؟ صفة الحيوانات البهيمية كالحرص على شهوتي الفرج والبطن همه أن يملأ بطنه وأن يشبع غريزته من أي طريق كان. يتولد عن هذا: الحرص والبخل والشح وأكل أموالى اليتامى والسرقة.. وما شاكل هذا كل هذا من أجل إرواء شهوتي البطن والفرج. الزاني عاصي لكن شكل معصيته ما هو؟ شكل البهائم هذا لو عنده معاني الإنسانية وصفات البشرية لتنزه عن هذا فما أقبح تلك الصفات في حالة الحلال فكيف وهى في حالة الحرام وهكذا همه أن يملأ بطنه ليصبح له بعد ذلك بطن بحيث لو مدت يدك لما وصلت إلى انتفاخ بطنه كالحبلى ـ لم؟ وتراه كلما يأكل يضرب على بطنه أو بعدها همه يسعى من هنا ومن هناك من حلال أو حرام هذه صفات من؟ صفات البهائم التي أحيانا ترعى في المرعى وتأكل وتأكل وتأكل حتى تصاب بداء الزرب بعد ذلك ثم تموت.
وسل الأطباء الآن عن " شهداء البطون " ما أكثرهم؟ يجلس في الليل يدكّ يدكّ يدكّ في معدته بحيث لو وضعت الطعام في قدر لتفاعل وانفجر. فكيف ستتحمله تلك المعدة؟ في وسط الليل: آه. يصبح! ماذا تريد؟ هاتوا الـ"بيبسى " والمهضمات. ما نفعت خذوه إلى الطبيب يجرى له عملية أو يموت ـ العلم عند الله. ولذلك الأمراض الأن التي انتشرت وكثرت بسبب التخليط في الأطعمة والتخمة التي انتشرت بين الناس هذه معاصي حصلت في الأمة شكلها وصفتها صفات بهيمية ولذلك ننهمك في الطعام والشراب وشهوة الجنس يقال له: تأكل كما يأكل البغل ـ مباشرة ما يقال تأكل كما تأكل الملائكة فالملائكة يتنزهون عن هذا لو كان يأكل بغل. إذن يضرب لان هذه صفات بهيمية وهو ينهمك فيها وما ينبغي أن يصل إلى تلك الخسة والى تلك الشهوانية.(65/64)
صفات ذنوب سيئات معاصي أخذت شكل الاتصاف بصفات البهائم وأكثر الناس كذلك كما قال الله جل وعلا ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)) (1) أكثر الأمة ـ هذا في حال الأمة الإسلامية. دعك عن الأمة الغضبية من حال الناس في بلاد الغرب وفى بلاد الشرق من الكافرين. أولئك ما يعون في الأصل إلا بطونهم وفروجهم. ليس عندهم شيء آخر ـ الإسلامية لا يفكر إلا في البطن وفى الفرج وما عدا هذا لا يخطر على باله هذا مثل البهيمة فأذن هذا نوع أول من أنواع الذنوب.
ثانياً: أقل من الأول ـ معاصي يعصى به الإنسان ربه لكنها تأخذ الاتصاف بالصفات السبعية الان حيوانات لكن حيوانات من نوع آخر. وهى حيوانات مفترسة. وهذا ما يقع من كثير من الناس من الظلم والبغي والعدوان والصيالة على الأموال وهكذا ظلم العباد وإراقة دمائهم والاعتداء على أبدانهم هذا ذنب يعصى فيه الإنسان ربه. شكله شكل صفات الحيونات المفترسة وما أكثر هذا فى الناس في هذه الأيام يسطوا علي أبدان الناس يظلمهم، يذلهم، كما يحصل من الحيوانات المفترسة، بل صار الناس في هذا الوقت يسمون حتى أولادهم بتلك الأسماء ما بين أسد وما بين ذئب وما بين فهد. وما بين وبين.. وهل في تلك الأسماء في الأصل (بياض) يعنى الإنسان يسمى نفسه باسم حيوان مفترس؟ سبحان الله العظيم؟ ! وما أعلم سيوجد في هذا الوقت فرد أم لا؟ أسماء يعنى الاسم في الأصل حيوان مفترس يسمى به الإنسان في كثير من الأحيان ينطبق الاسم على المسمى فتراه سمي بحيوان مفترس وحقيقة هو أعظم البشرية ظلماً وافتراساً وإذلالاً للعباد ولا يتقى في المؤمنين إلاً ولا ذمة.
__________
(1) - الفرقان: 44(65/65)
ثالثا: بعد اجتماع الذنوب التي تأخذ شكل الاتصاف بالصفات البهيمية وشكل الاتصاف بالصفات السبعية إذا اجتمعت هاتان في الإنسان تدعوانه إلى صفة ثالثة وهى الخداع والحيل والمكر والغش والنفاق. وهذه صفات من؟ صفات الشيطان الرحيم. وهذه صفات شيطانية تأتى بعد البهيمية والسبعية. (بياض) الصفات البهيمية على أعظم وصف: خمر ومخدرات وعهر وعربدة. بعد ذلك ظلم الناس قطع رقابهم واستولى على أموالهم: يدعوه هذان الوصفات إلى حيل ومكر. كيف يضل الناس؟ وكيف يغويهم؟ وكيف يختال على أعراضهم وأموالهم لإرواء شهوة البطن والفرج. ولأجل السيطرة وغلبته.(65/66)
وخذ الان من الذين اتصفوا بهذين الوصفين: أخذ أموال الأمم وظلموا الأمم خذ الدعايات المضللة في وسائل الإعلام. هذه صفات من؟ صفات الشيطان. شريعة. وسنحقق العدل. ونحكم ونحكم.. وتنظر: لا توجد شريعة إلا شريعة الغابات الظالم يعتدي على المظلوم والقوى يأكل الضعيف ثم بعد ذلك أي عدل في هذه الحياة إنما تخدير للناس. هذا كما يحصل من الشيطان عندما يقول له. إني جار لك ويزين له المعصية فلما يقع يتبرأ منه ويقول إني بريء منك هذه صفات شيطانية وحيل ومكر وخداع وقد قال بعض من ذهب إلى لعنة الله وغضبه من السباع البشرية المفترسة قال: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين! هذا يعبر عن هذا والسياسة ليس فيها دين، والذي سيدخل الدين في شئون الحياة سأقطعة وأفرمة!! سلك طريق الشيطنة بعد أن سلك طريق السبعية. بعد أن أراق من الدماء ما أراق يسلك بعد ذلك طريق الاحتيال. وقال مرة في مجلس علنى تنقله إذاعات الإعلام: الناس لا يريدون منى أن أحمل السبحة ويقولون هذه بدعة. هؤلاء الجماعة المتطرقون يأتوننا بدين جديد أنا سأقول سبحان الله مائة مرة! أيها الضال المضل تخدع الناس بهذا؟ أنت أحسن من أن تقول سبحان الله أحكم بما أنزل الله. وأما الذكر نافلة إن شئت أن تذكر وإن شئت ألا تذكر. هذه نافلة إذا ذكرت ربك تزداد درجات وإذا لم تذكره ما عليك انه شاء الله عقوبات. لكن تحكم شريعة الشيطان وستسبح الرحمن بعد ذلك! خداع للأمة هذا بعد أن سار في الصفات اليهيمية في الدرجة وصار مبررزا في الصفات السبعية. دعاه ذلك الوصفان إلى الصفات الشيطانية إلى الاحتيال والمكر والخداع والتلبيس على الناس.(65/67)
رابعا: سيئات تأخذ شكل الاتصاف بالصفات الربوبية. نسأل الله العافية. وهذه أشنع الذنوب وهى أقلها بين الناس بعد أن انهمك في شهوتي البطن والفرج وظلم الناس أراق دمائهم واعتدى على أعراضهم وأذل أبدانهم واحتال عليهم ومكر بهم ماذا سيحصل حالة؟ ((إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا)) (1) علا ماذا قال؟ قال ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) (2) سينازع الله في ربوبيته التكبر والتجبر والعظمة وحب المدح ولا يرتاح إلا بذلك. هذا كله من منازعة الله الربوبية. المدح لا يليق إلا لله. وأما أنت أنت خطاء جهلك أكثر من علمك أنت ينبغي أن تمح؟ المدح ما ينبغي أن يصرف إلا لله جل وعلا. ولذلك الملوك والأمراء عندما لا تستبشر نفوسهم إلا إذا مدحوا. وإذا قال لهم القائل: اتق الله تتمعر وجوههم. ولم؟ لان كل واحد يشعر في قرارة نفسه أنه فرعون الذي مضى وأنه هو رب لهذه الرعية ولذلك من لم يثن عليه بغضب عليه، لم يا عبد الله؟ !. دخل أبو مسلم الخولانى علية رحمة الله على معاوية فقال: السلام عليك أيها الأجير ـ سبحان الله صحابي خليفة المسلمين من المسلمين الطيبين المباركين - رضي الله عنه - وعن سائر الصحابة الكرام لكن هذا هو وصفة. الأمير ما هو؟ الأمير يعنى هو ربنا الأعلى أم استأجرته الرعية وعقدت معه عقداً على أن يرعاها على حسب شريعة الله؟ لا أن يستبد بأموالها ويريق دمائها ويعتدي على أعراضها. فقال الجلساء: قل السلام عليك أيها الأمير ـ فقال: السلام عليك أيها الأجير ثلاثاً: فقال معاوية: دعو أبا مسلم فإنه أدرى بما يقول. ثم قال أبو مسلم أيها الأجير إن الله استأجر على هذه الرعية فان قمت عليها بما يجب أثابك وإلا عاقبك والسلام وخرج.
__________
(1) - القصص: 4
(2) - النازعات: 24(65/68)
فإذن حب المدح وحب العظمة. التكبر الخيلاء. إذا نزل إلى الشارع ليقطع له الشارع ما ينبغي أن يزاحمة أحد لا يمشى أحد معه.. لم؟ كان الإمام السبكي عليه رحمة الله ومعه والده ـ تاج الدين السبكى يمشى مع تقي الدين السبكى فاعترضهما كلب. فقال تاج الدين السبكي للكلب الذي مش بين يديهما أمام والده: اخسأ كلب ابن كلب فقال له والده: يا بنى قد اغتبته وأذللته والغيبة حرام والإذلال حرام فقال يا والدي أو ليس هو كلب ابن كلب قال شرط الجواب عدم التحقير. يقول: وفى هذه فائدة في انك إذا أردت أن تحزر من عاصي لا تحقره من باب النصح فلم قال يا بنى.. الطريق واسعة يسعني ويسعه. لم تزجره في الطريق كلب يمشى لم تزجره؟ هذا مشى عن كلب والحمار والبشر والبقر ولجميع الناس يعنى من الذي جعلني أتميز عليه في الطريق.
إذن حب هذه الأمور هذا من منازعة المخلوق لخالقه لصفات الربوبية. وهذا النوع الرابع من أخص الذنوب وأحقرها ولذلك من يتصف به قليل ((وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (1) وقد وصل الانحطاط بالناس من زمن قديم في صرف حق الخالق إلى المخلوق إلى حالة يندى لها الجبين ذكر أئمتنا في ترجمة العبد الخاسر المخذول محمد بن هانىء الذي توفى إلى غضب الله وسخطه سنه 362 هـ وهو كما قال الإمام الذهبي: خمير سكير يدين بدين الفلاسفة. قال يمدح المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار واحكم فأنت الواحد القهار
__________
(1) - الحديد: 24(65/69)
يخاطب مخلوقا صعلوكاً يغسل الخراءة بيده في اليوم مرتين. بهذا الوصف الذي لا يليق إلا لرب العالمين الحكم لله جل وعلا. الحكم الكوني القدري فلا يخرج عن كلماته بر ولا فاجر. و ((إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)) (1) وهكذا الحكم الشرعي ((وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) (2) وأما هذا الصعلوك المعز لدين الله الفاطمي هذا هو الذي سيحكم وهو الذي مشيئته نافذة!! أنظر لأئمتنا عندما يعظمون الخالق كيف يقولون كما قال الإمام الشافعي (3) :
ما شئت كان وان لم أشأ ... وما شئت أن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجرى الفتى والمسن
على ذا مننت وهذا ... خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم غنى ومنهم فقير ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم شقي ومنهم سعيد ... وكل بأعماله مرتهن
وانظر هذا كيف يقول: ما شئت لا ما شاءت الأقدار واحكم فأنت الواحد القهار (بياض) كانت نهاية هذا المادح اللعين؟ سكر حتى غاب عن وعيه مع أصحابه فحملوا السكاكين وقتلوه وهو سكران. طيب هلا أنقذك الذي مشيئته نافذة؟ وهو الذي واحد قهار ويتصرف (بياض) يريد كما يريد؟ نعوذ بالله من هذا الضلال.
__________
(1) - يونس:49
(2) - الكهف:26
(3) - قال الإمام ابن عبد البر في كتابة " الانتقاء" صفحة 80: وهذا أصح شيء ثبت عن الشافعي من الشعر وهو أثبت ما (بياض) في الأيمان بالدر. أهـ.(65/70)
المعصية إذا أخذت هذا الشكل هي أشنع المعاصي، ولذلك لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، والكبرياء رداء الله والعظمة إزاره فمن نازعه واحدة منهم قصمه الله ولا يبالى. والله يحشر المتكبرين يوم القيامة بصورة الذر يطؤهم الناس بأقدامهم لهوانهم (بياض) الله جلا وعلا (1) ويقول للمتكبر الجبار يوم القيامة ((ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)) (2) (بياض) كنت تعزز وترفع نفسك وتكرمها. ذق هذا العذاب الذي يهينك.
__________
(1) - قلت: هذه المعاني ثبتت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها: حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [لا يدخل الجنة من كان في قلية مثقال ذرة من كبر فقال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً. وفعله حسناً قال: ان الله جميل يحب الجمال: الكبر بطر الحق (بياض) الناس] رواة مسلم والترمذي والحاكم وغيرهم. ومنها حديث ابى هريرة (بياض) قال رسول الله: [يقول الله - عز وجل -: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً (بياض) أدخلته النار] رواه مسلم وغيره. وفى لفظ لابن حبان في صحيحه. [فمن نازعني واحداً منهما (بياض) فى النار] وعن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يقول الله جل وعلا الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحد منهما ألقيته فى النار] رواه ابن ماجه وابن حبان (بياض) وللطبراني بنحوه عن فضالة بن عبيد. ومنها أيضأ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنهم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال (بياض) الذل من كل مكان. يساقون إلى سجن فى جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الانيار يسقون من عصارة أهل النار طبنة الخبال] رواه النسائي والبغوى والترمذي وقال حسن صحيح وغيرهما.
(2) - الدخان: 49(65/71)
وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه يغضب غاية الغضب أي الله جل وعلا إذا نازعناه في الاسم لا في الحق فإذا (بياض) بما ويجوز أنه يتسمى إلا الله يغضب الله فكيف إذا نازعناه حق من الصفات (بياض) استأثر بها جل وعلا من العظمة والتكبر وحب المدح ـ سبحانه وتعالى ـ؟
ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أخنع (1) اسم (بياض) الله جل علا رجل تسمى بملك الأملاك لا مالك إلا الله] سمي نفسة بأمير الأمراء (بياض) رئيس الرؤساء وحاكم الحكام قال سيفان بن عيينة، أن يسمى نفسة شاهنشاه (2) (بياض) رواية في صحيح مسلم [أغيظ رجل واخبثه عند الله رجل تسمى بملك الأملاك لا مالك (بياض) الله] (بياض) أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ـ والحديث في الصحيحين والأحاديث في ذلك متواترة (3)
__________
(1) - أخنع: أحقر اسم وأذله واخبثه وأبشعه.
(2) - شاهنشاه: هنا في اللغة الفارسية. كما في شاه إيران عليه غضب الرحمن وقد أفضى إلى ما قدم. أهـ
قلت: وتكتب هذه الكلمة هكذا أيضاً شاها نشاه
(3) - قلت من تلك الأحاديث:
ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود ضى الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون] وفيهما ـ الصحيحين ـ أبضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله] وثبت فى الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال ـ عندما رأى نمرقة فيها تصاوير ـ: [إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم] وفى صحيح البخاري عن أبى جحيفة - رضي الله عنه - قال [أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكلة والواشمة والمستوشمة والمصور] وفى صحيح البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول يقول [من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس (بياض) فيها أبداً] وعند (بياض) مسلم عن ابن عباس: [من صور صورة فى الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ] ومنها عن ابى هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران. وأذنان تسمعان. ولسان ينطق. تقول: إني وكلّت بثلاث: بكل جبار عنيد. وكل من دعا مع الله إلها آخر. وبالمصورين] رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب. ورجاله ثقات ورواه البغوى وذكره المنذرى في الترغيب. وورد عنه الترمذي بالتذكير: يخرج عنق من النار يوم القيامة له..........يقول........الخ وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [قال الله تعالى: ومن أظلم من ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرّة. وليخلقوا حبّه وليخلقوا شعيرة] . قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح الإمام مسلم (14/81) قال أصحابنا وغيرهم من العلماء تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنه (بياض) عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أوبغيرة فصنعته حرام بكل مال لأنه فيه مضاهاة لخلق الله تعالى. وسواء ما كان في ثوب أو وسادة أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجر ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام إلى أن قال: قال بذلك جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب الثوري ومالك وأبى حنيفة وغيرهم " أهـ وعليه فالنص عام ـ كما قال الإمام الزهري ـ في الرسم والنحت وما يسمى الان بتثبيت الظل. وكل ما فيه روح من حيوان أو إنسان فهو حرام. وقد بوب النووي رحمة الله في " رياض الصالحين " صفحة 47 باباً فقال: " باب تحريم تصوير الحيوان في بساط أو حجر أو ثوب أو درهم أو مخدة أو دينار أو وسادة وغير ذلك وتحريم اتخاذ الصورة في حائط وستر وعمامة وثوب ونحوها والأمر بإتلاف الصور ".(65/72)
أن اشد الناس عذاباً يوما القيامة المصورون. وهؤلاء يضاهئون خلق الله في الصور ولا يدعون أخذ حقه وانه لا يثبت لله (بياض) وأنهم هم الخالقون. لا. لكن صوروا ما خلقه الله مما له روح. ومن نازع الله في التسمية (بياض) أخنع إنسان وأوضعه فكيف بمن نازعه حقه الذي انفرد به سبحانه وتعالى من التكبر من العظمة (بياض) المدح من من؟ كل هذا من الذنوب القاصمة المهلكة. أذن النوع الرابع ذنوب يعصى بها الإنسان ربه تأخذ شكل الاتصاف بالصفات الربوبية وهذه آخر الذنوب وحقيقة بعد أن يمر الإنسان بالمراحل الثلاثة بهيمي حيواني. سبعي مفترس صار بعد ذلك شيطان مريد ـ ماذا سيفعل؟ سينازع الله بعد ذلك في الربوبيه والألوهية ويدعى أنه من صنف أخر ممتاز له ما ليس لغيره كما هو الواقع في عتاة البشرية في كل وقت لهم ما ليس لغيرهم ويلون العباد ويفرحون بالمدح عندما يمدحون وهكذا كله من منازعة الله جل وعلا لحقه.(65/73)
إخوتي الكرام: قبل أن ندخل في المبحث الرابع أحب أن أشير إلى قصة طريفة نقلها أئمتنا في ترجمة أبى الحسن على بن عيّاش ـ وهو من رجال صحيح الإمام البخاري وأخذ بحديثه أهل السنن الأربعة وهو حافظ عابد توفى سنة 219 هـ ـ. استدعى هذا العبد الصالح من بلاد الشام ليقابل الخليفة المأمون فلما دخل عليه وكان الوسيط في ذلك يحيى بن أكثم: القاضي فلما دخل على بن عياش سلم وتبسم. ثم بكى وأكثر من البكاء والنحيب. فقال الخليفة المأمون ليحي بن أكثم: أدخلت على مجنوناً يبتسم ثم يبكى! قال الإمام الذهبي علية رحمة الله في سير أعلام النبلاء. وإنما لبتسم لأنه سلم على مسلم ـ والخليفة المأمون وغيره مهما دخلوا في أمور الجور ما زالوا ضمن دائرة الإسلام لا اله إلا اله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا أن نبش وان نبتسم في وجوه المسلمين لكنه نظر بعد ذلك إلى مجلس المأمون فرأى الكبر والجبروت فبكى حزناً على هذه الحالة التي أفضى إليها حال المسلمين فإذن هذا الحال كأن هذا المخلوق الضعيف بنازع الله القوى بتلك الأوصاف الجليلة الجميلة العظيمة. العظمة حب المدح. يدخل بعد ذلك إلى هذا القصر تعظيم ومدح وثناء وما شاكل هذا وحقيقة إذا كان الأمر كذلك هذا يستدعى البكاء فقال يحي بن أكثم للخليفة المأمون: يا أمير المؤمنين ما دخل عليك أحد من أهل الشام أفضل منه. هو خير أهل الشام إلا أبا المغيرة. فكيف أنت تقول أنه مجنون؟ لكن هذا البكاء ينبغي أن يكون واعظاً لك لما أنت عليه من معصية الله ومخالفته. اتصفت بأشنع الذنوب وأقبحها وأخبثها وهى ذنوب تنازع بها الله جل وعلا في الربوبية من الكبر وحب المدح والعظمة والتعالي وهذا لا يليق بمخلوق ولا يجوز لمخلوق أن يأخذه وبذلك لما دخل عليك سلم وابتسم ثم بكى وأكثر من النحيب والبكاء على بن عياش عليه وعلى أئمة المسلمين رحمة الله ورضوانه.
المبحث الرابع
أسباب الذنوب(65/74)
السيئات والذنوب مهما كثرت وتنوعت وكانت ضمن أجناس أربعة ولها فروع كثيرة سببها فساد إحدى أمرين في الإنسان لا ثالث لهما:
1. إما فساد في قوته العلمية النظرية.
2. وإما فساد في قوته العملية الإرادية.
فإذا فسدت القوى العملية النظرية يقع في الشبهات. وإذا فسدت القوة العملية الإرادية يقع في الشهوات. وهما منبع جميع الآفات. شبهة وشهوة. كل معصية لا تخرج عن أحد هذين النوعين إما شبهه سببها فساد القوى العلمية عند الإنسان أي ما عرف الحق وما عرف العلم النافع وما رزق بصيرة فتخبط فأشرك بالله - عز وجل - وعبد حجرا لا يضر ولا ينفع، وتوكل على مخلوق وعظم مخلوقاً وأثنى عليه وترك الخالق جل وعلا.. ما سبب هذا؟ فساد في القوى العلمية. هو لو علم أن هذا المخلوق لا يملك لنفسه ـ فضلاً عن غيره ـ ضراً ولا نفعاً لما عبده من دون الله لما جىء بسيد المسلمين في زمنه سعيد بن جبير تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين إلى الحجاج الظالم المشهور سفاك الدماء قال له: لأقتلنك قتلة ما قتلت بها أحداً ـ أخبث قتلة. ثم قال له: وستوردك هذه القتلة ناراًَ تلظي. قال أيها الأمير: لو كنت كذلك ما اتخذت إلهاً غيرك. إذا كان بيدك أن تدخلني ناراً تلظي لعبدتك من دون الله. نعم بيدك أن تقطع الرقبة. كما قال السحرة لفرعون ((فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)) (1) وهذه: القاضي والمقضي عليه الكل سيقضى عليه في النهاية ((إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)) (2) أين الجبابرة الذين سفكوا من الدماء ما لو جمع لسار منه نهر عظيم؟ أين هم؟ ذهبوا بعد ذلك ولحقوا من سفكوا دمائهم. تقضي هذه الحياة الدنيا وهذه حياة دنيئة قريبة الزوال لا وزن لها عند الله ولا تعدل عند الله جناح بعوضه. ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى منها كافراً جرعة ماء لهوان الكافر على الله جل وعلا.
__________
(1) - طه: 72
(2) - مريم: 40(65/75)
إذن أنت ماذا تفعل؟ فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا أما أنك تدخلني الجنة أو أنك تدخلني جهنم. هذا ليس بيدك. لو كان بيدك أن تدخلني إحدى الدارين لعبدتك من دون الله لو كان كذلك ما اتخذت إلها غيرك. فلو علم المخلوق أن هذا الأمير وهذا الوزير وهذا المسئول من صغير أو كبير لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره نفعاً ولا ضراً هل يلجأ إليه؟ يتوكل عليه؟ يتمسح بأعتابه ويقف عند بابه؟ وينحني له؟ لا هذا لا يصرفه إلا لله رب العالمين سبحانه وتعالى، بيده ملكوت كل شيء وبيده خزائن الأمور سبحانه وتعالى. ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (1) .
__________
(1) - فاطر: 2(65/76)
ولذلك عندما تفسد القوة العلمية القوى النظرية لا يكون عند الإنسان بصيرة وعلماً نافعاً يقع في الشبهات ويشرك برب الأرض والسموات وعندما تفسد القوى الإرادية العملية هو عرف الحق ومؤمن مهتدى وما أشرك بالله شيئاً لكن ما عنده عزيمة ما عنده ميل للحق وحب له وتصميم على فعله.. ماذا يقع؟ يقع منه غناء وزنا وأكل ربا وسرقة وغش وخيانة.. هذه كلها دافعها الشهوات أو شبهات. ولذلك جميع الآفات إما أن ترجع لسيئة فساد القوة العلمية وإما لسيئة فساد القوة العملية شبهة أو شهوة. والذي لا يتنزه عن الفساد الأول والسيئة الأولى لا يمكنه أن يتنزه عن الفساد الثاني قصعاً وجزماً ولذلك لا يمكن للإنسان أن يتطهر من مرض الشهوة إلا إذا تطهر من مرض الشبهة. وأما مرض الشبهة فقد يتطهر منه ويقع في الشهوة. لكن هل هناك إنسان يفطم نفسه عن الشهوات والمحرمات وهو ممتلىء بفساد الفكر وخبث النظر ونجاسة القلب؟ لا يمكن أبداً ذاك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ولا يرى أن هذا حلال وأن هذا حرام. ولا يتورع عن رذيلة وإذا فسدت القوة العلمية النظرية سيتبعها آفات شهوانية. لكن أحيانا القوى العلمية تكون سليمة ولكن الإنسان ما يستطيع أن يزم نفسه بزمام التقوى فما عنده عزيمة ولا ميل للحق وحب له وإرادة على العمل به ولذلك لا يمكن للإنسان أن يتطهر من مرض الشهوة إلا إذا تطهر من مرض الشبهة. ولذلك من كان مرضه في مرض الشهوة إلا إذا تطهر من مرض الشبهة ولذلك من كان مرضه في مرض الشهوة سرعان ما يفيء ويرجع إلى الحق. ومعصية اللعين إبليس كانت من باب الشبهة. ومعصية أبينا آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامة فكانت من باب الشهوة (بياض) معصية إبليس أن يطلب: من ربه الأنظار إلى يوم الدين ليزداد ضلالاً وعتواً ولعنة من الله جل وعلا.(65/77)
وآلت معصية آدم الذي تمت واستقامت وحسنت قوته العلمية النظرية آلت معصيته الشهوانية أن يقول ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (1) فكانت النتيجة: ((ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)) (2) وصار حاله بعد التوبة خيراً من حاله قبل التوبة.
وفى الغالب أكثر أمراض الشهوات سببها فساد في القوى العلمية أي وجود شبهات والإنسان حقيقة إذا ما عرف الله جل وعلا كما ينبغي وما عظم الله حق تعظيمه لا يكون عنده رادع بعد ذلك عن فعل فاحشة من الفواحش وموبقة من الموبقات. وقد أشار نبينا صلوات الله وسلامه عليه إلى هذين المرضين الخطرين. ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة بسند صحيح عن أبى برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى شهوات الغي في البطون والفروج هذه هي مرض الشهوة. ومضلات الهوى هي مرض الشبهة وكل منهما مرض بنص القرآن. يقول الله تعالى ((فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً)) (3) ويقول عن مرض الشهوة: ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ)) (4) هنا شهوة وهناك شبهة.
__________
(1) - الأعراف: 23
(2) - طه:122
(3) - البقرة: 10
(4) - الأحزاب: 32(65/78)
إخوتي الكرام: عند الإنسان قوتان لا تتعطلان. القوى الأولى كما قلنا علمية نظرية لابد من أن يعتقد شيئاً ولا بد من أن يمتلىء ذهنه وقلبه من أفكار ومعلومات ولا بد بعد ذلك أن تتحرك جوارحه وأن تسعى. لكن إما أن يرى الحق حقاً وأن يرزق إتباعه وأن يحببه الله فيه. وأن يرى الباطل باطلاً ويرزقه الله اجتنابه وأن يكرهه الله فيه. وإما أن ينعكس الأمر. أحد أمرين. إما أن الإنسان خٍلْوَاً خالياً من معرفة الحق والباطل لا يعتقد حقاً ولا باطلاً، وخلواً ومن عمل الحق والباطل هذا لا يتصور ولا يوجد، لابد من عمل ولا بد من اعتقاد ((فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)) (1) ولذلك كان أئمتنا يقولون: القلوب طواحين. والطاحون تتحرك باستمرار لكن بعض الطواحين تطحن براً حباً نظيفاً جيداً. وبعضها تأتى تضع فيها حجر ولا تخرج لك بعد ذلك إلا بلاءً. والقلب يتحرك ولا يفتر. إما أن يتحرك بذكر الله وطاعته. وإما أن يتحرك بمعصية الله وغضبه. وكان أئمتنا يقولون: النفوس جوّالة. إما أن تجول حول العرش وإما أن تجول حول الحش (2) إما تكون في فضيلة وإما في رذيلة. كما قال النبي: [كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها] (3) لابد من كسب إما صالح وإما خبيث. وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا.
__________
(1) - يونس:32
(2) - وهي المزابل
(3) - قلت: هذا الحديث مروى عن أبى مالك الاشعرى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها] رواه مسلم وأحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي(65/79)
ففي سنن أبى داود والنسائي عن أبى وهب الجشمي - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأقبحها حرب ومرة وأصدقها حارث وهمام] (1) والحديث في درجة القبول وفى درجة الحسن إن شاء الله ويشهد لبعضه ما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن] (2) وورد أيضا: [تسموا بأسماء الأنبياء] عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
الشاهد إخوتي الكرام: أصدق الأسماء أو أصدق أسم ينطبق على مسماه ويدل على مسماه حارث وهمام. حارث مكتسب فاعل لكن ـ إما أن يكتسب خيرا وإما أن يكتسب شرا. إما أن يكتسب درا وإما أن يكتسب بعراً. أحد أمرين.
__________
(1) - قلت: روى الحديث أيضا الإمام البخاري في ((الأدب المفرد)) صفحة 357 والإمام أحمد في المسند (بياض) وذكره المنذري في الترغيب
(بياض) وله شاهد آخر عند مسلم عن المغيره بن شعبة مرفوعاً أنهم كانوا يسمون (بياض) بأنبيائهم والصالحين (بياض)
(2) - وله شاهد آخر عند مسلم عن المغيره بن شعبة مرفوعاً أنهم كانوا يسمون (بياض) بأنبيائهم والصالحين (بياض)(65/80)
لابد من اكتساب. وهما: إما أن يجول حول العرش وإما أن يجول حول الحش. والإنسان على نفسه بصيرة وعندما يريد أن ينام ينظر كم يأتيه من خواطر. وإذ أراد الإنسان أن يعرف قيمته عند ربه فلينظر إلى خواطر نفسه بأي شيء يفكر؟ حقيقة إذا كان يفكر في كلام الله وحديث رسول عليه الصلاة والسلام وفى نعم الله عليه وفى الموت وما بعده وكيف سيلتقي بالله جل وعلا. فأكرم به من رجل طيب فكراً وسلوكاً. وإذا كان عندما يبحث في أفكاره يراها حول أغنية كذا وحول راقصة كذا وحول أمير كذا وحول اجتماع كذا.. تراه مع المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلاً عن غيرهم ضراً ولا نفعاً. يفكر فيهم وقصر تفكيره عليهم ولم يجاوز هذا التفكير الحياة الدنيا وزينتها. هذا حقيقة ممن غضب الله عليه وسخط عليه. ولذلك إذا أراد الإنسان أن يعرف قدره عند ربه فلينظر إلى أفكاره والى هواجس نفسه فبعد ذلك يتحقق من حاله هل هو خبيث أو نفيس؟ والإنسان على نفسه بصيرة ـ كما قال الله جل وعلا (1) .
__________
(1) - قلت: الآية التي أشار إليها شيخنا في سورة القيامة ((بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)) (14) سورة القيامة(65/81)
إذن اصدق الأسماء حارث وهمام، لا يخلو أحد من هم وكما قال الإمام الشافعي: صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. النفس إن لم تشغلها بحق شغلتك بباطل. الشاهد في الكلمة الثانية. فهذه النفس لا بد لها من شغل ولا بد لها من همّ ولا بد لها من حركة إما أن تشغلها بحق وإلا تشغلك بباطل. ولذلك إخوتي الكرام , عبادة الله الذكر على وجه الخصوص ما ذكرها الله وطلبها منا إلا وقرن الأمر بالإكثار. لم؟ لأمور كثيرة منها هذا الأمر وهو أن النفس لن تكون خاليه ولذلك أشغلها بذكر الله ثم هذا الذكر لا يحتاج ما تحتاجه العبادات الأخرى من الصلاة والصيام والحج من شروط واستقبال وأركان ولا يحتاج هنا على الإطلاق. يمكنك أن تذكر بلسانك وبإمكانك أن تذكر بقلبك وبإمكانك أن تجمع بينهما فإذن ((اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)) (1) ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)) (2) ((الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ)) (3) وكان عليه الصلاة والسلام يذكر الله على جميع أحيانه. لِمَ؟ لأن النفس لا بد لها من عمل. لابد لها من حركة. اشغلها بحق وإلا شغلتك بباطل. وانظر الآن لأهل السيارات ينقسمون أقسام. إما أحياناً يذكر الله ويقرأ. وأحياناً بما أن الأمور تطورت عنده شريط يضعه ويسمع القرآن أو حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أو موعظة من المواعظ حقيقة يدل على تقوى وأن الإنسان يراقب خالقه. وانظر بعد ذلك للهمج الرعاع النسبة الكبيرة يضع الشريط ما كفى أن خبثه النفس يعمل ويفكر في الضلال ليزداد أيضاً ضلالاً آخر من غيره فيضع ايضاً شريط غناء شريط تمثيلية شريط ... الله عليم بالمفاسد الكثيرة التي اصطنعها الناس. لابد له من عمل وحركة وإرادة.
__________
(1) - الأحزاب: 41
(2) - الأحزاب: 35
(3) - آل عمران:191(65/82)
ولذلك إخوتي الكرام: إذا كان الأمر كذلك فينبغي للإنسان أن ينتبه إلى نفسه وأن يراقب قوته العلمية النظرية والقوة الإرادية العملية. وهاتان القوتان اكتملتا في نبينا عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري وغيره: [أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية] العلم بالله: قوة علمية نظرية. الخشية: قوة إرادية عملية.(65/83)
إخوتي الكرام: وعماد صلاح هذين الأمرين: أن يخشع القلب وأن يتعلق بالرب. كما في حديث النعمان ابن بشير [ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب] (1) وإذا فسد القلب فسد اللسان وفسدت الأذن وفسدت سائر الأركان والى هذا أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديثة الذي هو في درجه الحسن ثابت عنه عليه صلوات الله وسلامه يبين لنا أن القلب إذا تعلق بفساد فلا يقبل الإنسان بعد ذلك نصحاً ولا يعي رشداً ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبى داود والأدب المفرد للبخاري عن أبى الدرداء - رضي الله عنه - ورواه الخرائطي عن أبى برزة ورواه ابن عساكر عنة عبد الله بن أنيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [حبك الشيء يُعنى ويصيب] فالقلب إذا تعلق بشيء فأنت تبصره بمفاسد ومساوىء ذلك الشيء فلا يراه. وتنصحه وتقول له يا عبد الله شهوة خسيسة زائلة لا وزن لها ولا اعتبار فكر في الدار الآخرة.. لا يسمع. فحقيقة إذا فسد القلب فلا علاج للإنسان إلا إذا من الله على هذا الإنسان بالهداية وتطهير قلبه وقد قال الله عن صنف ممن غضب الله عليهم ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (2) .
__________
(1) - قلت: حديث النعمان متفق على صحته وفيه [إن الحلال بيّن وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد إستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب] .
(2) - المائدة: 41(65/84)
إخوتي الكرام: ولذلك إذا أراد الإنسان أن يتحقق من سلامة نفسه وإذا أراد أن يعلم أنه على هدى ولا يقع في فعل الردى فليتنبه إلى أربعة أمور. كان أئمتنا عليهم رحمة الله ينبهون عليها ويرشدون طالب العلم. والسالك طريق الآخرة إلى الانتباه لها. ومن هذه الأمور تدخل عليه مداخل الشيطان ويقع بعد ذلك في شرك الشيطان وفى وسوسته
أولها: الخطرات (1) وثانيها: اللحظات (2) . وثالثها: اللفظات (3) . ورابعها: الخطوات (4) .
اضبط هذه الأمور أما القلب فهذا هو البداية وهو المحرك لجميع الأعضاء فانتبه. أول ما يقع في قلبك من الوساوس يكون في أول الأمر خاطر. قال الإمام ابن القيم عليه رحمه الله في كتاب " الفوائد (5) صفحة 31: ادفع الخطرة فإن لم تدفعها فستصير فكرة وحاربها إن لم تفعل فستصبح بعد ذلك شهوة فحارب الشهوة وقاومها فإن لم تفعل فستصبح فعلاً فافعل نقيض ذلك واترك ذلك الفعل لتبتعد عنه فإن لم تفعل فستصير بعد ذلك عادة فيصعب عليك الانتقال.
__________
(1) - هذه في القلب
(2) - النظرات
(3) - الكلام
(4) - خطوات وحركة
(5) - وهو غير كتاب " بدائع الفوائد " فهذا يقع في أربعة أجزاء في مجلدين كبيرين. "والفوائد"مجلد لطيف الحجم مجرود 300 صفحة عظيم النفع.(65/85)
إذن خطرة في قلبك تبعها فكرة. بدأت تفكر. تبعها بعد ذلك شهوة. تبعها عمل وفعل تبعها عادة وديدن ومواظبة كم يصعب على الإنسان أن يترك الأمر بعد أن يعتاد عليه؟ وكم يسهل عليه أن يدفعه في البداية عندما يكون خاطراً خطر بباله! وكما سنذكر أن ما يقع في النفوس يمر بخمسة مراحل: أولا الهاجس ثم الخاطر ثم حديث النفس ثم الهمّ ثم العزم. فالأول دفعه ما أيسره ولذلك إذا خطر ببالك شيء من وساوس الشيطان فاختصر الطريق ولا داعي لمجاهدة كثيرة قل مباشرة كما قال الله ((وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (1) ((فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) (2) .
استعذ بالله وانته. إذا ما فعلت هذا فينتقل الأمر لفكرك لتفكر فيه وتبحث فيه ويرسخ ما فعلت وأزلته من فكرك سيصبح شهوة راسخة في نفسك ما دفعته سيصبح عملاً في حيز الوقوع ما دفعته بنقيضه وكففت نفسك عنه سيصبح خلقاً لك لازماً وعادة ثابتة هيهات هيهات أن تقلع عن ذلك.
إذن أولها الخطرات. راقب خطرات القلب من البداية. يأتي بعد الخطرات النظرات. اللحظات النظرة حقيقة أوله أسف وآخرة تلف. أول ما ينظر يتأسف فيرى لا ما كله هو قادر عليه ولا عن بعضه هو صابر فيتأسف وعندما يطلق نظره أن أملقه للأغنياء يهتم ما عنده أموال كما عندهم وإن أطلق نفسه للنساء يهتم أنه ما يستطيع أن يتصل بهن ويقع في عناء وبلاء.. أسف وآخرة تلف (3) .
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
يسر فعلته ما ضر مهجته ... لا مرحباً بسرورعاد بالضرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العلم موقوف علي الخطر
__________
(1) - فصلت: 36
(2) - الأعراف:200
(3) - أي امتحان(65/86)
ولذلك كم نظرة قتلت الإنسان؟ وحزار حزار أن تقع في المخالفة. تقول: نظرة سهلة وهى من اللمم ... حقيقة هي من اللمم (1) ولكن أخشى أن ينقلك هذا اللمم إلى بلاء جمّ وأنت لا تدرى فهي. هذه الصغيرة ـ لو أقلعت عنها نعمة لكن لو تبعتها بعد ذلك صغائر وجرّت إلى كبائر وصار ديدناً لك ونقلتك بعد ذلك إلى استحسان المحرمات واستحلالها: المعاصي بريد الكفر. يعنى هي معصية لكن آلت إلى كفر وخروج من الدين بواسطة نظرة واحدة إخوتي الكرام: ما دام الإنسان ضمن شرع الله يخيم عليه عناية الله إذا عصى الله تخلت عناية الله عنه. فقد يقع في الكفر وقد يبقى في المعصية وقد يقلع لكن العناية الأن ابتعدت عنه كما قال علية الصلاة والسلام [لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن] (2) وهو الآن خرج. فإذن ماذا سيقع بعد ذلك منه؟ هل يعود أو يستحل ما فعلة فيخرج من الإيمان كلياً؟ هذا علمه عند ربى. وكم من إنسان كفر من أجل نظرة واحدة.
__________
(1) - كما سيأتينا في تعريف الكبائر والصغائر
(2) - قلت هذا الحديث متفق على صحته من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -[لا يزنى حين الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. وولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهي نهية يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن] .(65/87)
خرج بعض الناس ليؤذن فلما رقى المنارة وقع نظرة على بعض البيوت فرأى امرأة حسناء فتنته. ترك ونزل (1) ذهب وطرق الباب وقال: القلب تعلق بك. قالت: إلى حرام لا أجيبك والى زواج لا أتزوجك فأنت مسلم وهى نصرانية. قال فماذا افعل؟: قالت فما لك إلا أن تتنصر ـ إذا إتنصرت تخطبنى من أهلي ويتم الزواج.. قال: هذا سهل. ـ التنصر سهل! ـ قالت أهلي لا يصدقون إلا إذا جئت في المساء والصليب على صدرك فإذا جئت وعليك الصليب وقلت أنا دخلت في النصرانية وتخطبني أنا بعد ذلك أظهر القبول ولعل بعد ذلك الأمر يتم فذهب وأعد نفسه واشترى الصليب وجاء بعد ذلك في المساء فعملت مع أهلها مكيدة فلما دخل ذبحوه وألقوه على مزبلة والصليب في صدره!! بواسطة نظرة (2) .
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر
فإذن انتبه للخطرات. وانتبه للحظات. النظرات راقبها واتق الله فيها. وقد جمع الله بين هاتين المفسدتين وهذين الأمرين وأشار إليهما لنستحضر عظمته ونراقب الخطرات واللحظات فقال ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (3)) ) (4) .
__________
(1) - هذا في حق اللحظات
(2) - طيب ماذا عندها؟ عندها ما يستحى من النظر إليه وهذه كما يقول علماؤنا: أعلى شيىء من شهوات الدنيا وهى أخسها. مبال في مبال. يعنى هذه يتعلق بها عقلاء الرجال!! سواءت تكشف ... وكما قالت المرآة الصالحة هند رضي الله عنها: ما أقبح ذلك الفعل حلالاً فكيف به حراماً؟. تترك الأذان وطاعة الرحمن من أجل امرأة؟ نسأل الله السلامة.
(3) - في حق الخطرات
(4) - غافر: 19(65/88)
فإذا حصل في صدرك شيىء استحضر هذه الآية. لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. ((أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (1) ((وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (2) .
وأما الباب الثالث الذي ينبغي أن تراقبه: اللفظات. هذا اللسان أكثر خطايا بنى آدم في ألسنتهم. وفى حديث معاذ بن جبل في سنن الترمذي وغيرة بسند صحيح. [كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم] (3) هذا اللسان اتق الله فيه [من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فليقل خيراً أو ليصمت] (4) أنتبه لهذا.
إن كنت تؤمن بالله واليوم الأخر وأنك ستصير إليه حافظ على هذه الوصية. الكلام فيه خير تكلم. ما فيه خير دعك من الهزرمة والكلام الفارغ. هذا إذا لم يكن في إثم ومعصية. طبخنا وذهبنا وجئنا وعملنا وكذا ... من كلام تشغل له نفسك وغيرك ولا فائدة منه. هلا جعلت مكان هذا تسبيحاً لله جل وعلا؟ فإذا قلت سبحان الله وبحمده تغرس لك نخله في الجنة. وتجلس يوم كامل: طبخنا وذهبنا وجئنا وو.... كلام كله فارغ من الفضول. هذا إذا لم تدخل بعدها في غيبه ونميمة وقذف وبهتان وغير ذلك اللفظات لا بد من مراقبتها.
__________
(1) - هود:5
(2) - الملك: 13
(3) - قلت: الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقى والبغوى ورواه الطبراني ـ مختصراً ـ والمنذرى (الترغيب: 3/528 وما بعدها) .
(4) - قلت: الحديث صحيح (بياض) ومسلم الترمذي وابن ماجة والدارمى ومالك في الموطأ وأحمد في المسند والبغوى والمنذرى عن أبى هريرة.(65/89)
يليها بعد ذلك كما قلنا. ـ الخطوات. أين تذهب وكيف تتحرك؟ إنتبه لهذا وعثرت الإنسان إما من لسانه وإما من رجله. عثرت الرجل تبرأ على مهل كما يقول علماؤنا. لكن عثرت اللسان تدخله القبر وتوقعه في الكفر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيح [المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده] (1) قدم اللسان لم؟ ضرره أشد ودائرته أوسع. هذا يتناول الحي والميت. الميت سلم من يدك أما من لسانك ما سلم، يناول الحاضر والغائب، الغائب سلم من يدك مهما كنت سفاكا بطاشاً هرب منك، لكن ما يسلم من لسانك أينما كان وثم هذا أوسع لمن تقدر عليه ولمن لا تقدر. البد لا تستطيع أن تمدها إلا من تقدر عليه إذا كان مستضعفاً وأنت قوى. إما اللسان تجلس في بيتك وتغلق الباب عليك وتطلق لسانك مثل الإذاعة على فلان وفلان من أمير إلى وزير إلى شيخ إلى كبير ما يسلم أحد منك. لكن أمامهم ما تستطيع تشير بإصبع لأنك ما عندك قوة ولا جراه هذا اللسان دائرة أوسع. وخطرة أشنع فقدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - عثرت اللسان وعثرن الرجل أيهما أعظم؟ اللسان جمع الله بينهما أيضاً في آية فقال ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)) (2) إذن أرجلهم تضبط ويمشون بسكينه وتؤدة. فلا يوجد تجبر ولا تكبر ولا ضرب للأرض ولا قطع للطريق. وإذا تجاهل كما أنهم لا يقعون في عثرت في أرجلهم لا يقعون في عثرت بألسنتهم قالوا سلاماً قولاً يسلمون من الإثم ومن الخطيئة والمعصية.
__________
(1) - قلت: الحديث في صحيح (بياض) وسنن الترمذي والنسائي ومسند أحمد وغيرهم (بياض) عبد الله بن عمرو.
(2) - الفرقان: 63(65/90)
إذن هناك خطرات ولحظات: ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)) (1) ، وهنا لفظات وخطوات ((يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)) راقب هذه الأمور الأربعة وحقيقة إذا اتقيت الله فيها وأحكمت هذه الأمور وما دخل عليك الشيطان من شيء منها فأنت إن شاء الله في حرز أمين في جوار رب العالمين. فالقلب لا يفكر بقبيح والعين لا تنظر إلى قبيح واللسان لا يتكلم بقبيح والجوارح والفعل والأرجل لا تمشى إلى قبيح؟. راقب هذه الأمور من خطوات ولحظات ولفظات وخطرات.
أخوتي الكرام: هذه اللفظات ينبغي أن نتقى الله فيها. وقلت عماد كل ما تقدم القلب. لكن القلب لا يطلع عليه إلا الرب. نحن ما نطلع إلا على الظاهر إذا أردت أن تعرف صلاح الإنسان من فساده زن كلامه وانظر إلى كلامه. ولذلك كان أئمتنا يقولون: القلوب قدور ـ، لكن ماذا يوجد في القدر؟ ما تستطيع أن تعرف إلا بالمغرفة فإذا غرفت يظهر هل فيه لحم أو فيه عدس. وهنا القلوب قدور ومغارفها الألسن. فإذا تكلم تعلم ماذا في القلب. هل فيه طيب أو فيه خبيث. وأحيانا ترى الإنسان تعجب به فإذا تكلم سقط من عينك. وقلت هذا شيطان مريد وأحياناً ترى الإنسان وقد تزدريه. تقول هذا مسكين لا يؤبه به فإذا تكلم ملك قلبك. فإذن القلوب قدور لكن المغارف هي الألسن وكان أئمتنا يقولون: هذه الأفواه حوانيت لكن ماذا في داخلها؟ لا نعلم إلا إذا تحركت هذه القطعة ـ فإذا تكلم الإنسان ظهر العطار من البيطار. هل هو عطار أو بيطار؟ ! ماذا عنده من حرفه ومهنه؟ هذا يظهره اللسان. فاتق الله في لفظاتك وفى لحظاتك وفى خطراتك وفى آخر الأمور وهى خطواتك (بياض) .
المبحث الخامس
أقسام الناس في ترك الذنوب
إخوتي الكرام: هذه المعاصي التي يقع الإنسان فبها ما هي دون الشرك. هذه طريق موصل إلى الشرك وكذلك ينبغي للإنسان أن يحذر من كل معصية صغيرة أو كبيرة.
__________
(1) - غافر: 19(65/91)
وقد نقل عن العبد الصالح أبى حفص النيسابورى وهو من أئمة الهدى وكان يلقب بنور الإسلام عليهم رحمة الله من ألائمة الصالحين. والرجل توفى سنة 265 هـ (1) يقول: المعاصي بريد الكفر. كما أن الحمى بريد الموت (2) الحمى علامة الموت. والمعصية علاجة على وصول الإنسان إلى الكفر رسالة تضعها في رأس الخيمة تصل إلى مصراً والهند عن طريق البريد. ومعصية أحياناً نظرة وهى من اللمم جرتك إلى زنا وهى من الكبائر جرك إلى استحلال. أخرجك من دين الله - عز وجل - وأنت لا تدرى.
والإمام بن القيم علية رحمة الله يقول جملة أيضاً طيبة في بيان أثر المعاصي تساوى هذه الجملة المنقولة عن أبى حفص النيسابورى وتعدلها. يقول (3) : المعاصي دهليز الشرك والدهليز هو الطريق الضيق الذي يوصل إلى بيوت. فإذن هذا سيوصلك في النهاية إلى البيت فإذا سلكته ـ هذا الدهليز الضيق. يوصلك بعد ذلك إلى بيت إلى منفذ إلى دكان.. وهذه المعاصي دهليز، وطريق ضيق سينقلك بعد ذلك إلى غاية وهى الشرك. ولذلك يجب ترك جميع المعاصي صغيرها وكبيرها والحذر من جميعها والناس في تركها ينقسمون إلى ثلاثة أقسام.
1. إما أن يترك الناس الذنوب والعيوب خشية من علام العيوب وهذه حالة المؤمنين الصادقين. وإذا تركوا المعاصي خشية من الله يثابون على ذلك وقد ثبت في الصحيحين في حديث السبعة الذين يظللون في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله منهم: [ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله] ترك الذنوب خشية من علام الغيوب هذا حال الصديقين وحال المؤمنين.
__________
(1) - كما في سير (بياض) : 12/510
(2) - والإمام (بياض) عليهم جميعا رحمة الله يكرران هذه الجملة وهى منقولة عن هذا العبد الصالح.
(3) - في كتابة الجواب الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي(65/92)
2. الصنف الثاني: تركها سفهللة. ما خطرت بباله أصلاً. لا تشوق إليها ولا تركها خشية من الله جلا وعلا. شرب الخمر ما خطر ببالة ما اشتهى ولا قال أنا تركته خشية لله ومنه: يقول: هذا ما أشتهيه ولا أريده. تركته خشية من الله؟ يقول: ما حصل هذا المعنى في قلبي لو كنت اشتهيه هل اشربه أم لا ما أعلم. لكن أنا الآن لا أشتهيه ولا اشربه. هذه الحالة لا ثواب ولا عقاب. لا يثاب مع انه ترك الفواحش لان التروك كلها لا يثاب الإنسان على تركها إلا إذا تركها خشية من الله جل وعلا فقد يكون سببها العجز وقد يكون سببها عدم الرغبة وقد وقد ... وليس في هذا مدح. ولذلك كل نفس إذا لم يدل على إثبات ما يضاده فلا مدح فيه ولا مدح في أن تقول: هذا الإنسان لا يزنى هذا ليس فيه مدح على الإطلاق. لا يزنى لأنه عنين لا يزنى لأنه مقطوع الذكر مجبور. لا يزنى لأنه لا يتيسر له. يدور الشوارع في الليل والنهار ولا يحصل من يجيبه إلى فاحشة. هل في هذا مدح؟ ليس في ذلك مدح إنما المدح أن تقول هذا عفيف يخاف الله جل وعلا. تصفه بالعفة. هذا حقيقة صفة ثبوتية اتصف بها أما أن تنفى عنه نقيصة. ما سبب النفي؟ هل وجود العفة أو العجز؟ أو عدم الرغبة؟ أو خشية وقع علية؟ أو أو.... (بياض) بأسرها لا يثاب الإنسان (بياض) إلا إذا (بياض) خشية الله وخوفاً منه.(65/93)
3. الحالة الثالثة أن يترك المعاصي عجزاً عنها مع عزمة على فعلها وتعلقه بها ورغيته في عملها لكنها لا يتسر له. فقلنا في هذه الحالة يعاقب عليها كما لو فعلها مع انه لم يفعل. لأنه حال بينه وبين عدم الفعل مانع خارجي عن نفسة ولا يعترض بان الإنسان إذا هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب علية ـ كما ثبت في الصحيحين..... وفى رواية إذا لم يعملها كتبت له حسنه (1) لا يعترض بهذا لأن الهم غير العزم لأن ما يقوم في النفس ينقسم إلى خمسة أقسام:
وهو الهاجس: الشعور بأمر من الأمور في جانب الخير أو الشر ثم زوال هذا. وأهمك ووقع في قلبك من غير اختيارك وزال عنك من غير اختيارك. فلا ثواب ولا عقاب. سواء كان في الحسنات أو في السيئات
والخاطر: أن يبقى ذلك الشعور فترة من الوقت ثم يزول. جاء من غير اختيارك وزال من غير اختيارك فلا ثواب ولا عقاب في الحسنات وفى السيئات.
__________
(1) - قلت: أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروية عن ربه - عز وجل - قال: [قال: إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنه كاملة فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة] والرواية الأخرى قي صحيح البخاري عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [يقول الله: إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها. فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنه. وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فأكتبوها له حسنة فان عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف](65/94)
حديث النفس: إن تحدث نفسك. هذا فعل اختياري أو جاءك من غير اختيارك؟ اختياري حدثت نفسك فإن حدثت نفسك بحسنة كتبت لك وإن حدثت نفسك بسيئة لم تكتب لأنه ما وصل إلى درجة العزم الأكيد. الهمّ: ترجيح الفعل على الترك. إذا رجح فعلاً حسناً ولم يفعلها كتبت حسنة. وإذا رجح فعل السيئة ولم يفعلها لم تكتب عليه.
العزم: وهو التصميم الأكيد على فعل الشيء بحيث لو لم يمنعه مانع خارجي لفعلة. يكتب في الخير وفى الشر. ففي مسند الإمام أحمد والترمذي والمستدرك بسند صحيح عن أبى كبش الأنماري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [هذه الدنيا لأربعة نفر: الأول أعطاه الله علماً ومالاً يعمل في ماله بعلمه فهو في أعلى المنازل وآخر أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بعملة فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالا ولم يؤته الله علماً فهو يخبط في ماله ولا يتقي فيه ربه فهو في أخبث المنازل ورجل لم يأته الله علما ولا مالاً فقال يا ليت لي مثل فلان حتى أعمل بعملة فهما في الوزر سواء] وهناك أدلة كثيرة من الكتاب والسنة تشير إلى أن الإنسان إذا كان حريصاً على الفعل يكتب هذا الحرص في الخير أو في الشر: [إنه كان حريصاً على قتل صاحبه] (1) .
__________
(1) - قلت الحديث في الصحيحين عن أبى بكرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول فى النار. قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ هذا القاتل فما بال المقتول! قال: إنه كان حريصاً عل قتل صاحبه](65/95)
((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا)) (1) والمحبة عمل قلبي. ما نطقوا بألسنتهم ولا حركوا شفاههم. إنما مجرد ميل قلبي وتعلق بأن يهتك ستر المؤمنين وأن تشاع الفاحشة بينهم وأن يتكلم عليهم في السوء. وإذا سمع فاحشة وتحدث الناس بها يطير فرحاً! هذا الوصف الذي في قلبه ولم يعلم به أحد من خلق الله له عليه هذه العقوبة العظيمة عند الله ((لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) (2) .
__________
(1) - النور: 19
(2) - النور: 19(65/96)
ولذلك إخوتي الكرام: الحدود عندما نقيمها على العصاه نقيمها لا من باب التشفي ومن باب إرواء الغليل ومن باب أننا نفرح بأن هذا أهناه واحتقرناه. لا ثم لا ((وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)) (1) لأمرين: ليحصل الإنزجار والاعتبار، وليستغفروا لهذا المحدود الذي أقيم عليه الحد. لا ليشمتوا به. كما ثبت هذا عن نصر بن علقمه. نحضر هذا الزاني عندما نقيم عليه الحد وجلين خائفين مشفقين ثم بعد أن نقيم علية الحد: اللهم اغفر له اللهم تب عليه اللهم اقبله اللهم تجاوز عنه.. أما أن يقام الحد في تصفيق ولغط. نحن أجرمنا أكثر من إجرامه عندما امتهناه واحتقرناه وشمتنا به وبعد ذلك لعل كل واحد منا عنده من الكبر والعجب ما يخلده في نار جهنم. وهو لا يدرى!! وهذا وقع في زلة لا أقول أننا سنعفيه من الحدود الشرعية لكن كما قال الله بلا شماتة وبلا احتقار لهذا الإنسان ولذلك كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين [إذا زنت الأمة فليجلدها الحد ولا يثرب عليها] (2) لا يقول لها ما تستحي. خبيثة. منحوسة. سوداء الوجه ... من هذا. أحياناً قد يقول ملعونة! أنت عصيت أكثر منها. إذا هي زنت ماذا جرى؟ (بياض) خطأ وقد جعل الله لها مطهراً فتطهرها ثم نقول: اللهم تب عليها. اللهم احفظها في مستقبل حياتها واحفظنا لئلا نقع في مثل ما وقعت فيه. فإذن لا يجوز أن تفرح قلوبنا إذا وقع المسلمون في زلة فإذا وقعوا في زلة نسأل الله لهم أن يلهمهم رشدهم.
__________
(1) - النور: 2
(2) - قلت: الحديث في الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها ولا يثرب ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب. ثم لغن زنت الثالثة فليعها ول بحبل من شعر](65/97)
أما أن نشمت وأن نفرح! ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) .
المبحث السادس
أقسام الذنوب (السيئات)
إخوتي الكرام: الذنوب التي هي دون الشرك ـ فالشرك تقدم حكمة معنا وقلنا أكبر الكبائر مفرغ منه لا يغفره الله وصاحبه يخلد في نار جهنم ـ تنقسم القسمين: إلى الكبائر: إلى صغائر (1)
وهذا هو قول أهل السنة بإتفاق. ودل عليه كلام الله جل وعلا في موضعين. وقررته الأحاديث المتواترة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
__________
(1) - بعد هذا المبحث ـ وهو آخر المباحث سنتكلم عن أثر كل من هذين القسمين. ما حكم وأثر الكبائر في الدنيا والآخرة؟ وما حكم الصغائر والكبائر في الآخرة(65/98)
أما كتاب الله: يقول الله جل وعلا: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) (1) والآية نص صريح لا يختلف في فهمها ومدلولها عاقلان إذا كانا ذا رشد وعقل. لان الذنوب تنقسم إلى قسمين وأن السيئات تتنوع إلى نوعين: كبائر وصغائر. هذا بنص القرآن. فإذا اجتنب الإنسان الكبائر ضمن الله له أن يغفر له الصغائر لأن هذه لا يمكن للإنسان إلا أن يلم بها ويقع (2) فلا تتنزه ولا تعصم نفس بشرية وطبيعية إنسانية من زلل وخطأ لكن إذا كان ضمن الصغائر رحمة الله واسعة. إذن هناك كبائر وهناك سيئات وهى الصغائر التي ليست بكبائر وهذه آية في منتهى الوضوح وتقرر هذا الأمر وتدل علية. والآية الثانية يقول الله جل وعلا ((وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ)) (3) وقرأ حمزة والكسائى وخلف بالتوحيد)) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبِيرٌ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)) على صيغة الإفراد لا بصيغة الجمع. وبذلك قرأوا أيضاً في سورة الشورى:
__________
(1) - النساء: 31
(2) - كما سيأتينا في آية أخرى
(3) النجم: 32(65/99)
((وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) (1) قرأوها: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبِير)) والفارق بين القرائتين: إما أن يكون القراءتان بمعنى واحد. فكبائر الإثم والفواحش الذنوب الكبيرة التي ليست بصغائر أي التي ليست بلمم (2) والكبير هذا اسم جنس أي الذنب الذي هو ذنب كبير. فيدخل فيه الكبائر بأسرها. وإما أن تقول أن المراد من الكبير (3) خصوص معصية واحدة وهى رأس المعاصي. وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبِيرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)) قال هو الشرك. ثم بعد ذلك قال: ((إِلَّا اللَّمَمَ)) الذنوب الصغائر التي لا تخلو طبيعة بشرية منها. وآية النجم هذه نص صريح أيضاً في أن السيئات تنقسم إلى كبائر وصغائر، لكن حولها شيء من الاختلاف. والخلاف في
((اللَّمَمَ)) باستثناء اللمم من اجتناب كبائر الإثم والفواحش.
وحاصل ما قيل في ذلك ثلاثة أقول:
1. أن الاستثناء متصل: والاستثناء المتصل يكون المستثنى من جنس المستثنى منه. وعليه تكون اللمم من الكبائر. فيصبح هنا معنى الآية: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)) ما هي اللمم؟ فسرت الآية بأمرين ـ على أن المراد من الاستثناء أنه متصل ـ فقيل: اللمم كبائر. طيب والمراد منها هنا إذن؟ قالوا هذا يراد منه أمران:
__________
(1) الشورى: 37
(2) سيأتي (بياض)
(3) في قراءة حمزة والكسائى وخلف وهى قراءة متواترة عن نبينا علية الصلاة والسلام.(65/100)
أ – نقل عن ابن عباس وأبى هريرة وزيد بن ثابت وزيد ابن أسلم وعن حجم كبير من السلف. قال: ((إِلَّا اللَّمَمَ)) أي إلا الكبائر التي كانت منهم في الجاهلية فالله تكرم لعبادة بأنهم إذا تابوا وأنابوا واستقاموا. ما صدر منهم من ضلال في حال جاهليتهم مغفور. فإذا تذكروا لا داعي للحزن. هم يقولون نحن جرى منا كبائر وموبقات ومهلكات. فالاستثناء إذن من جنس المستثنى منه لكن يعود إلى حالة ماضية كانت في الجاهلية. كانوا يلمون بها ويفعلونها وهى الكبائر. تابوا وأنابوا إلى الله فلا يؤاخذون عليها ولا يحاسبون بها كما قال الله جل وعلا ((وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)) (1) إذن هذه تتحدث عن حالة الناس عندما كانوا في الجاهلية ـ عن ذنوبهم ـ فإذا آمنوا: ((قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)) (2) .
__________
(1) الفرقان: 68
(2) الأنفال: 38(65/101)
ب ـ نقل عن ابن عباس وأبى هريرة وعن مجاهد والحسن وعن جمّ غفير من التابعين أيضأً أن المراد من اللمم هنا الكبائر التي يفعلها الناس بعد إيمانهم وإسلامهم وإنابتهم إلى ربهم لكن لا يواظبون عليها. ولذلك سماها الله لمم وكبيرة جرت منه وأقلع عنها فالله تكرم علية بأنه إذا وقع في شيء من ذلك يغفر له إذا كان مسلكه العام الابتعاد عن الذنوب والآثام ((إِلَّا اللَّمَمَ)) إلا بعض كبائر يقعون فيها فتتفلت نفوسهم ويقع في جريمة من الجرائم من شرب خمر أو غير ذلك. فإذا وقع في هذا. هذا الاجتناب للكبائر الأخرى يزيل عنه هذه الكبيرة وهذا القول فيما يظهر أنه مرجوح وضعيف مع جلالة من قال به من السلف الكرام رضوان الله عليهم. والسبب أنهم جعلوا الاستثناء متصلاً وقالوا إنه يعود إلى الاجتناب ولا يعود إلى أن الاستثناء مستثنى من كبائر الإثم والفواحش. بالتقدير: يجتنبون كبائر الإثم والفواحش لكنهم لا يجتنبون اللمم. ما هي اللمم؟ كبائر لا يواظبون عليها وليست هي ديدنهم وخلقهم، إنما يفعلونها أحياناً ثم يقلعون. يجرى من الإنسان زلة في كبيرة ليس هذا مسلكه. مما أن المسلك العام له اجتناب الكبائر.
2. أن. ((إِلَّا)) بمعنى الواو. وقالوا: هذا يأتي في اللغة العربية. فيصبح المعنى: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش واللمم. يعنى يجتنب جميع الذنوب والموبقات والسيئات كبيرات وصغيرات ليكون من المحسنين. وهذا في الحقيقة فيه بُعد وتكلف.(65/102)
3. والمعنى الحق ـ وهو الثالث ـ وهو الذي علية أهل السنة الكرام في أن الاستثناء هنا استثناء منقطع فهو يتعلق بالمستثنى منه يتعلق بجنسه لا بنفسه ولفظه فالله يقول: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. الاستثناء من الذنوب العامة على وجه العموم لا من الاجتناب. الذنوب إذن تشمل كبائر وتشمل صغائر. فما عاد الاستثناء إلى الكبائر حتى نقول: إلا أي إلا بعض الكبائر لا. إنما عاد الاستثناء إلى جنس الذنوب وقلنا في حالة الاستثناء المنقطع يعود إلى المستثني منه إلي جنسه لا إلي نفسه ولفظه. هذا كقول الله جل وعلا ((لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا)) (1) السلام ليس من جنس اللغو. لكن اللغو كلام والسلام كلام. فكان الاستثناء المنقطع هنا عاد إلى المستثنى منه. إلى جنسه لا إلى لفظة ولا إلى نفسة فالسلام ليس بلفظ كأنه يقول: لا يسمعون كلاماً إلا سلاماً. لو قال: إلا سلاماً لكان متصلاً. لكن لما قال: لا يسمعون لغواً إلا سلاماً. لا يسمعون لغواً لكن يسمعون سلاماً. كيف حسن استثناء السلام من اللغوا. نقول: منقطع فاستثنى من جنس لا من لفظه ونفسه. وهنا كذلك فاستثنى اللمم من جنس الذنوب لا من كبائر الإثم والفواحش.
إذن ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)) لكن يغفر لهم ويتجاوز عنهم إذا وقعوا في لمم فلا يضرهم ورحمة الله واسعة.
هذا اللمم الذي يغفر لهم وهو استثناء منقطع اختلف فيه أيضاً أهل السنة على قولين (2) :
1. انه اللمم الذى لا اختيار للإنسان فيه. وفسروه بأمرين أيضاً:
__________
(1) الواقعة: 25، 26
(2) على القول أنه استثناء منقطع.(65/103)
أقالوا: هو الهم فما دونه من مراتب النفس. وهذا منقول عن محمد بن الحنفية وسعيد بن المسيب ((يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ)) لكن يقع منهم مالا يمكن أن يبتعد عنه بشر ولا اختيار به في دفعة. من همٍ وحديث نفس وخاطر، هاجس فيرفع عنه.
ب النظرة الأولى. وهذا منقول عن الحسين بن الفضل. وهذا أيضاً في الحقيقة كل من القولين مرجوح مع جلالة من قال فيه. لان النظر مرفوع عنا بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت في صحيح مسلم والمسند والسنن عن جرير بن عبد الله قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفُجَاءة (1) فقال: [اصرف بصرك] .وقال لعلي - رضي الله عنه - كما في المسند [لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية] . الثانية تكون عليك. فنظر الفجأة والفجاءة معفو عنا. إذن على هذا القول الأول: اللمم ما لا يكون للإنسان فيه اختيار.
2. القول الثاني وهو معتمد وهو الحق المقرر عند أئمتنا وهو الصواب إن شاء الله. أنه ما للإنسان فيه اختيار لكنه ليس من كبائر الإثم والفواحش إنما هو من السيئات المشار إليها في سورة النساء: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) (2) وخير ما فسر به كلام الله أن يفسر بكلام الله. وهنا ((إِلَّا اللَّمَمَ)) إلا السيئات التي ليست كبائر. فإذن ((إِلَّا اللَّمَمَ)) أي إلا السيئات التي تلم بها النفس البشرية ولا يتنزه عنها من نظرة أحياناً وما شاكل هذا من الصغائر الأخرى فإذا وقع في ذلك وفطم نفسة عن الكبائر فتغفر له هذه الصغائر بفضل الله ورحمته وأما الأحاديث: فجنسها متواتر. منها:
__________
(1) بالضم مع المد. وإذا فتحت أقصر: الفَجأة
(2) النساء:31(65/104)
ما ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر] وفى رواية: [ما لم تفش الكبائر] إذن إذا اجتنب الإنسان الكبائر لم يفش الكبائر، هذه الطاعات هي مع اجتنابه للموبقات تغفر له الصلاة إلى الصلاة. والجمعة إلى الجمعة , ورمضان إلى رمضان. الصغائر تغفر له بفضل الله ورحمته. هذا كلام النبي علية الصلاة والسلام وكما قلت ومنها قول النبي علية الصلاة والسلام: [اجتنبوا السبع الموبقات] (1) ومنها قول النبي علية الصلاة والسلام [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر] (2) وسيأتي الإشارة إلى بعض الأحاديث التي نصت على أن الذنوب كبائر في آخر المباحث إن شاء الله.
__________
(1) - قلت: هذا الحديث متفق على صحته من رواية أبى هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل: [اجتنبوا السبع الموبقات: قالوا يا ر سول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا واكل مال اليتم والتولي بوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات]
(2) - قلت: هذا الحديث متفق عل صحته من رواية أنس - رضي الله عنه - قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكبائر قال: [الإشراك بالله وعقوق الوالدين (بياض) النفس وشهادة الزور](65/105)
ثبت في صحيح ابن حبان. والحديث في موارد الظمآن (1) ورواه الحاكم في مستدركه والنسائي في سننه وابن ماجة وخرجه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقى في السنن الكبرى وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي عن أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصحابة فقال علية الصلاة والسلام: [والذي نفسي بيده والذي نفسي بيده والذي نفسي بيده]ـ زاد الحاكم في رواية النسائي: [ثم أكب (2)
__________
(1) - صفحة 35
(2) - أكب: أي أطرق * ولذلك أخرج الحديث في كتاب الزكاة في أوله.(65/106)
النبي علية الصلاة والسلام ـ فأكب الصحابة رضوان الله عليهم يبكون ويقولون: ما ندرى ما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم -] قال والذي نفسي بيده ثلاثاً ثم اكب وسكت ثم رفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه ووجهه يتلألأ ويرى البشرى في وجهه فكان ذلك أحب إلينا من حمر النعم] أن سرى عن النبي عليه الصلاة والسلام من حاله وظهرت البشري في وجهه فقال علية الصلاة والسلام: [ما من عبد يؤدى الصلاة المتكوبة ويصوم رمضان ـ زاد النسائي*: ويخرج زكاة ماله ـ ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية حتى أنها لتصطفق أبوابها فليدخل من أيها شاء ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية ابن حبان ـ ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) (1) وقد ثبت في الصحيحين وسند أبى داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم أي بالصغائر التي أشار إليها ربنا إلا اللمم ـ مما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فالعينان تزينان وزناهما النظر ـ هذا من اللمم ـ واللسان يزنى وزناه الكلام والنفس تتمنى وتشتهى ـ لا زال هذا كله في اللمم ـ ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه] فإذا زنا تحقق بأنه فعل كبيرة وإلا لا زال في اللمم. فهذا شبة شيىء باللمم. كما يقول ابن عباس وقد ثبت في سنن الترمذي عن نبينا علية الصلاة والسلام أنه قال [إن تغفر اللهم تغفر جماً وأىً عبد لك لا ألّماً] أي أي عبد يخلوا من الذنوب الصغيرة والسيئات الصغيرة؟ لا يخلو من هذا أحد.
__________
(1) - النساء: 31(65/107)
إخوتي الكرام: هذا الأمر الذي قرره أهل السنة الكرام ـ تنقسم السيئات إلى كبائر وصغائر ـ خالف فيه فرقتان ضالتان. المرجئة في هذا خالفوا فقالوا: ليس في الذنوب كبائر. كلها صغائر. وقبلهم غلاة الصوفية فقالوا: ليس في الذنوب صغائر كلها كبائر. هؤلاء يقولون كلها كبائر وهؤلاء يقولون كلها صغائر. فلنتكلم عن كل من الفرفتين على سبيل الإيجاز:
أما المرجئة: سموا بذلك ـ إخوتي الكرام ـ لأمرين:
الأمر الأول: إما من الإرجاء بمعنى التأخير ((أَرْجِهْ وَأَخَاهُ)) (1) أرجأ كذا: أي أخره. والمرجئة سموا بذلك لانهم يؤخرون العمل عن الإيمان. فيقولون: الإيمان هو عقد بالجنان ونطق باللسان ولا يشمل العمل بالأركان. فإذا اعتقد شهادة الحق في قلبه وأقر بلسانه هذا مؤمن كامل الإيمان. يترك المأمورات ويفعل المحظورات لا يضره عند رب الأرض والسموات. هذا خلاصة قول المرجئة وقد قال قائلهم:
مت مسلماً ومن الذنوب فلا تخف
حاش المهيمن أن يري تنكيداً (2)
لورام أن يصليك نار جهنم
ما كان ألهم قلبك التوحيداً
لماذا اعتقدت شهادة الحق ونطقت بها. أنت كامل الإيمان. إيمانك وإيمان أبى بكر - رضي الله عنه - بل إيمانك وإيمان النبيين والملائكة سواء يقول بلسانه لا اله إلا الله محمد رسول الله علية صلوات الله وسلامة. ويعتقد موجب هذا ويعتقد بقلبه. هذا مؤمن كامل الإيمان. وعلية: ليس في الذنوب ـ إذن ـ كبائر إذا اتصف الإنسان بالتوحيد.
__________
(1) - (بياض)
(2) - أي أن يريك عذاباً (بياض)(65/108)
هذا الإرجاء بدعي والقائل به ضال ورؤوس الفرق الضالة أربعة أصناف وضم إليهم أئمتنا صنفاً خامساً لكن هذا الصنف الخامس هو أشنع وأخبث الأصناف الخمسة ولذلك اختلفوا هل يضم إليه أم لا كما قال الإمام ابن تيمية على رحمة الله في مجموع الفتاوى (1) وكرر هذا مواطن كثيرة يقول: أول وأقدر من تكلم في رؤوس الفرق الضالة يوسف بن أسباط وتبعة شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليم جميعاً رحمة الله ـ وعلى ذلك بعد ذلك أهل الحق أهل الهدى ـ قال يوسف بن أسباط وعبد الله ابن المبارك أربعة: أولها الروافض وهم الشيعة ويقابلهم الخوارج. وهاتان الفرقتان متقابلتان. أما الروافض غلوا في علي وآل البيت رضي الله عن علي وعن سائر آل البيت الطيبين الطاهرين وحبهم دين بلا شك عند أهل السنة المهتدين ولا يبغض علياً أو أحداً من آل البيت إلا منافق ولا يحبهم إلا مؤمن. غلوا فيهم حتى قالوا بعصمتهم ورفعوهم إلى ما فوق درجات الأنبياء ثم ليتهم اقتصروا على هذا البلاء. كفروا سائر الصحابة على الإطلاق. علي كفر. أما أبو بكر وعمر شيطانان رجيمان!!!؟ يا عباد الله رفقاً بأنفسكم. علي على الهدى لا شك ووالله من يضلله فهو أضل من حمار أهله، لكن احفظوا قدر غيرة أيضاً. وهم لم يدخلوا في الإسلام حقيقة رغبة ولا رهبة إنما دخلوا كيداً للإسلام ومقتاً لأهله.
__________
(1) - (23/348)(65/109)
الخوارج على النقيض تماماً قالوا علي كافر خارج عن الدين ـ هذا قول الخوارج والصحابة على هدى. علي ومن معه كلهم كفار. قولان متقابلان. خوارج والروافض وفرقتان متقابلتان. وهما مرجئة. والتي يقابلها القدرية. أما المرجئة فقالوا: العمل ليس من الإيمان. أما القدرية فقالوا: لو ترك العمل ـ كما سيأتي ـ وفرط في شيىء منه فهو مخلد في النيران. لو ارتكب موبقة. زنا شرب الخمر. مات على ذلك من غير توبة (1) مات وهو عاص على معصية من المعاصي فهو مخلد في نار جهنم هو وإبليس سواء. وإن كان يصلى ويصوم ويحج ويتصدق ويجاهد في سبيل الله فالمرجئة والقدرية متقابلان والخوراج والروافض متقابلان. فقيل ليوسف بن أسباط وعبد الله بن المبارك عليهم جميعاً رحمة الله فما تقولون في الجهمية؟ فقالوا: الجهمية ليسوا من المسلمين. يعنى أولئك ضلالهم يزيد على ضلال هؤلاء. قال الإمام ابن تيمية: وقد ذهب إلى ما ذهب إليه هاذان الإمامان بعض أصحاب الإمام احمد وبعض أهل السنة. ثم قرر أن المعتمد أن الجهمية هي الفرقة الخامسة الضالة وهؤلاء الفرق الخمسة الجهمية والروافض والخوراج والمرجئة والقدرية عن هذه الفرق تفرقت الفرق الضالة الأخرى.
__________
(1) - إذا تاب تاب الله عليه هذا محل اتفاق ز(65/110)
اثنتان وسبعون فرقة (1) كلهم في النار إلا واحدة هي من كان على مثل ما كان علية النبي علية الصلاة والسلام وأصحابة فهذا الإرجاء هذا إرجاء بدعي إرجاء إذن إما من التأخير وهو تأخير العمل عن الإيمان وإما من الرجاء. تقول أرجيته بمعني أخرته. وأرجيته بمعنى رجيَّتُهُ أي جعلته راجياً لهذا الأمر. وسمي المرجئة مرجئة للأمرين. أخروا العلم عن الإيمان وغلبوا نصوص الوعد وألغوا نصوص الوعيد. وهذا أهل البدع والضلال في جميع العصور يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض كما جاء الوعيد وهم الخوارج والمعتزلة أخذوا بنصوص الوعيد وألغوا نصوص الوعد. المرجئة أخذوا بنصوص الوعد وألغوا نصوص الوعيد وقالوا كل ما يرد في القرآن والسنة عن نبينا علية الصلاة والسلام من أخبار بتعذيب العصاه. هذا كله للتخويف لكن لا حقيقة له ((وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا)) (2) ليخاف الناس لكن لن يقع عليهم شيىء من ذلك. إذا قال لا اله إلا الله واعتقد بقلبه ناج وذاك يقابلة فيقول إذا فرط في شعيرة أو ارتكب موبقة فهو هالك هذا ضلال وذاك ضلال.
سمي المرجئة لأمرين الإرجاء بمعنى التأخير والإرجاء بمعنى تغليب الرجاء على الخوف وهذا حال أهل البدع ولذلك إخوتي الكرام لا بد من عبادة الله جل وعلا بأمور ثلاثة إذا لم تكن في العابد والمؤمن فهو ضال. وهى الخوف والرجاء وهما للمؤمن كالجناحين للطائر وحب الله جل وعلا: قال الأمام مكحول الدمشقي علية رحمة الله (3) :
__________
(1) - فرقة ضالة ردية كما سيأتينا في حديث النبي علية الصلاة والسلام.
(2) - الإسراء:59
(3) - ومن أئمة التابعين وهو أفقه وأعلى من الإمام الزهري عليهم جميعاً رحمة الله. توفى سنة بضع ومائة. حديثة مخرج في الكتب السنة ثقة وفوق الثقة.
قلت: توفى سنة 112 (الأعلام للزركلى: 7/284)(65/111)
من عبد الله بالخوف فقط فهو حرورى أي خارجي من الذين يقولون بالوعيد لا بالوعد (1) ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجىء ومن عبده بالحب فهو زنديق ـ هذا يؤول به الأمر كغلاة الصوفية الذي يقول أنا الله والله أنا وينزل المحب نفسه منزلة محبوبة. وهذا حال الضالين يعبد بالحب فقط. بالخوف فقط، بالرجاء فقط ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق وصل الأمر ببعض المحبين المهوسين عندما مر على قول الله جل وعلا ((تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)) (2) قال: يخوفنا الله بنار جهنم. والله لو بصقت عليها لأطفأتها سبحان الله! ستطفأ ناراً وقودها الناس والحجارة؟! هذا هو الإضلال وهذا هو الدلال في غير محلة دلال أهل الضلال. وقل: لو ضربت جهنم بطرف مرقعتي (3) لأطفأتها. فقط أشير إليها هكذا بطرف المرقعة تخمد. فنار جهنم نحن نخاف منها! هذا هو حال الحب وذلك حال الخوف وهذا حال الرجاء فلا بد من اجتماع الأمور. حب وخوف ورجاء والعبد سمي عبداً لأنه يحب ربه بجميع قلبه وتذلل له تذللاً تاماً. هذا معنى العبد. ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)) (4) فالمرجئة إذن سموا مرجئة لأمرين:
أخروا العمل عن الإيمان وقالوا ليس منه وغلبوا نصوص الوعد على نصوص الوعيد. هذا الإرجاء بدعي ومن اتصف به فهو ضال (5) .
__________
(1) - وحوراء: قرية من قرى الكوفة أجتمع فيها الخوارج ويأخذ بنصوص الوعيد دون الوعد: حروى.
(2) - الملك: 8
(3) - يعنى بطرف الجبّة التي يلبسها هذا الصوفي
(4) - الأنبياء: 90
(5) - وسيأتينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار في أحاديثة وأخبر بعيب عن حدوث هذه الفرقة. وما وقع شيىء إلا وأشار إليه نبينا - صلى الله عليه وسلم -(65/112)
أما الإرجاء: يطلق أيضاً على ثلاثة أمور أخرى: أمران سليمان سديدان لا حرج في كون الإنسان يتصف بهما لأن أهل البدع ينبذون أهل الحق بها.. وواحد في الحقيقة لا حرج فيه ولا على أصحابه لكن تركه أولى.
يطلق الإرجاء على آهل السنة أهل الهدى. ومن الذي يطلق عليهم هذا؟ المعتزلة. المعتزلة يقولون عن أهل السنة إنهم مرجئة.؟ لأننا نحن لا نجزم بحال صاحب الكبيرة عند الله فلا نقول في الجنة ولا في النار. نقول: أمرة إلى الله وان شاء عذبه وان شاء غفر له إن عذب مآله الجنة يقولون أنتم مرجئة لأنكم ترجئون ـ تؤخرون ـ الحكم عن صاحب الكبيرة ولا تجزمون له بالنار (بياض) في هذا الإرجاء حرج؟ ! أكرم بهذا الإرجاء. إذا كان الإرجاء هذا معناه فنحن مرجئة كما قال (بياض) الشافعي:
إن كان رفضاً حب أصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -
فليشهد الثقلان أنى رافضي
يعنى إذا كان معنى الرافضة حب آل البيت فأنا رافضي. ليس هذا معنى الرفض ومعنى الرفض: تكفير الصحابة وطعنهم ولعنهم ولذلك أنظر ماذا يقول الشافعي:
إن كان ناصبي حب أصحاب النبي
فليشهد الثقلان أنى ناصبي(65/113)
أنا رافضي وناصبي والناصبى: هم الذين في الأصل يعادون آل البيت ويناصبونهم العداوة والبغضاء. كما أن الروافض الذين يناصبون الصحابة العدواة والبغضاء فالشافعي علية رحمة الله ليس معنى الرفض حب آل البيت. فإذا كان معناه هذا فأنا أول الرافضة وليس معنى النصب حب الصحابة لا. معنى النصب هو الطعن في آل البيت. أما إذا كان معنى النصب حب أصحاب النبي علية الصلاة والسلام فليشهد الثقلان أنى ناصبي. وهنا كذلك. إذا كان الإرجاء هذا معناه أننا لا ننزل صاحب الكبيرة في جنة ولا نار ونقول أمره موكول إلى ربه ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءَ)) (1) ونحن غاية ما عندنا أننا نرجوا للمحسن الجنة ونخشى على المسىء من النار ولا نجزم لواحد منهما بإحدى الدارين. هذا لا يعلمة إلا من يعلم السر وأخفى. فكونهم يطلقون علينا لفظ الإرجاء لهذا الحكم الذي دلت عله شريعة الله المطهرة فأكرم به من لفظ. هذا الفظ خبيث يطلقة أهل البدع علينا هذا مثل ما يطلقة علينا هذا مثل ما يطلق أيضاً أهل الكلام على أهل السنة أنهم حَشوٍيّة، وحش الشيء رذالته والقبيح منه ونخالته الذي لا يسوى سيئاً وأول من أطلق هذا اللفظ الضال عمرو بن عبيد رئيس المعتزلة. على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فقال. كان ابن عمر حشوياً إن عمر من رذالة الناس وأما أنت أيها الضال أنت من الأكياس!! فعندما يقال لنا حشوية نقول إذا كان التمسك بكتاب الله وسنة نبيه علية الصلاة والسلام من ألفاظ الذم عنكم بهذه الصيغة فأكرم بذلك من صفة والله يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ)) (2) كما انه في هذا العصر بأي شيىء يعبر عن الملتزم بدين الله؟ متزمت. ورجعى ومتعجرف. ومتشدد ومتحجر ويريد أن يعيدنا إلى القرون الأولى. متطرف. أوصولي..
__________
(1) - النساء: 116
(2) - المطففين: 29(65/114)
قل ما شئت أشكال ألوان تخرج في الإذاعات ووسائل الإعلام. وإرهابي أحياناً. أحياناً يخوف كما قالت بعض مدرسات علم النفس تقول: الإنسان إذا كان له لحيه ومشي في الشوارع ويراه الناس يخافون ويفزعون. هؤلاء إرهابيون، يعنى عندما يعفى اللحية إرهابي!! طيب هذه الألفاظ التي ننبز بها من قبل المبتدعة في القديم والحديث يضرنا هذا؟ لا يضرنا..
إخوتي الكرام: إذا كنت على الحق فلو قال أهل الأرض جميعاً عنك إنك ضال ماذا يضر؟ وقد قالوا عن نبي الله نوح على نبينا وعلية الصلاة والسلام ((مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ)) (1) ما أرسل نبي إلا ووصف بالجنون. وإذا كان الإنسان على حق فليحمد الله ولا يضيره بعد ذلك الألقاب التي تكال إلية هنا وهناك فأهل البدع وهم (بياض) المعتزلة يطلقون لفظ الإرجاء على أهل السنة فانتبه لها.
إرجاء آخر:
__________
(1) - القمر: 9(65/115)
يطلق على من توقف في الصحابة الكرام بعد عثمان رضي الله عنهم أجمعين. عندما اختلفوا فلا يدخل نفسه حكما بينهم. ويقول: تلك دماء صان الله أيدينا عنها فلنصن لساننا. وربهم رب كريم وهم بعد ذلك رحماء فيما بينهم ولا نتداخل فلا نخطىء ولا نصوب ولا ندخل آرائنا في هذا الحكم. وهذا حقيقة أسلم ما يكون. ما حصل من خلاف بعد الصحابة نفوض أمره إلى الله جل وعلا مع جزمنا بأنهم ما أرادوا بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة. وكون هذه الحوادث استغلها بعض المنافقين وأزنارها في ذلك الحين نجزم بذلك أيضاً وأن الصحابة ما أرادوا إلا وجه الله ترتب على ذلك ما ترتب من فتنة نسأل الله أن يغفر لهم. فلهم حسنات كأمثال الجبال. وهم اجتهدوا فأرادوا حقاً كونه تعالى رتب على ذلك مفسدة ربنا جل وعلا غفور رحيم ويرضيهم يوم القيامة. وقد قال على - رضي الله عنه - لمحمد بن طلحة ـ أحد العشرة المبشرين بالجنة: طلحة بن عبيد الله وهكذا على ـ: أرجوا أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله فيهم: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ)) (1) فقال بعض الحاضرين كما في سنن البيهقي: ما أنصفناهم يا أمير المؤمنين. نقاتلهم ثم نقول أنهم في الجنة؟ فأخذ على حجراً لو أصابه لقتله وقال: إخسأ فإذا لم أكن أنا وطلحة من أهل هذه الآية فمن سيكون؟.
__________
(1) - الحجر: 47(65/116)
وجاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين وتكلم في مجلسة مع من كان الحق مع على أو مع من خالفه. وهل معاوية أصاب أو لا..؟ فقال عمر - رضي الله عنه - ـ الخليفة الخامس الراشد أيها الرجل إن رب معاوية رب رحيم وأن خصم معاوية خصم كريم فما دخلك بينهما يا لئيم؟ تدخل نفسك بينهما لٍمَ؟ الله رحيم. وخصمه كريم. فأنت لم تدخل نفسك بينهما؟ من الذي نصبك حكماً؟ الله قال لك أحكم في هذه القضية؟ أو اختصم إليك علي ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين في هذا الأمر؟ فإذا ما كلفت بهذا كيلْ أمره إلى الله جل -وعلا وهو أعلم بعباده سبحانه وتعالى فمن يتوقف في أمر الصحابة الذين اختلفوا بعد عثمان رضي الله عنهم أجمعين ولا يتكلم فيهم ولا يصوب ويخطى يقال له مرجىء. ليس في هذا الإرجاء أيضا غضاضة ولا حرج.(65/117)
النوع الثالث من الإرجاء وهو (1) : الإرجاء الذي نسب إلى أبي حنيفة عليه رحمة الله وأصحابه وهو أن الإيمان اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وأما العمل فليس من الأركان الإيمان لكنه من ثمراته فإذا آمن الإنسان يكون من المتقين إذا أطاع يكون من المتقين وإذا عصى يكون من الفاسقين الخاسرين. فقال: الطاعة تنفع والمعصية تضر لكن لم يقل إن العمل من الإيمان. والذي عليه من الجمهور من السلف الإيمان اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالاركان والله يقول في كتابة ((وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) (2) أي صلاتكم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ـ كما في الصحيحين [الإيمان بضع وسبعون شعبة ـ فإذن خصال الإيمان هي عمل ـ أعلاها قول لا اله إلا الله وأدنها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان] إذن هذه من خصال الإيمان وجزئياته والعمل من مسمى الإيمان. نعم إن ترك العمل لا يوقع الإنسان في كفر بخلاف ترك الإقرار أو ترك الاعتقاد لكنه من أركان الإيمان. ما الخلاف بين أبى حنيفة وبين جمهور أهل السنة خلاف ـ كما قال أئمتنا في كتب التوحيد ـ صوري. يقول: أي خلاف في ظاهر اللفظ لا في الحقيقة فأبو حنيفة علية رحمة الله يقول: ركنان لا بد منهما لوجود الإيمان إعتقاد وإقرار وأما العمل. يقول: هذا ليصبح الإنسان من المتقين أو الفاسقين فقط. فإذا اتقى الله وعمل فهذا من المتقين. عصى الله هذا من الفاسقين. نقول لجمهور أهل السنة إذا اعتقد وأقر لكنه خالف في العمل ما حكمة؟ يقولون؟: مؤمن عاصي. نقول: إذا اعتقد وأقر واتقى ربه والتزم بالعمل ما حكمة؟ مؤمن تقي. فهل هناك خلاف في الحقيقة بين جمهور السلف وقول أبى حنيفة؟ لا لكن خلاف ـ كما قلنا ـ صوري لفظي.
__________
(1) - الذي كما قلنا حقيقة لا حرج فيه لكن تركه أولى
(2) - البقرة: 143(65/118)
حقيقة تركه أولى لأنه لم يسبق أبا حنيفة؟ إلى هذا القول أحد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ولا من التابعين لهم بإحسان بأن العمل ليس من مسمى الأيمان فنقول الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. نعم التفريط في الاعتقاد كفر والتفريط في الإقرار كفر والتفريط في العمل هذا فسوق وعصيان وليس بكفر يخرج من الملة لكن هذا من مسمى الإيمان ومن أركانه كما وضحت هذا آيات القرآن وأحاديث النبي علية الصلاة والسلام.(65/119)
ولذلك: كان أئمتنا يحذرون ممن قال بقول أبى حنيفة لا لأن القول مبتدع خبيث ويؤدى إلى خلاف في الحقيقة بين هذا القول وبين أهل السنة خشية أن يتصيد بهذا القول المرجئة الحقيقيون وأن يضلوا العامة بعد ذلك وأن يقولوا لهم الإيمان قول واعتقاد وأما العمل ليس منه كما يقول أبوة حنيفة وغيرة فلئلا يتذرع ويتمسك بهذا القول إلى بدعة كانوا ينفرون منه أنظر إلى مٍسّعر بن كٍدَام علية رحمة ربنا الرحمن (1) قال الإمام الذهبي في ترجمته (2) مسعر بن كدام إمام حجة ثقة. يقول: وقطعنا فيه السليمانى بغير حجة فقال إنه مرجىء. قلت: والإرجاء مذهب لعدة من جلة العلماء لا ينبغي التحامل على قارئة. أي ارجاء؟ ارجاء أبي حنيفة ليس الإرجاء البدعي، ذاك قلنا المتصف به ضال وانتهي وقال الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة مسعر: قال شعبة كنا نسميه المصحف ـ أي نسمى مسعر بن كدام بالمصحف (3) لحفظة وضبطه وعدم نسيانه وخطه وكان يقرأ كل ليلة نصف المصحف. وقد عرض عليه أبو جعفر المنصور القضاء فامتنع. وقال ابن أبى حاتم. لاأبيه إذا اختلف الثوري ومسعر فقول من نقدم؟ قال نقدم قول مسعر. وقال شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك عليهم جميعاً رحمة الله: من كان ملتبساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدامن. لما توفى هذا العبد الصالح أمتنع سفيان الثوري من حضور جنازته وقال لا احضر جنازة من يقول العمل ليس من الإيمان. وهذا لم؟ تنفيراً كما قلنا من هذا القول لئلا يجر إلى الإرجاء البدعى الذي من اتصف به فهو ضال بالاتفاق.
__________
(1) - توفى سنة 555 أخرج حديثة أهل الكتب الستة
(2) - في ميزان الاعتدال: 4/99
(3) - يلقب بهذا اللقب ما أشعر بمدح وذم(65/120)
وهكذا محمد بن الحسن تلميذ أبى حنيفة كان يقول بهذا القول شهد على شريك القاضي في مسألة فرد شهادته فقيل: ـ كيف ترد شهادة وهو إمام المسلمين؟ قال: استحي من الله أن اقبل شهادة من يقول الصلاة ليست من الإيمان. لأن الصلاة من العمل والصلاة ليست من الإيمان. كيف أقبل شهادة من يقول هذا. والله يقول في كتابه: ((وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) (1) لكن كما قلنا (بياض) ليست من الإيمان (بياض) لا حرج فيه (بياض) إذا فعلها صار تقياً وإذا تركها صار شقياً لكن يقول: الإيمان يتحقق بالاعتقاد والإقرار فبقى إرجاء صوري يخالف أهل السنة في الصورة لا في الحقيقة. ترك هذا أولى وعدم القول به أحسن وأسلم. ومن قال به نلتمس له العذر لئلا نضلله. لكن لا نصوب قوله ونقول هذا هو الحق فعياذاً بالله من ترك قول جمهور السلف ولأخذ بقول بعض المتأخرين ممن يقوله تأويل معتبر. نحن نقول هذا التأويل لنخرجه من الضلال لا لنأخذ به. أما الإرجاء الذي يطلقه علينا أهل البدع المعتزلة. قلنا: لا حرج فيه. أننا نرجىء الحكم على صاحب الكبيرة الإرجاء الذي يتطلقونه علينا إذا توقفنا في الخلاف الذي وقع في الصحابة الكرام بعد عثمان لا حرج فيه. الإرجاء الثالث لا حرج فيه المآل والحقيقة لكن تركه أولى. الإرجاء الأول الذي ذكرناه وهو الرابع إرجاء بدعي ينبغي الحذر منه.
إخوتي الكرام:
__________
(1) - البقرة: 143(65/121)
المرجئة أصناف كثيرون. بلغوا اثني عشر صنفاً هذا المرجئة فقط. وأما الشيعة فبعض أئمتنا يقول إن فرق الضلال كلها موجودة في الشيعة. لذلك جمعوا ما تفرق في غيرهم (بياض) كانوا مشبهة وأول من قال بالتشبيه في هذه الأمة وتمثيل الخالق بمخلوقة هشام بن الحكم الرافضي الذي كان ينطق بكفر يتنزه عنه الملحدون الزنادقة ويحدد لله الأطوال من أشبار وغير ذلك. ويصفه باللون والطعم والرائحة وغير ذلك. وكان يقول: إن جبل أبى قبيس أكبر من الله - عز وجل -. آخر الشيعة بعدد ذلك ـ وهو المذهب الذي علية الشيعة الأن ـ معطلة. كيف جمعتم بين التعطيل وبين التمثيل؟ وهذا في واد وذلك في واد!؟ وهذا في المشرق وهذا في المغرب؟ جمعوا ما تفرق في غيرهم. الأوائل ممثلة والأواخر معطلة. ينفون عن الله كل صفة وساروا على مذهب المعتزلة.(65/122)
فإذن هذه الفرقة من فرق الضلال فلنسأل الله جل وعلا أن يثبت الإيمان في قلوبنا وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن هذه الأمة سيقع فيها الانقسام والافتراق. ففي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم والحديث مروى في السنن الأربعة في سنن النسائي الكبرى وفى السنن الثلاثة من رواية عدة من الصحابة الكرام زادوا على العشرة. وقاربوا العشرين والحديث صحيح صحيح بل نص الإمام السيوطي على تواترة. وهكذا الشيخ الكتاني في كتابة نظم المتناثر من الحديث المتواتر. ولفظ الحديث عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعون فرقة فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون في النار. والذي نفسي بيده ـ علية صلوات الله وسلامة ـ لتفترقن أمتي إلى ثلاث وسبعون فرقة فواحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار. قالوا: من هي يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ التي في الجنة ـ؟ قال الجماعة ـ وفى رواية من كان على مثل ما أنا علية اليوم وأصحابي] (1)
__________
(1) - والحديث إخوتي الكرام ـ كما قلت لكم صحيح. ولا عبرة بطعن ابن حزم في هذا الحديث. ففي كتابه. الفيصَل وبقاله له: الفَصّل في الملل والأهواء والنحل (3/138) يقول: هذا الحديث لا يصح من جهة الإسناد أصلاً. والشيخ الآلبانى في سلسلة الأحاديث الصحيحة في الحديث رقم 203 و204 نقل كلام الإمام ابن حزم وقال: هذا الكلام المنسوب لابن حزم ما أعلم أين ذكره ابن حزم وغالب ظني أنه في الفصل وقد قلبت الكتاب من أولة لأخره فما عثرت على كلامة (أي أن هذا الحديث لا يصح من جهة الإسناد أصلاً) . وكما قلنا لكم هو في كتاب ابن حزم..يقول ذكروا أحاديث (بياض) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[أن القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة] وحديث أخر [تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة كلها في النار حاشا واحدة فهي في الجنة] والحديثان صحيحان كما سيأتينا الحديث الثاني سأذكره عما قريب: [القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة فإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن مرضوا فلا تعودوهم] قال أبو محمد (يعنى ابن حزم) : هذا حديثان لا يصحان أصلاً من طريق الإسناد. وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد فكيف من لا يقول به؟ أهـ. سبحان الله! هل يجوز رد الحديث بمثل هذا الكلام الذي يمكن أن نسمية كلاماً فارغاً؟ ولو يعطى الناس بدعواهم لأدعي أناس أموال قوم ودمائهم ولكن البينة على المدعى واليمن على من أنكر. فما هي. بينتك بأن الحديث لا يصح أصلاً من جهة الإسناد؟ من المطعون فيه؟ نناقشك هل أنت على بينة أو أنت واهم الحديث قلنا فى المسند والمستدرك والسنن الأربعة ويصححه أئمتنا أو أنت تقول: لا يصح أصلاً من جهة الإسناد. الإسناد الذي ذكر به هذا الأحاديث بل الأسانيد قلنا زادت على عشرة. من المطعون فيه في هذه الأسانيد؟ بيّن ذلك. أما: لا يصح من جهة الإسناد أصلاً. ما هكذا تورد الإبل وليس هذا هو بحث طلبة العلم. وهذا لو أردنا أن نسلم به لكل إنسان يأتي ويقول: حديث البخاري لا يصح عنى أصلاً هذا كلام باطل. ما هو السبب في عدم الصحة؟ قل: فلان فيه كذا. كما نص أئمتنا لنتبعك إن كنت على هدى وبينة وصواب. أو لننصحك ونحذرك من المخالفة إن كنت واهماً واشتبه عليك الأمر. أما: لا يصح أصلاً من جهة الإسناد هذا ليس ببحث طلبة العلم. ولا يكون البحث هكذا. وكما قلت الكلام موجود ومنقول عن ابن حزم وكل من تكلم عن هذا الحديث ذكر كلام الإمام ابن حزم. نعم لم يعزون هذا الحديث إلى الفصل لكنه موجود فيه في الجزء الثالث صفحة 138. وقد ذكر الإمام ابن تيمية علية رحمة الله في مجموع الفتاوى: 3/245 إلى 260 في شرح هذا الحديث وقد كتب علية الإمام الشاطبى في كتابة الاعتصام: 2/189 مائة صفحة متتالية.(65/123)
ولذلك اخوتى الكرام ينبغي أن نسأل الله جل وعلا الثبات على السنة. لا أهل السنة في (بياض) كالمسلمين في الملل الأخرى. يعنى إذا كان الإنسان مسلماً ورأى البوذيين والهندوك والسيخ والنصارى واليهود عليهم جميعاً لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة وعلى من يعطف عليهم أو يشفق عليهم فهو مثلهم ومعهم. لا اله إلا الله. المسلمون يصابون بأعظم الفاقات ولا أقول لا يوجد من يمد يد العون إليهم. لا. لا أقول لا يوجد من يقول لعل الله يساعدهم. لا. إنما إذا طلبت من العتاة مساعدة لهم يقولون ((أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ)) (1) هذا فقير زده فقراً وتشريداً وعقوبة. ينزل بلاء بعد ذلك بدولة كفرية يسارع المسلمون من كل جهة لمعونة تلك الدولة الكافرة الملعونة!! هل يجوز هذا اخوتى الكرام؟ كافر عذبة الله هو يعذب المسلمين نحن ما استطعنا أن ننتقم لديننا ولا لأنفسنا فالله تولي الانتقام وعذبه نأتي لنساعدة! وقلت مرة في بعض الدروس إن بعض العتاة ممن ينتسبون إلى الإسلام قال في محاضرة إنه يأس ويحزن لما حل بالاتحاد السوفياتى ـ وهذا من سنتين ـ من نكبات عن طريق الزلازل والأعاصير (!!) لان هؤلاء إخوان له في الإنسانية؟ فقلت راداً علية: أولاً أسأل الله أن يحشرك معهم ما داموا إخواناً لك فإن شاء الله تكون معهم في الآخرة. والآمر الثاني: إذا لم يكن عندك دين أما عندك كرامة ومروءة يذبحون إخواننا في أفغانستان بل في روسيا. ما ذبحه ستالين الملعون أربعة ملايين مسلم. هذا على يد ستالين فقط. أربعة (بياض) يذبحون. وألا بلاد روسيا أليست بلاد المسلمين بلاد بخاري وغيرها. كلها جعلت دولة علمانية تقول لا اله والحياة مادة والدين خرافة والأنبياء لصوص كذابون. ولن تقوم الساعة.
__________
(1) - يسن:47(65/124)
عشر سنين متتالية حرب بينهم وبين إخواننا المسلمين في أفغانستان ما نأسى ولا نأسف لما يحل بإخواننا من أسر تشرد ونساء ترمل وأطفال ضائعون يتخطفهم بعد ذلك دعاة التنصير من هنا وهناك بواسطة الحرب التي يشنها هؤلاء الكفرة على إخواننا الذين هم من دينا. وإذا بعد ذلك دولة عاتية لا تزال تجلس ـ كما يقال ـ على عرشها إذا أصيبت بشيء من الضائقة وإذا قرنت حالها بحالنا لا زلنا نحن نأكل من فتات موائدهم. يعنى خيراتنا كلها ينبغي أن تذهب بقضها وقضيضها إلى هناك! لا اله إلا الله؟ !.
أهل السنة في المسلمين كأهل الإسلام في الملل الأخرى. فأنت عندما تنظر إلى الشيوعي واليهودي والنصراني والبوذي الهندوكي والسيخي.. إذا كنت مسلماً تقول: الحمد لله الذي منّ على بالإسلام. وهكذا إذا كنت سنياً تنظر إلى الفرق الإسلامية إلى الرافضة والى الخوارج والى الجهمية والى المرجئة والى الصوفية والى والى ... نقول: الحمد لله الذي هداني إلى السنة. ولذلك يقول الإمام الاوزاعى علية رحمة الله رأيت رب العزة في المنام فقال لي: أنت الذي تنشر العلم وتبلغ حديث النبي علية الصلاة والسلام ـ أي تنشر ديني ـ؟ قلت: بفضلك يا رب. ثم قلت: رب أمتني على الإسلام. قال: قال وعلى السنة. (( (هذا الكلام ورد في (تلبيس إبليس (الجزء الأول صفحة 13، 16) وحلية الأولياء (الجزء السادس صفحة 142) وتاريخ دمشق (الجزء 35 صفحة 193) والبداية والنهاية (الجزء العاشر صفحة 117)) )) .(65/125)
على الإسلام وعلى السنة. ولذلك كان مجاهد تلميذ ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين وشيخ المفسرين يقول: والله ما أرى أي النعمتين على أعظم أن هداني الله للإسلام أو حفظني من الأهواء. يعنى أي النعمتين أعظم ما أدرى هذه عظيمة وهذه عظيمة. وأهل السنة في الفرق الإسلامية كأهل الإسلام في الملل الأخرى ولذلك يقول أئمتنا: أهل السنة وسط في صفات الله بين فرقتين ضالتين ممثلة ومعطلة ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) رد على التمثيل ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (1) رد على التعطيل وإيماننا بصفات ربنا يقوم على ركنين: إقرار وإمرار فالإقرار نرد على المعطلة. وبالإمرار نرد على الممثلة. نقر ونمر. فلا نقر ونكيّف ونمثل. ولا ننفى صفات الله فنعطل. وهم في وعيد الله جل وعلا بين فرقتين ضالتين بين المرجئة والجهمية وبين القدرية والخوارج الوعيدية. فالمرجئة والجهمية يقولون لا يضر مع الإيمان معصية والخوارج والمعتزلة يقولون فاعل الكبيرة مخلد في نار جهنم وأهل السنة يقولون: مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه أمره موكل إلى ربه إنا شاء غفر له وان شاء عذبه مآله إلى الجنة مهما طال الأمد.
وأهل السنة في أفعال الله جل وعلا بين فرقتين ضالتين بين الجبرية وبين المعتزلة القدرية.
__________
(1) - الشورى: 11(65/126)
أما الجبرية فيقولون: لا اختيار لعبد وهو مجبور كالريشة في مهابّ الهوى وأما القدرية فيقولون لا تقدير لله ولا مشيئة فالعبد يفعل ما يشاء وأهل السنة يقولون: للعبد مشيئة لكن مرتبطة بمشيئة الله ((وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ)) (1) ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (2) وأهل السنة نحو الصحابة الكرام وآل البيت الطيبين بين فرقتين ضالتين. بين الروافض والخوارج. والخوارج يكفرون عليا ًويعادون آل البيت. ومن كان مع علي. ويتولون الصحابة , والروافض على العكس يوالون علياً وآل البيت (بياض) الصحابة. ونحن نقول: (بياض) الجميع دين نتقرب بذلك إلى رب العالمين. ليس كما (بياض) يقول هؤلاء ولا هؤلاء. نحن الصحابة كما يدعى الخوارج ونحن آل البيت كما يدعى الروافض فنحن نجمع المحاسن بأسرها. وأما هم فلكل واحد عنده ضلال ونقيصة.
وأهل السنة في؟ أسماء الدين والإيمان بين فرقتين ضالتين أيضاً. بين الخوارج والمعتزلة. وهذه فرقة ـ وبين المرجئة والجهمية.. وهذه فرقة أيضاً.. أما الخوارج والمعتزلة فقالوا: من فعل كبيرة زال عنه أسم الإيمان مباشرة. فالخوارج قالوا كفر والمعتزلة قالوا في منزلة بين منزلتين. وأما المرجئة والجهمية فقالوا إذا قال لا اله إلا الله محمد رسول الله علية الصلاة والسلام يفعل الكبائر كلها لا يضره لأن الإيمان عند الجهمية المعرفة فقط. وعند المرجئة ـ كما تقدم معنا ـ: إعتقاد وإقرار لا يضر بعد ذلك. ترك العمل وأهل السنة قالوا: قفوا عند حدكم ـ وسط بين فرقتين ضالتين ـ لابد من العمل فإذا فعلة صار تقياً وإذا تركة فهو مؤمن ما زال عنه اسم الإيمان، لكن لا يستحق هذا اللفظ بإطلاق فلا بد له من قيد: مؤمن عاص. مؤمن فاسق. مؤمن ظالم. مؤمن غشاش وما شاكل هذا. مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. أمرة مفوض إلى ربه.
__________
(1) - الإنسان: 30
(2) - الصافات: 96(65/127)
فهذه فرق متقابلة في خمسة أمور. أهل السنة فيها وسط كما أن أهل الإسلام وسط بين أهل الملل. فهم الخيار العدول ((كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)) (1) خياراً عدولاً. وهكذا أهل السنة هم الوسط في فرق هذه الأمة نسأل الله أن يثبت قلوبنا على سنة نبينا علية الصلاة والسلام وأن يجعلنا من أتباعه وأصحابة وأن يجمعنا معه في جنات النعيم إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
__________
(1) - البقرة: 143(65/128)
أما المرجئة الذين تقدمت الإشارة إليهم فقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى حدوث هذه الفرقة وهذا من أعلام نبوته علية صلوات الله وسلامة (1) روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط (2) عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة. فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ما توا فلا تشهدوهم] (3)
__________
(1) - والحديث ذكرته عند كلام ابن حزم وقال لا يصح أصلاً من جهة الإسناد. فانتبهوا له إخوتي الكرام.
(2) - كما في مجمع الزوائد: (7 /205) ورجال الإسناد رجال الصحيح كما قال الهيثمى خلا هارون بن موسى الضروى وهو ثقة وهذا من رجال الترمذي والنسائي.
(3) - وهذا الحديث رواة الإمام الترمذي وابن ماجة والآجري في الشريعة وابن أبى عاصم في كتاب السنة عن ابن عباس - رضي الله عنهم - أجمعين بلفظ [صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب القدرية والمرجئة] والحديث بهذا اللفظ رواة الترمذي وقال: حسن. وفى بعض النسخ: حسن صحيح ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم في كتاب السنة عن جابر بن عبد الله ورواه الآخري في الشريعة عن أبى هريرة ورواة ابن أبى عاصم عن أبى يعلي من الصحابة وعنه رواه اسحق بن راهوية ورواه اسحق ابن راهوية في مسندة عن أبى بكر الصديق - رضي الله عنهم - أجمعين ـ كما في المطالب العالية لأبن حجر ـ ورواة البخاري في التاريخ الكبير عن معاذ بن جبل ورواه أبو نعيم في الحلية عن أنس وعلية ستة من الصحابة الكرام رووا هذا الحديث [القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة ... ] ، [صنفان ليس لهما فى الإسلام نصيب القدرية والمرجئة] هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تساهل ابن الجوزى وتشدد فأورد الحديث في كتاب " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " وحكم علية بأنه تالف..وقد رد علية أئمتنا كالإمام العلائى والعراقي وابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله وبينوا أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن نعم في رواية الترمذي على بن نزار بن حيان الأسدي أخرج حديثة الترمذي وابن ماجه وهو ـ علي ـ وأبوه ضعيفان لكن للحديث شواهد كثيرة كما تقدمت الإشارة البها من عدة طرق ولذلك نص أئمتنا على قول هذا الحديث وتحسينه.(65/129)
قال الإمام أبو بكر (بياض) العربي (1) (بياض) النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القدرية والمرجئة في هذا الحديث لأن كل فرقة أبطلت شيئاً أما (بياض) بطلت شيئاً وأما المرجئة فأبطلت شيئاً من دين الله. أحداهما: أبطلت الحقيقة. والأخرى: أبطلت الشريعة. وما عين علية رحمه الله ـ أي الفرقتين أبطلت الحقيقة وأي الفرقتين أبطلت الشريعة. فأي الفرقتين أبطلت الحقيقة؟ اقدحوا أذهانكم! القدرية أبطلت الحقيقة ووجه ذلك: بدعة القدرية تتعلق لأفعال الله جل وعلا، فأفعال الله جلا وعلا، تقدم معنا ـ الجبرية والقدرية على طرفي نقيض. فالقدرية يقولون. لا تقدير لله على عبادة. والمرجئة يقولون: لا اختيار للعباد فيما يفعلون. مجبرون. وأولئك يقولون مختارون ولا تقدير فإذن متقابلتان. أبطلوا الحقيقة فقالوا: الله جل وعلا ما قدر على المخلوق شيئاً. والمخلوق يفعل بإختياره هو يخلق فعل نفسه ووصل الأمر بثمامه بن أشرس من أئمة المعتزلة الضالين أنه قال: لا يجوز أن نقول إن الله خلق الكافر فقيل له: فمن خلقه؟ قال: نقول مخلوق وكفى!! لا نقول الله خلقه! لٍمَ؟ قال: لأن الكافر إنسان وكفر ولو قلنا إنه مخلوق لله للزم من هذا أن الله خلق الكفر وبالتالي بطل مذهبنا لأن الله لا يخلق الكفر ولا يخلق فعل الإنسان إنما الإنسان هو الذي يخلق فعلة ويقدره. فلئلا نقول إن فعل الكافر مخلوق لله نقول الكافر ماله خالق (!!) نعوذ بالله من هذا الضلال. إلى هذا الحد؟ !
__________
(1) - في عارضة الاحوزى: 8/297 عند شرح هذا الحديث(65/130)
وأما المرجئة أبطلت الشريعة فقالوا: الأعمال ليست من الإيمان ولا غضاضة في تركها. وقال الأمام ابن تيمية علية رحمة الله (1) كل من الفرقتين ـ أي القدرية والمرجئة ـ تفسد الأمر والنهى والوعد والعيد. أما المرجئة فإفسادها لذلك ظاهر فهي لا تلقى للوعيد بالاً ـ وتقول عمل ليس من الإيمان ولا غضاضة في تركه ـ ولا تلتفت للأمر ولا للنهى ـ هذا حال المرجئة ـ وأما القدرية فالقدرية تطلق على فرقتين. تطلق على قدرية مجبرة وعلى قدرية معتزلة مجوسة فالقدرية أن احتجوا بالقدر على سوء فعلهم فهم والمرجئة سواء آل قولهم إلى قول المرجئة وإذا قالوا نحن نخلق أفعال نفسنا وليس لله جل وعلا تقدير علينا في ذلك فقد قابلوا الإرجاء فكل من الفرقتين أفسدوا الأمر والنهى والوعد والعيد.
__________
(1) - مجموع الفتاوى: 8/105(65/131)
وأما غلاة الصوفية (1) فمن قال بهذا القول فهو مبتدع ضال يقولون: ليس في الذنوب صغائر كلها كبائر. كل ما يعصى الإنسان به ربه فهو كبيرة. لٍمَ؟ قالوا للأن الذنب حجاب بين العبد وبين الرب والذنوب تسد على العبد معرفة علام الغيوب. وإذا كانت كذلك فهي كبيرة.!!
__________
(1) - الصوفية ليس حكمهم كحكم المرجئة المرجئة الذين يقولون العمل ليس من الإيمان ولا حرج ولا عضاضة في تركة على الإنسان قلنا فرقة ضالة لا خلاف في ذلك. الصوفية ليس الأمر كذلك لأن المرجئة نسبوا إلى بدعة وأما نسبة الصوفية ليست إلى بدعة. إلى لبس شيىء معين وهو الصوف ولا يصح غير هذا ونسبهم الناس إلى ذلك عندما اخشوشنوا واعرضوا عن ملذات الدنيا ولبسوا الخشن من الثياب فقال الناس: صوفية نسبة إلى حالهم فهم نسبوا إلى لبس شيىء وليس في هذا مدح ولا ذم ولذلك لا ينسحب حكم عام على كل الصوفية فيهم صديق وفيهم زنديق. وفيهم من هو من أصحاب اليمين وفيهم من هو عاص لربه ظالم لنفسه فلا بد من التفريق بين هؤلاء. فغلاة الصوفية الذين تلبسوا ببدعة ليس كلهم مبتدعون وليس كلهم مهتدون. كحال الرافضة وكحال المعتزلة وكحال المرجئة. هنا نسب = حكماً على الجميع. وقلت لكم: المرجئة اثنتا عشرة فرقة. مس مرجئة خالصة وسبع فرق يقولون بالإرجاء وبعضهم يقولون بالقدر وبعضهم يقولون بالجبر. وقد بحث أئمتنا في تلك الفرق كما ذكر أبو منصور البغدادي في كتابه: الفرق بين الفرق. في حالهم. والإمام أبو الحسن الاشعرى في مقالات الإسلاميين: 1/197 والفرق بين الفرق صفحة 202 وانظر كلام ابن حزم على فرق المرجئة 2/88 هذا فينا يتعلق بالمرجئة حكم عام وهكذا السيئة وهكذا الجهمية وهكذا القدرية أما الصوفية ليس كذلك أهـ.(65/132)
نقول: هذه الشبهة لا حقيقة لها ولا وجود. فليس الذنب حجاباً عن الرب وليس الذنب يحول بين الإنسان وبين معرفة ربه. كم من؟ إنسان يفعل معصية بحكم غلبة نفسه علية لكنه متضايق من نفسه. لا أبرىء نفسي. وما فعلت هذا تهاوناً بحقك ولا جرأة عليك إنما غرني حلمك علي وقلة عقلي وسفاهتي. أسألك أن تغفر لي. أهذه المعصية حجبته عن معرفة الله؟ سدت علية باب معرفة الله لا. ولذلك ذكرت الآية في أول مبحث السيئات: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) (1) والعبد يذنب الذنب يدخل به الجنة. قالوا وكيف؟ قال: لا يزال نصب عينية كلما ذكره بكي. وأنين المذنبين عند الله أفضل عند الله من تسبيح المسبحين. فهذا عندما ابتلى فتاب إلى الله أي حجاب حصل له. [كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] (2) ولا يلزم من أن الإنسان إذا وقع في معصية حجب عند الله وسدت عليه باب المعرفة. نعم المعاصي بريد الكفر أحياناً تؤول به إلى نسيان ربه وجحود إلهه. لكن أحياناً تؤول به إلى رفعة قدر عند ربه ((ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى)) (3) وكان حال آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بعد المعصية خيراً من حاله قبل المعصية. فهذا كلام باطل.
__________
(1) - آل عمران: 135، 136
(2) - فلت: هذا الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والدرامي بسند صحيح والحاكم وقال صحيح الإسناد (بياض) أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [كل بني آدم ... ] ورواه المنذرى والبغوى.
(3) -طه: 122(65/133)
ونرد على الفرقتين المرجئة والصوفية فنقول: قولكم لا يوجد في الذنوب صغائر وكبائر. أما المرجئة ألغوا الكبائر. وأما غلاة الصوفية ألغوا الصغائر هذا مصادم للنصوص الشرعية كيف تفعلون بقول الله: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) (1) أأنتم أعلم أم الله؟ وكيف تفعلون بحديث رسول الله علية الصلاة والسلام (2) وفيه يقول النبي علية الصلاة والسلام: [الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ـ ما لم تغش الكبائر] ؟ هذا كلام النبي علية الصلاة والسلام فهل يعقل بعد ذلك أن نأخذ بتعليلاتكم العليلة ونترك شريعتنا الجليلة؟ كلامكم مصادم للنصوص وكل اجتهاد وكل قول يصادم نصاً فهو فاسد الاعتبار لا ينظر في مضمونه بغض النظر عن قائله مهما كان شأنه.
الأمر الثاني: نقول: يترتب على معرفة الكبائر والصغائر أحكام في العاجل وفى الأجل. فكيف سنطبق تلك الأحكام إذا لم يكن في الذنوب صغائر ولا كبائر؟ (3)
إخوتي الكرام: إذن هذا قول من خالف أهل السنة الكرام من قول المرجئة وقول غلاة الصوفية وقولها باطل. بأنه ليس في الذنوب صغائر وكبائر عند المرجئة أنها كلها صغائر. وعند غلاة الصوفية كلها كبائر.
فائدة:
__________
(1) -النساء: 31
(2) -تقدم معنا وهو في صحيح مسلم وسنن الترمذي وغيرها.
(3) - وسيأتينا إن شاء الله إليه الأحكام والآثار المترتبة على الكبائر والصغائر في الدنيا والآخرة في آخر المباحث وهو المبحث السابع.(65/134)
قبل أن نحدد الكبيرة والصغيرة وننتقل إلى المبحث السابع عندنا خلاف لفظي قال به بعض أهل السنة في الإرجاء الصوري الذي قال به أبو حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن الحسن فيما يتعلق بموضوع الإرجاء. هنا أيضاً في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر عندنا خلاف صوري بين بعض أئمتنا وجمهور أهل السنة قال به أبو اسحق الاسفرائيني (1) ونقلة الإمام القرطبي (2) عن أبى إسحاق وعن أبى المعالي إمام الحرمين وعن أبى الطيب بن الباقلاني ونقلة من أبى النصر عبد الرحيم القشيرى عليهم جميعاً رحمة الله
حاصله: أننا لا نقول في الذنوب صغائر. إنما نقول ذنوب ومعاصي لا نقول صغيرة وهؤلاء فعلوا هذا وقالوا هذا لئلا يتهاون الناس في المعاصي. فإذا قلنا لهم إن النظرة صغيرة والصغيرة تكفّر بالصلوات لا يبالون بالنظرة. فنقول هذه معاصي توجب غضب الله ولا نقول بعد ذلك يوجد صغائر.
__________
(1) - كما نقل عنه هذا الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: 1/315
(2) - في تفسيرة: 5/159(65/135)
نقول لهم: هل حكم النظرة كحكم الزنا؟ يقولون: نعوذ بالله كيف هذا؟ تلك من فعلها يقام عليه حد ويسجل عليه اسم الفسق. وأما هذه فلا حد عليها يقام ثم لا يجوز أن نطلق عليه لفظ الفسق. وهذه ليست كتلك. إذن مآل قولهم إلى قول جمهور أهل السنة لكن أرادوا ألا يكون في اللفظ شيء من تعلق بعض البطالين بفعل المعاصي. فقالوا لا نقول يوجد صغائر. نقول ذنب ومعصية لكن المعاصي تتفاوت فالزنا ليس كالنظرة. هذا معصية وهذا معصية نعم لكن هذا كبيرة وهذا صغيرة. وهم قالوا لا نقول صغيرة خشية أن يتساهل الناس في فعل المعاصي وهذا القول بما أن قائلة من أهل السنة وعندما نسأله عن مراده يقول: حكم الزنا ليس كحكم الصغيرة وليس كغلاة الصوفية يقول: الكل عندنا كبيرة أو كالمرجئة يقول: الزنا حكمه كحكم النظرة والكل صغيرة. ليس كذلك. إذا كان الأمر كذلك نقول كما قال ابن القيم هذا خلاف لفظي لا معنى له ليس تحته معنى يختلف هذا القول عن قول جمهور أهل السنة كخلاف أبى حنيفة ومن معه لجمهور أهل السنة في مسمى الإيمان. فانتبهوا لهذا لو قال قائل: إذا كانت الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر فكيف سنعرف كل ذنب ومن أي القسمين هو. هل هو كبيرة أو صغيرة؟ وهل لذلك ضابط محدد؟ نقول نعم. لذلك ضابط يميز الكبيرة عن الصغيرة. هذا الضابط نقل عن الضحاك (1) ونقل أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن ابن عيينه وقال به الإمام أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله وهو المعتمد عند أهل السنة الكرام كما قرر ذلك أئمتنا في كتب التوحيد (2) وهذا التفصيل موجود في كتاب السنة والسيئة للإمام ابن تيمية. وهو اختيار أبى عبيد القاسم بن سلام عليهم جميعاً رحمة الله وهو. أن الكبيرة ما وجد فيه أمرين: حد عاجل عقوبه مقدرة في الدنيا.
__________
(1) - كما في تفسير الطبرى
(2) - كشرح الطحاويه وغير ذلك.(65/136)
فكل ما علية عقوبة مقدرة في الدنيا فهذه المعصية كبيرة بكل ما علية وعيد خاص شديد في الآخرة فهو كبيرة من لعنة أو مقت أو غضب وما شاكل هذا إذن الكبيرة ما عليه عقوبه من لعنه أو غضب أو مقت. فهذا يقال له كبيرة. هذا القول هو المعتمد لأربعة أمور:
أولها:
القرآن يدل عليه. كلام الله الذي أخبرنا أن لذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر تشير إلى هذا التعريف فآية النساء: ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) (1) هذه العدة الكريمة من ربنا الكريم هل يستحقها من وجب عليه حد في الدنيا؟ تكفر عنه خطيئته؟ هل يستحقها من أوعد بلعنة أو غضب أو مقت؟ ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) يعنى إن تجتنبوا الأمور التي ليس فيها لعنة ليس فيها غضب ليس فيها مقت ((نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) فلو زنا الإنسان هل في ذلك لعنة أم لا؟ في ذلك لعنة. لو قذف؟ في ذلك لعنة عظيمة ((إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (2) و [اجتنبوا السبع الموبقات ... وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات] (3) وقذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة. فلو قذف الإنسان هذا اجتنب كبائر ما نهى الله عنه؟ لا.
__________
(1) - النساء: 31
(2) - النور: 23
(3) - قلت: الحديث متفق على صحته. وقد تقدم صفحة 55(65/137)
فتلك العٍدَة وهى تكفير السيئات لا ينالها صاحب السيئة إذا كانت سيئة عليها حد في العاجل أو وعيد شديد في الآجل ولذلك إذا اتصف بالربا ثم بعد ذلك اجتنب سائر الموبقات هل يدخل في هذه الآية ((نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) ؟ ينال هذا الوعد الكريم؟ هذا مؤذن بحرب من الله كيف سيناله هذا الوعد! وهكذا لو قتل نفساً والله يقول: ((فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) (1) هذا أيضا يناله هذه العدة الكريمة؟ لا إذن ما هي العدة الكريمة؟ لأي سيئة وخيمة؟ حقيقة إنسان خرج إلى الشارع فنظر. وحدث بكلام لغو ما وصل إلى حد البهتان والكذب فالكذب كبيرة. فهذه صغائر لا ينجو منها إنسان. ولو جمعت كما قال النبي علية الصلاة والسلام [إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألماً] (2) أي ما جمع من هذه اللمائم والصغائر الكثيرة. فإذن إذا لم يكن الذنب عليه مقدر في الدنيا ولا وعيد شديد في الآخرة فهو صغيرة. وإذا كان فيه أحد هذين الأمرين فهو كبيرة. وعليه: الكبائر معروفة والصغائر معروفة. قال أئمتنا: الصغيرة ما دون الحدين. يعنى حد الدنيا المقرر ووعيد الآخرة الشديد.
ثانيها:
__________
(1) - النساء: 93
(2) - قلت: الحديث تقدم صفحة 56(65/138)
استقراء الشرع يدل على هذا. كل معصية عليها عقوبة في الدنيا أو فيها وعيد شديد وعقوبة خاصة أليمة في الآخرة دل خطاب الشارع على أنها كبيرة. فنحن استقرءنا كلام النبي علية الصلاة والسلام في ذكر الكبائر فوجدنا هذين الوصفين ينطبقان على الكبائر التي صرح علية الصلاة والسلام بأنها كبيرة [اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات] هذه الأمور أما ينطبق عليها ما تقدم؟ إما وعيد في الآخرة وإما حد في الدنيا: [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله ـ محل الإجماع ـ وعقوق الوالدين] (1) ليس عليه ولا فيه حد مقرر في الدنيا. لكن وعيد شديد في الآخرة فلا يرضى الإنسان ربه حتى يرضى والدية و: [رضي الله في رضي الوالدين. وسخطه في سخطهما] و [لا يدخل الجنة قاطع رحم] (2)
__________
(1) - قلت: الحديث متفق على صحته عن أبى بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلي يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: الإشراك بالله. وعقوق الوالدين. وكان متكئاً فجلس فقال: ألآ وقول الزور وشهادة الزور ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت] وقوله: لا يسكت: اى يستمر في قولها تهويلاً.
(2) - قلت: هذان الحديثان ثابتان عن نبينا علية الصلاة والسلام. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[رضا الله في رضا الوالد. وسخط الله في سخط الوالد] رواة الترمذي وابن حبان في صحيحة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقة الذهبي..ورواه الطبراني من حديث أبى هريرة وفيه [طاعة الله طاعة الوالد ومعصية الله معصية الوالد] ورواه البزار من حديث عبد الله بن عمرو: [رضا الرب تبارك وتعالى في رضا الوالدين وسخط الرب تبارك وتعالى في سخط الوالدين.] وفى الصحيحين عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [لا يدخل الجنة قاطع] .(65/139)
والجنة عند أقدام الأمهات. كما قال خير البريات علية الصلاة والسلام في المستدرك وغيره [الزمها فإن الجنة عند رجليها] (1) فإذن هذا العاق. وعيد شديد في الآخرة [ألا وشهادة الزور وكان متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت] (2) شهادة الزور هذه من الكبائر فإذن نحن عندما ذكرنا في الكبائر التي نص نبينا علية الصلاة والسلام على أنها كبائر وجدنا دخول ذينك التعرفين الضابطين الوصفين في الكبائر. وعيد شديد في الآخرة. حد مقدر في الدنيا.
ثالثها:
__________
(1) - قلت: هذا الحديث من رواية غير واحد من الصحابة فعن طلحة ابن معاوية السلمي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد الجهاد في سبيل الله قال: [آمك حيه؟ قلت نعم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الزم رجليها فثم الجنة] رواه الطبراني وعن أبى إمامة - رضي الله عنه - أن رجل قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق الوالدين علي ولدهما؟ قال: [هما جنك ونارك] رواة ابن ماجة وعن معاوية ابن جاهمة أن جاهمة جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردت أن أغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: [هل لك من أم؟ قال: فالزمها فإن الجنة عند رجليها] رواه ابن ماجة والنسائي واللفظ له وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. ورواه الطبراني ولفظه: قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستشيره في الجهاد فقال النبي: [ألك والدان؟ قلت: نعم. قال: إلزمهما فإن الجنة تحت رجليهما.] قال المنذري: إسناده جيد. (الترغيب والترهيب: 3/316) .
(2) - قلت: هذا تكملة للحديث السابق (تعليق 1) وقد تقدم بنحوه صـ 55.(65/140)
بهذا التعريف الذي ذكرناه وهو أن الكبيرة ما فيها وعيد في الآخرة شديد خاص وعقوبة مقدرة في الدنيا. والصغيرة ما دون الحديث. بهذا التعريف نكون قد قسمنا الذنوب بأسرها إلى قسمين لا ثالث لهما: كبائر وصغائر فكل ذنب سيدخل إما في تعريف الكبائر أو في تعريف الصغائر. أما خلاف هذا التعريف من أقوال قيلت بلغت (بياض) إلى عشرة أقوال كلها متهافتة فقيل ـ كما قال الصوفية ـ ما سد باب معرفة الله وحجب عن الله فهو كبيرة نقول: أي ذنب يسد باب معرفة الله؟ قد النظرة تسد وهى صغيرة وقد الزنا وقتل النفس لا يسد باب معرفة الله. ناهيك بالرجل الذي قتل تسعاً وتسعين وكمل المائة ثم ما سدت معاصية تلك باب معرفة الله ولا حجبته عن الله فلما دل إلى عالم بعد أن كمل بالراهب المائة قال: هل لي من توبة؟ قال وماذا عملت؟ قال: قتلت مائة نفس قال: ومن يحول بينك وبينها؟! ثم بعد ذلك تاب ومات في وسط الطريق ـ كما هو ثابت في الحديث المخرج في الصحيح ـ واختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فكان اقرب إلى الأرض الصالحة بشبر ـ بذراع ـ فناء بصدره عندما جاءه الأجل فأخذته ملائكة الرحمة. ورحمة الله واسعة.
ما حجبه هذا الذنب عن الله. والذي يقول إن الكبائر مبهمة. نقول: مبهمة بالنسبة عندك وإذا خفت عليك فهي: معلومة عند غيرك والذي يقول: إن الذنوب كلها كبائر لكنها تتفاوت في القبح فالزنا كبيرة إذا قرنت زنا الإنسان بالأجنبية أيسر من زناه بزنا زوجة الجار. الزنا بزوجة الجار أيسر من الزنا بأخته. الزنا بأخته أيسر من الزنا بأمة. كل هذا كبائر لكن كل ذنب يكون أكبر من غيره من باب النسبة وأصغر من غيره من باب النسبة. والذنوب كلها كذلك يقول إذن أنت ما قلت لنا يوجد في الذنوب صغائر وكبائر وقلنا الشرع يدل على أنه يوجد في الذنوب صغائر وكبائر. فإذن هذا الضابط هو الذي يميز الذنوب إلى قسمين كبائر وصغائر.
رابعها:(65/141)
قلنا هو قول أهل السنة وهو المنقول كما قلنا ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن الضحاك وأبى عبيد وابن عيينه ورجحه الإمام أحمد واعتمده أهل السنة لهذه الأمور الأربعة: الكبيرة ما فيه حد وعقوبة مقدرة في الدنيا. أو وعيد شديد خاص في الآخرة.
المبحث السابع
أثر الكبائر والصغائر والأحكام المتعلقة بكل من هذين الصنفين (1)
المطلب الأول: أثر الصغائر
أولا: في الدنيا
إخوتي الكرام الصغائر لها أثرها في الدنيا وهي ثلاثة:
1. الأثر الأول: لا تزيل صغائر والمعاصي والآثام عن مرتكبها اسم الإيمان. فلا زال يقال له: مؤمن. بلا قيد. مطلق الإيمان. اسم الإيمان بإطلاق لا يزول عنه. أي لا زال ضمن المتقين وضمن الصالحين وأن صدر منه شيء من الهفوات والتقصير مما يعد صغيرة لا يعتبر كبيرة. لازال إذن ضمن عباد الله المؤمنين الأخيار الصالحين الطيبين. هذا الأثر أول فلا يقال له مؤمن عاصي. مؤمن فاسق. مؤمن مفرط , مؤمن مسرف. مؤمن متجاوز لحدود الله.... لا يقال هذا على الإطلاق. يقال: مؤمن. مطلقاً بلا قيد. هذا فيما يتعلق بأحكام الدنيا فلا يجوز أن نزيل اسم الإيمان عن فاعل الصغيرة. أقصد باسم الإيمان الإيمان المطلق فلا يجوز أن نقيد هذا بقيد أن نقول: هذا مؤمن عاصي لورود صغيرة منه في حق الله جل وعلا. لا يجوز هذا على الإطلاق. إنما مؤمن بلا قيد. فالصغائر إذن لا تزيل الاسم المطلق في الأيمان عن مرتكبها.
__________
(1) - أي أثر الصغائر والكبائر في الدنيا والآخرة وما الأحكام التي تترتب على الصغائر بالنسبة للفاعل في الدنيا وفى الآخرة وهكذا بالأحكام التي تترتب على الكبائر بالنسبة للفاعل في الدنيا والآخرة.(65/142)
2. الأثر الثاني: الصغائر إذا فعلها الإنسان في هذه الحياة تكسب قلبة ظلمة يسيرة. هي بمثابة الغبش والكدورة في القلب. هذه تجلى مباشرة بعد ذلك بفعل طاعة من الطاعات. ومن المكتوبات كما تقدم معنا ـ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. ما لم تغشى الكبائر. تزال هذه الآثار. هذه الظلمة هذه الكدورة. إذن ما حصل ظلمة شديدة وكالثوب الأبيض إذا مرت علية رياح فيتكدر ويتغير. لكن ليس كما لو صببت علية زفتاً أو حبراً هناك ألان تلوث ويحتاج إلى جهد في إزالته. أما هنا غبار علق بك إذا نفخته يطير. وهنا بالنسبة للصغائر القلب يصبح فيه ظلمة لكن هذه الظلمة ليست شديدة. بمثابة كدورة. بمثابة غبرة تلحق بثياب الإنسان. تزول باجتناب الكبائر إذا لم يفعل الإنسان كبيرة. وتول بفعل الطاعات.(65/143)
3. الأثر الثالث: ليس لصغائر عقوبات مقدرة في الحياة الدنيا. فلا يوجد صغيرة من الصغائر لها عقوبة مقدرة أو حد مقدر يجب على الإمام أن ينفذه. لا. ونحن تقدم معنا: الصغيرة ما دون الحدين. فإذن ليس على الصغائر عقوبات؟ نقول لا عليها عقوبات. لكن العقوبات التي يرتبها ولى الأمر على الصغائر ليس لها حد مقدر لا يجوز أن لا يتجاوزه أو لا يجوز أن يسقطه لا. هي موكولة لاجتهاده فإن رأى ولي الأمر أن يعزر من فعل صغيرة بما يردعه من سوط أو سوطين أو عشرة أسواط أو ما شاكل هذا. فلا حرج وإذا رأى أن يعزره بتوبيخ وتعييب فلا حرج وإذا رأى ألا يعزره وأن يقيله عثرته بالنسبة للصغيرة التي وقع فيها فلا حرج. إذن ليس عليها حد مقدر. العقوبة عليها من باب التقدير فلو قدر أن رجلاً قبل امرأة (بياض) إلى امرأة هذا كله من الصغائر. وهو اللم واطلع ولى الأمر على هذا فله إن يعزر بجلد. لكن لا يجلد مائة جلدة كالزاني البكر ويغربه سنة. ولا يجوز أن يجلده ثمانين جلدة كما هو الحد في القذف. لا. يجلده أسواط بما يعزره ويردعه و [لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله] (1) كما قال نبينا علية صلوات الله وسلامة. يردعة بتوبيخ. يقول له: أما تستحي! مثلك يفعل هذا؟ أنت تطارد النساء وتتبعهن من مكان إلى مكان أما تستحي؟! أما عندك نساء ومحارم؟ أما تغار على محارمك؟ من هذا الكلام. ثم يطلق سراحة بعد ذلك فإن رأى أن يجلده فله ذلك.
__________
(1) - قلت: الحديث متفق على صحته. وألفاظه عند البخاري 1 عن أبى بَرْدَةَ - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا عقوبة فوق عشر أسواط إلا في حد من حدود الله] 2 عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عمن سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا فى حد من حدود الله] 3 عن أبى بردة قال: [كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [لا يجلد فوق عشر جلدات إلا فى حد من حدود الله] .(65/144)
المقصود ليس على الصغائر عقوبات مقدرة في هذه الحياة. إنما لولي الأمر أن يعزر من فعل صغيرة إذا رأى أنه لا يتردع إلا بهذا وإذا رأى أن هذه الصغيرة فشت في الأمة ولا يمكن أن يحصل ردع إلا بجلد كما لو اعتاد الشباب مطاردة النساء في الشوارع أو إذا ذهبت امرأة لحاجة ضرورية إلى سوق ترى الشباب الهابط المنحط يتبعها من هنا إلى هناك وأحياناً يسمعها كلمات. هذا كله لا يزال ضمن الصغائر وليس عليه حد مقرر إذا انتشر هذا وفشي في الأمة قد يجعل ولى الأمر لذلك رادعاً. فنقول لمحتسبين المسئولين عن إقامة الحدود والمنفذين لهذا: من وجدتموه عنده شيء من هذا هاتوه إلى، والقاضي يحكم بعد ذلك بما يعزره. وينظر إلى حاله فقد يجلده عشر جلدات. وقد يجلده دون ذلك، وقد يعفو عنه.(65/145)
فالشاهد: أنه ليس في الصغائر حد مقدر لا يجوز للإمام أن يتجاوزه ولا يجوز للإمام أن يسقطه الحد المقدر ولي الأمر مكلف بتطبيقه رغم أنفه وإلا هو عاص لله ولرسوله وإذا استحل إسقاط ذلك لحد فهو كافر. فزاني محصن ثبت زناه بإعتراف أو ببينه ـ شهود ـ وجد أن يرجم. فقال نسجنه سنة. إذا استحل ولي الأمر هذا فقد كفر. وإن صام وصلي وزعم أنه مسلم. هذا حد شرعي ليس لولي الأمر إلا أن ينفذه. وهكذا إذا أتى بسارق وثبت عليه السرقة فواجب أن يقطع اليد. ولا يجوز لولي الأمر أن يقول هذا تاب وسامحناه ولعلة يصبح من الصديقين لو قدر أنه خير الأمة سرق لوجب على ولي الأمر أن يقطع يده كما قال نبينا علية الصلاة والسلام [والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد ـ علية الصلاة والسلام ـ سرقت لقطع محمد يدها ـ علية صلوات الله وسلامة] (1) . هذا حّد لا بد من تنفيذه لكن هناك كما قلنا الصغائر نقيل الصالحين عثراتهم ولا داعي أن نعاقبهم بما نعاقبهم به من ليس له شأن كشأنهم. ولذلك قلنا من يتوسم فيه الخير وصدر منه زله. ولى الأمر يقيله عثرته. من عليه علامات الشر ـ وهذا معلوم من حاله ـ صدر منه زلة ضمن الصغائر يقول: إذن لا بد لك من رادع وزاجر فإذن لا يزول عنه إسم الإيمان المطلق. قلبه يعترية ظلمة خفيفة ويسيرة كدورة وغبش ولا يبقى في القلب الصفاء التام يجلى القلب بعد ذلك بفعل طاعة إذا اجتنب الكبائر الأخرى.
ثانياً: في الآخرة.
وأما في الأجرة فالصغائر لها أثران في الآخرة:
__________
(1) - قلت: الحديث متفق على صحته. وهو من حديث المرأة المخزومية المشهور. فعن عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ـ لأسامة بن زيد عندما كلمة فيها ـ: [أتشفع في حد من حدود الله. ثم قام فاختطب ثم قال: وأيم الله لو أن فاطمة ـ وفى رواية والذي نفسي بيده ـ بنت محمد سرقت لقطعت يدها] .(65/146)
3. الأثر الأول: تقع مغفورة بكرم الله وفضله ورحمته. وهذا بنص القرآن ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) (1) فمن لم يلق ربه إلا بصغائر فما عنده كبيرة من الكبائر له البشرى من الله والمغفرة. هذا وعدة الله. وقد أخبرنا نبينا علية الصلاة والسلام كما تقدم معنا ـ في حديث مسلم وغيرة عليهم رحمة الله أن الصلوات الخمس ورمضان والجمعة تكفر الصغائر إذا اجتنب الإنسان الكبائر. فإذن تقع هذه مغفورة ولا يحاسب عليها العبد يوم القيامة بفضل الله ورحمته وكرمه.
3. الأثر الثاني والأمر الثاني: لا تؤخره عن دخول الجنة. فإذا لم يلق ربه إلا بصغائر الذنوب فغفرت له ولا تمنعة من دخول الجنة. إذن سيدخل الجنة مع السابقين المقربين المقربين بكرم أرحم الراحمين. هذه أحكام الصغائر.
* * *
هذا كله إخوتي الكرام إذا فعل الإنسان الصغائر وما أصر عليها. أما إذا أصر فالحكم اختلف. الصغيرة إذا أصر عليها لا تكون صغيرة أنما تكون كبيرة. وقد ذكر أئمتنا بناء على أدله شرعية أن الصغائر تكبر وتنقل من ديوان الصغائر إلى ديوان الكبائر لواحد من ستة أمور:
أولها: الإصرار:
فهو كلما رأى امرأة يمد طرفه ونظره إليها ولا يفتأ قلبه عن هذا ولا يكف عن ذلك فترة من الزمن. فهذه المعصية صغيرة لكن بالمواظبة والاستمرار نقلتها إلى الكبيرة. وقد قال سلفنا الكرام: لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار كبيرة فعلها الإنسان وتاب إلى الله منه واستغفر. تمحى بفضل الله ورحمته لأنه تاب وأناب ومن تاب تاب الله عليه. صغيرة فعلها الإنسان وواظب عليها نقلت إلى ديوان الكبيرة لا بد لها من توبة نصوح.
__________
(1) - النساء: 31(65/147)
وهذا الكلام (1) روى مرفوعاً عن نبينا المختار صلوات الله وسلامة عليه من رواية ابن عباس وأبى هريرة وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين. لكن الأسانيد إلى هؤلاء الصحابة تالفة لا تثبت. الحديث شديد الضعف عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -[لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار] لكن المعنى صحيح. وقد مثل أئمتنا لصغائر التي يواظب فاعلها عليها والكبائر التي يفعلها الإنسان ويقلع عنها ويستغفر منها بمثال حسي. فقالوا: لو أن إنساناً أخذ سطل كبير من الماء في أيام الشتاء وسفحه عليك مرة واحدة. يؤذيك. الأذى كبير أو صغير؟ كبير سطل كبير سفحه عليك غرقك وبدأ الماء يشر عليك من رأسك إلى رجليك والوقت بارد والماء بارد وآذاك أذى كبير. لكن بعد هذا جاء واعتذر إليك وقال: يا عبد الله سامحني وأخطأت في حقك وهذه ثياب نظيفة إلبسها وعفي الله عما سلف. تقول: عفي الله عنك. لكنه آذاك أذى كبيراً. لو قدر أنه أخذ هذا السطل بدل من أن يسفحه عليك لتكون جنايته جناية كبيرة، (بياض) قال: أنا أريد أن لا أفعل معصية كبيرة معك ولا أريد أن أسيء إليك إساءة كبيرة ماذا أعمل. أعلق السطل فوق رأسك بحيث كل دقيقة يقطر قطرة. ولو قطرة واحدة فقط لما كان لها اى تأثير. لو قطر على رأسك قطرة ومشى قد لا تشعر بها. ليست حالا كحال السطل لكن السطل الآن بكاملة سيفرغه عليك قطرات. وقد وصل الحال العتاه الذين يعملون في تعذيب المسلمين من أجهزة المخابرات الذين لا يخافون رب العالمين أنهم يحبسون المسلم في زنزانة ـ حجرة ـ يبقى قائماً فيها. وهذه الزنزانة تقطر علية كل دقيقة قطرة ماء هذا الآن في السجون التي يعذب فيها إخواننا في الله يوضع في زنزانة له لا يستطيع أن يقعد ولا يتمدد. قائم ثم فوق رأسة كل دقيقة قطرة ماء تقطر عليه. هو يشعر كأن رصاص يضربه باستمرار. حقيقة فيه أكبر أذى. هذا مثال الصغيرة التي يواظب عليها فاعلها.(65/148)
والسطل مثال الكبيرة التي يقلع عنها صاحبها وحقيقة الصغيرة التي يواظب عليها صاحبها أشنع بكثير من الكبيرة التي يقلع عنها صاحبها لكن لو قيل: كبيرة يواظب عليها صاحبها. فأيهما أشنع؟ الكبيرة قطعاً. هذا لا خلاف فيه كبيرة يواظب عليها. صغيرة ويواظب عليها. الكبيرة أشنع. صغيرة يواظب عليها كبيرة فعلها وأقلع وتاب، الصغيرة أشنع. صغيرة لا يواظب عليها. وكبيرة لا يواظب عليها تاب منها. نقول: الصغيرة حالها أيسر لأن هذه في الأصل غفرت له باجتنابه للكبائر وبطاعته لله جل وعلا. وأما تلك فأمرها عظيم لا بد من توبة نصوح وأمر صاحبها مفوض إلى الله جل وعلا وهل تحققت شروط التوبة أو قبلت؟ هذا مرده إلى الله. أما الصغائر فقلنا فيها وعد كريم لأن من اجتنب الكبائر تغفر له الصغائر. لأنه لا يخلو عبد من لمم [إن تغفر اللهم تغفر جماً وأىً عبد لك لا ألّماً] (1) لا يخلو أحد من صغائر. ورحمة الله جل وعلا واسعة. إذن ستة أمور تكبر بها الصغائر. أولها المواظبة والمدوامة والاستمرار والإصرار فإذا فعل هذا تنقل الصغيرة إلى ديوان الكبيرة.
ثانيها: الأمر الثاني الذي تكبر به الصغيرة: الاستصغار.
__________
(1) - تقدم تخريجة صـ 56(65/149)
فعل معصية صغيرة، ينظر إلى النساء يكلمهن يصافحهن. يضاحكهن. لا يصل الأمر إلى حد الزنا. قلنا أتق الله يقول: لا تضيقوا رحمة الله هذه كلها صغائر لا قيمة لها ولا وزن ولا اعتبار. يا عبد الله: صغيرة لكن ينبغي إذا فعلتها يعنى أن تتأثر من حالك. وأما صغيرة تستصغرها وتستسهلها؟ !. قال بلال بن سعد (1) لا تنطر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت فأنت عصيت أحكم الحاكمين ورب العالمين الجبار المنتقم سبحان وتعالى، فالذنب وإن كان صغيراً لكنه في حق الكبير الجليل الذي أغدق عليك نعمة في الليل والنهار ((وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)) (2) فيجوز في حقك أن تفعل ذنباً وأن تستصغره وأن تستسهله وأنه كأنه لم يجرمنك سيء! هذا ليس من علامات الإيمان.
__________
(1) - وكان لأهل الشام كالحسن البصري لأهل البصرة عليهم رحمة الله جميعاً. توفى سنة 120 هـ.
(2) - النحل: 53(65/150)
ولذلك كلما استصغر العبد ذنبه كبر عند الله وكلما استكبر العبد ذنبه واستعظمه صغر عند الله جل وعلا. وقد ثبت في صحيح البخاري (1) عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال ـ والكلام موقوف عليه من قوله ـ يقول - رضي الله عنه -[المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل ويخاف أن يسقط عليه. والمنافق يري ذنوبه ـ وفى روايه عنه: والفاجر يرى ذنوبه ـ كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا] فانظر هنا لحال المؤمن كيف يستعظم الذنب. ويستكبره وينخلع قلبه منه ولحال الفاجر والمنافق. يرى ذنوبه ـ المؤمن ـ كأنه في أصل جبل ويخاف أن يسقط عليه. وإنما ذكر هذا التشبيه لبيان عظيم الروع الذي يحصل في قلب المؤمن. لأن من كان في أصل الجبل والجبل سينقلب عليه لا يرجى له السلامة ولا النجاة بحال من الأحوال. وليس سقف يمكن أن يهرب منه. جبل عظيم سينقلب عليه فكيف سيكون حال الروع في قلب المؤمن؟ وأما ذاك فانظر لهذا المثل كذباب وقع على أنفه. لِمَ قال: على أنفه؟ مع أن الذباب قلّ أن يقع على الأنف. إنما يقع على العين بكثرة. ثم على الفم أما الأنف قلّ أن يقع الذباب عليه؟. إشارة إلى حال الفاجر والمنافق. كأن الفاجر والمنافق لا يتذكر دينه ولا يخطر بباله كما أن الذباب لا يقع علي أنوف الناس ثم لو قدر أنه خطر الذنب بباله صال كحال الذباب إذا وقع على الأنف نادراً فيعمل الإنسان هكذا فيطير فهو لا يستحضر الذنب ويستصغره ويستسهله أصالة.
__________
(1) - قلت: ومسلم أيضاً(65/151)
ثم لو قدر انه استحضره لا يحتاج لا إلى روع ولا إلى كلفة ولا إلى جهد ولا إلى خوف يعمل هكذا ويزول عنه هذا الأثر ولذلك المؤمن جمع إحساناً وشفقة والمنافق والفاجر جمع إساءة وأمناً هذا محسن مشفق وذاك مسيء آمن ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) (1) يفعلون ما يفعلون من طاعات وقربات ومبرات يتقربون بها إلى رب الأرض والسموات ثم مع هذا قلوبهم وجلة. وأما أولئك إن أساؤوا قالوا: سيغفر لنا. وإن عملوا الصالحات التي في الظاهر صالحة والله أعلم بحقيقتها قالوا: سيتقبل منا. ويمنون على الله بذلك. هذا حال الفاجر: إساءة وأمن. والمحسن المؤمن: إحسان وخوف. ولذلك يرى المؤمن نفسه مع ذنوبه كأنه في أصل جبل ويخاف أن يسقط عليه وأما ذاك كذباب وقع علي أنفه فقال به هكذا. فاستصغار الذنب ينقلة من ديوان الصغيرة إلى ديوان الكبيرة.
ثالثها: الفرح والاستبشار:
__________
(1) - المؤمنون: 60(65/152)
هو ليس استكبر الذنب. بل أخبث وأشنع. فرح به والتذ وابتهج وتمنى أن يحصل له هذا باستمرار. خرج من البيت فوقع نظره على أمريكية ملعونة يقول: هذه نعمة حصلت لي. ليس كل ما أخرج تقع عيناي على هذا المنظر لتلتذ عيناي!! سبحان الله؟ ! أما يكفيك أنك عصيت الله؟ بدأت تفرح بالمعصية؟ وهذا حقيقة عندما تفرح يغضب ربنا جل وعلا. وهذه الصغيرة عندما يقوم في قلبك هذا المعنى الخبيث الذي فيه عدم المبالاة بالله الجليل، تنقل صغيرتك من صغيرة إلى كبيرة. أما لو قدر أنه نظر بمقتضى الطبع ولا فرح ولا استبشر. نظر. أغواه الشيطان فدار مع ميول النفس. ثم بعد ذلك إما صلي وغفر له. وتأثر وقال: يا رب أنا أخطأت ورحمتك واسعة. هو أرحم الراحمين أما أنه خرج واستبشر وتمنى أن يحصل له هذا باستمرار. هذا ليس من علامات الإيمان وتقدم معنا إخوتي الكرام. قلنا ليس من شرط المؤمن ألا يقع في مخالفة فـ[كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] (1) لكن من شرط المؤمن ووصف المؤمن وعلامة الإيمان أنه المؤمن إذا أخطأ يستاء ولذلك سميت سيئة. كما تقدم معنا ـ قلنا: صاحب الفطرة المستقيمة يستاء عندما يفعل السيئة وتسوؤه. فإذن إذا فعل سيئة يستاء حقيقة علامة الإيمان وتعظيم للرحمن مع أنه جرى منه ذنوب وآثام والإنسان فيه غفلة وفيه شهوة والشيطان يلم به ما بين الحين والحين. وهو معه في سجال حروب قائمة. قد أحياناً يغتر ويتغلب عليه الشيطان لكن بعد ذلك ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)) (2) فإذن هذا الطائف الذي حصل لهم ووقع منهم فيما وقع بعد ذلك يعود إليهم رشدهم ويتوبون الى ربهم جل وعلا. فإذن إذا وقع المؤمن في مخالفة وضاقت عليه نفسة وتألم وحزن. هذا يرجى له الخير. وأما إذا كان الأمر بالعكس. فرح والتذ وابتهج واستبشر وتمني أن يكون له هذا.
__________
(1) - تقدم بخريجة صفحة 67
(2) - الأعراف: 201(65/153)
حقيقة هذا من علامات عدم حصول الإيمان في قلب الإنسان وأمر هذا الإنسان إلى ربه جل وعلا , ولذلك أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن [من سرته طاعته وساءته معصيته فهو مؤمن] (1) فإذن إذا عصى يستاء وتضيق عليه نفسه. وإذا أطاع الله يفرح ويبتهج بأن الله منّ عليه بطاعته وعبادته. فهذا علامة الإيمان عندنا نحن الآن هنا الحالة الثالثة التي تكبر بها الصغيرة العكس: فعل صغيرة ففرح واستبشر وغبط نفسه أن تيسر له هذا المكروه. نقول: الصغيرة الآن نقلت إلى كبيرة. فلابد من توبة وأمرك إلى الله جلا وعلا.
رابعها: أن يتهاون الإنسان بستر الله وأن يغتر بحلم الله - سبحانه وتعالى -. فعل صغيرة فستر الله وحلم عليه وما عجل العقوبة عليه. فهذه الصغائر بعد ذلك قال: إذن يعنى أنا ما دام لا أجد لها أثراً وتزول عنى مباشرة إذن أسرح فيها وأمرح كما أريد. وظن أنه عندما لا تعجل له العقوبة كأنه يعني من المقبولين وأن هذه الصغيرة ليس لها أي تأثير أو أثر عند رب العالمين فاغتر بحلم الله وتهاون بستر الله إذا كنت عاقلاً وفعلت خطيئة وستر الله عليك فاستحي وقل يا رب سترتني وما فضحتني أعاهدك على عدم العود إلى هذا. وأما أنه سترك فتغتنم هذا؟ ! إذا كنت تسترني إذن أنا أبارزك بالمعاصي والعصيان. وإن كانت صغائر. فحقيقة الصغيرة وتكبر والكبيرة تزداد قبحاً عندما يتهاون الإنسان بستر الله ويغتر بحلم الله.
__________
(1) - الحديث صحيح رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورواه الطبراني في معجمة الأوسط عن على - رضي الله عنه - ورواه أحمد والبزار والطبراني في معجمة الكبير والحاكم في المستدرك عن أبى موسى ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك عن أبى أمامة - رضي الله عنهم - أجمعين(65/154)
وقلنا أحمد بن يحي بن جلاد كان من أصحاب ذي النون عليهم جميعاً رحمة الله. وهو من علماء القرن الثالث الهجري توفى سنة 246 هـ وهذا كان تلميذاً له في ذلك الوقت. يقول: نظر إليَ شيخي ـ ذي النون وأنا أنظر إلى شاب نصراني وسيم ـ يتأمله وينظر إليه نظر شهوة وإعجاب ـ فقال لي: لتجدن غبها ـ أي مضرتها ـ يقول: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة! بهذه النظرة فإذن هذه المعصية التي فعلتها وأنت تتهاون بستر الله عليك وبحلم الله عنك لتجدن غبها إنتبه! والله يقول ((مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (1) ولذلك ورد في الكتب السابقة أن بعض الناس قال لله عز وجل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: قل له كم عاقبتك ولا تدرى! أو ليس قد حرمتك لذيذ منجاتي؟ وهذه أعظم العقوبات.
__________
(1) - النساء: 123(65/155)
إخوتى الكرام: هذه الصلاة التي نصليها. والأصل هي قرة عين كما قال نبيا علية صلوات الله وسلامة (1) نحن عندما ندخل إلى المسجد ونكون في الصلاة التي نصليها كحال العصفور في القفص. تراه يدور. كيف ستنتهي الصلاة ليتخلص منها وليخرج من هذا المسجد وكأنه كان في سجن لماذا؟ هذه صلاة المنافقين. صلاة العادة التي ليست صلاة العبادة. إذا كانت هذه قرة عين وبها راحة الإنسان. كما قال خير الأنام علية صلوات الله وسلامة [أرحنا بها يا بلال] (2) ليس أرحنا منها. أرحنا بها. يحصل لنا بها راحة من عناء الدنيا ونكدها. وأي راحة أعظم من مناجاة رب العالمين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين!. لو قدر أن بعض الناس تهيأ له لا أقول في الأسبوع في الشهر مرة يناجي الأمير. الملك. الزعيم. السلطان. أو ما شاكل هذا. وقيل له: مدة المنجاة نصف ساعة أكثر تقدير. وإذا أوجزت خمس دقائق أحسن. يقول: مددوها لعلها ساعة. أريد أن أستأنس وأستبشر وأفرح. هذه جلسة لا تكرر وأريد أن أعرض ما عندي. مع أنه يجالس بشراً مثله لا يملك لنفسه فضلاً عن غيرة ضراً ولا نفعاً. هذا مخلوق. بمجالسة هذا المخلوق تطير فرحاً! وتستقصر الأوقات الطويلة! وعندما تقف في مناجاة الله جل وعلا تستطيل الأوقات القصيرة! عجباً (لجد) أهل الباطل في باطلهم وعجز أهل الحق عن حقهم!؟.
__________
(1) - قلت: الحديث ثابت بذلك في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ومستدرك الحاكم والبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب. وجعلت قرة عيني في الصلاة]
(2) - قلت: الحديث رواه الإمام احمد والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حَزَبَهُ أمر قال: [أرحنا بها يا بلال] .(65/156)
أنا أتأمل أحياناًَ عباد السلاطين في هذه الأيام عندما يُوقَفون في الشوارع عندما يريد أن يمر مخلوق من المخلوقات. يقفون في الحر ساعتين ثلاثة وأربعة وأحياناً خمسة وستة. وتفوتهم صلاة الجمعة بل جماعة بل ... بل ... حدث ولا حرج ولا واحد منهم يستطيع أن يترك من أجل أن يمر هذا الموكب. هؤلاء أهل باطل أنظر للجد الذي عندهم. وما واحد منهم يتذمر من أجل عرض الدنيا ومتاعها.(65/157)
أنت الأن صل بالناس صلاة العشاء وأقرأ فيهم بالركعة الأولى سورة الملك فقط لا تطبل ثلاثين آية. وبالثانية سورة ن والقلم. لا أقول حتى تسمع أعتراضاً بالفم. حتى تضرب بالحصى أن كان في المسجد حصى! طيب يا عباد الله أين كنتم.؟ نحن نناجى رب العالمين ماذا نفعل؟ فانظر إلى أولئك ساعات طوال من أجل أن يمر مخلوق واحياناً يكون نصراني كافر لكن المراسيم تقتضي هكذا. أخرجوا هؤلاء ليقفوا في الشوارع من اجل أن يمر هذا الموكب ساعات طوال في خدمة مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وبعد ذلك دقائق في مناجاة الله يستثقلها؟ ! حقيقة هذه أعظم عقوبة عوقب بها من يدعى أنه مؤمن موحد أو لسنا قد حرمنا لذيذ المناجاة؟ أي شيء يحصل لنا في الصلاة الأن إلا الوساوس والأوهام أي شيء؟ وساوس في كل واد مهين. وكأن أمور الدنيا ومتعابها من حلال وحرام وما فيها من حطام لا يحصل ولا يرد على بالنا وفى بالنا إلا إذا قلنا: الله أكبر. وقد قال لي مرة بعض الناس: يا شيخ والله وأنا ساجد يوسوس لي الشيطان بالزنا! هذا أليس من أعظم العقوبات؟ قلت: فتش نفسك يا عبد الله. هذه أعظم عقوبة يعاقب الله بها عبده. إذا خذل الله العبد وغضب عليه حرمه لذيذ المناجاة. القلوب ترقص طرباً بالأنس بالله جل وعلا وبالفرح بذكره ((أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) (1) ومن لم يجد هذا من نفسه فليجدد إيمانه، ولينظر من أي باب أتى. لا يكون كحال ذلك الغافل: كم أعصيك ولا تعاقبني. فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان قل له: كم عاقبتك وأنت لا تدرى. أو ليس قد حرمتك لذيذ المناجاة؟ فالذي يخرج ويسرح نظره هنا وهناك وأذنه تسمع منكرات هنا وهناك.
__________
(1) - الرعد:28(65/158)
هذا يأتي للصلاة. كيف سيصلي؟ الله عليم بصلاته.حرم من روحها ولبها وهو لذيذ مناجاة الله جل وعلا. وما شرعت الصلاة إلا لذلك. فإذن إذا تهاون الإنسان بستر الله واغتر بحلم الله نقل الصغيرة من صغيرة إلى كبيرة. هذا أمر رابع الصغائر تصبح فيه كبائر.
خامسها: أن يكشف ستر الله عنه وأن يتحدث بالمعصية بعد أن ستره الله. هناك إغتر في نفسه. وأما هنا تحدث بلسانه. وهناك عصى. سُتِر وقال: نعمة إذن أنا عند الله مدلل، معاصيَّ وذنوبي ومخالفاتي ليس لها أي أثر. الله سترني وما أطلع أحداً من خلقه علي فاغتر وتجرأ على الله جلا وعلا بسبب حلم الله وستر الله له. أما هنا زادت الوقاحة. فبدأ يتحدث ستره الله. ثم جاء يقول: يا عباد الله أنا اليوم نظرت. وأنا اليوم لمست. وأنا اليوم قبلت وأنا وأنا ... مما حرم الله، وإن كان في ديوان الصغار لكنه ينتقل إلى الكبائر. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - وبوب عليه البخاري باباً في كتاب الأدب يشير به الى هذا فقال: باب ستر المؤمن على نفسه. إذا وقعت في خطيئة فاستر نفسك فالله حيي ستير يحب الحياء والستر. ثم ساق الحديث بسنده عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول [كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول يا فلان عملت البارحه كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه] هؤلاء لا يحصل لهم عافية من الله جلا وعلا (1) .
__________
(1) - وضبط: [كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجانة..] المجاهرة. المجانة. وكلها تفيد: الإظهار والكشف بعد الستر. إظهار وبيان بعد أن ستره الله. وألما المجون هذه زيادة قبح في الإنسان أنه وصف (بياض) عصى الله وهو ماجن ستره الله جل وعلا فأصبح يكسف ستر الله عنه.(65/159)
سادسها: إذا كان فاعل الصغيرة يقتدي به: فصغيرته تكون كبيرة وكبيرته تزداد قبحاً وسوءاً. لأن هذا له شأن ليس كشأن العامة وأعماله عند الناس يقتدي بها وتتبع وما ضل من ضل في هذه الأيام من كثير من العوام إلا تقليداً لبعض علماء السوء الذين يفعلون المعاصي والآثام ولذلك عصى العامة التي يلوحون بها على الشريعة ويعترضون بها على دين الله فعل العلماء. هذه عصى العميان. يلوحون بها. يقول: فلان عالم يفعل كذا لو كان حراماً لما فعله. فإذا كان الإنسان يقتدي به وفعل صغيرة نقلت إلى الكبيرة. وإن كانت كبيرة تزداد قبحاً وسوءاً وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذا في كتابه وبين أن منزلة الإنسان إذا كبرت فينبغي أن يتنزه عن الآثام ففي حقها تكون أيضاً أكبر من كونها كبيرة وشنيعة في حق غيره. ((يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)) (1) لأنه في مقابل: ((ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ)) (2) فإذا كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليهن صلوات الله وسلامه أسوة لنساء هذه الأمة في الخير فإذن لهن أجر مضاعف لأنه سيقتدي بيهن فلهن أجرهن وأجر من اقتدى بهن وإذا صارت الواحدة منهن قدوة في السوء وفى الشر وفى السيئ فلها إذن عذاب مضاعف. ولذلك قال أئمتنا العالم سفينة إذا انكسرت السفينة تغرق. وتغرق.
__________
(1) - الأحزاب:30
(2) - الأحزاب:31(65/160)
فتغرق من فيها ولذلك إذا كنت عالماً ـ طالب علم ـ فاتق الله وحذار حذار من الصغائر لأن الصغائر سيقتدي بها العامة فتنقل إذن من صغيرة إلى كبيرة وإذا كانت كبيرة تزداد قبحاً وسوءاً ذكر الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (1) في حوادث سنة 110 هـ في ترجمة العبد الصالح وهب بن منبه وفي هذه السنة مات الحسن البصري ومحمد بن سرين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين ـ يقول: وهب بن منبه وهو من أهل الكتاب الذين آمنوا بنبينا علية الصلاة والسلام ومن علماء هذه الأمة الصالحين الطيبين يخبرنا عما في الكتب السابقة يقول: كان بعض الملوك الجبابرة في الأمم السابقة قبل الإسلام ـ ينقل هذا عما يوجد في تاريخ الأمم السابقة يكره الناس على أكل لحم الخنزير. فكان كل من أمتنع يقتله. حتى قتل أناساً كثيرين. فقال له بعد ذلك بعض المسؤولين: ستفنى الأمة بهذه الطريقة التي فعلتها فلابد من بحث عن سبب لامتناع الناس عن أكل لحم الخنزير. لنعالج هذا السبب. أما: تحضر انساناً: كل لا يأكل. نضرب رقبته. هذا ليس بعلاج للمشكلة. فقال: صدقت. فأحضروا بعض العامة وقالوا: ستأكلون الخنزير. قالوا: لا نأكل. قالوا لم؟ قالوا حرام. قالوا: ومن يقول؟ قال: العالم الفلاني هذا قدوتنا. يقول حرام فنحن إذن بناءً علي قوله لا نأكل من لحم الخنزير فقال السلطان. الأمر يسير إذا أكل العالم تأكلون؟. قالوا: نأكل هذا هو قدوتنا وهذا سفيتنا إن نجت نجونا وإن غرقت غرقنا: فقال: أخرجوه. ثم استدعى العالم. وقال: ستأكل من لحم الخنزير؟ قال: لا قال: أقطع رقبتك. قال: إقضى ما أنت قاض. كل نفس ذائقة الموت. يعني غير قطع الرقبة ماذا تملك؟ كلنا سنموت إن لم تقطع الرقبة سنموت مثل البعير على فراشنا يعنى إن قطعت الرقبة ماذا جرى! يعنى هل قطع الرقبة يخوف والله لا يخف إلا قطع القلب وغضب الرب إذا انقطع القلب عن الرب هذا الذي يخوف ليس الميت من مات بدنه. الميت من مات قلبه.
__________
(1) - 9/292(65/161)
وليس المسجون من سجن بدنه. المسجون من سجن عن الله. يتخبط في هذه الحياة في الموبقات والمخالفات وإلا إذا سجن الإنسان سجنه يكون خلوه مع ربه ـ إذا سجن البدن وإذا قتل شهادة يذهب إلى رحمة أرحم الراحمين فيرى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وإذا نفى من بلده يسيح ويدعو إلى الله - عز وجل -. ليس في هذا مضرة. قال أقطع الرقبة. قال: اقطع. فكان رئيس الشرطة عنده شيء من الليونة فجاء لهذا العالم ويكتم إيمانه ولا يعلم الأمير والسلطان بحاله. فقال: أنا على دينك. أذبح جدياً وأقدمه لك علي أنه خنزير فإذا أرغمك السلطان على الأكل فكل فهو جدي ـ سخلة ـ ليس يعنى بطعام حرام وأنا على دينك وإذا لم تثق فأذبح الجدي بنفسك وأحضره لي سراً أنا أحضره وأطبخه وأقدمة له ـ الذي ذبحته بيدك ـ وكل منه لتنجو من القتل. فقال: يكون خيراً فالسلطان قال: أحضروا الخنزير لا أريد أن اقتله قبل إحضاره لأنه لنقيم عليه الحجة ونقطع عذره فإذا حضر اللحم وما أكل بعد ذلك نضرب رقبته. فذهب المسئول عن الشرطة وذبح جدياً وطبخه وقدمه إلى هذا الشيخ الصالح قال السلطان كل. قال: هذه حرام لا آكله. قال: تضرب الرقبة: إقض ما أنت قاض. قال خذوه فاضربوا رقبته. فتبعه رئيس الشرطة وقال: أما قلت لك أنا على دينك وأكتم إيماني وهذا جدي حلال ذبحته وطبخته قال يا عبد الله أنا وأنت نعلم أنه جدي من الذي يُعلم الناس أنه جدي؟ الناس كلهم سيأكلون من لحم الخنزير لأنني أكلت أنا من هذا الجدي الذي هو عندهم خنزير فأنا أضل الأمة بأسرها من أجل أن أنجي نفسي! لا والله. أموت و ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) (1) وماذا جرى؟ لما ذبح الحجاج ـ وقد أفضى إلي ما قدم ـ سعيد بن جبير علية رحمة الله ورضوانه أنظر للمذبوح يذكر ويترضي عنه وانظر للذابح لو أذن الله بلعنته للعناه. إنما نقول أفضى الى ما قدم. أنظر للذابح مات. وأنظر للمذبوح مات.
__________
(1) - آل عمران:185(65/162)
أين الذابح والمذبوح؟ الكل الأن عند أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين و ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)) (1) بماذا تضرر سعيد بن جبير عندما ذبح؟ عندما صلب سحرة فرعون أين هم؟ عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين أما لحق بهم ذلك العاتي! إلحق بهم. ما مصيره؟ ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) (2) أين ملوك الأرض والجبابرة؟ الذين كانوا يفعلون ويفعلون ويبطشون؟ أين طاغوت هذا الزمن الذي كان يقول: الذي سيعمل مشكلة ـ سافرمه بمفرمه؟ ولا يمكن أن نحكم بإسلام في هذه البلاد أو غيرها؟ هو وغيره كلهم تحت التراب. وهذا الكرسي لو كان لا ينتقل من الماضين لما جاء للحاضرين وهو عما قريب سينتقل عنهم الى غيرهم ((وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) (3) ولا ينفع عند الله إلا العمل الصالح. ((والْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) (4) والله لو تفكر الناس كلهم كما قال الإمام الشافعي علية رحمة الله ـ بهذه الآية لو سعتهم. هذه أيام منقضية في حق المؤمن وفى حق الكافر. لكن بعد ذلك ((فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ)) (5) وأولئك: ((فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)) (6) شتان شتان بين هذا وذاك شتان شتان. ولذلك كيف أضل الأمة العامة لأنجي نفسي؟ !.
فإذا كنت ممن يقتدي به فاتق الله وحذار حذار من المخالفة، وصغائر الرجل الكبير كبائر وكبائر الرجل الصغير صغائر. رجل صغير تافه فعل كبيرة وكما يقال أقلع وزالت. هذا أمام الناس ليس لها شأن لأنه هو وضيع لا يقتدي به وأما ذاك إمام يقتدي به فصغيرته حقيقة كبيرة.
__________
(1) - المدثر:38
(2) - غافر: 46
(3) - آل عمران: 140
(4) - العصر: 1ـ3
(5) - الروم: 15
(6) - غافر: 72(65/163)
ولذلك إخوتي الكرام: كثير من المعاصي والآثام في هذه الأيام تفعل لأن المركب يفعلها. (بياض) السفينة تفعلها. خذ مثلاً: جهاز التلفاز الذي ما حصل في الأمة الإسلامية مفسدة أشنع منه ولا أخبث سل المسلمين كيف تفعلونه وتدعونه في بيوتكم؟ وكيف استمرئتم واستحللتم وأبحتم لأنفسكم النظر الى النساء أشكال ألوان؟ أخبرونا! الذي يريد أن يبرىء نفسه يقول: يا شيخ هذا موجود في بيت المشايخ! فعندما يقول لك كأنه يخرس لسانك بهذا لكن هناك جواب. ليس أحد من خلق الله حجه في شريعة الله إلا النبي علية صلوات الله وسلامة. لا يقتدي بفعل أحد إلا بفعل المصطفى علية صلوات الله وسلامه. فإذا فعل هذا النبي حقيقة فعله حجة. أما فعل من عداه يعرض على شريعة الله فإن أصاب نقول أحسنت وإن أخطأ نقول أسأت. وما عندنا أحد يسلم له حاله ـ عندنا شريعة كما قال الإمام ابن الجوزي علية رحمه الله: لو رام أبو بكر - رضي الله عنه - وفداه أبى وأمي وحاشاه من ذلك ـ الخروج عنها لما أقررناه حاشاه من ذلك وهو الخليفة الراشد المتبع إنما " لو " حرف إمتناع لإمتناع لو قدر أنه خرج عن شريعة الله لما أقررناه لكن العامة لا (بياض) هذا يقولون: العلماء في بيوتهم. البنوك الربويه كيف تتعاملون بها؟ العلماء يتعاملون بها وأموالهم في البنوك الربويه. الحشيش والأفيون حتي مرة قلت لبعض الناس كيف تشربونه؟ يقول المشايخ يشربونه! الحشيش والأفيون يشربونه؟ ! يشربونه إذا كان الأمر كذلك هذه بليه.(65/164)
لذلك إخوتي الكرام الأئمة المضلون حقيقة يفسدون في دين الله أفساداً عظيماً. فصغائر العالم الكبيرة كبائر وصغائر الشيخ كبائر كما أن العالم عندما يقتدي به في الخير له أجره وأجر من اتبعه. هكذا عندما يقتدي به في الشر. وطوبي لمن إذا مات ماتت ذنوبه. والويل لمن إذا مات بقيت ذنوبه ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)) (1) (بياض) من عمل صالح أو سيء خلف عملاً سيئاً وأقتدي به هو ميت ولازالت السيئات (بياض) عليه، فله وزره ووزر من اتبعه الى يوم القيامة من غير أن ينقص ذلك من أوزار من اتبعه شيئاً (2) .
لذلك إذا كنت طالب علم فاتق الله في نفسك وحزار حزار أن تضل الأمة. ما فيه شبهة (بياض) . الأمور المتنازع فيها والمختلف فيها خذ بالاحتياط في شأنها ولا تترخص وتتساهل. ما هو صغير ابتعد عنه لأن الناس سيفعلون هذا ويكون بعد ذلك وزره وتبعته في رقبتك.
هذه ستة أمور تكبر لها الصغائر والصغائر تنتقل من ديوان الصغيرة الى ديوان الكبيرة. الإصرار والاستصغار. الفرح والاستبشار. التهاون بستر الحليم الغفار، التحدث بالمعصية بعد أن ستره الله. أن يكون ممن يقتدي به فهذه الأمور الستة إذا حصل واحد منها نحو الصغيرة نقول: نقلت الى ديوان الكبيرة فإذن لها أثار أخرى غير الآثار التي تقدمت معنا. سنبحث الأن في أثار الكبائر في الدنيا والآخرة.
__________
(1) - يسن: 12
(2) - قلت: هذا المعنى ثابت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وغيرهما من حديث المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها بعده من غير ان ينقص من أجورهم شي. ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان علية وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيىء](65/165)
إذن خلاصة الكلام: أثار الصغائر في الدنيا ثلاثة: لا تزيل اسم الإيمان المطلق عن صاحبها. يكتسب القلب ظلمة. خفيفة يسيرة بمثابة الغبش عليها والغبرة التي تعلق بالثياب ولا يوجد زفت ولا نفط سوداء. الأمر الثالث: ليس فيها حد مقدر. إنما العقوبة عليها من باب التعزير. وأما في الآخرة فلها أثران: مغفورة ولا تنمع من دخول الجنة. هذا كله إذا لم يصر عليها ولم تنقل الصغيرة الى ديوان الكبيرة بواحد من هذه الأمور.
المطلب الثاني: أثر الكبائر
أولاً: في الدنيا:
للكبائر في الدنيا ثلاثة آثار أيضاً(65/166)
1. الأثر الأول: يكتسب القلب بفعل الكبيرة ظلمة لكن الظلمة شديدة عظيمة. بمثابة قطعة الزفت في الثوب الأبيض وبمثابة بقعة الحبر في الثوب الأبيض. هذه واضحة سوداء. زرقاء. إزالتها تحتاج إلى كلفة وجهد وقد لا يذهب لأثر وأما تلك كما قلنا ثياب بيضاء جاءت غبار صار فيها شيء من الشوائب يمكن بنفخ تطير. أما هنا ظلمة شديدة. إذا فعل كبيرة حصل في قلبه ظلمة شديدة وأي ظلمة أعظم مما أشار إلية نبينا علية الصلاة والسلام ـ كما يأتينا ـ في الصحيحين وغيرهما: [لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن] الإيمان يخرج من قلبك ويكون كالظّلة فوق رأسك (1) في حال فعل هذه الكبيرة ونظائرها فماذا سيكون حال القلب؟ ظلمة نعوذ بالله من تلك وقد أشار نبينا - صلى الله عليه وسلم - الى هذه الظلمة. ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجة. والحديث رواه ابن حبان في صحيحة والحاكم في مستدركه وقال على شرط مسلم وأٌقره على ذلك الإمام الذهبي عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن المؤمن إذا أذنب ذنباً ـ وفى رواية: إذا أخطأ خطيئة ـ نكت في قلبه نكته سوداء] هذا الكبيرة الذي لا يغفر إلا باجتناب الكبائر ولا بالطاعات التي أمرنا بفعلها في جميع الأوقات من مكتوبات وجمعة ورمضان. [فإن نزع وتاب واستغفر] هذا كله أحكام كبيرة التي تحتاج الى توبة واستغفار.
__________
(1) - قلت هذا جزء من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - المرفوع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إذا زنى أحدكم خرج منه الإيمان وكان عليه كالظَّلَة. فإذا انقلع رجع إليه الإيمان] . أخرجه أبو داود والحاكم بسند صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح: 12/52 (انظر شرح السنة للبغوى: 1/90) .(65/167)
وأما تلك قلنا مكفرة مغفورة باجتنابه للكبائر [صقل قلبه] أي هذه النكته زال أثرها وعاد النور وتلألأ القلب وابتهج هذا بفضل الله ورحمته وما امتن الله علينا منه بعد أن هدانا للإسلام وأكرمنا نبينا علية الصلاة والسلام كمنته علينا بالتوبة وأننا إذا أخطأنا ورجعنا إلية يقبلنا، واتبع السيئة الحسنة تمحها [فإن زاد] أي ما ينزع ولا تاب ولا استغفر فعل كبيرة ثانية أو عاد لتلك الكبيرة [زادت] النقطة صارت بقعة كبيرة [حتى تعلو قلبه] أي تغطية وتحيط به وتكون كالغلاف له وتغلبه فلا يعي ولا يفقه. [فذلك هو الران الذي ذكر الله في كتابه ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (1) ] النتيجة بعد ذلك ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ. ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ. ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ)) (2) إذن تاب ونزع واستغفر بصقل القلب ويعود الى حالته والثوب إذا اتسخ وغسل كأنه لم يتوسخ أصلا غسلته وكويته ولبسته، قد يظنه الناس جديداً وهكذا حال التوبة يتوسخ الإنسان بهذه القاذورات ثم يعفر وجهه بين يدي ربه وتسيل دموعه على وجنتيه وعلى خديه ويقول يا رب أخطأت وأذنبت فاغفر. فيقول الله ـ كما في صحيح البخاري [علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب عليه. أشهدكم أني قد عفرت له] (3)
__________
(1) - المطففين:14
(2) - المطففين:15-17
(3) - قلت: الحديث متفق على صحته من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن عبداً أصاب ذنباً وربما قال أذنب ذنباً , فقال: رب أذنبت. وربما قال: أصبت. فاغفر لي. فقال ربه أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي. ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً أو أذنب ذنباً فقال: رب أذنبت. أو أصبت ـ أخر فاغفره؟ فقال: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي..ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنباً وربما قال: أصاب ذنباً قال: قال رب أصبت أو قال أذنبت آخر فاغفره لي. فقال: أعلم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ثلاثاً فليعمل ما شاء] هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: عن أبى هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكى عن ربه - عز وجل - قال: [أذنب عبد ذنباً فقال. اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي ربي اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالي أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك](65/168)
وإذا غفر الله صقل القلب وعاد الى حالته. لكن إذا لم يتب وعاد زادت هذه البقعة حتى تعلوا القلب في النهاية وتحبط به وتغطية فيضرب الران بعد ذلك ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) .
2. تقدم معنا أن الصغائر ليس في واحدة منها حد مقدر أما هنا الكبائر فيها حد وعقوبة في العاجلة لكن العقوبة تنقسم إلى قسمين: أما عقوبة مقدرة على بعض الكبائر شرعها الله وبينها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز تجاوزها لا زيادة ولا نقصاناً. وإما هناك كبائر شرعها جعلت العقوبة عليها موكولة لولى الأمر بما يردع الناس. فإن الكبائر عليها عقوبات لكن إما من باب الحد المقدر وإما من باب التعزير بخلاف الصغائر.(65/169)
ما الضابط للكبيرة التي عليها حد مقدر؟ فالزنا فيه حد مقدر. اللواط فيه حد مقدر. شرب الخمر فيه حد مقدر. السرقة فيها حد مقدر. وهكذا بعض الذنوب. كبائر هذه كلها. أكل الخنزير فيه حد مقدر. كبيرة ليس فيه حد مقدر. أكل الميتة كبيرة ليس فيه حد مقدر. شرب البول كبيرة ليس فيه حد مقدر. التعامل بالربا كبيرة ليس فيه حد مقدر التصوير كبيرة ليس فيه حد مقدر. إذن ما الضابط بين الكبائر التي فيها حد مقدر والكبائر التي ترك الحد فيها لرأى الإمام بما يردع الناس؟ لم فرق الشارع بين الكبائر فرتب على بعضها حداً مقدراً لا بد من تنفيذه وبعضها لم يرتب حداً مقدراً الإمام له أن يعاقب بما يردع الناس وقد يسقط العقوبة عن بعض الناس ويقيله عثرته على ألا يعود؟ قد. لأن عقوبة التعزير لا يلزم الإمام. ولى الأمر. والقاضي بشيء محدد فيها على حسب ما يجتهد في دين الله بما يردع هذا الإنسان لا محاباة. فإذا رأى أنه من ذوى الهيئات ووقع في بليه التصوير في وقت من الأوقات. بكسر آله التصوير ويقول له: استحى من الله ولا داعي لأجعلك نكالاً وأن أقيم لك عقوبة أمام الناس. استحى مثلك ينبغي أن يتنزه عن هذا. فيقول: أخطأت وعثرة لا أعود إليها. أما إذا اطلع على إنسان عنده محل للتصوير والتصوير هذا كسب ويصور أشكال ألوان.. فهذا إذا قبض علية يقول أقلني عثرتي؟ ليس من الحكمة أن يقال. لا بد ألان من الأخذ على يديه بما يردع السفهاء أمثاله وهكذا لو أخذ انساناً يرابى صاحب بنك وقال: أقلني عثرتي أنا ألغى البنك هذا إذا كانت الأحكام شرعية. عمل إنسان مؤسسة لا أقول علنيه خفية. أما علنية الذي يرخص في بنك فهو كافر فكيف بمن يحمى البنوك الربوية ((وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)) (1) لا يوجد ترخيص لا لبنك ولا لخمارة ولا لسينما ولا لشيء من هذا.
__________
(1) - المائدة: 44(65/170)
إنما لو قدر في الدولة الإسلامية أن إنساناً تعامل بالربا عن طريق التعامل الخاص. طالب علم أطغاه الشيطان. قال الإنسان أقرضك مائه على أن تردها لي مائه وخمسين. وعلم ولي الأمر وقال تعال: أنت تتعامل بالربا! ما تستحي من الله؟ يقول: أنا أخطأت وإن شاء الله لا أعود وإقالة ذوى الهيئات عثراتهم مقبولة. إذا عفوت عنى أعاهد الله على أنني لا أعود إلى الربا بعد ذلك فقد يلقى في روع ولى الأمر أن يعفو عنه فلا حرج لأن هذه عقوبة ليست مقدرة. بخلاف السرقة لو سرق شيخ الإسلام وثبتت السرقة ليس لولى الأمر أن يعفو عنه. لا بد من قطع اليد. أما ما لا حد فيه مقدور موكول لولي الأمر بشرط ألا يحصل فيه محاباة؟ والله سيحاسبه هل فعل هذا من اجل ان هذا حقيقه بتعنيف يرتدع! أو فعل هذا من أجل محباه؟ الله سيحاسبه على أحكامه التي يحكم بها. إذن بعض الذنوب الكبائر فيها حدود مقدرة وبعض الذنوب الكبائر ليس فيها حدود مقدرة ما الضابط في هذا؟.(65/171)
قال الإمام ابن تيمية (1) قاعدة الشريعة المطهرة في المحرمات أن ما تشتهه النفوس من المحرمات جعل فيه حداً مقدراً ليكون مع الزاجر الشرعي زاجر طبيعي. وهو العقوبة. الزاجر الشرعي: المؤمن عنده زاجر شرعي عندما يريد أن يزني وعندما يريد أن يسرق وهو خشية الله والخوف منه ونظر الله إليه ثم جهنم في الآخرة. هذا زاجر شرعي. لكن أحياناً قد تكون مقتضيات ومتطلبات هذه الجريمة قوية في نفسه وما عنده إيمان عظيم يزم نفسه بزمام التقوى والخشية من الله: يقول أزني ثم أتوب ورحمة الله واسعة. أسرق ثم أتوب. فشرع إذن عقوبة عاجله من أجل أن يستحضر الأمرين. أولاً زاجر شرعي وهو أن هذا حرام وهذا أعظم زاجر عند المؤمن لأن الذي يزجره في الأصل هو خشية الله لا الأحكام العاجلة كل واحد يمكن أن يتفلت من الأحكام الظاهرة وأن يخدع الحكام لكن هل يخدع من لا تخفى عليه خافيه في الأرض ولا في السماء؟!
__________
(1) - كما في مجموع الفتاوى 34/198 وذكرة في صفحة 214(65/172)
قد إنسان أمام الناس لا يفطر في رمضان لكن من الذي يطلع على سره هل مفطر حقيقة أم لا؟ لا يعلم هذا إلا من يعلم السر وأخفى - سبحانه وتعالى - فالأصل في الزاجر عند الإنسان المؤمن: [ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله] (1) لا أخاف سلطاناً ولا أخاف بطشاً. وقد يكون في دول إباحية تكافىء على الزنا، تعطى جوائز. [أخاف الله] هذا حرام. هذا الزاجر الشرعي. قد يخبو وقد يقل هذا الزاجر في نفوس بعض الناس فلا بد من زاجر طبيعي وهو أن يقول: إذا زنيت مائة جلدة. وننفيك سنة وهذه بهدلة ما بعدها بهدلة. فيقول: يعنى لو لم يكن هناك حد مقدر كان ممكن أقع. لا من باب التهاون بحق الله والاجتراء عليه والاستخفاف به. لا من باب أن الله حليم ورحيم وأتوب إليه. ورحمة الله واسعة كما قال إخوة يوسف: ((اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)) (2) تتوبون إلى الله عزموا على التوبة قيل الذنب. والمسألة سهلة نقتله ثم نتوب. ((وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)) وهذا المؤمن ما يعصى إستخفافً بحق الله. لا يتصور هذا أبداً ولو فعل هذا لكفر. إنما أحياناً تأتى المثبطات والإغراءات الشيطان: الله حليم. ورحيم وهو غفور ورحمته واسعة. ولا تضره معصيتك ... فيفتح له باب الردى حتى يقع.
__________
(1) - قلت: هذا الحديث متفق على صحته من حديث؟ أبى هريرة - رضي الله عنه - المشهور وتمامه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل. وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد. ورجلان تحابا في الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه. ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه]
(2) - يوسف: 9(65/173)
فبعد ذلك المؤمن يتذكر ويعود لكن عندما يكون هناك زاجر طبيعي مع الزاجر الشرعي يقول الإنسان لنفسه: هب أنني فعلت وأردتة أن أتوب لكن إذا أطلع على كيف سأتخلص من عقوبة الدنيا؟ فإذن أنا من الحكمة أن ابتعد. هنا زاجر شرعي وزاجر طبيعي يتألم منه الإنسان ولذلك قال الله ((وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)) (1) وما ذكر الله حداً! من الحدود وقال: لا تأخذكم بهما. بأصحابه رأفة إلا في حد الزنا بين المتحابين. هذا في الغالب. فيقول: هذه عشيقتي محبوبتى ووقع منها برضاها. يعنى نقيم عليها حداً! يكفى أننا نعنفها ونوبخها وكل واحد يتوب بينه وبين ربه. فالنفوس أحياناً قد تتساهل في تنفيذ هذا الحد. لو جئت بالقاتل تقول: هل هناك مجال تعفون يا عباد الله أو تتجاوزون عن القاتل وترون ألا نقيم هذا الحد؟ يقولون: لا. لا تصلح الحياة إلا بالقصاص. لا مجال للعفو. والسرقة: تريدون ألا نقطع اليد؟ يقولون: أموالنا لا يصبح أمان عليها. أما الزنا يقولون: في الأصل نساءنا مستورات إذا واحدة رضيت وذاك رضي يعنى في مجال لان يحصل حكم وصفح وعفو وستر وما شاكل هذا.
ولذلك في هذه الجريمة على وجه الخصوص قال الله ((وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ))
__________
(1) - النور:2(65/174)
ليحصل الاعتبار والانزجار ولندعوا لهذا المحدود بعد أن يقام عليه الحد: اللهم اغفر له وارحمه. فهو أخ لنا ما خرج من حظيرة الإيمان مهما جرى منه من معاصي وذنوب. وكل بنى آدم خطاء. إذن بعض الذنوب فيها زاجر طبيعي مع الزاجر الشرعي. وبعض الذنوب اكتفى الشارع فيها بالزاجر الشرعي لأنه لا يوجد ميل من الطبيعة إليها. فما تشتهيه النفوس جعل فيه زاجر شرعي وطبيعي.
الخمر تشتهيها النفوس أم لا؟ الميتة تشتهيها النفوس؟ ما تشتهيها. كلب تشتهيه النفوس؟ نقول لإنسان كل لحم الكلب. يقول: لا آكله. نقول له: يعنى تتوب. يقول لو كان حلالً ما أكلته. ليس هو موضوع توبه. لا أريد أن أكله. فإذن هنا يختلف الأمر عن الخمر. فالخمر تشتهيها النفوس وتتعلق بها فقد يخفت الإيمان ويضعف في قلب المؤمنين فيشربونها.
فلابد من زاجر طبيعي وهو جلد ثمانين جلدة أو أربعين جلدة لينزجر. وهكذا الزنا فيه كما قلنا دافع طبيعي لكل من الصنفين. فلا بد من حد. أما أكل لحم الخنزير ولحم الكلب. وما شاكل هذا. فلا بوجد اشتهاء طبيعي. النفوس لا تميل إليها. فاقتصر الشارع على الزاجر الشرعي: هذا حرام. حرام انتهى هو نفسه لا تميل إليه بخلاف ذاك.(65/175)
ولذلك إخوتي الكرام: الحشيش والأفيون والمخدرات هل تشتهيها النفوس أم لا؟ المعتمد كما حقق الإمام ابن تيمية وهو عند هذا المبحث في الفتاوى عندما ذكر هذا الضابط الكبيرة التي لها حد والكبيرة التي ليس لها حد يقول: الحشيش والأفيون ـ المخدرات ـ هذه تشتهيها النفوس فحكمها حكم الخمر. الخمر حكمها حكم البول في النجاسة. وهذه حكمها حكم العذرة في النجاسة. ولذلك إذا حملت قطعة حشيش أو أفيون كما لو حملت عذره. إذن لو حملت خمراً كما لو حملت بولاً. هذا نجس وهذا نجس. وفى كل منهما الحد. وعند كلام هذا العبد الصالح أريد أن أشير إلى سفاهة أهل الأرض قاطبة في هذه الأيام. كيف اجتمعوا ـ ولا بارك الله جمعهم المنكر ـ على تحريم المخدرات من حشيش وأفيون وكيف أجمعوا على استحلال المسكرات؟ أنا أريد أن اعلم فقط. حقيقة عندما أفكر في هذه القضية يكاد الإنسان أن يذهل؟ ! جهود جبارة حتى في أمريكا ـ عليهم غضب الله ـ تبحث من أجل معالجة المخدرات وعقوبة المخدرين، ووصلت العقوبة في كثير من البلدان إلى الإعدام. طيب والخمارات؟ هذه تقدم في ثكنات الجيش. وهى في بيوت الأمراء والوزراء والملوك والرؤساء. وأما الخمارات بعد ذلك في البلدان لعلها تزيد على عدد البقالات! وفى بعضة البلدان لا يوجد بقاله إلا وفيها خمر. والناس لا يشربونه لكن مرطبات. لا يقول أعطني زجاجة بيرة أو زجاجة خمر. لكن: مثلجات! من أجل أن ينعش بدنه بالرطوبة والبرودة. سبحان الله العظيم! كيف استحلال للخمور التي هي أم الخبائث وتحريمها قطعي في كتاب الله ومن استحلها فهو كافر. ثم تحريم مشدد للمخدرات من حشيش وأفيون أو غير ذلك من المخدرات الأخرى؟؟. أنا أعجب غاية العجب لسفاهة الناس كل من الأمرين مزيل للعقول، ويخرج الإنسان عن رشدة ووعية ويجعلة يتصرف بغير وعى وإدراك. نعم اثر الخمر ـ كما قال أئمتنا ـ يختلف عن أثر الحشيش. هذا في حق الفاعل والأمة فقط. أما التحريم واحد.(65/176)
الخمر من شربه يكتسب نخوة وحمية وشجاعة وغيرة، أي هذه تصبح فيه. ولذلك السكير عندما يسكر تراه يحمل السكين وأنا أبو فلان وأنا أبو فلان..! وهو؟ أشد الناس غيرة على عرضة. أما الحشيش بالعكس. شاربها يصاب بنذالة وخنوع وذل في نفسه. لكن الأمة منه في سلامة إذن ضرر الخمر على الأمة أعظم من ضررها على الشارب وضرر الحشيش والأفيون على الشارب أعظم من ضرره على الأمة بكثير. لا ذاك إذا سكر لا يوجد مُخَدَّر على وجه الأرض يحمل سكينا ويخرج إلى الشارع ولذلك إذا شرب المخدر وصببت بجواره قطرة ماء يظنها المحيط الهادي سيلقى فيه ويغرق. ويصيح ويبكى. أما ذاك السكير تراه بمجرد ما يسكر يخرج إلى الشارع وقطع الطريق ويضرب المارة الذاهبين والآيبين. فذاك يصول ويجول وهذا عنده خنوع وذل وامتهان.(65/177)
ولذلك أنظر للمحشش ترى عليه أثر الذل وكأن أذناه مائلتان. كأذني الحمار. مهتل ومتمسكن وماشى؟. لأنه يفقده الغيرة فضرة في بيته. فلو اى زوجته يزنى بها لأعرض بوجهه عنها ولما قال لها ماذا تفعلين. بخلاف السكير. السكير من الذي يستطيع أن يمشى بجوار بيته ويتسمع إلى نافذة من النوافذ؟ فذاك ضرره على الأمة أشد يكون عليهم. لكن في حق نفسه ما حصل هذا الضرر من فقدان الغيرة والنخوة والمروءة. المخدرات ضررها على الشارب والمتعاطي أكثر من الضرر على الأمة لكن في كل منهما ضرر. وكل منهما محرم. وكل منهما تشتهية النفوس وكل منهما فيه الحد فكيف هذا يقال له نخب (بياض) ويقدم في حفلات الجيش سبيل! طلباً للثواب عند الشيطان! بلا ثمن والأعراس ألان لا تقام أعراس المسلمين إلا بخمور. وأما المخدرات هذه محظورة؟ نعم محظورة لكن يا إخوان القردة والخنازير تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض!!؟ الذي حرمة الله نصاً صريحاً جلياً في كتابنا استحللتموه أو ذاك ألحق به ولما بحثنا في وصفه قلنا: يأخذ حكم الخمر منعتموه! ما هذا العقل وما هذه السفاهة التي تتلبسون بها؟ وإذا كان الكفار عندهم هذا التناقض فلا عجب فأمة غضب الله عليها وقال فيهم: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)) (1) لكن نحن نعجب لأنفسنا كيف نجرى وراءهم فنحل الخمر الذي حرمة الله ثم نصد أعظم وأشنع العقوبات في حق من تعاطى المخدرات؟ وواقع الأمر بعد ذلك: عتاة الأمة والجبابرة يتعاطون الأمرين المسكر والمخدر ثم بعد ذلك المخدر يمنع منه المساكين. وأما الخمر فهذا مبذول للجميع. وصار الأمر في بعض البلاد يكتب نشرة لمن يريد أن يدخلها: يسمح بإدخال لترين من المشروبات الروحية. صار الخمر مشروباً روحياً؟ ! الخمر مشروباً روحياً! ولو وجدوا معه قطعة حشيش لصلبوه. أسال الله أن يصلبهم في الدنيا والآخرة. كيف تحلون ما حرم الله وتعطون نشرة: يسمح بإدخال لترين.
__________
(1) - طه: 124(65/178)
ثلاثة ممنوع حتى تشترى منة هناك وينتفعون منك. لانك قدمت للسياحة إما تدخل ثلاث لترات وتقيم ثلاث ليال كل ليله تشرب لتراً. إذن ماذا استافدوا منك؟ سيبعون زجاجة الخمر بمائة درهم لا بد من أن تحضر لترين فقط ولترين هذا مسموح به رسمياً!!
فإذن قاعدة الشريعة في الكبائر التي فيها حد مقدر والتي ليس فيها حد مقدر: أن ما تشتهيه النفوس فيه عقوبة مقدرة وما لا تشتهيه النفوس اكتفى الشارع فيه بالزاجر الشارع وما جعل معه زاجرً طبيعياً.
3. الأمر الثالث (1) يزول عن فاعلة الكبيرة اسم الإيمان المطلق ولا يزول عنه مطلق الإيمان. فلا تقول لفاعل الكبيرة مؤمن مطلقاً لكن لا نخرجه مع ذلك من الإيمان نقول: مؤمن. مقيد: مؤمن عاصي. مؤمن فاسق. مؤمن مسرف. مؤمن متجاوز لجدود الله لا نكفره ـ انتبه! ـ لكن لا نطلق عليه الاسم الكامل لأن هذا لا يحصل ولا يطلق إلا على من فعل الواجبات وترك المحرمات ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)) (2) أما مؤمن كذاب تقول عنه: هذا مؤمن؟ لا تقول هذا مؤمن كذاب. مؤمن عاصي. مؤمن فاسق. قيد بقيد لتبين أن إيمانه ليس على وجه التمام والكمال.
إخوتي الكرام:
__________
(1) - وهو أطول الآثار وهو موضوع الإيمان وهل يبقى صاحب الكبيرة في الإيمان أو يزول عنه الإيمان؟ أقول باختصار ثم أحقق المسألة ووعيها وإدراكها ضروري جداً.
(2) - المؤمنون:2-4 هذه الآيات في الأنفال وليست في المؤمنون(65/179)
الكبائر تزيل الإيمان المطلق عن مرتكبها ولا تزيل عنه مطلق الإيمان بخلاف الصغائر فقلنا لا تزيل عنه الإيمان المطلق فمن فعل صغيرة يطلق عليه لفظ الإيمان بلا قيد ولا يخرج عنه رتبه الصلاح والاستقامة [إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما] (1) والله وعدنا أننا إذا اجتنبا الكبائر أن يغفر لنا الصغائر ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) (2) .
فمن ارتكب صغيرة لا يزول عنه الاسم المطلق للإيمان فيقال له: مؤمن. بلا قيد. وأما من فعل كبيرة فقد زال عنه الاسم المطلق لكن ما خرج من مطلق الإيمان. الاسم المطلق هنا لا ينصرف ولا يطلق إلا علي من قام بمقتضيات الإيمان من الإقرار والاعتقاد والعمل فلم يخرم ذلك بتضييع مأمور ولا يفعل محظور ـ أي من الكبائر ـ فإذا فعل شيئاً من ذلك زال عنه الاسم المطلق ولا يجوز أن تقول عنه إنه مؤمن إلا بقيد. مؤمن عاص مؤمن فاسق. مؤمن مسرف مؤمن ظالم. مؤمن متجاوز لحدود الله مفرط. هل خرج من مطلق الإيمان وما بقى معه شيء منه بحيث دخل في حظيرة الكفران واستوجب الخلود في النيران؟ لا. مطلق الإيمان ـ كما قلنا ـ بقي معه لكن الاسم المطلق زال عنه. وبذلك قال أهل السنه الكرام: لا يطلق عليه إسم مؤمن مطلقاً إلا بقيد ولك أن تنفى الإيمان عنه على إعتبارات سنذكرها عندما تريد نفى الإيمان الكامل ولك أن تصفه بالكفر لا الكفر الذي يعنى به الخروج من الملة الذي يستوجب فاعلة الخلود في النار. إنما يقصد به الكفر العملي الذي هو كفر دون كفر. فإذن لفظ الإيمان لا يطلق عليه إلا بقيد ولك أن تنفى الإيمان عنه ولك أن تصفه بالكفر على مراعاة على انه كفر دون كفر النعمة لا كفر المنعم والجحود.
__________
(1) - تقدم صفحة 56
(2) - النساء: 31(65/180)
إخوتي الكرام: وقد وردت النصوص عن نبينا عليه الصلاة والسلام بهذه الأمور ودارت حول خمسة أوصاف وصفت بها فاعل الكبيرة. فلنذكر هذه الآثار ولنبين موقف أهل السنة الإبرار نحوها كما ذكرت علم التفضل المتقدم لنرى أن أهل السنه هم الذين آمنوا بنصوص الشرع كلها ولم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض كما هو حال أهل البدع أهل الغلو المتشردين المتطرفين المنحرفين فى الزمن القديم وفى الزمن الحديث.
وفي الزمن القديم وجد الخوارج والمعتزلة الذين كفروا صاحب الكبيرة وقالوا: خرج من الإيمان واستحق الخلود في النيران ووجد المعتزلة. قالوا: خرج من الإيمان واستحق الخلود في النيران وإن لم يطلقوا عليه لفظ الكفر كالخوارج وقالوا هو في منزلة بين منزلتين ـ كما سيأتينا ـ وهكذا في هذا الزمن وحد من يكفر العصاة لا سيما وللخوارج امتداد موجود في هذا الوقت وهم الاباضيه وهكذا من يستقى من ضرعهم الآسن يكفرون أهل المعاصي ويستدلون بعمومات صدرت عن نبينا علية الصلاة والسلام. لكن لا بد من الإيمان لجميع ما صدر عنه لئلا نؤمن ببعض نصون الشرع ونكفر ببعض نصوص الشرع:.
الصفة الأولى: أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المعاصي الكبيرة والآثام العظيمة تعتبر كفراً. ومن فعلها أطلق عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظ الكفر. لكن ماذا يراد منه ـ كما تقدم معنا ـ الكفر الذي هو كفر النعمة لا كفر المنعم. كفر العمل لا كفر الجحود الذي هو كفر دون كفر، كما سيأتينا إن شاء الله بعد سرد هذه النصوص ـ فمن هذه الأحاديث.(65/181)
ما ثبت في مسند الإمام احمد وصحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت] فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - على هاتين المعصيتين الكبيرتين لفظ الكفر. الطعن في النسب. أن تطعن في نسب غيرك. والنياحة على الميت. وكل من هاتين المعصيتين من المعاصي الكبيرة والذنوب العظيمة. فأطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهما لفظ الكفر.
وفى مسند الإمام أحمد والكتب الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: [لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض] فاعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المؤمن وضرب رقبته طفرا.
وثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] هذه الصفه الأولى لفاعل الكبيرة أطلقت من نبينا - صلى الله عليه وسلم - بأنه كافر |. وكما تقدم معنا عند أهل السنة يجوز أن نطلق عليه لفظ الكفر إذا قصدنا الكفر الذي هو دون كفر أي كفر النعمة لا كفر المنعم سيأتينا ما الذي جّرنا إلى هذا التأويل والى حمل حديت نبينا - صلى الله عليه وسلم - الجليل على هذا المعني عندما ما يعارضه فلا بد من الجميع لئلا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض فنحن نؤمن بالكتاب كله. وعندما نتعارض الأحاديث في الظاهر لا بد من الجمع بينها. على حسب ما أرشد نبينا عليه الصلاة والسلام.
الصفة الثانية:(65/182)
نفى نبينا علية الصلاة والسلام الإيمان عن مرتكب الكبيرة. ففي مسند الإمام أحمد والكتب الستة عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن] إذن من صدر منه واحد من هذه الأمور نفى نبينا - صلى الله عليه وسلم - عنه الإيمان السرقة والانتهاب وشرب الخمر والزنا. ويلحق بذلك سائر الكبائر.(65/183)
وثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - والحديث رواه البخاري أيضاً حديث أبي شريح العدوى - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قالوا: من يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه] يعنى غوائله وشروره وفتنته وضره وبلاياه. فلا يأمن من جاره. لا يأمنه على عرضه ولا على ماله إن غاب وإذا قابله يحترس منه لئلا يحدث له مشكله. فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان عمن يؤدي جيرانه وقد ورد مثل هذه شيء كثير. منه ما فى المستدرك والصحيحين أيضاً من حديث أنس - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه] جاء المتشددون المنحرفون في هذا العصر فقالوا: مفهوم الحديث أن الإنسان لم يتصف بها ليس معه ذرة إيمان. إذن ليس بمؤمن! هي أحكام شرعية أو أوامر عسكرية؟ من الذي أخبركم بهذا؟ ! [لا يؤمن أحكم] نفي عنه الأيمان الكامل وليس معنى هذا لأنه خرج من حظيرة الإيمان فمن آذى مؤمناً حتما استحق لعنه الله لكن هل كفر؟ هل يخلد في النار؟ لا ثم لا. الله يقول عن هذا فى كتابه ((وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.(65/184)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (1) وقال في حق القاتل ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)) (2) مع انه قاتل: إذن أخ ما خرج من حظيرة الإيمان لكنه عصى الرحمن واستحق سخطه واستوجب النار التي لا يخلد فيها. إن عذبه الله فإذن ليس معنى لا يؤمن كما يقول المنحرفون في هذا الوقت. بقولون: معناه ما عنده ذرة إيمان ويرتبون بعد ذلك أحكام الكفر على البشرية جميعاً في هذه الأيام وهذا شطط ما بعده شطط. اتقوا الله في أنفسكم وفى أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام. وحذار وحذار أن يسير الإنسان في الأحكام الشرعية نحو عواطفه وميوله وهواه فيضل أكثر مما يصلح. وكل أمر وكل حكم من أحكام الشرع للشيطان فيه نزعتان لا يبالى الشيطان بأيهما وقعت إما غلو وإما تقصير إفراط أو تفريط ثم يجعلك تتشدد وتكفر الناس. وأما يجعلك أيضا يتبلد شعورك فتقول: المعصية لا تضر والناس لا داعي أن ننكر عليهم رحمة اله واسعة دعوهم يسرقون ويزنون ويشربون الخمر ورحمة الله واسعة. هذا ضلال وهذا ضلال ((وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)) .
إذن الصفه الثانية التي أطلقها نبينا - صلى الله عليه وسلم - على فاعل الكبيرة ففي الإيمان عنه ونحن لا زلنا نتحدث عن أحكام الآخرة وسيأتينا ما أخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن فاعل الكبيرة.
__________
(1) - الحجرات: 9، 10
(2) - البقرة: 178(65/185)
الصفة الثالثة: أخبر نبينا علية الصلاة والسلام أن من فعل كبيرة واتصف بموبقة فهو جاهل ولا يعنى أنه خرج من الدين الإسلامي إنما ارتكب خصلة من خصال الجاهلية وهذا هو الذي قلنا كفر دون كفر. كفر جحود؟ لا ليس كفر الجحود والذي يخرج من الملة. إنما وافقة الكفار في هذه الخصلة وقلبه ممتليء إيماناً. وقد ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: ساببت رجلاً ـ وهو بلال - رضي الله عنهم - أجمعين ـ فعيرته بأمة. قلت له: يا ابن السوداء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية] هذا قيل لمن؟ لأبي ذر وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - كما في مسند الإمام احمد وسنن الترمذي وغيرها بسند صحيح كشمس [أصدق أمتي لهجة أبو ذر. ما أظلت الغبراء ولا أقلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. أشبه عيسي بن مريم في زهده وورعه. فقال عمر بن الخطاب: أنعرف ذلك له يا رسول الله. قال نعم. تعفوا له ذلك] هو أصدق هذه الأمة لهجة. لكن عندما زل، وعندما أخطأ لا بد من أن نزن بالقسطاس المستقيم وأن نخبره بأنه في هذا الوقت هو جاهلي. ليس معناه كأبي جهل. ومعه في دار الجحيم. وإذا كان أبو ذر في هذه الخصلة كفر واستوجب النار فمن الذي سيدخل الجنة بعد ذلك من الخليقة؟ مَنْ؟ إنك فيك جاهلية.(65/186)
فما كان من أبي ذر إلا أن وضع خده على الأرض وقال: والله لا أرفعه حتى بطأ بلال خدي بقدمه هذا الذي يتكبر على الناس لا بد من علاج نفسه بشيء شرعي ولا مانع بل هذا محمود ومطلوب أن يؤدب الإنسان نفسه إذا خرجت عن شريعة الله بشيء شرعي. أما بشيء غير شرعي فلا يجوز. فلو قدّر انه نظر إلى امرأة بشهوة لا يجوز أن يقلع عينه. ولو قلع عيناه فهو آثم يجوز أن يقول: يا نفس أنت تنظرين لأمنعنك طعام الغداء والعشاء. هذا لا حرج لأجل أن يضعف الشهوة في نفسه. يا نفس أنت تنظرين ثلاثة؟ أيام صيام متتابعة. وقد كان عبد الله بن وهب شيخ الإسلام في زمنه يقول. عاهدت ربى أنني كلما اغتبت أحداً صمت يوماً فما إنكفت نفسي عن الغيبة. فقلت كلما أغتاب رجلاً ـ أحداً ـ أتصدق بدرهم فامتنعت نفسي عن الغيبة لحب الدراهم. هذا علاج شرعي لا حرج فيه وهذا حقيقة علاج شرعي فوضع خده على الأرض وقال يأتي هذا العبد الأسود يطأ خدي بقدمه لأجل أن تقف النفس عند حدها:
الناس من جهة التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصل عنصرهم ... شيء يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم ... على الهدي لمن استهدى أولآء
وقدر كل امريء ما كان يحسنه ... والجاهلون للأهل أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبداً ... الناس موتى وأهل العلم أحياء
الكلام ينسب للإمام علي - رضي الله عنه - وعن سائر الصحابة الكرام. وقوله: وقدر كل أمريء ما كان يحسنه، حقيقة هذا من أجمل كلام قيل ومن أحسن الحكم. وقدر كل أمريء ما كان يحسنه. لا علاقة لنسبه ولا للونه ولا بشكله ولا بطوله ولا لعرضه ولا لاعتبار من الاعتبارات العرفية ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (1) على حسب إحسانه يستحق جزاءً وثناءً ومدحاً ورفعة في الدنيا وفى الآخرة لا لشيء آخر
إذن الشاهد إخوتي الكرام وصف بجاهلية من فعل كبيرة واتصف بأمر محظور.
__________
(1) - الحجرات: 13(65/187)
الصفة الرابعة: التي أطلقها نبينا - صلى الله عليه وسلم - على من يفعل الكبائر ويقتحم الموبقات: النفاق. ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان] فهو منافق فحذار حذار ان تأتي وتقول والله يقول: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)) (1) لا هذا نفاق عملي ـ كما سيأتينا، ليس بنفاق إعتقادى. لكن أطلق عليه هذه الوصف إذا كذب إياك أن تقول له إنه مؤمن مطلقاً. لا يستحق هذا الاسم ألا من قام بالواجبات وترك المحرمات قل. مؤمن منافق. أيّ نفاق النفاق العملي. أي مؤمن مرتكب للكبيرة. أي مؤمن فاسق. أي مؤمن ظالم. مؤمن عاصي. وما شاكل هذا.
__________
(1) - النساء: 145(65/188)
الصفة الخامسة: الوصف الخامس الذي أطلقة نبينا - صلى الله عليه وسلم - على فاعل الكبيرة. أخرجه من الإسلام وقال هذا ليس من المسلمين. ليس من جماعة المسلين. ففي مسند الإمام احمد والصحيحين من حديث أبن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوة الجاهلية] . إمراة مات زوجها أو أخوها فلطمت خدها. وهكذا الرجل أيضاً. إذا فعل. ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب. وهي فتحة للثوب. القميص. التي تكون في الصدر. هذا هو الجيب في اللغة. الفتحة التي يدخل فيها الإنسان رأسه أو رقبته يقال له جيب من الجبّ وهو القطع لكن الجيب في جيب الأصل ـ فتحة القميص التي في الصدر. فتشق الجيوب كما تفعل المرأة عندما تأخذة ثيابها وتمرطها من صدرها. ودعا بدعوى الجاهلية: يا فلان من يعيننا بعدك ومَنْ ومَنْ. وبين هذا الكلام. وبدأ ينتسب إلى الجاهلية ويتفاخر أيضاً بخصالها الذميمة. ثبت في مسند الإمام أحمد والمستدرك والسنن عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه] . ليس منا. منافق جاهلي. كافر. ليس بمؤمن. هذه خمسة أوصاف نفى عنه الإيمان. وصف الكفران. وصف بالجاهلية. وصف بالنفاق. وأخرج من عداد المسلمين. ليس منا هذا من أوصاف الملل الأخرى. لا أن من فعل هذا صار منة الكفار ومن ملتهم. هذه الأحاديث الخمسة أخوتي الكرام موقف أهل السنة نحو هذه الأوصاف ما تقدم معنا قالوا: زال عنه الاسم المطلق وبقى معه مطلق الإيمان. ليس الإيمان المطلق. مطلق الإيمان. أي ما خرج منه على وجه التمام. فلا ننفى عنه كل الإيمان. إنما نصفه بأنه مؤمن بقيد. ويجوز أن ننفى عنه الإيمان كما نفى فى النصوص الشرعية على مراعاة نفى الكمال والتمام. وزوال بعض أركانه الواجبة. لا ذهابه أصلاً.(65/189)
ويجوز أن نطلق عليه لفظ الكفر على أننا نريد كفر النعمة، وشابه الكفار. لا أنه خرج من حظيرة الإيمان. هكذا فيما يتعلق بالجاهلية والجاهلية.
قال أئمتنا الكرام: هذه الأحاديث وما شاكلها محمولة على واحدة من أمور خمسة:
أولها: من فعل كبيرة فيه خصلة منة خصال الجاهلية. فيه خصلة من خصال الكافرين فيه خصلة من خصال المنافقين فيه خصلة من خصال من ليس بمسلم ولا مؤمن. من خصال الملل الأخرى. ليس منا فيه خصلة واحدة. أي في هذه الخصلة هو مشابه للكفار. للمنافقين. للجاهلية. لأهل الملل الدريّة. لا يعنى أنه يشابههم من جميع الوجوه وله حكمهم. إنما شابههم في خصلة واحدة. ما الدليل؟ الدليل على هذا الكلام كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في المسند والصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً. ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها. من إذا ائتمن خان. ومن إذا حدث كذب. ومن إذا خاصم فجر، ومن إذا عاهد غدر] فعندما يوجد فيه خصلة إذن شابه المنافقين في هذه الخصلة. وفيه خصلة من خصال النفاق وما اجتمع فيه نفاق كامل. هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
إذن نقول: [لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن] هو في هذه الخصلة ليس من خصال المؤمنين أي: الزنا ليس من خصال المؤمنين [كفر بالله من اتقى من نسب] في هذه الخصلة شابة الكفار. في هذه الخصلة [قتال المسلم كفر وسبابة فسوق] . في هذه الخصلة شابه الكفار. لأن الكافر لا ينزجر عن قتل المؤمن. فهذا عندما يقتل مؤمناً شابهه وشاركه في هذه الموبقة. لكن هل هو كافر من جميع الوجوه؟ لا ثم لا. مؤمن عاص إنتبه لهذا.(65/190)
إذن نقول: هذه محمولة على أنه يشابه الكفار ويشابه المنافقين. يشابه الجاهلين. يشابه أهل الملل الأخرى التي ليست على الإسلام في خصلة واحده أي في الفعل الذميم الذي فعله ووافق أولئك الكفار الملعونين - صلى الله عليه وسلم - يعنى أنه منهم وحكمه حكمهم.
ثانيها: يراد بالكفر الذي أطلق على فاعل الكبيرة: كفر النعمة الذي هو كفر عملي وليس كفر اعتقادي. وهو الذي يقال له: كفر دون كفر. وهكذا نقول عن النفاق ليس هذه بنفاق الجحود والاعتقاد. أنما هذه نفاق العمل.
ولذلك ثبت عن الحسن البصري. كما في سنن الترمذي يقول: النفاق نفاقان: نفاق العمل ونفاق الجحود. وهو نفاق الاعتقاد. فقول النبي علية الصلاة والسلام: آية المنافقة ثلاث. هذا من النفاق العملي. نفاق العمل لا من نفاق الاعتقاد الذي بخلد صاحبة في النار.
فيما يتعلق بالكفر. هل عندنا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد من الكفر. الكفر الذي لا يخرج من الملة؟ نعم عندنا في ذلك دليل. وقد بّوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الإيمان باباً بهذا الخصوص فقال: باب كفران العشير وكفر دون كفر ثم ساق الحديث بسنده إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - والحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن. فقال الصحابة رضوان الله عليه يكفرن بالله يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ؟ قال: يكفرن العشير ويكفرن الإحسان. لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط] سبحانه الله العظيم! لعل هذه الوصف يتصف به أكثر الرجال في هذه الأيام إلا من رحم ربك.(65/191)
الشاهد هنا: أطلق عليها لفظ الكفر يكفرن. وكفر العشير ـ وهو الزوج المعاشر ـ والإنكار إحسانه ليس كفر بالله. لذلك لما توهم الصحابة أنهن يكفرن بالله. قال: لا يرتكبن كبيرة لكن يطلق عليهن بسببها لفظ الكفر لأنهن يشابهن الكفار في هذه الخصلة. فالمؤمن يجزى بالإحسان إحساناً ((هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)) (1) والمؤمن يدفع الحسنة بالحسنة ويرد الجميل بالجميل. وأفعال المؤمن تدور بين عدل وفضل. وليس عنده ظلم وجور. [يا عابدي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا] (2) فكيف يكر الإحسان والمعروف! بزن بالقسطاس المستقيم.
المؤمن يقول عن الشيطان عندما نصح فرداً من أهل الإسلام وهو أبو هريرة - رضي الله عنه - وأرشده أن يقرأ آية الكرسي ـ كما في صحيح البخاري. وإذا قرأها عندما ينام لا يقربه شيطان حتى يصبح. يقول نبينا علية الصلاة والسلام ـ وهذا منهج المؤمن ـ[صدقك وهو كذوب] (3) صدق. هذه صادق فيها.
__________
(1) - الرحمن: 60
(2) - تقدم تخريجه صفحة 35
(3) - قلت: الحديث صحيح أخرجه البخاري وغيرة والحديث طويل عن أبى هريرة - رضي الله عنه - وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان فأتاه آت فجعل يحثو من الطعام فأخذه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله ونص الحديث ... فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ فلا يقربك شيطان حتى تصبح. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان] .(65/192)
فنزل الناس كما قال الله ((بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)) (1) بميزان العدل فنقول: أحسن في كذا وأساء في كذا. أما إذا أساء معك تقول: ما رأيت منك خيراً قط؟ ! لا إله إلا الله!!؟ من القصص الطريفة وكنت أسمعها من شيوخنا عليهم جميعاً رحمة الله: أن رجلاً كان يمشى مع زوجة في الشارع. فمّر على أناس يعملون في بناء بيت من البيوت في الزمن القديم وكانوا يجمعون التراب ويصبون عليه الماء، الطين ـ وأنا أدركت هذا في حياة المتقدمين الكبار الأولين. بيوتهم كلها من طين ويضعون لها شيء من التّبن أيضاً للتماسك. وأكثرهم حتى كانوا يخلطونها بأرجلهم. ليس يعنى يوجد " كريك " ومسحات وما شاكل هذا. فمر ومعه زوجته وهم يخلطون الطين بأرجلهم. فالمرأة لما ذهبت إلى البيت! اشتهت هذا الفعل. قالت يعنى ليتني أخلط الطين برجلي. اشتهت هذا فقال لها: الأمر يسير. فذهب واشتري لها زعفران وماء الورد وبدأ يضع الزعفران في الأرض ويقول: دوسيه برجليك ويصب ماء الورد على رجليها من صبه لها. زعفران وماء ورد. وهى تخلط الزعفران برجليها لأجل أن تنفذ رغبتها. ثم في يوم من الأيام جرى بينه وبينها ملاحاة فقالت: ما رأيت منك خيراً قط؟ فقال: ولا يوم الزعفران! ولا يوم الزعفران! بقول لها تذكري ذلك المشهد. زعفران ـ يعني غالي الثمن ـ وماء ورد وأنا الذي اصب علي رجليك طول حياتك ما رأيت من خير قط. ولا يوم الزعفران؟ ولا يوم الزعفران. هذا كلام النبي علية الصلاة والسلام: [يكفرن. فقبل له يكفرن بالله. قال يكفرن العشير ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط] سريعة الانفعال تمشى مع انفاعلها ولا تتثبت وتسير مع عقلها ورزانتها.
__________
(1) - الإسراء:35.(65/193)
[كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا قليل] (1) كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -
الشاهد إخوتي الكرام:
المراد من الكفر هنا كفر العمل. كفر النعمة لا كفر المنعم ولا جحوده.
فإذن لفظ الكفر محمول على هذا أو على التعليل الأول خصلة من خصال الكفار. ثبت في صحيح مسلم وسنن أبى داود والنسائي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً عليه من كلامه؟ أنه قال: [من سرّه أن يلقي الله مؤمناً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدي وان الله شرع لنبيكم - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدي ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ـ انتبه ـ ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم] هذه رواية أبى داود ورواية الإمام مسلم والنسائي: [لضللتم] . فترك الجماعة يعتبر كفراً؟ هذا بالإجماع ليس بكفر. [لكفترم] رواية أبى داود: أي اتصفتم بخصلة من خصال الكفار والفجار الذين لا يشهدون جماعة المؤمنين ولا يحضرون معهم.
والجماعة إخوتي الكرام أرجح الأقوال أنها واجبة وهناك قول بسنيتها. لكن المعتمد أنها واجبة وقد بوب الإمام البخاري علية رحمة الله في صحيحة باب بشير إلى هذا فقال. باب وجوب الجماعة ثم روى أن رجلاً قال للحسن البصري عليه رحمة الله. إن أمي أمرتني أن افطر في صوم النافلة قال: أطعها. طاعة الأم واجبة. والصوم نافلة والواجب يقدم. قال. إن أمي أمرتني ألا اشهد الصلاة في جماعة قال: لا تطعها , الجماعة واجبة. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (بياض)
__________
(1) - قلت: هذا الحديث متفق علي صحته من حديث أبيب موسي الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسيا امرأة فرعون. ومريم بنت عمران وان فضل عائشة علي النساء كفضل الثريد علي سائر الطعام](65/194)
ومن ناحية الجماعة من باب التنبيه: المسلمون تساهلوا فيها في هذه الأيام لا سبما في الصلاة التي [أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لا توهما ولو حبواً] (1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. أما العشاء فالناس يشتغلون في لهوهم وطعامهم ومسلسلاتهم التي ستسلسلهم في سجين. وأما في الفجر فالذي يسهر للساعة الواحدة. إذا استيقظ لصلاة الفجر هذا خرقت العادة في حقه. يعنى هذا كرامة من الله (!!) وكيف يكرم الله من يبارزه طول الليل بالمعصية؟ عندما ينام الإنسان الساعة الواحدة أو الثانية أو الثالثة كيف سيستيقظ الساعة الرابعة؟ الجسم ما أخذ حظه لذلك عندما يقول: ما أستطيع أن استيقظ. قل لأنك تفرط في الآداب
الشرعية بما ينبغي أن تفعله في ليلك. نحن ننتهي من صلاة الجماعة في العشاء في الثامنة والنصف ـ مثلاً ـ التاسعة لو نام من التاسعة للثالثة ست ساعات أوليس كذلك؟ للرابعة. وإذا لم يستيقظ في الساعة الرابعة فهو والجيفة سواء. فكيف إذا لم يشهد بعد ذلك صلاة الفجر؟ لكن حقيقة إذا سهر الساعة الثانية في معصية الله ومحاربته. هذا يستحيل أن يستيقظ لصلاة الفجر. وإذا أراد أن يقول: لَمِ؟ قل له ((وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)) (2) ((فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ)) (3) ولو أحب الله مناجاتك. لو أحبها لأيقظك. أن الئيم عن المكارم يشغل.
__________
(1) - قلت: هذا الحديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي علية الصلاة والسلام: [ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء. ولو يعلمون ما فيها لا توهما ولو حيواً لقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم ثم آمر رجلاً يؤم الناس ثم آخذ شعلاً من نار فأحرق علي من لا يخرج إلي الصلاة بعد]
(2) - التوبة: 46
(3) - التوبة: 83(65/195)
إذا كنت تريد الخير ولا توفق له فاعلم أن الله يكرهك. يكرهك لَمِ؟ لأنك أنت في الأصل تكره الله أيضاً. ففتش نفسك. والجزاء من جنس العمل فكيف ستستيقظ للفجر وأنت تنام الساعة الثانية؟ هذا مستحيل لا سيما إذا كنت تنام أشكال ألوان. رأي في سهرته لعلة خمسين امرأة على اقل تقدير وهو جالس على أريكته واحدة حمراء وواحدة زرقاء وواحدة صفراء بين ملونات وغيرهم ... في وسائل الإجرام التي تسمى بوسائل الإعلام كيف سيستيقظ كيف سيستيقظ؟!! ولو سهرت على طاعة الله ممكن أن يلطف الله بك وأن يوقظك عند الفجر لأنك كنت في طاعة مع أنه إذا كنت تسهر على طاعة وتخشى؟ أن يفوتك الفجر فكما قال عمر - رضي الله عنه -[والله لأن أشهد الفجر في جماعة أحب الى من أن أقوم الليل كله. عندما تخلف تميم الداري - رضي الله عنه - عن صلاة الفجر فذهب إليه وقال أين كنت؟ قال: سهرت بقيام الليل فغلبتني عيناى وما استيقظت لصلاة الفجر. قال: لأن أشهد الفجر في جماعة أحب إلى من قيام الليل كله] (1) .
أنت لو نمت الليل كله من أوله آخرة وصليت الفجر في جماعة لكان احب وأفضل لك عند الله جل وعلا.
إذن الشاهد إخوتي الكرام هنا: لو تركتم ـ الجماعة ـ سنة نبيكم لكفرتم وفى رواية الإمام مسلم والنسائي: لضللتم أي ابتعدتم عن مسلك المهتدين واتصفتم بخصلة من خصال الكفار. وليس معنى هذا أنكم كفرتم. خرجتم من الملة ومن حظيرة الإسلام.
__________
(1) - قلت: الحديث رواه الإمام مالك عن أبى بكر بن أبى حَثْمَةَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد سليمان بن أبى خيثمة في صلاة الصبح وابن عمر غدا إلى السوق ومسكن سليمان بين المسجد والسوق (بياض) الشفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح؟ فقالت له: إنه بات يصلى فغلبته عيناه (بياض) عمر له: [لأن اشهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلى من أن أقوم ليلة] أهـ انظر الترغيب والترهيب للمنذرى: 1/271.(65/196)
ثالثهَا: التعليل الثالث لأهل السنة يقول: إطلاق لفظ الكفر على المعاصي ونفى الإيمان عنه وأنه جاهلي. هذا سيؤدى به في نهاية الأمر والمطاف إلى الكفر الحقيقي، وبالتالي يكفر في الدنيا ويخلد في النار في الأجرة. كيف هذا؟ كل من يفعل المعصية في أول أمره يفعلها وهو وجل خائف. يتغيّر وجهه. ثم يستمرئها فيفعلها ويداوم عليها. ما دام يشعر بأنه عاصي. فيه خير وفيه إيمان. وهو من أهل الإسلام لكن قد يصل إلى حالة إذا قيل: اتق الله لا تشرب الخمر، يقول: دعنا من هذا الكلام الفارغ. الناس صعدوا إلى القمر وأنت لا زلت للآن تبحث في حكم الخمر؟ ! ماذا صار حكمة؟ كفر، وقد يكون يصلى وعنده هذه الفلسفة كما هو حال كثير من الناس عندما تعرض عليه أمراً شرعاً يقابلك بهذه الفلسفة، فيكفر وهو لا يدرى فإذن: فعل المعصية وهو وجل خائف. ثم استمرأها فصار يفعلها ويرى أنه عاص وذهب الوجل ثم بعد ذلك استحلها، فكفر. المرأة عندما تخرج سافرة وتطرح الحجاب من رأسها. أوّل ما تخرج تكاد تسقط على الأرض من حياءها كيف تركت هذا الستر الذي يصونها وترضى به ربها؟ ثم بعد فترة ترى هذا طبيعي ثم بعد فتره تقول لها: يا أمة الله استتري تحجبي. تقول. دعك من هذه القشور الأصل القلب وأما الظاهر هذا لا علامة لنا به. والمرأة إن أرادت أن تخرج سافرة أو متحجبه والمتحجبات دعك منهن هؤلاء دميمات يسترن دمامتهن بهذا الحجاب؟ ! أو تقول ما هو ألعن. تقول كل واحدة على حسب كلام بعض الناس. تفعل الأفاعيل لئلا تكشف هويتها وصورتها تستتر. يعنى ما تتحجب إلا الزانية!! لِمَ؟ قال: لأنها لو كشفت لفضحت فهي تزني وهى متحجبه!! أعوذ بالله من هذا هذه الشبه التي نعيش فيها سافرة هذه مصونه، هذه صدّيقة لكن المتحجبة هذه التي تفعل الأفاعيل فقط. لا إله إلا الله!! فإذن وصل بها الأمر إلى استحلال الكفر. بل إلى تبريره والدعوة إليه والى استحباب واستقباح الطهر والفضيلة والإسلام.(65/197)
إذن ستؤوب إلى الكفر تقدم معنا: المعاصي بريد الكفر ودهليز الشرك. وقلنا: قد يفعل الإنسان المعصية في أول أمرة لكنه يكفر في نهاية أمرة ومن تأمل أحوال العصاة لاح له هذا على وجه اليقين.
رابعها: تعليل (بياض) الرابع الإطلاق لفظ الكفر والنفاق والجاهلية على من يفعل كبيرة أن هذه من باب التغليظ والزجر لا من باب اتصافه بحقيقة الكفر. فمن فعل كبيرة نبينا عليه الصلاة والسلام يريد أن يحذره من الكبيرة. والشرع المطهر يريد أن يحذره من هذه الخصلة الذميمة الحقيرة. بلفظ يخلع القلب. ولا أشنع ولا أفظع ولا أشد على المؤمن من أن تقول له إنه كافر. إنه منافق. إنه ليس بمؤمن أنه جاهلي. إنه ليس من عداد المسلمين هذا حقيقة إذا قلته للمؤمن ينخلع قلبه فأنت عندما يفعل الإنسان معصية تقول يا عبد الله أنت خرجت من الإيمان لا تقصد في خروجك أنه خرج أي أنه كفر وخرج من الملة أنما خرج من الإيمان الذي ينبغي أن يتصف به هذا الإنسان على وجه التمام. هو أن يجمع مع الاعتقاد والإقرار العمل. وأن يفعل الواجبات وأن يترك المحرمات تقصد أنه خرج إذن من شيء وجب عليه على حسب إيمانه ووجب عليه إذا كان مؤمناً إذن ضاعت بعض أركان الإيمان المطلوبة الواجبة. فعندما تقول له لست بمؤمن. أ، ت كافر تقصد هذه من باب لا التغليظ والزجر. لا من باب إتصافه بحقيقة الكفر لكن ما قلت له: أنت مؤمن عاصي. قلت له لست بمؤمن وأنت كافر وأنت عندما تسأل عن التفصيل تبين إذن لم أطلعت، أطلعت لتهول عليه ولتخلع قلبه. لينزجر. ولا نقول انك أطلقت لفظاً كذباً حتى يقال إذن الشارع كذب علينا. نقول لا لكن أطلق عليه هذا اللفظ وأراد منه كفر النعمة ـ كما تقدم معنا ـ أراد منه مشابهة الكافرين في هذه الخصلة إذن لم أطلق لفظ كفر؟ إذا كان لا يقصد الكفر الحقيقي؟ لأن هذا اللفظ مستشنع عند المؤمنين. لأن هذا الفظ يقطع قلوبهم عندما تقول لإنسان. إذا زنيت تخرج من الإيمان. فيقول: ما عاد أزنى.(65/198)
إذا كان الزنا يخرجني من الإيمان كيف أزنى وأخلّد في نار جهنم فإذا كان الأمر كذلك إذن يعنى لا أزنى أما لو قلت له: إذا زنيت يعنى أنت مؤمن عاصي. يقول ما دمت ضمن الإيمان رحمة الله واسعة. إذن لا حرج في الزنا. فإذن الشارع استعمل لفظاً يخلع القلب. ولا نقول هذه كذب. لا. أصل لهذا اللفظ لا هذه له أصل. وحقيقة: شابه الكفار في هذه الخصلة وليس له حكمهم فعندما تطلق عليه هذا اللفظ الذي يشابه به الكفار تفطر قلبه.
ولذلك لو قال النبي عليه الصلاة والسلام لآبى ذر [أبا ذر مهلاً أخطأت وخدشت إيمانك وكيف تعّره بأمه؟ لقال: أستغفر الله يعنى يا بلال سامحني. لكن [إنك امرؤ فيك جاهلية] حقيقة هذه نحن خرجنا من الجاهلية ودخلنا في الإسلام لأجل أن ننال رضوان الله رجعنا إلى الجاهلية بعد ذلك بهذه الألفاظ المنكرة. إذن لا بد من تطهر للنفس بشيء لا تفكر فيه أو تعود إلى هذا مرة أخرى. فطهر نفسه بما طهرها به [إنك امرؤ فيك جاهلية] إذن من باب التغليظ والزجر.(65/199)
ومما يقرر هذا ويدل عليه. ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..] كما تقدم معنا. أذن نفى عنه الإيمان هذه يراد منه الزجر والتغليظ لا يراد منه نفى حقيقة الإيمان. ما الدليل؟ انظر الدليل: تبت فى المسند والصحيحين من حديث أبى ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال أبو ذر يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وإن زنا وإن سرق ـ وفى رواية وان شرب الخمر أيضاً ـ؟ قال: وان زنا وان سرق وان شرب الخمر فأعاد أبو ذر - رضي الله عنه - الكلام ثلاثاً فلما أعاد الرابعة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنفك يا أبا ذر] (بياض) أبو ذر - رضي الله عنه - إذا حدّث بالحديث يقول: من لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر على رغم أنف يا أبا ذر.
إذن: [لا يزني الزاني حين يزنى وهو مؤمن] والمراد منه؟ تغليظ وزجر بما يقشعر منه الجلد ويتفطر له القلب. ولو كان المراد الحقيقة لما قال هنا [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر] كيف تخبر عنه بأنه ليس عنده |إيمان ثم نقول هو من أهل الجنان؟ هذا كلام لا يستقيم. إذن تبيّن لنا أن المقصود من ذاك زجر وتغليظ ولا يقصر منه نفى الإيمان حقيقة.(65/200)
خامسها: قال أهل السنة: إذا حملنا هذه الألفاظ على ظاهرها وانه استوجب الكفر المخرج من الملة والجاهلية التي تنافى الملة الحنيفيه. وليس من عداد المؤمنين وليس عنده إيمان واتصف بصفات النفاق إذا حملنا هذا على حقيقته فنحمله على المستحل. ولا شك أن من استحل شيئاً من ذلك فله الحكم الذي أطلق عليه بهذا اللفظ: [اثنتان هما في الناس كفر: الطعن في الإنسان والنياحة على الميت] (1) فمن استحل النياحة فهو كافر [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] (2) من استحل قتال المسلم فهو كافر.
إذن واحدة من هذه الأمور الخمسة قال أئمتنا يقصد بهذه الألفاظ التي أطلقت على فاعل الكبيرة: إما
أما شابه الكفار الجاهليين المنافقين. غير المسلمين في خصلة من خصالهم لا في جميع أحكامهم.
الأمر الثاني: أن هذه من باب كفر النعمة لا كفر الجحود والمنعم.
.الأمر الثالث: هذا سيؤدى به إلى الكفر في نهاية المطاف.
الأمر الرابع: من باب التغليظ والزجر بما يتفطر له القلب
الأمر الخامس: هذا على المستحل. فمن استحل شيئا من ذلك كافر.
وبذلك جميع أهل السنة بين نصوص الشرع التي هي في الظاهر متعارضة. وهذا المبحث هو أجلّ مباحث الحديث الشريف وعلوم الشريعة. وهو الذي يسميه أئمتنا في مباحث علوم القرآن موهم الاختلاف والتناقض. ويسمونه في علم الحديث: مختلف الحديث وهى أحاديث في الظاهر مختلفة. مثل هنا:
__________
(1) - تقدم تخريجه صفحة 90
(2) - تقدم تخريجه صفحة 90(65/201)
[لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن] و [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وان زنا] هذا مختلف الحديث وفى علم القرآن موهم الاختلاف والتناقض ومن آيات القرآن في ظاهرها وأحاديث في الظاهر متناقضة. لكن عندما تجمع بينهما يزول عنك التناقض وليس بين هذه الآثار أي معارضة. ف [لا يزنى الزاني وهو مؤمن] اجمعوا بينها وبين [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وان زنا] نقول: إذا استحل ليس بمؤمن وإذا لم يستحل فهو مؤمن وسيدخل الجنة فلا تعارض بين الحديثين. نفى الإيمان عنه إذا استحل. وأخبر عنه [انه يدخل الجنة إذا لم يستحل هذا جمع.
جمع ثان: لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ليس من المؤمنين في هذه (بياض) في سائر (بياض) يدخل الجنة بعد ذلك بأحد أمرين ,إما بتوبة تصدر منه. وإما بمغفرة لله إن لم يعاقبه فإن عاقبه مآله إلى الجنة. ولن يخلد أحد من أهل التوحيد في النار. هذا جمع (بياض) الحديثين. فزال التعارض. [لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن] هذا للتغليظ (بياض) عنه الإيمان لا لأنه كفر حقيقة. ما الدليل؟ [من قال لا اله إلا الله دخل الجنة] .
[لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن] هذا قد يؤدى به إلى الخروج من الإيمان فهو في الزنا لم يكفر وسيدخل الجنة. وإن زنا. لكن قد يستحل باب يكفر بعد ذلك. أو أن (بياض) ـ كما قلنا ـ من باب المعصية العملية. لا من باب معصية الاعتقاد والجحود. والاستخفاف.
إذن هذه أوجه خمس من أوجه الجمع بين النصوص الشرعية. فحملوا هذه الألفاظ على واحد من هذه الأمور الخمسة. وآمنو بالكتاب والسنة كلها دون التفريق بين (بياض) النصوص الشرعية. كما هو حال أهل البدع ـ وسيأتينا حاله إن شاء الله.
إخوتي الكرام:(65/202)
ولأجل أن ظواهر النصوص المتقدمة ـ كما تقدم معنا ـ تطلق الكفر وتنفى الإيمان وتصف الجاهلية والنفاق وأن من اتصف بشيء من تلك الكبائر ليس من عداد المسلمين. لأجل أن ظاهرها يتعارض مع نصوص أخرى ويحتج أهل البدع بظواهرها ـ أي تلك النصوص على قولهم في أن فاعل الكبيرة كافر. كان عدد من أئمتنا لا يرفعون تلك الأحاديث إلى النبي علية الصلاة والسلام بوجود المبتدعة خشية أن يتعلقوا بظواهرها ويقولوا: إذن هذا حجة لنا في أن فاعل الكبيرة كافر. وهذا من باب وضع الأمور في مواضعها؟. وإذا (بياض) ستحدث لأمر شرعي لكن الناس سيأخذونه ويستدلون به على باطلهم وضلالهم فلا تحدثهم به. لئلا يكون ذريعة إلى ضلالهم وفسادهم من باب وضع الأمر في مواضعه.
فثبت في صحيح مسلم (1) عن جرير بن عبد الله. والحديث رواه منصور عن الشعبي عن جرير بن عبد الله البجلى - رضي الله عنه - قال: [أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتي يرجع إليهم] وفى رواية: [أيما عبد أبق من مواليه لا تقبل له صلاة حتي يرجع إلى مواليه] وفى رواية: [فقد برئت منه الذمة] . الشاهد فقط كفر. لكن له صلاة برئت منه ذمة الله. الحديث رواة منصور عن الشعبي عن جرير بن عبد الله وقفه فما رفعه إلى النبي علية الصلاة والسلام. قال منصور: قد رُوي والله مرفوعاً. ولكني أكره أن يُروَى عنى ها هنا ـ يعنى في البصرة ـ لَمِ؟ لأنها تعج بفرقتين ضالتين: الخوارج والمعتزلة لاسيما المعتزلة فيتعلقون بها بأن فاعل الكبيرة إذن ليس من المؤمنين
* * *
إخوتي الكرام: ما موقف أهل البدع الضالة نحو فاعل الكبيرة؟
__________
(1) - في كتاب الإمام وهو في شرح الإمام النووي علي صحيح مسلم في الجزء الثاني صفحة سبع وخمسين(65/203)
عندنا فرقة قديمة ولها كما قلنا ـ ذيول حديثة ما أكثرها في هذه الأيام. ولا نتكلم على أمر يعنى كما يقال من باب خلافات قديمة وبالية وعتيقة دعونا منها. لا. والله إن هذا معرفته في هذا الوقت للشاب المسلم ضروري ضروري ضروري. لئلا يقع في الغلو والتطرف والانحراف فيجر بعد ذلك شؤمه بلاءً على المسلمين في سبب ما يأتي به من بدع وضلال.
والجماعة التي كانت تسمى بجماعة المسلمين. جماعة الحق وأطلق عليها الحكام الضالين اسم: جماعة التكفير والهجرة. كانت تتبنى هذا القول. وهو أن فاعل المعصية كافر مخلد في نار جهنم. متى ما فعل معصية. ولما بعد بعد ذلك تأملوا أحوال الحكام لا يحكمون بما أنزل الله قالوا: كفار. والرعية إذن على طريقتهم. إذن هم كفار. إذن لا يوجد على وجه الأرض مؤمن إلا نحن. فمن ليس من جماعتنا فهو كافر. ووجدت أيضاً بعد ذلك جماعة أخرى. جماعة التوقف والتبيّن. قالوا: نحن لا نسلّم الإيمان لأحد حتى يتبيّن لنا حالة الأصل في الناس أنهم كفار إلا إذا تبين لنا أنهم منا ويقولون بأقوالنا فهم مؤمنون. لأن الحياة جاهلية. وكل ما فيها جاهلي.
يا أخوتي الكرام هذا ضلال ما بعده ضلال وأتكلم ـ كما قلت ـ عن خيال.
جاءني مرة بعض الإخوة في بعض الأماكن فانتظروا على باب المسجد وما صلوا معي في إحدى الصلوات ـ صلاة العصر ـ ثم بعد أن خرجت قالوا لي بأن نتلكم معاً بعض الوقت قلت: خيراً إن شاء الله. لٍمَ لَمْ تصلوا معنا؟ قالوا: يا شيخ ما تعلم هل أنت مؤمن أم كافر. قلت: سبحان الله العظيم! طيّب أنا في مسجد. أأنا في كنيسة؟ ! حتى يعنى تشكّون في حالي؟ ! قال: ما نعلم هل أنت يعنى مثل الناس جاهلي أم تكفر بالمفاهيم الجاهلية؟ قلت: الله أمركم بحسن الظن أو بسوء الظن؟ يعني لم لا تقولون: لعلّ هذا صديق من أولياء الله الصالحين. وإذا كنت زنديقاً فماذا يضركم ما عليكم حسابي. لكن الله أمركم بحسن الظن أم بسوء الظن؟.(65/204)
مرة كنت في بلاد الشام في حلب أصلى في بعض مساجدها جاء بعض الشيعة وكنا في صلاة المغرب. فأصلى بهم ما صلوا ورائي. صلوا فرادى. لما انتهينا قلت: إخوتي شوّشتم على أنفسكم وعلينا لم ما صليتم معنا؟ لا صليتم جماعة لأنفسكم بعد أن انتهينا ولا صليتم معنا. قال: يا شيخ نحن لا نصلى إلا وراء من علمنا عصمته. قلت: لا يوجد إلا النبي علية الصلاة والسلام. يعنى لم لا تصلون ورائي؟ أو وراء غيري؟ قال: يا شيخ نحن في الأصل شيعة من شيعة نُبَّل (1) ما نعلم أنت لعلك تشرب الخمر لعلك تزني لعلك تسرق. كيف نصلى وراءك؟ قلت: قولوا لعلني أقوم الليل وأتعبد وأصوم النهار وقانت ذاكر. يعنى لم تقولون هذا ولا تقولون هذا؟ يعنى لم تظنون بالناس أسوأ الظنون لمَ؟ ترون عليَّ آثار المعصية؟ السر بيني وبين ربي هو سيحاسبني وهو يعلم السر وأخفي. لكن على آثار معصية؟ قالوا لا: قلت: هذا غلط. قال: هذا مذهبنا ما عندنا جدال وى قيل ولا قال. ما نصلي إلا وراء المعصوم!! هم أضل من الشيطان الرجيم ليس معصوم. لكن ماذا تعمل؟ هذه شبههم وضلالهم.
فالشاهد: كما أقوله ليس من زمن ماضي وبالى وانتهى. أفكار كما يقال حيّه يعني بالمعنيين حيّه: أي موجودة. وحيّه فيها سم مثل الحيّة. فأفكار حية حقيقية يعنى موجودة تلدغنا وكثير من المسلمين أحياناً يعني يشتطون ويذهبون إلى ذلك المسار ويكونون علينا عاراً في الدنيا وبعد ذلك يفرقون جماعتنا. ونسأل الله أن يلطف بأحوالنا أنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
أهل البدع وقفوا نحو هذه الأحاديث على موقفين:
__________
(1) - قرية تبعد حوالي أربعين أو خمسين كيلوا متر عن حلب.(65/205)
أما الفرقة الأولى وهو الخوارج: وقلت هؤلاء لهم وجود في الزمن القديم ولا زال لهم امتداد كبير في هذا الوقت والخوارج قلنا ـ الاباضية فرقة من فرقهم ويملؤون عُمان كلهم علي هذا المسلك. أن فاعل الكبيرة كافر ويزيدون على هذا (1) مخلد في نار جهنم. ولو كان عنده من الحسنات أمثال الجبال. يصوم ويصلى ويجاهد ويتصدق لكن مبتلي بشرب الخمر. يقولون: هو وإبليس سواء. لا يمكن أن يرى الجنة ولا أن يشم ريحها. هذا مخلد في نار جهنم كافر. لِمَ؟ النصوص صريحة [قتاله كفر] . [لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن] .
نقول: إخوتي الكرام ما ذكرتموه نعم يدل عليه نصوص شرعيه. لكن ماذا تفعلون في النصوص الأخرى؟: [من قال لا اله إلا الله دخل الجنة وان زنا وإن سرق] ماذا تفعلون بهذا؟ ماذا تفعلون بهذه الأحاديث الكثيرة التي تقدمت معنا عندما أطلق النبي علية الصلاة والسلام لفظ الكفر على نكران نعمة العشير كفر وما قال إن هذا كفر بالله لما استشكلوا أولئك قالوا: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير. إذن أنتم آمنتم ببعض النصوص وكفرتم بعضها. فاتقوا الله في أنفسكم. إطلاق لفظ الكفر علي فاعل الكبيرة هذه ضلال يدل على أن هذا ضلال:
أولاً: تواترت الأحاديث عن نبينا علية الصلاة والسلام أن من ارتكب كبيرة فهو مؤمن ولم يخرج من حظيرة الإيمان. كما تقدم معنا في الحديث الذي في المسند والصحيحين وغيرهما: [من قال لا اله الا الله دخل الجنة وإن زني وإن سرق] إذن فلابد يدخل الجنة إلا مؤمن ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ)) (2) فحكمكم على فاعل الكبيرة بالكفر يتنافى مع النصوص المتواترة الثانية عن نبينا علية الصلاة والسلام.
__________
(1) - وهو الحكم الذي سيأتي معنا في أثر وحكم الكبيرة في الآخرة.
(2) - المائدة:72(65/206)
ثانياً: ننقض قولكم بأمر ثان وهو: لو كان فاعل الكبيرة كافراً لوجب عليه حد القتل وهو ضرب الرقبة لأن من بدل دينه وكفر يقتل. فهل نصوص الشريعة جاءت بعقوبات مقدرة للكبائر أو بقطع الرقبة؟ أمرنا ربنا أن نجلد الزاني إذا لم يكن محصناً. قال اقتلوه!؟ أمرنا أن نقطع يد السارق إذا سرق. قال اقتلوه؟ ! أمرنا أن نجلد شارب الخمر إذا شرب. أمرنا أن نجلد القاذف. قال إنه كافر اقتلوه؟! لو كان كافراً لوجب قتله. فترتيب عقوبات دون القتل على الكبائر هذا دليل على أن الكبائر ليست بكفر. ولو كانت كفراً لما كان بينها وبين الردة أي فارق ـ في العقوبة ـ لقال النبي علية الصلاة والسلام: من فعل كبيرة فاقتلوه. كما قال: [من بدل دينه فاقتلوه] (1) كما قال: [لا يحل دم أمرء مسلم يشهد ألا إله إلا الله وان رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني. والنفس بالنفس. والتارك لدينه المفارق للجماعة] (2) .
فإذن ما رتب القتل على جميع الكبائر. نعم بعض الكبائر عقوبتها النقل لا من باب الكفر من باب أن هذا حد دنيوي يطهر الإنسان. فمن كفر يقتل. وهو كافر. من زنا وهو محصن يقتل وهو مؤمن. من قتل نفساً يقتل عن طريق القصاص وهو مؤمن فلو عُفي عنه فلا يلزم إقامة الحد عليه.
__________
(1) - قلت: الحديث صحيح أخرجه البخاري والشافعي من حديث عكرمة أن علياً - رضي الله عنهم - أجمعين حرّق قوماً فبلغ ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا (بياض) بعذاب الله] ولقتلهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [من بدّل دينه فاقتلوه]
(2) - قلت: الحديث صحيح متفق على صحته.(65/207)
الشاهد: أنه ليس القتل عقوبة لجميع الكبائر فلوا كان كل فاعل كبيرة يعتبر كافراً لو جب قتل كل من ارتكب كبيرة. وإذا لم يكن الأمر كذلك دل على أنه معلوم من دين الله بالضرورة أن فاعل الكبيرة ليس بكافر. وقد مضى عصر النبي علية الصلاة والسلام. وعصر الصحابة وعصر التابعين ولم يقتلوا فاعل الكبيرة. مما يدل على أنه ليس بكافر. وأنه لا زال ضمن عداد المسلمين.
إن قالوا: ماذا تفعلون إذن بالنصوص التي أطلقت عليه لفظ الكفر؟
نقول: هنا يأتي حال المهتدين فيجمعون بين هذه النصوص ولا يلغون بعضها ولا يعطلون بعضها كما فعلتم أنتم. فأنتم آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعضه. وهذا حال الضالين.
لا يوجد مبتدع إلا ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض لأن أهل الهدي قالوا: هذه النصوص كلها لا بد من وضعها أمامنا لنبحث فيها ثم لنجمع بينها لنصوص كلام النبي علية الصلاة والسلام عن التعارض ولئلا نلغي بعض كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا حق وهذا حق. وهو محمول على كذا وهذا محمول على كذا. وكلام العاقل دائماً يصان عن اللغو. وأعقل العقلاء هو خاتم الأنبياء علية صلوات الله وسلامه. فكيف ناغي بعض كلامه ببعض إذا أمكن أن يجمع بين جميع كلامة عليه الصلاة والسلام!! فما خرج من شفتيه إلا حق وصدق علية صلوات الله وسلامه. هذا قول الخوارج.
أما المعتزلة:
المعتزلة أضل وأخبث وأنجس. أتو بقول لا يدل علية نص من نصوص وما سبقهم إليه أحد من خلق الله لا من إنس ولا من جان. لا في هذه الأمة ولا في الأمم السابقة إنما من أين أتو به؟ العلم عند الله (1) .
__________
(1) - الخوارج مع أن قولهم باطل لكن عندهم متمسك بالظاهر يتمسكون: قتاله كفر. (بياض) بهذا فيقولون: إذن فاعل الكبيرة كافر، تمسكوا بهذا الظاهر وألفوا النصوص الأخرى.(65/208)
قالوا: فاعل الكبيرة ليس بمؤمن (1) خرج من الإيمان. كفر؟ قالوا: ما كفر. ليس بمؤمن وليس بكافر. هذا مثل قول ثمامة بن أشرف الذي تقدم معنا: الكافر ما خلقة الله طيب من خلقة؟ خلق نفسه؟ يقول: لا. لكن لا يجوز أن نقول خلقه الله. لم؟ يقول: الكافر هذا إنسان وكفر فلو قلنا خلقة الله للزم أن الله خلق الكفر (بياض) ما خلقهم العزيز القهار طيب من خلقهم؟ (بياض) نقول شيئا وهؤلاء نقول لهم: فاعل الكبيرة تقولون خرج من الإيمان. هل كفر؟ ـ كما قال الخوارج ـ قالوا: ما كفر. ليس بمؤمن. ما هو؟ قالوا: في منزلة بين منزلتين ليس بمؤمن وليس بكافر.
هذا القول لا يوجد نص في شريعة الله يدل عليه. النصوص أما أن تصف الإنسان بالإيمان أو بالكفران. أما أنه ليس بمؤمن وليس بكافر هذه قسمة ضالة باطلة ما سبقهم إليها أحد.
__________
(1) - نحن لا زلنا نتكلم في أحكام الدنيا.(65/209)
لذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله. هذا من مخترعاتهم ومن ابتداعهم الذي لم يسبقهم إليه أحد. أول ما حصلت هذه المسألة في زمن الحسن البصري عليه رحمة الله ولأجلها قيل للمعتزلة أنهم معتزلة. سئل الحسن البصري عن فاعل الكبيرة ما حكمة في الدنيا والآخرة. قال: أما في الدنيا مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه ـ كما نقول: مؤمن عاص ـ وأما في الآخرة فآمرة مفوض إلي ربه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وإن عذبه مآله إلى الجنة إذا ختم له بالتوحيد ـ وهذه عقيدة أهل السنة الكرام ـ فقام واصل بن عطاء الفراء وتبعه عمرو بين عبيد تلميذه وكانا من تلاميذ الحسن البصري. وكان الحسن يقول: نعم الفتى عمرو أي عمرو بن عبيد ـ لو لم يحدث (1) فقال واصل: أما أنا فأقول إنه ليس بمؤمن وليس بكافر فطرده الحسن البصري فذهب إلى ناحية في مسجد البصرة واعتزل الحسن البصري واجتمع إليه أتباعه أتباع الشيطان من عمرو بن عبيد وغيره. فقيل لهم معتزله. اعتزلوا الحسن البصري واعتزلوا أهل الحق واعتزلوا جماعة المسلمين عندما كونوا لأنفسهم مجلساً خاصاً فقيل لهم: المعتزلة.
وكان قتادة علية رحمة الله ـ من أئمة التابعين ـ إذا دخل إلى مسجد البصرة بقول: هؤلاء المعتزلة أي اعتزلونا واعتزلوا عقيدتنا والحق الذي عندنا وأتوا بقول مبتدع: فاعل الكبيرة ليس بمؤمن وليس بكافر هذا القول باطل قلت: لم يسبقهم إليه أحد.
خلاصة الكلام:
... من فعل معصية كبيرة لا يستحق اسم الإيمان بإطلاق ولا ينفي عنه مطلق الإيمان. فهو مؤمن عاص. إطلاق الكفر عليه أو نفي الإيمان عنه أو وصفه بالنفاق أو أنه من الجاهلين أو ليس من عداد المسلمين محمول على واحدة من أمور خمسة قررها أئمتنا الكرام جمعاً بين نصوص الشرع لئلا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض هذا حكم الكبيرة في الدنيا ثلاث أثار:
? تكسب القلب ظلمة شديدة لا تزول إلا بالتوبة والطاعات العظيمة.
__________
(1) - يقول أئمتنا: أحدث والله أعظم الحدث(65/210)
العقوبات عليها تنقسم إلى قسمين: منها عليها عقوبات مقدرة. ومنها عقوبات مطلقة موكولة لرأى الإمام ليعزر فاعل الكبيرة بما يردعه.
? تزيل الاسم المطلق عن صاحبها في الإيمان عندما يرتكب الكبيرة ولا يزول عنه مطلق الاسم فيقال له: مؤمن. لكن بقيد العصيان والتقصير.
ثانياً: في الآخرة:
أما أثر الكبائر في الآخرة فالكبائر في الآخرة أثران وحكمان ,تقدم معنا أن للصغائر في الآخرة أثران أيضاً: لأول: تقع مغفورة. والثاني: لا تمنع من دخول الجنة. أما هنا:
1. الأثر الأول والحكم الأول للكبائر في الآخرة:
بالنسبة للعقوبة عليها موكولة إلى الله جل وعلا. إن شاء عذب فاعل الكبيرة في الآخرة وإن شاء عفي عنه. قال الله جل وعلا ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (1) ما عدا الشرك تحت المشيئة. ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض لربه. وهذه الآية هي التي تقصم ظهور المبتدعة في القديم والحديث (2) .
__________
(1) - النساء:116
(2) - وهي أرجي آية في القرآن كما ذكرت هذا سابقاً فيم ثبت عن علي - رضي الله عنه - في سنن الترمذي وعن حفيده علي بن الحسين زين العابدين - رضي الله عنهم - أجمعين(65/211)
أنظر لأهل البدع ماذا يقولون؟ يقولون: ((مَا دُونَ ذَلِكَ)) الشرك لا يغفره الله. والكبائر لا يغفرها الله!؟ طيب كيف تفعلون بهذه الآية؟ كيف تفعلون بها؟ أنظر كيف ترد عليهم رداً في منتهى الوضوح: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) بتوبة أو بدون توبة؟ إن كان بتوبة فذكر الشرك لا فائدة له. لأن كل ذنب يغفر بالتوبة فما الداعي إذن ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) لو كان ((مَا دُونَ ذَلِكَ)) بتوبه كما يقولون أي إذا تاب ي-غفر له. لو كان بتوبه لما كان هناك فائدة لذكر الشرك. إذن ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) مما عدا الشرك إذا لم يتب منه. أما بالتوبة فالشرك وما عداه سواء ((قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)) (1) طيب ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) ما دون ذلك من طاعات أو معاصي؟ معاصي.
الخوارج يقولون: المعصية كفر. أو ليس كذلك؟ أنظر كيف يصبح معني الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر أن يشرك به. هذا معني الآية عندهم. لأنه ما دون ذلك قلنا من معاصي: والمعاصي عندهم ـ تقدم معنا ـ كفر. إذن كيف يصبح معنى الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر أن يشرك به. إذن هذا يبطل قولكم , إذا قلنا طاعات: أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر الطاعات. أنتم بين ثلاث احتمالات لا رابع لها إما أن تقولوا يغفر المعاصي بتوبة. نقول: ما الفائدة من ذكر الشرك؟ وإما أن تقولوا: المراد من المعاصي هنا المعاصي هنا ما دون ذلك غير الشرك بتوبة قلنا هذا بطل. لأن التوبة تشمل الشرك وسائر المعاصي إذن لا يصلح هذا التقدير.
التقدير الثاني:
__________
(1) - الأنفال:38(65/212)
((مَا دُونَ ذَلِكَ)) من المعاصي التي هي غير الشرك. وكل معصية عندكم تعتبر شركاً وكفراً ـ كما قررنا قولهم ـ فكيف يكون إذن ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)) أي: إن الله لا يغفر الشرك ويغفر الشرك؟ هذا تناقض. وإذا قلتم ((مَا دُونَ ذَلِكَ)) هي الطاعات كيف سيغفر الله الطاعات؟ بين ثلاث احتمالات كل واحد يبطل قولكم. إذن ثبت المعني الحق وهو ((مَا دُونَ ذَلِكَ)) من المعاصي. إن شاء غفر وأن شاء عذب. مغفرته فضل وعذابه عدل ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) (1) قد وضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا غاية الإيضاح. ففي مسند الإمام احمد والكتب الستة باستثناء سنن أبى داود عن عابدة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من أصحابة: [بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تعصوا في معروف ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم. فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له. ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو الى الله إنا شاء عاقبه وإن شاء عفي عنه. فبايعناه على ذلك] هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام. إذن من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له. ومن وفي والتزم بما بايع عليه النبي عليه الصلاة والسلام، أجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً وستره الله فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
... هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا كقول الله: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء))
إخوتي الكرام:
جميع الوعيدات الثانية في القرآن وفى أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام على كل معصية من المعاصي والمخالفات مقيدة بأمرين. كما دلّت على ذلك نصوص الشرع.
__________
(1) - الأنبياء: 23(65/213)
الأمر الأول: عدم التوبة. كل وعيد على كل ذنب لا يقع إلا إذا لم يتب الذنب. فإذا تاب تاب الله علية
الأمر الثاني: عدم مغفرة الله للمذنب: فإذن كل عقوبة على كل ذنب لا تقع إلا إذا انتفي أمران: عدم توبة العاصي , وعدم مغفرة الله له. فإذا لم يتب. ولم يغفر الله له تقع عليه العقوبة إذا تاب لا تناله العقوبة. إذا غفر الله له لا تناله العقوبة. كما ورد الآن معاني الحديث [فهو الى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه] . أنظر لأهل البدع: الأمر الأول ولا قالوا: معتبر. إذا فعل ذنباً وتاب منه لا تناله العقوبة لَمِ؟ قالوا: دلت علي هذا نصوص الشرع (1) طيب وإذا غفر الله له؟ قالوا: لا يجوز لله أن يغفر للعصاة لَمِ. كما أن النصوص الشرعية دلت على أن العاصي إذا تاب يتوب الله عليه دلت نصوص الشرع على أن الله له أن يغفر عن العصاه كرماً منه وفضلاً - سبحانه وتعالى - كما أن هذا دلت عليه النصوص، هذا دلت عليه النصوص. فالله يقول ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) (2) وهو يقول: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) هذا نص وهذا نص كما أخرجت تلك الصورة من الوعيد أخرج هذه الصورة من الوعيد. وهذا هو مسلك أهل السنة: إيمان بالكتاب كله. وأهل البدع: إيمان ببعضه وكفر ببعض. نسأل الله بفضله ورحمته أن يرزقنا الإيمان الكامل إنه أرحم الراحمين وأكرم الاكرمين.
__________
(1) - وسأذكرها إن شاء الله بأن التائب تسقط عنه العقوبة
(2) - الشورى: 25(65/214)
إذن: الحكم الأول للكبيرة في الآخرة: العقوبة على صاحبها هل ستقع علية وسيعفى منها؟ الذي دلت عليه النصوص الشرعية الثانية عن خير البرية علية صلوات الله وسلامة، وقررت هذا الآيات القرآنية. بأن من مات وهو عاص لربه فأمره مفوض إلي الله. إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. فلا يجزم بعقوبته. ولا نجزم بحصول المغفرة له. أمره مفوض إلى الله جل وعلا. هذه العقوبة التي سيوقعها الله جل وعلا بالعاصي ـ بفاعل الكبيرة ـ إذا مات ولم يتب من كبيرته. ليست على سبيل الجزم ولا على سبيل الحتم. إن شاء غفر لإن شاء عذب مغفرته فضل وعذابه عدل.
وهذا الذي قرره أهل السنة الكرام فقالوا: جميع نصوص الوعيد مقيدة بقيدين اثنين:
القيد الأول:(65/215)
عدم التوبة من العاصي وعدم إنابة المذنب إلى ربه جل وعلا، فمن عصي الله وتاب في الحياة فلا تناله العقوبة في الآخرة. بعد الممات. لورود أدلة قطعية شرعية على أن [التائب من الذنب كمن لا ذنب له] (1) وأن الله يقبل التوبة عن عبادة سبحانه وتعالى. يقول الله جل وعلا ((وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا)) (2) فمن تاب لا يناله الوعيد ولا يلق أثاماً ولا يضاعف له العذاب يوم القيامة ولا يخلد فيه مهاناً. مع أنه كان مشركاً، وفعل أيضاً الزنا، وقتل النفس دعا مع الله إلهاً لآخر وزنا، وقتل النفس ثم تاب الى الله جل وعلا (3) .
__________
(1) - قلت: الحديث رواه ابن ماجه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [التائب من الذنب كمن لا ذنب له] ورواة الطبراني رواة الصحيح. ورواه ابن أبي الدنيا والبيهقي مرفوعاً أيضاً من حديث ابن عباس رضى الله عنهما وزا د: [والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمسهزيء بريه] راجع الترغيب والترهيب: 4/ (بياض)
(2) - الفرقان: 68-70
(3) - مبحث التوبة سيأتينا، إن شاء الله ـ في المبحث الذي في الجملة الثانية (بياض) يتعلق بالحسنة.(65/216)
ويقول الله جل وعلا: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)) (1) وإذا تابوا لا ينالهم هذا الوعيد قطعاً وجزماً. قال الحسن البصري عليه رحمات ربنا جل وعلا: أنظروا إلى كرم اله قتلوا أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة. وهكذا يقول الله جل وعلا: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)) (2) فمن تاب لا يناله الوعيد.
وقد قرر أئمتنا الكرام أن التوبة مقبولة عند ذي الجلال والإكرام ما لم بصل الإنسان إلى إحدى حالتين. فإذا وصل إلى إحدى هاتين الحالتين لا تقبل منه التوبة إن كان مشركاً. ولا التوبة إن كان عاصياً. ويلق الله بالعمل الذي هو قبل هاتين الحالتين:
__________
(1) - البروج: 10
(2) - آل عمران: 135 - 136(65/217)
الحالة الأولي: ما لم تصل الروح إلى الحلقوم. وأن يغرغر بنفسه عند احتضاره. فإذا وصلت الروح إلى الحلقوم وبدأ يغرغر بها كما يشرق الإنسان في الماء عندما يغرغر به. يكشف له الآن عن مقعده من الجنة أو من النار. ولذلك كل كافر في هذا الوقت يؤمن. قال الله جل وعلا: ((وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)) (1) الضمير في ((مَوْتِهِ)) يحتمل أمرين ـ كما قرر أئمتنا المفسرون ـ: الأول: يعود على المحتضر من أهل الكتاب. أي قبل أن يموت سيؤمن بعيسى وأنه عبد الله وكلمته. وليس بثالث ثلاثة. متي؟ عندما تصل روحه إلى الغرغرة ويرى مقعدة من النار. فيقول: آمنت أنك أنت الله الواحد وأن عيسي عبدك ورسولك وليس بإله معك. ولكن: ((فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ)) (2) والاحتمال الثاني ليس فيه شاهد على هذا المعني: ((قَبْلَ مَوْتِهِ)) أي قبل موت عيسي على نبينا وعلية صلوات الله وسلامة. فعيسى سينزل في آخر الزمان. فمن كان حياً بعد ذلك سيؤمن به. أو يعاملهم بالسيف.
__________
(1) - النساء: 159
(2) - ص: 3(65/218)
وعلي التقدير والأول وهو محل الشاهد: كل كافر عندما تصل روحه إلى الحلقوم، وكل عاص يتوب لكن التوبة حجبت لأنه دخل في أول حالة من حالات الآخرة. وصار في دار الجزاء وانتقل من دار العمل. ولذلك قال الله جل وعلا في كتابه ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيما. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (1) ثبت عن قتادة وأبى العالية ـ من أئمة التابعين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين ـ قالا: أجمع أصحاب محمد علية الصلاة والسلام - رضي الله عنهم - أجمعين أن كل من عصى الله فهو جاهل. وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب. فكل عاص جاهل. وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
وهذا المعنى قرره نبينا - صلى الله عليه وسلم - ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر] هذه الحالة الأولى. فمن لم يصل إني الغرغرة ولم تصل روحه إلى الحلقوم فتوبته مقبولة باتفاق.
الحالة الثانية:
__________
(1) - النساء 17 - 18(65/219)
إذا طلعت الشمس من مغربها، ففي هذه الحالة لا تقبل التوبة. فذاك من أشراط الساعة الكبرى. بل قيل أنه آخر أشراط الساعة. وقد اتفق أئمتنا على أن آخر أشراط الساعة أحد أمرين (1) : إما طلوع الشمس من مغربها. أو خروج الدابة. تخرج متكلم الناس أنهم ((كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ)) (2) وتختم على جبين كل مؤمن ومؤمنة، وكافر وكافرة. ومنافق ومنافقة. فتطلع الشمس من مغربها وهم على هذه الحالة. فالمؤمن مؤمن والكافر كافر , وإما آن الأمر بالعكس. فتطلع الشمس من مغربها ولا تقبل التوبة فتخرج الدابة بعد ذلك فتختم الناس وتكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. فإذا طلعت الشمس من مغربها اختل نظام العالم الدنيوي وآذنت هذه الدنيا بالزوال (بياض) والانتقال. وصارت هي كالحامل المتم ولمن رفع لقمته إلى فيه. فقد تقوم الساعة ولا يضعها في فيه. ولا يطعمها. وإذا كان الأمر كذلك فلا تقبل التوبة.
__________
(1) - اختلفوا فقط في أي منهما يكون بعد الأخر لكن بهذين الشرطين لا شرط آخر أو علامة أخري.
(2) - النمل: 82(65/220)
وقد أشار ربنا جل وعلا إلى هذا في كتابة فقال ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ (1) يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)) (2) وقد قرر نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن أبى داود وابن ماجة عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت وراها الناس آمنوا أجمعون ـ وفى رواية آمنو كلهم ـ ((فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)) وثبت في المسند وصحيح مسلم من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه] وثبت في المسند أيضاً وصحيح مسلم من حديث أبى موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتي تطلع الشمس من مغربها] .
__________
(1) - وهو طلوع الشمس من مغريها.
(2) - الأنعام:158(65/221)
إذن هذا الشرط الأول لصرف الوعيد عن صاحبه. وهذا المانع الأول لدفع الوعيد عن مرتكب الكبيرة. هو عدم التوبة. فإن تاب لا يناله الوعيد بالإجماع هذا محل اتفاق بين أهل السنة وأهل البدعة. لم أخرجنا هذه الصورة من عمومات نصوص الوعيد؟ لنصوص منفصلة والشرع يكمل بعضه بعضاً. فالله يخبرنا أن من شرب الخمر كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال وهي عصارة. أهل النار (1) فإن تاب لا يناله الوعيد. إذن هنا أخرجنا الوعيد ومنعناه عن صاحبه بدليل منفصل مع أن النص لم يقيد بالتوبة. لأن كل وعيد أصالة بقيد بالتوبة فإذا تاب لا يناله الوعيد.
__________
(1) - قلت: الحديث ثابت فى صحيح مسلم وغيرة عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [كل مسكر حرام. إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينه الخبال. قالوا. وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار](65/222)
القيد الثاني: الذي يقيد به الوعيد فإذا وجد ذلك المانع وذلك الأمر لا يقع الوعيد على فاعل الكبيرة هو: عدم مغفرة الله للعاصي. فإذا تاب العاصي لا يناله الوعيد. وإذا لم يتب وغفر الله له لا يناله الوعيد. عندكم دليل على هذا الشرط! عندنا دليل كالشرط الأول، الشرط الأول دللنا عليه بقرآن وسنة، وهنا عندنا قرآن وسنة تدل على هذا. فالمذنب إذا تاب وعفر الله له لا يناله الوعيد. المذنب إذا مات وغفر الله له لا يناله الوعيد. المذنب إذا مات وقد تاب لا يناله الوعيد. فإن تاب لا يناله الوعيد. وإن لم يتب وعفر الله له لا يناله الوعيد. قال الله جل وعلا: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)) (1) ((وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)) (2) ذنب واحد لا يغفر: ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ)) (3) وما عداه تحت المشيئة أن شاء الله غفر وان شاء (بياض) مغفرته فضل. عقابه عدل. وأفعال الله جلا وعلا تدور بين العدل والفضل. ولا دخل للجور ولا للظلم في أفعالة: [إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا] (4) ((وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) (5) . ((وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)) (6) الظلم والجور لا دخل له في فعل الله جل وعلا. بقى معنا فضل وعدل. إن عذب عدل وإن غفر فضل.
إذن إذا غفر الله للعاصي لا يناله الوعيد. هذا دليل يدل على أن العاصي إن غفر له لا يناله الوعيد.
__________
(1) - النساء: 48
(2) - النساء: 116
(3) - المائدة: 72
(4) - قلت: تقدم تخريجه صفحة 35
(5) - الكهف: 49
(6) - طه: 112(65/223)
وتقدم معنا إخوتي الكرام أنه ثبت عن على - رضي الله عنه - في سنن الترمذي بسند حسن أن هذه الآية هي أرجي آية في القرآن الكريم. وهي أحب الآيات إلى هذه العبد الكريم المبارك ـ على - رضي الله عنه - ـ ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) (1) وقلت ثبت هذا عن حفيده على بن الحسين زين العابدين - رضي الله عنهم - أجمعين أن هذه أرجي آية في القرآن ووضحت هذا ... (2)
إذن عندنا دليل منفصل، هنا القرآن على أن ما عدا الشرك تحت مشيئة الرحمن إن شاء عذب فعدل وأن شاء غفر ففضل. وعندنا أيضاً أحاديث متوترة عن خير الأنام علية صلوات الله وسلامة تقرر هذا المعنى الذي دلت عليه آيات القرآن.
__________
(1) - النساء: 116
(2) - قلت: ما أشار إليه شيخنا هنا تقدم الكلام عليه. راجع صفحة 35(65/224)
ثبت في المسند والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحوله عصابة من أصحابه [بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً وتسرقوا ولا تزنوا ولا تعصوا في معروف ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له. ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفي عنه وإن شاء عاقبه] إذن من وفى على بايع علية النبي عليه الصلاة والسلام والتزم وقام بالطاعات وترك المنهيات فأجره عند الله، وقع في زلة وهفوة تستوجب حداً. عوقب عليها في الدنيا فهذا مطهر له لأن الحدود زواجر وجوابر، تجبر الفاعل وتجبر الأمة فتطهره تاب أو لم يتب. المحدود إذا أقيم عليه الحد طَهّر. وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ عن ماعز ـ والحديث في صحيح مسلم وسنن أبى داود ـ: [إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها] بعد أن أقيم حد الرجم. فإذا أقيم عليه الحد طهّر تاب أو لم يتب. والله أكرم من أن يثني العقوبة على عبده مرتين (1) فإذا عاقبة فى الدنيا بتريده، أو قطع رقبته، أو جلد ظهره، أو رجم بالحجارة طُهّر. تاب أو لم يتب. زواجر وجوابر، تجبر الفاعل فتقيله عثرته وتغفر زلته. وتجبر الامة.
__________
(1) - قلت: هذا الحديث ثابت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم وصححه ووافقة الذهبي. عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [من (بياض) في الدنيا ذنباً فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده. ومن أذنب ذنباً فستره الله فهو أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه] أخرج هذا الحديث أيضاً الإمام البغوي والإمام أحمد أيضاَ بمعناه حديثاً آخر..(65/225)
لأن الامة إذا فعلت فيها المعاصي وما عيروها يعمهم الله بعقاب من عنده (1) .
__________
(1) - قلت: يؤيد كلام شيخنا هذا ما ثبت في سنن أبي داود وابن ماجة وصحيح ابن حبان. والحديث رواه الاصبهاني وغيرة عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما من رجل يكون فى قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا] وعن أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) المائدة: 160 وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا علي يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده] رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح ورواه إن ماجة والنسائي وابن حبان في صحيحة. ولفظ النسائي: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن القوم إذا رأوا المنكر فلم يغيره عمهم الله بعقاب] وفي رواية لأبي داود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب] . (انظر الترغيب والترهيب للمنذري: 3/229) .(65/226)
فإزالة هذه المعصية تجبر الخلل الذي وقع في الأمة و [لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً] . [خير من أن يمطروا أربعين خريفاً] كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في سنن النسائي وغيره (1) .
وهي زواجر تزجر الفاعل وتزجر غيره. فالفاعل إذا علم أنه إن قتل يقتل. وإن زنا يرجم ينكف عن المعصية. ولو قدر أنه وقع وأقمنا عليه الحد ينكف غيره. تزجر الفاعل وتزجر الأمة. وتطهر الفاعل وتطهر الامة. زواجر وجوابر وهي كفارات لأهلها تاب المحدود أو لم يتب. إذن الحالة الثانية: من أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فى الدنيا فهو كفارة له.
الحالة الثالثة:
أصاب من ذلك شيئاً: زنا، شرب الخمر، سرق. سترة الله. فأمره إلى الله. إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه.
__________
(1) - قالت: الحديث الأول رواة النسائي من حديث أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. [لحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا ثلاثين صباحاً] وفى رواية قال أبو هريرة - رضي الله عنه -[إقامة حد في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين ليلة] هكذا رواه النسائي مرفوعاً وموقوفاً. ورواه ابن ماجة بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [حد يعمل في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً] وروي ابن ماجة أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال [إقامة حد من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله] وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يوم من إمام عادل أفضل من عبادة سنة. وحد يقام في الأرض بحقه أربي فيها (بياض)(65/227)
إخوتي الكرام: يخرج معنا في الحالة الثالثة أمر محل إجماع وهو الشرك. فلو أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله وما ظهر شركه. وما ظهر نفاقه الأكبر. وما ظهر كفره الذي يضمره فى قلبه. هذا أمره موكول الى الله أو مخلد قطعاً وجزماً فى نار جهم؟. هذا مخلد. فالشرك المستثني للنصوص الشرعية ((إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ)) ... فقول النبي علية الصلاة والسلام: [بايعوني علي ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تعصوا في معروف، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيدكم وأرجلكم.. ـ ثم قال في الحالة الثالثة ـ: فمن أصاب من ذلك شيئاً....] (1) أخرج من هذه الخمسة الشرك. فهذا لا يعغر.. وتقدم معنا: الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله أبداً وأهله خالدون مخلدون فى نار الجحيم (بياض) : الكفار والمشركون. خرج هذا يعني ما عدا هذا الزنا. السرقة. يعصون فى معروف. ولا يطعون النبي علية الصلاة والسلام: فيقصرون فى واجبات. يأتون ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم فينسبون من الأولاد ما ليس إليهم كل هذا من الكبائر. هذا ما عدا الأمر الأول يشمله قول النبي علية الصلاة والسلام: ومن أصاب من ذلك شيئا ً ـ غير الشرك ـ فهو إلى الله إنا شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. إذن ما عدا الشرك تحت المشيئة. إن شاء ربنا غفر ففضل. وإن شاء عذب فعدل. فلو غفر لا ينال الوعيد فاعل ذلك الذنب، إذن كل عقوبة على كل ذنب مقيدة بقيدين بشرطين: الأول عدم حصول توبة من الذنب، فمن تاب لا يناله الوعيد. الثاني: عدم مغفرة الله لذلك المذنب. فلو غفر الله له لا يناله الوعيد. لو تاب فى الدنيا لا يناله الوعيد لو مات بدون توبة وغفر الله له فى الآخرة لا يناله الوعيد. وهذه الآية ـ وكما قلت ـ هي أرجي آية فى القرآن.
__________
(1) - (بياض)(65/228)
وقد كان سلفنا الكرام يولونها عناية عظيمة وغيرت من مسلكهم عندما نزلت عليهم وسمعوها من نبينا علية الصلاة والسلام ثبت في مسند أبي يعلى وكتاب الاعتقاد للإمام البيهقي. وكتاب السنة لأبن أبى عاصم. ومسند البزار بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما. والأثر رواة الإمام الطبراني في الأوسط بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كل واحد منهما: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر (1) حتي سمعنا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ((إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما تلا علينا الآية [إني إدخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] (2) وقال ابن عمر وابن عباس: فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا (3) ثم نطقنا بَعْدُ وَرَجَوْنَا.
__________
(1) - أي من مات وعلة كبيرة لا تستغفر له.
(2) - والحديث صحيح بل يصل إلى درجة التواتر كما سأورد له روايات كثيرة وطرقاً كثيرة.
(3) - أي كنا نمسك عن الاستغفار فبدأنا بعد ذلك نطلق لأنفسنا العنان ونستغفر لمن مات وعلية ذنوب وآثام بعد أن نزلت هذه الآية(65/229)
وهذا الحديث مروي عن غير هذين الصحابين رضي الله عنهما. لكن دون ذكر تلك المقدمة: [كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر..] فالحديث رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وقال حسن صحيح، ورواه أبو داود في سننه. وابن خزيمة في كتاب التوحبد. ورواه الحاكم في المستدرك. وأبو نعيم في الحلية. وابن أبى عاصم فى كتاب السنة. ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد ورواه الضياء المقدسي فى " الأحاديث المختارة الجياد " والحديث صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] . والحديث روي عن جابر بن عبد الله في سنن الترمذي بسند حسن، ورواه عنه ابن ماجه، والطيالسي في مسنده. والحاكم في المستدرك. وأبن خزيمة فى كتاب التوحيد: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] . وفي الحديث: قال جعفر الصادق: قال لي والدي (1) .. رضي الله عن آل البيت والصحابة الكرام أجمعين. قال لي جابر [يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فمما تعلقه بالشفاعة!] .
__________
(1) - أي محمد الباقر والد جعفر.(65/230)
إذن: من لم يكن من أهل الكبائر ـ تقدم معنا من لقي الله بالصغائر فهي مغفورة بنص القرآن. ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)) (1) ـ ما تعلقه بالشفاعه؟ من الذي يتعلق بها؟ أهل الكبائر. والحديث روى عن كعب بن عجرة. وروى عن أبي الدرداء. والأحاديث صحيحة. وروى عن أبي موسي الأشعري فى سنن ابن ماجة بسند صحيح بلفظ. قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -[خيّرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة. وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة ـ لأنها أعم وأشمل أترون أنها للمحسنين المتقين؟ لا. إنها للمذنبين الخطائين التلوثيين] . والحديث بهذا اللفظ رواه الإمام أحمد والبيهقي في كتاب الاعتقاد، والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما. وروى أيضاً عن صحابي ثامن. عن عوف بن مالك فى الترمذي بسند حسن - رضي الله عنهم - أجمعين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة. فاخترت الشفاعة فهي نائلة من مات لا يشرك بالله شيئاً] . وتقدم معنا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح البخاري وهو حديث تاسع في هذا المقام. عندما قال للنبي علية الصلاة والسلام. من أسعد الناس بشاعتك يوم القيامة؟ قال: [قد ظننت ألا يسألني عن هذا أحد قبلك يا أبا هريرة لما رأيت من حرصك. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه. أو صدقاً من قلبه] .
إذن إخوتي الكرام: إذا غفر الله للعاصي. وغفر للمذنب. وغفر للخطاء. لا يناله الوعيد. فكل وعيد مقيد بقيدين: عدم التوبة من المذنب. وعدم مغفرة الله لذلك المذنب. فإذا تاب لا يناله الوعيد. وإذا غفر الله له لا يناله الوعيد.
__________
(1) - النساء: 31(65/231)
إذا غفر الله له هل يقال: أخلف الله وعيده؟ هل يقال: إن هذا يعتبر كذباً في أحكامه وأخباره؟ لا لَمٍ؟ لأننا قلنا هو أصالة مقيد بعدم المغفرة. وما قال: أنا سأعاقبه حتي نقول: إذا لم يعاقبه فقد ألخلف وعيده. والله ((لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) (1) في حق الوعد والوعيد لكننا نقول: كل وعيد مقيد بقيدين: بعدم التوبة. بعدم مغفرة. فمن تاب لا يناله الوعيد لا نقول: أخلف الله وعيده. نقول: الوعيد مقيد بعدم التوبة. فإذا تاب وجد مانع لنزول الوعيد. وهو التوبة. وإذا غفر الله له وجد مانع لحلول الوعيد وهو المغفرة هذا وضحه لنا نبينا علية الصلاة والسلام ففى مسند أبي يعلي والبزار وكتاب البعث للإمام البيهقي. والحديث رواه ابن عساكر في تاريخه. والخرائطي في مكارم الأخلاق. وفيه راو ضعيف، وهو سهيل بن أبي حزم القطيعى من رجال السنن الأربعة. حكم عليه الحافظ إبن حجر في التقريبي بأنه: ضعيف. لكن الحديث يشهد له حديث أبي عبادة. فيتقوى به ويصل إلى درجة الحسن إن شاء الله. عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من وعده الله علي عمل ثواباً فهو منجزه له (2) ومن وعده علي عمل عقاباً فهو فيه بالخيار إن شاء عذبه وان شاء غفر له] . هذا هو الخيار. وهذا تحت مشيئته: إن شاء أن يعذب. إن شاء أن يغفر. كما أنك إذا تبت لا ينالك الوعيد، فإذا غفر الله لك لا ينالك الوعيد تقدم معنا أن الخوارج قالوا: فاعل الكبيرة كافر. وخالف في هذا المعتزلة. قالوا: فاعل الكبيرة ليس بكافر لكنه ليس بمؤمن. وهذا الوعيد الذي سيناله في الآخرة يغفر الله له أولا؟ قالوا: يستحيل أن يغفر الله له، وإذا غفر الله له فهو كذاب وتنزه عن ذلك - سبحانه وتعالى -، لا بد أن يعذبه..!!. ما هو العذاب؟ قالوا: العذاب هو الخلود في النار (3) .
__________
(1) - آل عمران: 9
(2) - لا يوجد قيد هنا
(3) - سيأتينا هذا في موضوع لاحق(65/232)
لا بد من عقوبة العاصي عند المعتزلة والخوارج. وهو الخلود في النار. أما الخوارج فقالوا كافر مخلد. وأما المعتزلة فقالوا: ليس بكافر لكنه مخلد!!.
لذلك قال أئمتنا عن المعتزلة إنهم مخانيث الخوارج. لأنهم ما قالوا بقولهم. كيف تخلدون في النار من ليس بكافر؟
وهذا تدرون من يقول به أيضاً يقوله الاباضية. الشيخ أحمد الخليلي ـ وهو مفتي عُمان ـ في كتابه " الحق الدامغ " في صفحة 91. وأنا ما أعلم حقّ يدمغ حقاً. أو حق يدمغ باطلاً؟ لكن مثل هذه العناوين البارقة سبق إليها هؤلاء. تدرون من الذي ألف كتاب " الدامغ " "قبل الحق الدامغ" الذي هلك سنة 298 هـ قال الحافظ ابن حجر في اللسان: أجاد المؤلف (1) في حذفه. وإنما ذكرته لألعنه توفي إلى لعنة الله سنة 298 هـ ألف كتابه الدامغ يدمغ الآيات ويرد عليها. ويظهر في القرآن التناقض، أي تناقض؟ كما قال ابن الجوزى. قال: ليس في كتابه ما يعتبر شبهة وفضلاً عن أن يكون حجة لنجيب عليه. أي تناقض؟.
قال: يقول الله جلا وعلا في كتابة ((ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)) (2) والله يقول في كتابه ((وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)) (3) إذن كان يجهل الله كم لبث هؤلاء!؟ وهكذا آيات كثيرة. يقول: ((لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)) (4) ليظهر لنا كذا. ((فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) (5) يقول: هذه تتنافي مع الآيات التي يخبر الله فيها بإحاطة علمه؟ ! هذا من إنطماس قلبه وفساد عقله.
__________
(1) - يعني الذهبي الأصل في الميزان
(2) - الكهف: 12
(3) - طه: 98
(4) - الملك: 2
(5) - العنكبوت: 3(65/233)
العلم إخوتي الكرام عِلْمان: علم ظهور ومكاشفة. وعلم تقدير ووقوع. الله جل وعلا علم هذا قبل أن يقع لكن سيعلمه بعد ذلك كواقعة. إذن ((لِنَعْلَمَ)) لنعلم هذا واقعا ظاهراً بعد أن علمناه مقرراً في الازل. وهل يمكن أن يقع الواقع في هذه الحياة على خلاف ما في تقدير رب الأرض والسماوات؟.لا. لكن العقاب والثواب يرتبط على الواقع الظاهر الخارج لا علي ذلك التقدير. إذن ((فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا)) فليعلمن علم مشاهدة ورؤية بعد أن علمه علم تقدير في الازل أي تناقض؟ ! علي أن بعض أئمتنا قالوا: فليعلمن الله الذين صدقوا قال: المراد من ذلك: أن يعلم أولياءه ورسله وشهداؤه في خلقه حقيقة هذه الأمور، هؤلاء مؤمنون وهؤلاء كفار. وهذا فيه تكلف. لكن المعاني الأول: فلنعلمن هذا علم مشاهدة بعد أن علمناه علم تقدير.
" الدامغ " ألفه أحمد بن يحي بن إسحاق الرواندي. جاء هذا الآن يؤلف لنا " الحق الدامغ " تعرض فيه لثلاثة مسائل: رؤية الله في الآخرة. وقال: هذا مستحيل وكل من يقول بها فهو ضال خبيث، فالله لا يراه المؤمنون في الجنة؟ !!!
الثانية: القرآن مخلوق. وكل من قال إنه صفه لله وليس لمخلوق فهو ضال؟ !!!
والثالثة: في تخليد أهل الكبائر في النار؟ !!!(65/234)
هو من الاباضية، والاباضية فرقة من الخوارج، لكن الاباضية في هذه المسألة كمخانيث الخوارج ـ وهم المعتزلة ـ انظر ماذا يقول وعقيدتنا معشر الاباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد. كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها. ما وجه قياس هذا على هذا؟ ـ يقول: إذا الداران دار خلود. ووافقنا علي ذلك المعتزلة والخوراج على اختلاف طوائفهم. وإنما خالفنا من حيث أنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرجه من الملة (1) فخالفوا (2) بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة..؟!.
الخوارج خالفوا الكتاب والسنة وإجماع الأمة عندما قالوا: فاعل الكبيرة في النار لكنهم حكموا علية بالكفر. لكن نحن (3) نقول: مخلد في النار وليس بكافر؟ طيب ما الفارق بينكم وبينهم؟ يعنى هي تسمية فقط! أو نريد حقيقة؟ أنت أخرجه من النار وسمه ما شئت بعد ذلك. أما تقول: هو مخلد في النار. أما الخوارج يقولون: كافر. أما نحن نقول: ليس بكافر. لعنة الله علية. لكن ليس بكافر؟ في النار لا يخرج منها مع أبى جهل وإبليس لكن لا تقولون عنه كافر..!! من يقول عنه كافر خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة؟ !
__________
(1) - الخوارج يقولون: كفار. أما الاباضية يقولون: مؤمن لكنه مخلد في النار ...
(2) - أي الخوارج
(3) - أي الاباضية(65/235)
وأنا أقول لهذا الشيخ: أسأل الله أن يلهمه وإيانا رشدنا: كما أنك إنفصلت عن الخوارج في هذه المسألة وأنصفت وأخبرت أن الخوارج خالفوا الكتاب والسنة وإجماع الامة ـ كما أنك تقول هذا في كتابك ـ عندما كفروا فاعل الكبيرة. فأنا أقول لك لعل الله يلهمك رشدك، ويلهمنا جميعا رشدنا فتقول: أن فاعل الكبيرة لا يخلد في النار ولا يمكن أن يسوى الله بين من وحّده وبين من جحده. يستحيل هذا قطعاً. فمآل العصاة إلى الجنة مهما طال تعذبيهم. ومن خالف هذا فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ـ كما سنذكر ـ فأنت قلت بقول المعتزلة تماماً. ولذلك تتذبذبون تارة مع الخوارج وتارة مع المعتزلة.
فالاباضية في الأصل فرقة من الخوارج لكن في هذه المسألة قالوا: لا نكفر فاعل الكبيرة لكن مخلد في النار؟ من زنا ومات على المعصية إن حج ستين حجة. وتصدق بجبال من ذهب واعتكف عن بيت الله الحرام , ومات في سبيل الله بعد ذلك. مخلد في نار جهنم؟ !
يا أخوتى الكرام: الله يقول: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) (1) أنتم عكستم!!
... ويقول: ((فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ)) (2) حسناته كلها طارت بهذا الذنب؟!
ما نقول إنه أحسن بذنبه، لكن أمره إلى إلى الله إن عفا عنه؛واسع الفضل والمغفرة، إن عذبه سنة، سنتين، ثلاثة، ثلاثين وبعدها؟ يعني يقول له: أنت وأبو جهل سواء، أنت وإبليس سواء؟ مآله إلى الجنة ـ كما سيأتينا ـ بنصوص نبينا عليه الصلاة السلام المتواترة، ولا ينكرها إلا كافر طمس الله على قلبه.
ولذلك عقيدتنا معشر أهل السنة في فاعل الكبيرة: أن من مات (بياض) ربه، إن شاء الله عذبه فعدل وإن شاء غفر له ففضل، إن عذب مآله إلى الجنة ولا يخلد من قال لا اله إلا الله في النار وإن لم يعمل خيرا قط (3) .
__________
(1) - هود: 114
(2) - الزلزال: 7
(3) - وعجمة اللسان ليست بمذمة، لكن عجمة القلب، أي عدم الفقه عن الرب، هذا هو البلاء.(65/236)
هذا كتاب الدامغ، وما أكثر الان الكتب الباطلة التي تنشر في هذا الحين.
الحبيب وبرقيبة في بلاد تونس في سنة1395 هـ عقد مؤتمر للمدرسين والمدرسات، وألقى كفراً بواحاً في ذلك المؤتمر، ورد علية المشايخ في ذلك الوقت برسالات وصلت إلى. وباستنكار بعد ذلك في العالم الاسلامى، إينما يقول: ثبت عندنا إن هذا القرآن متناقض. وذلك لابد لكم معشر المدرسين والمدرسات من أن تقرر وهذه إلا حقيقة في المدارس، وان تركزوا ما اقولة لكم للطلاب، لا بد من تطوير القرآن لسيما وقد أعطي الله ولاة الأمور سلطة، وجعل طاعتهم فريضة، فنحن ولاة أمور المسلمين نرشدكم إلى هذا الأمر. أولا: جعل الله للمرأة نصف الميراث وهذا شطط وسفاه وظلم، نعم هذا ما كان يصلح في عصر تسلط الرجل على المرأة، وأما في هذا الوقت، زوجتي هي التي ربت أخاها وانفقت علية حتى وصل إلى الهندسة، فهل يعقل إذا مات أبوها أن ترث نصف أخيها؟ وهي التي ربت أخاها. وهي الان اثبتت كفائة أكثر من الرجل؟.
ثم يقول: إن محمداً عليه صلوات الله وسلامة ـ كان بدوياً سازجاً، التقط كثيراً من الأخبار لا صحة لها ولا ثبوت، كقصة أصحاب الكهف، خرافة لا حقيقة لها على الإطلاق. وغيرها من القصص. فأنتم معشر المدرسين والمدرسات واجبكم تطوروا القرآن في هذا الوقت ونحن نبقى ننتمى للإسلام، لكن لا بد من تطوير، لا سيما وطاعة ولى الأمر فريضة واجبة؟ !!
هذا سيطور. وهذا دامغ، وذاك دامغ ...
يا عبد الله: الحق واضح أنت في هذا الكتاب استدللت بأحاديث في البخاري ومسلم ولعنة الله على من لا يقبل حديث البخاري ومسلم، فلنحتكم نحن وأنت إلى ما ذكرت، وإلى ما سنذكر، ونرى كيف سيكون الجمع بينهما، ومن الذي يؤمن بالكتاب كله ومن الذي يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض.(65/237)
إخواتي الكرام: هذا لابد الآن من المحاكمة، عند ذكرنا للأمر الثاني فيما يتعلق بمصير فاعل الكبيرة في الجنة في آخر الأمر إن شاء الله، إنما نحن لازلنا في الأمر الأول: العقوبة عدل، والمغفرة فضل، كل وعيد مقيد بقيدين: عدم التوبة، وعدم المغفرة.
أنظروا لهذه المناظرة المحكمة التي جرت بين شيخ أهل السنة في ذلك الزمان أبى عمرو بن العلاء وهو أحد القراء السبعة قارئ البصرة ـ وبين عمرو بن عبيد المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال، اجتمعا في مجلس، فقال، عمرو بن عبيد ليرد علي مذهب أهل السنة: إن الله وعد وعدً، وأوعد وعداً إعاداً، فهو مجز إيعاده كما هو منجز وعده. أي كما أنه لا يخلف الميعاد في الموعد. ومن وعده ثواباً سيحققة له فمن وعده عقاباً وتهدده سينزله عليه، والله لا يخلف هذا ولا هذا، لأن كل منهما من باب الخبر، والله لا يخلف الخبر وسيحققه، فسيحقق وعده ووعيده.
فقال: أبو عمر بن العلاء لعمرو بن عبيد: إنك أعجمي، لا أقول انك اعجم اللسان لكنك اعجم القلب (1) إن خلف الوعيد كرم ولخف الوعد لؤم. ألم تسمع إلى قول الشاعر:
ولا يرهب ابن العم ما (بياض) ... ولا يختشي من صولتي المتهدد
وإني وإن وعدته أو أوعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدي (2)
__________
(1) -
(2) - يقول: أين عمي لا يختشي مني ضرراً، ولا يخاف من الغريب لأنني أنا أحمية. أنا وراء ظهره، ثم أنا إذا جرى مني لأن عمي وعد ووعيد، بشارة وتهديد، أحقق بشارتي ووعدي، أما وعيدي أخلفة ولا أحققه، هذا منقبة أم مذمة؟ منقبة.(65/238)
العرب يتمدحون بهذا، هذا حال الكرام. إذا وعد يفى، وإذا أوعد يخلف، لأن كل وعد عند الكريم مقيد بعدم المغفرة. يقول: أنا سأفعل بك وأفعل إلا إذا عفوت هنا مقيد بمشيئتي. هذا بخلاف الإنزال في هذا الحين. إذا وعدك لا يفي، وإذا أوعدك يزيد فى عقوبتك. تستدعي من قبل من لا يخالفون الله. يقولون. مجرد تحقيق. وقد نعطيك كرامة بعد ذلك. تعال لننظر ونتباحث. فتذهب. ليت الأمر يقتصر على سب وشتم. ترى ما لا يخطر ببالك. الوعيد يضاعفه الوعد يخلفه.
جاء مرة بعض العتاة إلى بعض المسجونين من المؤمنين في بعض السجون ودخل عليهم بصورة طبيب لينظر إلى أحوال هؤلاء المسجونين. ووضع المعاملة لهم. وماذا عندهم من تذمر لأجل أن يفطم ألسنتهم. فيمر عليهم. مَرّ عل إنسان ومعه السماعة ـ علي أنه طبيب ـ يقول: ماذا بكم؟ كل واحد يقول: أنا سليم بالمائة مائة، لئلا يخبره , لأنهم يعرفون أساليبهم. يقول أنا مرض فيزداد في ضربه. فجاء إلى بعض الناس الذي يظهر أنه حديث عهد بالسجون. قال: مالك؟ قال: ضربوني ضربوني حتي أن أذني هذه ما بقيت أسمع بها. قال: هذه ما تسمع بها؟ قال: ما أسمع. فرقع يده وصفعة علي الثانية فأصم له الثانية؟ !! هذا الذي جاء ليعالج!! هذا حال المؤمنين. والله إن السائمة أرفع قدرا في هذه الحياة من حال المؤمنين الذين ينكبون ويعذبون يشتكي لك بصورة طبيب وهو يتظاهر بالطب. إنما لينظر هل فيهم من يتذمر؟ فضربه علي الثانية فأفقده سمعه!.
ثم قال له (1) ألم تسمع إلى قول الأخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
ألم تسمع إلى هذا؟ العرب يتمدحون بهذا. فرب العالمين من باب أولي إذا لم يوقع وعيده على من توعده. هل يقال: كذاب أو يقال كريم؟ كريم. لأن هذا الوعيد مقيد في الأصل بمشيئة. إن شاء غفر له. وإن شاء عاقبه
__________
(1) - قلت: أي قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد(65/239)
2 ـ الأثر الثاني من (بياض) لو قدر أنه عذب مآل إلى الجنة (بياض) فاعل الكبيرة في الآخرة (بياض) إما أن يعاقب وإما أن يغفر له. أما الجنة لا بد من أن، يدخلها قطعاً وجزماً على حسب فضل الله وكرمة. كما أخبرنا علي لسان رسلة عليهم صلوات الله وسلامة لكن ذلك الدخول قد لا يسبق بعقوبة. متي؟ إن غفر له، وقد تسبقة عقوبة. تطول ألف سنة ـ كما سيأتينا في عقوبة بعض العصاة. ـ بعد ألف سنة يخرجه الله وهو ينادي يا حنان يا منان (1) وإذا لم يغفر له لا بد من مطهر. والنار هي آخر المطهرات. قلبها تسع مطهرات. إذا ما طهرت لا بد من العاشر. المطهر الأول: توبة واستغفار. فإذا تاب [التائب من الذنب كمن لا ذنب له] (2) فإن تاب طهر نفسه. إذا لم يتب. هل عنده حسنات ماحية أم لا؟ ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) (3) . [واتبع السيئة الحسنة تمحوها] ما عنده حسنات. فقير حسناته يا الله يا الله أن تقبل. وما عنده تنفل وشيء زائد فما عنده حسنات تمحو المخالفات. نأتي لمطهر ثالث: هل نزل به مصائب في هذه الحياة فـ[لا يزال البلاء في المؤمن والمؤمنة حتي يمشيا علي وجه الأرض وليس عليهما خطيئة] . وكل معصية تكفر من ذنوب الإنسان [حتي الشوكة يشاكها] (4) .
__________
(1) - كما ثبت هذا في المسند. ومسند أبي يعلي. وسأذكره إن شاء الله
(2) - قلت: تقدم تخريجة. صفحة 107
(3) - هود: 114.
(4) - قلت: الحديث الأول عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتي يلقي الله تعالي وما عليه خطيئة] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والحاكم وقال: صحيح علي شرط مسلم. ووافقه الذهب. وأخرجه أحمد وغيرهم (أنظر ترغب المنذي 4/286(65/240)
((مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (1) قال هذا شيء شديد ـ أبو بكر - رضي الله عنه - ـ كما ثبت في السنن. قال [يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تنصب. ألست تتعب، ألست تصيبك اللأواء ـ المرض والحمي ـ قال: بلي، قال: فذلك مما تجزون به] (2) ولذلك حقيقة ـ وكلّ البلاء بالولاء، بولاية الله، من أراد الله أن يصطفيه وأن يواليه وألا يعاقبه في الآخرة , يصب علية العقوبات والشدائد والمصائب واعتداء السفهاء في هذه الحياة ليلقي الله وليس عليه خطيئة. ولو كان المؤمن في جحر ضبّ لقبض الله له من سيؤذيه ليرفع بدرجته، قال نبي الله داود علي نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: يا رب كف ألسنة الناس عني.
__________
(1) - النساء: 123
(2) - قلت: روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت ((مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتي النكبة ينكبها. والشوكة يشاكها] . ورواه الإمام احمد والترمذي والنسائي وابن مردويه وغيرهم. وللبخاري ومسلم. عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتي الهم يهمه إلا كفر به به من سيئاته] وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: أخبرت أن أبا بكر قال: يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كيف الصلاح بعد هذه الآية مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [غفر الله لك يا أبا بكر. ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء قال: بلي. قال: فهو مما تجوزن به] . والحديث رواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحة. ورواه سعيد بن منصور. وأبو يعلي. والبيهقي. (أنظر الترغيب والترهيب: 4/294)(65/241)
قال: هذا شيء ما ارتضيته (بياض) هم يتكلمون عليّ فمن؟ أنت؟ !. الله مع الأنس والجن في نبأ عظيم. يخلق ويعبد غيره يرزق ويشكر غيره. ولا أحد أصبر علي أذي سمعه من الله.
ولذلك قال الله في الإفك: ((إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)) (1) سبحان الله! أمنا زوجة نبينا علية الصلاة والسلام بنت أفضل الصديقين علي وجه الأرض، وخير خلق الله بعد النبيين والمرسلين يتكلم علي عرضها. وهذا خير لنا؟ تعم خير لنا. حقيقة خير لنا.
أولاً: هذه الخيرية تنال أجراً عند رب البرية، لعل الله أدخر لها مقاماً عظيماً لا تناله إلا بهذا ولذلك سيدة نساء هذه الأمة خديجة وابنتها فاطمة وأمنا عائشة. واختلف في تفضيل الواحدة منهن علي الباقي. والمعتمد أن كل واحدة أفضل من جهة من الجهات واعتبار من الاعتبارات. إذن هذه سيدة نساء هذه الأمة.
__________
(1) - النور: 11(65/242)
أمر ثان: هي تكون أسوة للمسكينات في آخر الزمان سيتكلم عليهن. فعندما تقول أمي تكلم عليها. من أنا؟ إذن أصبر كما صبرت، تظهر المعادن والحقائق بعد ذلك. كيف ثبت المؤمنون وقالت أم أيوب لزوجها أبي أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يتحدث الناس عن عائشة؟ ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)) (1) قال:يا أم أيوب، قد سمعت لو كنت مكانها أكنت تزنين؟ قالت أعوذ بالله! قال: فهي خير منك وأبوها خير من أبيك وزوجها خير من زوجك. أي أنت تنزهين نفسك، كيف بعدها تقولين: أما تسمع ما يتحدث الناس..؟ سمعت لكن كما قال الله ((ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا)) (2) أنظر لهذه المعادن وقال الصحابه: يا رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إن الله لم يرض لك أن يكون القذى في خفيك. ونعليك. عندما صليت وفيها أذي نزل جبريل وقال لك: في تعليك أذي فاطرحمها. فطرحهما وهو يصلي. فكيف يرضي أن يكون الاذي في لباسك. وفيمن هو لباس لك وأنت لباس له؟ ! كيف هذا؟.
__________
(1) - النور: 12
(2) - قلت: الأثر مروي برويات عدة كلها متقاربه. منها ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله تعالي عنها؟ قال: بلي. وذلك الكذب. أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت لا والله. فقال: (بياض) رضي الله عتها والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل. أخرجه ابن اسحق، وابن جرير. وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وابن مردويه. وابن عباس وروى قريباً منه الحاكم وابن عساكر أيضاً عن أفلح مولى أبي أيوب. والأثر رواه أيضاً (بياض) ابن عمر الواقدي ـ عليهم جميعاً رحمة الله ـ. (تفسير ابن كثير: 6/27،28. روح المعاني (بياض) .(65/243)
أنظر لهذه المعادن كيف ظهرت مع أنها حقيقة مصيبة تتفطر منها الجبال. ثم ليظهر العفو والفضل.
من الذي خاض في الإفك؟ من جملة من خاض. مسطح ابن خالة أبي بكر. يتكلم على أمة وقريبته وزوجة النبي عليه الصلاة والسلام أجتمعت النقائض. لما قال الله: ((وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)) (1) .
قالوا: عفونا وعفرنا وصفحنا. والله يعفو عنا وعنهم.
(بياض) مسطح ... يحط قدر النجم من أفقه
وقد جري منه الذي قد جري ... وعوقب الصديق في حقه
__________
(1) - النور: 22(65/244)
حقيقة هذا خير لنا. ولذلك البلاء. [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل] (1) فإذا أراد الله به خيراً طهره بمصيبة من المصائب. بمرض، باعتداء سفيه. بتهمه تنتشر عليه.. ببلاء من البلايا التي تنتشر في هذه الحياة. ما حصل له هذا يأتي البرزخ هناك مطهر: [القبر روضه من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار] (2)
__________
(1) - قلت: الحديث عن مصعب بن سعيد عن أبية - رضي الله عنه - قال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاءً؟. قال: [الأنبياء ثم الامثل فالامثل، يبتلي الرجل علي حسب دينه. فان كان دينه صلباً أشتد بلاؤه. وان كان في دينه رقه ابتلاه الله علي حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتي يمشي على الأرض وما عليه خطيئة] رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية لابن حبان في صحيحة من رواية العلاء بن المسيب عن أبيه عن سعد قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاءً؟ قال: [الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الناس علي حسب دينهم. فمن ثخن دينه إشتد بلاؤه. ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه. وان الرجل ليصيبه البلاء حتي يمشي في الناس ما عليه خطيئة] ورواه ابن ماجه والدامي بلفظ آخر قريب من هذا: عن سعد قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاءً؟ قال: [الأنبياء ثم الامثل فالامثل، يبتلي الرجل علي حسب دينه. فان كان صلباً في دينه إشتد بلاؤه، إن كان في دينه رقه هون عليه ما زال كذلك حتي يمشي علي الأرض ماله ذنب]
(2) - قلت: هذا الحديث مروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة نجلس إلي قبر منها فقال: [ما يأتي علي هذا القبر يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلق طلق: يا ابن ادم نسيتني. ألم تعلم أني بيت الوحدة. وبيت الغربة. وبيت الوحشة. وبيت الدود. وبيت الضيق. إلا من وسعني الله علية..ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبر أما روضه من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار] رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد ابن (بياض) بن سويد وهو ضعيف. وهناك شاهد آخر للجملة الأخيرة في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إنما القبر روضه من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار] رواة الترمذي واللفظ له البيهقي كلاهما من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي وهو واه عن عطية وهو العوفي عن أبي سعيد. وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفة إلا من هذا الوجه. (أنظر ترغيب المنذري: 4/238)(65/245)
وقد يعذب في النار البرزح يوماً، وقد سنة، وقد إلي يوم القيامة، وقد لا يكفيه التطهير، ينتقل بعد ذلك إلي عرصات الموقف، فإذا لم تطهرة المطهرات الأخرى يدخل النار. في البرزخ هذا مطهر رابع.
مطهر خامس: الدعاء من المؤمنين في هذه الحياة , أما ندعوا نحن للمؤمنين والمؤمنات؟ أما تدعوا أن ينصر الله المسلمين وان يغفر لهم؟ كل مسلم يناله من هذه الدعوة نصيب، فإذا طهر بهذه الدعوة وصلت له تلك الحسنات ونفعته، نعمة، ما طهر، مطهر سادس بعد موته: أما نصلي عليه ونشفع له وندعوا؟ ونهدي له من الحسنات ((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)) (1) في الحياة وبعد الممات. كل هذا ما نفع وصله وعليه ذنوب أمثال الجبال تهامة , ما كفت المطهرات الست، مطهر سابع: أهوال يوم القيامة وشدائدها ((يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا)) (2) هذه كلها تخفف عن المؤمن. إن طهرت فالحمد لله. إذا ما طهر تأتي بعد ذلك شفاعة الشافعين من نبينا الأمين علية صلوات الله وسلامه، والصالحين. ما نفعته هذه الشفاعة، وذنوبه أكثر , عفو الله ورحمته، أيضاً عنده ما يستوجب العذاب. بقي المطهر العاشر لا بد منه وهو: الكير. والكير هذا حقيقة يطهر من لا يقبل التطهير ما قبل مطهراً من المطهرات التسعة يدخل إلي الكير ليطهر.
إذن: إذا ادخل النار ولم يطهره مطهر من المطهرات المتقدمة، مآله إلي الجنة، فإن بياض ولدت نصوص تخبر بأنه لا يدخل الجنة، وهو يخلد في النار، كما تقدمت معنا نصوص في حالة في الدنيا نحو الإيمان اخرج من الإيمان وصف بالكفر بالنفاق، بالجاهلية ليس من عداد المسلمين وبين المعني الحق فيها جمعاً بينها وبن النصوص الأخرى، عندنا هنا نصوص أخبرتنا أن فاعل الكبيرة يخلد في النار، ولا يدخل الجنة وهذا هو ما استدل به في الظاهر الخوارج والمعتزلة الأباضية ـ الآن.
__________
(1) - لا يوجد تخريج
(2) - لا يوجد تخريج(65/246)
لكن قلنا أشجعهم وأرذلهم الخوارج ومن عداهم مخانيث لهم، أما أولئك قالوا: النصوص كفرتهم فنحت نقول كفارهم مخلدون في النار. أما المعتزلة الاباضية قالوا: لا لا نكفرهم، لكن نقول: في النار، طيب لِمَ؟ لا تفرقون بين النصوص! لا خوارج ولا سنة؟ إما هذا وإما هذا.
ولذلك قلت لكم: قول المعتزلة وقول الاباضية في هذه المسألة ما سبقهم إليه مؤمن ولا كافر. لا انس ولا جن. أنهم يخلدون في النار وليسوا بكفار. كيف ستخلد الموحد في النار؟ ! فأولئك خلدون. قالوا: لأنة كافر، أما أنت تقول ليس بكافر ومخلد؟! وتقول: من قال انه كافر خالف الكتاب والسنة إجماع الأمة، كيف خالف الكتاب والسنة؟ وتقدم معنا أحاديث: [كفر بالله من انتقي من نسب] (1) ، [اثنتان هما في أمتي كفر] (2) إذا هذا خالف السنة؟ هذا اسعد بالسنة منك منة حيث الظاهر، أما أنت، أنت الذي تناقض نحو السنة فلا صرت خارجي ولا صرت سني، تذبذبت بين هؤلاء وهؤلاء، وما ثبتت قدمك لا علي حق ولا علي باطل، وإما باطل واضح، وإما حق واضح، جئت تخلط بين هذا. وقلت لا نكفره. كما قال أهل السنة لكن قلت: لا نقول يدخل الجنة. نخلده في النار. كيف تأخذ الطرف من قول الخوارج وطرف منة قول أهل السنة؟ هذا هو الضلال المبين.
إن قيل لنا: وردت نصوص. النصوص ذكرها هنا، ونحن لسنا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضة، كما هو الحال في حق فاعل الكبيرة، هل ننفي عنه الإيمان أم لا؟ ذكرنا النصوص وأولناها جميعاً بين النصوص الاخري. لئلا نلغي شطراً من كلام النبي علية الصلاة والسلام. ونحن قنا: النصوص عندما تتعارض في الظاهر لا بد من الجمع بينها. لئلا نهمل كلام النبي علية الصلاة والسلام علي حسب الهوى والتشهي.
__________
(1) - قلت: هذا الحديث تقدم خريجة. راجع صفحة 93
(2) - قلت: تقدم تخريج هذا الحديث. راجع صفحة 90(65/247)
فإن قيل: وردت نصوص تخبر بأن فاعل الكبيرة لا يدخل الجنة. منها ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا يدخل الجنة من لا يأمن جارة بوائقه] هذا من النصوص التي موردة هنا. وفي غيره من الكتب (1) .
وثبت في مسند الإمام أحمد (بياض) ويستدل به (2) ـ لا يدخل الجنة
(بياض) رحم] وثبت فى المسند (بياض) وسنن أبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا يدخل الجنة صاحب مكسْ] وهم أصحاب الضرائب ـ الرسوم ـ التي فرضت علي المسلمين في هذه الأيام. وهكذا الذي يعشّرون الناس، ويأخذون منهم ضرائب الجمارك وغيرها.
وثبت في المسند والمستدرك وشعب الإيمان للبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه. والديوث. ومدمن الخمر.] وفي رواية بدل: مدمن الخمر: [رجلة النساء] .
__________
(1) - قلت: قول شيخنا " هذا من النصوص التي موردة هنا " أي في كتاب الحق الدامغ وقوله (بياض) " وفي غيرة منة الكتب " يقصد في غير كتاب الحق الدامغ، كالدامغ وغيره من (بياض) الخوارج والمعتزلة وغيرهم.
(2) - قلت: أي صاحب كتاب الحق الدامغ(65/248)
إذن هؤلاء لا يدخلون الجنة. وهذا تصريح النبي علية الصلاة والسلام فقال الاباضية والمعتزلة والخوارج: لا يدخل الجنة. لكن نقول. وردت نصوص تكفر. كفرتموه كما كفره الخوارج: قال: لا نكفره. نؤمن ببعض الكتاب ونكفر بعض، نقول، وردت نصوص تخبر بأنه مآله إلى الجنة. يقول: نلغي النصوص التي تكفر ونلغي النصوص التي تدخله الجنة. نقول. فقط مخلد في النار ولا يدخل الجنة. وهل هي علي حسب الهوى فقط؟ ! نصوص أخري وردت بأنه يخلد في النار. قال الله في كتابه ـ وهذه عمدة المؤلف هنا في البحث الذي أورده في خلود أهل الكبائر في النار (1) مقدمه وثلاثة فصول وخاتمةـ ((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) (2) إذن إذا قتل إنسان مؤمناً متعمداً فبه هذه العقوبة ((فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ)) ماذا قال الله فيه؟:
((خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) .
__________
(1) - قلت: قول شيخنا: المؤلف. أي مؤلف كتاب الحق الدامغ
(2) - النساء(65/249)
وثبت في المسند والكتب الستة (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تحسَّ سُمّاً فقتل نفسه فسمّه فى يده يتحسّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً. ومن تردي من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً.] إذن عندما نصوص تقول: لا يدخل الجنة، وعندنا نصوص تقول: هو مخلد في النار فماذا تفعلون بها وأنتم تقولون إنه في الجنة؟
قلنا: لا يجوز النظر بعين وإغماض الاخري. فلا بد من أن ننظر بالعين. وأن نؤمن بما ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ورد عن نبينا علية الصلاة والسلام وتواتر أن العصاة يخرجون من النار بعد أن يدخلوها. فهذه الأحاديث إذن معناها: هذا لا يدخل الجنة ويخلد في النار إن استحل ذلك. لأنه كافر. والكافر لا يخرج إلي الجنة، ويخلد في النار. كما تقدم معنا في الدنيا يُنفي عنه الإيمان علي أحد الاعتبارات الخمسة: إن استحل ... وهنا: [لايدخل الجنة صاحب مكس] . [لا يدخل الجنة قاطع رحم] إن استحل العقوق والضرائب فهو كافر يخلد فى نار جهنم. وإذا قال أنا مخطيء. عاصي. لعل الله يغفر لي هذا له حكم آخر. سيأتي إشارة نبينا علية الصلاة والسلام إليه.
__________
(1) - وإذا كان في الكتب الستة الحديث صحيح فلا داعي لأن نقول بسند صحيح أو حسن. وماذا يقصد بالكتب الستة؟ الصحيحان والسنن الأربعة، الترمذي وأبو داود والنسائي بضاف إليها ابن ماجة. هذا اصطلاح الجمهور. وبعضهم أدخل موطأ مالك، وبعضهم أدخل الدامي. مالنا وللإصطلاحات الخاصة، لكن الكتب السنة يقصد بها: الصحيحان والسنن الأربعة.(65/250)
الأمر الثاني: نقول: هو لا يدخل الجنة: ويخلد في النار إن لم يقم مانع يمنع من ذلك. والمانع توبة أو مطهر من المطهرات العشرة المتقدمة. فإذا تاب قطع رحمة ولعن والده ثم جاء وقبل رجليه ووضع رقبته تحت رجلي والدية وقال. أنا ما أرفع رقبتي حتى تستغفرا لي. فقالا: يا ولدي الله يغفر لك. وبقي بعد ذلك طول حياته يحمل حذاء والدية ويقبلهما ويدعوا لهما بعد موتهما.. يناله الوعيد؟ يا معشر الخوارج هذا في النار؟ قالوا: لا. يا معشر الاباضية في النار؟ قالوا: لا. يا معشر المعتزلة فى النار؟ قالوا: لا؟ لِمَ؟ يقولون. تاب نقول: إذن إذا وجد مانع يمنع وقوع الوعيد لا يناله الوعيد. فإذن هذا جزاؤه إذا لم يمنع من ذلك مانع. والموانع عندنا موجودة.
الأمر الثالث: ذكره الإمام أبن كثير في تفسيره نقلاً عن أبي هريرة. وعن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجمعين: قالوا: هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله به. وقد أخبرنا أنه لن يجازي بهذا أحداً من أهل التوحيد، فأخبره بهذا الأمر ليتقطع قلبه. كما تقدم معنا هناك قلنا [كفر بالله من انتفي من نسب] زوال الأيمان وخروجه من المله واتصافه بالكفر إنما يقصد بذلك التخويف والتغليظ بأمر يخلع منه القلب. لأن كل واحد يكره الكفر. ولا يريد أن يزول عنه الإيمان. وبالتالي ينكف عن الذنوب والآثام. وهنا كذلك. هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله به. لكن أخبرنا أنه لن يجازي موحداً بهذا. ولن يخلد عاصياً فى النار. ما الدليل علي ما تقولون؟(65/251)
اسمعوا للأحاديث التي استدل بمن خرج الأحاديث التي استدل بها الخوارج. فإذا كان (بياض) روي البخاري ومسلم. أخرج الطبراني. روي أحمد والبزار والحاكم. روي الشيخان. [من شرب الخمر فى الدنيا يحرمها في الآخرة] وهو كناية عن حرمانه من دخول الجنة. أخرج البخاري [من استرعاه الله رعية ثم لم يلحقها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة] أحاديث.. علي العين والرأس. روي الشيخان. [من قتل نفسه بحديده..] . [لا يدخل الجنة نمام..] (1) أحاديث ذكرتها معزوة للبخاري ومسلم ونحن أمنا بها وذكرنها. والله لا يرد حديثا منها إلا من هو ضال. أضل من حمار. لكن تعال: إذا كنت تأخذ برواية البخاري ومسلم وأئمة أهل السنة. فاسمع لهذه الروايات وأخبرنا ماذا سنفعل بها؟ !
__________
(1) - قلت: قول شيخنا: فإذا كان البخاري. روي البخاري ومسلم ... الخ هذا في مسار المناظرة التي يقيمها شيخنا مع مؤلف الحق الدامغ ـ غيابياً ـ وهو هنا يقول: أي بما أنك تحتج لقولك بأحاديث أئمة الحديث كالبخاري ومسلم والإمام أحمد والبزار وغيرهم. فنحن نريد ألا نخرج عن نفس المصادر التي (بياض) بالأحاديث منها ـ وهي البخاري ومسلم وغيرها.. ـ وسنأتيك بأحاديث من هذه المصادر وتكون هي الحكم بيننا.(65/252)
ثبت فى الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري. وبوب عليه البخاري فى كتاب الإيمان باباً يشير به إلي تفاوت المسلمين فى العمل الصالح فقال باب تفاصيل أهل الإيمان فى الأعمال وبعضهم يخطيء وبعضهم يحس. والحديث فى صحيح مسلم أيضاً. عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار ثم يقول الله ـ إذن يقول متي؟ بعد أن دخلوا النار ـ: أخرجو من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. فيخرجون منها قد اسودوا فيلقون في (بياض) (1) شك مالك ـ فينبتون كما تنبت الحِبَّة (2) في (بياض) السيل أو حميل السيل (بياض) تخرج صفراء ملتوية؟] هذا حديث في الصحيحين. وصرّح بأنهم يخرجون. فإذا كنت تؤمن ما رواه البخاري ومسلم ماذا تقول فى هذا؟ نكفر به؟ أم نجمع بين هذا وذالك؟ فأي الفريقين أهدي سبيلا؟ أهل البدع يستدلون بقسم ويكفرون بقسم ـ كما قلت لكم ـ هذا حالهم فى القديم والحديث يؤمنون بعض الكتاب ويكفرون ببعض.
__________
(1) - بالقصر: الحياة وهو الماء. وبالمد الحيا الذي هو استحياء. وهو الذي يحصل فيه انقباض نفس وانكماشها. شك مالك أي اللفظين نقله عن شيوخه عن النبي علية الصلاة والسلام وتحمله عنهم. بالقصر: الحياة: أو بالمد الحيا. وقال أئمتنا: الحياة وهو الماء. وهو المناسب للمعني، فيلقون فيه لأجل أن يزول الإسوداد الذي حصل لهم.
(2) - الحِبَّة: جمع حَبَة. والحبة هي بزور مالا يؤكل. بزور الأعشاب التي تكون في البادية الحِبَّة جمع حَبَة. كما أن الَحَبّ وهو البر جمع حَيّة فالمفرد واحد في حبة القمح وحبة البزور التي تكون في البادية والبرية. لكن الجمع يختلف. جمع الحَبَّة (القمح) حَبّ. وجمع الجَبَّة (التي هي بزور النبات الذي لا يؤكل) حِبَّة. [كما تنبت الحِبَّة] أي بزور الأعشاب التي لا يأكلها بنو آدم. السيل عندما ينحسر ويبقي الطين أما ترون كيف يخرج العشب فيه؟ من البزور التي يحملها الماء. تمتليء الأرض خضرة.(65/253)
وأمنا به كل من عند ربنا.
حديث آخر رواه الإمام البخاري أيضاُ في صحيحة. وبوّب عليه فى كتاب الإيمان باباً يشير به إلي هذا فقال: باب في زيادة الإيمان ونقصانه، عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [يخرج من النار من قال لا اله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير (1) ويخرج من النار من قال لا اله إلا الله وفي قلبه وزن بُرَّه (2) من خير، ويخرج من النار من قال لا اله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّةٍ من خير (3) ] الحديث في صحيح البخاري ماذا تعمل به؟. كما قلنا إذن يدخل النار لكنه لا يخلد. هذا إن دخل.
__________
(1) - انتبه للترتيب في الوزن.
(2) - وهي: القمح.
(3) - وصحّف أبو بسطام ـ شعبة ـ شيخ المحدثين هذا اللفظ فقال: [وزن ذُرَةٍ] لأنه لما مرَّ معه ذكر الشعير والحب ظن أن هذه ذرَة. وهي: وزن ذَرَّةٍ. والمراد من الذَرَّة ـ كما قرر أئمتنا هي أقل الموزون. وقيل: هو ما يتطاير في شعاع الشمس. فيقال له: ذر. وقيل: هو صغار النمل. وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الذرة أن تضع يدك علي التراب وأن تنفخها وما تطاير فهو (بياض) .وقال أئمتنا أربعة ذرات تعدل خردلة أهـ.(65/254)
وثبت في مسند الإمام أحمد (1) ورواة أبو يعلي (2) والحديث حسن شواهده: عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [يقول بعض أهل النار وينادي ويستغيث ويصرخ ألف سنة: يا حنان يا منان. فيقول الله لجبريل ـ علي نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ـ ليأتي بهذا الذي ينادي من ألف سنة. فيذهب جبريل. ـ علي نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ـ ليأتي بهذا الإنسان. فيري أهل النار منكبين يبكون لا يميز واحداً من آخر فيقول: يا رب ما عرفته. فيقول: هو في مكان كذا فأتني به. فيحضره جبريل إلي ربنا الجليل ـ علي جبريل وعلي نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ـ فيقول الله لهذا العبد. كيف وجدت منزلك، ومقيلك يا عبدي؟ يقول: شر منزل وشر مقيل يا رب فيقول الله: أعيدوه إليها. فيقول: يا رب ما كان هذا ظني بك. يقول. وما كان ظنك؟ يقول. ظني إذا أخرجتني ألا تعيدني، فيقول الله: دعوه] (3) ماذا نفعل بهذه الأحاديث ومثلها كثير؟ والأمر حقيقة يستدعي أن نذكر شيئا من الأحاديث التي تفيد التواتر في هذا وأن فاعل الكبيرة إن عذب مآله إلي الجنة , ولن يخلد احد من عصاه الموحدين في النار الجحيم.
__________
(1) - في مسند أحمد 20/23
(2) - كما في (بياض) :10/384
(3) - قلت: الحديث له شاهد عند مسلم في كتاب الأيمان عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [يًخرج أربعة من النار، قال أبو عمران ـ أحد رواة الحديث ـ: أربعة وقال ثابت ـ راو آخر ـ: رجلان. فيعرفون علي الله، ثم يؤمر بهم الي النار، فيلتفت أحدهم فيقول: أي رب لقد كنت أرجو إذا أخرجتني منها ألا تعيدني فيها، قال فينجيه الله منها.] وله شاهد أيضاً عند الترمذي والبغوي من حديث أبي هريرة هذا الحديث. وسيأتي ذكره.(65/255)
ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في حديث الشفاعه، وفيه يقول ربنا لنبينا عليه الصلاة والسلام: [ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فيقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حية من بُرَّة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلي ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال لي: يا محمد. ـ علية الصلاة والسلام ـ ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها. فأنطلق فأفعل. ثم أعود إلي ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً ـ للمرة الثالثة ـ فيقال لي: يا محمد ـ علية الصلاة والسلام ـ ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع. فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبة أدني أدني أدني من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل.] هذا الحديث رواه أنس - رضي الله عنه - للتابعين بعد وساطة. قال معبد بن هلال العنزي: انطلقنا إلي انس بن مالك وتشفعنا بثابت البناني (1) إلي انس ليحدثنا فنتهينا إلية وهو يصلي الضحي فأستأذن لنا ثابت فدخلنا علية واجلس ثابت معه علي سريره وقال له يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة فحدثهم بهذا الحديث يقول معبد فقلنا لو ملنا إلي الحسن فسلمنا علية وهو مستخف في دار أبي خليفة (2)
__________
(1) - ثابت البناني تلميذ أنس
(2) - كان متخفياً من الحجاج في ذلك الوقت في البصرة..(65/256)
فدخلنا علية فسلمنا علية قلنا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبا حمزة فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة قال هيه ما هو؟ فحدثناه الحديث فقال هيه قلنا ماذا دنا؟ قال: قد حدثنا ـ يعني ماحدثنا إلا هذا الحديث ما له زيادة؟ قلنا ماذا دنا اقتصر إلي هنا (فقال الحسن البصري قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع (1) ولقد ترك شيء ما ادري: انسي الشيخ أم كرهه أن يحدثكم فتتكلوا؟ فقلنا له حدثنا فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل. ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن احدثكموه قال: ثم ارجع إلي ربي ـ في الرابعة ـ فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً. فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع. فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. قال: فليس ذلك لك. أو قال الله له: ليس ذلك إليك. ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من قال لا إله إلا الله (2) ] أي هذه شفاعتي الأن ليست شفاعتك ـ قال فأشهد علي الحسن انه حدثنا به انه سمع انس ابن مالك أراه قال: قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع. الحديث في الصحيحين فماذا نفعل يا صاحب كتاب " الحق الدامغ "؟ نردّه؟ نرد هذا الحديث وندمغه، وهو كلام النبي علية الصلاة والسلام.
__________
(1) - بياض
(2) - أي ما عنده الآن أدني أدني أدني ذرة من خير، مجرد: لا اله إلا الله. ثبت في مسند البزار وغيره والحديث في درجة الحسن: [من قال لا اله إلا الله نفعه يوماً من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه] . أهـ(65/257)
حديث آخر: رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يمتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس إصابتهم النار بذنوبهم، أو قال: بخطاياهم، فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً إذن بالشفاعه فجيء بهم ضبائر ضبائر (1) ، فبثوا علي انهار الجنة، ثم قيل يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل، فقال رجل من القوم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان بالبادية (2) ]
حديث آخر: في سنن الترمذي وقال: حسن صحيح. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يعذب أناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونون فيها حمَمَاً ـ فحماً محترقاً ـ ثم تدركهم الرحمة فيخرجون منها فيطرحون علي أبواب الجنة، فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبوت كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة] (3) .
حديث آخر: في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلوا الجنة] . ولا يعذب الله وجوه الموحدين لأمرين: إما سجدوا لله في حياتهم وصلوا له، ولو قدر أنه لم يحصل. فهذه الوجوه ستري رب العالمين في النهاية، فلا يجعل الله عليها أثر مساءة ومذلة إكراماً لما سيحصل لهذه الوجوه من الكرامة، لا تتغير الوجوه (4) .
__________
(1) - يعني جماعات جماعات، أفواجاً أفواجاً
(2) - يعني يعرف أحوال الزورع والحشائش والنباتات.
(3) - قلت: الحديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في المسند والبغوي في " شرح السنة ".
(4) - فدارات الوجوه تبقي بيضاء. والباقي فحماً محترقاً.(65/258)
حديث آخر: في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يخرج من النار قوم بالشفاعة كأنهم الثعارير قلنا: وما الثعارير؟ قال: الضغابيس] ما الثعابير والضغابيس؟ هي صغار القثاء ـ من فصيلة الخيار ـ إشارة إلي أن أجسامهم هزيلة ضعيفة من كثرة العذاب، وفي رواية: [إن الله يخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة] وفي أخري: [إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعه] .
وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون الجنة، ويسمون الجهنميين (1) ] (2) وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [يخرج من النار قوم بعد ما مسّهم منها سفْعٌ. فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة: الجهنميين] .وهذا في أول الأمر ثم يزول عنهم الاسم بعد ذلك.
__________
(1) - أي الذين كانوا في جهنم
(2) - قلت: روي الحديث أيضاً؟ ابن ماجة والبغوي. وللإمام أجمد والبخاري والبغوي أيضاً بنحوه عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [بياض من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجهنميون.](65/259)
والأحاديث في هذا كثيرة أختمها بحديث الترمذي الذي هو حسن بشواهده. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [إن رجلين ممن دخلا النار يشتد صياحهما فقال الرب: أخرجوهما، فقال لهما: لأي شيء إشتد صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحمنا. قال: فإن رحمتي لكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار. فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه، فيجعلها الله علية برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب تبارك وتعالي: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقي صاحبك؟ فيقول: رب أني لأرجو ألا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني، فيقول له الرب ـ تبارك وتعالي ـ: لك رجاؤك فيدخلان جميعاً الجنة برحمة الله]
هذه الأحاديث. ماذا نعمل بها؟ أنا أريد أن أعلم: إذا كنت تؤمن بصحيح البخاري والترمذي وغيره، ماذا تعمل بهذه الأحاديث؟؟.
إخوتي الكرام: أنظروا الموقف أهل السنة المهتدين، قال أهل السنة: من آتي ببدعة مكفرة. فنفي لله صفه ثابته. أو قال شيئاً بتأويل (1) لكن حكم عليه بالكفر، يقول المحققون من أهل السنة: مع أننا حكمنا عليه بالكفر لن يسوى الله بينه وبين الكافر الحقيقي. فهذا أتي ببدعة مكفرة. فلآجل الحكم الظاهري قلنا أنه كافر. لكن هذا سجد لله وصام وصلي. لكنه من هؤلاء الجهميه، يقول: القرآن مخلوق. الله لا يتصف بصفه، الله ما قدّر شيئاً.... من أهل البدع الذين قالوا بدعاً كثيرة وضلوا فحكم عليهم بالكفر لأجل بدعتهم المكفرة. في موضوع الخلود في النار قال أئمتنا: (بياض) نمسك , فأمرهم إلي الله. وبعضهم قال: نرجوا لهم أن يخرجون مع أننا حكمنا عليهم بالكفر. لأن ظاهر الحكم في الدنيا ينطبق عليهم أنهم كفار.
__________
(1) - الصفة ثابته ونفاها. لكن له تأويل (بياض) .(65/260)
أنظر للإمام الذهبي في ترجمة العبد المخذول بشر المريسي (1) ـ من قضاة وأركان المعتزلة من الجهميه ـ يقول في ترجمة: هذا بشر الضلالة والشر. كما أن بشر الحافي هو بشر الهدي والخير. وهكذا أحمد بن أبي دؤاد هو أحمد الضلالة. كما أن احمد بن حنبل هو أحمد الهداية. وختم الإمام الذهبي ترجمة بشر بقوله (2) ومن كُفَّر ببدعة وان جلّت ليس هو مثل الكافر الأصلي ولا اليهودي والمجوس. أبا الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وصام وصلي وحج وزكي، وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع كمن عاند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعبد الوثن ونبذ الشرائع وكفر. ولكن نبرأ إلي الله من البدع وأهلها. أهـ. نبرأ: لا شك فيه، لكن مع هذا من كُفَّر اعتقادنا: لن يجعل الله مآله في النهاية كنهاية الكافر الأصلي واليهودي والنصراني والمجوس ومن عاند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعبد الوثن. كيف سيجعل الله من وحده كمن جحده وكفره؟ ّ أسال الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا وأن يرزقنا إيماناً كاملاً ويقيناً صادقاً وأن يرزقنا استقامة علي الإيمان والعمل الصالح وأن يفرج كروبنا وأن يغفر ذنوبنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام تقدم معنا أن الذنوب تنقسم إلي ثلاثة أقسام، علي بعض الاعتبارات فهي إما أن تكون في دائرة إذا وقع الإنسان فيها لا يغفر له. وهو يخلد في نار جهنم. وهذا في معصية الشرك. وإما أن تكون المعصية التي يقع فيها لا بد من وقوع المقاصة عليها والعقوبة. وهي إذا كانت بين العبد وبين العباد والمخلوقات. والأمر الثالث: إذا كانت بين العبد وربه فيما بينه وبين خالقه مما ليس بشرك. فالعفوا فيه أقرب. كما تقدم معنا.
__________
(1) - في سير أعلام النبلاء: 10/220. والَمرٍيٍٍسٍٍيٍ بالتخفيف. والبعض ينطقها: (بياض) ، وهو غلط.
(2) - وهذا الكلام ـ خاصة طلاب العلم ـ انتبهوا له في هذا المكان وقيدوه ولا يغيب عنكم طرفة عين(65/261)
وقلت أيضاً: إن الذنوب علي كثرتها وتنوعها لا تخرج عن شكل من أشكال أربعة:
إما أن تأخذ شكل الاتصاف بالصفات البهيمية. أو الصفات السبعيه. أو بالصفات الشيطانية. أو أن يتصف المخلوق بما لا ينبغي له أن يتصف به من الصفات التي هي خاصة بربنا جل وعلا كالكبر وحب المدح والعظمة وغير ذلك.
والآن أقول:
الذنوب تنقسم ـ أيضاً ـ إلي أربعة أقسام: ذنب لا يغفره الرحمن وهو الشرك والكفر وذنب تقدم معنا أن الله جل وعلا يغفره لعبده بشرط وهو الصغائر، تغفر بشرط اجتناب الكبائر ((إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا)) (1) الشرك لا يغفر. والصغائر مغفورة بكرم الله إذا إجتنب الكبائر.
بقي معنا نوعان من أنواع الذنوب: الكبائر والبدعة. وعلي صاحب هاتين المعصيتين سنتكلم الآن:
صاحب الكبيرة وصاحب البدعة لا نخرجه من حظيرة الإسلام. ولا نحكم عليه بالخلود في النيران مهما كانت بدعته إذا لم تكن مكفرة، وفيها إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وهكذا في حق فاعل الكبيرة إذا لم يستحل هذه المعصية فلا نحكم علية بالكفر ولا نقول إنه مخلد في نار جهنم، ففاعل الكبيرة والمتلبس ببدعة هو لا يخرج من الإيمان في هذه الحياة. ومآله إلي نعيم الجنات بعد الممات مهما عذب في نار جهنم. ولن يخلد موحد من الموحدين (2) .
فمن حُكِمَ عليه أيضاً بالكفر من أجل بدعته بما أنه صدر منه توحيد لله جل وعلا. وصدر منه شيء من الطاعة. لكنه ضل في بعض الجوانب. بما أنه له اسم الإسلام، نرجو له أن يدخله الله غرف الجنان في المآل. ولا يخلد في النار، كحال اليهودي والنصراني وسائر الكفار الأشرار.
وعليه إخوتي الكرام: ينبغي أن نحذر أمرين إذا كنا من أهل الإيمان:
الأمر الأول: ألا نكفر أهل الإسلام.
الأمر الثاني: ألا نحكم لواحد منهم بالخلود في النيران.
__________
(1) - النساء: 31
(2) - كما سبق كلام الإمام الذهبي.(65/262)
هذان الأمران ينبغي أن يكونا علي بالنا، لا سيما في هذا الزمان، لا نحكم علي مسلم بالكفر مهما فعل من المعاصي والقاذورات إذا لم يستحل. ولا نحكم علية بالخلود في النار، أمره مفوض إلي ربه جلا وعلا.
? أما الأمر الأول إخوتي الكرام: فقد ذكرت أدلته. إنما أريد أن أوضحه زيادة إيضاح هنا: الحكم علي الناس بالكفر إذا لم يستوجبوا ذلك، الحكم علي الناس بالكفر إذا فعلوا المعاصي والموبقات، كبير خطر فظيع، خذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - منه. ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وموطأ الإمام مالك وسنن الترمذي، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث أخرجه البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قال لأخية يا كافر فقد باء بها أحدهما] وفي رواية [إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان قال، وإلا رجعت عليه.] أي إذا كان هذا المقول له هذه المقولة كافراً في الحقيقة فقد أخبر إذن عما ينطبق عليه الحال، وعما يتصف به الإنسان، وإذا لم يك يكن المقول له هذه المقوله كافراً يرجع شؤم هذه المقاله علي قائلها [إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] وفي رواية البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه - عنه [إن كان كما قال صاحبه، وإلا ارتدت عليه إذا لم يكن صاحبه كذلك] . فإذن من قلت عنه إنه كافر، كافراً في الحقيقة فقد انطبق علية هذا الوصف، وأخبرت عن الحكم الذي ينطبق عليه ويتصف به، وإذا لم يكن الأمر كذلك ترجع علي القائل هذه الكلمة ويكون شؤمها ووزرها قبحها علية.(65/263)
إخوتي الكرام: وليس في الحديث تعلق لأهل الضلال، لأن من ارتكب كبيرة فهو كافر. لأن النبي علية الصلاة والسلام أخبرنا أن الذي يقال له هذه الكلمة إذا لم تكن كافراً ترجع هذه الكلمة علية الصلاة والسلام أخبرنا أن الذي يقال له هذه الكلمة إذا لم تكن كافراً ترجع هذه الكلمة إلي القائل. وإذا رجعت إلية هو غاية ما فعل أنه فعل كبيرة، فهل يكفر بكبيرته؟ لا. تعليلنا لهذا الحديث ما عللنا الأحاديث السابقة، وجمعنا بينها وبين كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقول:
من عرف من غيره الإسلام، ولم تقم عنده شبهة في تكفيره ثم استحل تكفير وأطلق عليه لفظ الكفر فهو كافر حقيقة. وأما إذا قام عنده شبهة أو لم يستحل إطلاق هذا اللفظ عليه. إنما قاله من باب المشاتمة والمسابّه , فيبقي أن هذا الأمر عاد عليه. لا لأنه كفر كفراً يخرجه من الملة، وهو كفر جحود المنعم، إنما كَفَرَ كُفْرَ النعمة وجحود النعمة كما تقدم. معنا وهو الذي يقال له كفر دون كفر. أو يُخش عليه إذا أطلق هذا الفظ علي من لا يستحقه أن يتصف بالكفر في المستقبل خشية أن يستحل هذا فيقع في الكفر، أو أن نقول رجعت عليه نقيصة قوله وشؤم قوله ومعصيته دون أن يكون كافراً خارجاً من الملة، أو أن نقول: إنه أطلق عليه هذا من باب الزجر والتغليظ بما يخلع القلب، لئلا يقع الإنسان في هذه المعصية الشنيعة الكبيرة.
يوضح هذه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ثابت بن الضحاك - صلى الله عليه وسلم - ـ وكان من أهل بيعة الشجرة رضي الله عنهم أجمعين ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لعن المؤمن كقتله، ومن قذف مؤمنا بكفر فهو كقتله] . وتقدم معنا أن قتل مؤمنا ولم يستحل قتله فاعل كبيرة، وأمره مفوض إلي الله جل وعلا.
أخوني الكرام: وقد حذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من أطلق لفظ الكفر علي من لا يستحقه. وأخبرنا أننا إذا تساهلنا بهذا سنتطاول بعد ذلك إلي شيء آخر وبالتالي سنخسر الدنيا والآخرة.(65/264)
عندما نكفر فاعل الكبيرة ونحكم عليه بالكفر، ماذا سيترتب علي هذا؟ استحلال دمه. وما حصل هذا بين المسلمين في هذا الحين إلا عندما كفر بعضهم بعضاً، فأستحل بعضهم دماء بعض، وترى أحيانا بعض الأخوة المسلمين الذين يجمعهم حب واحد أحياناً في الدعوة إلي الله جل وعلا. به يختلفان في أمر، فيكفر الواحد منهما الآخر. ثم ماذا يترتب علي هذا؟ استحلال دمه. وقتله بعد ذلك..! وهذا حقيقة من أعظم الفظائع وأقبح الكبائر فإذا تساهلنا في إطلاق لفظ الكفر عل فاعل الكبيرة أو علي المبتدع (بياض) دمه وذلك أمر خطير!! ولذلك حذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من هذا. ففي الصحيحين وسنن أبي داود من حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: [قلت يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أرأيت إن لقيت مشرفاً فقاتلته وقاتلني فضرب احدي يدي فقطعها ثم لا ذمني بشجرة وقال: أسلمت لله. أأقتله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا (1) . فقلت: يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إنه قطع يدي! فقال: إن قتلته بعد أن قال أسلمت لله فأنت بمنزلته قبل أن يقول تلك الكلمة، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله.] أي هو من أهل التوحيد ويموت إلي الجنة , لأنه يموت شيهداً، وأنت بعد ذلك –ترتكب موبقة وكبيرة. إنما يقصد ما أشار إليه الإمام الخطابي علية رحمة الله:: [أنت بمنزلته] يعني دمك حلال هدر عندما تقتله بعد أن يقول أسلمت لله، فإذا قتلته يصبح دمك هدراً ومباحاً كما كان دم هذا المشرك هدراً ومباحاً، ولا يقصد نبينا عليه الصلاة والسلام أن القاتل في هذه الحالة كافراً، إلا إذا استحل، فهذه مسألة ثانية.
__________
(1) - مع انه عندنا قرينه أنه آمن تقية من أجل أن يتخلص من ضربة السيف(65/265)
فانتبة أخي المسلم كيف حذرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - من التساهل في إطلاق هذه الأحكام، لأنني عندما يقول: أسلمت له. ويقوم في ذهني وفي قلبي من المعاني التي لا يرضاها الله فأقول: لعله أسلم تقيه، لعله أسلم خوفاً من السيف.. أنا شققت عن قلبه؟؟ فأنا عندما أبقية في وقت الكفر، ولا أقبل إسلامه، هذا يدعوني إلي ضرب رقبته بعد ذلك، وهذه جناية عظيمة.(65/266)
وثبت في الصحيحين أيضاً وسنن أبي داود من حديث أسامة بن زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن حبّه رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين. قال: [بعثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسرية فنذروا (1) فتفرقوا وانصرفوا. فلقينا واحداً منهم، فتبعناه فلما غشيته وتجليته بالسيف قال: أشهد ألا اله إلا الله. قال أسامة. فضربته فقتلته. ثم جئت إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته. فقال النبي علية الصلاة والسلام: من لك بلا اله إلا الله، وصار من الموحدين كيف قتلته؟ [فقلت يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: إنما قالها مخافة السلاح] وحقيقة عنده قرينة علي أنه قالها مخافة السلاح، يضاف إلي هذا عنده قرينه أخري، أنه قال هذه الكلمة إيمان المضطر، كإيمان فرعون، فصار حاله كحال المحتضر إذا وصلت روحة إلى الحلقوم علي حسب اجتهاده. أي هذا ما بقي علية إلا لحظات حتى تقطع رقبته ويموت فإذن إيمانه إيمان اضطراري ليس فيه اختيار. فلا يقبل عند العزيز الغفار، فعند أسامة - رضي الله عنه - شيء من التأويل؟. فقال النبي علية الصلاة والسلام: [أفلا شققت عن قلبه لتعلم مِنْ أجل ذلك قالها أم لا؟ ثم أعاد النبي علية الصلاة والسلام عليه: من لك بلا اله إلا الله يا إسامة.. حتى قال أسامة - رضي الله عنه -: تمنيت أنني لم أكن أسلمت إلا يومئذ لعظم معاتبته النبي علية الصلاة والسلام إياي] مع انه ـ إخوتي الكرام ـ كما قلت عنده قرينه واضحة علي انه قالها مخافة السلاح. عندنا بعد ذلك تعليل ثان علي أنه قالها في حال الاضطرار فحاله كحال فرعون فإيمانه لا يقبل. لكن هل نحن نعلم ما في القلوب؟ لا يعلم هذا إلا علام الغيوب لنا الظاهر والله يتولى السرائر: فإذا قال لا اله إلا الله كفّ عنه.
__________
(1) - أي نَذِرَ هؤلاء الناس المشركون وعلموا بأننا جئنا.(65/267)
فكيف بمن يقول: لا اله إلا الله محمد رسول الله علية الصلاة والسلام. ويصوم ويصلي ويدعوا إلي الله، واختلف معه في مسألة من المسائل كفرته ثم سعيت بعد ذلك في إراقه دمه؟ ! هذا والله مما يقصم الظهور. فاحذروه أخوتي الكرام في هذه العصور التي نعيش فيها.
كفوا عن أهل لا اله إلا الله. فحذار حذار أن تطلقوا عليهم لفظ الكفر. وإذا جرى منهم شيء من الوزر، فيبقي أنهم عصاه لا يستحقون ـ كما تقدم معنا ـ الاسم المطلق للإيمان. فهذا لا تصرف إلا إلي الكامل التقي، إنما لا ننفي عنهم مطلق الاسم فنقول، مؤمنون عصاه مؤمنون ـ مسرفون، أمرهم مفوض للحي القيوم، فإذن هذا الأمر يجب أن نحذره: عدم تكفير المسلمين.
? الأمر الثاني: عدم الحكم عليهم بالخلود في نار الجحيم.
إخوتي الكرام: تقدم معنا حديث نبينا علية الصلاة والسلام بأن [من قال لا اله إلا الله نفعته يوماً من دهره يصيبه قبل ذلك ما أصابه] والحديث رواة الإمام البزار والطبراني في الصغير والأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [من قال لا اله إلا الله نفعته يوماً من دهره يصيبه قبل ذلك ما أصابه] .
وتقدم معنا أن بعض العصاة يصيح في النار ألف سنة يا حنان يا منان (1) .... ثم تنفعه بعد ذلك هذه الكلمة ويخرجه الله من دركات النبران. فمن قال لا اله إلا الله نفعته يوماً من دهرة.. وإياك إياك أن تنصب نفسك حكماً علي العباد. فتقول: هذا في الجنة وهذا في النار. وأنت لا تعلم مصيرك إلي أي الدارين ستصير. فاتق ربك واعرف قدرك.
__________
(1) - راجع الحديث صفحة 124.(65/268)
ثبت في مسند أبي داود. والحديث رواة الإمام أحمد وبوب عليه الإمام أبو داود في كتاب الأدب باباً لطيفاً يشير به إلي ما نحن بصده فقال: باب النهي عن البغي. كأنه يشير بهذا الباب إلي أن من حكم علي مؤمن بالنار فقد بغي عليه واعتدي. لأن هذا غيب لا يعلمة إلا الرب , والحديث سنده صحيح جيد كما قال الإمام زين الدين عبد الرحيم الأثري العراقي عليه رحمة الله (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين. أحدهما يذنب والأخر يجتهد في العبادة. فكان إذا مر المجتهد في العبادة علي أخيه المذنب المقصر يقول له: يا هذا اتق الله واقصر ـ وهذا واجب عليه. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح ـ فكان المسرف المقصر يقول: يا هذا خلني وربي. فإن الله ما بعثك عليّ حسيباً ولا رقيباً] وفي هذا الكلام مخطيء قطعاً لكن ما يقول لك ذاك إنه رقيب وحسيب، إنما ينصحك ويحذرك. رقيبك وحسيبك هو الله جل وعلا. وأنت لا يجوز أن تتعلل بالقدر في فعل الأوزار والمنكر كما انك لا تعلل بالقدر في البقاء علي الجوع. الجوع بقدر الله أم لا؟ ندفعه بأي شيء؟ بالطعام. بقدر الله أم لا؟ ندفع القدر بالقدر. والمعصية بقدر الله أدفعها بالتوبه والطاعة، [واتبع السيئة الحسنة تمحها] وهذا حال المؤمن. لكن أهل الأرض الحمقى إلا من رحم (بياض) أقدار الله فيما يتعلق بالدنيا (بياض) الله وأما فيما يتعلق بمعاملة الآخرة فركنوا إلي الغرور والي الشيطان الغرور، فتقول لأحدهم: كف عن المعصية، يقول: قدَّر الله عليّ. وتقول له: ابق جائعاً يقول: أمرني ربي ـ الله ـ بالسعي ّ طيب لماذا هنا لا تصبر علي القدر ودفع القدر بالقدر. وهناك تركن إليه وتتواكل وتتخاذل؟.
__________
(1) - في تخريج أحاديث الإحياء.(65/269)
ولذلك أهل الحق يدفعون قدر الله بقدر الله جل وعلا طلباً لرضوان الله جلا وعلا كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني علية رحمة الله: كان الناس إذا وصلوا إلي بحث القدر وقفوا يقول: وأما أنا فانفتحت لي رَوْزَنَة (1) فنازعت أقدار الحق بالحق للحق أي تركت المعصية بما يقابلها من الطاعة طلباً لرضوان الله. والتقي هو الذي ينازع أقدار الله بأقدار الله طلياً لرضوان الله جل وعلا.
[فمر عليه في يوم من الأيام فرآه في معصية فقال: يا هذا أقصر , فقال: خلني وربي. ما بعثك الله عليّ حسيباً ولا رقيباً. فقال له أخوه المجتهد: والله لا يغفر الله لك. أو قال: لا يدخلك الجنة] هذا من حقك؟ هذا ليس من حقك، أنت لست إلا له لتنزل الناس في جنة أو في النار. نعم عليك البلاغ. وأما ما عدا هذا فقف عند حدّك. ليس من حقك أن تقول: الله لن يهديك، وليس من حقك أن تقول: الله لن يغفر لك وليس من حقك أن تقول: الله لن يدخلك الجنة.. قل: يا عبد الله أخشي عليك من ناره ولعنته. أما أنك تقول: أنت من أهل اللعنة وأهل النار! من الذي أطلعك علي ما في غيب العزيز الجبار - سبحانه وتعالى -؟؟.
__________
(1) - يعني طاقة ونافذة.(65/270)
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: [فإذا كان يوم القيامة أتي الله جل وعلا بهذين الأخوين المتآخين. فيقول للمقصر المسرف اذهب فادخل الجنة برحمتي. ويقول للمجتهد: أكنت بي عالماً. أو كنت علي ما في يدي خازناً ـ وفي رواية أبي داود: أو كنت علي ما في يدي قادراً (1) ـ اذهب فادخل النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لقد قال كلمة أوبقت دنياه وأخرته] . فاتق الله في نفسك، وقف عند حدك. الله لا يغفر لك الله لا يدخلك الجنة، الله سينزلك قعر جهنم.. هذا ليس في علمك. وليس في وسعك. فلا تشتط وتنزل نفسك منزلة الله جل وعلا لتحكم علي العباد بجنة أو نار. فاحذروا وتجنبوا تكفير المسلمين، واحذروا وتجنبوا تخليد العصاة في نار الجحيم. أو الحكم عليهم بأنهم لا يدخلون جنة النعيم. ومن يمت ولم يتب من ذنبه فأمره مفوض إلي ربه. لكننا نرجوا فقط للمحسن الجنة، ونخش علي المسيء من النار، ولا نجزم لهذا بذلك، ولا نجزم لهذا بتلك الدركه، إنما هنا نرجو، وهنا نخشى.
__________
(1) - أي أنت كنت بي عالم أو أنت الخازن لما في يدي والقادر علية تدخل هذا جنات النعيم وهذا الجحيم؟ أهذا في وسعك؟ أنت الخازن وأنت القادر وتتصرف في ملكي؟ !.(65/271)
هذا الأمر إخوتي الكرام لا بد من أن نعيه في هذه الأيام. لا نطلق تكفيراً علي مسلم من المسلمين ولا نحكم علي واحداً منتهم بنار الجحيم، ولا يعني أننا إذن نخالط المبتدعين ونوافقهم ونكون معهم. وهكذا أيضاً العصاة، ونقول: بما أن أمرهم لا يعلمة إلا الله فلا ننكر عليهم ما هم فيه لا ثم لا. لا وحدة إلا علي التوحيد: ولا اتفاق إلا علي طاعة الله المجيد. ليس بيننا وبين أحد وحدة واجتماع إلا علي طاعة الكريم الخلاق - سبحانه وتعالى -. لكننا نحن لا نتهم ولا نظلم. فمن ظهر منه الإيمان حكمنا عليه بالإيمان ومن ظهر منه الفسوق والعصيان حكمنا عليه بذلك دون أن نتجاوز الحدود التي شرعها الرحمن فلا ظلم ولا طغيان. فالعاصي عاصي ليس بكافر، والمؤمن هو صالح، مؤمن صالح، ونحكم علي الناس حسبما يظهر منهم فلا إتهام ولا ظلم ولا عدوان، إن عصي الله نحكم عليه حسبما ظهر منه فلا داعي بعد ذلك لنبذه بأنه كافر، ولا داعي للحكم عليه بأنه من أهل النار فهذا لا يعلمة إلا العزيز الغفار، نعم نزن بالقسطاس المستقيم، لا نوالي المبتدعين، وهكذا أيضاً لا نكفرهم ونحكم عليهم بالخلود في نار الجحيم. ديننا يأمرنا ألا نُفْرِطَ وألا نُفْرِطَ يجب علينا ألا نهوّل ولا نهوّن، وأن نزن بميزان الله جل وعلا. فالعاصي عاصي والتقي تقي والمبتدع مبتدع , فهولاء ما خرجوا من حظيرة الإسلام. وأمرهم مفوض بعد ذلك إلي الرحمن أما: من ابتدع ببدعة خرج من الإسلام ويخلد في النيران، من فعل كبيرة خرج من الإسلام ويخلد في النبران....(65/272)
هذا حقيقة من باب الشطط كما انه يقابله شطط آخر الذي فيه تفريط كما إن ذاك فبه إفراط ـ نقول: مبتدع أخونا ونحن منه وهو منا! وصاحب الكبيرة نؤاكلة ونباسطه ونضاحكه ولا ننكر عليه حاله لأنه قد يكون في عليين ّ هذا ضلال وذالك ضلال ولا بد من تحكم ذي العزة والجلال في جميع الأحوال نحب المؤمن بمقدار ما فيه من طاعة الله ونكرهه ونبغضه بمقدار ما فيه من معصية لله. ولا يدعونا أن نغلب أحد الجانبين علي حسب عواطفنا وأهوائنا وميولتنا الشخصية. إنما نزن الناس بالقسطاس المستقيم إذا ابتدع أبغضناه لأجل بدعته. لكنت بقي بيننا وبينه ولاية عامة , هو مؤمن ونحن مؤمنون، وإذا فعل كبيرة أبغضناه لأنه عاص. وبقي بيننا وبينه ولاية عامه فهو مؤمن ونحن مؤمنون. وأما أنه ابتدع نستحل دمه. وأنه أتي بكبيرة نستحل دمه ثم نحكم عليه بالخلود في النيران!! فهذا والله هو أعظم الشطط والخسران. لا تهويل ولا تهوين. لا اتهام ولا ظلم ولا عدوان. لا إفراط ولا تفريط. نزن بالقسطاس المستقيم.
إخوتي الكرام: وينبغي؟ أن نعلمه أيضاً علم اليقين أن الحكم علي القول وعلي الفعل بأنه بدعة أو انه ضلال وكفر. لا يلزم من هذا أن يكون القائل والفاعل مبتدعاً أو ضالاً. أو كافراً. هذا لا بد من وعيه. هذا الفعل كفر. ليس كل من فعله هو كافر. وهذا الفعل بدعة ليس كل من فعلة مبتدع كيف هذا؟ هذا قرره أئمة الإسلام وشهدت له أصول الشريعة الحسان:(65/273)
أولا: لا نحكم علي الإنسان أنه عصي وأنه ابتدع إلا إذا قامت عليه الحجه. ولا نحكم عليه بأنه كفر وارتد إلا إذا قامت عليه الحجة، إنسان أسلم ثم بدأ يشرب الخمر، قلنا: لم تشرب؟ قال الخمر حلال. نأخذ السيف ونضرب رقبته ونقول استحل ما حرم الله؟ هو يجهل هذا ولا بد من تعليمة وإقامة الحجة علية فكون الخمر حراماً عندنا وذاك يجهل حكمها لا يعني أنه عندما يستحلها فهو كافر. مع أننا نحن نقول: استحلال الحرام كفر. لكن بعد قيام الحجة علي المستحل. فإذن لا بد من أن يبلغه الحكم وأن يعلمة.
ثانياً: لابد في حال بلوغه أن يثبت عنده من وجه معتمد. وأن تبلغه هذا بنص صحيح ثابت في كتاب الله وسنة نبيه علية الصلاة والسلام. وإذا قال أنا في شك من نقلك فما قامت علية حجتك. لا بد إذن أن تقوم عليه الحجة التي بها يقطع عذر الإنسان. وأما إذا شك في خبرك. وأنت تنتقل تحريم الخمر، وأنا لا أثق بك. لا بد الآن من إيضاح الأمر له عن طريق غيرك وغيرك ليتضح له الحق ويثبت عنده من طريق واضح. إذن قد لا يكون بلغة هذا الأمر قد يبلغه ولكن لم يثبت عنده.
ثالثاً: قد يبلغة ويثبت عنده لكنه لم يفهمه علي وجه التمام، فلا بد إذن من أن يكون عنده فرصة لأجل أن يستوعب هذا الأمر، وأن يقول: فهمت، والنص ثبت عندي، وبلغني، ومع ذلك أستحل الحرام، فهو كافر.(65/274)
رابعاً: إذا بلغه وثبت عنده وفهمه. لا يعتبر كافراً إذا تركه من أجل عذر قام عنده من الأعذار التي يراها عارضة لهذا الحكم، فبقي عنده شبهة، فيقول: أنا عندي ما يعارض هذا من أمور أري أنني إذا سلمت بهذا يلزم من ذلك محذور ويلزم من هذا مشكلة، ويلزم من هذا ضلال، وهذا هو حال المبتدعة، عندما (بياض) ويقول: القرآن مخلوق، تقول له: القرآن كلام الله، يقول: يلزم من هذا تعدد القدماء! كيف يكون هذا كلاماً لله جل وعلا والله يقول ((اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) (1) وهو شيء من الأشياء؟ هذا الكلام ضلال لا شك فيه، ونحن نقول: الله بصفاته خالق كل شيء وكلامه صفه من صفاته. فالصفة إذن ليست مخلوقه. إنما تتبع الموصوف - سبحانه وتعالى -. لكن هو عندما يقول هذا الحجة بلغته وثبتت عنده. وفهمها لكن هو يقول: أنا عندي شبهة. حولها تدعوني لهذا التأويل الذي أقوله. فماذا نقول؟ لا نقول إنه مهتد، نقول: هذا القول ضلال. ولا نحكم عليه بالكفر وبعد ذلك أمر هذا الإنسان يفوض إلي ربه جل وعلا.
وهذا المبحث إخوتي الكرام قرره الإمام ابن تيمية (2) عندما تكلم علي هذا المسألة يقول: وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبه لمعرفة الحق. وقد تكون عنده ولم تثبت عنده ـ أي بلغته ولم تثبت عنده ـ أو لم يتمكن من فهمها. وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ. فإن الله يغفر له خطأه كائنا ما كان سواء كان ذلك في المسائل النظرية أو العملية. هذا الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماهير أئمة الإسلام. ثم قرر هذا بأحاديث ثبتت عن نبينا علية الصلاة والسلام.
__________
(1) - الرعد: 16
(2) - في خمس صفحات متتالية في مجموع الفتاوى في الجزء 23/345 ـ350 فانظروا إلية لزاماً، فهو حقيقة مما ينبغي أن ينقشة طلبة العلم في هذه الأيام علي القلوب.(65/275)
ثبت في الصحاح عن النبي علية الصلاة والسلام حديث الذي قال لأهله: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في اليم فو الله لئن قدر الله علي ليعذبني الله عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين. فأمر الله البر والبحر برد ما أخذ منه. وقال: ما حملك علي ما صنعت؟ قال خشيتك يا رب، فغفر الله له (1) .
فهذا شك في قدرة الله وفي المعاد. ظن أنه لن يعود، وأنه لا يقدر الله عليه إذا فعل ذلك. وغفر الله له. وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع، ثم بعد ذلك بقول: بل نصوص الإمام أحمد صريحة بالامتناع من تكفير الخوارج والقدرية وغيرهم. وإنما كان يكفر الجهميه المنكرين لأسماء الله وصفاته، لأن مناقضة أقوالهم لما جاء به الرسول علية الصلاة والسلام ظاهرة بيّنه. ولأن حقيقة قوله تعطيل الخالق. وكان قد ابتلي بهم حتى عرف حقيقة أمرهم. وأنه يدور علي التعطيل، (بياض) وتكفير الجهمية مشهور عن السلف والأئمة، وتقدم معنا أخوتي الكرام في حكم فاعل الكبيرة في الدنيا وفيما يتعلق بحالة في الإيمان. قلت: أظهر القولين كما قال الإمام أبن تيمية: أن الجهمية أيضاً لا يكفرون كفراً يخرجهم من الملة. إنما أطلق عليهم هذا من باب كفر دون كفر. أي سيؤدي بهم في النهاية إلي الكفر، أو ما شاكل هذا من التعليلات التي ذكرناها.
__________
(1) - قلت: الحديث في صحيح البخاري ومسلم والموطأ وشرح السنة للبغوي وغيرها. وهو مروي من غير واحد من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري. وأبو هريرة - رضي الله عنهم - أجمعين(65/276)
فإذن القول قد يكون بدعة، وقد يكون ضلالاً وكفر، ولا يحكم علي قائلة بأنه مبتدع أنه ضال، كافر، لعذر قام عنده، أما أنه ما ثبت عنده النص، ما بلغه، بلغه ولم يثبت عنده، بلغة وثبت عنده لم يفهمه وما استوعبه، بلغه وثبت عنده وفهمه لكن عنده شبهة يعذر بها ويعارض هذا، وبذل ما في وسعه للوصول إلي مراد ربه. أمره يفوض إلي الله جل وعلا. فإذن لا بد من التريث في أمة محمد علية الصلاة والسلام وفي المسلمين وألا نكفرهم، وأن نحكم عليهم بنار الجحيم.
الإمام ابن تيمية كتابة " شرح حديث النزول " وهو حديث متواتر عن نبينا الرسول علية صلوات الله وسلامة، بأن الله ينزل كل ليلة إلي السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر فيقول: [من يدعوني فأستجب له. من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. حتى يطلع الفجر (1) ]
الإمام ابن تيمية علية رحمة الله في شرح هذا الحديث (2) تعرض حقيقة لمسألة مهّمة ترتبط بهذا، وهي الحكم علي القول بأنه كفر وضلال وبدعة لا يلزم أن نحكم علي القائل بأنه كافر وضال ومبتدع إلا إذا ثبت عندنا أنه صاحب هوي. الإمام ابن تيمية علية رحمة الله. في هذا الكتاب تعرض للذين خاضوا في تأويل صفات الله جلا وعلا كإمام الحرمين والغزالي والفخر الرازي عليهم جميعاً رحمة الله. وقد رجعوا جميعاً إلي الهدي في نهاية أمرهم بعد أن خاضوا في الردي فترة طويلة من حياتهم، يقولون بالتأويل. ويؤولون صفات الخالق الجليل. ثم رجعوا بعد ذلك إلي الحق الذي كان علية السلف الصالح الأبرار، وهذا مما يدل إن شاء الله أن خطأهم ما كان متعمداً بسوء قصد وخبث نفس وفساد قلب، إنما بذلوا ما في وسعهم، ولما لاح لهم أن ما هم عليه ليس بهدي تركوه ورجعوا إلي جادة الصواب.
__________
(1) - قلت: الحديث في صحيح البخاري ومسلم وسنن الترمذي وغيرهم من حديث أب هريرة - رضي الله عنهم -
(2) - قي صفحة 175 وما بعدها.(65/277)
يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: وأما الرازي وإن كان يقرر بعد ذلك فالغالب علي ما يقرره أنه ينقده في موضع آخر. لكن هو أحرص علي تقرير الأصول التي يحتاج إلي معرفتها من الآمدي، ولو جُمع ما تبرهن في العقل الصريح من كلام هؤلاء وهؤلاء لو جد جميع موافقاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووحد صريح المعقول مطابقاً لصحيح المنقول ,لكن لم يعرف هؤلاء حقيقة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام وحصل اضطراب في المعقول به فحصل نقص في معرفة السمع والعقل، وإن كان هذا النقص هو منتهي قدرة صاحبه لا يقدر علي إزالته العجز قد يكون عذراً للإنسان في أن الله لا يعذبه إذا اجتهد الاجتهاد التام هذا علي قول السلف والأئمة في أن من اتقي الله ما استطاع إذا عجز عن معرفة بعض الحق لم يعذب به. وأما من قال من الجهميه ونحوهم (بياض) العجزين. ومن قال من (بياض) ونحوهم من القدرية: إن كل مجتهد فإنه لا بد أن يعرف الحق. وأما من لم يعرفه فبتفريطه لا لعجزه. فهما قولان ضعيفان وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القبلة يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.(65/278)
وقال قبل ذلك ـ علية رحمة الله ـ: وليس هذا ـ أي التذبذب والاضطراب في مسلك الرازي ـ تعمداً منه لنصر باطل. بل يقوله بحسب ما توقفه الأدلة العقلية في بحثة ونظره فإذا وجد في المعقول بحسب نظره ما يقدح به في كلام الفلاسفة قدح به، فإن من شأنه البحث المطلق بحسب ما يظهر له فهو يقدح في كلام هؤلاء بما يظهر له أنه قادح فيه من كلام هؤلاء وكذلك يطمع في الآخرين ومن الناس من يسيء به الظن. وهو أنه يتعمد الكلام الباطل، وليس كذلك، بل تكلم بحسب مبلغة من العلم والنظر. والبحث في كل مقام بما يظهر له. وهو متناقض في عامة ما يقوله، يقرر هنا شيئا ثم ينقضه في موضع آخر لأن المواد العقلية التي كان ينظر فيها من كلام أهل الكلام المبتدع المذموم عند السلف ومن كلام الفلاسفة الخارجين عن الملة يشتمل علي كلام باطل كلام هؤلاء وكلام هؤلاء، فيقرر كلام طائفة ثم ينقضه في موضع آخر بما ينقص به ولهذا اعترف في آخر عمره فقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفة فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طرقة القرآن أقرأ في الإثبات: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) (1) ، ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)) (2) وأقرأ في النفي: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) (3) ، ((وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) (4) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
__________
(1) - طه:5
(2) - فاطر: 10
(3) - الشورى: 11
(4) - طه: 110(65/279)
وشيخنا علية رحمة الله في "أضواء البيان" (1) حكي رجوع الرازي وقبله الغزالي وقبله إمام الحرمين. وقبله الباقلاني، وقبله إمام أهل السنة في زمنه أبو الحسن الاشعري عليهم جميعاً رحمة الله إلي الحق وجادة الصواب ومسلك السلف في نهاية أمرهم مما يدل علي أن ما كان من الخطأ في قلوبهم الذي قالوا به، قالوه بحسب ما بلغهم وهم مخطؤن قطعاً، وذاك القول ضلال ممن صدر، لكن كما قلنا: لا بد من أن نفرق بين القول بالإضلال ـ علي القول ـ وبين أن نقول إن قائلة ضال كافر فلا بد من التفريق بين هذا وذاك هل بلغه؟ هل ثبت عنده؟ هل فهمه؟ هل له عذر في تركه؟ إن كان كذلك نقول: هذا القول يعتبر ضلالاً ممن صدر لكن هذه عندنا ما يمنع من إطلاق لفظ الضلال عليه. فلنتق الله ولنقف عند قدرنا.
والإمام الرازي عليه رحمة الله في آخر حياته. في الوصية التي أملاها بخط يده قال: اللهم إن كنت تعلم أنني فيما قررته من العلوم أردت به نصرت الباطل أو معارضة حق (2) فافعل بي ما أنا أهله. وإذا كنت قررت ما قررت طلبا للحق وأخطأت فليكن عفوك ورحمتك لي حسب قصدي لا حسب حاصلي وسعي. يعني كان خطأ لكنني ما قصدته ورحمتك واسعة وأنت أرحم الراحمين. وهكذا أئمة الهدي.
إخوتي الكرام:
__________
(1) - الجزء 7/470.
(2) - هذا وهو علي فراش الموت يكتب وصيته.(65/280)
هذا لا بد من وعيه في هذه الأيام. طلبه العلم في هذه الأيام يتطاولون، حقيقة جاوزوا قدرهم بمراحل وتركوا عقولهم عندما فقدوا الهادي البصير الذي يتبعون علي بصيرة ويمشون خلفه علي هدي وبيّنه، يذكر أمامهم الإمام الذهبي الذي ذهب خالص. تدرون ماذا يقول السَّقَطّة، بعض طلية العلم في معاهد عالية في هذه الأيام؟: الذهبي تالف في الاعتقاد؟ !! الذهبي تالف؟ ! يذكر ينكر النووي، شيخ الإسلام في زمنه بالا نزاع، يقال: مخرف من المخرفين.؟! يذكر الإمام ابن حجر شارح السنة، وليس بعد شرحه شرح كما قال الإمام الشوكاني عندما طلب منه أن يشرح صحيح البخاري: قال: قال علية الصلاة والسلام: [لا هجرة بعد الفتح] (1) أي كيف نشرح صحيح البخاري بعد أن شرحه حزام المحدثين وأمير المؤمنين في الحديث ابن حجر في " فتح الباري "؟ هذا يقال عنه إنه مخرف من المخرفين؟ ! وهذا مخرف من المخرفين! وذال تالف في الاعتقاد! وهذا ضال! وذاك زائغ!. فلنتق الله في أنفسنا.
إخوتي الكرام: نعم ليس عندنا أيضاً تساهل في دين الرحمن فمن جحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة نكفره بلا توقف. ومن استحل ما أجمع علي تحريمه نكفره بلا توقف.
ومن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفراً ليس حد
ومثل هذا من نفي لمجمع ... أو استباح كالزنا فلتسمع
__________
(1) - قلت: الحديث في البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: [لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا](65/281)
فجاء وقال: الصلاة عبث ولعب ما فرضها الله، أو فرضها ولا ينبغي أن نصليها؟ فماذا نقول عنه؟ كافر بلا تردد، لا يفهم منا أننا عندما نقول أننا لا نكفر الموحدين العصاة أو الذين يتلبسون ببدع أننا نوسع الأمر. فمن بلغ في الكفر زيادة علي إبليس نتورع أيضاً نحوه ولا نكفره. ويصير حالنا كحال الورع البارد الذي قيل له: ما تقول في إبليس؟ هل هو خبيث أو طاهر نفيس؟ قال أسمع كلاماً كثيراً عنه، والله أعلم بسريرته.!! هذا ضلال. وتقدم معنا أخوتي الكرام كلام عتاة الأرض في هذه الأيام عندما يقول: القرآن فيه خرافات، القرآن متناقض القرآن لا يصلح أن يُحكم به في هذه الأوقات. عندما يقول: محمد ـ علية صلوات الله وسلامة وفداه آباؤنا وأمهاتنا ـ ساذج بدوي كان يتلقي الخرافات. عندما يقول: رئيس الدولة له حق أن يطور القرآن وأن يعدله، لأن الله أمرنا بطاعة ولا الأمور.؟! قلنا: إنه دجال كافر بلا شك ممن صدر هذا القول.
فلابد من التفريق لكن نحن نقول: مؤمن عاصي يشرب الخمر، يزني، عندما تقول عندما تقول له: اتق الله يقول: سل الله لي التوبة، لعل الله يوفقني في المستقبل، تقول له: كافر لجهنم حطباً؟ اتق الله في نفسك، وهكذا مبتدع قامت عند شبهة من الشبه في بدع من البدع وحكمت علية بالضلال، قف عند حدك. لا تقول إنه خرج من دائرة الإسلام واستوجب الخلود في النيران.
إخوتي الكرام (بياض) من هذين الأمرين: عدم تكفير أهل الإسلام، وعدم الحكم عليهم بالخلود في النيران، وهذا الأمر ينبغي أن نقف عنده. هنا وهناك بعض الأمور دعتني إلي الكلام
عليه لإيضاح هذه المسألة.
إخوتي الكرام:
قابلني بعض طلبة العلم وسأل عن تكفير أهل البدع من الخوارج والاباضية. فقال: هل هم كفار؟(65/282)
قلت: يا عبد الله أنت تريد أن توقعنا فيما فرننا منه، نحن نرفع أصواتنا بأننا لا نكفر أهل القبلة، ونفوض أمرهم إلي ربهم جل وعلا، وتقدم معنا: قلنا حتى من حُكم عليه بأن بدعته مكفرة ـ بكلام الإمام الذهبي ـ مع ذلك نرجو له ألا يخلد في النار وألا يكون حاله كحال اليهودي والنصراني والمجوس والوثني. فأنت تريد أن توقعنا في هذا. هذا سبب، لذلك لا بد من وضوح المسألة إخوتي الكرام.
سبب ثان: جاءتني رسالة من بعض الأخوة في بعض البلاد. يسأل عدة أسئلة ويعترض علي بعض الأمور. ثم يقول: ما عقيدك، بين لنا عقيدتك؟ والرسالة عندي، وكنت ذكرت لكم أن بعض ذوي الشطط عندما كنت في أبها انتظروني علي باب المسجد وما سمحت أنفسهم أن يصلوا معنا. ولما سألتهم قالوا: لا نعلم هل أنت مؤمن أو كافر. ما استبان لنا أنك مؤمن أو كافر؟ !(65/283)
وأنا أقول لهذا الأخ الذي أريد أن أقول إنه مغفل. ويكفية هذا: إن أردت أن تعرف عقيدتنا فسل أعداءنا لا تسلنا. أعداؤنا يخبرونك عن عقيدتنا. فإذا كان أعداؤنا عرفوا عقيدتنا ما هي وأنت أيها المسكين الذين تزعم أنك تتابع وتسمع ما عرفت من خلال سماع هذه المواعظ اعتقاد هذا الإنسان المسكين؟ وأنا أقول لك: إن عقيدتي وعقيدة كل مسلم: الإيمان بالله ورسوله علية الصلاة والسلام وبما جاء عنهما. وتقدم ذلك علي قول كل واحد ومع ذلك نحن نعترف لسلفنا الكرام من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعين ومن تبعهم، منزلتهم ومكانهم، فوالله لولا أن مَنَّ الله علينا بهم لما وصلنا هذا الدين. فنحن نؤمن بالله ورسوله علية الصلاة والسلام ونفهم كتاب الله وكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام علي حسب ما فهمه سلفنا وأئمتنا ومن أراد أن يتسور علي كتاب الله وسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه وعقله وهواه دون الرجوع لما فيه سلفنا من صحابة وتابعين وأئمة المسلمين فهو ضال بلا شك قطعاً ويقيناً أن خير من فهم كلام الله وكلام رسوله علية الصلاة والسلام من خوطبوا به ونزل عليهم وعملوا به، وأعظم عمل عندنا وأرجي عمل لدينا نتقرب به إلي ربنا جل وعلا حب الصحابة وحب السلف الصالح الكرام رضوان الله عليهم.
هذه عقيدتنا، وهذه عقيدة المسلمين. وما عندنا أسم خاص نتسمي به من شيعة ولا صوفية. ولا خوارج ولا جهمية، كما قال الإمام مالك علية رحمة الله (1) . يقول: أهل السنة ليس لهم أسم خاص يعرفون به، وليس لهم لقب خاص يعرفون به، لا جهمي ولا رافضي. ولا مرجئي. إنما هم أهل سنة.
__________
(1) - كما هو موجود في ترتيب المدارك في طبقات الإمام مالك.(65/284)
فأنت تسأل عن اعتقادنا؟ نبيّن لك هذا الاعتقاد. سبحان الله العظيم!! المسلم في هذه الأيام يبحث عن اعتقاده؟ أعداؤنا عرفوا اعتقادنا وبعضنا ما عرف للأن اعتقاد بعض؟ ! وكل واحد يضع حول أخيه ألف علامة إستفهام. ماذا في قلبه؟ ! سبحان الله!!
وقد قال بعض الذين لهم شأن عن بعض المساكين. قال لا تغتروا به فهو صاحب فلسفة وصاحب كلام. وهو يتستر ولا ينشر الضلال الذي في قلبه؟ ! من الذي أدراك عن الضلال الذين في قلبه؟ من الذين أدراك عنه؟ نزل عليك وحي أخبرك؟ نعم نزل علية الشيطان الرجيم ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) (1) ، ((إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)) (2) أنت ما دمت تصرح أن هذا في قلبه. كيف اطلع عليه أو من أين علمت أيها الإنسان؟ ! أما تتقي الله في نفسك! أما تتقي الله وقف عند حدك؟ فهذا الأمر ينبغي أن نعبه إخوتي الكرام:
نخن في هذه العصور: المؤمن الذي يظهر أيمانه ـ لا صاحب الكبيرة ولا صاحب البدعة ـ وعلية في الظاهر الالتزام بهدي السلف الكرام بقول: لا تفتروا بظاهرة. وقلبه فيه وفيه؟! فكيف فيمن أظهر بدعة أو ظهر منه كبيرة؟ هذه الأحوال التي نعيش فيها.
إخوتي الكرام: لابد من صفاء القلوب، والتألف بين المؤمنين. وهذا من أعظم الأمور عند رب العالمين. وهذا الذي يحقق لنا العزة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
__________
(1) - الشعراء: 221، 222
(2) - النحل: 105(65/285)
ثبت في سنن الترمذي، وقال: صحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقه] (1) وفي سنن الترمذي عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم. الحسد والبعضاء وهي الحالقة. أما إني لا أقول إنها تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين] (2) وفي سنن الترمذي وقال: حسن صحيح عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلي يا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة] (3) .
__________
(1) - قلت: الحديث أخرجه الترمذي ـ كما قال شيخنا ـ، وأخرجة البغوي من رواية أب هريرة أيضاُ - رضي الله عنه - وللحديث شواهد كثيرة ذكرها المنذري في ترغيبه: 3/487 وما بعدها فانظر ها.
(2) - قلت: الحديث مروي عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - وقد أخرجة الإمام أحمد والبزار. ورواه البغوي والبيهقي والمنذري وهو في المصنف، وقال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب إسناد هـ جيد أهـ وصدر الحديث في صحيح مسلم.
(3) - قلت: الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أخرجة أبو داود والبخاري في " الأدب المفرد " ورجاله ثقات وصحيحة الترمذي وابن حجر ورواه البغوي والمنذري وقال: إسناده جيد. ورواه ابن حبان في صحيحة(65/286)
نعم إخوتي الكرام: إن الفساد الذي وقع في الأمة الإسلامية عندما تفرقوا وانقسموا ليس عليهم مسئول واحد. أمير واحد يقودهم. فحكامهم انقسموا وتفرقوا. الأمة بعد ذلك وجد فيها هذه الوطنيات المزيفة الضالة فانقسموا وتفرقوا، ثم في الوطن الواحد اتجاهات لا تحصي، هذا البلاء الذي حصل فينا والضياع الداخلي والجفوه بين قلوبنا والعداوة والبغضاء هي أخطر بكثير كثير من تداعي الأمم علينا لان تلك الأمم عندما تتداعي علينا ونحن صف واحد. بنيان مرصوص. الله معنا ((فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ. فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)) (1) إذا كنا نتمسك بالهدي ونحن أخوة متحابون، الله جل وعلا إذا لم يمتعنا بخذلان الكفرة وقتلهم بأيدينا فسيأتي الجيل الذي بعدنا ويحقق هذه الأمنية، وانتقام الله سيقع بهم عاجلاً أو آجلاً. وإذا منّ الله علينا وحقق عذابهم علي أيدينا ففضل وإحسان منه ((أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ)) الواجب عليك في الحالتين ((فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)) إن الكفار بعضهم أولياء بعض. والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. عندما نتخلى نحن عن الولاية فيما بيننا هذا حقيقة: هي قاسمة الظهور ((وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (2) فهم أولياء ونحن لبعضنا أولياء. فإذا صار بعضنا لبعض أعداء. ما هي الحالة، ستكون فتنة في لبعضنا أولياء، فإذا صار بعضنا لبعض أعداء، ما هي الحالة، ستكون فتنة في الأرض وفساد كبير. عندما يعادي بعضنا بعضاً، ماذا سينجح؟ سنتدرس بعد ذلك بين أرجل الكفرة كما هو الحاصل.
__________
(1) - الزخرف: 41: 43
(2) - الأنفال: 73(65/287)
أما وجد في هذه الأيام من يطعن في أهل الإسلام، ويزرع حولهم التهم والبهتان.؟ ثم تأتي بعد ذلك لمفاهيم الوطنية فصارت عنده ماسخة. وكأنها مقررة في الآيات القرآنية. كيف أيها الإنسان نحو معصية أو نحو بدعة أو نحو سوء ظن منك بأخيك إتهمه وحكمت عليه وحكمت؟ ثم جئت بعد ذلك لما هو معلوم من الدين بالضرورة أنه ضلال أقررته؟ ! مَنْ الذي ينكر مفاهيم الوطنية في هذه الأيام؟ ومن الذي يقول للمسؤلين: قفوا عند حدكم واخشوا ربكم، بلاد الإسلام مفتوحة لكل من يقول لا اله إلا الله محمد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الذي يقول هذا؟ هذا كله تركناه وجئنا بعد ذلك: احذروا هذا فعنده سبحه! واحذروا هذا يحلق لحيته! واحذروا هذا عنده معصية واحذروا هذا ففي قلبه مشاكل!.. يا عبد الله أنت تدعوا إلي كفر بواح وتتساهل في هذا. ثم تأتي بعد ذلك إلي شرائب وقعت الأمة فيها ففخمتها وفرقت بين صفوفها من أجلها! ألا دعوت للقضاء علي البلاء الذي انتشر فيها! متي وجدت حواجز بين المسلمين! أما قال الله ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (1) أنت إذا ذهب إلي بيت أخيك يغلق الباب في وجهك أم يستقبلك؟ أنت إذا ذهبت إلي بيت أخيك وجلست ساعة زيارة يشتكي عليك لأنك جلست بغير إقامة وبغير كفيل!! هذا يقع في بلدان المسلمين. وفي رعايا المسلمين: ولا استنكار من أحد من خلق الله. وتراهم يجمعون بعد ذلك: الله والمسئول والوطن!! أين المسلمون؟ ! أين الموحدون! لا ذكر لهم ولا وجود. هذه المفاهيم الضالة التي انتشرت ثم أعرضنا بعد ذلك عن دين الله لما بم يتخذ بعضنا بعضاً أولياء فتوالي الكفار. ثم بعد ذلك ماذا ستكون النتيجة؟ سينتج بعد ذلك عن هذا حرب وقتل وتشريد ودمار. لآن الكفار لعضهم لبعض أولياء. وكافر فقط يحرك أصبعه الأن حتي يسمع من التأييد والموافقة ما لا يخطر ببالنا.
__________
(1) - الحجرات: 10(65/288)
وانظر بعد ذلك للمسلمين فنحن تفرقنا وأولئك يد واحدة، فرقتنا أعظم من اتفاقهم، فجاءتنا الضربة منهم من يد واحدة. ونحن متفرقون. فنحن صرنا بين أرجلهم نضرب كما تضرب الكرة بين أرجل الصبيان ((إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) الفتنة أنه سيوالي بعضنا الكفار عندما ننحرف عن موالاة المؤمنين الأبرار. الفتنة هي أننا سنسحق بالأرض ونوطأ من قبل هؤلاء الذين تآمروا وتداعوا علينا عندما تفرقنا سيصبح بعد ذلك فساد كبير، ستعلوا كلمة الكفر. وكلمة الجاهلية علي كلمة الإسلام، وعلي كلمة الشريعة الإسلامية. وهذا ما نعيشه هذه الأيام، كفانا فرقة إخوتي الكرام، أهل لا اله إلا الله اتقوا الله فيهم، الذين آمنوا بنبينا محمد علية الصلاة والسلام اتقوا الله فيهم وراقبوا رسولكم - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فلا تكفير لموحد، ولا الحكم عليه بالخلود في النار، نعم نحب كل إنسان بمقدار ما فيه من طاعة، ونبغضه بمقدار ما فيه من معصية.(65/289)
إخوتي الكرام: وهذا المسلك كان واضحاً عند أئمة الإسلام. أنظروا لهذه الجملة الجليلة التي يوردها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (1) فر ترجمة شيخ أهل السنة في زمانه الإمام أبي الحسن الأشعري علي بن إسماعيل الذي توفي سنة 324 هـ وقيل بقي إلي سنة 330هـ علية رحمات الله رب العالمين (2) يقول الإمام الذهبي في ترجمته: رأيت للإمام الأشعري كلمة أعجبتني، وهي ثابتة رواها الإمام البيهقي، قال: سمعت أبا حازم العبدري قال: سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليّ أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة لأن الكل يشترون إلي معبود واحد، وإنما هذا كلة اختلاف العبادات. أي هذه الفرق التي حصل بينها ما حصل كما قال نبينا علية الصلاة والسلام. [ستفترق إلي ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة] (3) وهذه التي في النار ما أخرجها نبينا علية الصلاة والسلام من أمته، وهم من أهل الوعيد.
__________
(1) - 15/88
(2) - وقد أفصح في كتابه " مقالات الإسلاميين " في آخر الجزء الأول: 320 ـ 325 تحت عنوان بارز: مقالة أصحاب الحديث وأهل السنة، ثم بعد أن أورد مقالتهم واعتقادهم قال: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول والية نصير وما توفيقنا إلا بالله علية توكلت واليه أينيب. وذكره إذا أيضاً في كتابه الابانه، أنه في اعتقاده علي مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه هذا الذي استغفر عليه هذا الإمام المبارك بعد أن قضي أربعين سنة علي مذهب الاعتزال والضلال ثم رأي النبي علية الصلاة والسلام في العشر الأخير من رمضان في ثلاث ليال متوالية بقول له يا أبا الحسن ذب عن سنتي ـ فعكف في بيته ونظر في أمر الاعتقاد ثم هداه الله لترك الإضلال والاعتزال والالتزام بمذهب أهل السنة والجماعة.
(3) - سبق الحديث بتمامه وتخريجه صفحة 62(65/290)
يعذبون ثم يخرجون حسبما يشاء الحي القيوم، حالهم كحال أهل الكبائر. وأن كانوا أشنع منهم واشد وأفظع والله أعلم بحقيقة أمور عبارة، ويقول: فهؤلاء عندما قالوا: استوى صفه تليق بجلاله وجماله! استواء معلوم وكيف مجهول وأولئك ضلوا وقالوا استولي، لا نكفرهم أرادوا أن ينزهوا المعبود علي حسب زعمهم، فليسوا بكفار، ولا يخلدون في النار قلت ـ الإمام الذهبي ـ وبنحو هذا أدين وكذا كان شيخنا الإمام ابن تيمية في أواخر أيّامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة ـ أي من امة محمد علية الصلاة والسلام ـ ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [لا يحافظ علي الوضوء إلا مؤمن] (1) فمن لا زم الصلوات بوضوء فهو مؤمن.
هذا اعتقاد أبي الحسن الأشعري وبنحوا هذا يدين الإمام الذهبي. وهذا هو الذي كان يقوله شيخه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات ربنا الرحمن.
__________
(1) - قلت: الحديث عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ ـ وفي لفظ ولن يحافظ ـ علي الوضوء إلا مؤمن] أخرجه الإمام أحمد في المسند والإمام مالك في الموطأ. وابن ماجه بإسناد صحيح. الدرامي، والبيهقي وابن حبان في صحيحة، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح علي شرطهما ولا علة له سوي وهم أبي بلال الأشعري، أهـ. أخرجه أبضاَ البغوي والمنذري في الترغيب والترهيب.(65/291)
وقال الإمام الذهبي فر ترجمته الإمام أبي الحسن الأشعري (1) : قلت: رأيت لأبي الحسن تواليف ـ أي تأليف ـ في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات وقال فيها: تمر كما جاءت إيماننا بصفات ربنا يقوم علي دعامتين: إقرار وإمرار نقر بالصفة كما وردت ونمرها دون بحث عن كيفيتها. ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) إمرار ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (2) إقرار. يقول: ثم قال ـ أي أبو الحسن ـ: وبذلك أقول وبه أدين ولا يؤول. قلت ـ الذهبي ـ: مات ببغداد سنة 324 حط علية ـ يعني إنتقصه وتكلم فيه وذمه ـ جماعة من الحنابلة والعلماء، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا من عصم الله ـ وهم رسل الله عليهم صلوات الله وسلامة ـ اللهم إهدنا وارحمنا
فإذا أخطأ أبو الحسن وغيره وأخذ من قوله وترك. كان ماذا؟ ! والإمام إبن كثير تلميذ الحافظ إبن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية، عندما ترجمه في كتابه ((البداية والنهاية)) في حوادث سنة 728 هـ قال:
واعترض علية بعض الناس لوجود أخطاء عنده. قال: وإذا أخطأ الإمام ابن تيمية كان ماذا؟ وما خطؤه في جانب صوابه إلا كقطرة في بحر لجيّ وكل واحد يخطيء ويصيب، ويخذ من قوله ويترك. وتكفل الله لنا بأن من بذل ما في وسعه للوصول إلي مرضاة ربة وأخطأ يغفر الله له خطأه وثييبه علي اجتهاده ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
لا نكفر أحداً من أهل القبلة ولا نحكم عليه بنار.
إخوتي الكرام:
__________
(1) - سير أعلام النبلاء: 15/88
(2) - الشوري: 11(65/292)
وهذا المسلك كان واضحاً عند أئمتنا الأبرار، يقررونه في كتبهم ومصنفاتهم، فالإمام الذهب أيضاً في سير أعلام النبلاء (1) في ترجمة شيخ الإسلام أبي العباس محمد بن إسحق السّراج، وكان يقال له: إنه سّراج، وهو سراج الإسلام. ونور الإسلام ونعته الإمام الذهبي في السير بأنه: لا شيخ الإسلام (2) .
__________
(1) - سير إعلام النبلاء: 14/396.
(2) - ومن فضائله وحبه لنبينا علية الصلاة والسلام أنه ضحي عن نبينا علية الصلاة والسلام باثني عشر ألف أضحية، فكان كل أسبوع يضحي أضحية ويهدي ثوابها لنبنا علية الصلاة والسلام ويجمع طلاب العلم فيأكلون منها وختم أيضاً اثني عشر ألف ختمة وأهداها لنبينا علية الصلاة والسلام وإهداء القرب من أعمال بدنية أو مالية أو مؤلفة منها ـ من بدنه ومالية ـ يصح عند أهـ السنة كما قرر هذا أئمتنا في كتب التوحيد، لكن في خصوص إهداء القرب إلي نبينا علية الصلاة والسلام بحث عند أئمتنا، فالإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية صفحة 411 ذكر أن من علماء الإسلام من استحب إهداء الأعمال والقرب والطاعات إلي نبنا علية الصلاة والسلام ومنهم من كره هذا، لأن السلف لم يفعلوه ولأن هذا تحصيل حاصل، فأنت وان لم تهد جميع ثواب عملك سيكتب لنبنا علية الصلاة والسلام، لأن من دل علي خير فله كمثل أجر فاعلة لكننا نقول: إذا كان الأمر كذلك فليس في الإهداء بدعة. إنما في الإهداء شيء من الأخبار عن مزيد التعلق بالنبي المختار علية صلوات الله وسلامة.أذن ما ابتدع..الإهداء حاصل إن أهدي وان لم يهي والثواب مكتوب لنبنا علية الصلاة والسلام إنما هو من باب أن يخبر أنه فرح بكتابة هذا الثواب لنبنا علية الصلاة والسلام وراض ومسرور ومبتهج، وهذا منّة عظيمة علية أن وفق لفعل الطاعات التي يكتب أجرها لخير البريات، علية صلوات الله وسلامة ايضاً فهذا عمل عظيم، والإمام ابن القيم علية رحمة الله في كتابه " الروح " تعرض لهذه المسألة في موضعين في صفحة 132 وذكر أن إهداء والقرب والطاعات إلي نبينا علية الصلاة والسلام يجوز ولم يحك خلافاً في ذلك ثم أعاد المسألة في صفحة 143، وذكر ما نقلة شارح الطحاوية من أن علماء الإسلام علي قولين في هذا منهم من استحب إهداء الأعمال إلي نبينا علية الصلاة والسلام ومنهم من كرة ذلك ورآه بدعة للأمرين المتقدمين.(65/293)
يقول الإمام الذهبي عن العبد الصالح: قال هذا الإمام المبارك: من لمن يقر بأن الله يعجب ـ أي يتصف بصفة العجب. يعجب ربك من شاب ليست له صبوة ـ ويضحك وينزل كل ليله إلي السماء الدنيا فيقول: من يسألني فأعطية؟ فهو ذنديق كافر يستتاب. فأن تاب وآلا ضربت عنقه، ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
قلت ـ الإمام الذهبي ـ: لا يكفر إلا إن علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ـ كما تقدم معنا، بلغه من وجه يثبت عنده وفهمه وليس عنده شبهه نحوه ـ فإن جحد بعد ذلك فهذا معاند نسأل الله الهدي، وإن اعترف أن هذا حق لكن لا أخوض في معانية، فقد أحسن ـ هذه هي عقيدة أهل الهدي (1) ـ وإن آمن قال ورد أنه ينزل ويضحك ويغضب ويعجب وأول ذلك كله (2) أو تأول بعضه فهو طريقة معروفة. يقصد (بياض)
بهذا أي هذه الطريقة سلكها بعض الناس لوجود شبهه عندهم. طريقة معروفة. وحكمها معلوم. وهو أن هذا لا يجوز وأن هذا لا ينبغي، وتقدم معنا أن الحكم علي القول بأنه لا يجوز وخطأ وضلال لا يلزم منه أن نحك علي القائل بأنه ضل لاحتمال أن يوجد عنده مانع يمنع من إطلاق ذلك الحكم عليه وقد كنت سألت شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي علية رحمة الله عن الذين خاضوا في التأويل في العصر المتقدم في القرن الثالث وما بعده من أئمة الإسلام ثم رجعوا عنه بعد ذلك. قال لي رحمه الله ونور الله قبره وقبور المسلمين أجمعين:
__________
(1) - فعقيدتهم إقرار وامرار، يعجب أي يعجب، يضحك: يضحك، ينزل: ينزل، النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه، وهكذا الضحك وغير ذلك من صفات الله.
(2) - أي اشتعل بالتأويل. فقال مثلاًَ: ينزل أي تنزل رحمنه، أو ينزل مَلَكَهُ.(65/294)
نحن نجزم يقيناً أنهم ما خاضوا في التأويل ودخلوا فيه إلا لضرورات توهموها، فلما رأوا تعلق الزنادقة بظواهر هذه النصوص قالوا نحن نؤلها من أجل أن ندفع ضلالهم ولغطهم عند العامة، فنأولها بما نأولها به، ثم بعد فتره تبين لهم أن هذه الطريق عقيم، وهو طريق سقيم. فرجعوا إلي الهدي فهم عندما أولوا ما قصدوا الباطل ولا أرادوا الضلال لكننا نقول هذه الطريقة خطأ ممن صدرت، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، لكن يبقي من أخطأ من أئمتنا الذين شهد لهم بخير تستغفر له ونتلمس له عذراً، ونسأل الله أن يرحمه، ونقف عند هذا، لكننا لسنا بمتعهدين بإتباع قول أحد كائناً من كان [عليكم بالسواد الأعظم] و [يد الله مع الجماعة] (1)
__________
(1) - قلت: روي ابن ماجه وأحمد من حديث أنس بن مالك رضي - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [إن أمتي لا تجتمع علي ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم] . قال الهيثمي في المجمع: في إسناده أبو خلف الاعمي واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف. أهـ ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة عن أبن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [ما كان الله ليجمع هذه الأمة علي الضلالة أبداً. ويد الله علي الجماعة هكذا. فعليكم بالسواد الأعظم. فإنه من شذ شذ في النار] . وروي هذا الحديث أيضاً الحاكم والبيهقي في " الأسماء " وغيرهم. وروي الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لن تجتمع أمتي علي ضلالة فعليكم بالجماعة فإن يد الله علي الجماعة] .قال البيهقي في المجمع (5/221) : ورواه أي الطبراني ـ بإسنادين ـ رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولي آل طلحة وهو ثقة..أهـ وروي الترمذي عن بن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ان الله لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ علي ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار. قال الترمذي: حديث حسن غريب. أه ـ ورواه النسائي بلفظ: عن شريح الاشجعي: [رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - علي المنبر يخطب الناس فقال إنه سيكون بعدي هنات وهنات فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يرد يفرق أمر أمة محمد كائناً من كان فاقتلوه فإن يد الله علي الجماعة فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض] . وروي الطبراني عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [يد الله عز وجل علي الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم إختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم] قال الهيثمي: وفيه عبد الاعلي بن أبي المساور وهو ضعيف أهـ. وروي الطبراني أيضاً عن عرفجة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: [يد الله مع الجماعة والشيطان مع من خالف يركض] ورجاله ثقات (انظر مجمع الزوائد 5/224)(65/295)
ونتبع ما كان عليه السلف الصالح من صحابة وتابعين عليه رضوان الله أجمعين.
إذن: من علم وعاند، حقيقة هذا جاحد وصاحب هوي. كافر زنديق ـ كما قال الإمام السّراج ـ نسأل الله العافية، من علم ولآمن وقال: لا أخوض في معناه، فقد أحسن، فهذا فوّض؟، من آمن ثم أوّله كله أو بعضه طريقة معروفه، ومعروف حكمها، وأن هذا ما ينبغي أن يسلكه الإنسان، وطريقة خاطئه، ولا يلزم من أن هذه الطريقة باطلة أن نحكم علي من سلكها بوجود عذر عنده بأنه ضال كافر.
إخوتي الكرام:
هذا الأمر ينبغي أن يرسخ عندنا في هذه الأيام: لا نكفر أحداً مهن أهل الإسلام، ولا نتطاول علي عباد الله ,فلا نحكم علي واحد منهم بالنيران أو بالخلود فيها، نسأل الله أن يرزقنا خشيته في السر والعلن، وكلمة الحق في الرضا والغضب والقصد في الغني والفقر، وأن يجعل خير أيامنا يوم نلقاه أنه أرحم الراحمين وأكرم الاكرمين.
إخوتي الكرام:
وهذا الأمر لا بد من وعيه في هذه الأيام بعد أن ضاعت دولة الإسلام في هذه الأيام، وتداعي اللئام علينا من كل جانب، عدا عن كل هذا، حصل 221نا فرقة، بكفر بعضنا بعضاً ويضلل بعضنا بعضاً.
ولا غرو في ذلك لأننا عندما نحن علمنا هذا الجيل إطلاق ألسنتهم فيمن سبقهم، أطلقوا ألسنتهم بعد ذلك فينا، ولذلك تشهدون في هذه الأيام الضجيج الذي تعيشه هذه الأمة. هذا يصدر كتاباً في تكفير بعض العلماء، وذلك يصدر كتاباً في الرد عليه، وأن هذا من شيوخ الإسلام. لماذا؟ لأننا نحن في أول الأمر ـ إخوتي الكرام ـ لم نتأدب بأداب الإسلام في علمنا، ولم نتق الله، وهذه الأمة حقيقة تعيش الأن بلا راع، وما مر علي الأمة الإسلامية وقت أفظع ولا أشد ولا انكي ولا أمّر من هذه الأيام التي تعيش فيها، ونسأل الله أن يلطف بأحوالنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام: قررت هذا , فانتبهوا له.(65/296)
وُجِدَ في طلبة العلم في هذه الأيام ـ كما قلت ـ من يطلق لسانه فيقول: إن الذهبي تالف في العقيدة!!. من يطلق لسانه فيقول: أن الإمام النووي مخرف لا يعوّل عليه!!. من يطلق لسانه فيقول: أن حجر الأشعري مؤول ضال!!. ابن حجر العسقلاني مؤول ضال؟ سبحان الله! أئمة الإسلام كيف تتجرؤن عليهم هذه الجرأة؟ ولا أعني أن العصمة لهؤلاء. فإذا ثبت الخطأ عن أحد منهم فليطرح ممن صدر. لكن ينبغي أن نتقي الله نحو القائل، فالقائل إن كامن من أئمة الهدي نلتمس له عذراً ونستغفر له، وأمره موكول إلي ربه، وأن كان من أئمة الضلال المعروفين بالهوي والزيغ، فلنا بعد ذلك معه موقف أخر، نقول إنه ضال. ولا داعي ـ كما قلت ـ للتكفير ولا الحكم علية بالخلود في نار الجحيم. أما إذا كان من أهل الهدي والرشاد والاستقامة والصلاح فلا يجوز أن نقول: إنه مبتدع، وإن كان القول الذي قال به بدعة.
إخوتي الكرام:
قبل أن انتقل إلي مبحث الحسنة. سأقرر هذا بمثالين (1) ليكونا تكملة لما سبق:
إخوتي الكرام:
الحلف بغير الله، والقسم بغير الله حرام عند جمهور أئمة الإسلام. لما ثبت في الصحيحين وفي الكتب السنن الأربعة باستثناء سنن أبي داود، من حديث ابن عمر وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال [من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] . وهذا الذي قرره الإمام أبو حنيفة والشافعي والإمام مالك وأتباعهم علي هذا القول.
الإمام أحمد ـ رحمة الله ونور قبره ونضر وجهه، وجميعنا معه في جنات النعيم نع عباد الله المقربين ـ خالف في هذه المسألة، فهل يجوز لصعلوك في هذا الوقت ان يتهجم علي هذا الإمام المبارك؟
__________
(1) - قلت: قول شيخنا: سأقرر هذا.. أي الذي سبق الكلام عليه من نقاط متعددة كالكلام علي أئمة الإسلام وغيرها من النقاط.(65/297)
استمع إلي ما يقره الحنابلة في كتاب المغني (1) يقول الإمام ابن قدامة: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث فيها، هذا ظاهر كلام الخرقي. وهو قول أكثر الفقهاء، وقال أصحابنا: الحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحنث فعليه الكفارة.
سبحان الله الإمام احمد إمام أهل السنة يقول هذا القول؟ ! وأنالا أتردد في أن هذا القول خطأ وباطل وليرد علي من قاله، لكن هل يجرؤ واحد منا أن يقول: إن الإمام أحمد مبتدع. ضال صاحب هوي، خالف حديث النبي علية الصلاة والسلام وردّه؟؟ !
والله لأن أخر من السماء، ولأن أتلبس بكل ذنب ـ خلا الشرك ـ أيسر عليّ من أن أقول شيئاً من هذه الأقوال، وهذا الهراء.
لماذا تقول أيها الإمام المبارك: يجوز الحلف برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وإذا حلف برسول الله عليه صلوات الله وسلامه فهذه يمين منعقدة تجب الكفارة فيها إذا حنث، لماذا تقول وقد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله؟ حلف تقول هذا من باب الهوي؟.
قال: لا، عندي تعليل ـ وهذا التعليل الذي أتي به من أجله كما قلت لا نحكم علي القائل بأنه مبتدع. وإن كان هذا التعليل مردوداً عندنا ـ يقول الإمام أجمد عليه رحمة الله وهو قول الحنابلة:
__________
(1) - الجزء 11/209.(65/298)
لأن الإيمان برسول الله عليه صلوات الله وسلامه أحد شرطي الشهادة. فالحلف به موجب للكفارة. الحالف باسم الله، الشهادة لها ركنان وشرطان تقوم عليها: لا اله إلا الله محمد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ، فلا يصح إيمان إنسان حتي يؤمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام , فكما إن الحلف بالله يجوز ويمين منعقد فالحلف بالشطر الثاني الذي هو شرط لقبول الشهادة، وهو الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث الحالف، هل قال هذا الحكم أخذ من توراة. أو انجيل، أو من كتاب لينين. أو كار لماركس، أو من عُرْف أو من عادة جاهلية؟ !! ربط هذا بدليل شرعي، أصاب أو أخطأ؟ هذه مسألة ثانية. فاتق ربك وقف عند حدك. فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له ورحمة الله واسعة.
والوجه الأول: أي قول الجمهور أنه لا يجوز الحلف بغير الله:
قول النبي علية الصلاة والسلام: [من كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت] (1) ولأنه حَلِفٌ بغير الله فلم يوجب الكفارة كسائر الأنبياء، ولأنه مخلوق فم يجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم علية السلام، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معني المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله علي اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثله.
حقيقة: قول الجمهور أقوي، بل هو الحق، وهذا ينبغي أن يطرح ويلغي، لكننا نستغفر لقائله ونترحم عليه ونترضي عنه ونقف عند حدنا، قول قاله فيما يتعلق بأمر اعتقاد. وهو أن الحلف بالمخلوق يجوز وتنعقد اليمين، وفيها الكفارة إذا حنث، هذا صادم الأدلة.
__________
(1) - سبق تخريجة في الصفحة السابقة.(65/299)
ونقول: هذه العلة التي ذكرتها (1) ردها النبي عليه الصلاة والسلام بقوله [من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] و [من حلف بغير الله فقد أشرك] (2) فتعليلك إذن أنت مأجور عليه. وما قصدت بهذا التعليل، ولا بهذا الحكم معارضة النبي علية الصلاة والسلام، ولا إبطال شرعة فإذا كان الأمر كذلك نقف عند حدنا لا يلزم من أن يكون القول بدعة أن يكون القائل مبتدعاً.
ولذلك ـ إخوتي الكرام ـ قلت: إن تأوبل نصوص الصفات بدعة وضلال، ولا نتوقف في هذا، فلو قيل لنا: أن الإمام الننوي ـ علية رحمات ربنا القوي ـ يؤول، هل نجرؤ علي الحكم علية بالبدعة؟ نقف. وكنت ذكرت لكم ما أجابني به شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي علية رحمة والله بأننا نجزم ونقطع بأن أولئك ما خاضوا في التأويل إلا لضرورة دعتهم لكنهم أخطأوا. هذا أمر آخر. لكن إنسان يخطيء ويصيب ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي علية صلوات الله وسلامة. لكن بما أنه من أهل الهدي فإن أخطأ فلنطرح هذا الخطأ، ولنستغفر لقائلة، ثم بعد ذلك نأخذ بما يشهد له الدليل وبما يتمشي مع الدليل، هذا المثال الأول فلنكن منه علي بال، (بياض)
أما المثال الثاني:
__________
(1) - قلت: قول شيخنا: العلة التي ذكرتها.. يخاطب هنا الإمام أحمد رحمة الله
(2) - قلت: الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك] . أخرجه الإمام أحمد في المسند. والإمام الترمذي، والنسائي. وابن ماجه، وأبو داود، والدارمي ورواه الترمذي وابن حبان بلفظ: [فقد كفر وأشرك] للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك.(65/300)
فيما يتعلق بالإمام ابن قدامة (1) يقول الإمام الذهبي علية رحمة الله في سير أعلام النبلاء في ترجمته (2) قال أبو شامة (3) في كتابه " الذيل علي الروضتين" في صفحة 139 كان ـ أي الإمام ابن قدامه صاحب كتاب المغني ـ إماماً علماً في العلم والعمل، صنف كتباً كثيرة، لكن كلامة في العقائد علي الطريقة المشهورة عن أهل مذهبه , ـ يعني الحنابلة (4) ـ فسبحان من لم يوضح له الأمر فيها علي جلالته في العلم، ومعرفته بمعاني الأخبار.
سبحان الله! هل صارت طريقة السلف التي التزم بها الإمام ابن قدامة طريقة فيها خفاء وطريقة مردوده حتي أنك تعظم الله وتتعجب من مسلك الإمام ابن قدامة كيف أن الله ما أظهر له الحق في أمر الاعتقاد وما أوّل كما أولت أنت؟ ّّ هذا كلام باطل.
__________
(1) - الإمام المبارك شيخ الإسلام الإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الذي توفي سنة 620 هـ، وهوة محقق المذهب الحنبلي، وشارح نختصر الإمام الخرقي في كتابه " المغني " في مجلداته الكبيرة، وهو في هذه الطبعة أثني عشر مجلداً
(2) - في الجزء 22 صفحه 172، بعد أن نعته بأنه شيخ الإسلام، وأن الكرامات متواترة عنه - رضي الله عنه - وأرضاه.
(3) - الإمام أبو شامة علية رحمة الله، صاحب كتاب " إبراز المعاني من حرز الأماني " التي هي أحسن شروح الشاطبة في القراءات السبع، وصاحب كتاب " المرشد الوجيز " لقب بأبي شامة لشامة كبيرة كانت علي حاجبة الأيسر علية رحمة الله، أبو شامة وهو عبد الرحمن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، توفي سنة 665 هـ يعني بعد الإمام ابن قدامة بقرابة خمس وأربعين سنة.
(4) - يعني أنه لا يؤول. يقول: الاستواء معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا النزول والضحك والعجب والغضب والرضي والرحمة وسائر صفات الله التي يتصف بها - سبحانه وتعالى -.(65/301)
أنظر لكلام الإمام الذهبي وتعليقة عليه , الذي هو ذهب خالص (1) يقول الإمام الذهبي قلت: هو وأمثاله متعجب منكم مع علمكم وذكائكم كيف قلتم (2) وكذا كل فرقة تتعجب من الاخري، ولا عجب في ذلك.
طيب ما موقفك يا إمام ,أنت تلميذ الإمام ابن تيمية، وسلكت مسلك السلف في صفات رب البرية، ما موقفك نحو هذين المختلفين في هذا الأمر؟
قلا الإمام الذهبي، ولا عجب في ذلك، ونرجو لكل من بذل جهده غي تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة.
أقول لكم ولا أبالغ: لو أن صغار بعض طلبة العلم الذين حملوا السّلم في العرض، وأطلقوا ألسنتهم أمتاراً، لا أشباراً ,وقف علي هذا الكلام للعن الإمام أبا شامة. قبل أن يفرغ من قراءة تعليق الذهبي للعنه!! أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم. نحو أمة نبينا محمد علية الصلاة والسلام. وخاصته نحو هذه الأمة، والله لا يرتع في أعراض العلماء الصالحين إلا من لعنه الله وغضب عليه، اعلم أخي إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (3) .
__________
(1) - وحذار حذار من لفظ طلية علم هذا الزمان أن الذهبي تالف في الاعتقاد؟!! احذروا هذا إخوتي الكرام.
(2) - أي انتم تتعجبون منه، وهو وأمثاله ممن سار عليه طريقة السلف الذين يؤمنون بصفات الله جل وعلا علي الكيفية الشرعية: إقرار وامرار. ((َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) ــ (الشورى: 11) ـ يقرون بالصفة كما ثبتت عن نبينا علية الصلاة والسلام. ويمرونها دون البحث في كنهها وكيفيتها. فالعجز عن درك الإدراك إدراك. والبحث في كنه ذات الإله إشراك. وكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك - سبحانه وتعالى -.
(3) - النور: 63(65/302)
إن لم يكن العلماء العاملون أولياء الله فليس لله ولي في الدنيا ولا في الآخرة، فلنتق الله نحو علماء الإسلام، فإذا أخطأوا كان ماذا؟ ولا شيء علي الإطلاق، وهذا هو حال البشر: يخطيء ويصيب، لكن النية إذا كانت تريد الحق وتقصده غفر الله لنا بفضله ورحمته. إذا قصدنا الحق ولم نصب غفر الله لنا عدم إصابتنا ومنّ علينا بأجر علي قصدنا، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إخوتي الكرام:
هذا الإمام المبارك ـ اعني ابن قدامة علية رحمة الله ـ كما أنه كان يقول في آيات الصفات بمسلك وطريقة السلف، وكان أيضاً يسلك مسلك السلف الصالح في عدم الحكم بالخلود في النار علي المبتدعين الذين كُفَّروا ببدعتهم، وتقدم.
وتقدم معنا كلام الإمام الذهبي (1) : كل من حكم عليه بكفر من أجل بدعته فنجوا أن لا يخلد في النار، وليس هو كاليهود والنصاري والمجوس وعباد الوثن.. وقرر هذا وختم ترجمته ذلك العبد ـ بشر المريسي ـ بهذا الكلام الحق.
الإمام ابن قدامة علية رحمة الله جري بينه وبين بعض الحنابلة المعاصرين له شيء من الخلاف في هذه المسألة وهو الإمام محمد الخضر بن تيمية، من أجداد الإمام شيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم بن تيمية، وهذا الذي كان معاصراً للإمام ابن قدامة توفي سنة 622 هـ (2) ينقل لنا حاصل الخلاف بينهما الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه "الذيل علي طبقات الحنابلة" (3) .
يقول الإمام ابن رجب:
__________
(1) - الجزء10/202 عند ترجمة العبد المخذول بشر المريسي الذي هو بشر كما أن بشر الحافي هو بشر الخير، والإمام أحمد هو احمد السنة كما أن أحمد بن أبي دؤاد هو أحمد الضلال.
(2) - يعني بعد الإمام ابن قدامة بسنتين اثنين.
(3) - الجزء 2/154. والإمام ابن رجب توفي سنة 795 هـ(65/303)
ووقع بين الشيخين أيضاً تنازع في مسألة تخليد أهل البدع المحكوم بكفرهم في النار (1) وكان الشيخ الموفق أبن قدامة لا يطلق عليهم الخلود (2) فأنكر ذلك عليه الشيخ الفخر ابن تيمية وقال: إن كلام الأصحاب مخالف لذلك، وأرسل يقول للشيخ موفق الدين ـ ولخص الإمام ابن رجب هذه الرسالة في قرابة ثلاث صفحات أقرأ المهم منها (3) كتاباً أوله:
إخوه في الله عبد الله بن أحمد يسلم علي أخيه الإمام الكبير فخر الدين جمال الإسلام ناصر السنة أكرمة الله بما أكرم به أولياءه، وأجزل من كل خير عطاءه، وبلغه أجله ورجاءه، وأطال في طاعة الله بقاءه.
سبحان الله! بينكما خلاف وهذه الألفاظ تثني بها علي من خالفك؟ هذه حال السلف ولا داعي بعد ذلك للتنابز بالألقاب والهجاء المرير، لنتعلم الأدب من مراسلات علمائنا المتقدمين: أخوة في الله. فإذا اختلفنا سيبقي قول الله يشد أزرنا ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) (4) إلي أن قال:
إنني لم أَنْهَ عن القول بالتخليد نافياً له، ولا عدت القول به منصراً لضده، إنما نهيت الكلام فيها من الجانبين إثباتاً أو نفياً كفاً للفتنة بالخصام فيها، وإتباعاً للسنة في السكوت عنها، إذا كانت هذه المسألة من جملة المحدثات فأشرت علي من قبل نصيحتي بالسكوت عما سكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والأئمة المقتدي بهم من بعدهم..
__________
(1) - أي تنازعوا: هل نخلدهم في النار أولا؟ هذا فيمن حُكرم بكفره من اجل بدعته.
(2) - أي يتوقف. يقول بدعة مكفرة، نكفرهم. لكن الخلود نتجنبة، الحكم عليهم بأنهم مخلدون: نبتعد عنه.
(3) - أنظر كيف تستدرك هذه الهفوة
(4) - الحجرات: 10(65/304)
إلي أن قال: واما قوله وفقه الله: أني كنت مسألة أجماع (1) فإنني إذا كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حزبه متبعاُ لسنته، ما أبالي من خالفني، ولا من خالف فيّ، وتركوها وعادوني من أجلها، لما أردت لها إلا لزوماً، ولا بها إلا ارتباطاً، إن وفقني الله لذلك، فإن الأمور كلها بيديه، وقلوب العباد بين أصبعيه.
وأما قوله ـ أي قول هذا الأخ الناصح ـ إن هذه المسألة مما لا تخفي، وهي أن من يحكم بكفره من أجل بدعته يخلد في النار، فقد صدق وبرّ، ما هي بحمد الله عندي خفيه، بل هي مُنْجَلَيَة. مُضٍيَّة، ولكن إن ظهر عنده بسعادته تصويب الكلام فيها تقليداً للشيخ أبي الفرج ـ أي ابن الجوزي ـ وأبن الزغاوني، فقد تيقنت تصويت السكوت عن الكلام فيها (2) إتباعاً لسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، ومن هو حجة علي الخلق أجمعين، ثم لخلفائة الراشدين، وسائر الصحابة والأئمة المرضيين، لا أبالي من لا مني في إتباعهم، ولا من فارقني في وفاقهم، فأنا كما قال الشاعر:
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حباً لذكرك فليلمني اللَوَمُ
__________
(1) - يقول ابن قدامة لفخر الدين محمد بن الخضر بن تيمية: تقول لي إنني كنت محل إجماع، يعني جميع العلماء يقبلون قولي، وأنا لا يخالفني احد , فلما قلت إن من يحكم بكفرهم لبدعتهم لا يخلدون في النار خالفني من خالفني وما بقيت الكلمة مجمعة عليّ
(2) - أي أنا متيقن أن السكوت هو الواجب(65/305)
فمن وافقني علي متابعتهم، وأجابني إلي مرافقتهم وموافقتهم فهو رفيقي (بياض) وصديقي، ومن خالفني في ذلك فليذهب حيث شاء، وقوله سعادته: إن (بياض) بأن لفظ التخليد لم ترد، ليس بشيء (1) فأقول لكن عندي أنا هو الشيء الكبير (2) والأمر الجليل الخطير، فأنا أوافق أئمتي في سكوتهم كموافقتي لهم في كلامهم، الأول إذا قالوا، وأسكت إذا سكتوا، ولا أسير إذا ساروا، وأقف إذا وقفوا، وأحتذي طريقهم في كل أحوالهم جهدي، ولا أنفرد عنهم خيفة الضيعة إن سرت وحدي فأما قوله , فهذا متضمن أن قول الأصحاب ـ يعني الحنابلة ـ هو الحجة القاطعة. وهذا عجب (بياض) الأصحاب علي مسألة فرعية. أكان ذلك حجه (بياض) (3) ويكتفي بذكرها؟ فإن كان فخر الدين يري هذا فما يحتاج في تصنيفة إلي ذكر دليل، سوي قول الأصحاب وأن كان لا يري ذلك حجة في الفروع فكيف جعلة حجه في الأصول؟ وهب أنا عذرنا العامة في تقليدهم الشيخ أبا الفرح وغيرة من غير نظر في دليل، فكيف يعذر من هو أمام يرجع إليه في ألواح العلوم؟
__________
(1) - يعني قوله إنه لفظ التخليد لم يرده وورد في الحديث [كلها في النار الا واحدة] * ولم يقل النبي علية الصلاة والسلام أنهم مخلدون أي فرق الأهواء ـ هذا ليس بشيء أي ليس بأمر كبير. إذا ما ورد هذا فنحن نأخذ هـ من النصوص ونحكم عليهم بالخلود.
(2) - أي قولك لم يرد لفظ التخليد، وهذا ليس بشيء فنحن إذا أطلقناه لا حرج
* قلت: تقدم الحديث صفحة 62
(3) - أي لو أجمعوا علي فرع من فرع الشريعة هل هذا يكفي؟ لا يكفي إلا أن يجمع علماء الأمة جميعاً(65/306)
ثم بعد ذلك يقول له: ثم إن اتفق الكل علي تكفيرهم (1) فليس التخليد من لوازمة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أطلق التكفير في مواضع لا تخليد فيها ـ وذكر حديث [سباب المسلم فسوق وقتاله كفر] (2) وغيره من الأحاديث كنا ذكرناها وبينا قول أهل السنة فيها ـ وقال أبو نصر التجزي، اختلف القائلون بتكفير القائل بخلق القرآن، فقال بعضهم: كفر ينقله من الملة وقال بعضهم كفر لا ينقل عن الملة، ثم أن الإمام أحمد الذي هو أشد الناسي علي أهل البدع قد كان يقول للمعتصم (3) يا أمير المؤمنين، ويرى طاعة الخلفاء الداعين إلي القول بخلق القرآن. وصلاة الجُمع والأعياد خلفهم. ولو سمع الإمام أحمد من يقول هذا القول (4) الذي لم برد عن النبي علية الصلاة والسلام. ولا عن أحد مثله لأنكره أشد الإنكار، فقد كان ينكر أقل منة هذا، ثم إن علمتم أنتم هذا أفيحل لي ولمثلي ممن لا يعلم صحة هذا القول أن يقول به؟ أما من قد أطلع علي الإسرار، وعلم ما يفعله الله علي جِلَيتِهِ فما أنكرت عليه، ولا يبقي له أن يأمرني أن لأقول بمقاله مع جهلي بما قد علمه.. الخ
__________
(1) - أي هب أن جميع العلماء حكموا علي فاعل البدعة بالكفر ومن قال بدعة مكفرة كفروه ...
(2) - قلت: تقدم الحديث صفحة 90.
(3) - الذي تبني بعد المأمون محنة الناس بخلق القرآن. وفي عهده ضرب الإمام أحمد فماذا كان يقول الإمام احمد لذلك الخليفة المبتدع.
(4) - أي أن القائل بخلق القرآن كافر يخلد في النار.(65/307)
وأما قولك بسعادتك (1) فإن قنع مني بالسكوت فهو مذهبي وسبيلي، وعليه تعويلي وقد ذكرت عليه دليلي، وإن لم يرض مني إلا أن أول مالا أعلم، وأسلك السبيل الذي غيرة أسدّ وأسلم، وأخلع عذاري في سلوك ما فيه عتاري وبسخط عليّ الباري، ففي هذا التلاقي تلاقي، وتكرير صافي أو صافي، لا يرضاه لي الأخ المصافي، ولا من يريد إنصافي، ولا من سعي في إسعافي، والتابعة ولو أنه بشر الحافي.... إلي أن قال ـابن قدامه ـ:
واعلم أيها الأخ الناصح أنك قادم علي ربك ومسؤول عن مقالتك هذه، فانظر من السائل، وانظر ما أنت له قائل، فأعد للمسألة جواباً، ولا تظن أنه يقنع منك في الجواب بتقليد بعض الأصحاب.. إلي إن قال:
وانتم إن كنتم أظهركم الله علي غيبه، وبرأكم من الجهل وعيبه، وأطلعكم علي ما هو صانع بخلقه فنحن قوم ضعفاء قد قنعنا بقول نبينا - صلى الله عليه وسلم - وسلوك سبيله، ولم نتجاسر علي أن تتقدم بين يدي الله ورسوله، فلا تحملوا قوتكم علي ضعفنا، ولا علمكم علي جهلنا، وهذه رسالة (بياَض) هذا القدر.
هذا الأمر ينبغي أن نعيه ـ أخوتي الكرام ـ في هذه الأيام، لا يلزم من الحكم علي القول بأنه بدعة أو انه ضلال، أو أنه كفر، أن يكون من قال به ضالاً، مبتدعاً، كافراً، أحذروا أمرين: لا تطلقوا لفظ الكفر علي أخذ من أهل القبلة، علي أحد من أمة نبينا محمد علية الصلاة والسلام، ما لم يستحل ما حرم الله، ويتهزيء بشريعة الله، واياكم اياكم أن تطلقوا لفظ الخلود بالنار، الحكم بالخلود بالنار علي مبتدع إذا صدر من مهتدي، ولا يعني هذا أننا نأخذ بالخطأ إذا صدر من أمام صالح، لا ثم لا، الخطأ والبدعة ترد علي كل أحد والحجة في النصوص الشرعية لكن هذا الأمر ينبغي أن يرسخ في أذهاننا.
__________
(1) - أنظر كيف تتلافى هذه الهفوة. وتزيل تكدير الصفوة.(65/308)
وأقول لكم، عندما أُدَرّسُ محاضرات التوحيد الاخواتي الطلاب، وأتكلم علي بطلان تأويل نصوص الصفات، وأن هذا ضلال وبدعة، قلَّ أن القي محاضرة حول هذا إلا ويتبعني عدد من الطلاب يقول: يا شيخ إذن الاشعرية نكفرهم؟ ! سبحان الله! يا أخي الكريم نقول: هذا القول بدعة وضلال، فما الذي أخذك بعد ذلك إلي تكفير هؤلاء العلماء الذين أخطأوا في هذا المسلك، خطأهم يرد عليهم، فنحن الأن الواجب علينا أن نحصّن أنفسنا مما لا يدل عليه شرع ربنا، أما الحكم علي غيرنا، مالك ولهذا؟ أناس أخطاوا لهم أعذار. الله يعفو عنهم، يثيبهم، يعاقبهم، لا تنصب نفسك حكماً علي عباد الله، هذا القول عندنا خطأ وباطل فمن صدر، من كبيرا وصغير، فالقسم بغير الله لا يجوز سواء قال الإمام أحمد أو الشافعي: انه يجوز أولا يجوز، عندنا نصوص شريعة نحتكم إليها. وُجِدَ بعد ذلك خطأ، الإمام أحمد معروف عندنا، إمام أهل السنة الإمام الشافعي كذلك، فإذا أخطأ في تعليل شرعي يطرح هذا الخطأ ونستغفر له وما كلفنا الله إلا بإتباع شرعية ((وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)) (1) انتبهوا لهذا إخوتي الكرام في هذا الأيام، احذروا تكفير المسلمين، واحذروا الحكم عليهم بالخلود في نار الجحيم.
أسأل الله أن يجعل قلوبنا وألسننا سليمة نحو امة نبينا محمد علية الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرامين، وصلي الله وسلم الله علي نبينا محمد وعلي جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) - الأحزاب:25(65/309)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ورضى الله عن الصحابة الصادقين المفلحين عمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين اللهم زدنا علما نافعا وعملا صالحا بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك سبحانك الله وبحمدك على عفوك بعد قدرتك اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد إخوتى الكرام
سنتدارس كما قلت فى كل أسبوع موعظتين فى علم الفقه فى يوم الأحد ويوم الإثنين نسأل الله أن يعيننا على ذلك وأن يتقبل منا بفضله ورحمته
إخوتى الكرام وهذه أول موعظة فى هذا العلم المبارك سأقدم لهذا العلم مقدمة تقوم على أمرين اثنين:
الأمر الأول فى بيان منزلة علم الفقه فى الدين فى شريعة رب العالمين
والأمر الثانى فى تراجم أئمتنا المهتدين ساداتنا أئمة المذاهب الأربعة المتبعة سيدنا أبى حنيفة النعمان فقيه هذه الملة المباركة المرحومة الذى توفى سنة خمسين بعد المائة وهكذا سيدنا الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه أبو عبد الله الذى توفى سنة تسع وسبعين مائة والثالث سيدنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى الذى توفى سنة أربع ومائتين والإمام الرابع الإمام المبجل سيدنا أحمد بن حنبل الذى توفى سنة إحدى وأربعين بعد المائتين ويكنى بأبى عبد الله أيضا عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه
أما الأمر الأول إخوتى الكرام من هذين الأمرين كما قلت فى منزلة الفقه فى الدين فى شريعة رب العالمين فسأقدم لهذا الأمر الذى قلت كما قلت مقدمة سأقدم له مقدمة فى بيان منزلة العلم وإذا ظهرت لنا منزلة العلم أحدد منزلة علم الفقه من العلم(66/1)
إخوتى الكرام أما العلم فشأنه عظيم ويكفى بيان حقيقته ما قاله الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه
قال يكفى فى بيان شرف العلم أن كل أحد يحب أن ينسب إليه ولو فى أمر حقير يعنى العلم بأمر حقير لو قلت هذا يعرف ويعلم يعنى كيف يزرع الشجر كيف يبنى بيت الدجاج كيف يرتب الباب إذا وصفته نعته بالعلم حتى فى أمر حقير تراه يفرح يكفى فى شرف العلم أن كل أحد يحب أن يمدح به أن يوصف به ولو فى أمر حقير وكل أحد يحزن إذا رفع عنه هذا الوصف ولو فى أمر حقير
إذا قلت هذا يجهل يعنى أمرا من الأمور الحقيرة يعنى كأنه ينكسر خاطره فكل أحد يحب أن ينسب إلى العلم وكل أحد يكره أن ينسب إلى الجهل هذا يكفى فى بيان شرف العلم كما قال الإمام الشافعى رضى الله عنه وأرضاه
وقد جاءت الآيات المحكمات فى كتاب رب الأرض والسماوات والأحاديث المتواترات عن نبينا خير البريات على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه والآثار الكثيرات عن سلفنا أصحاب العقول الزاكيات فى بيان منزلة العلم وشأنه
أما الآيات سأقتصر منها على ثلاث:
الآية الأولى التى تبين لنا منزلة العلم وفضله ومكانة العالم ورتبته يقول ربنا الرحمن فى سورة آل عمران {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} [آل عمران/18] سبحانه وتعالى
شهد الله أنه لاإله إلا هو حكم سبحانه وتعالى بذلك وقال هذا وبينه حكم بذلك وقاله وبينه فشهد لنفسه بالألوهية والربوبية والوحدانية سبحانه وتعالى ثم ثنى بمن شهد له بذلك والملائكة وثلث بأولى العلم من أنبياء الله المباركين على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن خلفائهم ورثتهم العلماء العاملين {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} الله جل وعلا هو القائم بالقسط المقيم للعدل سبحانه وتعالى بأمره وقسمه وجزائه,(66/2)
بأمره أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الفاحش والإثم والعدوان
وقسمه هو الذى يرزق من يشاء سبحانه وتعالى يعز من يشاء يحيى ويميت لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه
وجزائه هو الذى يثيب كل عامل على ما عمل إن خيرا فخير وغن شرا فشر {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (الزلزلة7-8)
{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}
والآية الثانية إخوتى الكرام فى سورة الزمر وفيها يقول ربنا عز وجل {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [الزمر/:9]
حقيقة لا يستوى من هو عالم مع من هو جاهل والعالم هو الذى يخشى الله عز وجل وثمرة العلم الخشية ولذلك هم يقنتون للحى القيوم آناء الليل ساعات الليل يحذرون الآخرة ويرجون رحمة الله جل وعلا هل يستوى من هذا شأنه ومن كافر بالله؟ لا
وهكذا لا يستوى العالم والجاهل {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}
والآية الثالثة إخوتى الكرام فى سورة فاطر وفيها يقول الله عز وجل {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} [فاطر/27-28] (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)(66/3)
إخوتى الكرام وجاء تركيب الآية بهذه الصيغة (إنما يخشى الله من عباده العلماء) ولم يقل رب الأرض والسماء إنما العلماء يخشون الله ليفيد إفراد العلماء بالخشية من الله عز وجل فهم الخاشون للحى القيوم سبحانه وتعالى هم الخاشون لا غيرهم ولو قال إنما العلماء يخشون الله لكان فى ذلك بيان للمخشى منه وهو الله لا إفراد العلماء بالخشية من الله عز وجل إنما المقصود هنا أنهم هم الذين يخشون لا غيرهم فإذن لبيان هذا الأمر قدم الله ذاته المباركة سبحانه وتعالى اسمه المبارك المفعول به (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) فهم الذين يخشونه لا غيرهم ولو قال إنما العلماء يخشون الله فى ذلك بيان أن العلماء يخشون الله ولا يخشون أحدا غيره كما قال جل وعلا فى سورة الأحزاب (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) وليس فى تلك الآية من الوصف للعلماء كما هو فى سورة فاطر هنا نعتهم بالخشية التى هى خاصة بهم (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)
نعم إخوتى الكرام إذا وجد العلم النافع سيتبعه عمل صالح وخشية لله عز وجل سبحانه وتعالى
القوة العلمية إذا لم تتبعها قوة عملية فلا خير فيها ولا مدح لأن الإنسان سيلتحق بأهل الملة الغضبية علم من غير عمل هذا طريق اليهود عليهم لعائن ربنا المعبود كمت تقدم معنا إيضاح هذا فى مواعظ التفسير عند قول ربنا الجليل (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
ولذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء علم مع عمل أنتج الخشية لله عز وجل سبحانه وتعالى وكلما كثر علم الإنسان كلما زادت خشيته من ذى الجلال والإكرام(66/4)
ثبت فى المسند والصحيحين وغير ذلك من دواوين السنة والحديث فى أعلى درجات الصحة من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضى الله عنها وأرضاها قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ترخص فيه فتنزه عنه أقوام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بال أقوام يتنزهون عن الشىء أفعله أما والله إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)
وتقدم معنا إخوتى الكرام ضمن مواعظ التفسير أيضا أن الشىء الذى فعله نبينا صلى الله عليه وسلم وترخص عنه من ترخص فسر بعدة أمور كما ورد فى الروايات الثابتة:
منها القبلة للصائم وتقدم معنا ثبت هذا فى صحيح مسلم وغيره
ومنها كما تقدم معنا إدراك الفجر على النبى عليه الصلاة والسلام وهو جنب أيضا هذا مما كان يترخص فيه وينوى الصيام بعد ذلك عليه الصلاة والسلام ويطلع عليه الفجر وهو جنب أحيانا فبعض الناس يعنى تنزه عن هذا ورأى أنه إذا طلع الفجر عليه وهو جنب لا يصح صومه
والأمر الثالث كما تقدم معنا من الأمور التى فعلها عليه الصلاة والسلام وسلك طريق القصد من أنه عليه صلوات الله وسلامه كان يصوم ويفطر ويصلى ويرقد ويتزوج النساء فقال من قال أين نحن من خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ثم بعد ذلك بعضهم عزم على أن يقوم الليل وبعضهم على أن يصوم الدهر وبعضهم على أن لا يتزوج فقال النبى عليه الصلاة والسلام (من رغب عن سنتى فليس منى) أمر ثالث هذا
وأمر رابع قلت ذكره أئمتنا ولم أقف له على دليل وهو القصر فى السفر فعل هذا عليه الصلاة والسلام والفطر فى السفر فعله عليه صلوات الله وسلامه وترخص فيه فكأن بعض الناس ما أراد أن يفطر وما أراد أن يقصر الصلاة فهذا أيضا ذكر كما قلت ضمن الأمور التنزه عنها من تنزه فقال نبينا عليه الصلاة والسلام (إنى لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية)
وقلت إخوتى الكرام مرارا إن منبع الكمالات بأسرها أمران اثنان(66/5)
قوة عليمة وقوة عملية وما اجتمعتا إلا فى نبينا خير البرية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه ولذلك هنا العلماء نعتوا بهذا الأمر إخوتى الكرام علم لكن معه خشية علم معه خشية إنما يخشى الله من عباده العلماء
ولو كان فى العلم دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
فخاصية العلماء الخشية من رب الأرض والسماء
روى الإمام الدارمى فى سننه فى المقدمة فى باب من قال العلم الخشية والأثر فى الحلية ورواه الخطيب فى كتاب الفقيه والمتفقه عن الحسن البصرى عليه رحمة الله ورضوانه أنه أفتى فى مسألة فقيل له إن الفقهاء يقولون بغير هذا فقال للسائل:
ويحك وهل رأيت فقيها, إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا الراغب فى الآخرة البصير بأمر دينه المداوم على عبادة ربه
هل رأيت من تنطبق عليه هذه الصفات هذا هو الفقيه وهو الذى أشار إليه ربنا جل وعلا بقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء وبقوله فى سورة الزمر {أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}
وأما الأحاديث إخوتى الكرام التى تبين لنا شرف العلم ومكانة العالم ورتبته فكثيرة وفيرة:(66/6)
منها ما رواه الإمام أحمد فى المسند والحديث فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى ورواه الإمام ابن حبان فى صحيحه والدارمى فى سننه ورواه الإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله ورواه الخطيب فى كتاب الفقيه والمتفقه كما رواه أيضا فى كتاب الرحلة فى طلب الحديث ورواه البيهقى فى المدخل فى الصفحة خمسين ومائتين ورواه البيهقى فى شعب الإيمان أيضا والفسوى فى تاريخه والحديث صحيح صحيح من رواية سيدنا أبى الدرداء رضى الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع وإن العالم ليستغفر له من فى السماوات ومن الأرض والحيتان فى جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على الكواكب كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)
العلم ميراث النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه كما أتى فى النص والعلماء هم وُرََََََََََََََََََََاثه
ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه عليه صلوات الله وسلامه
هذه الخيرات إخوتى الكرام يحصلها طالب العلم طلبه العلم فى هذه الحياة يوصله إلى نعيم الجنات الملائكة تضع أجنحتها تتواضع له, تظلله بأجنحتها ترافقه عندما يطلب العلم, يستغفر له من فى السماوات ومن الأرض حتى الحيتان فى جوف الماء وفضله على العُبَََادكفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وهو خليفة النبى عليه الصلاة والسلام ووارثه(66/7)
وروى الإمام الترمذى فى سننه وقال هذا حديث حسن غريب صحيح والحديث رواه الطبرانى فى معجمه الكبير والإمام ابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله والخطيب فى كتابه الفقيه والمتفقه وهو فى غير ذلك من دواويين السنة والحديث إسناده صحيح من رواية سيدنا أبى أمامة الباهلى رضى الله عنه وأرضاه قال ذكر للنبى صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم ذكر للنبى عليه الصلاة والسلام رجلان أحدهما عالم والآخر عابد فقال عليه الصلاة والسلام (فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم) ثم قال عليه الصلاة والسلام (إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة فى جحرها وحتى الحيتان فى البحر ليصلون على معلم الناس الخير) (فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم) على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
نعم إخوتى الكرام طلب العلم وتعليمه تعلمه وتعليمه مهنة الأنبياء على نبينا وعليهم جميعا صلوات الله وسلامه مهنتهم أن يتعلموا وأن يعلموا والله يقول لنبينا عليه الصلاة والسلام
(وقل رب زدنى علما) وبعثه الله عليه الصلاة والسلام معلما
روى الإمام ابن ماجة فى سننه والدارمى فى سننه أيضا والحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسى فى مسنده ورواه البيهقى فى المدخل إلى السنن فى صفحة ست وثلاثمائة ورواه الخطيب فى الفقه والمتفقه والطبرانى فى معجمه الكبير ورواه الأمام ابن السنى فى كتاب رياضة المتعلمين وهكذا الإمام أبو نعيم أيضا والحديث إخوتى الكرام حكم عليه شيخ الإسلام الإمام العراقى عليه رحمة الله فى تخريج أحاديث الإحياء فى الجزء الأول صفحة سبع عشرة حكم على إسناده بالضعف وقال إسناده ضعيف وتابعه على ذلك الإمام الزبيدى فى شرح الإحياء فى الجزء الأول صفحة إحدى عشرة ومائة(66/8)
والذى يظهر والعلم عند الله أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن لشواهده وللمتابعات لمن ضُعف من رواته من ضعف له متابع والحديث له شواهد فى الحديث رجلان صالحان مباركان فيهما ضعف بسبب عدم كمال تمام الضبط أولهما العبد الصالح عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى شيخ بلاد أفريقيا وقاضيها العلم الإمام الصالح الأمَّار بالمعروف والنهَّاء عن المنكر رضى الله عنه وأرضاه
روى له البخارى فى الأدب المفرد وحديثه مخرج فى السنن الأربعة إلا سنن النسائى وقد توفى سنة ست وخمسين ومائة ضعيف فى حفظه وكان صالحا وصلاحه مجمع عليه وتمام ديانته متفق عليها رضى الله عنه وأرضاه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى والإمام أحمد رضى الله عنه تقدم معنا كان يجله ويحترمه مع أنه لم يدركه لكن يعنى لما يذكر يحتفل بذكره وبمكانته ويرى له يعنى شأنا فى الإسلام ويقول جهر بالحق أمام أبى جعفر وأبو جعفر الذى كان سيفه يسبق لسانه وجهر بالحق أمامه تقدم عندما قال له الظلم ببابك فاش جئت أشكو إليك ظلم العمال فى الأمصار النائية البعيدة فكلما اقتربت من مكانك رأيت الظلم أكثر حتى رأيت الظلم فاشيا ببابك (لا إله إلا الله)
وتقدم معنا خبره مع أبى جعفر ضمن محاضرات الحديث الشريف على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
عبد صالح قانت وشيخه أيضا عبد صالح قانت اسمه أيضا عبد الرحمن هذا عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وذاك عبد الرحمن بن رافع التلوقى المصرى أيضا من بلاد إفريقيا توفى سنة ثلاث عشرة بعد المائة وقيل بعدها أيضا ضعيف فى الحفظ وهو رجل صالح وخرج حديثه من خرج أحاديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم فخرج له البخارى فى الأدب المفرد وأهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائى عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه
ولفظ الحديث إخوتى الكرام عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال:(66/9)
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجلسين أحد المجلسين فيه أناس يدعون الله ويرغبون إليه يذكرونه يحمدونه يصلون على النبى عليه الصلاة والسلام يسألونه الجنة ويستعيذون به من النار
والمجلس الثانى فيه أناس يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال عليه الصلاة والسلام كلا المجلسين على خير كلاهما فى طاعة لله جل وعلا من يذكر ومن يتفقه كلا المجلسين على خير أما هؤلاء فيسألون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم وأما هؤلاء فيتعلمون ويعلمون الجاهل وإنما بعثت معلما ثم أقبل عليهم عليه الصلاة والسلام وجلس معهم إنما بعثت معلما عليه صلوات الله وسلامه
وقد دعا نبينا عليه الصلاة والسلام لمن يحفظ نصوص الشريعة الحسان دعا له بالنضرة والرحمة بالبهجة فى قلبه والضياء فى وجهه فى هذه الحياة وما له عند الله أعظم وأعظم مما لا يخطر ببال أحد من المخلوقات نضرة ورحمة
قال نبينا صلى الله عليه وسلم (نضر الله امرأ سمع مقالتى بالتشديد والتخفيف نضَر الله امرء سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)(66/10)
الحديث إخوتى الكرام رواه الإمام أحمد فى المسند والترمذى فى السنن وهكذا الإمام ابن ماجه فى سننه وابن حبان فى صحيحه من رواية سيدنا عبد الله بن مسعود ورواه الإمام الترمذى فى سننه وهكذا الإمام أبو داود والإمام ابن ماجة فى سننه أيضا وابن حبان فى صحيحه والإمام الضياء المقدسى فى الأحاديث الجياد المختارة من رواية سيدنا زيد ابن ثابت ورواه الإمام أحمد فى المسند والإمام ابن ماجة فى السنن من رواية سيدنا أنس بن مالك رضى الله عنهم وأرضاهم ورُوى الحديث عن غيرهم كما سيأتينا فهو من الأحاديث المتواترة عن نبينا إمام البررة عليه صلوات الله وسلامه وفى رواية هؤلاء نضر وروى بلفظ (رحم الله امرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)
رواية رَحِم رواها الإمام ابن حبان فى صحيحه عن سيدنا عبد الله ابن مسعود ورواها الإمام00عن سيدنا عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت أيضا فى صحيح ابن حبان ورواها الإمام الطبرانى فى معجمه الكبير والإمام ابن قانع فى تراجم الصحابة وأبو نعيم والإمام ابن عساكر عن النعمان ابن بشير عن أبيه بشير عن نبينا البشير النذير على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه رحم الله امرء أيضا
والحديث رواه الإمام الديلمى عن أبى هريرة أيضا رضى الله عنهم أجمعين بلفظ رحم وهناك بلفظ نضر
وكما قلت إخوتى الكرام إنه من الأحاديث المتواترة كما قرر أئمتنا انظروا قطف الأزهار المتناثرة من الأحاديث المتواترة للإمام السيوطى وهو الحديث الثانى فى صفحة ثمان وعشرين من الكتاب نص على تواتره وهكذا النظم المتناثر من الحديث المتواتر للشيخ الكتانى وهو الحديث الثالث فى نظم المتناثر فى صفحة أربع وعشرين(66/11)
وقد قال الإمام ابن منده روى هذا الحديث أربعة وعشرون من الصحابة والإمام السيوطى زاد فى كتابه تدريب الراوى فقال روى عن ثلاثين صحابى عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه
وأفرده بجزء مستقل فى كتاب مستقل وتأليف مستقل عدد من أئمتنا منهم تلميذ الإمام ابن ماجة أبو عمرو أحمد ابن محمد المدينى الأصفهانى الذى توفى سنة ثلاث وثلاثين والثلاث مائة أفرد هذا الحديث فى جزء خاص ومنهم الخطيب البغدادى ومنهم من المعاصرين أبو الفيض أحمد ابن الصديق الغمارى وسمى كتابه المسك التبت فى تواتر حديث من سمع مقالتى
وتبت بلدة متاخمة للصين فى بلاد الصين لعلها فى هذه الأيام يقال فيها أجود أنواع مسك الظباء, المسك التبت فى تواتر حديث من سمع مقالتى
إخوتى الكرام العلم نور ولا بد من تحصيل العلم بلفظه وبفقهه فالنصوص لا بد من أن تضبط ولا بد من أن تفهم والعلم يقوم على هذين الأمرين فمن نقل النص فهمه فقد جمع بين الحسنيين ومن نقله ولم يفهمه فينقله إلى فقيه يفهمه ويستنبط منه أحكاما كما سيأتينا المحدثون صيادلة والفقهاء أطباء لكن العلم يقوم على هذين الأمرين على حفظ النص وعلى فقهه وفهمه وإذا ضاع أحدهما وجدت الجاهلية وإذا ضاعا يعنى أظلمت الحياة الدنيوية فلا بد من بقاء النصوص المباركة ولا بد من فهمها والفقه فيها
يقول شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية فى مجموع الفتاوى فى الجزء السابع عشر صفحة سبع وثلاث مائة فى تفسير سورة الإخلاص والكتاب مطبوع أيضا ما يتعلق بتفسير سورة الإخلاص فى كتاب مستقل وهذا موجود أيضا كما قلت ضمن مجموع الفتاوى(66/12)
يقول عليه رحمه الله (قد تخفى آثار الرسالة فى بعض الأزمنة أو الأمكنة بحيث يصير حالهم إما أنهم لا يعرفون اللفظ أو لا يعرفون معناه يعنى الجهل يقع إما فى اللفظ فلا يعرفونه ولا يتقنونه أو لا يعرفون معناه يقرأ القرآن وحديث النبى عليه الصلاة والسلام لكن من غير فقه النص حُفظ لكن لم يفقه ولم يعلم معناه قد تخفى بعض آثار الرسالة فى بعض الأزمنة أو الأمكنة بحيث يصل حالهم إما أنهم لا يعرفون اللفظ أى النص أو لا يعرفون معناه
قال فيصيرون فى جاهلية بسبب عدم الأنوار النبوية على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فيقع الشرك والتفرق ولا يمكن أن يحصل يعنى شرك وتفرق إلا إذا انعدم هذين الأمرين نص موجود لا يفقه يعبد الناس الأحجار والأشجار ويختصمون فى هذه الديار
هذين لا بد إخوتى الكرام من وعيها لابد إذن من نص يفقه يعمل به إذن فيصيرون فى جاهلية بسبب عدم الأنوار النبوية فيقع الشرك والتفرق
فالفتن القولية والفتن العملية هى من الجاهلية وتكون بسبب خفاء الأنوار النبوية
قال الإمام مالك رضى الله عنه وأرضاه (إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار ظهرت الأهواء)
قل العلم وظهر الجفاء ولذلك من بدا جفا لأنه يبعد عن أهل العلم قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار يوجد عند الناس علم لكن هذا العلم بدون أثر
الأمر تظهر الأهواء والبدع لأن هذا العلم سيكون علما آرائيا علما عقليا لا يستند إلى العلم النبوى الحق إلى الهدى الحقيقى
إذا قل العلم ظهر الجفاء إذا قلت الآثار ظهرت الأهواء
ولذلك إخوتى الكرام لابد من هذين الأمرين النص نحافظ عليه ثم بعد ذلك نفهمه ونفقهه
نعم من لم يستطع الفقه فلا أقل من أن ينقل هذا النص فله هذا الأجر عند الله جل وعلا (نضر الله امرأ رحم الله امرء سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع)(66/13)
إخوتى الكرام لما تقدم من النصوص الحسان قرر أئمتنا الكرام أنه لا يطلب العلم إلا الرجل الشهم والأمر كما قال سيد المسلمين فى زمانه الإمام الزهرى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا وأثره فى الحلية وفى كتاب الفقيه والمتفقه وفى كتاب شرف أصحاب الحديث أيضا للخطيب البغدادى عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه قال
(العلم ذكر ولا يطلبه إلا ذكران الرجال) العلم ذكر لا يحبه إلا ذكران الرجال ويكرهه مأنثوهم
والمراد إخوتى الكرام من الذكران كما وضحت هذا أيضا ضمن محاضرات التفسير قلت لفظ الرجل لفظ الذكورة يطلق أحيانا على ما يقابل الأنوثة ويطلق أحيانا على صفة الكمال فى الإنسان تقول مررت برجل رجل أبوه كما حكى ذلك سيبويه عن العرب مررت برجل رجل أبوه ,أبوه رجل قطعا إنما يقصد مررت برجل أبوه كامل الرجولة فيه صفات الشهامة والفتوة والنخوة والمروءة هنا العلم ذكر أى هذا العلم كريم لا يطلبه إلا من كان كريما من الإناث والذكور لكن بما أنه كما قلت صفة الرجولة صفة كمال من اتصف بالكمال يقال فيه يعنى صفة الرجولة أى الصفة التامة الكاملة الشهامة المروءة ,المرأة الكاملة تطلب العلم والرجل الكامل يطلب العلم
ومن انحرف عن العلم فقد انحرف عن الإنسانية كما سيأتينا يعنى لما سئل سيدنا عبد الله بن المبارك رضى الله عنه وأرضاه من الناس قال العلماء حقيقة إذا خرج عن هذا الوصف خرج عن الإنسانية
العلم ذكر أى العلم كريم وله شأن عظيم عند رب العالمين لا يطلبه إلا من كان كريما أى من فقد صفة يعنى دنيئة لا يطلب العلم ,من انحط عن الإنسانية لا يطلب العلم يقصد هذا, لا يقصد يعنى أنه رجولته ناقصة بمعنى ذكورته ذكوريته ناقصة لا ثم لا
العلم ذكر لا يطلبه إلا ذكران الرجال لا يحبه إلا ذكران الرجال لا يرغب فيه إلا ذكران الرجال ويكرهه مأنثوهم(66/14)
ويقول العبد الصالح كما فى شرف أصحاب الحديث صفحة واحد وخمسين العباس ابن محمد الخراسانى (لا يطلب العلم إلا باذل ذكر وليس يبغضه إلا المخانيس)
وكما قلت هنا يريد من الذكورة أيضا صفة الشهامة والمروءة والكمال والتمام فى الإنسان
والباذل إخوتى الكرام هو السيد من الإبل الذى أكمل ثمانى سنين أو تسع سنين وليس بعد هذه الرتبة رتبة باذل ذكر وليس يبغضه إلا المخانيس
ومما ينسب إلى سيدنا على صهر النبى على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه والأبيات تنسب يعنى فى كثير من كتب أئمتنا فى الإحياء وشرح الإحياء والله أعلم يعنى بصحة النسبة لأنهم لم يذكروا الإسناد إلى سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه
انظروا هذه الأبيات إخوتى الكرام مثلا فى شرح الإحياء فى الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين والأبيات حكيمة محكمة إن قالها سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه فهذه من معدنه والشىء من معدنه لا يستبعد وإن لم يقلها فقالها يعنى ربانى آخر من هذه الأمة المباركة رحمة الله ورضوانه على قائلها يقول:
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
وإن يكن لهم فى أصلهم شرف يفاخرون فيه فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
ووزن كل امرء ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيا به أبدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
أبيات كما قلت محكمة حكيمة إن قالها سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه فهى من الحكمة التى من الله بها عليه وإن لم يقلها فقائلها كما قلت ربانى فى هذه الأمة المباركة المرحومة
إخوتى الكرام الخاصية التى يتميز بها الإنسان عن بهيم الحيوان هى العلم وقد أشار إلى ذلك ربنا الرحمن فى سورة عروس القرآن وهى سورة الرحمن (الرحمن *علم القرآن*خلق الإنسان*علمه البيان)
علم القرآن من شاء من خلقه ممن رضى عليهم وأنعم عليهم(66/15)
(الرحمن *علم القرآن*خلق الإنسان) تعيينا للمتعلم من الذى يتعلم القرآن صنف واحد من مخلوقات الرحمن وهى الإنسان أوليس كذلك هذا صنف هو الإنسان تعيين للمتعلم
(علمه البيان) لكيفية التعلم ,البيان الذى هو النطق تخبر عما فى نفسك وتفهم بعد ذلك خطاب غيرك
وهذان الأمران هما عماد تعلم القرآن فلو لم تبن عما فى نفسك ولم تفهم ما يحدث به غيرك لما استطعت أن تتعلم كلام الله عز وجل
(الرحمن *علم القرآن*خلق الإنسان) تعيينا لمن يتعلم القرآن ولذلك خلقت لهذا الأمر لتتعلمه لتعمل به فإذا ضيعته فقد خرجت عن إنسانيتك
(خلق الإنسان*علمه البيان) نمتاز عن بهيم الحيوان بهذا الأمر
علمه البيان) ونتعلم به كلام الرحمن سبحانه وتعالى فمن ضيع هذا فبإى شىء يمتاز كما قلت عن بهيم الحيوان
حقيقة إنه حى لكنه فى الحقيقة ميت ورحمة الله على الإمام ابن القيم عندما ينشد بيتين لطيفين فيما يظهر والعلم عند الله من نظم غيره وما أعرف قائله ويكررهما فى كثير من كتبه
انظروا مثلا إغاثة اللهفان فى الجزء الأول صفحة ثلاث وعشرين ومدارج السالكين فى الجزء الثالث صفحة واحد وستين ومائتين والأبيات أيضا فى شرح الإحياء فى الجزء الأول صفحة سبع وأربعمائة يقول عليه رحمة الله ورضوانه قائل هذين البيتين المحكمين:
وفى الجهل قبل الموت موت لأهله وأبادنهم قبل القبور قبور
وأرواحهم فى وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور
وفى الجهل قبل الموت موت لأهله الجاهل ميت, ميت وخرج عن صفة الإنسانية
وفى الجهل قبل الموت موت لأهله وأبادنهم قبل القبور قبور
يعنى أرواحهم قبضت فى أبدانهم كما أن أبدانهم ستقبض فى القبور التى فى صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد نسأل الله حسن الخاتمة
وأرواحهم فى وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور
إخوتى الكرام (المرء بأصغريه بلسانه وقلبه) كا قال زُهير بن أبى سُلمى
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم(66/16)
يعنى بأى شىء تمتاز عن بهيم الحيوان؟ بأصغريك لسان يتكلم علمه البيان وقلب يعقل ويفهم ما عدا هذا لحم ودم موجود فيك وفى سائر الحيوانات الأخرى
المرء بأصغريه بقلبه ولسانه
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
يا عبد الله إن كنت تفتخر بقوتك فالجمل أقوى منك وإن كنت تفتخر بضخامة جثتك فالفيل أضخم جثة منك وإن كنت تفتخر وتدل بكثرة أكلك فالثور أعظم أكلا منك وإن كنت تفتخر بشجاعتك فالأسود أعظم شجاعة منك وأن تفتخر بكثرة وطئك فأصغر المخلوقات وهو العصفور الدورى أكثر سفادا منك, طيب بأى شىء تفتخر يا عبد الله يعنى هذه الأمور غلبك إليها الحيوان البهيم
إنما عندك بعد ذلك علمه البيان هذه التى فقدها بهيم الحيوان ولذلك الحيوان مهما أوتى من شراسة وقوة وضخامة جثة يهاب الإنسان لما ركز الله فيه من تمييز غريزى لأن هذا الإنسان له فضل عليه وأنه عنده ما يدبر به الصناعات الخفية وعنده ما يحصل به العلوم النظرية هذا صاحب عقل هذا امتاز بالبيان عنك أيها الحيوان
ولذلك مهما عظم كما قلت الحيوان يهاب من الإنسان وبعد ذلك يعنى أحيانا يدخل معه فى صراع هذا موضوع آخر لكن الأصل يهاب كل من يرى الإنسان من الحيوان يهابه يحترس منه إلا بعد ذلك كما قلت إذا يعنى أداه أن يغامر فيغامر من أسود مفترسة لكن فى الأصل فى الغالب تشرد من الإنسان000 الاتصال بها إنما إن انفرد به بعد ذلك وهو بحاجة إلى أكله أكله, أما أنه يعنى هو يأتى ويخالط بنى آدم يريد أن يصارعه لا بل بنو آدم هم الذين يطاردون الحيوانات مهما عظم شأنها وهى يعنى تتكفف كما يقال شرهم وتبتعد عنهم لكن إذا اضطرت ستدافع عن نفسها يعنى الهرة تدافع عن نفسها إذا اضطرت لكن هو فى الأصل يهاب الإنسان ويخاف منه
{ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} [الإسراء/70](66/17)
ولذلك إخوتى الكرام لا بد من أن نحصل العلم النافع وأصله كما سيأتينا الفقه فهو أصل العلوم والتذكير حلوائها وأعمها نفع كما قال الإمام ابن الجوزى رحمة الله ورضوانه عليه كما سيأتينا فى بيان منزلة علم الفقه بعون الله وتوفيقه
العلم ضرورى من خرج عنه خرج عن الإنسانية سأل سيدنا عبد الله ابن المبارك رضى الله عنه كما فى الحلية من الناس قال العلماء من خرج عن هذا الوصف ليس من بنى آدم البهيم 00 لا يوجد ما يميزه عن الحيوان البهيم
من الناس قال العلماء
قالوا فمن الملوك قال الزهاد حقيقة الملك والغنى أن ستغنى عن الشىء لا به الملك والأمير فقير حتى إلى أعوانه وخدامه وأما الغنى الحقيقى الغنى أن تستغنى عن الشىء لا به فهذا لا بد إخوتى الكرام من وعيه الزهاد هم الملوك
قالوا فمن الغوغاء قال أعوان السلطان ,أعوان السلطان هؤلاء هم الغوغاء السفهاء الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم
قالوا فمن السِفلة بكسر السين وإسكان الفاء, السفلة وهم السفهاء المنحطون قال الذين يأكلون الدنيا بالدين يتاجرون بدين رب العالمين
الناس هم العلماء والملوك هم الزهاد والغوغاء هم أتباع الأمراء والسفلة هم الذين يأكلون الدنيا بالدين
هذا كلام سيد المسلمين فى زمانه عبد الله ابن المبارك رحمة الله ورضوانه عليه
الناس هم العلماء الناس هم العلماء فمن خرج عن هذا الوصف خرج عن الإنسانية
ولذلك أخوتى الكرام كان أئمتنا يوصون بطلب العلم وينبغى أن يحفظ الإنسان هذا وأن يحرص عليه حتى يغادر هذه الحياة فوظيفته أن يتعلم وأن يعمل
نقل الإمام ابن الجوزى فى تلبيس إبليس صفحة تسع وعشرين وثلاثمائة عن سيدنا الإمام أحمد رحمة الله ورضوانه عليه أنه قال وكان يوصى تلاميذه وأصحابه بذلك وهى وصية للمسلمين إلى يوم الدين
المحبرة إلى المقبرة
دواة الحبر ينبغى أن تلازمك حتى تقبر(66/18)
وفى سير أعلام النبلاء فى الجزء الرابع عشر صفحة ثمان وأربعين وثلاثمائة جاء رجل إلى العبد الصالح سهل ابن عبد الله التسترى ومعه كتاب ومحبرة فقال له إن استطعت ألا تفارقهما حتى تفارق الحياة فافعل حتى تدفن فى قبرك فافعل الكتاب والمحبرة لا تفارق هذين
فقال له أبا محمد فائدة وهى كنية لسهل بن عبد الله التسترى انصحنى بنصيحة فقال له (الدنيا كلها جهل إلا ما كان علما والعلم كله حجة إلا ما كان عملا والعمل موقوف على السنة والسنة تقوم على التقوى) احفظ هذا
الدنيا كلها جهل من أولها لآخرها إلا ما كان علما والعلم حجة إلا ما كان عملا والعمل ينبغى أن يكون على السنة والسنة تقوم على التقوى
نعم إخوتى الكرام الدنيا كلها جهل وكلها ظلمة وكل ما فيها ملعون إلا ذكر الحى القيوم وما أريد به وجه الكريم من علم نافع وعمل صالح
ثبت فى سنن الترمذى وقال هذا حديث حسن والحديث رواه الإمام ابن ماجة وحسنه شيخ الإسلام الإمام العراقى أيضا فى تخريج أحاديث الإحياء فى الجزء الأول صفحة سبع عشرة من رواية سيدنا أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال
الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما))
والحديث إخوتى الكرام نقل عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بألفاظ مختلفة تبين لنا إلا ذكر الله وما والاه ,ما الذى يواليه ويشاكله ويماثله من أمور الطاعة التى يراد بها وجه الله جل وعلا
ففى رواية البزار عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه مرفوعا إلى نبينا المحمود عليه صلوات الله وسلامه أنه قال (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله عز وجل)
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يمكن أن يحصل ألا بعد العلم النافع
والذكر كما هو فى رواية أبى هريرة رضى الله عنه وأرضاه(66/19)
والحديث إخوتى الكرام رواه الطبرانى فى معجمه الكبير من رواية سيدنا أبى الدرداء عن نبينا خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجه الله منها)
والحديث رواه أبو نعيم فى الحلية والضياء المقدسى فى الأحاديث الجياد المختارة عن سيدنا جابر ابن عبد الله رضى الله عنهما عن نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه أنه قال (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله منها)
ونقل هذا الأثر إخوتى الكرام عن كعب الأحبار موقوفا عليه من قوله فى سنن الدارمى (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا من تعلم خيرا وعلمه) هذا كلام كعب الأحبار موقوفا عليه من قوله
فائدة أبا محمد الدنيا كلها جهل إلا ما كان علما والعلم كله حجة إلا ما كان عملا والعمل ينبغى أن يكون على السنة والسنة تقوم على التقوى من حصل فهذا هو حقيقة المتقى لله عز وجل وكان هذا العبد الصالح سهل بن عبد الله التستسرى يقول كما فى ترجمته فى السير فى الجزء الثالث عشر صفحة ثلاثين وثلاثمائة وأما المكان المتقدم فى الجزء الرابع عشر ذاك ليس فى ترجمته أورد ذلك الكلام ضمن ترجمة غيره ذكر كلامه سهل ابن عبد الله التسترى فى ترجمة الحلاج وبين أنه مخذول وأنه خرج عن الهدى النبوى ولم يلتزم بكلام أئمتنا أيضا ويعنى نصحهم فذكر كلام سهل فيما يتعلق بذم الحلاج أورد هذا أن ذاك خرج عن طلب العلم النافع والعمل الصالح واتبع الرأى والضلال والبدع
فالأثر الأول ليس فى ترجمة سهل إنما هذا فى ترجمته كان هذا العبد الصالح سهل بن عبد الله التسترى عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يقول الجاهل ميت والناسى نائم عله يستيقظ والعاصى سكران والمصر هالك
الجاهل ميت وفى الجهل قبل الموت موت لأهله
الجاهل ميت والناسى نائم عله يستيقظ والعاصى سكران والمصر نعوذ بالله منه هالك ويل للمصرين(66/20)
وقيل له كما فى هذا المكان فى ترجمته إلى متى نكتب العلم؟ إلى متى حديث النبى عليه الصلاة والسلام إلى متى؟ قال حتى تموت ويصب باقى الحبر فى قبرك,
المحبرة هذه والقلم لا تتركهما طرفة عين فاطلب العلم حتى تموت ثم يصب باقى الحبر فى القبر يعنى لازم هذا على الدوام
إخوتى الكرام هذه منزلة العلم كما قلت وهى باختصار لا أريد أن أفيض منها أكثر من هذا
نتقل بعد إلى مكانة الفقه ومنزلته وحقيقة لا يمكن أن أتكلم على هذا الأمر فى هذه الموعظة إنما أذكر مقدمة لذلك ومنزلة الفقه ومكانته فى دين الله عز وجل أتكلم عليها فى موعظة تامة فى الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه لكن كما يقال التمهيد لما سيأتى فى الغد بعون ربنا المجيد
إخوتى الكرام العلوم علوم الشرع المطهر علوم الدين خمسة أنواع كما قرر أئمتنا الأتقياء قرر هذا أئمتنا قاطبة انظروها مثلا فى رد المحتار على الدر المختار فى الجزء الأول صفحة تسع وسبعين وفى حاشية الإمام الطحطاوى فى الجزء صفحة اثنتين وسبعين ومائتين وكما قلت هذا كلام أئمتنا قاطبة مدار أمور الدين على خمسة أمور:
أولها العقائد وثانيها الأخلاق والآداب قال أئمتنا الفقهاء عندما بحثوا فى أمور الدين والأولان يعنى هذان العقائد والآداب ليسا مما نحن بصدده نحن لا نبحث فى كتب الفقه لا فى العقائد ولا فى الأخلاق والآداب المواعظ والرقائق هذه لها كتب خاصة فعندنا كتب التوحيد وعندنا كتب الرقائق الرقاق والمواعظ والأخلاق والآداب وعندنا بعد ذلك كتب الفقه فيها ثلاثة أمور من خمسة من أمور الدين:(66/21)
العبادات وبها بدأ الفقهاء كما سيأتينا والحكمة من بدئهم بها والمعاملات والعقوبات أمور الدين تقوم على هذه الأمور الخمسة عقائد آداب عبادات معاملات عقوبات فنحن سنتدارس ضمن مدارستنا لعلم الفقه ثلاثة من خمسة العبادات والمعاملات والعقوبات وليس موضوع علم الفقه كما سيأتينا ما يتوهم بعض الجهال كما قال بعض الإخوة يعنى فى الموعظة الماضية وهذا الآن الفاشى بين الناس نتعلم علم الفقه لنعرف كيف نصلى!! يا عبد الله يا عبد الله اتق الله فى نفسك وإذا كنت تجهل قدر هذا العلم لا تتكلم بالجهل لكن صرنا فى زمن الجاهل هو الذى سيوجه طلبة العلم نتعلم الفقه لنعرف كيف نصلى لا يا عبد الله
العلم هذا علم الفقه يبحث فى جميع شئون الحياة فى أعمال المكلفين من أولها لآخرها فى عباداتهم ومعاملاتهم لا يخرج نوع من معاملاتهم مع بعضهم إلا وهى فى الفقه ثم بعد ذلك فى العقوبات وعليه بيع وشراء نكاح وطلاق حرب وسلم جهاد فى سبيل الله جل وعلا جزية بعد ذلك إمرة
يا إخوتى الكرام جميع أحكام الدين تدخل فى الفقه عندك العقائد هذه التى خرجت عن موضوع علم الفقه واضح هذا ولا نبحث نحن فيما يتعلق بأمر العقائد إلا من زاوية وهى من خرج هذا ماذا نعامله نضرب رقبته واضح هذا ضمن بحث المرتد أما بعد ذلك تفصيل العقائد هذا يؤخذ من كتب التوحيد هناك قضية مسلمة إن خرجت عنها تضرب الرقبة
(ومن بدل دينه فاقتلوه)(66/22)
هذا إخوتى الكرام لا بد من وعيه يعنى جميع شئون الحياة يبحث فيها علم الفقه الذى سنتدارسه عبادات معاملات عقوبات من خرج عن هدى الشرع المطهر له عقوبة ولا بد لكن هذه العقوبة سيأتينا إما أن تكون محددة وإما أن تكون مطلقة وهى عقوبة التعزير أوسع الحدود على الإطلاق هذه إخوتى الكرام لا بد من وعيها فندرس علم الفقه لنعرف دين الله ولنعرف الحياة الإسلامية كيف تكون وكيف ينبغى أن نوجدها أن نسعى إليها وأما ما عندنا يعنى من علم الفقه إلا الصلاة نتعلم كيف نصلى وكيف نتطهر وتبقى الأمور هذه يعنى تترك وتهجر لا ثم لا لأن واقع الأمر هجرت من الحياة هجرت
فعندما تأتى فى المعاملات يأتيك مثلا الربا أوليس كذلك محرم ومن أكبر الكبائر وتبحث بعد ذلك فى ربا الفضل وربا النسيئة الآن عماد عماد المعاملات فى هذه الأوقات ومحاربة لرب الأرض والسماوات هذا لا بد إخوتى الكرام من وعيه لنتعلم كيف نصلى وكيف نتعامل نأكل الربا ليل نهار وإذا رأيناه لا تتمعر وجوهنا غضبا للعزيز القهار ثم نعرف كيف نصلى أى صلاة ستقبل منا إذا كنا نتعامل بالربا أو نرضى به أو لا ننكره ونحاربه يا إخوتى الكرام هذا لا بد من وعيه سيأتينا ضمن المعاملات فهذا لا بد من وعيه وضبطه كما قلت عندنا فى مبحث التعزير يا إخوتى هذا الحد الذى هو أوسع الحدود الإسلامية وهى عقوبة على كل معصية ليس فيها حد مقدر
يعنى من حلق لحيته يعذر هذا فى الشرع المطهر
من تصور يعذر من اقتنى صورة يعذر من علق صورة يعذر نعم لا يوجد لذلك حد مقدر يعنى أن تجلد مائة أو أربعين من هنا عندنا حد التعزير من سجن من جلد من من حسبما يرى ولى الأمر هذا إخوتى الكرام لا بد منه هذا كله عُطل(66/23)
غناء من غنى يعذر سفيه وترد شهادته عندنا فى كتب الفقه عند مبحث العدالة وأتى بخارم للمروءة وبمفسق يسقط عدالته وترد شهادة المغنى والرقاص باتفاق أئمتنا الفقهاء هذا لا بد من وعيه لا يذهب يغنى ويرقص وجاء ليصلى قالوا ليتعلم الفقه ليعرف كيف يصلى لا يا عبد الله
لنتعلم الفقه لنرى الحياة الإسلامية والحياة الجاهلية
وستأتينا هذه الأبحاث إن شاء الله ضمن موضوعات الفقه بعون الله وتوفيقه فدين الله جل وعلا من أوله لآخره كما قلت يقوم على خمسة أمور ثلاثة منها هى موضوع علم الفقه ولذلك فهو أصل العلوم نعم بعد ذلك الآداب والتذكير والمواعظ حلواؤها حقيقة هذه يعنى بهجة للناس عندما تتحدث عن الرقائق الترغيب فى الخير والجنة والتخويف من النار حلواؤها ويعم نفعها أعظمها نفعا لكن لا بد من هذه الأمور وهى الأحكام العملية فى هذه الحياة الدنيوية عبادات معاملات حدود وعقوبات ثلاثة من خمسة هى موضوع علم الفقه
والفقه حقيقة يعنى له شأن عظيم كما قلت ثلاثة من خمسة من أمور الدين لكن هو كما قال أئمتنا دواؤه دواء الدين علم الفقه
يقول العبد الصالح يحيى ابن عمار وهو من العلماء الأبرار توفى سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة يحيى ابن عمار أبو زكريا شيخ سجستا انظروا ترجمته الطيبة فى السير فى الجزء الثانى عشر صفحة اثنتين وثمانين وأربعمائة وفى هذا المكان قوله الذى سأذكرها ونقله عنه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى فى الجزء العاشر صفحة خمس وأربعين ومائة وفى مجموع الفتاوى شىء من يعنى التصحيف والتحريف صححوا ما فى مجموع الفتاوى على ما فى سير أعلام النبلاء من كلام هذا العبد الصالح يحيى ابن عمار أبى زكريا شيخ سجستا كا يقول العلوم خمسة:(66/24)
أولها يقول علم تحصل به حياة الدين وهو علم التوحيد حياة الدين وحقيقة لا يمكن للإنسان أن يخرج من الشرك والكفران إلا بتوحيد ذى الجلال والإكرام الحياة تحصل بلا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام والإيمان حياة الدين علم التوحيد
يقول علم هو قوت الدين وهو علم الموعظة والتذكير الذى تقدم معنا يقول عنه الإمام يحيى حلواؤها هذه هى الحلوى هذا قوت وحقيقة القلوب لا بد لها من ترغيب وترهيب لأجل أن تندفع إلى الخير وتبتعد عن الشر
وعلم هو دواء الدين وهو علم الفقه وحقيقة إذا ما تعلمه الإنسان سيكون عليلا وتوحيده ماذا بعد ذلك حياة لكن حياة هزيلة نعم إذا وحد الله وبعد ذلك فرط فى شىء من العبادة أو المعاملة أو ارتكب محرم الله ما كفر لكن الصحة تامة؟ صحة الدين ناقصة
هذا مثل إنسان يعنى حى لكن تطعمه كل يوم نصف تمرة وتحضر له نصف كأس من الماء يشرب لا يموت لكن كما قال جلدة وعظمة ونحيف شاحب اللون لو نفخت عليه لسقط ما مات لكن هذه ليست صحة وليست قوة وليست عافية وهنا عندك حياة ما عندك صحة تداوى بها نفسك من أجل أن تطرد الأسقام
إذا حياة الدين قوت الدين دواء الدين
والرابع نعوذ بالله منه داء الدين وهذا ينبغى أن نحذره حقيقة يقول ذكر أخبار ما جرى من منازعات بين سلفنا الكرام رضوا الله عليهم أجمعين ما جرى بين العلماء أحيانا من يعنى شىء من الكلام فى بعضهم ما جرى من السلف من خلاف مع بعضهم ذكر هذا داء الدين
والخامس وهو شرها أيضا علم إذا حصله الإنسان أهلك به دينه هلاك الدين وهو علم الكلام والفلسفة
هذه علوم خمسة انتبه لها حياة الدين قوت الدين دواء الدين داء الدين هلاك الدين فنحن إذا عندنا أصل الدين ودواء الدين وثلاثة من أمور خمسة يقوم عليها دين رب العالمين سندرسها كما قلت فى علم الفقه بعون الله وتوفيقه(66/25)
يقول الإمام ابن الجوزى عليه على أئمتنا رحمة ربنا فى كتابه لفتة الكبد إلى نصيحة الولد وكتبها لولده فى صفحة خمس وأربعين (الفقه أصل العلوم والتذكير حلواؤها وأعمها نفعا)
وإذا فقد الإنسان هذا الأصل فاستمعوا لما سيقع له من مثال واحد سأذكره أختم الموعظة به بعون الله وتوفيقه
يقول الإمام ابن الجوزى فى صيد الخاطر صفحة اثنتين وسبعين ومائتين من أخبار شيخه الذى تلقى عنه وهو أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب توفى سنة سبع وستين وخمسمائة للهجرة انظروا ترجمته فى المنتظم فى الجزء العاشر صفحة ثمان وسبعين ومائتين وفى السير فى الجزء العشرين صفحة ثلاث وعشرين وخمسمائة وفى الذيل على طبقات الحنابلة فهو من أئمة الحنابلة لكنه مزجى البضاعة فى الفقه يعنى هو من أتباع المذهب لكن بضاعته فى الفقه كاسدة كاسدة كاسدة كما ستسمعون حسب نقل تلميذه المبارك الميمون فى الذيل على طبقات الحنابلة فى الجزء الأول صفحة ست عشرة يقول عنه الإمام ابن الجوزى تلميذه سمع الحديث الكثير وقرأ منه ما لا يحصى وقرأ النحو واللغة العربية وانتهى إليه علمهما بل نعته الذهبى فى السير قال كان يضرب به المثل فى العربية والنحو ويقال هو فارسى زمانه يعنى أبى على الفارسى وكأبى على الفارسى
هذا العبد مع مكانته سأل عن حكم رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام عند الركوع والرفع من الركوع ما حكم رفع اليدين فقال ركن من تركه بطلت صلاته قال الإمام ابن الجوزى ما دهُش الحافظون من قلة فقهه رفع اليدين ركن
حقيقة يعنى ليس الفقه صناعته قرأ الحديث الكثير ومهر فى اللغة والنحو وصار إليه المنتهى فيهما لكنه مزجى البضاعة فى الفقه
وصل به الأمر أن يقول رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام ركن وهذا من المستحبات إخوتى الكرام ولو كبر ولم يرفع يديه فصلاته صحيحة ولعل كثيرا من العامة يرى هذا يعنى لعله لا يرى صحة الصلاة إذا لم يرفع يديه لأنه يرى الرفع فيظن أن هذا ركن(66/26)
ولا بد إخوتى الكرام تمييز يعنى أفعال الصلاة عن بعضها ما هو ركن وما هو سنة ومستحب يأتينا كما قلت بيان منزلة علم الفقه وشأنه فى الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه
اللهم صل على نبينا محمد وعلى حميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا
اللهم أنا نسألك من كل خير أحاط به علمك فى الدنيا والآخرة ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك فى الدنيا والآخرة
اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا اللهم ارحمهم كما ربيانا صغارا
اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك
اللهم اغفر لمن عبد الله فيه واغفر لجيرانه من المسلمين اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوتى الكرام يسأل أخ كريم عن الأبيات المنسوبة إلى سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه والتى قد ذكرتها آنفا
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
هذه الأبيات منسوبة إلى سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه بغير إسناد وقد ذكرت فى كتب الوعظ والإرشاد والآداب ولا يستبعد صدورها عن الفصيح المنطيق الحكيم البليغ رابع الخلفاء الراشدين عليهم جميعا رضوان رب العالمين وهذه الأبيات كما قلت إخوتى الكرام ذكرت فى إحياء علوم الدين وفى شرح الإحياء اتحاف السادة المتقين للإمام الزبيدى وقد أطال الإمام الزبيدى الكلام عليها وعلى وصف سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه بالشاعرية انظروا كلامه فى ذلك فى اتحاف السادة المتقين فى الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين وانظروه أيضا فى تاج العروس فى شرح القاموس للإمام الزبيدى أيضا فى الجزء السابع صفحة خمس وثمانين(66/27)
نعم إن سيدنا عليا رضى الله عنه وأرضاه شاعر شاعر وقد قال الإمام الشعبى عليه رحمة الله كما فى الإستيعاب للإمام ابن عبد البر على هامش كتاب الإصابة فى الجزء الثالث صفحة ثلاثين ومائة قال الإمام الشعبى عليه رحمة الله كان سيدنا أبو بكر شاعرا وكان سيدنا عمر رضه الله عنهم أجمعين شاعرا وكان سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه أشعر الثلاثة
إخوتى الكرام إن الأبيات المتقدمة ذكرها الإمام ابن عبد البر عليه رحمة الله فى جامع بيان العلم وفضله فى الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين ويوجد اختلاف بينها وبين ما هو فى إحياء علوم الدين وشرحه اتحاف السادة المتقين والمعنى واحد فى الجميع
قال الإمام ابن عبد البر رضى الله عنه وأرضاه فى جامع بيان العلم وفضله كما ذكرت فى الجزء الأول صفحة ثمان وأربعين وينسب إلى سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه من قوله وهو مشهور من شعره سمعت غير واحد ينشده له
الناس فى جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
نفس كنفس وأرواح مشاكلة وأعظم خلقت فيهم وأعضاء
فإن يكن لهم من أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال أسماء
وضد كل امرىء ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء
هذا فيما يتعلق بالأبيات المنسوبة إلى سيدنا على رضى الله عنه وأرضاه
وأما فيما يتعلق بيت الشعر المنسوب إلى الإمام أبى الفضل العباس ابن محمد الخرسانى عليع وعلى أئمتنا رحمة ربنا فهو كما قلت أيضا فى شرف أصحاب الحديث فى صفحة واحدة وسبعين وهو ضمن ثلاثة أبيات حكيمة محكمة يقول فيها عليه رحمة الله
رحلت أطلب أصل العلم مجتهدا وزينة المرء فى الدنيا الأحاديث
لا يطلب العلم إلا باذل ذكر وليس يبغضه إلا المخانيس
لا تعجبن بمال سوف تتركه فإنما هذه الدنيا مواريث(66/28)
ولفظ الذكور وهكذا لفظ الرجولة يراد بكل منهما كما قلت التمام والكمال والشهامة والمروءة والفضل فلا يطلب العلم إلا من كان كاملا شهما فاضلا
نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يفقهنا فى ديننا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يجعل علمنا حجة لنا لا علينا أنه ولينا وحسبنا
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(66/29)
الصلاة كما أرادها الله
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة كما أرادها الله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
الحمد لله رب العالمين شرع لنا دينا قويما وهدانا صراطا مستقيما وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أنت الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وخالق الخلق أجمعين ورازقهم (فما من دابة في الأرض إلا علي الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) .
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبيا عن أمته ورضي الله عن أصحابه الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2)) ) سورة النساء: 1
(3)) ) آل عمران: 102(67/1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (1) .
أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين..
أشرف البقاع وأحبها إلي رب الأرض والسماء المساجد فهي بيوت الله فيها نوره وهداه وهي محل عباد الله المهتدين وقد نعت الذين يعمرونها بأنهم رجال ووصفهم بأربع خصال: فهم لا تلهيهم الدنيا وهم يعظمون الله جل وعلا فيذكرونه ويصلون له ويشفقون علي عباد الله ويحسنون إليهم ويتصدقون عليهم وهم يستعدون ليوم المعاد للقاء رب العباد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} (2) .
إخوتى الكرام: كنا نتدارس الصفة الثانية أنهم يذكرون الله ويقيمون الصلاة وقد تقدم معنا ما يتعلق ببيان معنى الإقامة ولفظ الصلاة، وباختصار إقامة الصلاة يراد بها توفية الصلاة حقها علما وعملا فإقامة الشيء حقه عملا وعلما والصلاة هي الأقوال والأفعال المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة.
__________
(1)) ) سورة الأحزاب 70، 71
(2) سورة النور: 36، 37(67/2)
عباد الله إذا أقام الإنسان الصلاة كما أراد الله جل وعلا هنيئا له ينال رضوان الله وله عهد عند الله أن يغفر له إذا أقام الصلاة وفاها حقها علما وعملا ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والحد يث رواه الإمام مالك في الموطأ وابن حبان في صحيحه ورواه البيهقي في السنن الكبرى وأبو داود الطيالسي في مسنده وهو حديث صحيح،صحيح إسناده كالشمس عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال أشهد أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات افترضهن الله من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) .
إذاً لابد من إقامة الصلاة أن تحسن وضوءها وأن تصليها في وقتها وأن تتمها بركوعها وسجودها وخشوعها فإذا حصل منك ما يريده الله من هذه الصلاة فقد نلت هذه الجائزة وهذا العهد عند الله جل وعلا فهو أن يغفر لك فهو خير الغافرين وهو أرحم الراحمين. لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
فالمطلوب من الصلاة إقامتها توفيتها علما وعملا ثبت في الصحيحين والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي عن أمير المؤمنين ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أنه دعي بوضوء فتوضأ ثم قال: رأت النبي صلي الله عليه وسلم توضأ وضوئي ثم قال النبي صلي الله عليه وسلم: (من توضأ مثل وضوئي ثم قام فصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم له من ذ نبه) .(67/3)
فقد أقام الصلاة أحسن الوضوء وصلي صلاة خالصة لله ما شغله منها مشاغل جزاؤه أن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وإذا صلي الإنسان وما أقام الصلاة ما وفي الصلاة حقها علما وعملا فالويل له ثم الويل له إنه سارق لكنه أشنع الشراك وأخبث السارقين عند رب العالمين فإذا سرق الإنسان متاع غيره فهذا منقصة وذلك كبيرة والسارق ملعون فكيف من يسرق من صلاته التي هي عبادة لله خالصة للحي القيوم وقد وضح نبينا صلي الله عليه وسلم هذا وبين لنا أن من صلي دون إقامة للصلاة أي دون توفية الصلاة حقها علما وعملا فهو سارق ثبت الحديث بذلك في معجم الطبراني الكبير والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي وهو صحيح. صحيح من رواية أبي قتادة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته) والحديث ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام وروي عن جمع من الصحابة الكرام رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والطبراني في المعجم الكبير والأوسط والإمام الدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أيضا رواه الإمام أحمد في المسند وأبو يعلى في مسنده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه ورواه الإمام مالك عن معاذ بن مرة ورواه الطبراني في معاجمه الثلاثة بإسناد جيد عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (أسرق السارقين من يسرق من صلاته) أشنع السارقين وأخبثهم من يسرق من صلاته التي هي عبادة لله جل وعلا.
المطلوب منا نحو الصلاة أن نقيمها ليحصل بعد ذلك فائدتها في الدنيا والآخرة {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (1) .
__________
(1) العنكبوت: 45(67/4)
إخوتي الكرام: ولإقامة الصلاة كلام طويل، طويل لا يمكن أن أتكلم عليه علي وجه التفصيل في هذه الموعظة المختصرة المباركة إنما أتكلم عن أربعة أمور هي معاقد ومجامع إقامة الصلاة وأما تفصيل ما يتعلق بالصلاة مفتاحها وهو الطهور إلي تحريمها وهو التكبير إلي تحليلها وهو التسليم وما يكون بين ذلك فلعلنا نتدارس هذا ونعود إليه بعد تفسير هذه الآية الكريمة التي نعت الله فيها الرجال الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة بأربع خصال بعد الكلام عليها نعود إن شاء الله إلي مدارسة ما يتعلق بالصلاة من مفتاحها إلي تحليلها.
إخوتي الكرام: لكي يحقق الإنسان إقامة الصلاة كما يريد ذو الجلال والإكرام ينبغي أن يعتني هذه الأمور الأربعة.
أولها: أن يؤدي الصلاة في وقتها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتا} (1) فرضا مؤقتا ينبغي أن تؤدي كل صلاة في وقتها فلله حق في الليل لا يقبله في النهار ولله حق في النهار لا يقبله في الليل.
ونفذ ما أمرك الله كما يحب الله وكما بين الله سبحانه وتعالى فهذه الصلوات ينبغي أن تؤدى في الأوقات التي حددها لنا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه وإذا أردت أن تنال القبول عند رب الأرض والسماوات فبادر إلي أداء الصلاة في أول الأوقات فهذا أحب شيء إلي رب الأرض والسماوات.
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلي الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله: أي العمل أحب إلي الله عز وجل قال: الصلاة علي وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثني بهن رسول الله صلي الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني أعظم حقوق الله عليك بعد توحيده الصلاة وأحب شيء إلي الله تفعله في هذه الصلاة أن تؤدي الصلاة في أول وقتها.
__________
(1) النساء:103(67/5)
ولذلك ثبت في سنن الترمذي وسنن أبي داود من حديث أم ثروة وهي أخت أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعنها وعن سائر الصحابة الكرام وهي أخته من أبيه أنها قالت سألت النبي صلي الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلي الله فقال: أحب الأعمال إلي الله الصلاة في أول وقتها فحافظ علي هذا الأمر أعني الصلاة في وقتها وبادر إلي ذلك وإياك،إياك أن تؤخر الصلاة إلي آخر الوقت أو إلي خروج الوقت فهذا مضيعة للصلاة فالله عز وجل بعد أن ذكر المنعم عليهم من عباده المخلصين في سورة مريم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} (1) .
ويقول ربنا العظيم في سورة الماعون: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصلينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) وإضاعة الصلاة والسهو عنها شامل لأمور ثلاثة كما حقق أئمتنا المفسرين وفي مقدمتهم الإمام المبارك ابن كثير في تفسيره عليه وعلي أئمتنا جميعا رحمات رب العالمين.
إضاعة الصلاة والسهو عنها شامل بالترك عنها كلية وشامل لتأخيرها إلي آخر الوقت وشامل لعدم إيقاعها علي الوجه المطلوب فإذا صليتها في أول الوقت دون خشوع وإتمام لها فقد ضيعتها وقد سهوت فيها وعنها أي عن فعلها علي وجه التمام والكمال تضيع الصلاة والسهو عنها شامل في هذه الأمور الثلاثة.
__________
(1)) ) سورة مريم: 59
(2)) ) سورة الماعون: 4، 5(67/6)
وقد ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله جل وعلا في صحيح البخاري في كتاب مواقيت الصلاة بابا يشير إلي هذا فقال باب تضييع ساق بسنده المتصل أصح إسناد عن الإمام الزهري أنه دخل علي أنس بن مالك رضي الله عنه يشكو الحجاج إلي عبد الملك بن مروان يقول دخلنا علي أنس بن مالك وهو يبكي فقلت له ما يبكيك يا أبا حمزة فقال: لا أعلم شيئا مما كان علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم إلا قد ضيع إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة عملتم فيها ما عملتم أي من التأخير عن وقتها والحجاج يؤخر الصلاة إلي آخر وقتها وكان هو الذي يؤم المسلمين فذهب أنس بن مالك إلي بلاد الشام من البصرة يشكو الحجاج ويخبر الخليفة عبد الملك بن مروان بأن الحجاج غير سنة النبي صلي الله عليه وسلم وأضاع الصلاة وفي رواية الترمذي أنه قال ـ أي أنس بن مالك رضي الله عنه ما أعلم شيئا مما نحن عليه علي عهد النبي صلي الله عليه وسلم إلا وقد ضيع فقال له أبو عمران الجوني وهذه الصلاة أي نحن نصلي فكيف نقول كل شيء قد ضيع منا أليس قد عملتم فيها ما عملتم أي من تأخيرها عن وقتها التي هي أحب الأوقات إلي الله جل وعلا أخرتم الصلاة عن أول الوقت أليس قد عملتم فيها ما عملتم إذا تضييع الصلاة والسهو عنها شامل لهذه الأمور الثلاثة لتركها بالكلية كتأخيرها إلي آخر الوقت لعدم إيقاعها علي الوجه المطلوب فكل من حصل صفة من هذه الصفات فله من الذم بمقدار الصفة التي فيه.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} (1) ، {فَوَيْلٌ لِّلْمُصلينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) .
__________
(1)) ) سورة مريم: 59
(2)) ) سورة الماعون: 4، 5(67/7)
وقد أخبرنا نبينا صلي الله عليه وسلم أن من أخر الصلاة حتى خرج وقتها فقد حبط عمله ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري والحديث رواه الإمام النسائي وابن ماجه من حديث بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم (من ترك صلاة العصر حبط عمله) والمراد من الترك أن يؤخرها حتى يخرج وقتها.
كما ثبت هذا في بعض روايات الحديث أن النبي صلي الله عليه وسلم قال (بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله) أي يوم الغيم لا تظهر الشمس فقد تغرب وأنت تظن أن النهار باق ولذلك باكروا بالصلاة لئلا تغرب الشمس عنه فاتته صلاة العصر.
وقد ثبت في الكتب الستة إلا صحيح البخاري وسنن ابن ماجه فهو في صحيح مسلم والكتب الثلاثة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي عليه وسلم يقول: (تلك صلاة المنافقين، وفي بعض روايات الحديث تلك صلاة المنافقين يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان حتى إذا كانت صفراء قام فنقر أربعا حتى لا يذكر الله فيهن إلا قليلا فهي صلاة المنافق سبحان الله يصلي وهو منافق يصلي والويل له نعم ما أقام الصلاة ليس المقصود من الصلاة تأديتها إنما المقصود من الصلاة إقامتها وتقدم معنا أن لفظ الإقامة توفية الشيء علما وعملا ولذلك قال سفيان هذه الآية في سورة المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (1) هي أشد آية في القرآن أخوف آية في القرآن ليسوا علي شيء ولا وزن لهم عند الرحمن وإذا ما وفوا ما أنزل الله إليهم حقه علما وعملا.
__________
(1)) ) سورة المائدة: 68(67/8)
وهكذا يا أمة محمد على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه لستم على شيء حتى تقيموا القرآن وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم توفوا هذين الشيئين علما وعملا عباد الله فلابد من المحافظة على الصلاة في وقتها ليتحقق فيك شيء من إقامة الصلاة ولا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.
وأخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ثبت الحديث في المسند والصحيحين والسنن الأربعة والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ والدارمي في المسند ورواه ابن خزيمة في صحيحه وهو في أعلى درجات الصحة من حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله الوتر هو النقص والضياع أي كأنما أضاع أهله وماله أو ضاع منه أهله وماله الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر من فاتته صلاة العصر إذا أضاع الصلاة حتى خرج وقتها هذا حاله وتلك عقوبته فلابد من المحافظة على وقت الصلاة.
والأمر الثاني الذي ينبغي أن نحافظ عليه يتحقق فينا أيضا شيء من إقامة الصلاة حضور القلب عند مناجاة الرب في هذه الصلاة فينبغي أن تتأمل فيما تقرأ فيما تذكر وأن يحضر قلبك وأن لا يشرد ذهنك والله جل وعلا أخبرنا أن المؤمنين فازوا بالرضوان العظيم والنعيم المقيم لصفات كريمة فيهم أولها يخشعون في صلاتهم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) وإنما قدم هذه الصفة لأنها أصل لما عداها فإذا خشعت في صلاتك واستقامت صلاتك استقامت سائر أعمالك وإذا فسدت الصلاة فبقية الأعمال أفسد وأشنع.
__________
(1)) ) سورة المؤمنون: 1-2(67/9)
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) وقد أخبرنا النبي صلي الله عليه وسلم أن الإنسان إذا خشع في صلاته يتلذذ بها فتصبح هذه الصلاة قرة عين له ثبت في المسند والسنن والحديث رواه الإمام البيهقي في السنن والحاكم في المستدرك وقال: (صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة) .
وهذا الحديث يرويه الكثير من الوعاظ بلفظ حبب إلي من دنياكم ثلاث وهذه الزيادة باطلة لم تثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ومع بطلانها وعدم ثبوتها هي مفسدة للمعنى فمناجاة الله عز وجل وذكره والأنس بمناجاته وحلاوة عبادته ليست من أمور الدنيا حبب ألي من الدنيا الطيب فهو غذاء للعقل والنساء ففي ذلك راحة للعقل والجسم ونشاط وصحة للبدن وإخراج ذرية تعبد رب البرية توحد الله وتجاهد في سبيله ولكن اللذة العظمى وجعلت قرة عيني في الصلاة نعم من خشع في صلاته كانت الصلاة قرة عين له.
__________
(1)) ) سورة المؤمنون: 1-2(67/10)
وقد أخبرنا الصحابة الكرام عن حال نبينا صلي الله عليه وسلم عندما كان يصلي ويناجي الرحمن أن قلبه وصدره كان يخفق من خشية الرحمن وخشوعه في صلاته عند مناجاته ربه جل وعلا ثبت في الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والحديث رواه الإمام الترمذي في الشمائل النبوية على نبينا محمد صلوات الله وسلامه ورواه أعني الحديث الإمام النسائي في السنن أيضا وهو في صحيح ابن حبان والسنن الكبرى للإمام البيهقي عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال أتيت النبي صلي الله عليه وسلم وهو يصلي فسمعت لصدره أزيزا كأزيز المرجل من البكاء أي كأزيز القدر الذي عليه الماء يغلي ويفور فكان قلب النبي صلي الله عليه وسلم يخفق في صدره فيظهر هذا الصوت منه صلوات الله عليه وسلامه فسمعت لصوته أزيزا كأزيز المرجل.
وفي بعض روايات أبي داود وصحيح ابن حبان فسمعت لصدره صوتا كصوت الرحى أي كصوت الطاحون عندما تدور وتطحن البر هذا حال نبينا صلي الله عليه وسلم عندما يتلذذ بمناجاة الله وعى هذا درج الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان ولن يزال هذا الوصف في عباد الرحمن إلى لقاء ذي الجلال والإكرام.(67/11)
قيل للعبد الصالح عامر بن عبد قيس وهو من أئمة التابعين أدرك الصحابة الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين قيل له إذا قمت تصلي هل تحدث نفسك في صلاتك تكلمها تبحث معها تفكر في شيء فقال أو شيء أحسن من الصلاة حتى أحدث نفسي به يوجد أحلى من الصلاة ومن مناجاة الله حتى أحدث نفسي به فقالوا إنا نحدث أنفسنا في صلاتنا قال بأي شيء يذكر الجنة والنار والحور والولدان إذا قمتم إلى الصلاة تحدثون أنفسكم بما يكون في الآخرة قالوا لا بالأهل والأولاد والأموال نحدثها بأمر الدنيا قال سبحان الله أو يفعل ذلك مسلم يقع هذا في قلبه والله لأن تختلف الأسنة في صدري أحب إلي من أن تحدث نفسي بشيء من ذلك مسلم يفعل هذا بين يدي الله والله جل وعلا ينظر لي قلوبنا وهي في كل واد تهيم نصلي صلاة لو قدمت لزبال لردها علينا وما قبلها فكيف بذي العزة والجلال من تكبيرة الإحرام إلي الإنتهاء منها بالسلام لا يعقل منها شيئا أي صلاة صليتها أي صلاة فعلتها.
إخوتي الكرام: الذي حصل أن النبي صلي الله عليه وسلم قد أخبرنا أول ما سيرفع من هذه الأمة الخشوع وهذا الذي حصل ونسأل الله أن يلطف بأحوالنا وأن يذيقنا حلاوة مناجاته إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ثبت في معجم الطبراني الكبير بسند حسن كما قال الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع فلا ترى فيها أحدا خاشعا) نعوذ بالله من هذا.(67/12)
والحديث إخوتي الكرام مرفوع في هذه الرواية وروي عن صحابيين اثنين موقوف عليهما روي عن عبادة بن الصامت وعن شداد بن أوس رضي الله عنهم أجمعين أما حديث عبادة فهو في آخر حديث أبي الدرداء الثابت في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم والحديث صحيح صححه الحاكم ووافقه عليه الذهبي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع النبي صلي الله عليه وسلم فشخص ببصره ألي السماء ثم قال هذا أوان يختلس فيه العلم أي يضيع العلم ويذهب فقال زياد بن لبيد الأنصاري رضي الله عنه كيف يختلس العلم يا رسول الله وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أولادنا ونساءنا والله لنقرأن القرآن ولنقرأن أولادنا ونساءنا فقال النبي صلي الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد كنت أعدك من أفقه أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند أهل الكتاب فما أغنت عنهم أي إذا ذهب الخشوع من القلب وذهب تعظيم الرب من صدر الإنسان فما ينفعه إذا قرأ القرآن أو حفظ حديث النبي صلي الله عليه وسلم هذه التوراة والإنجيل عند أهل الكتاب فما أغنت عنهم نعم إذا فقد الخشوع حرف الإنسان الكلم عن مواضعه ويشتري بآيات الله ثمنا قليلا ويتأول ويترخص ويخرج من دين الله وهو يظن أنه يعبد الله قال جبير بن نفير لما سمع هذا الحديث من أبي الدرداء فذهب إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقلت ألا تسمع ما يحدث به أخوك أبو الدرداء رضي الله عنهم أجمعين قال وما ذاك فحدثه بهذا الحديث قال صدق أبو الدرداء ألا أخبرك بأول شيء يرفع من هذه الأمة أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى أنك لتدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا نعوذ بالله من هذا والحديث إسناده صحيح وفي هذه الرواية موقوفا على عبادة بن الصامت وله حكم الرفع وروي عن شداد بن أوس أيضا أخرج الحديث عنه من رواية عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والإمام البزار وابن خزيمة في صحيحه رضي الله عنهم وساق(67/13)
عوف بن مالك الأشجعي الحديث كنحو رواية أبي الدرداء قال جبير بن نفير فذهب به إلى شداد وقلت ألا تسمع ما يحدث به أخوك عوف بن مالك وهناك ذهب إلى عبادة قال صدق عوف بن مالك أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع نعم سيأتي على الناس زمان كما ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه وله حكم الرفع إلى نبينا صلي الله عليه وسلم سيأتي على الناس زمانا يجتمعون فيه في المسجد ليس فيه مؤمن يؤذنون ويصلون وليس فيهم من يؤمن بالحي القيوم) .
والحديث ثابت في المستدرك بسند صحيح كالشمس أول ما يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى إنك لتدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلا خاشعا هذا أول ما يرفع من هذه الأمة إخوتي الكرام ولا يتعارض هذا الأثر مع الأثر المصرح فيه بأن أول ما يرفع في هذه الأمة وينقض من أحكام الإسلام الحكم بما أنزل الله وفساد جهاز الحكم لا تعارض بين الأمرين وقد أشار نبينا صلي الله عليه وسلم إلى الأمر الثاني أذكر دليله وأقرره ثم أجمع بين الأمرين إن شاء الله.(67/14)
أخرج الإمام أحمد في المسند والحديث في معجم الطبراني وصحيح ابن حبان من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن فيروز الديلمي ورواية أبي أمامة في درجة الحسن عن نبينا صلي الله عليه وسلم أنه قال لتنقضن عرى الإسلام عروة،عروة فأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة أول ما ينقض من حيث الظاهر الحكم وآخر ما يبقى من شعائر الإسلام الصلاة لكن ليصلين أقوام ولا دين لهم فأول ما رفع الخشوع وهذا أمر بين العبد وربه لا يطلع عليه إلا الله وما فساد الحكم إلا من ضياع هيبة الرب من القلب عندما لم يخشع الناس في صلاتهم ولم يعظموا الهيبة لربهم جل وعلا وأفسدوا الصلة بينهم وبين ربهم سلط عليهم الفاسدين {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (1) فأول ما يرفع الخشوع وهذا أمر باطني وأما هذه الصلاة أي التي هي شعيرة ظاهرة بحركات واضحة معلومة مرئية تبقى وهي آخر شعائر الإسلام بقاءاََ أما الحكم فسيضيع بعد الخشوع لكن فساد الحكم واضح ظاهر للعيان ولذلك أولها نقضاََ أي من حيث الظاهر وأما من حيث الواقع أول ما يفقد في هذه الأمة الخشوع وأنك لا ترى في المسجد خاشعا وكون الحاكم سيفسد والأمانة ستضيع.
__________
(1)) ) سورة الرعد: 11(67/15)
ثبت هذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه فقام رجل فقال يا رسول الله متى الساعة فمضى في حديثه سمع ما قال فكره ما قاله وقال بعضهم بل لم يسمع فلما انتهى النبي صلي الله عليه وسلم من حديثه قال أين السائل عن الساعة قال ها أنا ذا يا رسول الله صلي الله عليه وسلم قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال وما إضاعتها يا رسول الله قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة حقيقة الأوضاع العامة ستخل وما اختلت الأوضاع العامة إلا بعد فساد القلوب وخرابها إلا بعد ظلمها وعشش الشيطان فيها فلما ضاعت هيبة الرب من القلب سلط الله من يسومهم سوء العذاب من يعاقبهم لعلهم يرجعون فسد الحكم بعد أن فسد الناس الصلة بينهم وبين أحكم الحاكمين بين رب العالمين سبحانه وتعالى.
إخوتي الكرام..
لابد من الأمر الثاني ألا وهو حضور القلب بين يدي الله عز وجل صلاة في وقتها مع حضور القلب ومناجاة الله فيها الأمر الثالث الذي ينبغي به الإنسان في صلاته ليتحقق فيه وصف إقامة الصلاة إذا خشع قلبك فينبغي أن تخشع جوارحك وأن يسكن بدنك وأن لا تتحرك خلال صلاتك واضبط عينيك واضبط سائر جوارحك واضبط فمك أتدري بين يدي من أنت،أنت بين يدي رب العالمين بين يدي أحكم الحاكمين بين يدي الإله العظيم الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون أنت بين يدي من لو عذب الخليقة بأسرهم لما اعترض عليه معترض ولا منعه مانع اعلم أنت بين يدي من بين يدي الجبار بين يدي العزيز القهار فتأدب إذا كان الناس يتأدبون في مناجاة الملوك والأمراء فتأدب عند مناجاة رب الأرض والسماء حذار من حركة اليد والرجل أو نظرة عين كل هذا نهينا عنه وإذا لم يخشع الظاهر فسلام، سلام على خشوع الباطن إن خشوع الظاهر لعله يدل على خشوع الباطن أما عدم خشوع الظاهر فهذا دليل قوي على عدم خشوع الباطن حركات في الصلاة هذه ما كانت أن تفعل.(67/16)
ثبت في صحيح البخاري والحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه والحديث ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة ومن رواية جابر بن سمرة رضي الله عنهم أجمعين وروي عن عدة من الصحابة الكرام عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وهو حديث صحيح،صحيح في أعلى درجات الصحة ولفظ الحديث عن نبينا صلي الله عليه وسلم أنه قال: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم.
نعم إذا كنت تصلي فما ينبغي أن ترفع النظر إلى العلي الأعلى سبحانه فهو القاهر فوق عباده وهو العلي العظيم وإذا كنت تكلم كبيرا فلا نحد النظر فيه ولا تصعد النظر إليه بل تطرق وتنظر إلى جهة السفل فكيف إذا كنت تناجي من قلت في أول صلاتك في تكبيرة الإحرام الله أكبر لا ثم لاثم بعد ذلك كما قال الإمام أحمد بن حجر عليه رحمة الله الأنوار تنزل على المصلي عندما يصلي فإذا رفعت بصرك ربما لمع هذا البصر وربما اختطف وذهب من هذه الأنوار التي تنزل عليك فإذا ليس من الأدب أن تحد النظر فيمن تكلمه وتناجيه وتخاطبه ثم هذه الأنوار بعد ذلك تفقد بصرك إذا أدمت النظر إليها ولذلك لينتهين عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم وإذا تلفت الإنسان بنظره يمينا وشمالا فالويل له وقد أعرض الله عنه وما تحقق فيه وصف إقامة الصلاة.
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي والحديث إخوتي الكرام صحيح رواه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه وهو كما قلت من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول إن الله لا يزال مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت أعرض عنه انتبه لبصرك عندما تصلي البصر لا يجاوز محل السجود محل سجودك أنظر إليه خاشعا ذليلا أما أن تبعثر ذات اليمين وذات الشمال وكل ذلك دليل على عدم حضور القلب عند مناجاة الرب.(67/17)
وقد ثبت في صحيح البخاري وفي مسند الإمام أحمد والنسائي وسنن أبي داود والحديث في صحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم أيضا عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الإتفات في الصلاة فقال تلك خلسة يختلسها الشيطان والخلسة هي أخذ الشيء في خفية أي أن الشيطان يوسوس لك أن تنظر يمينا أو شمالا ليسرق من صلاتك وليخرجك من وصف إقامة الصلاة فاضبط النظر ثم اضبط هذه الجوارح حذار، حذار وإياك، إياك من أن تمد يدك إلى رأسك وإلى لحيتك وإلى انفك واليد على طول الصلاة كأنها مراوح تشتغل أي صلاة هذه أما تتقي الله في نفسك عندما تناجي ربك.
ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من حديث خادم نبينا الحبيب عليه صلوات الله وسلامه أن النبي قال لا تمسح الحصى فإن كان ولابد فواحدة تسوية الحصى سبحان الله ومسح الحصى يكون عندما يسجد الإنسان على الأرض والأرض ليست مستوية أن يسويها لأجل أن يضع جبهته مع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تمسح الحصى فإن كان لابد فواحدة وقال الحافظ ابن حجر ضبط بالرفع فواحدة تجزؤك وهي مقدار الضرورة مسحت مكان السجود لأجل أن تضع جبهتك عليه واحدة تسوية الحصى أي من أن تسوي الحصى هذا إذا كان ولابد فمسحة واحدة.
وقد ثبت في صحيح ابن خزيمة بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى في الصلاة فقال النبي صلي الله عليه وسلم واحدة يرخص لك واحدة وإذا كثرت الحركات في الصلاة كما ضبط ذلك أئمتنا الفقهاء رضوان الله عليهم فوصل إلى ثلاث حركات متتابعات بطلت الصلاة وأنك لم تصلي كما لو أحدث الإنسان في صلاته سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسح الحصى فقال واحدة وقال لأن تدعها خير لك من مائة ناقة سود الحدق أي فإذا كنت تصلي فحذار حذار من الحركات.(67/18)
إخوتي الكرام: وما يشيع في كتب الوعظ ويتناقله الوعاظ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يعبث في لحيته فقال له لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه الحديث لم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم وإسناده ضعيف تالف حكم عليه بعض أئمتنا بالوضع لوجود وضاع في إسناده نعم رواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والغالب في ما ينفرد به هذا الإمام في هذا الكتاب شديد الضعف أو موضوع ما يروى في نوادر الأصول مما ليس في كتب أئمتنا التي عول عليها واعتمدت ففي إسناد الحديث الضعف نعم معناه صحيح لو خشع قلب الإنسان لخشعت جوارحه.
ولذلك أثر هذا الكلام عن العبد الصالح سعيد بن المسيب عليه وعلى أئمتنا جميعا رحمة الله ثبت في سنن البيهقي معلقا عن سعيد بن المسيب أنه رأى رجلا يعبث في فقال له لو خشع قلبك لخشعت جوارحك ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورواه الإمام عبد الله بن المبارك في الزهد والرقائق عن سعيد بن المسيب ولا يثبت رفع هذا الأثر إلى نبينا صلى الله عليه وسلم لكن معناه صحيح فاضبط عينيك واضبط جوارحك واضبط فمك من التثاؤب إذا كنت تصلي فالتثاؤب مكروه في محل وقت وليس من صفات الرجال ليس من صفات أهل الجزم أن يتثاءبوا هذا من خصال الشيطان.
وقد ثبت في صحيح البخاري والسنن الأربعة والحديث في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ـ إذا لم يكن العطاس بسبب الزكام والمرض ففيه شحن للذهن وتنشيط للهمة ـ فإذا تثاءب أحدكم في صلاته فليرد ذلك ما استطاع ولا يقل ها كما يتثاءب المتثائب فإذا قال ها ضحك منه الشيطان) .(67/19)
وقد نص أئمتنا الفقهاء على أن من تثاءب فخرج منه هذا اللفظ فقد بطلت صلاته أيضا لأنه كلام الناس ها يرفع صوته وهذا الصوت يشبه صوت الكلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في سنن ابن ماجه وغيره إذا تثاءب أحدكم فليرد ذلك ما استطاع ولا يعوي كالكلب نعم عندما يعوي الكلب يرفع رأسه ثم يفتح فاه ثم يصوت هذا الصوت الذي يشبه صوت الكلب هل يليق بك وأنت تناجي الرب أن تخلط في مناجاتك صوتا كصوت الكلب لا ثم لا.
فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نتثاءب أحدكم فليرد ذلك ما استطاع وفي رواية فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل إلى جوفك عندما تتثاءب وتفتح فاك.
إخوتي الكرام..
لابد من مراعاة هذا الأدب ألا وهو الأدب الثالث ضبط الجوارح بعد أن ضبطت القلب ثم بعد ذلك المحافظة على المواقيت وأما الأدب الرابع وهو متعلق بتعديل هيئات الصلاة وأركانها وإتمام ركوعها وسجودها فأترك الكلام عليه في أول الموعظة الآتية إن شاء الله وأسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء إن أحيانا أن يحينا على الإسلام وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان وأسأله أن يجعلنا من الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.(67/20)
النظر إلى موضع السجود
(من خطب الجمعة)
للشيخ الدكتور
عبد الرحيم الطحان
بسم الله الرحمن الرحيم
النظر إلى موضع السجود
رقم 14
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، الحمد لله رب العالمين، شرع لنا دينا قويما، وهدانا صراطاً مستقيما، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وهو اللطيف الخبير.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، (ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1)
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (3)
__________
(1) سورة فاطر: 3
(2)) ) سورة النساء: 1
(3)) ) آل عمران: 102(68/1)